9 مصاحف

9 مصاحف روابط 9 مصاحف

الأربعاء، 27 مارس 2024

ج4وج5وج6.كتاب : أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

ج4وج5وج6.كتاب : أحكام القرآن أحمد بن

 

  علي الرازي الجصاص


في آثار شائعة النهي عن قتل النساء والولدان وروي عنه أيضا النهي عن قتل أصحاب الصوامع رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
فإن كان معنى الآية على ما قال الربيع بن أنس أنه أمر فيها بقتال من قاتل والكف عمن لا يقاتل فإن قوله وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ناسخ لمن يلي وحكم الآية كان باقيا فيمن لا يلينا منهم ثم لما نزل قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم إلى قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام فكان ذلك أعم من الأول الذي فيه الأمر بقتال من يلينا دون من لا يلينا إلا أن فيه ضربا من التخصيص بحظره القتال عند المسجد الحرام إلا على شرط أن يقاتلونا فيه بقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ثم نزل الله فرض قتال المشركين كافة بقوله وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم وقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فمن الناس من يقول إن قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام منسوخ بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ومنهم من يقول هذا الحكم ثابت لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل ويؤيد ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال يوم فتح مكة إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السموات والأرض فإن ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها فإنما أحلت له ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة فدل ذلك على أن حكم الآية باق غير منسوخ وأنه لا يحل أن نبتدىء فيها بالقتال لمن لم يقاتل وقد كان القتال محظورا في الشهر الحرام بقوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد ثم نسخ بقوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ومن الناس من يقول هو غير منسوخ والحظر باق وأما قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم فإنه أمر بقتل المشركين إذا ظفرنا بهم وهي عامة في قتال سائر المشركين من قاتلنا منهم ومن لم يقاتلنا بعد أن يكونوا من أهل القتال لأنه لا خلاف أن قتل النساء والذراري محظور وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم -
وعن قتل أهل الصوامع فإن كان المراد بقوله وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم الأمر بقتال من قاتلنا ممن هو أهل القتال دون من كف عنا منهم وكان قوله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين نهي عن قتال من لم يقاتلنا فهي لا محالة

منسوخة بقوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم لإيجابه قتل من حظر قتله في الآية الأولى بقوله وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إذ كان الاعتداء في هذا الموضع هو قتال من لم يقاتل وقوله وأخرجوهم من حيث أخرجوكم يعني والله أعلم من مكة إن أمكنكم ذلك لأنهم قد كانوا آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج فكانوا مخرجين لهم وقد قال الله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك فأمرهم الله تعالى عند فرضه القتال بإخراجهم إذا تمكنوا من ذلك إذ كانوا منهيين عن القتال فيها إلا أن يقاتلوهم فيكون قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم عاما في سائر المشركين إلا فيمن كان بمكة فإنهم أمروا بإخراجهم منها إلا لمن قاتلهم فإنه أمر بقتالهم حينئذ والدليل على ذلك قوله في نسق التلاوة ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فثبت أن قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم فيمن كان بغير مكة وقوله والفتنة أشد من القتل روي عن جماعة من السلف أن المراد بالفتنة ههنا الكفر وقيل إنهم كانوا يفتنون المؤمنين بالتعذيب ويكرهونهم على الكفر ثم عيروا المؤمنين بأن قتل واقد بن عبدالله وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
عمرو بن الحضرمي وكان مشركا في الشهر الحرام وقالوا قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام فأنزل الله والفتنة أشد من القتل يعني كفرهم وتعذيبهم المؤمنين في البلد الحرام والشهر الحرام أشد وأعظم مأثما من القتل في الشهر الحرام وأما قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن المراد بقوله حتى يقاتلوكم فيه حتى يقتلوا بعضكم كقوله ولا تلمزوا أنفسكم يعني بعضكم بعضا إذ غير جائز أن يأمر بقتلهم بعد أن يقتلوهم كلهم وقد أفادت الآية حظر القتل بمكة لمن لم يقتل فيها فيحتج بها في حظر قتل المشرك الحربي إذا لجأ إليها ولم يقاتل ويحتج أيضا بعمومها فيمن قتل ولجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل لأن الآية لم تفرق بين من قتل وبين من لم يقتل في حظر قتل الجميع فلزم بمضمون الآية أن لا نقتل من وجدنا في الحرم سواء كان قاتلا أو غير قاتل إلا أن يكون قد قتل في الحرم فحينئذ يقتل بقوله فإن قاتلوكم فاقتلوهم فإن قيل هو منسوخ بقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله قيل له إذا أمكن استعمالهما لم يثبت النسخ لا سيما مع اختلاف الناس في نسخه فيكون قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة في غير الحرم ونظيره في حظر

قتل من لجأ إلى الحرم وإن كان جانيا قوله ومن دخله كان آمنا وقد تضمن ذلك أمنا من خوف القتل فدل على أن المراد من دخله وقد استحق القتل أنه يأمن بدخوله وكذلك قوله وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا كل ذلك دل على أن اللاجىء إلى الحرم المستحق للقتل يأمن به ويزول عنه القتل بمصيره إليه ومع ذلك فإن قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله إذا كان نازلا مع أول الخطاب عند قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام فغير جائز أن يكون ناسخا له لأن النسخ لا يصح إلا بعد التمكن من الفعل وغير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد وإذا كان الجميع مذكورا في خطاب واحد على ما يقتضيه نسق التلاوة ونظام التنزيل فغير جائز لأحد إثبات تاريخ الآيتين وتراخي نزول إحداهما عن الأخرى إلا بالنقل الصحيح ولا يمكن أحد دعوى نقل صحيح في ذلك وإنما روي ذلك عن الربيع بن أنس فقال هو منسوخ بقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقال قتادة هو منسوخ بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وجائز أن يكون ذلك تأويلا منه ورأيا لأن قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم لا محالة نزل بعد سورة البقرة لا يختلف أهل النقل في ذلك وليس فيه مع ذلك دلالة على النسخ لإمكان استعمالهما بأن يكون قوله فاقتلوا المشركين مرتبا على قوله ولا تقتلوهم عند المسجد فيصير قوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا عند المسجد الحرام إلا أن يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس وأبي شريح الخزاعي وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - خطب يوم فتح مكة فقال يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة وفي بعض الأخبار فإن ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإنما أحلت لي ساعة من نهار فثبت بذلك حظر القتال في الحرم إلا أن يقاتلوا وقد روى عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي هذا الحديث وقال فيه وإنما أحل لي القتال بها ساعة من نهار ويدل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه خطب يومئذ حين قتل رجل من خزاعة رجلا من هذيل ثم قال إن أعتى الناس على الله ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل قتل بذحل الجاهلية وهذا يدل على

تحريم القتل في الحرم لمن لم يجن فيه من وجهين أحدهما عموم الذم للقاتل في الحرم والثاني قد ذكر معه قتل من لم يستحق القتل فثبت أن المراد قتل من استحق القتل فلجأ وأن ذلك إخبار منه بأن الحرم يحظر قتل من لجأ إليه وهذه الآي التي تلوناها في حظر قتل من لجأ إلى الحرم فإن دلالتها مقصورة على حظر القتل فحسب ولا دلالة فيها على حكم ما دون النفس لأن قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام مقصور على حكم القتل وكذلك قوله ومن دخله كان آمنا وقوله مثابة للناس وأمنا ظاهره الأمن من القتل وإنما يدخل ما سواه بدلالة لأن قوله ومن دخله إسم للإنسان وقوله كان آمنا راجع إليه فالذي اقتضت الآية أمانه هو الإنسان لا أعضاؤه ومع ذلك فإن كان اللفظ مقتضيا للنفس فما دونها فأما ما خصصنا دونها بدلالة وحكم اللفظ باق في النفس ولا خلاف أيضا أن من لجأ إلى الحرم وعليه دين أنه يحبس به وإن دخوله الحرم لا يعصمه من الحبس كذلك كل ما لم يكن نفسا من الحقوق فإن الحرم لا يعصمه منه قياسا على الديون وأما قوله عز و جل فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم يعني فإن انتهوا عن الكفر فإن الله يغفر لهم لأن قوله فإن انتهوا شرط يقتضي جوابا وهذا يدل على أن قاتل العمد له توبة إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل وقد أخبر الله أنه يقبل التوبة منه ويغفر له وقوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع بن أنس الفتنة ههنا الشرك وقيل إنما سمي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك كما يؤدي إليه الفتنة وقيل إن الفتنة هي الاختبار والكفر عند الاختبار إظهار الفساد وأما الدين فهو الانقياد لله بالطاعة وأصله في اللغة ينقسم إلى معنيين أحدهما الانقياد كقول الأعشى ... هو دان الرباب اذكر هو الدين ... دراكا بغزوة وصيال ... ثم دانت بعد الرباب وكانت ... كعذاب عقوبة الأقوال ...
والآخر العادة من قول الشاعر ... تقول وقد درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني ...
والدين الشرعي هو الانقياد لله عز و جل والاستسلام له على وجه المداومة والعادة وهذه الآية خاصة في المشركين دون أهل الكتاب لأن ابتداء الخطاب جرى بذكرهم

في قوله عز و جل واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم وذلك صفة مشركي أهل مكة الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم وهذا يدل على أن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف لقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة يعني كفرا ويكون الدين لله ودين الله هو الإسلام لقوله إن الدين عند الله الإسلام وقوله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين المعنى فلا قتل إلا على الظالمين يعني والله أعلم القتل المبدوء بذكره في قوله وقاتلوهم وسمي القتل الذي يستحقونه بكفرهم عدوانا لأنه جزاء الظلم فسمي باسمه كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وإن لم يكن الجزاء اعتداء ولا سيئة قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص روى عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي ص -
أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال نعم وأراد المشركون أن يغيروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فأنزل الله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص يعني إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم مثله وروى ابن عباس والربيع بن أنس وقتادة والضحاك أن قريشا لما ردت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام في الشهر الحرام فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي القعدة فقضى عمرته وأقصه بما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية ويمتنع أن يكون المراد الأمرين فيكون إخبارا بما أقصه الله من الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت بشهر مثله في العام القابل وقد تضمن مع ذلك إباحة القتال في الشهر الحرام إذا قاتلهم المشركون لأن لفظا واحدا لا يكون خبرا وأمرا ومتى حصل على أحد المعنيين انتفى الآخر إلا أنه جائز أن يكون إخبارا بما عوض الله نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت شهرا مثله في العام القابل وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات فلذلك قال والحرمات قصاص ثم عقب تعالى ذلك بقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فأفاد أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام فعليهم أن يقاتلوهم فيه وإن لم يجز لهم أن يبتدؤهم بالقتال وسمى الجزاء اعتداء لأنه مثله في الجنس وقدر الاستحقاق على ما يوجبه فسمي باسمه على وجه المجاز لأن المعتدي في الحقيقة هو الظالم وقوله تعالى

فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم عموم في أن من استهلك لغيره مالا كان عليه مثله وذلك المثل ينقسم إلى وجهين أحدهما مثله في جنسه وذلك في المكيل والموزون والمعدود والآخر مثله في قيمته لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر أن عليه ضمان نصف قيمته فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة فصار أصلا في هذا الباب وفي أن المثل قد يقع على القيمة ويكون اسما لها ويدل على أن المثل قد يكون اسما لما ليس هو من جنسه إذا كان في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من الجزاء أن من اعتدى على غيره بقذف لم يكن المثل المستحق عليه أن يقذف بمثل قذفه بل يكون المثل المستحق عليه هو جلد ثمانين وكذلك لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير وذلك مثل لما نال منه فثبت بذلك ان اسم المثل قد يقع على ما ليس من جنسه بعد أن يكون في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من طريق الجزاء ويحتج بذلك في أن من غصب ساجة فأدخلها في بنائه أن عليه قيمتها لأن القيمة قد تناولها اسم المثل فمن حيث كان الغاصب معتديا بأخذها كان عليه مثلها لحق العموم فإن قيل إذا نقضنا بناءه وأخذناها بعينها فقد اعتدينا عليه بمثل ما اعتدى قيل له أخذ ملكه بعينه لا يكون اعتداء على الغاصب كما أن من له عند رجل وديعة فأخذها لم يكن معتديا عليه وإنما الاعتداء عليه أن يزيل من ملكه مثل ما أزال أو يزيل يده عن مثل ما أزال عنه يد المغصوب منه فأما أخذ ملكه بعينه فليس فيه اعتداء على أحد ولا فيه أخذ المثل ويحتج به في إيجاب القصاص فيما يمكن استيفاء المماثلة والمساواة فيه دون ما لم يعلم فيه استيفاء المماثلة وذلك نحو قطع اليد من نصف الساعد والجائفة والآمة في سقوط القصاص فيها لتعذر استيفاء المثل إذ كان الله تعالى إنما أمرنا باستيفاء المثل ويحتج به أبو حنيفة فيمن قطع يد رجل وقتله أن لوليه أن يقطع يده ثم يقتله لقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فله أن يفعل به مثل ما فعل بمقتضى الآية وقوله تعالى وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال أبو بكر قد قيل فيه وجوه أحدها ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح وابن لهيعة عن زيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد والروم ملصوق

ظهورهم بحائط المدينة فحمل رجل على العدو فقال الناس مه مه لا إله إلا الله يلقي بيديه إلى التهلكة فقال أبو أيوب إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإسلام قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله تعالى وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله وأن الآية في ذلك نزلت وروي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي وقيل هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف وقيل هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه بالسبب وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو فإن محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن رجلا لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرىء المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أر بأسا أن يحمل عليهم فكذلك إذا طمع أن ينكي غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك وأرجو أن يكون فيه مأجورا وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على

المسلمين فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
في قوله إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وقال ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء قال الله تعالى وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن الجراح عن عبدالله بن يزيد عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبدالعزيز بن مروان قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وذم الجبن يوجب مدح الإقدام والشجاعة فيما يعود نفعه على الدين وإن أيقن فيه بالتلف والله تعالى أعلم بالصواب
باب العمرة هل هي فرض أم تطوع
قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله واختلف السلف في تأويل هذه الآية فروي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقال مجاهد إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما وقال سعيد بن جبير وعطاء هو إقامتهما إلى آخر ما فيهما لله تعالى لأنهما واجبان كأنهما تأولا ذلك على الأمر بفعلهما كقوله لو قال حجوا واعتمروا وروي عن ابن عمر وطاوس قالا إتمامهما إفرادهما وقال قتادة إتمام العمرة الاعتمار في غير أشهر الحج وروي عن علقمة في قوله تعالى العمرة لله قال لاتجاوز بها البيت وقد اختلف السلف في وجوب العمرة فروي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم النخعي والشعبي أنها تطوع وقال مجاهد في قوله وأتموا الحج والعمرة لله قال ما أمرنا به فيهما وقالت عائشة وابن عباس وابن عمر

والحسن وابن سيرين هي واجبة وروي نحوه عن مجاهد وروي عن طاوس عن أبيه قال العمرة واجبة واحتج من أوجبها بظاهر قوله وأتموا الحج والعمرة لله قالوا واللفظ يحتمل إتمامهما بعد الدخول فيهما ويحتمل الأمر بابتداء فعلهما فالواجب حمله على الأمرين بمنزلة عموم يشتمل على مشتمل فلا يخرج منه شيء إلا بدلالة قال أبو بكر ولا دلالة في الآية على وجوبها وذلك لأن أكثر ما فيها الأمر بإتمامها وذلك إنما يقتضي نفي النقصان عنهما إذا فعلت لأن ضد التمام هو النقصان لا البطلان ألا ترى أنك تقول للناقص أنه غير تام ولا تقول مثله لما لم يوجد منه شيء فعلمنا أن الأمر بالإتمام إنما اقتضى نفي النقصان ولذلك قال علي وعمر إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك يعني الأبلغ في نفي النقصان الإحرام بهما من دويرة أهلك وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان تقديره أن لا يفعلهما ناقصين وقوله لا يفعلهما ناقصين لا يدل على الوجوب لجواز إطلاق ذلك على النوافل ألا ترى أنك تقول لا تفعل الحج التطوع ولا العمرة التطوع ناقصين ولا صلاة النفل ناقصة فإذا كان الأمر بالإتمام يقتضي نفي النقصان فلا دلالة فيه إذا على وجوبها ويدل على صحة ذلك أن العمرة التطوع والحج النفل مرادان بهذه الآية في النهي عن فعلهما ناقصين ولم يدل ذلك على وجوبهما في الأصل وأيضا فإن الأظهر من لفظ الإتمام إنما يطلق بعد الدخول فيه قال الله عز و جل وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل فأطلق عليه لفظ الإتمام بعد الدخول قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فأطلق لفظ الإتمام عليها بعد الدخول فيها ويدل على أن المراد إيجاب إتمامهما بعد الدخول فيهما أن الحج والعمرة نافلتين يلزمه إتمامهما بعد الدخول فيهما بالآية فكان بمنزلة قوله أتموهما بعد الدخول فيهما فغير جائز إذا ثبت أن المراد لزوم الإتمام بعد الدخول حمله على الابتداء لتضاد المعنيين ألا ترى أنه إذا أراد به الإلزام بالدخول انتفى إن يريد به الإلزام قبل الدخول ناف لكونه واجبا بالدخول ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال أن حجة الإسلام إنما تلزم بالدخول وإن صلاة الظهر متعلق لزومها بالدخول فيها وهذا يدل على أنه غير جائز إرادة إيجابهما بالدخول وإيجابهما ابتداء قبل الدخول فيهما فثبت بما وصفنا أنه لا دلالة في هذه الآية على وجوب العمرة قبل الدخول فيها ومما يدل على

أنها ليست بواجبة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال العمرة هي الحج الأصغر وروي عن عبدالله بن شداد ومجاهد قالا العمرة هي الحج الأصغر وإذا ثبت أن اسم الحج يتناول العمرة ثم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان الدؤلي عن ابن عباس ان الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع فلما سمى النبي صلى الله عليه وسلم - العمرة في الخبر الأول حجا وقال للأقرع الحج مرة واحدة فمن زاد فتطوع انتفى بذلك وجوب العمرة إذ كانت قد تسمى حجا ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال حدثنا أبو عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر قال حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن حجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة والحج أواجب قال نعم وسأله عن العمرة أهي واجبة قال لا ولأن تعتمر خير لك ورواه أيضا عباد بن كثير عن محمد ابن المنكدر مثل حديث الحجاج وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا ابن الأصبهاني قال حدثنا شريك وجرير وأبو الأحوص عن معاوية بن إسحاق عن أبي صالح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الحج جهاد والعمرة تطوع ويدل عليه أيضا حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ومعناه أنه ناب عنها لأن أفعال العمرة موجودة في أفعال الحج وزيادة ولا يجوز أن يكون المراد أن وجوبها كوجوب الحج لأنه حينئذ لا تكون العمرة بأولى أن تدخل في الحج من الحج بأن يدخل في العمرة إذ هما جميعا واجبان كما لا يقال دخلت الصلاة في الحج لأنها واجبة كوجوب الحج ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه حين أحرموا بالحج أن يحلوا منه بعمرة وأن سراقة بن مالك قال أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال بل للأبد ومعلوم أن هذه كانت عمل عمرة يحلل بها من إحرام الحج كما يتحلل الذي يفوته الحج بعمل عمرة وهي غير مجزية عن فرض العمرة عند من يراها فرضا فدل ذلك على أن العمرة غير مفروضة لأنها لو كانت مفروضة لما قال عمرتكم هذه للأبد وفيه أخبار بأنه لا عمرة عليهم غيرها ويدل على أن ما يتحلل به من إحرام

الحج ليس بعمرة أنه لو بقي الذي يفوته الحج على إحرامه حتى تحلل منه بعمرة في أشهر الحرم وحج من عامه أنه لا يكون متمتعا ومما يحتج به لذلك من طريق النظر بأن الفروض مخصوصة بأوقات يتعلق وجوبها بوجودها كالصلاة والصيام والزكاة والحج فلو كانت العمرة فرضا لوجب أن تكون مخصوصة بوقت فلما لم تكن مخصوصة بوقت كانت مطلقة له أن يفعلها متى شاء فأشبهت الصلاة التطوع والصوم النفل فإن قيل إن الحج النفل مخصوص بوقت ولم يدل ذلك على وجوبه قيل له هذا لا يلزم لأنا قلنا إن من شرط الفروض التي تلزم كل أحد في نفسه كونها مخصوصة بأوقات وما ليس مخصوصا بوقت فليس بفرض وليس يمتنع على ذلك أن يكون بعض النوافل مخصوصا بوقت وبعضها مطلق غير مخصوص بوقت فكل ما كان غير مخصوص بوقت فهو نافلة وما هو مخصوص بوقت فعلى ضربين منه فرض ومنه نفل ومما يحتج به أيضا من طريق الأثر ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا الحسن ابن يحيى الحسني قال حدثنا عمر بن قيس قال حدثني طلحة بن موسى عن عمه إسحاق بن طلحة عن طلحة بن عبدالله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول الحج جهاد والعمرة تطوع وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن يحتر العطار قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا محمد بن الفضل ابن عطية عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله ص الحج جهاد والعمرة تطوع واحتج من رآها واجبة بما روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الحج والعمرة فريضتان واجبتان وبما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم لكم وأمره على الوجوب وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الإسلام فذكر الصلاة وغيرها ثم قال وأن تحج وتعتمر وبقول صبي بن معبد وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي قال ذلك لعمر فلم ينكر عليه وقال له اجمعهما وبحديث أبي رزين رجل من بني عامر أنه قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن قال احجج عن أبيك واعتمر فأما حديث جابر في وجوب العمرة من طريق ابن لهيعة فهو ضعيف كثير الخطأ يقال احترقت كتبه فعول على حفظه وكان سيء الحفظ وإسناد حديث جابر الذي رويناه في عدم وجوبها أحسن من إسناد حديث ابن لهيعة ولو تساويا لكان أكبر

أحوالهما أن يتعارضا فيسقطا جميعا ويبقى لنا حديث طلحة وابن عباس من غير معارض فإن قال قائل ليس حديث الحجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر الذي رويته في نفي الإيجاب بمعارض لحديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر في إيجابها لأن حديث الحجاج وارد على الأصل وحديث ابن لهيعة ناقل عنه ومتى ورد خبران أحدهما ناف والآخر مثبت فالمثبت منهما أولى وكذلك إذا كان أحدهما موجبا والآخر غير موجب لأن الأيجاب يقتضي حظر تركه ونفيه لا حظر فيه وخبر الحاظر أولى من المبيح قيل له هذا لا يجب من قبل أن حديث ابن لهيعة في إيجابها لو كان ثابتا لورد النقل به مستفيضا لعموم الحاجة إليه ولوجب أن يعرفه كل من عرف وجوب الحج إذ كان وجوبها كوجوب الحج ومن خوطب به فهو مخاطب بها فغير جائز فيما كان هذا وصفه أن يكون وروده من طريق الآحاد مع ما في سنده من الضعف ومعارضة غيره إياه وأيضا فمعلوم أن الروايتين وردتا عن رجل واحد فلو كان خبر الوجوب متأخرا في التاريخ عن خبر نفيه لبينه جابر في حديثه ولقال قال النبي صلى الله عليه وسلم - في العمرة أنها تطوع ثم قال بعد ذلك أنها واجبة إذ غير جائز أن يكون عنده الخبران جميعا مع علمه بتاريخهما فيطلق رواية تارة بإيجاب وتارة بضده من غير ذكر تاريخ فدل ذلك على أن هذين الخبرين وردا متعارضين وإنما يعتبر خبر المثبت والنافي على ما ذكرنا من الاعتبار إذا وردت الروايتان من جهتين وأما حديث سمرة وقوله فاعتمروا فإنه على الندب بالدلائل التي قدمنا فأما قوله حين سئل عن الإسلام فذكر الصلاة وغيرها ثم قال وأن تحج وتعتمر فإن النوافل من الإسلام وكذلك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى لأنه من شرائعه وقد روي أن الإسلام بضع وسبعون خصلة منها إماطة الأذى عن الطريق وأما قول صبي بن معبد لعمر وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي وسكوت عمر عنه وتركه النكير عليه فإنه إنما قال هما مكتوبان علي ولم يقل مكتوبتان على الناس فظاهره يقتضى أن يكون نذرهما فصارا مكتوبين عليه بالنذر وأيضا فإنه إنما قاله تأويل منه للآية وفيه مساغ للتأويل فلم ينكره عمر لاحتمالها له وهو بمنزلة قول القائل بوجوب العمرة فلا يستحقون النكير إذ كان الاجتهاد سائغا فيه وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله عن الحج عن أبيه وقوله حج عن أبيك واعتمر فلا دلالة فيه على وجوبها لأنه لا خلاف أن هذا القول لم يخرج مخرج الإيجاب إذ ليس عليه أن

يحج عن أبيه ولا أن يعتمر ومن الناس من يحتج لإيجاب العمرة بقوله تعالى وافعلوا الخير لأنها خير فظاهر اللفظ يقتضي إيجاب جميع الخير وهذا يسقط من وجوه أحدها أنه يحتاج أن يثبت أن فعل العمرة مع اعتقاد وجوبها خيرا لأن من لا يراها واجبة فغير جائز أن يفعلها على أنها واجبة ولو فعلها على هذا الاعتقاد لم يكن ذلك خيرا كمن صلى تطوعا واعتقد فيه الفرض وآخر وهو أن قوله وافعلوا الخير لفظ مجمل لاشتماله على المجمل الذي لا يلزم استعماله بورود اللفظ ألا ترى أنه يدخل فيه الصلاة والزكاة والصوم وهذه كلها فروض مجملة ومتى انتظم اللفظ ما هو مجمل فهو مجمل يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل من غيره ووجه آخر وهو أن الخير بالألف واللام لفظ جنس لا يمكن استغراقه فيتناول أدنى ما يقع عليه الاسم كقولك إن شربت الماء وتزوجت النساء فإذا فعل أدنى ما يسمى به فقد قضى عهدة اللفظ وأيضا فقد علمنا مع ورود اللفظ أن المراد البعض لتعذر استيعاب الكل فصار كقوله افعلوا بعض الخير فيحتاج إلى بيان في لزوم الأمر واحتج من أوجبها بأنا لم نجد شيئا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض فلو كانت العمرة تطوعا لكان لها أصل في الفرض فيقال له العمرة إنما هي الطواف والسعي ولذلك أصل في الفرض فإن قيل لا يوجد طواف وسعي مفردا فرضا غير العمرة وإنما يوجد ذلك في الفرض تابعا قيل له قد يتطوع بالطواف بالبيت وإن لم يكن له أصل في الفرض مفردا فكذلك العمرة يتطوع بها إذ كانت طوافا وسعيا وإن لم يكن لها أصل في الفرض واحتج الشافعي بأنه لما جاز الجمع بينها وبين الحج دل على أنها فرض لأنها لو كانت تطوعا ما جاز أن يعمل مع عمل الحج كما لا يجمع بين صلاتين إحداهما فرض والأخرى تطوع ويجمع بين أربع ركعات فرض قال أبو بكر وهذه قضية فاسدة يبطل عليه القول بوجوب العمرة لأنه يقال له لما جاز الجمع بينهما ولم يجز بين صلاتي فرض دل على أنها ليست بفرض وأما قوله ويجمع بين عمل أربع ركعات فإن الأربع كلها صلاة واحدة كالحج الواحد المشتمل على سائر أركانه وكالطواف الواحد المشتمل على سبعة أشواط وهو مع ذلك منتقض على أصله لأنه لو اعتمر ثم حج حجة الفريضة وقرن معها عمرة كانت العمرة تطوعا والحج فرضا فقد صح الجمع بين الفرض والنفل في الحج والعمرة فانتقض بذلك استدلال من استدل بجواز جمعها إلى الحج على وجوبها واحتج الشافعي أيضا بأنه لما جعل لها ميقات كميقات

الحج دل على أنها فرض فيقال له إذا اعتمر عمرة الفريضة ورجع الى أهله ثم أراد أن يرجع للعمرة كان لها ميقات كميقات الحج وهي تطوع فشرط الميقات ليس بدلالة على الوجوب وكذلك الحج التطوع له ميقات كميقات الواجب واحتج أيضا بوجوب الدم على القارن ولم يبين منه وجه الدلالة على الوجوب ولكن ادعى دعوى عارية من البرهان ومع ذلك فإنه منتقض لأنه لو قرن حجة فريضة مع عمرة تطوع لكان عليه دم فكذلك لو جمع بينهما وهما نافلتان لوجب الدم قوله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي قال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل اللغة الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة والحصر حصر العدو ويقال أحصره المرض وحصره العدو وحكى عن الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر وأنكره أبو العباس المبرد والزجاج وقال هما مختلفان في المعنى ولا يقال في المرض حصره ولا في العدو أحصره قالا وإنما هذا كقولهم حبسه إذا جعله في الحبس وأحبسه أي عرضه للحبس وقتله أوقع به القتل وأقتله أي عرضه للقتل وقبره دفنه في القبر وأقبره عرضه للدفن في القبر وكذلك حصره حبسه وأوقع به الحصر وأحصره عرضه للحصر وروى ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال لا حصر إلا حصر عدو فأما من حبسه الله بكسر أو مرض فليس بحصر فأخبر ابن عباس أن الحصر يختص بالعدو وأن المرض لا يسمى حصرا وهذا موافق لقول من ذكرنا قولهم من أهل اللغة في معنى الاسم ومن الناس من يظن أن هذا يدل من قوله على أن المريض لا يجوز له أن يحل ولا يكون محصرا وليس في ذلك دلالة على ما ظن لأنه إنما أخبر عن معنى الاسم ولم يخبر عن معنى الحكم فاعلم أن اسم الإحصار يختص بالمرض والحصر يختص بالعدو وقد اختلف السلف في حكم المحصر على ثلاثة أنحاء روي عن ابن مسعود وابن عباس العدو والمرض سواء يبعث بدم ويحل به إذا نحر في الحرم وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والثاني قول ابن عمر أن المريض لا يحل ولا يكون محصرا إلا بالعدو وهو قول مالك والليث والشافعي والثالث قول ابن الزبير وعروة بن الزبير أن المرض والعدو سواء لا يحل إلا بالطواف ولا نعلم لهما موافقا من فقهاء الأمصار قال أبو بكر ولما ثبت بما قدمته من قول أهل اللغة أن اسم الإحصار يختص بالمرض وقال الله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وجب أن يكون اللفظ مستعملا فيما هو حقيقة

فيه وهو المرض ويكون العدو داخلا فيه بالمعنى فإن قيل فقد حكي عن الفراء أنه أجاز فيهما لفظ الإحصار قيل له لو صح ذلك كانت دلالة الآية قائمة في إثباته في المرض لأنه لم يدفع وقوع الاسم على المرض وإنما أجازه في العدو فلو وقع الاسم على الأمرين لكان عموما فيهما موجبا للحكم في المريض والمحصور بالعدو جميعا فإن قيل لم تختلف الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية وكان النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ممنوعين بالعدو فأمرهم الله بهذه الآية بالإحلال من الإحرام فدل على أن المراد بالآية هو العدو قيل له لما كان سبب نزول الآية هو العدو ثم عدل عن ذكر الحصر وهو يختص بالعدو إلى الإحصار الذي يختص بالمرض دل ذلك على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل اللفظ على ظاهره ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالإحلال وحل هو دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ فكان نزول الآية مفيدا للحكم في الأمرين ولو كان مراد الله تعالى تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظا يختص به دون غيره ومع ذلك لو كان اسما للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبا للاقتصار بحكمه عليه بل كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب يدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن حجاج الصواف قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل قال عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا صدق ومعنى قوله فقد حل فقد جاز له أن يحل كما يقال حلت المرأة للزوج يعني جاز لها أن تتزوج فإن قيل روى حماد وابن زيد عن أيوب عن عكرمة أنه قال في المحصر يبعث بالهدى فإذا بلغ الهدي محله حل وعليه الحج من قابل وقال لقد رضي الله سبحانه بالقصاص من عباده ويأخذ منهم العدو أن عليه حج مكان حج وإحرام مكان إحرام فزعم هذا القائل أنه لو كان عند عكرمة هذا الحديث لما كان قال يبعث بالهدي ولقال يحل كما روي في الخبر وهذا القائل إنما غلط حين ظن أن المعنى في قوله حل وقوع الإحلال بنفس الإحصار وليس هو كما ظن وإنما معناه أنه جاز له أن يحل كما ذكرنا مثله فيما يطلقه الناس من قولهم حلت المرأة للأزواج يريدون به قد جاز له أن تحل بالتزويج ويدل عليه من جهة النظر أن المحصر بالعدو لما جاز له الإحلال لتعذر وصوله إلى البيت وكان ذلك

موجودا في المرض وجب أن يكون بمنزلته وفي حكمه ألا ترى أنه متى لم يتعذر وصوله إلى البيت بمنع العدو لم يجز له أن يحل فدل ذلك على أن المعنى فيه تعذر وصوله إلى البيت ويدل على ذلك موافقة مخالفينا إيانا على أن المرأة إذا منعها زوجها من حجة التطوع بعد الإحرام جاز لها الإحلال وكانت بمنزلة المحصر مع عدم العدو وكذلك من حبس في دين أو غيره فتعذر عليه الوصول إلى البيت كان في حكم المحصر فكذلك المريض ويدل عليه أن سائر الفروض لا يختلف حكمها في كون المنع منها بالعدو أو المرض ألا ترى أن الخائف جائز له فعل الصلاة بالإيماء أو قاعدا إذا تعذر عليه فعلها قائما كما يجوز ذلك للمريض فكذلك المضي في الإحرام واجب أن لا يختلف حكمه عند تعذر الوصول إلى البيت لمرض كان ذلك أو لخوف عدو وكذلك هذا في استقبال القبلة إذا كان خائفا أو مريضا وكذلك من عدم الماء أو كان مريضا ومن لا يجد ما يحتمل به للجهاد ومن كان مريضا لم يختلف حكم الأعذار في سقوط الفرض كذلك ينبغي أن لا يختلف حكمها في باب سقوط فرض المضي على الإحرام وجواز الإحلال منه والمعنى في الجميع تعذر الفعل فإن قيل لما قال تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ثم عقب ذلك بقوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة دل ذلك من وجهين على أن المريض غير مراد بذكر الإحصار لأنه لو كان كذلك لما استأنف له ذكرا مع كونه في أول الخطاب والوجه الآخر أنه لو كان مرادا به لكان يحل بذلك الدم ولم يكن يحتاج إلى فدية قيل له لما قال الله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله منعه الإحلال مع وجود الإحصار إلى وقت بلوغ الهدي محله وهو ذبحه في الحرم فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدي محله وأباح له حلق الرأس مع إيجاب الفدية ووجه آخر وهو أنه ليس كل مرض يمنع الوصول إلى البيت ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن عجرة أتؤذيك هوام رأسك قال نعم فأنزل الله الآية ولم تكن هوام رأسه مانعته من الوصول إلى البيت فرخص الله له في الحلق وأمره بالفدية وكذلك المرض المذكور في الآية جائز أن يكون المرض الذي ليس معه إحصار والله سبحانه إنما جعل المرض إحصارا إذا منع الوصول إلى البيت فليس في ذكره حكم المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارا ووجه آخر وهو قوله فمن كان منكم مريضا يجوز أن يكون عائدا

إلى أول الخطاب كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله وأتموا الحج والعمرة لله ثم عطف عليه قوله فإن أحصرتم فبين حكمهم إذا أحصروا ثم عقبه بقوله فمن كان منكم مريضا يعني أيها المحرمون بالحج والعمرة فبين حكمهم إذا مرضوا قبل الإحصار كما بين حكمهم عند الإحصار فليس إذا في قوله فمن كان منكم مريضا دلالة على أن المرض لا يكون إحصارا فإن قيل لما قال في سياق الآية فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج دل على أن مراده العدو المخوف لأن الأمن يقتضي الخوف قيل له ما الذي يمنع أن يكون المراد الأمن ضرر المرض المخوف ولم جعلته مخصوصا بالعدو دون المرض والأمن والخوف موجودان فيهما وقد روي عن عروة بن الزبير في قوله فإذا أمنتم يعني إذا أمنت من كسرك ووجعك فعليك أن تأتي البيت فإن قيل الفرق بين العدو والمرض أن المحصر بعد وإن لم يمكنه أن يتقدم أمكنه الرجوع والمريض لا يختلف حاله في التقدم والرجوع قيل له فهذا أحرى أن يكون محصرا لتعذر الأمرين عليه فهو أعذر ممن يمكنه الرجوع وإن تعذر عليه المضي للخوف ويقال أيضا ما تقول في المحصر بالعدو إذا كان محيطا به ولم يمكنه الرجوع ولا التقدم أليس جائزا له الإحلال بلا خلاف بين الفقهاء فقد انتقضت علتك في الفرق بينهما ومع ذلك فقد قال الشافعي في المحرمة إذا منعها زوجها والمحبوس أنهما محصران وجائز لهما الإحلال وحال التقدم والرجوع لهما سواء لأنهما ممنوعان من الأمرين وزعم الشافعي أن الفرق بين المريض والخائف أن الله تعالى قد أباح للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن فيقال له وكذلك قد أباح للمريض ترك القتال رأسا بقوله ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج فكانت رخصة المريض أوسع من رخصة الخائف لأن الخائف غير معذور في ترك حضور القتال والمريض معذور فيه وإنما عذر الخائف أن يتحيز إلى فئة ولم يعذر في ترك القتال رأسا فالمريض أولى بالعذر في الإحلال من إحرامه قال الشافعي فلما قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ثم قال في شأن المحصر الخائف ما قال وجب أن لا يزول فرض تمام الحج والعمرة إلا عن الخائف فيقال له الذي قال وأتموا الحج والعمرة لله هو الذي قال فإن أحصرتم وهو عموم في الخائف وغيره فلا يخرج شيء منه إلا بدلالة فما الدلالة على تخصيصه بالخائف دون غيره وقد

نقضت ذلك بإطلاقك للمرأة الإحلال إذا منعها زوجها وليست بخائفة وكذلك المحبوس لا يخاف القتل وقال المزني جعل الإحلال رخصة للخائف من العدو ولا يشبه به غير غيره كما جعل المسح على الخفين خاصا لا يشبه به القفازين فيقال له إن كان المعنى فيه أنه رخصة فينبغي أن لا يقاس على شيء من الرخص فإذا رخص النبي صلى الله عليه وسلم - الاستنجاء بالأحجار وجب أن لا يشبه به غيره في جواز الإستنجاء بالخرق والخشب ولما كان حلق الرأس من أذى رخصة وجب أن لا يشبه به الأذى في البدن في إباحة الحلق والفدية ويلزمه أن لا يشبه بالخائف المحبوس والمرأة إذا منعها زوجها وجميع ما ذكرنا ينقض اعتلاله
فصل قال أبو بكر رضي الله عنه والإحصار من الحج والعمرة سواء وحكى عن محمد بن سيرين أن الإحصار يكون من الحج دون العمرة وذهب إلى أن العمرة غير موقته وإنه لا يخشى الفوات وقد تواترت الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم -
كان محرما بالعمرة عام الحديبية وأنه أحل من عمرته بغير طواف ثم قضاها في العام القابل في ذي القعدة وسميت عمرة القضاء وقال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ثم قال فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وذلك حكم عائد إليهما جميعا وغير جائز الإقتصار على أحدهما دون الآخر لما فيه من تخصيص حكم اللفظ بغير دلالة وقوله تعالى فما استيسر من الهدي قال أبو بكر قد اختلف السلف في ذلك فروى عن عائشة وابن عمر أنهما قالا لا يكون الهدي إلا من الإبل والبقر وقال ابن عباس شاة واختلف فقهاء الأمصار فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي الهدي من الأصناف الثلاثة الإبل والبقر والغنم وهو قول ابن شبرمة قال ابن شبرمة والبدن من الإبل خاصة وقال أصحابنا والشافعي من الإبل والبقر واختلفوا في السن فقال أصحابنا والشافعي لا يجز في الهدي من الإبل والبقر والغنم إلا الثنى فصاعدا إلا الجذع من الضأن فإنه يجزى و قال مالك لا يجزي من الهدي إلا الثني فصاعدا وقال الأوزاعي يهدى الذكور من الإبل ويجوز الجذع من الإبل والبقر ويجزي كل واحد منهما عن سبعة قال أبو بكر الهدي اسم لما يهدى إلى البيت على وجه التقرب به إلى الله تعالى وجائز أن يسمى به ما يقصد به الصدقة وإن لم يهد إلى البيت قال النبي صلى الله عليه وسلم - المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة

والبيضة هديا وإن لم يرد به إهداءه إلى البيت وإنما أراد به الصدقة وإخراجها مخرج القربة ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لله على أن أهدى ثوبي هذا أو داري هذه أن عليه أن يتصدق به واتفق الفقهاء على أن ما عدا هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ليس من الهدي المراد بقوله فما استيسر من الهدي واختلفوا فيما أريد به منها على ما ذكرنا وظاهر الآية يقتضي دخول الشاة فيه لوقوع الاسم عليها ولم يختلفوا في معنى قوله هديا بالغ الكعبة أن الشاة منه وأنه يكون هديا في جزاء الصيد وروى إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أهدى غنما مرة وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال كان فيما أهدى رسول الله ص - غنم مقلدة فإن قيل الرواية عن عائشة في هدي الغنم لا يصح لأن القاسم قد روى عنها أنها كانت لا ترى الغنم مما يستيسر من الهدي قيل له إنما معناه أنه لا يصير محرما بها وأن هدي الإبل والبقر يوجب الإحرام إذا أراده وقلدهما وأما اعتبار الثنى فلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في قصة أبي بردة بن نيار حين ضحى قبل الصلاة فأمر النبي ص - بإعادتها فقال عندي جذعة من المعز خير من شاتي لحم فقال تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك فمنع الجذع في الأضحية والهدي مثلها لأن أحدا لم يفرق بينهما وإنما أجازوا الجذع من الضأن لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بأن يضحى بالجذع من الضأن إذا فرض له ستة أشهر وقد بينا ذلك في شرح المختصر وقد اختلفوا في جواز الشركة في دم الهدايا الواجبة فقال أصحابنا والشافعي تجوز البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وقال مالك يجوز ذلك في التطوع ولا يجزى في الواجب وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه جعل يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وتلك كانت واجبة لأنها كانت عن إحصار ولما اتفقوا على جوازها عن سبعة في التطوع كان الواجب مثله لأنهما لا يختلفان في الجواز في سائر الوجوه ويدل عليه قوله فما استيسر من الهدي ظاهره يقتضي التبعيض فوجب أن يجزى بعض الهدي بحق الظاهر والله أعلم
باب
المحصر أين يذبح الهدي قال الله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله واختلف السلف في المحل ما هو فقال عبدالله بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين هو الحرم وهو قول أصحابنا والثوري وقال مالك والشافعي محله الموضع الذي أحصر

فيه فيذبحه ويحل والدليل على صحة القول الأول أن المحل اسم لشيئين يحتمل أن يراد به الوقت ويحتمل أن يراد به المكان ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لضبعة بنت الزبير اشترطي في الحج وقولي محلي حيث حبستني فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة موقنا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية وجب أن يكون مراده المكان فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ مكانا غير مكان الإحصار لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله بوقوع الإحصار ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية فدل ذلك على أن المراد بالمحل هو الحرم لأن كل من لا يجعل موضع الإحصار محلا للهدى فإنما يجعل المحل الحرم ومن جعل محل الهدى موضع الاحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناها ومن جهة أخرى وهو أن قوله وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلى قوله لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ودلالته على صحة قولنا في المحل من وجهين أحدهما عمومه في سائر الهدايا والآخر ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله حتى يبلغ الهدي محله فإذا كان الله قد جعل المحل البيت العتيق فغير جائز لأحد أن لا يجعل المحل غيره ويدل عليه قوله في جزاء الصيد هديا بالغ الكعبة فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل فصيام شهرين متتابعين فقيدهما بفعل التتابع لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه وكذلك قوله فتحرير رقبة مؤمنة لا يجوز إلا على الصفة المشروطة وكذلك قال أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح أنها لا تجوز إلا في الحرم ويدل عليه أيضا قوله في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فأوجب على المحصر دما ونهاه عن الحلق حتى يذبح هديه فلو كان ذبحه في الحل جائز الذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى فدل ذلك على أن الحل ليس بمحل الهدي فإن قيل هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار قيل له لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك ولا يكون مخيرا بين الأشاء الثلاثة إلا وهو واجد لها لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين مالا يجد فثبت بذلك أن محل الهدي هو

الحرم دون محل الإحصار ومن جهة النظر لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزي في غيره وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام فإن قيل قال الله تعالى هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله وذلك في شأن الحديبية وفيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم لولا ذلك لكان بالغا محله قيل له هذا من أدل شيء على أن محله الحرم لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال والهدي معكوفا أن يبلغ محله فلما أخبر عن منعهم الهدي عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة فإن قيل فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ذبحوا الهدي في الحل فما معنى قوله والهدي معكوفا أن يبلغ محله قيل له لما حصل أدنى منع جاز أن يقال أنهم منعوا وليس يقتضى ذلك أن يكون أبدا ممنوعا ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقه جاز أن يقال منعه حقه كما يقال حبسه ولا يقتضى ذلك أن يكون أبدا محبوسا فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم جاز إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام وإن كانوا قد أطلقوا لهم بعد ذلك الوصول إليه في العام المقبل وقال الله عز و جل قالوا يا أبانا منع منا الكيل وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر فكذلك منعوا الهدي بديا لما وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم -
وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم وقيل أن النبي ص - ساق البدن ليذبحها بعد الطواف بالبيت فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى والهدي معكوفا أن يبلغ محله لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح وهو عند المروة أو بمنى فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم وأن مضرب النبي صلى الله عليه وسلم - كان في الحل ومصلاه كان في الحرم فإذا أمكنه أن يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه وقد روي أن ناجية بن جندب الأسلمي قال للنبي ص - ابعث معي الهدي حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة ففعل وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم والله أعلم

باب
وقت ذبح هدي الإحصار قال الله تعالى فما استيسر من الهدي ولم يختلف أهل العلم ممن أباح الإحلال بالهدي أن ذبح هدي العمرة غير موقت وأن له أن يذبحه متى شاء ويحل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه محصرين بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة فحلوا منها بعد الذبح وكان ذلك في ذي القعدة واختلفوا في هدي الإحصار في الحج فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي له أن يذبحه متى شاء ويحل قبل يوم النحر وقال أبو يوسف والثوري ومحمد لا يذبح قبل يوم النحر وظاهر قوله فما استيسر من الهدي يقتضى جوازه غير موقت وفي إثبات التوقيت تخصيص اللفظ وذلك غير جائز إلا بدليل فإن قيل لما قال تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله والمحل اسم يقع على التوقيت وجب أن يكون موقتا قيل له قد بينا أن المحل اسم للموضع وإن كان قد يقع على الوقت فقد اتفق الجميع على ان المكان مراد بذكر المحل فإذا بلغ الحرم وذبح جاز بظاهر الآية وحينئذ يصير شرط الوقت زيادة فيه لأن أكثر أحواله أن يكون الاسم لما تناولهما جميعا فواجب أن يجزى بأيهما وجد لأنه جعل بلوغ المحل غاية الإحرام وقد وجد بذبحه في الحرم ولما قال تعالى والهدي معكوفا أن يبلغ محله وكان هذا المحل هو الحرم ثم قال في هذه القصة بعينها حتى يبلغ الهدي محله وجب أن يكون هو المحل المذكور في الآية الآخرى وهو الحرم ومما يدل على أنه غير موقت أن قوله عز و جل فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي عائد إلى الحج والعمرة والمبدوء بذكرهما في قوله وأتموا الحج والعمرة لله والهدي المذكور للحج هو المذكور للعمرة واتفق الجميع على أنه لم يرد به التوقيت للعمرة فكذلك الحج إذ قد أريد باللفظ الإطلاق ويدل عليه أيضا قوله تعالى حتى يبلغ الهدي محله والمراد بمحله للعمرة هو الحرم دون الوقت فصار كالمنطوق به فيه فاقتضى ذلك جواز ذبحه في الحرم أي وقت شاء في العمرة فكذلك هو للحج وأيضا لما كان الإطلاق قد تناول العمرة لم يجز أن يكون مقيدا للحج لأنه دخل فيهما على وجه واحد بلفظ واحد فغير جائز أن يراد في بعض ما انتظمه اللفظ الوقت وفي بعضه المكان كما لا يجوز أن يريد بقوله السارق والسارقة في بعضهم سارق العشرة وفي بعضهم سارق ربع دينار ويدل على ذلك من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم -
من كسر أو

عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ومعناه فقد جاز له أن يحل إذ لا خلاف أنه لا يحل بالكسر والعرج ويدل عليه حديث ضباعة بنت الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لها اشترطي وقولي إن محلي حيث حبستني ومعنى ذلك إعلامها أن ذلك محلها بدلالة الأصول أن موجب الإحرام لا ينتفي بالشرط ثم لم يوقت المحل ويحتج له من جهة النظر باتفاق الجميع على أن العمرة التي تحلل بها عند الفوات لا وقت لها إذا وجبت كذلك هذا الدم لما وجب عند الإحصار وجب أن يكون غير موقت لأنه يقع به إحلال على وجه الفسخ كعمرة الفوات قوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم هو نهي عن حلق الرأس في الإحرام للحاج والمعتمر جميعا لأنه معطوف على قوله وأتموا الحج والعمرة لله وقد اقتضى حظر حلق بعضنا رأس بعض وحلق كل واحد رأس نفسه لاحتمال اللفظ للأمرين كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم اقتضى النهي عن قتل كل واحد منا لنفسه ولغيره فيدل ذلك على أن المحرم محظور عليه حلق رأس غيره ومتى فعله لزمه الجزاء ويدل على أن الذبح مقدم على الحلق في القران والتمتع لأنه عموم في كل من عليه حلق وهدي في وقت واحد فيحتج فيمن حلق قبل أن يذبح أن عليه دما لمواقيته المحظور في تقديم الحلق على الهدي وقد اختلفوا في المحصر هل عليه حلق أم لا فقال أبو حنيفة ومحمد لا حلق عليه وقال أبو يوسف في إحدى الروايتين يحلق فإن لم يحلق فلا شيء عليه وروي عنه أنه لا بد من الحلق ولم يختلفوا في المرأة تحرم تطوعا بغير إذن زوجها والعبد يحرم بغير إذن مولاه أن للزوج والمولى أن يحللاهما بغير حلق ولا تقصير وذلك بأن يفعل بهما أدنى ما يحظره الإحرام من طيب أو لبس وهذا يدل على أن الحلق غير واجب على المحصر لأن هذين بمنزلة المحصر وقد جاز لمن يملك إحلالهما أن يحللهما بغير حلق ولو كان الحلق واجبا وهو ممكن لكان عليه أن يحلل العبد بالحلق والمرأة بالتقصير وأيضا فالحلق إنما ثبت نسكا مرتبا على قضاء المناسك ولم يثبت على غير هذا الوجه فغير جائز إثباته نسكا إلا عند قيام الدلالة إذ قد ثبت أن الحلق في الأصل ليس بنسك ويقاس بهذه العلة على العبد والمرأة أن المولى والزوج لما جاز لهما إحلال العبد والمرأة بغير حلق ولا تقصير إذا لم يفعلا سائر المناسك التي رتب عليها الحلق وجب أن يجوز لسائر المحصرين الإحلال بغير حلق لهذه العلة ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -
لعائشة حين أمرها برفض العمرة قبل استيعاب أفعالها انقضى

رأسك وامتشطي ودعي العمرة واغتسلي وأهلي بالحج فلم يأمرها بالحلق ولا بالتقصير حين لم تستوعب أفعال العمرة فدل على أن من جاز له الإحلال من إحرامه قبل قضاء المناسك فليس عليه الإحلال بالحلق وفيه دليل على أن الحلق مرتب على قضاء المناسك كترتيب سائر أفعال المناسك بعضها على بعض وقد احتج محمد لذلك بأنه لما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق ويحتمل ذلك من قوله وجهين احدهما أن يكون مراده المعنى الذي ذكرنا أن الحلق مرتب على قضاء المناسك فلما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق ويحتمل أنه لما كان الحلق إذا وجب في الإحرام كان نسكا وقد سقط عن المحصر سائر المناسك وجب أن يسقط عنه الحلق فإن قيل إنما سقط عنه سائر المناسك لتعذر فعلها والحلق غير متعذر فعليه فعله قيل له هذا غلط لأن المحصر لو أمكنه الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار ولم يمكنه الوصول إلى البيت ولا الوقوف بعرفة لا يلزمه الوقوف بالمزدلفة ولا رمي الجمار مع إمكانهما لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما كذلك لما كان الحلق مرتبا على أفعال أخر لم يكن فعله قبلهما نسكا فقد سقط بما ذكرنا اعتراض السائل لوجودنا مناسك يمكنه فعلها ولم تلزمه مع ذلك عند كونه محصرا فإن احتج محتج لأبي يوسف بقوله ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فجعل بلوغه محله غاية لزوال الحظر وواجب أن يكون حكم الغاية بضد ما قبلها فيكون تقديره ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فإذا بلغ فاحلقوا وذلك يقتضي وجوب الحلق قيل له هذا غلط لأن الإباحة هي ضد الحظر كما أن الإيجاب ضده فليست في صرفه إلى أحد الضدين وهو الإيجاب بأولى من الآخر وهو الإباحة وأيضا فإن ارتفاع الحظر غير موجب لفعل ضده على جهة الإيجاب وإنما الذي يقتضيه زوال الحظر بقاء الشيء على ما كان عليه قبله فيكون بمنزلته قبل الإحرام فإن شاء حلق وإن شاء ترك ألا ترى أن زوال حظر البيع بفعل الجمعة وزوال حظر الصيد
بالإحلال لم يقتض إيجاب البيع ولا الاصطياد وإنما اقتضى إباحتهما ويحتج لأبي يوسف بقول النبي صلى الله عليه وسلم - رحم الله المحلقين ثلاثا ودعا للمقصرين مرة وذلك في عمرة الحديبية عند الإحصار فدل ذلك على أنه نسك وإذا كان نسكا وجب فعله كما يجب عند قضاء المناسك لغير المحصر والجواب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - اشتد عليهم الحلق والإحلال قبل الطواف بالبيت فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم - بالإحلال

توقفوا رجاء أن يمكنهم الوصول وعاد عليهم القول ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم -
بدأ فنحر هديه وحلق رأسه فلما رأوه كذلك حلق بعض وقصر بعض فدعا للمحلقين لمبالغتهم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم - ومسارعتهم إلى أمره ولما قيل له يا رسول الله دعوت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة فقال إنهم لم يشكوا ومعنى ذلك أنهم لم يشكوا أن الحلق أفضل من التقصير فاستحقوا من الثواب بعلمهم لذلك ما لم يستحقه الآخرون فإن قيل فكيفما جزى الأمر فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم - بالحلق وأمره على الوجوب ودعاؤه للفريقين من المحلقين والمقصرين دليل على أنه نسك وما ذكرته من أن القوم كرهوا الحلق قبل الوصول إلى البيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم - أمرهم به ليس بناف وجه الدلالة منه على كونه نسكا فإنه يقال قد روى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قصة الحديبية فقالا فيه فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم -
أحلوا وانحروا وذكر في بعض الأخبار الحلق فنستعمل اللفظين فنقول ما حل به من شيء فهو حلال لقوله ص - أحلوا وقوله احلقوا المقصد به الإحلال لا تعيينه بالحلق دون غيره وإنما استحقوا الثواب لإحلالهم وائتمارهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وكان الحلق أفضل من التقصير لجدهم واجتهادهم في متابعة أمره ص - والله أعلم بالصواب
باب
ما يجب على المحصر بعد إحلاله من الحج بالهدي قال الله تعالى بعد ما ذكر في شأن المحصر فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المحصر بالحج إذا حل بالهدي فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ومجاهد عن عبدالله بن مسعود قالا عليه عمرة وحجة فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه وكذلك قال علقمة والحسن وإبراهيم وسالم والقاسم ومحمد بن سيرين وهو قول أصحابنا وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر الله بالقصاص أو يأخذ منكم العدوان حجة بحجة وعمرة بعمرة وروي عن الشعبي قال عليه حجة وإنما يوجب أبو حنيفة عليه حجة وعمرة إذا أحل بالدم ثم لم يحج من عامه ذلك فلو أنه أحل إحرامه قبل يوم النحر ثم زال الإحصار فأحرم بالحج وحج من عامه لم يكن عليه عمرة وذلك لأن هذه العمرة إنما هي التي تلزم بالفوات لأن من فاته الحج فعليه أن يتحلل بعمل عمرة فلما حصل حجه فائتا كان عليه عمرة للفوات والدم الذي عليه في الإحصار إنما هو للإحلال ولا يقوم

مقام العمرة التي تلزم بالفوات وذلك لأنه ليس في الأصول عمرة يقوم مقامها دم ألا ترى أن من نذر عمرة لم ينب عنها دم لا في حال العذر ولا في حال الإمكان وكذلك من يجعل العمرة فريضة لا يجعل الدم نائبا عنها بحال فلما كان الفوات قد ألزمه عمل عمرة لم يجز أن ينوب عنها دم فثبت بذلك أن الدم إنما هو للإحلال فحسب ويدل على ذلك أن العمرة التي تلزم بالفوات غير جائز فعلها قبل الفوات لعدم وقتها وسببها ودم الإحصار يجوز ذبحه والإحلال به قبل الفوات باتفاق منا ومن مخالفينا فدل ذلك على أن الدم هو للإحلال لا على أنه قائم مقام العمرة ولا يسوغ لمالك والشافعي أن يجعلا دم الإحصار قائما مقام العمرة الواجبة بالفوات لأنهما يقولان الذي يفوته الحج عليه مع عمرة الفوات هدي فهدي الإحصار عندهما هو الذي يلزم بالفوات فلا يقوم مقام العمرة كما لا يقوم مقامه بعد الفوات فإن قيل فأنت تجيز صوم ثلاثة أيام المتعة بعد إحرام العمرة قبل يوم النحر وهو بدل من الهدي والهدي نفسه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر قيل له إنما جاز ذلك لوجود سبب المتعة وهو العمرة فجاز تقديم بعض الصوم على وقت ذبح الهدي ولم يوجد للمحصر سبب للزوم العمرة لأن سببه إنما هو طلوع الفجر يوم النحر قبل الوقوف بعرفة فلذلك لم يقم الدم مقام العمرة التي تلزم بالفوات ويدل على أن الدم غير قائم مقام العمرة التي تلزم بالفوات أنه يلزم المعتمر وهو لا يخشى الفوات لأنها غير موقتة فدل ذلك على أن هذا الدم لا يتعلق بالفوات وإنه موضوع لتعجيل الإحلال بدلالة أنه لم يختلف فيه حكم ما يخشى فوته وحكم ما لا يخشى فوته في لزوم الدم فإن قيل في حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يذكر فيه عمرة ولو كانت واجبة معه لذكرها كما ذكر وجوب قضاء الحج قيل له ولم يذكر دما ومع ذلك فلا يجوز له أن يحل إلا بدم وإنما أراد ص - الإخبار عن الإحصار بالمرض ووجوب قضاء ما يحل فيه وقد ذهب عبدالله بن مسعود وابن عباس في رواية سعيد بن جبير إلى أن قوله عقيب ذكر حكم المحصر فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أراد به العمرة التي تجب بالإحلال من الحج إذا جمعها إلى الحج الذي أحل منه في أشهر الحج فعليه الفداء وروي عن ابن عباس قول آخر في المحصر وهو ما رواه عبدالرزاق قال حدثنا الثوري عن ابن أبي نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال

الحبس حبس العدو فإن حبس وليس معه هدي حل مكانه وإن كان معه هدي حل به ولم يحل حتى ينحر الهدي وليس عليه حجة ولا عمرة وقد روي عن عطاء إنكار ذلك على رواية رواها محمد بن بكر قال أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن دينار قال قال ابن عباس ليس على من حصره العدو هدي حسب أنه قال ولا حج ولا عمرة قال ابن جريج فذكرت ذلك لعطاء قلت هل سمعت ابن عباس يقول ليس على المحصر هدي ولا قضاء إحصاره قال لا وأنكره وهذه رواية لعمري منكرة خلاف نص التنزيل وما ورد بالنقل المتواتر عن الرسول ص -
قال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله وقوله فما استيسر من الهدي على أحد وجهين أحدهما فعليه ما استيسر من الهدي والآخر فليهد ما استيسر من الهدي فاقتضى ذلك إيجاب الهدي على المحصر متى أراد الإحلال ثم عقبه بقوله ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله فكيف يسوغ لقائل أن يقول جائز له الإحلال بغير هدي مع ورود النص بإيجابه ومع نقل إحصار النبي صلى الله عليه وسلم - بالحديبية وأمره إياهم بالذبح والإحلال واختلف الفقهاء في المحصر إذا لم يحل حتى فاته الحج ووصل إلى البيت فقال أصحابنا والشافعي عليه أن يتحلل بالعمرة ولا يصح له فعل الحج بالإحرام الأول وقال مالك يجوز له أن يبقى حراما حتى يحج في السنة الثانية وإن شاء تحلل بعمل عمرة والدليل على أنه غير جائز له أن يفعل بذلك الإحرام الأول حجا بعد الفوات اتفاق الجميع على أنه له أن يتحلل بعمل عمرة فلولا أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا لما جاز له التحلل منه ألا ترى أنه غير جائز له أن يتحلل منه في السنة الأولى حين أمكنه فعل الحج به وفي ذلك دليل على أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا وأيضا فإن فسخ الحج منسوخ بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فعلمنا حين جاز له الإحلال أن موجبه في هذه الحال هو عمل العمرة لا عمل الحج لأنه لو أمكنه عمل الحج فجعله عمرة بالإحلال لكان فاسخا لحجه مع إمكان فعله وهذا لم يكن قط إلا في السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ثم نسخ وهو معنى قول عمر متعتان كانت على عهد رسول الله ص - أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة النساء ومتعة الحج فأراد بمتعة الحج فسخه على نحو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
به أصحابه في حجة الوداع واختلفوا أيضا فيمن أحصر وهو محرم بحج تطوع أو بعمرة تطوع فقال أصحابنا عليه القضاء سواء كان

الإحصار بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدي واما مالك والشافعي فلا يريان الإحصار بالمرض ويقولان إن أحصر بعدو فحل فلا قضاء عليه في الحج ولا في العمرة والدليل على وجوب القضاء قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وذلك يقتضي الإيجاب بالدخول ولما وجب بالدخول صار بمنزلة حجة الإسلام والنذر فيلزمه القضاء بالخروج منه قبل إتمامه سواء كان معذورا فيه أو غير معذور لأن ما قد وجب لا يسقطه العذر فلما اتفقوا على وجوب القضاء بالإفساد وجب عليه مثله بالإحصار ويدل عليه من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يفرق بين حجة الإسلام والتطوع وأيضا فإن من ترك موجبات الإحرام لا يختلف فيه المعذور وغيره في ترك لزوم حكمه والدليل عليه أن الله قد عذر حالق رأسه من أذى ولم يخله من إيجاب فدية سواء كان ذلك في إحرام فريضة أو تطوع فكذلك ينبغي أن يكون حكم المحصر بحجة فرض أو نفل في وجوب القضاء وواجب أيضا أن يستوي حكم إفساده إياه بالجماع وخروجه منه بإحصار كما لم يخل من إيجاب كفارة في الجنايات الواقعة في الإحرام المعذور وغيره ويدل على وجوب القضاء على المحصر وإن كان معذورا اتفاق الجميع أن على المريض القضاء إذا فاته الحج وإن كان معذورا في الفوات كما يلزمه لو قصد إلى الفوات من غير عذر والمعنى في استواء حكم المعذور وغير المعذور ما لزمه من الإحرام بالدخول وهو موجود في المحصر فوجب أن لا يسقط عنه القضاء ويدل عليه أيضا قصة عائشة حين حاضت وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم -
في حجة الوداع وكانت محرمة بعمرة فقال لها النبي ص - انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة ثم لما فرغت من الحج أمر عبدالرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم وقال هذه مكان عمرتك فأمرها بقضاء ما رفضته من العمرة للعذر فدل ذلك على أن المعذور في خروجه من الإحرام لا يسقط عنه القضاء ويدل عليه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة وقضوها في العام المقبل سميت عمرة القضاء ولو لم تكن لزمت بالدخول ووجب القضاء لما سميت عمرة القضاء ولكانت تكون حينئذ عمرة مبتدأة وفي ذلك دليل على لزوم القضاء بالإحلال والله الموفق

باب المحصر لا يجد هديا
قال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي واختلف أهل العلم في المحصر لا يجد هديا فقال أصحابنا لا يحل حتى يجد هديا فيذبح عنه وقال عطاء يصوم عشرة أيام ويحل كالمتمتع إذا لم يجد هديا وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه لا يحل أبدا إلا بهدي والآخر إذا لم يقدر على شيء حل وأهراق دما إذا قدر عليه وقيل إذا لم يقدر أجزأه وعليه الطعام أو صيام إن لم يجد ولم يقدر قال أبو بكر واحتج محمد لذلك بأن هدي المتعة منصوص عليه وكذلك حكم المتمتع منصوص عليه فيما يلزم من هدي أو صيام إن لم يجد هديا والمنصوصات لا يقاس بعضها على بعض ووجه آخر وهو أنه غير جائز إثبات الكفارات بالقياس فلما كان الدم مذكورا للمحصر لم يجز لنا إثبات شيء غيره قياسا لأن ذلك دم جناية على وجه الكفارة لامتناع جواز إثبات الكفارة قياسا وأيضا فإن فيه ترك المنصوص عليه بعينه لأنه قال ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن أباح له الحلق قبل بلوغ الهدي محله فقد خالف النص ولا يجوز ترك النص بالقياس والله أعلم
باب
إحصار أهل مكة قال أبو بكر روي عن عروة بن الزبير والزهري أنهما قالا ليس على أهل مكة إحصار إنما إحصارهم أن يطوفوا بالبيت وكذلك قال أصحابنا إذا أمكنهم الوصول إلى البيت وذلك لأنه لا يخلو من أن يكون محرما بحج أو عمرة فإن كان معتمرا فلعمرة إنما هي الطواف والسعي وليس بمحصر عن ذلك وإن كان حاجا فله أن يؤخر الخروج إلى عرفات إلى آخر وقته لو لم يكن محصرا فإذا فاته الوقوف فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمرة فيكون مثل المعتمر فلا يكون محصرا والله أعلم
باب
المحرم يصيبه أذى من رأسه أو مرض قال الله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه إلى آخر الآية يعني والله أعلم فمن كان منكم مريضا من المحرمين محصرين أو غير محصرين فأصابه مرض أو أذى في رأسه ففدية من صيام فدل ذلك على أن المحصر

لا يجوز له الحلق قبل بلوغ الهدي محله وأنه إذا كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه الفدية وإن كان غير محصر فهو في حكم المحصر الذي لم يبلغ هديه محله فدل ذلك على التسوية بين المحصرين وغير المحصرين في أن كل واحد منهم لا يجوز له الحلق في الإحرام إلا على الشرط المذكور وقوله تعالى فمن كان منكم مريضا عنى المرض الذي يحتاج فيه إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام فيفعل ذلك لدفع الأذى ويفتدي وكذلك قوله أو به أذى من رأسه إنما هو على أذى يحتاج فيه إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام من حلق أو تغطية فأما إن كان مريضا أو به أذى في رأسه لا يحتاج فيه إلى حلق ولا إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام فهو في هذه الحال بمنزلة الصحيح في حظر ما يحظره الإحرام وقد روي في أخبار متظاهرة عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - مر به في عام الحديبية والقمل تتناثر على وجهه فقال أتؤذيك هوام رأسك فقلت نعم فأمره بالفدية فكان كثرة القمل من الأذى المراد بالآية ولو كان به قروح في رأسه أو خراج فاحتاج إلى شده أو تغطيته كان ذلك حكمه في جواز الفدية وكذلك سائر الأمراض التي تصيبه ويحتاج إلى لبس الثياب جاز له أن يستبيح ذلك ويفتدي لأن الله لم يخصص شيئا من ذلك فهو عام في الكل فإن قيل قوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه معناه فحلق ففدية من صيام قيل له الحلق غير مذكور وإن كان مرادا وكذلك اللبس وتغطية الرأس كل ذلك غير مذكور وهو مراد لأن المعنى فيه إستباحة ما يحظره الإحرام للعذر وكذلك لو لم يكن مريضا وكان به أذى في بدنه يحتاج فيه إلى حلق الشعر كان في حكم الرأس في باب الفدية إذ كان المعنى معقولا في الجميع وهو استباحة ما يحظره الإحرام في حال العذر وأما قوله تعالى ففدية من صيام فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صام ثلاثة أيام في حديث كعب بن عجرة وهو قول جماعة السلف وفقهاء الأمصار إلا شيء روي عن الحسن وعكرمة أن الصيام عشرة أيام كصيام المتعة وأما الصدقة فإنه روي في مقدارها عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - روايات مختلفة الظاهر فمنها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب قال حدثنا سهل بن محمد قال حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه قال حدثني عبدالرحمن بن الأصبهاني عن عبدالله بن مغفل أن كعب بن عجرة حدثه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم -
محرما فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي ص - فدعا

بحلاق فحلق رأسه وقال هل تجد نسكا قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاعا وأنزل الله ففدية من صيام أو صدقة أو نسك للمسلمين عامة ورواه صالح بن أبي مريم عن مجاهد عن كعب بن عجرة بمثل ذلك وروى داود بن أبي هند عن عامر عن 2كعب بن عجرة وقال فيه صدق بثلاثة آصع من تمر بين كل مسكينين صاع وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن الحسن بن أحمد قال حدثنا عبدالعزيز بن داود قال حدثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال له أنسك نسيكة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من طعام لستة مساكين فذكر في الخبر الأول ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين وفي خبر ستة آصع وهذا أولى لأن فيه زيادة ثم قوله ثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ينبغي أن يكون المراد به الحنطة لأن هذا ظاهره والمعتاد المتعارف منه فيحصل من ذلك أن يكوم من التمر ستة آصع ومن الحنطة ثلاثة آصع وعدد المساكين الذين يتصدق عليهم ستة بلا خلاف وأما النسك فإن في أخبار كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمره أن ينسك نسيكة وفي بعضها شاة ولا خلاف بين الفقهاء أن أدناه شاة وإن شاء جعله بعيرا أو بقرة ولا خلاف أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة يبتدئ بأيها شاء وذلك مقتضى الآية وهو قوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وأو للتخير هذا حقيقتها وبابها إلا أن تقوم الدلالة على غير هذا في الإثبات وقد بيناه في مواضع واختلف الفقهاء في موضع الفدية من الدم والصدقة مع اتفاقهم على أن الصوم غير مخصوص بموضع فإن له أن يصوم في أي موضع شاء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الدم بمكة والصيام والصدقة حيث شاء وقال مالك بن أنس الدم والصدقة والصيام حيث شاء وقال الشافعي الصدقة والدم بمكة والصيام حيث شاء فظاهر قوله ففدية من صيام أو صدقة أو نسك يقتضي إطلاقها حيث شاء المفتدي غير مخصوم بموضع لو لم يكن في غيرها من الآي دلالة على تخصيصه بالحرم وهو قوله لكم فيها منافع إلى أجل مسمى يعني الأنعام التي قدم ذكرها ثم قال ثم محلها إلى البيت العتيق وذلك عام في سائر الأنعام التي تهدي إلى البيت فوجب بعموم هذه الآية أن كل هدي متقرب به مخصوص بالحرم لا يجزي في غيره ويدل عليه قوله تعالى هديا

بالغ الكعبة وذلك جزاء الصيد فصار بلوغ الكعبة صفة للهدي ولا يجزي دونها وأيضا لما كان ذلك ذبحا تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون مخصوصا بالحرم كجزاء الصيد وهدي المتعة فإن قيل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة أو اذبح شاة ولم يشترط له مكانا وجب أن لا يكون مخصوصا بموضع قيل له إن كعب بن عجرة أصابه ذلك وهو بالحديبية وبعضها من الحل وبعضها من الحرم فجائز أن يكون ترك ذكر المكان اكتفاء بعلم كعب بن عجرة بأن ما تعلق من ذلك بالإحرام فهو مخصوص بالحرم وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك عالمين بحكم تعلق الهدايا بالحرم لما كان يرون النبي صلى الله عليه وسلم - يسوق البدن إلى الحرم لينحرها هناك وأما الصدقة والصوم فحيث شاء لأن الله تعالى أطلق ذلك غير مقيد بذكر المكان فغير جائز لنا تقييده بالحرم لأن المطلق على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده ويدل عليه أنه ليس في الأصول صدقة مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره فلما كانت هذه صدقة لم تجز أن تكون مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره لأن ذلك مخالف للأصول خارج عنها فإن قيل ينبغي أن تكون الصدقة في الحرم لأن للمساكين بالحرم فيها حقا كالذبائح قيل له الذبح لم يتعلق جوازه بالحرم لأجل حق المساكين لأنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه منه وتصدق به في غير الحرم أجزأه ومع ذلك فإنه لا يختص ذلك بمساكين الحرم دون غيرهم لأنه لو كان حقا لهم لكان لهم المطالبة به ولما لم تكن لهم المطالبة به دل على أنه ليس بحق لهم وإنما هو حق الله قد لزمه إخراجه إلى المساكين على وجه القربة كالزكاة وسائر الصدقات التي لا تختص بموضع دون غيره وأيضا لما لم تكن القربة فيها إراقة الدم وجب أن لا يختص بالحرم كالصيام وقد اختلف السلف في ذلك فروي عن الحسن وعطاء وإبراهيم قالوا ما كان دم فبمكة وما كان من صيام أو صدقة فحيث شاء وعن مجاهد قال اجعل الفدية حيث شئت وقال طاوس النسك والصدقة بمكة والصيام حيث شئت وروي أن عليا نحر عن الحسين بعيرا وكان قد مرض وهو محرم وأمر بحلقه ونحر البعير عنه بالسقيا وقسمه على أهل الماء وليس في ذلك دلالة على أنه رأى جواز الذبح في غير الحرم لأنه جائز أن يكون جعل اللحم صدقة وذلك جائز عندنا والله أعلم

باب التمتع بالعمرة إلى الحج
قال الله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي قال أبو بكر هذا الضرب من التمتع ينتظم معنيين أحدهما الإحلال والتمتع إلى النساء والآخر جمع العمرة إلى الحج في أشهر الحج ومعناه الارتفاق بهما وترك إنشاء سفرين لهما وذلك لأن العرب في الجاهلية كانت لا تعرف العمرة في أشهر الحج وتنكرها أشد الإنكار ويروى عن ابن عباس وعن طاوس أن ذلك عندهم كان من أفجر الفجور ولذلك رجع النبي صلى الله عليه وسلم - حين أمرهم أن يحلوا بعمرة على عادتهم كانت في ذلك حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن المثنى قال حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا عبدالله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برئ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم - صبيحة رابعه مهلين بالحج أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يحلوا فتعاظم ذلك عندهم قالوا يا رسول الله أي الحل قال الحل كله فمتعة الحج تنتظم هذين المعنيين إما استباحة التمتع بالنساء بالإحلال وإما الإرتفاق بالجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج والإقتصار بهما على سفر واحد بعد أن كانوا لا يستحلون ذلك في الجاهلية ويفردون لكل واحد سفرا ويحتمل التمتع بالعمرة إلى الحج الانتفاع بهما بجمعهما في أشهر الحج واستحقاق الثواب بهما إذا فعلا على هذا الوجه فدل ذلك على زيادة نفع وفضيلة تحصل لفاعلهما والمتعة على أربعة أوجه أحدها القارن والمحرم بعمرة في أشهر الحج إذا حج من عامه في سفر واحد لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والمحصر على قول من لا يرى له الإحلال ولكنه يمكث على إحرامه حتى يصل إلى البيت فيتحلل من حجه بعمل العمرة بعد فوت الحج وفسخ الحج بالعمرة وقد اختلف في تأويل قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فقال ابن مسعود وعلقمة هو عطف على قوله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي يعني الحاج إذا أحصر فحل من إحرامه بهدي أن عليه قضاء عمرة وحجة فإن هو تمتع بهما وجمع بينهما في أشهر الحج في سفر واحد فعليه دم آخر للتمتع وإن اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى أهله ثم حج من عامه فلا دم عليه قال عبدالله بن مسعود سفران وهدي أو هديان وسفر يعني بقوله سفران

وهدي أن هذا المحصر إن اعتمر بعد إحلاله من الحج في أشهر الحج ورجع إلى أهله ثم عاد فحج من عامه فعليه هدي واحد وهو هدي الإحصار وذلك لأنه فعلهما في سفرين أو هديان وسفر يعني إذا لم يرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى أهله فعليه هدي التمتع والهدي الأول للإحصار فلذلك هديان وسفر وقال ابن عباس فيما رواه ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس كان يقول بجمع الآية المحصر والمخلى سبيله يعني قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج قال عطاء وإنما سميت متعة من أجل أنه اعتمر في أشهر الحج ولم تسم متعة من أجل أنه يحل أن يتمتع إلى النساء فكان مذهب ابن عباس أن الآية قد انتظمت الأمرين من المحصرين إذا أرادوا قضاء الحج مع العمرة التي لزمت بالفوات ومن غير المحصرين ممن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فكان عند عبدالله بن مسعود أن ذلك لما كان معطوفا على المحصرين فحكمه أن يكونوا هم المرادين به فيفيد إيجاب عمرة بالفوات ويفيد الحكم بأنه إذا جمعهما مع قضاء الحج الفائت في سفر واحد في أشهر الحج فعليه دم وإن فعلهما في سفرين فلا دم عليه وليس مذهب ابن مسعود في ذلك مخالفا لقول ابن عباس إلا أن ابن عباس قال الآية عامة في المحصرين وغيرهم وهي مقيدة في المحصرين بما ذكره ابن مسعود ومقيدة في غير المحصرين في جواز التمتع لهم وبيان حكمهم إذا تمتعوا وقال ابن مسعود الآية في فحواها خاصة في المحصرين وإن كان غير المحصرين إذا تمتعوا كانوا بمنزلتهم والقارن والذي يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه في سفر واحد متمتعان من وجهين أحدهما الإرتفاق بالجمع بينهما في سفر واحد والآخر حصول فضيلة الجمع فيدل ذلك على أن ذلك أفضل من الإفراد بكل واحد منهما في سفر أو تفريقهما بأن يفعل العمرة في غير أشهر الحج وقد روي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - في هذه المتعة روايات ظاهرها يقتضي الإختلاف في إباحتها وإذا حصلت كان الإختلاف في الأفضل لا في الحظر والإباحة فممن روي عنه النهي عن ذلك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو ذر والضحاك بن قيس حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن أبي مريم عن مالك بن أنس عن ابن شهاب أن محمد بن عبدالله بن الحارث بن نوفل حدثه أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية وهما يتذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك لا يصنع

ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى قال سعد بئس ما قلت يا ابن أخي فقال الضحاك فإن عمر بن الخطاب قد نهى عنه قال سعد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وصنعناها معه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت جري بن كليب يقول رأيت عثمان ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها فأتيت عليا فقلت إن بينكما لشرا أنت تأمر بها وعثمان ينهى عنها فقال ما بيننا إلا خير ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين وقد روي عن عثمان أنه لم يكن ذلك منه على وجه النهي ولكن على وجه الإختيار وذلك لمعان أحدها الفضيلة ليكون الحج في أشهره المعلومة له ويكون العمرة في غيرها من الشهور والثاني أنه أحب عمارة البيت وأن يكثر زواره في غيرها من الشهور والثالث أنه رأى إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم فقد جاءت بهذه الوجوه أخبار مفسرة عنه حدثنا جعفر بن محمد المؤدب قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثني يحيى بن سعيد عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر بن الخطاب إن تفرقوا بين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته قال أبو عبيد وحدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن عبدالله عن أبيه قال كان عمر يقول إن الله قال وأتموا الحج والعمرة لله وقال الحج أشهر معلومات فأخلصوا أشهر الحج للحج واعتمروا فيما سواها من الشهور وذلك لأن من اعتمر في أشهر الحج لم تتم عمرته إلا بهدي ومن اعتمر في غير أشهر الحج تمت عمرته إلا أن يتطوع بهدي غير واجب فأخبر في هذا الخبر بجهة اختياره للتفريق بينهما قال أبو عبيد وحدثنا أبو معاوية هشام عن عروة عن أبيه قال إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج إرادة أن لا يتعطل البيت في غير أشهر الحج فذكر في هذا الخبر وجها آخر لاختياره التفريق بينهما قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال حدثنا أبو بشر عن يوسف بن ماهك قال إنما نهى عمر عن المتعة لمكان أهل البلد ليكون موسمان في عام فيصيبهم من منفعتهما فذكر في هذا الخبر أنه اختاره لمنفعة أهل البلد وقد روي عن عمر اختيار المتعة على غيرها حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن طاوس عن ابن عباس قال سمعت عمر يقول لو اعتمرت

ثم اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت لتمتعت ففي هذا الخبر اختياره للمتعة فثبت بذلك أنه لم يكن ما كان منه في أمر المتعة على وجه اختيار المصلحة لأهل البلد تارة ولعمارة البيت أخرى وبين الفقهاء خلاف في الأفضل من إفراد كل واحد منهما أو القران أو التمتع فقال أصحابنا القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد وقال الشافعي الإفراد أفضل والقران والتمتع حسنان وقد روى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر لأن اعتمر في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة في شهر يجب علي فيه الهدي أحب إلي من أن أعتمر في شهر لا يجب علي فيه الهدي وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال سألت ابن مسعود عن امرأة أرادت أن تجمع مع حجها عمرة فقال أسمع الله يقول الحج أشهر معلومات ما أراها إلا أشهر الحج ولا دلالة في هذا الخبر على أنه كان يرى الإفراد أفضل من التمتع والقران وجائز أن يكون مراده البيان عن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالجمع بين الحج والعمرة وقال علي كرم الله وجهه تمام العمرة أن تحرم من حيث ابتدأت من دويرة أهل فهذا يدل على أنه أراد التمتع والقران بأن يبدأ بالعمرة من دويرة أهله إلى الحج لا يلم بأهله وتأوله أبو عبيد القاسم بن سلام على أنه يخرج من منزله ناويا العمرة خالصة لا يخلطها بالحج قال لأنه إذا أحرم بها من دويرة أهله كان خلاف السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد وقت المواقيت وهذا تأويل ساقط لأنه قد روي عن علي تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فنص الإحرم بهما من دويرة أهله والذي ذكره من السنة على خلاف ما ظن لأن السنة إنما قضت بحظر مجاورتها إلا محرما لمن أراد دخول مكة فأما الإحرام بها قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه وروي عن الأسود بن يزيد قال خرجنا عمارا فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال أحلقتم الشعث وقضيتم التفث أما إن العمرة من مدركم وتأوله أبو عبيد على ما تأول عليه حديث علي وإنما أراد أبو ذر أن الأفضل إنشاء العمرة من أهلك كما روي عن علي تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار متواترة أنه قرن بين الحج والعمرة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن صبي بن معبد أنه كان نصرانيا فأسلم فأراد الجهاد فقيل له إبدأ بالحج فأتى أبا موسى الأشعري فأمره أن يهل بالحج والعمرة جميعا ففعل

فبينما هو يلبي بهما إذ مر زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فقال أحدهما هذا أضل من بعيره فسمعهما صبي فكبر عليه فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك فقال عمر إنهما لا يقولان شيئا هديت لسنة نبيك ص -
قال أبو عبيد وحدثنا ابن أبي زائدة عن الحجاج بن أرطاة عن الحسن بن سعيد عن ابن عباس قال أنبأني أبو طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - جمع بين حجة وعمرة قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا الحجاج عن شعبة قال حدثني حميد بن هلال قال سمعت مطرف بن عبدالله بن الشخير يقول قال عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن بتحريمه قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم قال أخبرنا حميد عن بكر بن عبدالله قال سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة قال بكر فحدثت ابن عمر بذلك قال لبى بالحج وحده قال بكر فلقيت أنس بن مالك فحدثته بقول ابن عمر فقال ما يعدونا إلا صبياننا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول لبيك عمرة وحجا قال أبو بكر وجائز أن يكون ابن عمر سمع النبي ص - يقول لبيك بحجة وسمعه أنس في وقت آخر يقول لبيك بعمرة وحجة وكان قارنا وجائز للقارن أن يقول مرة لبيك بعمرة وحجة وتارة لبيك بحجة وأخرى لبيك بعمرة فليس في حديث ابن عمر نفي لما رواه أنس وقالت عائشة اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أربع عمر أحدها مع حجة الوداع وروى يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول وهو بوادي العقيق أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل حجة وعمرة وروي عمرة في حجة وفي حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يجعلوا حجهم عمرة وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وقال لعلي بماذا أهللت قال بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم - فقال إني سقت الهدي ولا أحل إلى يوم النحر فلو لم يكن هديه هدي تمتع وقران لما منعه الإحلال لأن هدي التطوع لا وقت له يجوز ذبحه متى شاء فدل ذلك على أن هديه كان هدي قران ولذلك منعه الإحلال لأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فهذه الأخبار توجب كون النبي صلى الله عليه وسلم - قارنا ورواية من روى أنه كان مفردا غير معارض لها من وجوه أحدها أنها ليست في وزن الأخبار التي فيها ذكر القران في الإستفاضة والشيوع والثاني أن الراوي للإفراد أكثر ما أخبر

أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول لبيك بحجة وذلك لا ينفي كونه قارنا لأنه جائز للقارن أن يذكر الحج وحده تارة وتارة العمرة وحدها وأخرى ويذكرهما والثالث أنهما لو تساويا في النقل والاحتمال لكان خبر الزائد أولى وإذا ثبت بما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان قارنا وقد قال ص -
خذوا عني مناسككم فأولى الأمور وأفضلها الاقتداء برسول الله ص - فيما فعله لا سيما وقد قال لهم خذوا عني مناسككم فأولى الأمور وأفضلها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم -
فيما فعله وقال الله تعالى فاتبعوه وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولأنه ص - لا يختار من الأعمال إلا أفضلها وفي ذلك دليل على أن القران أفضل من التمتع ومن الإفراد ويدل عليه أن فيه زيادة نسك وهو الدم لأن دم القران عندنا دم نسك وقربة يؤكل منه كالأضحية بدلالة قوله فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق وليس شيء من الدماء ترتب عليه هذه الإفعال إلا دم القران والتمتع ويدل عليه قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وقد بينا أن التمتع يجوز أن يكون اسما للحج للنفع الذي يحصل له بجمعه بينهما والفضيلة التي يستحقها به ويجوز أن يكون اسما للإرتفاق بالجمع من غير إحداث سفر آخر وهو عليهما جميعا فجائز أن يكون المعنيان جميعا مرادين بالآية فينتظم القارن والمتمتع من وجهين أحدهما الفضيلة الحاصلة بالجمع والثاني الإرتفاق بالجمع من غير إحداث سفر ثان وهذه المتعة مخصوص بها من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لقوله ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ومن كان وطنه المواقيت فما دونها إلى مكة فليس له متعة ولا قران وهو قول أصحابنا فإن قرن أو تمتع فهو مخطئ وعليه دم ولا يأكل منه لأنه ليس بدم متعة وإنما هو دم جناية إذ لا متعة لمن كان من أهل هذه المواضع لقوله ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقد روي عن ابن عمر أنه قال إنما التمتع رخصة لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقال بعضهم إنما معنى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا دم عليهم إذا تمتعوا ومع ذلك فلهم أن يتمتعوا بلا هدي فظاهر الآية يوجب خلاف ما قالوه لأنه تعالى قال ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والمراد المتعة ولو كان المراد الهدي لقال ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فإن قيل يجوز أن يكون معنى ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لأن اللام قد تقام مقام

على كما قال تعالى ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ومعناه وعليهم اللعنة قيل لا يجوز إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى المجاز إلا بدلالة ولكل واحدة من هذه الأدوات معنى هي موضوعة له حقيقة فعلى حقيقتها خلاف حقيقة اللام فغير جائز حملها عليها إلا بدلالة وأيضا فإن التمتع لأهل سائر الآفاق إنما هو تخفيف من الله تعالى وإزالة المشقة عنهم في إنشاء سفر لكل واحد منهما وأباح لهم الاقتصار على سفر واحد في جميعها جميعا إذ لو منعوا عنذ ذلك لأدى ذلك إلى مشقة وضرر وأهل مكة لا مشقة عليهم ولا ضرر في فعل العمرة في غير أشهر الحج ويدل عليه أن اسم التمتع يقتضي الإرتفاق بالجمع بينهما وإسقاط تجديد سفر العمرة على ما روي من تأويله عمن قدمنا قوله وهو مشبه لمن أوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام فإذا ركب لزمه دم لإرتفاقه بالركوب غير أن هذا الدم لا يؤكل منه ودم المتعة يؤكل منه فاختلافهما من هذا الوجه لا يمنع اتفاقهما من الوجه الذي ذكرنا وقد حكي عن طاوس أنه قال ليس على أهل مكة متعة فإن فعلوا وحجوا فعليهم ما على الناس وجائز أن يريد به أن عليهم الهدي ويكون هدي جناية لا نسكا واتفق أهل العلم السلف منهم والخلف أنه إنما يكون متمتعا بأن يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ذلك ولو أنه اعتمر في هذه السنة ولم يحج فيها وحج في عام قابل أنه غير متمتع ولا هدي عليه واختلف أهل العلم فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله وعاد فحج من عامه فقال أكثرهم أنه ليس بمتمتع منهم سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم والحسن في إحدى الروايتين وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وروى أشعث عن الحسن أنه قال من اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع رجع أو لم يرجع ويدل على صحة القول الأول أن الله تعالى خص أهل مكة بأن لم يجعل لهم متعة وجعلها لسائر أهل الآفاق وكان المعنى فيه إلمامهم بأهاليهم بعد العمرة مع جواز الإحلال منها وذلك موجود فيمن رجع إلى أهله لأنه قد حصل له إلمام بعد العمرة فكان بمنزلة أهل مكة وأيضا فإن الله جعل على المتمتع الدم بدلا من أحد السفرين الذين اقتصر على أحدهما فإذا فعلهما جميعا لم يكن الدم قائما مقام شيء فلا يجب واختلفوا أيضا فيمن لم يرجع إلى أهله وخرج من مكة حتى جاوز الميقات فقال أبو حنيفة هو متمتع إن حج من عامه ذلك لأنه إذا لم يحصل له إلمام بأهله بعد العمرة فهو بمنزلة كونه بمكة وروي عن أبي يوسف أنه ليس

بمتمتع لأن ميقاته الآن في الحج ميقات أهل بلده لأن الميقات قد صار بينه وبين أهل مكة فصار بمنزلة عوده إلى أهله والصحيح هو الأول لما بينا واختلف أهل العلم فيمن ينشئ العمرة في رمضان ويدخل مكة في شوال أو قبله فروى قتادة عن ابن عياض قال عمرته في الشهر الذي يهل فيه وقال الحسن والحكم عمرته في الشهر الذي يحل فيه وروي عن إبراهيم مثله وقال عطاء وطاوس عمرته في الشهر الذي دخل فيه الحرم وروي عن الحسن وإبراهيم رواية أخرى قالا عمرته في الشهر الذي يطوف فيه وهو قول مجاهد وكذلك قال أصحابنا أنه يعتبر الطواف فإن فعل أكثر الطواف في رمضان فهو غير متمتع وإن فعل أكثره في شوال فهو متمتع وذلك لأن من أصلهم أن فعل الأكثر بمنزلة الكل في باب امتناع ورود الفساد عليها فإذا تمت عمرته في رمضان فهو غير جامع بينهما في أشهر الحج وبقاء الإحرام لا حكم له ألا ترى أنه لو أحرم بعمرة فأفسدها ثم حل منها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا لأن العمرة لم تتم في أشهر الحج مع اجتماع إحراميهما في أشهر الحج وكذلك لو قرن ثم وقف بعرفات قبل أن يطوف لعمرته لم يكن متمتعا فلا اعتبار إذا باجتماع الإحرامين في أشهر الحج وإنما الواجب اعتبار فعل العمرة مع الحج في أشهر الحج وكذلك قول من قال عمرته في الشهر الذي يهل فيه لا معنى له لما بينا من سقوط اعتبار الإحرام دون أفعالها والله أعلم بالصواب
باب
ذكر اختلاف أهل العلم في حاضري المسجد الحرام قال أبو بكر اختلف الناس في ذلك على أربعة أوجه فقال عطاء ومكحول من دون المواقيت إلى مكة وهو قول أصحابنا إلا أن أصحابنا يقولون أهل المواقيت بمنزلة دونها وقال ابن عباس ومجاهد هم أهل الحرم وقال الحسن وطاوس ونافع وعبدالرحمن الأعرج هم أهل مكة وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعي هم من كان أهله دون ليلتين وهو حينئذ أقرب المواقيت وما كان وراء فعليهم المتعة قال أبو بكر لما كان أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها بغير إحرام وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة ألا ترى أن من خرج من مكة فما لم يجاوز الميقات فله الرجوع ودخولها بغير إحرام وكان تصرفهم في الميقات فما دونه بمنزلة تصرفهم في مكة فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة في حكم المتعة ويدل على أن الحرم وما قرب منه أهل من حاضري المسجد الحرام قوله تعالى

إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وليس أهل مكة منهم لأنهم كانوا قد أسلموا حين فتحت فإنما نزلت الآية بعد الفتح في حجة أبي بكر وهم بنو مدلج وبنو الدئل وكانت منازلهم خارج مكة في الحرم وما قرب منه فإن قيل كيف يكون أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبينها مسيرة عشر ليال قيل له أنهم وإن لم يكونوا من حاضري المسجد الحرام فهم في حكمهم في باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام وفي باب أنهم متى أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم كما أن أهل مكة إذا أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم فيدل ذلك على أن المعنى حاضروا المسجد الحرام ومن في حكمهم وقال الله عز و جل في شأن البدن ثم محلها إلى البيت العتيق وقال ص -
منى منحر وفجاج مكة منحر فكان مراد الله بذكر البيت ما قرب من مكة وإن كان خارجا منها وقال تعالى والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد وهي مكة وما قرب منها فهاتان المتعتان قد بينا حكمهما وهما القران والتمتع وأما المتعة الثالثة فإنها على قول عبدالله بن الزبير وعروة بن الزبير أن يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة ويتمتع بحجة إلى العام المقبل ويحج فهذا المتمتع بالعمرة إلى الحج فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر يوم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجة بعمل عمرة وهذا خلاف قول الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ثم قال ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ولم يفرق بين الحج والعمرة فيما أباح من الإحلال بالحلق ولا خلاف أن هذا الحلق للإحلال من العمرة فكذلك الحج والنبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلق هو وحل وأمرهم بالإحلال ومع ذلك فإن عمل العمرة الذي يلزم بالفوات ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة مفعول بإحرام الحج والله سبحانه إنما قال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وليس الذي يفوته الحج بالمعتمر وأيضا فإنه قال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وهو إنما أوجب عليه الهدي ليصل به إلى الحلق يوم النحر سواء حج بعد ذلك أو لم يحج ألا ترى أنه لو لم يحج إلا بعد عشر سنين لكان الهدي قائما فدل ذلك على أن المتمتع المذكور في الآية ليس هو ما ذهب إليه ابن الزبير لأن ما في الآية من ذلك إنما يتعلق الهدي فيه بفعل العمرة والحج والدم الذي يلزمه

بالإحصار غير متعلق بوجود الحج بعد العمرة وهذه المتعة هي الإحلال إلى النساء إلا على الوجه الذي ذكرناه من الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج وأما المتعة الرابعة فهي فسح الحاج إذا طاف له قبل يوم النحر وما نعلم أحدا من الصحابة قال بذلك غير ابن عباس فإنه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني عطاء عن ابن عباس قال لا يطوف بالبيت أحد إلا أحل قال قلت إنما هذا بعد المعروف قال كان ابن عباس يراه قبل وبعد قال قلت من أين كان يأخذ هذا فقال من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في حجة الوداع أمرهم أن يحلوا ومن قول الله ثم محلها إلى البيت العتيق قال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت أبا حسان الأعرج يقول قال رجل لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد شعبت الناس يعني فرقت بينهم في الفتيا أنه من طاف فقد حل فقال سنة نبيكم ص -
وإن رغمتم قال أبو بكر وقد وردت آثار متواترة في أمر النبي ص - أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج ولم يكن معه منهم هدي ولم يحل هو ص - وقال إني سقت الهدي ولا أحل إلى يوم النحر ثم أمرهم فأحرموا بالحج يوم التروية حين أرادوا الخروج إلى منى وهي إحدى المتعتين اللتين قال عمر بن الخطاب متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة الحج ومتعة النساء وقال طارق بن شهاب عن أبي موسى في قصة نهي عمر بن الخطاب عن هذه المتعة قال فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النساء فقال أن نأخذ بكتاب الله فإن الله يقول وأتموا الحج والعمرة لله وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فإنه ص - ما حل حتى نحر الهدي فأخبر عمر أن هذه المتعة منسوخة بقوله وأتموا الحج والعمرة لله وهذا من قوله يدل على جواز نسخ السنة بالقرآن وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن ذلك كان خاصا لأولئك حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا نعيم عن عبدالعزيز بن محمد عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن الحرث بن بلال بن الحرث عن أبيه بلال بن الحرث المزني قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا أو لمن بعدنا قال لا بل لنا خاصة وقال أبو ذر لم يكن فسخ الحج بعمرة إلا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروي عن علي وعثمان وجماعة من الصحابة إنكار فسخ الحج بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
وفي قول عمر متعتان كانتا على عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وعلم الصحابة بها ما يوجب أن يكونوا قد علموا من نسخها مثل علمه لولا ذلك ما أقروه على النهي عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم - وعلم الصحابة من غير ثبوت النسخ وقد روي عن جابر من طرق صحيحة أن سراقة بن مالك قال يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال هي لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فأخبر في هذا الحديث أن العمرة التي فسخوا بها الحج كانت خاصة في تلك الحال وأن مثلها لا يكون وأما قوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فإنه مما حدثنا به جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو عبيد وقوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة يفسر تفسيرين أحدهما أن يكون دخول العمرة في الحج هو الفسخ بعينه وذلك أنه يهل الرجل بالحج ثم يحل منه بعمرة إذا طاف بالبيت والآخر أن يكون دخول العمرة في الحج هو المتعة نفسه وذلك أن يفرد الرجل العمرة في أشهر الحج ثم يحل منها بحج من عامه قال أبو بكر وكلا الوجهين ملبس غير لائق باللفظ والذي يقتضيه ظاهره أن الحج نائب عن العمرة والعمرة داخلة فيه فمن فعل الحج فقد كفاه عن العمرة كما تقول الواحد داخل في العشرة يعني أن العشرة مغنية عنه وموفية عليه فلا يحتاج إلى استنئاف حكمه ولا ذكره وقد قيل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالإحلال معنى آخر وهو ما رواه عمر بن ذر عن مجاهد في قصة أحلال النبي صلى الله عليه وسلم -
وقال في آخره قلت لمجاهد أكانوا فرضوا الحج وأمرهم أن يهلوا أو ينتظرون ما يؤمرون به وقال أهلوا بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم - وانتظروا ما يؤمرون به وكذلك قال كل واحد من علي وأبي موسى أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم -
وكذلك كان إحرام النبي ص - بديا ويدل عليه قوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به وبه أمر أصحابه ويدل عليه قوله أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وهو وادي العقيق فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل حجة في عمرة فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم -
خرج ينتظر ما يؤمر به فلما بلغ الوادي أمر بحجة في عمرة ثم أهل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - بالحج وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم - أحرم بذلك فجاز لهم مثله فلما أحرم منهم من أحرم بالحج لم يكن إحرامه صحيحا وكان موقوفا كما كان إحرام علي وأبي موسى موقوفا ونزل الوحي وأمروا بالمتعة بأن يطوفوا بالبيت ويحلوا ويعملوا عمل

العمرة ويحرموا بالحج كما يؤمر من يحرم بشيء لا يسميه لأنه يجعله عمرة إن شاء وإن لم تكن تسميتهم الحج تسمية صحيحة إذ كانوا مأمورين بإنتظار أمر النبي صلى الله عليه وسلم - فكان وجه الخصوص لأولئك الصحابة أنهم أحرموا بالحج ولم يصح تعيينهم له فكانوا بمنزلة من أحرم بشيء لا ينويه بعينه إذ كانوا مأمورين بانتظار أمره ص - وغيرهم من سائر الناس من أحرم بشيء بعينه لزمه حكمه وليس له صرفه إلى غيره وقد أنكر قوم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - أمر بفسخ الحج على حال واحتجوا بما روى زيد بن هارون قال حدثنا محمد بن عمر عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب أن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنواعا فمنا من أهل بحج مفردا ومنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة فمن أهل بالحج مفردا لم يحل مما أحرم عليه حتى يقضي مناسك الحج ومن أهل بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وحل من حرمه حتى يستقبل حجا وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثني أبو عبيد قال حدثني عبدالرحمن بن مهدي عن مالك بن أنس عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالحج والعمرة ومنا من أهل بالعمرة قالت وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالحج فأما من أهل بالعمرة فطاف بالبيت وسعى وحل وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحل إلى يوم النحر وقال حدثنا أبو عبيد قال حدثني عبدالرحمن عن مالك عن أبي الأسود عن سليمان بن يسار مثل ذلك إلا أنه لم يذكر إهلال النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن عائشة خلاف ذلك حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد أن عمرة بنت عبدالرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة ونحن لا نرى إلا الحج فلما قربنا أو دنونا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة قالت فأحل الناس كلهم إلا من كان معه هدي قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن صالح عن الليث عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك وزاد فيه قال يحيى فذكرت ذلك للقاسم بن محمد فقال جاءتك بالحديث على وجهه وهذا هو الصحيح لما ورد فيه من الآثار المتواترة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
أصحابه بفسخ الحج وقول عمر بحضرة الصحابة متعتان كانتا على عهد رسول الله ص - أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما

متعة النساء ومتعة الحج وهو يعني هذه المتعة فلم يظهر من أحد منهم إنكاره ولا الخلاف عليه ولو تعارضت أخبار عائشة لكان سبيلها أن تسقط كأنه لم يرو عنها شيء وتبقى الأخبار الأخر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
أصحابه بفسخ الحج من غير معارض ويكون منسوخا بقوله وأتموا الحج والعمرة لله على ما روي عن عمر رضي الله عنه وقوله فما استيسر من الهدي قال أبو بكر الهدي المذكور ههنا مثل الهدي المذكور للإحصار وقد بينا أن أدناه شاة وأن من شاء جعله بقرة أو بعيرا فيكون أفضل وهذا الهدي لا يجزي إلا يوم النحر لقوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق وقضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هذه البدن دل على أنها بدن القران والتمتع لاتفاق الجميع على أن سائر الهدايا لا تترتب عليها هذه الأفعال وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجزي قبل يوم النحر ويدل عليه أيضا قوله ص - لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وقد كان عليه السلام قارنا وقد ساق الهدي وأخبر أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما ساق الهدي ولو جاز ذبح هدي المتعة قبل يوم النحر لذبحه وحل كما أمر أصحابه وكان لا يكون مستدركا في المستدبر شيئا قد فاته وقال لعلي حين قال أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم - أني سقت الهدي وإني لا أحل إلى يوم النحر ويدل عليه قوله ص -
خذوا عني مناسككم وهو ص - نحر بدنه يوم النحر فلزم اتباعه ولم يجز تقديمه على وقته والله سبحانه والله أعلم
باب
صوم التمتع قال الله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم قال أبو بكر قد اختلف في معنى قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج فروي عن علي أنه قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة وقالت عائشة وابن عمر من حين أهل الحج إلى يوم عرفة قال ابن عمر ولا يصومهن حتى يحرم قال عطاء يصومهن في العشر حلالا إن شاء وهو قول طاوس وقالا لا يصومهن قبل أن يعتمر قال عطاء وإنما يؤخرهن إلى العشر لأنه لا يدري عسى يتيسر له الهدي قال أبو بكر هذا يدل على أن ذلك عندهما على جهة الاستحباب لا على جهة الإيجاب فيكون بمنزلة استحبابنا لمن لا يجد الماء تأخير التيمم

إلى آخر الوقت إذا رجا وجود الماء وقول علي وعطاء وطاوس يدل على جواز صومهن في العشر حلالا أو حراما لأنم لم يفرقوا بين ذلك وأصحابنا يجيزون صومهن بعد إحرامه بالعمرة ولا يجيزونه قبل ذلك وذلك لأن الإحرام بالعمرة هو سبب التمتع قال الله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فمتى وجد السبب جاز تقديمه على وقت الوجوب كتعجيل الزكاة لوجود النصاب وتعجيل كفارة القتل لوجود الجراحة ويدل على جواز تقديمه قبل وقت وجوبه لوجود سببه إنا قد علمنا أن وجوب الهدي متعلق بوجوب تمام الحج وذلك إنما يكون بالوقوف بعرفة لأن قبل ذلك يجوز ورود الفساد عليه فلا يكون الهدي واجبا عليه وإذا كان كذلك وقد جاز عند الجميع صوم ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج وإن لم يكن الإحرام به موجبا له إذ كان وجوبه متعلقا بتمام الحج والعمرة جميعا ثبت جوازه بعد وجود سببه وهو العمرة ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة إذا فعله بعد إحرام الحج إنما هو لأجل وجود سببه وذلك موجود بعد إحرام العمرة فإن قيل لو كان ما ذكرت سببا للجواز لوجب أن يجوز السبعة أيضا لوجود السبب قيل له لو لزمنا ذلك على قولنا في جوازه بعد إحرام العمرة للزمك مثله في إجازتك له بعد إحرام الحج لأنك تجيز صوم الثلاثة الأيام بعد إحرام الحج ولا تجيز السبعة فإن قيل فإذا كان الصيام بدلا من الهدي والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم قيل له لا خلاف في جواز الصوم قبل يوم النحر وقد ثبت بالسنة امتناع جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر وأحدهما ثابت بالاتفاق وبدليل قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج والآخر ثابت بالسنة فالإعتراض عليهما بالنظر ساقط وأيضا فإن الصوم يقع مراعى منتظر به شيئان أحدهما إتمام العمرة والحج في أشهر الحج والثاني أن لا يجد الهدي حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون صوم المتعة وصار تطوعا وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة فلذلك اختص بيوم النحر فإن قيل قال الله فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج فلا يجوز تقديمه على الحج قيل له لا يخلو قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج من أحد معان إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة للحج وما سماه النبي صلى الله عليه وسلم -
حجا وهو الوقوف بعرفة لأنه قال الحج عرفة أو أن يريد في إحرام الحج أو في أشهر الحج لأن الله تعالى قال الحج أشهر

معلومات وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام فيه ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية وأيضا قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه فإذا ان هذا المعنى موجودا عند إحرامه بالعمرة وجب أن يجزي ولا يكون ذلك خلاف الآية كما أن قوله ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة لا يمنع جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة وكذلك قوله لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب فكذلك قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي به جاز فعله في الحج فإن قيل لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ولما كان الصوم بدلا من الهدي لم يجز تقديمكه عليه قيل له هذا اعتراض على الآية لأن نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر وأيضا فإنا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل عنه وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليه لأنه تعالى قال وسبعة إذا رجعتم فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر إذا لم يجد الهدي وأيضا فإن الصوم لما كان بدلا من الهدي وهدي العمرة يصح إيجابه بعد إحرام العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه فكذلك يجوز الصيام بدلا منه من حيث صح هديا للمتعة ويدل أيضا على صحة كونه عن المتعة أنه متى بعث بهدي المتعة ثم خرج يريد الإحرام أنه يصير محرما قبل أن يلحقه فدل ذلك على صحة هدي المتعة بالسوق فكذلك يصح الصوم بدلا منه إذا لم يجد فإن قيل فقد يصح هديا قبل أن يحرم بالعمرة ولا يجوز الصوم في تلك الحال قيل له قبل إحرام المتعة لم يتعلق به حكم المتعة والدليل على ذلك أنه لا تأثير له في هذه الحال في حكم الإحرام ووجوده وعدمه سواء فلم يصح الصوم معه قبل إحرام العمرة فإذا أحرم بعمرة ثبت لها حكم الهدي في منعه الإحلال فلذلك جاز الصوم في تلك الحال كما صح هديا للمتعة ويدل على جواز تقديم الصوم على إحرام الحج أن سنة المتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
أصحابه

حين أحلوا من إحرامهم بعمرة ولا يكون إلا وقد تقدم الصوم قبل ذلك
باب
المتمتع إذ لم يصم قبل يوم النحر قال الله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج واختلف السلف فيمن لم يجد الهدي ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم وطاوس لا يجزيه إلا الهدي وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وقال ابن عمر وعائشة يصوم أيام منى وهو قول مالك وقال علي بن أبي طالب يصوم بعد أيام التشريق وهو قول الشافعي قال أبو بكر قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق في أخبار متواترة مستفيضة واتفق الفقهاء على استعمالهما وأنه غير جائز لأحد أن يصوم هذه الأيام عن غير صوم المتعة لا من فرض ولا من نفل فلم يجز صومها عن المتعة لعموم النهي عن الجميع ولما اتفقوا على أنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وهو من أيام الحج للنهي الوارد فيه كذلك لا يجوز الصوم أيام منى ولما لم يجز أن يصومهن عن قضاء رمضان لقوله فعدة من أيام أخر وكان الحظر المذكور في هذه الأخبار قاضيا على إطلاق الآية موجبا لتخصيص القضاء في غيرها وجب أن يكون ذلك حكم صوم التمتع وأن يكون قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج في غير هذه الأيام قال أبو بكر وأيضا لما قال فصيام ثلاثة أيام في الحج ولم يكن صوم هذه الأيام في الحج لأن الحج فائت في هذا الوقت لم يجز أن يصومها فإن قيل لما قال فصيام ثلاثة أيام في الحج وهذه من أيام الحج وجب أن يجوز صومهن فيها قيل له لا يجب ذلك من وجوه أحدها أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم -
عن صوم هذه الأيام قاض عليه ومخصص له كما خص قوله تعالى فعدة من أيام أخر نهيه عن صيام هذه الأيام والثاني أنه لو كان جائز إلا أنه من أيام الحاج لوجب أن يكون صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام والثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم -
خص يوم عرفة بالحج بقوله الحج عرفة فقوله فصيام ثلاثة أيام في الحج يقتضي أن يكون آخرها يوم عرفة والرابع أنه روي أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة وروي أنه يوم النحر وقد اتفقوا أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج فما لم يسم يوم الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى أن لا يصوم فيها وأيضا فإن الذي يبقى بعد يوم النحر إنما هو من توابع الحج

وهو رمي الجمار فلا اعتبار به في ذلك فليس هو إذا من أيام الحج فلا يكون صومها صوما في الحج وأما القول في صومها بعد أيام منى فإن أصحابنا لم يجيزوه لقوله تعالى فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج فجعل أصل الفرض هو الهدي ونقله إلى صوم مقيد بصفة وقد فات فوجب أن يكون الواجب هو الهدي كقوله فصيام شهرين متتابعين وقوله فتحرير رقبة مؤمنة فغير جائز وقوعها عن الكفارة إلا على الصفة المشروطة فإن قيل أكثر ما فيه إيجاب فعله في وقت فلا يسقطه فواته كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس و حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوله وقرآن الفجر وما جرى مجرى ذلك من الفروض المخصوصة بأوقاتها ثم لم يكن فواتها مسقطا لها فالجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن كل فرض مخصوص بوقت فإن فوات الوقت يسقطه وإنما يحتاج إلى دلالة أخرى في إيجاب فرض آخر لأن المفروض في هذا الوقت الثاني هو غير المفروض في الوقت الأول ولولا قول النبي صلى الله عليه وسلم -
من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لما وجب قضاء الصلاة إذا فاتت عن أوقاتها وكذلك لولا قوله فعدة من أيام أخر لما وجب قضاء صوم رمضان بعد فواته عن وقته ولما كان صوم الثلاثة الأيام مخصوصا بوقت ومعقودا بصفة وهو فعله في الحج ثم لم يفعله على الصفة المشروطة وفي الوقت المخصوص به لم يجز إيجاب قضائه وإقامة غيره مقامه إلا بتوقيف والثاني أن صوم الثلاثة الأيام جعل بدلا من الهدي عند عدمه بهذه الشريطة فغير جائز إثباته بدلا إلا على هذا الوصف ألا ترى أن التيمم لما كان بدلا عن الماء لم يجز لنا أن نقيم غير التراب مقام التراب عند عدمه مثل الدقيق والأشنان ونحوهما كذلك لما جعل الصوم بدلا عن الهدي على أن يفعله على صفة لا يجوز أن نقيم مقامه صوما غيره على غير تلك الصفة وليس كذلك حكم الصلوات الفوائت لأنا لم نقم القضاء بدلا منها عند عدمها وإنما هي فروض ألزمها عند الفوات فإن قيل شرط الله تعالى صوم الظهار قبل المسيس فإن مسها لم ينتقل إلى العتق كذلك صوم هذه الأيام وإن كان مشروطا في الحج فإن فواته فيه لا يسقط ولا يوجب الرجوع إلى الهدي قيل له من قبل أن صوم الظهار مشروط قبل المسيس والنهي عن المسيس قائم قبله وبعده فالصفة التي علق بها فعل البدل موجودة فلذلك جاز والحج الذي علق به جواز البدل الذي هو الصوم غير موجود

لأن الحج قد فات ففات فعل الصوم بفواته وأيضا فإن ظاهره يقتضي سقوطه بوجوده قبل المسيس ولولا قيام الدلالة من غير الآية على جوازه لما أجزناه ومن الناس من لا يوجب كفارة الظهار بعد المسيس وأظنه مذهب طاوس ولكنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - نهي المظاهر عن الجماع بعد المسيس حتى يكفر والله أعلم
باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن دخل في صوم المتعة ثم وجد الهدي
قال أصحابنا إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم أو بعد ما صام قبل أن يحل فعليه الهدي ولا يجزيه غيره وهو قول إبراهيم النخعي وقال مالك والشافعي إذا دخل في الصوم ثم وجد الهدي أجزأه الصوم وليس عليه هدي وروي مثله عن الحسن والشعبي وقال عطاء إذا صام يوما ثم أيسر فعليه الهدي وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر فليس عليه هدي وليصم السبعة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ففرض الهدي قائم عليه ما لم يحل أو يمضي أيام النحر التي هي مسنونة للحلق فمتى وجده فعليه أن يهدي وبطل صومه ومعلوم أن الهدي مشروط للإحلال لأنه لا يجوز أن يحل قبل ذبح الهدي لقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمتى لم يحل حتى وجد الهدي فعليه الهدي لأن الله تعالى لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في الصوم وبعده ويدل على أن الهدي مشروط للإحلال قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فأمرهم بقضاء التفث بعد ذبح الهدي فإذا كان كذلك وجب أن يراعى وقوع الإحلال فإن صام رجل ثم وجد الهدي لم ينتقض صومه ولم يلزمه الهدي لوجود المعنى الذي من أجله شرط الهدي ثم نقل عند عدمه إلى البدل وهو بمنزلة المتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة والعاري إذا وجد ثوبا والمظاهر إذا فرغ من الصوم ثم وجد الرقبة لأن الفرض قد سقط عنه فلا ينتقض حكم المفعول منه وأما قبل الفراغ من هذه الأشياء التي ذكرنا فإن حكم البدل مراعى فإن تم وفرغ منه فقد وقع موقع البدل وأجزى عن أصل الفرض وإن وجد الأصل قبل الفراغ مما شرط له انتقض حكمه وعاد إلى أصل فرضه ألا ترى أن دخوله في الصلاة مراعى ومنتظر بها آخرها لأن ما يفسد آخرها يفسد أولها فوجب أن يكون حكم التيمم بعد دخوله في الصلاة

منتظرا مراعى وكذلك صوم الظهار إذا دخل فيه فهو مراعى منتظر ألا ترى أنه لو أفطر فيه يوما انتقض كله وعاد إلى أصل فرضه كذلك إذا وجد الرقبة وهو في الصوم وجب أن ينتقض صومه عن الظهار ويعود إلى أصل فرضه كما لو تيمم ولم يدخل في الصلاة حتى وجد الماء انتقض تيممه لأنه وقع مراعى على شريطة أن لا يجد الماء حتى يقضي به الفرض وزعم بعض المخالفين أنه إذا ابتدأ بصوم الظهار فقد سقط عنه فرض الرقبة لصحة الجزء المفعول وكذلك الداخل في الصلاة بالتيمم فقد سقط عنه فرض الطهارة بالماء لهذه الصلاة وكذلك إذا دخل في صوم التمتع فقد سقط عنه فرض الهدي لأن الجزء المفعول منه قد صح وفي الحكم بصحة ذلك إسقاط فرض الأصل قال وليس كذلك المتيمم إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لأن التيمم غير مفروض في نفسه وإنما هو مفروض لأجل الصلاة وهو مراعى فمتى وجد الماء قبل دخوله في الصلاة بطل تيممه والذي في عروض التيمم بعد الدخول دخوله في الصوم وهذا الذي قاله شديد الإختلاف ظاهر الفساد لأن الفرض لم يسقط بدخوله في صوم المتعة ولا في صوم الظهار ولا في الصلاة بل دخوله مراعى موقوف الحكم على آخره والدليل عليه أنه متى أفسد باقي الصلاة فسد ما قبله وكذلك إذا فسد باقي صوم الظهار فسد ما تقدم منه وكذلك لو دخل في صوم المتعة ثم أفسده في أول يوم منه فسد فإن كان واجدا للهدي لم يجزه الصوم بالإتفاق فقوله لما حكمنا بصحة الجزء المفعول من البدل سقط عنه فرض الأصل خطأ لأن الحكم لم يقع بصحته وإنما حكمه أن يكون منتظرا به آخره فإن تم مع عدل فرض الأصل ثبت حكمه وإن وجد الأصل قبل تمامه بطل حكمه وعاد إلى أصل فرضه ومن حيث حكم للمتيمم بحكم الانتظار إلى أن يدخل في الصلاة وجب أن يكون حكمه بعد الدخول في الصلاة لأن الصلاة المفعولة به منتظر بها الفراغ منها فوجب أن لا يختلف حكمه في وجود الماء قبل دخوله في الصلاة وبعده وكذلك سائر ما ذكرنا من صوم التمتع وصوم الظهار ونحوه وقالوا جميعا في الصغيرة المدخول بها إذا فارقها زوجها أن عدتها الشهور وأنه لا يختلف حكمها عند عدم الحيض في وجوده قبل الطلاق أو بعده بعد وجوب الشهور في انتقالها إلى الحيض وكذلك قالوا في الماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه وهو في الصلاة أو قبلها وتساوى حكم الحالين من الإبتداء والبقاء في منع الصلاة ولزوم غسل الرجلين

وكذلك قال الشافعي في المستحاضة إذا زالت استحاضتها وهي في الصلاة أو قبل دخولها فيها في استواء حكم الحالين في باب المنع منها إلا بعد تجديد الطهارة لها وذكر بعض أصحاب مالك أن المرأة إذا طلقها زوجها طلاقا رجعيا ثم مات عنها كانت عليها عدة الوفاة لأنها كانت في حكم الزوجات عند الموت قال فلو أن رجلا كانت تحته أمة وطلقها كانت عليها عدة الأمة فإن عتقت وهي في العدة لم تنتقل عدتها إلى عدة الحرة وإن كان زوجها يملك رجعتها قال لأنه لم يحدث هناك شيء يجب به عدة كما حدث الموت في المسألة التي قبلها وهو موجب للعدة ويلزمه على هذا أن لا تنتقل عدة الصغيرة إذا حاضت لأنه لم يحدث ما يوجب العدة وهو وجود الحيض كما لا يجب بالعتق كما اقتضاه اعتلاله قوله تعالى وسبعة إذا رجعتم روي عن عطاء قال إن شاء صامهن بمكة وإن شاء إذا رجع إلى أهله وروى الحسن قال إن شاء صام في الطريق وإن شاء إذا رجع إلى أهله وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقال ابن عمر والشعبي يصومهن إذا رجع إلى أهله وقوله تعالى إذا رجعتم محتمل للرجوع من منى وللرجوع إلى أهله فهو على أول الرجوعين وهو الرجوع من منى ويدل عليه أن الله حظر صيام أيام التشريق وأباح السبعة بعد الرجوع فالأولى أن يكون المراد الوقت الذي أباح فيه الصوم بعد حظره وهو انقضاء أيام التشريق قوله تعالى تلك عشرة كاملة قال أبو بكر قد قيل فيه وجوه منها أنها كاملة في قيامها مقام الهدي فيما يستحق من الثواب وذلك لأن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب جواز الإحلال بها يوم النحر قبل صيام السبعة فكان جائزا أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب فأعلمنا الله أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه في استحقاق ثوابه وأن الحكم قد تعلق بالثلاثة في جواز الإحلال بها وفي ذلك أعظم الفوائد في الحث على فعل السبعة والأمر بتعجيلها بعد الرجوع لاستكمال ثواب الهدي وقيل فيه أنه أزال احتمال التخيير وأن تكون الواو فيه بمعنى أو إذ كانت الواو قد تكون في معنى أو في بعض المواضع فأزال هذا الاحتمال بقوله تلك عشرة كاملة وقيل المعنى تأكيده في نفس المخاطب والدلالة على انقطاع التفصيل في العدد كما قال الشاعر ... ثلاث واثنتين فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمام

وجعل الشافعي هذا أحد أقسام البيان وذكر أنه من البيان الأول ولم يجعل أحد من أهل العلم ذلك من أقسام البيان لأن قوله ثلاثة وسبعة غير مفتقر إلى البيان ولا إشكال على أحد فيه فجاعله من أقسام البيان مغفل في قوله قوله تعالى الحج أشهر معلومات قال أبو بكر قد اختلف السلف في أشهر الحج ما هي فروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء ومجاهد أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وروي عن عبدالله بن مسعود أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وروي عن ابن عباس وابن عمر في رواية أخرى مثله وكذلك روي عن عطاء ومجاهد وقال قائلون وجائز أن لا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة وأن يكون مراد من قال وذو الحجة أنه بعضه لأن الحج لا محالة إنما هو في بعض الأشهر لا في جميعها لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج وقالوا ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج كان الإختيار عنده فعل العمرة في غيرها كما روي عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج على ما قدمنا وحكى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة لأن من لم يدرك الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فحجه فائت ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله أشهر معلومات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - أيام منى ثلاثة وإنما هي يومان وبعض الثالث ويقولون حججت عام كذا وإنما الحج في بعضه ولقيت فلانا سنة كذا وإنما كان لقاؤه في بعضها وكلمته يوم الجمعة والمراد البعض وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل للوقت كان المعقول منه البعض قال أبو بكر ولقول من قال أنها شوال وذو العقدة وذو الحجة وجه آخر وهو شائع مستقيم وهو ينتظم القولين من المختلفين في معنى الأشهر المعلومات وهو أن أهل الجاهلية قد كانوا ينسؤن الشهور فيجعلون صفر المحرم ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال فأبطل الله تعالى النسيء وأقر وقت الحج على ما كان ابتداؤه عليه يوم خلق السموات كما قال ص - يوم حجة الوداع ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم شوال وذو القعدة وذو الحجة ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان قال الله تعالى الحج أشهر معلومات

يعني بها هذه الأشهر التي ثبت وقت الحج فيها دون ما كان أهل الجاهلية عليه من تبديل الشهور وتأخير الحج وتقديمه وقد كان وقت الحج معلقا عندهم وهذه الثلاثة التي يأمنون فيها واردين وصادرين فذكر الله هذه الأشهر وأخبرنا باستقرار أمر الحج وحظر بذلك تغييرها وتبديلها إلى غيرها وفيه وجه آخر وهو أن الله لما قدم ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في الأشهر قال الحج أشهر معلومات فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج وثبت حكمه فيها هذه الأشهر وإن من اعتمر في غيرها ثم حج لم يكن له حكم التمتع والله أعلم
باب
الإحرام بالحج قبل أشهر الحج قال أبو بكر قد اختلف السلف في جواز الإحرام قبل أشهر الحج فروى مقسم عن ابن عباس قال من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج وأبو الزبير عن جابر قال لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج وروي مثله عن طاوس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون وعكرمة وقال عطاء من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ولم يفرق بين من كان بين دويرة أهله وبين مكة مسافة بعيدة أو قريبة فدل ذلك على أنه كان من مذهبه جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وما رواه مقسم عن ابن عباس أن من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج يدل ظاهره على أنه لم يرد بذلك حتما واجبا وروي عن إبراهيم النخعي وأبي نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وهو قول أصحابنا جميعا ومالك والثوري والليث بن سعد وقال الحسن بن صالح بن حيي إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج جعله عمرة فإذا أدركته أشهر الحج قبل أن يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه وقال الأوزاعي يجعلها عمرة وقال الشافعي يكون عمرة قال أبو بكر قد قدمنا فيما سلف ذكر وجه الدلالة على جواز ذلك من قوله تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وأن ذلك عموم في كون الأهلة كلها وقتا للحج ولما كان معلوما أنها ليست ميقاتا لأفعال الحج وجب أن يكون حكم اللفظ مستعملا في إحرام الحج فاقتضى ذلك جوازه عند سائر الأهلة وغير جائز الاقتصار على بعضها

دون بعض لاتفاق الجميع على أن إرادة الله تعالى عموم جميع الأهلة فيما جعله مواقيت للناس وأنه لم يرد به بعض الأهلة دون بعض فمن حيث انتظم فيما جعله مواقيت للناس جميعا وجب أن يكون ذلك حكمها فيما جعله للحج منها إذ هما جميعا قد انطويا تحت لفظ واحد فإن قيل لما جعلها مواقيت للحج والحج في الحقيقة هو الأفعال الموجبة بالإحرام ولم يكن الإحرام هو الحج وجب أن يحمل على حقيقته فتكون الأهلة التي هي مواقيت للحج شوالا وذا القعدة وذا الحجة لأن هذه الأشهر هي التي تصح فيها أفعال الحج لأنه لو طاف وسعى للحج قبل أشهر الحج لم يصح عند الجميع فيكون لفظ الحج مستعملا على حقيقته قيل له هذا غلط لما فيه من إسقاط حكم اللفظ رأسا وذلك لأن قوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج يقتضي أن تكون الأهلة نفسها ميقاتا للحج وفروض الحج ثلاثة الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة ومعلوم أن الأهلة ليست ميقاتا للوقوف ولا لطواف الزيارة إذ هما غير مفعولين في وقت الهلال فلم تبق الأهلة ميقاتا إلا للإحرام دون غيره من فروضه ولو حملناه على ما ذكرت لم يكن شيء من ذهنه الفروض متعلقا بالأهلة ولا كانت الأهلة ميقاتا لها فيؤدي ذلك إلى إسقاط ذكر الأهلة وزوال فائدته فإن قيل إذا كانت معرفة وقت الوقوف متعلقة بالهلال جاز أن يقال أن الهلال ميقات له قيل له ليس ذلك كما ظننت لأن الهلال له وقت معلوم على ما قدمنا فيما سلف ولا يسمى بعد مضي ذلك الوقت هلالا ألا ترى أنه لا يقال للقمر ليلة الوقوف هلالا والله تعالى إنما جعل الهلال نفسه ميقاتا للحج وأنت إنما تجعل غير الهلال ميقاتا وفي ذلك إسقاط حكم اللفظ ودلالته ألا ترى أنه إذا جعل محل الدين هلالا شهر كذا كان الهلال نفسه وقتا لثبوت حق المطالبة ووجوب أدائه إليه لا ما بعده من الأيام وكذلك الإجارات إذا عقدت على الأهلة فإنما يعتبر فيها وقت رؤية الهلال ذلك مفهوم من اللفظ لا يشكل مثله على ذي فهم وأما قوله أن الحج هو اسم للافعال الموجبة بالإحرام وأن الإحرام لا يسمى حجا فإن الإحرام إذا كان سببا لتلك الأفعال ولا يصح حكمها إلا به فجائز أن يسمى باسمه على ما بينا في أول الكتاب من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان سببا أو مجاورا فسمى الإحرام حجا على هذا الوجه وأيضا فإنه إذا كان جائزا إضمار الإحرام حتى يكون في معنى قل هي مواقيت للناس

ولإحرام الحج على نحو قوله واسئل القرية ومعناه أهل القرية وقوله ولكن البر من اتقى ومعناه ولكن البر من اتقى وجب استعماله على هذا المعنى ليصح إثبات حكم اللفظ في جعله الأهلة مواقيت الحج وأيضا لما كان الحج في اللغة اسما للقصد وإن كان في الشرع قد علق به أفعال أخر يصح إطلاق الاسم عليه لم يمتنع أن يسمى الإحرام حجا لأن أول قصد يتعلق به حكم هو الإحرام وقبل الإحرام لا يتعلق بذلك القصد حكم فجائز من أجل ذلك أن يسمى الإحرام حجا إذ هو أوله فيكون قوله يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج منتظما للإحرام وغيره من أفعال الحج ومناسكه لو خلينا وظاهره فلما خصت الأفعال بأوقات محصورة خصصناها من الجملة وبقي حكم اللفظ في الإحرام ويدل على أن الحج في اللغة هو القصد قول الشاعر ... يحج مأمومة ... في قعرها لجف ...
يعني يقصدها ليعرف مقدارها وليس يجب من حيث علق بالقصد أفعال أخر لا يستحق القصد اسم الحج في الشرع إلا بها إسقاط اعتبار القصد فيه ألا ترى أن الصوم في أصل اللغة اسم للإمساك وهو في الشرع اسم لمعان أخر معه ولم يسقط مع ذلك اعتبار الإمساك في صحته وكذلك الإعتكاف اسم اللبث وهو في الشرع اسم لمعان أخر مع اللبث فكان معنى الاسم الموضوع له معتبرا وإن ألحقت به في الشرع معان أخر لا يثبت حكم الاسم في الشرع إلا بوجودها وكذلك الحج لما كان اسما في اللغة للقصد ثم كان حكم ذلك القصد متعلقا بالإحرام وما قبله لا حكم له جاز أن يكون الإحرام مسمى بهذا الاسم كما سمي به الطواف والوقوف بعرفة وأفعال المناسك فوجب بحق العموم كون الأهلة كلها ميقاتا للإحرام وقد اقتضى العموم ذلك لسائر أفعال الحج لولا قيام الدلالة على تخصيصها بأوقات محصورة دليل آخر وهو قوله الحج أشهر معلومات وقد قدمنا ذكر أقاويل السلف في الأشهر وأن منهم من قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقال آخرون شوال وذو القعدة وذو الحجة فحصل من اتفاقهم أن يوم النحر من أشهر الحج فوجب بعموم قوله أشهر معلومات جواز الإحرام بالحج يوم النحر وإذا صح يوم النحر جاز في سائر السنة لأن أحدا لم يفرق في جوازه بين يوم النحر وبين سائر أيام السنة فإن قيل أن من قال عشر من ذي الحجة إنما أراد به عشر ليال ولم يجعل يوم النحر منها لأنه يكون الحج فائتا بطلوع

الفجر من يوم النحر قيل له قول من قال عشرا إن كان مراده عشر ليال فإن ذكر الليالي يقتضي دخول ما بإزائها من الأيام كقوله في موضع ثلاث ليال سويا وقد أراد الأيام الا ترى إلى قوله في موضع آخر عند ذكر هذه القصة بعينها ثلاثة أيام إلا رمزا وقال تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا وهي أربعة أشهر وعشرة أيام وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن شداد وعبدالله بن أبي أوفى في آخرين أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ويستحيل أن يكون يوم النحر يوم الحج الأكبر ولا يكون من أشهر الحج ومع ذلك فإن قوله الحج أشهر معلومات يقتضي ظاهره استيعاب الشهور الثلاثة ولا ينقص شيء منه إلا بدلالة فثبت بذلك أن يوم النحر من أشهر الحج وقد أباح الله الإحرام فيه بقوله الحج أشهر معلومات فوجب أن يصح ابتداء الإحرام فيه وإذا صح فيه صح في سائر أيام السنة بالاتفاق وفي هذه الآية دلالة من وجه آخر على جواز الإحرام قبل دخول أشهر الحج وهو قوله في سياق الخطاب فمن فرض فيهن الحج معنى فرض الحج فيهن إيجابه فيها لأن سائر الأفعال موجبة به ولم يوقت للفرض وقتا وإنما وقته للفعل لأن الفرض المذكور في هذا الموضع هو لا محالة غير الحج الذي علقه به وإذا كان كذلك كان الوقت وقتا لأفعال المناسك وألزمه إياها بفرض غير موقت وجب أن يصح فعل إحرام الحج قبل أشهر الحج يوجب أفعال المناسك ويدلك على ما ذكرنا أنه يصح أن يبتدئ حجا بنذر قبل أشهر الحج فيكون موجبا للحج في وقته المشروط وإن كان إيجابه قبله ومن قال لله علي أن أصوم غدا كان في هذا الوقت موجبا لصوم غد قبل وجوده فكذلك جائز أن يقال لمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج أنه موجب للحج في أشهر الحج وإن كان فرضه وابتداء إحرامه في غيره فاقتضى ظاهر قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج إيجاب فعل الحج بفرض قبلهن أو فيهن إذ كان ظاهر اللفظ يتناول الفروض في الوقتين ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من أراد الحج فليتعجل وذلك على الإحرام وأفعاله إلا ما قال دليله مما لا يجوز تقديمه على وقته ويدل عليه أيضا قوله في ذكر المواقيت هن لأهلهن ولمن مر عليهم من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة وذلك عموم في جواز الإحرام بالحج في أي وقت مر عليهن من السنة ويدل عليه من جهة

النظر اتفاق الجميع على بقاء إحرام الحج بكماله بعد طلوع الفجر يوم النحر قبل رمي الجمار ولو كان الإحرام بالحج لا يجوز قبل أشهر الحج لوجب أن لا يبقى بكماله في الوقت الذي لا يصح فيه ابتداء الإحرام وفي بقاء إحرامه يوم النحر قبل رمي الجمار دليل على جواز ابتدائه وذلك لأن مناسك الحج محصورة بأوقات غير جائز تقديمها عليها فلو لم يكن يوم النحر وقتا للإحرام لما جاز بقاؤه فيه ألا ترى أن الجمعة لما كانت محصورة بوقت لا يجوز تقديمها عليه لم يجز أن تبقى الجمعة بعد الدخول فيها في وقت لا يصح ابتداؤها فيه نحو أن يدخل في الجمعة ثم يدخل وقت العصر قبل الفراغ منها فتبطل ولا يبقى حكمها بعد خروج الوقت كما لا يصح ابتداؤها فيه فكذلك إحرام الحج لو كان محصورا بأشهر الحج لما صح بقاؤه بكماله بعد انقضائه كما لا يصح عند مخالفينا ابتداؤه فلما صح بقاؤه في يوم النحر صح ابتداؤه ويدل على ذلك اتفاق الجميع على جواز الإحرام بالحج في وقت يتراخى عنه أفعاله ولا يصح إيقاعها فيه ووجب أن يجوز تقديمه على أشهر الحج كما صح فعله فيها لأن موجبه من الإفعال متراخ عنه وأيضا لو كان الإحرام موقتا لوجب أن يتصل به موجب أفعاله كما أن إحرام الصلاة لما كان موقتا كان موجبه من فرضه متصلا به ولم يجز تراخيه عنه ويحتج لذلك أيضا باتفاق الجميع على أن المتمتع هو الجامع بين أفعال العمرة والحج في سفر واحد ممن ليس من حاضري المسجد الحرام ولا يختلف حكم إحرام العمرة بأن يكون في أشهر الحج أو قبله فيما يقتضيه حكم المتمتع كذلك يجب أن لا يختلف حكم إحرام الحج في كونه في أشهر الحج أو قبله والمعنى الجامع بينهما أن حكم كل واحد من موجب الإحرامين من الأفعال متعلق بوقوعه في أشهر الحج فوجب استواء حكم الإحرامين في الوجه الذي ذكرنا كما استوى حكم أفعالهما في صحة وقوعهما في أشهر الحج واحتج من أبى تجويز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج بظاهر قوله تعالى الحج أشهر معلومات وقد ذكرنا وجه الدلالة منه على جوازه قبل أشهر الحج ومع ذلك فإن قوله الحج أشهر معلومات حكمه متعلق بضمير لا يستغني عنه الكلام وذلك أنه معلوم أن الحج لا يكون أشهرا لأن الحج هو فعل الحاج والأشهر هي فعل الله تعالى وغير جائز أن يكون فعل الله هو فعل العبد فثبت أن فيه ضميرا ويحتمل أن يكون الضمير فعل الحج في أشهر معلومات وليس في شيء منه نفي لجواز إحرامه قبل أشهر الحج وإنما يفيد أن

فعل الحج في هذه الأشهر وأن الإحرام جائز فيها وليس في تجويز الإحرام فيها نفي لجوازه في غيرها فإن قيل قد تضمن ذلك الأمر بإحرام الحج أو أفعاله فيها فغير جائز فعلها في غيرها قيل له هذا غلط لأنه ليس في اللفظ دلالة على الأمر وإنما فيه الدلالة على جوازه فيها فأما الإيجاب فلا دلالة عليه من اللفظ وإذا كان كذلك فأكثر ما فيه تجويز إحرام الحج وأفعاله في هذه الأشهر وليس فيه نفي لجوازه في غيرها فإن قيل فإذا كان الإحرام جائزا في سائر السنة فلا معنى لتوقيت الأشهر له وهذا المذهب يؤدي إلى إسقاط فائدة التوقيت قيل له ليس كذلك بل فيه عدة فوائد منها أنه أفاد أن أفعال الحج مخصوصة بهذه الأشهر ألا ترى أنا نقول أنه لو كان طاف وسعى قبل أشهر الحج أنه لا يعتد به ويعيده ومنها أن التمتع إنما يتعلق حكمه بفعل العمرة مع الحج في هذه الأشهر حتى لو قدم طواف العمرة على أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا ولذلك قال أصحابنا فيمن قرن ودخل مكة قبل أشهر الحج وطاف للعمرة وسعى ومضى على قرانه أنه ليس بمتمتع وليس عليه دم القران فأفادت الآية أن هذه الأشهر هي التي يتعلق به حكم التمتع إذا جمع بين العمرة والحج فيها ومع ذلك فلو كان قوله تعالى الحج أشهر معلومات يوجب الاقتصار به عليها دون غيرها من الشهور لوجب أن نصرفه إلى أفعال الحج دون إحرامه ليسلم لنا عموم قوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج في جواز الإحرام في سائر الأهلة ولو حملناه على الإحرام لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة قوله قل هي مواقيت للناس والحج والاقتصار به على معنى قوله الحج أشهر معلومات ومع ذلك فلا نكون مستعملين له لأن الله قد أخبر أنه جعل الأهلة وقتا للحج ومتى قصرناه على أشهر الحج لم يتعلق حكمه بالأهلة وكان متعلقا بأوقات أخر غيرها مثل يوم عرفة للوقوف ويوم النحر للطواف والرمي ونحوه وأيضا فغير جائز أن يريد الإحرام وأفعاله ومتى أراد الأفعال انتفى الإحرام لامتناع إرادتهما بلفظ واحد لأن أحدهما هو المقصود بعينه وهو أفعال المناسك والآخر سبب له سمي باسمه على طريق المجاز فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد ألا ترى أن من حج ولم يقف فجائز أن يقال أنه لم يحج ومتى وقف أطلق عليه اسم الحاج وأيضا لما قال تعالى الحج أشهر معلومات وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
الحج عرفة وجب أن يكون ذلك تعريفا للحج المذكور في قوله الحج أشهر معلومات فتكون

الألف واللام لتعريف المعهود فيصير حينئذ تقدير الآية مع الخبر الحج الذي هو الوقوف بعرفة في أشهر معلومات ويكون فائدة ذكر الأشهر ما قدمنا وأيضا لو صح إرادة الوقت للإحرام وجب استعماله في الأشهر على الندب وقوله مواقيت للناس والحج على الجواز حتى يوفى كل واحد من اللفظين حظه من الفائدة وقسطه من الحكم فإن قيل إذا أراد به الإحرام لم يجز تقديمه على وقته ويصير بمنزلة قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله وأقم الصلاة طرفي النهار ونحو ذلك من الآي التي فيها توقيت العبادات قيل له قد بينا أن قوله الحج أشهر معلومات لا دلالة فيه على الوجوب لأنه ليس بأمر وفيه ضمير يحتاج في إثباته إلى دلالة من غيره لاحتماله أن يكون المراد جواز الحج ويحتمل أن يريد به فضيلة الحج فليس في ظاهر اللفظ دليل على أن المراد بالتوقيت المذكور فيه لماذا هو فلذلك لم يصح الاستدلال على توقيت الإحرام بالأشهر على جهة الإيجاب وأما الصلاة فإن الله تعالى نص فيها على الأوقات المذكورة بلفظ يقتضي الإيجاب فيها من غير احتمال لغيرها بقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس وما جرى مجراه من الأوامر الموقتة ووجه آخر وهو أنا سلمنا لهم أن ذلك وقت الإحرام لم تلزم الصلاة عليه من قبل أن تقديم إحرام الصلاة على وقتها إنما لم يجز من حيث اتصلت فروضها وأركانها بالإحرام وسائر فروضها غير جائزة متراخية عن تحريمتها فلذلك كان حكم تحريمتها حكم سائر أفعالها ولا خلاف في جواز إحرام الحج في وقت يتراخى عنه سائر أفعاله وغير جائز شيء من فروضه عقيب إحرامه فلذلك اختلفا ومن جهة أخرى وهو أن كونه منهيا عن فعل الإحرام لا يمنع صحة لزومه وكون الصلاة منهيا عنها يمنع صحة الدخول فيها والدليل على ذلك أن من تحرم بالصلاة محدثا أو غير مستقبل القبلة عامدا أو عاريا وهو يجد ثوبا لم يصح دخوله فيها ولو أحرم بالحج وهو مخالط لامرأته أو لابس ثيابا كان إحرامه واقعا ولزمه حكمه مع مقارنة ما يفسده فلم يجز اعتبار أحكام إحرام الحج بالصلاة ووجه آخر وهو أن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الحدث والكلام والمشي وما جرى مجرى ذلك وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده لأنه لو تطيب أو لبس أو اصطاد لم يفسده مع كون ترك هذه الأمور فرضا فيه وأيضا وجدنا من فروض الحج ما يفعل بعد أشهر الحج ويكون مفعولا في وقته وهو طواف الزيارة ولم نجد شيئا من

فروض الصلاة يفعل بعد خروج وقتها إلا على وجه القضاء فلم يجز أن تكون الصلاة أصلا للإحرام ويمكن أن يجعل ذلك دليلا في أصل المسألة بأن يقال لما كان بعض فروض الحج مفعولا بعد أشهر الحج ويكون ذلك وقتا له كذلك جائز أن يكون إحرامه قبل أشهر الحج ويكون ذلك وقتا لأنه لو لم يجز تقديمه على أشهر الحج لما جاز تأخير شيء من فروضه عنه كالصلاة فإن قيل لما اتفق الجميع على أن من فاته الحج لا يجوز أن يفعل بإحرامه ذلك حجا في القابل وكان عليه أن يتحلل بعمل عمرة دل ذلك على أن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يوجب عمرة وأنه غير جائز أن يفعل به حجا قيل له فقد جاز أن يبقى إحرامه كاملا بعد أشهر الحج وهو يوم النحر قبل رمي الجمار حتى زعم الشافعي أنه إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه وقد ذكرنا فيما سلف وجه الاستدلال من ذلك على جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج إذ لم يكن يوم النحر عنده من أشهر الحج وقد جاز بقاء إحرامه بكماله فيه فدل على معنيين أحدهما سقوط سؤال السائل لنا واعتراضه بما ذكره إذ قد جاز وجود إحرام صحيح بالحج قبل أشهر الحج والمعنى الثاني أنه دل على جواز ابتداء إحرام الحج قبل أشهر الحج إذ قد جاز بقاؤه فيه على ما بيناه فيما سلف وأما قول الشافعي في أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بعمرة فإنه قول ظاهر الإختلال والفساد لأنه لا يخلو من أن يلزمه إحرام الحج على ما عقده على نفسه أو لا يلزمه فإن لم يلزمه كان كمن لم يحرم وبمنزلة من أحرم بالظهر قبل دخول وقتها فلا يلزمه شيء ولا يكون داخلا فيها ولا في غيرها وأن يلزمه الحج فقد جاز أداء الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وإذا صح إحرامه وأمكنه المضي فيه لم يجز له أن يتحلل منه بعمرة فإن قيل هو بمنزلة من فاته الحج فيلزمه أن يتحلل بعمرة قيل له ليس ذلك بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج ألا ترى أن من فاته الحج وهو بمكة أنه غير مأمور بالخروج منها إلى الحل لأجل ما لزمه من عمل العمرة إذ كان وقت العمرة لمن كان بمكة الحل ولو أراد أن يبتدئ عمرة لأمر بالخروج إلى الحل فدل ذلك على أن ما يفعله بعد الفوت ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج وإحرام الحج باق مع الفوات وأيضا فالذي فاته قد لزمه إحرام الحج وإنما احتاج إلى الإحلال منه بعمل عمرة فهل يقول الشافعي أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج قد لزمه الحج ويتحلل منه بعمل عمرة

ويوجب عليه قضاء الحج فإذا لم يكن عنده محرما بالحج فقد لزمه في ذلك شيئان أحدهما أنه لزمه عمرة لم يعقدها على نفسه ولم ينوها والثاني أنه جعله بمنزلة الذي يفوته الحج بعد الإحرام وهذا لم يحرم قط به فألزمه عمرة لا سبب لها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا أحرم ونوى الحج فواجب أن يلزمه ما نوى بقضية قوله ص - وإنما لكل امرئ ما نوى قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله فقال ابن عباس رواية والحسن وقتادة فمن أحرم وروى شريح عن أبي إسحاق عن ابن عباس فمن فرض فيهن الحج قال التلبية وكذلك روي عن عبدالله بن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي وطاوس ومجاهد وعطاء وقالت عمرة عن عائشة لا إحرام إلا لمن أهل ولبى قال أبو بكر قول من تأول قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج على من أحرم لا يدل على أنه رأى الإحرام جائزا بغير تلبية لأنه جائز أن يقول فمن أحرم وشرط الإحرام أن يلبي فلم يثبت عن أحد من السلف جواز الدخول في الإحرام بغير تلبية أو ما يقوم مقامها من تقليد الهدي وسوقه وأصحابنا لا يجيزون الدخول في الإحرام إلا بالتلبية وتقليد الهدي وسوقه والدليل على ذلك حديث فراد بن أبي نوح قال حدثنا نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وهي كأنها حزينة فقال مالك فقالت لا أنا قضيت عمرتي وألفاني الحج عاركا قال ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فحجي وقولي ما يقول المسلمون في حجهم وذلك يدل على وجوب التلبية لأنها الذي يقوله المسلمون عند الإحرام وأمره ص - على الوجوب ويدل قوله ص -
خذوا عني مناسككم والتلبية من المناسك وقد فعلها عند الإحرام ويدل عليه قوله ص - أتاني جبريل عليه السلام فقال مر أمتك يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج فيضمن ذلك معنيين فعل التلبية ورفع الصوت بها وقد اتفقوا على أن رفع الصوت غير واجب فبقي حكمه في فعل التلبية ويدل عليه أن الحج والعمرة ينتظمان أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة فأشبهت الصلاة لما تضمنت أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة كان شرط الدخول فيها الذكر كذلك الحج والعمرة واجب أن يكون الدخول فيهما بالذكر أو ما يقوم مقامه وقال أصحابنا إذا قلد بدنة وساقها وهو يريد الإحرام فقد أحرم وقد روى ابنا جابر عن أبيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أن من قلد بدنة فقد أحرم واختلف

السلف في ذلك فقال ابن عمر إذا قلد بدنته فقد أحرم وكذلك روي عن علي وقيس بن سعد وابن مسعود وابن عباس وطاوس وعطاء ومجاهد والشعبي ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وإبراهيم وهذا على أنه قلدها وساقها وهو يريد الإحرام لأنه لا خلاف أنه إذا لم يرد الإحرام لا يكون محرما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إني قلدت الهدي فلا أحل إلى يوم النحر فأخبر أن تقليد الهدي وسوقه كان المانع له من الإحرام فدل على أن لذلك تأثيرا في الإحرام وأنه قائم مقام التلبية في باب الدخول فيه كما كان له تأثير في منع الإحلال والدليل على أن التقليد بانفراده لا يوجب الإحرام ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبعث بهديه ويقيم فلا يحرم عليه شيء وكذلك قالت عائشة لا يحرم إلا من أهل ولبى تعني ممن لم يسق هديه ولم يخرج معه قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج اختلف السلف في تأويل الرفث فقال ابن عمر هو الجماع وروي عن ابن عباس مثله وروي عنه أنه التعريض بالنساء وكذلك عن ابن الزبير وروي عن ابن عباس أنه أنشد في حرامه ... وهن يمشين بنا هميسا ... أن يصدق الطير ننك لميسا ...
فقيل له في ذلك فقال إنما الرفث مراجعة النساء بذكر الجماع وقال عطاء الرفث الجماع فما دونه من قول الفحش وقال عمرو بن دينار هو الجماع فما دونه من شأن النساء قال أبو بكر قد قيل إن أصل الرفث في اللغة هو الإفحاش في القول وبالفرج الجماع وباليد الغمز للجماع وإذا كان كذلك قد تضمن نهيه عن الرفث في الحج هذه الوجوه كلها وحصل من اتفاق جميع من روي عنه تأويله أن الجماع مراد به في هذه الآية ويدل على أن الرفث الفحش في المنطق قوله ص - إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إني صائم والمراد فحش القول وإن كان المراد بالرفث هو التعريض بذكر النساء في الإحرام فاللمس والجماع أولى أن يكون محظورا كما قال تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما عقل منه النهي عن السب والضرب وقد ذكر الله تعالى الرفث في شأن الصوم فقال أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ولا خلاف أنه يريد به الجماع وعقل منه إباحة ما دونه كما أن حظره الرفث في الحج وهو التعريض واللمس قد عقل به حظر ما فوقه من الجماع لأن حظر القليل يدل على الكثير من جنسه وإباحة الكثير تدل على إباحة القليل من جنسه

وقد روي عن محمد بن راشد قال خرجنا حجاجا فمررنا بالرويثة فإذا بها شيخ يقال له أبو هرم قال سمعت أبا هريرة يقوم للمحرم من امرأته كل شيء إلا الجماع قال فأهوى رجل منا إلى امرأته فقبلها فقدمنا مكة فذكرنا ذلك لعطاء فقال قاتله الله قعد على طريق من طرق المسلمين يفتنهم بالضلالة ثم قال للذي قبل امرأته أهرق دما وهذا شيخ مجهول وما ذكره قد اتفقت الأمة على خلافه وعلى أن من قبل امرأته في إحرامه بشهوة فعليه دم وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء وعكرمة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ذلك وهو قول فقهاء الأمصار ولما ثبت بما ذكرنا حظر مراجعة النساء بذكر الجماع في حال الإحرام والتعريض به واللمس وذلك كله من دواعي الجماع دل ذلك على أن الجماع ودواعيه محظورة على المحرم وذلك دليل على حظر التطيب لهذا المعنى بعينه ولما ورد فيه من السنة وأما الفسوق فروي عن ابن عمر قال الفسوق السباب والجدال المراء وقال ابن عباس الجدال أن تجادل صاحبك حتى تغيظه والفسوق المعاصي وروي عن مجاهد لا جدال في الحج قال قد أعلم الله تعالى أشهر الحج فليس فيها شك ولا خلاف قال أبو بكر جميع ما ذكر من هذه المعاني عن المتقدمين جائز أن يكون مراد الله تعالى فيكون المحرم منهيا عن السباب والمماراة في أشهر الحج وفي غير ذلك وعن الفسوق وسائر المعاصي فتضمنت الآية الأمر بحفظ اللسان والفرج عن كل ما هو محظور من الفسوق والمعاصي والمعاصي والفسوق وإن كانت محظورة قبل الإحرام فإن الله نص على حظرها في الإحرام تعظيما لحرمة الإحرام ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقابا منها في غيرها كما قال ص -
إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إني امرؤ صائم وقد روي أن الفضل بن العباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة إلى منى فكان يلاحظ النساء وينظر إليهن فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - يصرف وجهه بيده من خلفه وقال إن هذا يوم من ملك سمعه وبصره غفر له ومعلوم حظر ذلك في غير ذلك اليوم ولكنه خص اليوم تعظيما لحرمته فكذلك المعاصي والفسوق والجدال والرفث كل ذلك محظور ومراد بالآية سواء كان مما حظره الإحرام أو كان محظورا فيه وفي غيره بعموم اللفظ ويكون تخصيصه إياها بحال الإحرام تعظيما للإحرام وإن كانت محظورة في غيره وقد روى مسعود عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي

ص - قال من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه وهذا موافق لدلالة الآية وذلك لأن الله تعالى لما نهى عن المعاصي والفسوق في الحج فقد تضمن ذلك الأمر بالتوبة منها لأن الإصرار على ذلك هو من الفسوق والمعاصي فأراد الله تعالى أن يحدث الحاج توبة من الفسوق والمعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقوله تعالى ولا جدال في الحج قد تضمن النهي عن مماراة صاحبه ورفيقه وإغضابه وحظر الجدال في وقت الحج على ما كان عليه أمر الجاهلية لأنه قد استقر على وقت واحد وأبطل به النسيء الذي كان أهل الجاهلية عليه وهو معنى قوله ص -
ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض يعني عود الحج إلى الوقت الذي جعله الله له واتفق ذلك في حجة النبي صلى الله عليه وسلم - وقوله فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وإن كان ظاهره الخبر فهو نهي عن هذه الأفعال وعبر بلفظ النفي عنها لأن المنهي عنه سبيله أن يكون منفيا غير مفعول وهو كقوله في الأمر والوالدات يرضعن أولادهن ويتربصن بأنفسهن وما جرى مجراه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر قوله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى روي عن مجاهد والشعبي أن أناسا من أهل اليمن كانوا لا يتزودون في حجهم حتى نزلت وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وقال سعيد بن جبير الزاد الكعك والزيت وقيل فيه إن قوما كانوا يرمون بأزوادهم يتسمون بالمتوكلة فقيل لهم تزودوا من الطعام ولا تطرحوا كلكم على الناس وقيل فيه أن معناه أن تزودوا من الأعمال الصالحة فإن خير الزاد التقوى قال أبو بكر لما احتملت الآية الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى وجب أن يكون عليهما إذ لم تقم دلالة على تخصيص زاد من زاد وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه كما نص على حظر الفسوق والمعاصي فيه وإن كانت محظورة في غيره تعظيما لحرمة الإحرام وإخبارا أنها فيه أعظم مأثما فجمع الزادين في مجموع اللفظ من الطعام ومن زاد التقوى ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ودوام ثوابه وهذا يدل على بطلان مذهب المتوصفة الذين يتسمون بالمتوكلة في تركهم التزود والسعي في المعاش وهو يدل على أن من شرط استطاعة الحج الزاد والراحلة لأنه خاطب بذلك من خاطبه بالحج وعلى هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم -
حين سئل عن الإستطاعة فقال هي الزاد والراحلة والله الموفق

باب التجارة في الحج
قال الله عقيب ذكر الحج والتزود له ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعني المخاطبين بأول الآية وهم المأمورون بالتزود للحج وأباح لهم التجارة فيه وروى أبو يوسف عن العلاء بن السائب عن أبي أمامة قال قلت لابن عمر إني رجل أكري الإبل إلى مكة أفيجزي من حجتي قال ألست تلبي فتقف وترمي الجمار قلت بلى قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن مثل ما سألتني فلم يجبه حتى أنزل الله هذه الآية ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فقال ص -
أنتم حاج وقال عمرو بن دينار قال ابن عباس كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما كان الإسلام تركوا حتى نزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أتاني رجل فقال إني آجرت نفسي من قوم على أن أخدمهم ويحجون بي فهل لي من حج فقال ابن عباس هذا من الذين قال الله تعالى لهم نصيب مما كسبوا وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين منهم الحسن وعطاء ومجاهد وقتادة ولا نعلم أحدا روي عنه خلاف ذلك إلا شيئا رواه سفيان الثوري عن عبدالكريم عن سعيد بن جبير قال سأله رجل أعرابي فقال إني أكري إبلي وأنا أريد الحج أفيجزيني قال لا ولا كرامة وهذا قول شاذ خلاف ما عليه الجمهور وخلاف ظاهر الكتاب في قوله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فهذا في شأن الحاج لأن أول الخطاب فيهم وسائر ظواهر الآي المبيحة لذلك دالة على مثل ما دلت عليه هذه الآية نحو قوله وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وقوله وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر إلى قوله ليشهدوا منافع لهم ولم يخصص شيئا من المنافع دون غيرها فهو عام في جميعها من منافع الدنيا والآخرة وقال تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا ولم يخصص منه حال الحج وجميع ذلك على أن الحج لا يمنع التجارة وعلى هذا أمر الناس من عصر النبي صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا في مواسم منى ومكة في أيام الحج والله أعلم
باب الوقوف بعرفة
قال الله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام قال أبو بكر

قد دل ذلك على أن مناسك الحج الوقوف بعرفة وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه فلما قال في سياق الخطاب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه وذلك لأن أمره بالإضافة مقتض للوجوب ولا تكون الإفاضة فرضا إلا والكون بها فرضا حتى يفيض منها إذ لا يتوصل إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك وقد اختلف في تأويل قوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فروي عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدي أنه أراد الإفاضة من عرفة قالوا وذلك لأن قريشا ومن دان دينها يقال لهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - قريشا ومن دان دينها أن يأتوا عرفات فيقفوا بها مع الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس وحكي عن الضحاك أنه أراد به الوقوف بالمزدلفة وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام وقيل أنه إنما قال الناس وأراد إبراهيم وحده كما قال تعالى الذين قال لهم الناس وكان رجلا واحدا ولأن إبراهيم عليه السلام لما كان الإمام المقتدى به سماه الله تعالى أمة كان بمنزلة الأمة التي تتبع سنته جاز إطلاق اسم الناس والمراد به هو وحده والتأويل الأول هو الصحيح لاتفاق السلف عليه والضحاك لا يزاحم به هؤلاء فهو قول شاذ وإنما ذكر الناس هاهنا وأمر قريشا بالإفاضة من حيث أفاض الناس لأنهم كانوا أعظم الناس وكانت قريش ومن دان دينها قليلة بالإضافة إليهم فلذلك قال من حيث أفاض الناس فإن قيل لما قال فإذا أفضتم من عرفات ثم عقب ذلك بقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وثم يقتضي الترتيب لا محالة علمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات وليس بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام فكان حمله على ذلك اولى منه على الإفاضة من عرفة ولأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا وجه لإعادتها قيل له إن قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس عائد إلى أول الكلام وهو الخطاب بذكر الحج وتعليم مناسكه وأفعاله فكأنه قال يا أيها المأمورون بالحج من قريش بعد ما تقدم ذكرنا له أفيضوا من حيث أفاض الناس فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب المأمورين وهو كقوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن والمعنى بعد ما ذكرنا لكم أخبرناكم أنا آتينا موسى

الكتاب تماما على الذي أحسن ويجوز أن يكون ثم بمعنى الواو فيكون تقديره وأفيضوا من حيث أفاض الناس كما قال تعالى ثم كان من الذين آمنوا معناه وكان من الذين آمنوا وقوله ثم الله شهيد على ما يفعلون معناه والله شهيد فإذا كان ذلك سائغا في اللغة ثم روي عن السلف ما ذكرنا لم يجز العدول عنه إلى غيره وأما قولك أن ذكر عرفات قد تقدم في قوله فإذا أفضتم من عرفات فلا يكون لقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وجه فليس كذلك لأن قوله فإذا أفضتم من عرفات لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف وقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس هو أمر لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش فقد أفاد به من إيجاب الوقوف مالم يتضمنه قوله فإذا أفضتم من عرفات إذ لا دلالة في قوله فإذا أفضتم من عرفات على فرض الوقوف ومع ذلك فلو اقتصر على قوله فإذا أفضتم من عرفات لكان جائزا أن يظن ظان أنه خطاب لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها فيكون التاركون للوقوف على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفةدون عرفات فأبطل ظن الظان لذلك بقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واتفقت الأمة مع ذلك على أن تارك الوقوف بعرفة لا حج له ونقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قولا وعملا وروى بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال سئل رسول الله ص - كيف الحج قال الحج يوم عرفة من جاء عرفة ليلة جمع قبل الصبح أو يوم جمع فقد تم حجه وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال بالمزدلفة من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجابر إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه والفقهاء مجمعون على ذلك وقد اختلف الفقهاء فيمن لم يقف بعرفة ليلا فقال سائرهم إذا وقف نهارا فقد تم حجه وإن دفع منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا إن لم يرجع قبل الإمام وقال مالك بن أنس إن لم يرجع حتى طلع الفجر بطل حجه وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل دون النهار وأن الوقوف نهارا غير مفروض إنما هو مسنون وروي عن ابن الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه والدليل على صحة القول الأول قوله ص - في حديث عروة بن مضرس وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فحكم بصحة

حجه وإتمامه بوقوفه في أحد الوقتين من ليل أو نهار ويدل عليه أيضا قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض
الناس وحيث اسم للموضع وهو عرفات فكان بمنزلة قوله أفيضوا من عرفات ولم يخصصه بليل ولا نهار وليس فيه ذكر للوقت فاقتضى ذلك جوازه في أي وقت وقف فيه ويدل عليه من جهة النظر أنا وجدنا سائر المناسك ابتداؤها بالنهار وإنما يدخل فيه الليل تبعا ولم نجد شيئا منها يختص بالليل حتى لا يصح فعله في غيره فقول من جعل فرض الوقوف بالليل خارج عن الأصول ألا ترى أن طواف الزيارة والوقوف بالمزدلفة والرمي والذبح والحلق كل ذلك مفعول بالنهار وإنما يفعل بالليل على أنه يؤخر عن وقته على وجه التبع للنهار فوجب أن يكون ذلك حكم الوقوف بعرفة وأيضا قد نقلت الأمة وقوف النبي صلى الله عليه وسلم - نهارا إلى يومنا هذا وأنه دفع منها عند سقوط الفرض وهذا يدل على أن وقت الوقوف هو النهار ووقت الغروب هو الدفع فاستحال أن يكون الدفع هو وقت الفرض ووقت الوقوف لا يكون وقتا للفرض وأيضا لما قيل يوم عرفة ونقلت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم - في أخبار كثيرة منها أن الله تعالى يباهي ملائكته يوم عرفة ومنها أن صيام يوم عرفة يعدل صيام سنة ولذلك أطلقت الأمة ذلك عليه دل على أن النهار وقت الفرض فيه وأن الوقوف ليلا إنما يفعله من وقف فائتا ألا ترى أنه لما قيل يوم الجمعة ويوم الأضحى ويوم الفطر كانت هذه الأفعال واقعة في هذه الأيام نهارا ولذلك أضيفت إليها فدل ذلك على أن فرض الوقوف يوم عرفة وأنه يفعل ليلا على وجه القضاء لما فاته كما يرمي الجمار ليلا على وجه القضاء لما فاته نهارا وكذلك الطواف والذبح والحلق واختلف في موضع الوقوف فروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال كل عرفات موقف وارفعوا عن عرنة وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال كل عرفة موقف وقال ابن عباس ارتفعوا عن وادي عرنة والمنبر عن مسيله فما فوق ذلك موقف ولم يختلف رواة الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم - دفع من عرفة بعد غروب الشمس وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها إذا صارت الشمس على رؤس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم وإنهم كانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم - ودفع من عرفات بعد الغروب ومن المزدلفة قبل الطلوع وروى سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم - الناس

يوم عرفة فقال يا أيها الناس ليس البر في إيجاب الخيل ولا في إيضاع الإبل ولكن سيرا حسنا جميلا ولا تواطئوا ضعيفا ولا تؤذوا مسلما وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أسامة بن زيد قال كان سيرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين يدفع من عرفات العنق غير أنه كان إذا وجد فجوة نص والله أعلم
باب الوقوف بجمع
قال الله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ولم يختلف أهل العلم أن المشعر الحرام هو المزدلفة وتسمى جمعا فمن الناس من يقول أن هذا الذكر هو صلاة المغرب والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة والذكر الثاني في قوله واذكروه كما هداكم هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جمع فيكون الذكر الأول غير الثاني والصلاة تسمى ذكرا قال النبي صلى الله عليه وسلم -
من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وتلا عند ذلك قوله تعالى وأقم الصلاة لذكري فسمى الصلاة ذكرا فعلى هذا قد اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة وروى أسامة بن زيد وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من عرفات إلى المزدلفة أنه قال للنبي ص - في طريق المزدلفة الصلاة فقال الصلاة أمامك فلما أتى المزدلفة صلاها مع العشاء الآخرة والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
متواترة في جمع النبي ص - بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وقد اختلف فيمن صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة فقال أبو حنيفة ومحمد لا تجزيه وقال أبو يوسف تجزيه وظاهر قوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام إذا كان المراد به الصلاة يمنع جوازها قبله وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم -
الصلاة أمامك وحمله على ذلك أولى من حمله على الذكر المفعول في حال الوقوف بجمع لأن قوله تعالى واذكروه كما هداكم هو الذكر في موقف جمع فواجب أن نحمل الذكر الأول على الصلاة حتى نكون قد وفينا كل واحد من الذكرين حظه من الفائدة ولا يكون تكرارا وأيضا فإن قوله فاذكروا الله عند المشعر الحرام هو أمر يقتضي الإيجاب والذكر المفعول بجمع ليس بواجب عند الجميع ومتى حمل على فعل صلاة المغرب بجمع كان محمولا على مقتضاه من الوجوب فوجب حمله عليه وقد اختلف أهل العلم في الوقوف بالمزدلفة هل هو من فروض الحج أم لا فقال قائلون هو من فروض الحج ومن فاته فلا حج له كمن فاته الوقوف بعرفة

وقال جمهور أهل العلم حجه تام ولا يفسده ترك الوقوف بالمزدلفة واحتج من لم يجعله من فروضه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي عن النبي ص - أنه قال الحج عرفة فمن وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه وقال في بعض الأخبار من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج فحكم بصحة حجه بإدراك عرفة ولم يشترط معه الوقوف بجمع ويدل عليه ما روى ابن عباس وابن عمر ونقله الناس قائلين له أن النبي صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة أهله بليل وفي بعض الأخبار ضعفة الناس من المزدلفة ليلا وقال لهم لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس فلو كان الوقوف بها فرضا لما رخص لهم في تركه للضعف كما لا يرخص في الوقوف بعرفة لأجل الضعف فإن قيل لأنهم كانوا وقفوا ليلا وهو وقت الوقوف بها وروى سالم بن عمر وهو أحد من روى حديث تقديم ضعفة الناس من المزدلفة فكان يقدم ضعفة أهله من المزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام بليل فيذكرون ما بدا لهم ثم يدفعون قيل له وقت الوقوف بها بعد طلوع الفجر وقد نقل الناس وقوف النبي صلى الله عليه وسلم - بها بعد طلوع الفجر ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم - ضعفة أهله بالوقوف حين عجلهم منها ليلا ولو كان ذلك وقت الوقوف لأمرهم به ولم يرخص لهم في تركه مع إمكانه من غير عذر وما روي عن ابن عمر فإنما هو من فعله ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولم يقل ابن عمر أيضا أن هذا وقت الوقوف وإنما كان ذلك على وجه الاستحباب للذكر قبل الرجوع إلى منى ويدل على أن وقت الوقوف بعد طلوع الفجر إنا وجدنا سائر أفعال المناسك إنما وقتها بالنهار والليل يدخل فيه على وجه التبع على ما بينا واحتج من جعل الوقوف بها فرضا بظاهر قوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام فظاهره يقتضي الوجوب ويحتجون أيضا بحديث مطرف بن طريف عن الشعبي عن عروة بن مضرس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من أدرك جمعا والإمام واقف فوقف مع الإمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج ومن لم يدرك فلا حج له وبما روى يعلى بن عبيد قال حدثنا سفيان عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - واقفا بعرفات فأقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال الحج يوم عرفة ومن أدرك جمعا قبل الصبح فقد أدرك الحج فأما قوله فاذكروا الله عند المشعر الحرام فلا دلالة فيه على ما ذكروا وذلك لأنه أمر بالذكر وقد اتفق الجميع على أن الذكر هناك

غير مفروض فإن تركه لا يوجب نقصا في الحج وليس للوقوف ذكر في الآية فسقط الاحتجاج به ومع ذلك فقد بينا أن المراد بهذا الذكر هو فعل صلاة المغرب هناك وأما حديث مطرف بن طريف عن الشعبي فإنه قد رواه خمسة من الرواة غير مطرف منهم زكريا بن أبي زائدة وعبدالله بن أبي السفر وسيار وغيرهم عن الشعبي عن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم - ذكروا فيه أنه قال من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وأفاض قبل ذلك من عرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ولم يذكر منهم أحد أنه قال فلا حج له ومع ذلك فقد اتفقوا أن ترك الصلاة هناك لا يفسد الحج وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم - فكذلك الوقوف وقوله فلا حج له يحتمل أن يريد به نفي الفضل لا نفي الأصل كما قال ص -
لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه وكما روى عمر من قدم نفله فلا حج له وأما حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فإنه قد روى هذا الحديث محمد بن كثير عن سفيان عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقال فيه من وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه فعلمنا أن المراد بذلك الوقوف بعرفة في شرط إدراك الحج وإن رواية من روى من أدرك جمعا قبل الصبح وهم وكيف لا يكون وهما وقد نقلت الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقوفه بها بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدا بالوقوف بها ليلا ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف وسائر أخبار عبدالرحمن بن يعمر أنه قال من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه ومن فاته عرفة فقد فاته الحج وذلك ينفي رواية من شرط معه الوقوف بالمزدلفة وأظن الأصم وابن علية القائلين بهذه المقالة واحتجوا فيه من طريق النظر بأنه لما كان في الحج وقوفان واتفقنا على فرضية أحدهما وهو الوقوف بعرفة وجب أن يكون الآخر فرضا لأن الله عز و جل ذكرهما في القرآن كما أنه لما ذكر الركوع والسجود كانا فرضين في الصلاة فقال له أما قولك أنهما لما كانا مذكورين في القرآن كانا فرضين فإنه غلط فاحش لأنه يقتضي أن يكون كل مذكور في القرآن فرضا وهذا خلف من القول وعلى أن الله تعالى لم يذكر الوقوف وإنما قال فاذكروا الله عند المشعر الحرام والذكر ليس بمفروض عند الجميع فكيف يكون الوقوف فرضا فالاحتجاج به من هذا الوجه ساقط فإن كان أوجبه قياسا على الوقوف بعرفة فإنه يطالب

بالدلالة على صحة العلة الموجبة لهذا القياس وذلك معدوم ويقال له أليس قد طاف النبي صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة وسعى ثم طاف أيضا يوم النحر وطاف للصدر وأمر به فهل وجب أن يكون لهذا الطواف كله حكم واحد في باب الإيجاب فإذا جاز أن يكون بعض الطواف ندبا وبعضه واجبا فما ينكر أن يكون حكم الوقوف كذلك فيكون بعضه ندبا وبعضه واجبا قوله تعالى فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم قضاء المناسك هو فعلها على تمام ومثله قوله فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وقوله فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ومنه قوله ص -
فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا يعني افعلوا على التمام وقوله فاذكروا الله كذكركم آباءكم قد قيل فيه وجهان أحدهما الأذكار المفعولة في سائر أحوال المناسك كقوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة وهو مأمور به قبل الطلاق على مجرى قولهم إذا حججت فطف بالبيت وإذا أحرمت فاغتسل وإذا صليت فتوضأ وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وإنما هو قبل الصلاة وكذلك فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله جائز أن يريد الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة وعند الرمي والطواف وقيل فيه أن أهل الجاهلية كانوا يقفون عند قضاء المناسك فيذكرون مآثرهم ومفاخر آبائهم فأبدلهم الله به ذكره وشكره على نعمه والثناء عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بعرفات إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ثم تلا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم فكان خروج الكلام على حال لأهل الجاهلية في ذكرهم آباءهم والله أعلم
باب
أيام منى والنفر فيها قال الله عز و جل واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه قال أبو بكر روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيام منى ثلاثة أيام التشريق فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه واتفق أهل العلم على أن قوله بيان المراد الآية في قوله أيام معدودات ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق وقد روي ذلك عن علي وعمر

وابن عباس وابن عمر وغيرهم إلا شيء رواه ابن أبي ليلى عن المنهال عن زر عن علي قال المعدودات يوم النحر ويومان بعده اذبح في أيها شئت وقد قيل إن هذا وهم والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات وظاهر الآية ينفي ذلك أيضا لأنه قال فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار والمفعول في أيام التشريق وأما المعلومات فقد روي عن علي وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت قال ابن عمر المعدودات أيام التشريق وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وقد روى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده أيام التشريق والمعدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده التشريق وروى عبدالله بن موسى أخبرنا عمارة بن ذكوان عن مجاهد عن ابن عباس قال المعدودات أيام العشر والمعلومات أيام النحر فقوله المعدودات أنها أيام العشر لا شك في أنه خطأ ولم يقل به أحد وهو خلاف الكتاب قال الله تعالى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثلاث وقد روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول الجمهور من التابعين منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران عن بشر بن الوليد قال كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام المعلومات فأملى على أبي يوسف جواب كتابه اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر وإلى ذلك أذهب لأنه قال على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وذكر شيخنا أبو الحسن الكرخي عن أحمد القاري عن محمد عن أبي حنيفة أن المعلومات العشر وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده قال أبو بكر فحصل من رواية أحمد القاري عن محمد ورواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده ولم تختلف عن أبي حنيفة أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول ابن عباس المشهور وقوله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لا دلالة فيه على أن المراد أيام النحر لاحتماله أن يريد لما رزقهم من بهيمة الأنعام كقوله ولتكبروا الله على ما هداكم والمعنى لما

هداكم وأيضا يحتمل أن يريد بها أيام العشر لأن فيها يوم النحر وفيه الذبح ويكون بتكرار السنين عليه أياما وذكر أهل اللغة أن المعدودات منفصلة عن المعلومات بدلالة اللفظ على افتراقهما في باب العدد وذلك لأن وصفها بالمعدودات دلالة التقليل كقوله تعالى بخس دراهم معدودة وإنما يوصف بالعدد إذا أريد به التقليل لأنه يكون نقيض كثرة فهو كقولك قليل وكثير فعرفت المعدودات بالتقليل وقيل للأخرى معلومات فعرفت بالشهرة لأنها عشرة ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة يوم النحر وبعد أن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار وينفر وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر واختلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني فروي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد وروي عن الحسن البصري أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله فإن أدركته صلاة العصر بمنى فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث وقال أصحابنا إنه إذا لم ينفر حتى غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث ولا يلزمه ذلك إلا أن يصبح بمنى فحينئذ يلزمه رمي اليوم الثالث ولا يجوز تركه ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن من أقام بمنى إلى اليوم الثالث أنه لا يجوز له النفر حتى يرمي وإنما قالوا إنه لا يلزمه رمي اليوم الثالث بإقامته بمنى إلى أن يمسي من قبل أن الليلة التي تلي اليوم الثاني هي تابعة له حكمها حكمه وليس حكمها حكم الذي بعدها ألا ترى أنه لو ترك الرمي في اليوم الأول رماه في ليلته ولم يكن مؤخرا له عن وقته لأنه ص - رخص للرعاة أن يرموا ليلا فكان حكم الليلة حكم اليوم الذي قبلها ولم يكن حكمها حكم الذي بعدها فلذلك قالوا إن إقامته في اليوم الثاني بمنى إلى أن يمسي بمنزلة إقامته بها نهارا وإذا أقام حتى يصبح من اليوم الثالث لزمه الرمي بلا خلاف وهذا مما يستدل به على صحة قول أبي حنيفة في تجويزه رمي اليوم الثالث قبل الزوال إذ قد صار وقتا للزوم الرمي ويستحيل أن يكون وقتا لوجوبه ثم لا يصح فعله فيه وأما قوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور وروي نحوه عن عبدالله بن مسعود ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع

كيوم ولدته أمه والوجه الثاني أنه لا مأثم عليه في التعجيل وروي نحوه عن الحسن وغيره ومن تأخر فلا إثم عليه لأنه مباح له التأخير وقوله لمن اتقى يحتمل لمن اتقى ما نهى الله عنه في الإحرام بقوله فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وإن لم يتق فغير موعود بالثواب
قوله تعالى ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية قال أبو بكر فيه تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه من حلاوة المنطق والاجتهاد في تأكيد ما يظهره فأخبر الله تعالى أن من الناس من يظهر بلسانه ما يعجبك ظاهره ويشهد الله على ما في قلبه وهذه صفة المنافقين مثل قوله تعالى قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة وقوله وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم فأعلم الله تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغتر بظاهر أقوالهم وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم وفيه الأمر بالإحتياط فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين والدنيا فلا نقتصر فيما أمرنا بائتمان الناس عليه من أمر الدين والدنيا على ظاهر حال الإنسان دون البحث عنه وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة والفتية والإمامة وما جرى مجرى ذلك في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسئل ويبحث عنهم إذ قد حذرنا الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين ألا ترى أنه عقبه بقوله وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل فكان ذكر التولي في هذا الموضع إعلاما لنا أنه غير جائز الاقتصار على ظاهر ما يظهره دون الإستبراء لحاله من غير جهته قوله تعالى وهو ألد الخصام هو وصف له بالمبالغة في شدة الخصومة والقتل للخصم بها عن حقه وإحالته إلى جانبه ويقال لده عن كذا إذا حبسه وعلى هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم - إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار فكان معنى قوله وهو ألد الخصام أنه أشد المخاصمين خصومة وقوله والله لا يحب الفساد نص على بطلان مذهب أهل الإجبار لأن مالا يحبه الله فهو لا يريده وما يريده فهو لا يحبه فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يحب الفساد وهذا يوجب أن لا يفعل الفساد لأنه لو فعله لكان مريدا له ومحبا له وهو

مثل قوله وما الله يريد ظلما للعباد فنفى عن نفسه فعل الظلم لأنه لو فعله لكان مريدا له لاستحالة أن يفعل مالا يريد ويدل على أن محبته لكون الفعل هي إرادته له أنه غير جائز أن يجب كونه ولا يريد أن يكون بل يكره أن يكون وهذا هو التناقض كما لو قال يريد الفعل ويكرهه لكان مناقضا مختلا في كلامه ويدل عليه قوله تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم والمعنى إن الذين يريدون فدل على أن المحبة هي الإرادة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الله أحب لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال فجعل الكراهة في مقابلة المحبة فدل أن ما أراده فقد أحبه كما أن ما كرهه فلم يرده إذ كانت الكراهة في مقابلة الإرادة كما هي في مقابلة المحبة فلما كانت الكراهة نقيضا لكل واحدة من الإرادة والمحبة دل على أنهما سواء قوله تعالى فاعلموا أن الله عزيز حكيم فإن العزيز هو المنيع القادر على أن يمنع ولا يمنع لأن أصل العزة الامتناع ومنه يقال أرض عزاز إذا كانت ممتنعة بالشدة والصعوبة وأما الحكيم فإنه يطلق في صفة الله تعالى على معنيين أحدهما العالم إذا أريد به ذلك جاز أن يقال لم يزل حكيما والمعنى الآخر من الفعل المتقن المحكم وإذا أريد به ذلك لم يجز أن يقال لم يزل حكيما كما لا يجوز أن يقال لم يزل فاعلا فوصفه لنفسه بأنه حكيم يدل على أنه لا يفعل الظلم والسفه والقبائح ولا يريدها لأن من كان كذلك فليس بحكيم عند جميع أهل العقل وفيه دليل على بطلان قول أهل الجبر وقوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة هذا من المتشابه الذي أمرنا الله برده إلى المحكم في قوله هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه وإنما كان متشابها لاحتماله حقيقة اللفظ وإتيان الله واحتماله أن يريد أمر الله ودليل آياته كقوله في موضع آخر هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة او يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك فجميع هذه الآيات المتشابهة محمولة على ما بينه في قوله أو يأتي ربك لأن الله تعالى لا يجوز عليه الإتيان ولا المجيء ولا الانتقال ولا الزوال لأن ذلك من صفات الأجسام ودلالات الحدث وقال تعالى في آية محكمة ليس كمثله شيء وجعل إبراهيم عليه السلام ما شهده من حركات النجوم وانتقالها

دليلا على حدثها واحتج به على قومه فقال الله عز و جل وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه يعني في حدث الكواكب والأجسام تعالى الله عن قول المشبهة علوا كبيرا فإن قيل فهل يجوز أن يقال جاء ربك بمعنى جاء كتابه أو جاء رسوله أو ما جرى مجرى ذلك قيل له هذا مجاز والمجاز لا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه وقد قال تعالى واسأل القرية التي كنا فيها وهو يريد أهل القرية وقال إن الذين يؤذون الله ورسوله وهو يعني أولياء الله والمجاز إنما يستعمل في الموضع الذي يقوم الدليل على ا ستعماله فيه أو فيما لا يشتبه معناه على السامع وقوله عز و جل وإلى الله ترجع الأمور6 فيه وجهان أحدهما أنه لما كانت الأمور كلها قبل أن يملك العباد شيئا منها له خاصة ثم ملكهم كثيرا من الأمور ثم تكون الأمور كلها في الآخرة إليه دون خلقه جاز أن يقول ترجع إليه الأمور والمعنى الآخر أن يكون بمعنى قوله ألا إلى الله تصير الأمور يعني أنه لا يملكها غيره لا على أنها لم تكن إليه ثم صارت إليه لكن على أنه لا يملكها أحد سواه كما قال لبيد ... وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ...
وإنما عنى على أنه يصير رمادا لا على أنه كان رمادا مرة ثم رجع إلى ما كان قوله تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين الآية قيل فيه أنهم كانوا أمة واحدة على الكفر وإن كانوا مختلفين في مذاهبهم وجائز أن يكون فيهم مسلمون إلا أنهم قليلون في نفسهم وجائز إذا كان كذلك إطلاق اسم الأمة على الجماعة لانصرافه إلى الأعم الأكثر وقال قتادة والضحاك كانوا أمة واحدة على الحق فاختلفوا وقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فإن عبدالله بن طاوس يروي عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أن كل أمة أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ولليهود غد وللنصارى بعد غد وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه إلا أنه قال هدانا الله له يوم الجمعة لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ففي هذا الحديث أن المراد بقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه هو يوم الجمعة وعموم اللفظ يقتضي سائر الحق الذي هدي له المؤمنون ويكون يوم الجمعة أحدها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب

باب
من يبدأ به في النفقة عليه قال الله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية فالسؤال واقع عن مقدار ما ينفق والجواب صدر عن القليل والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة فقال تعالى قل ما أنفقتم من خير فذاك يتناول القليل والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق الذي يطلب به وجه الله وبين فيمن تصرف إليه بقوله فللوالدين والأقربين ومن ذكر في الآية وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس هو في منزلتهم بالقرب والفقر وقد بين في آية أخرى ما يجب عليه فيه النفقة وهو قوله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو فروي عن ابن عباس قال ما يفضل عن أهلك وقال قتادة العفو الفضل فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله وعلى هذا المعنى قال ص -
خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وفي خبر آخر خير الصدقة ما أبقت غنى وابدأ بمن تعول فهذا موافق لقوله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أخبار في التبدئة بالأقرب فالأقرب في النفقة فمنها حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول أمك وأبوك وأختك وأخوك وأدناك فأدناك وروى مثله ثعلبة بن زهدم وطارق عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقد دل ذلك على معنى الآية في قوله قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين وإنما المراد بها تقديم الأقرب فالأقرب في الإنفاق وروي عن الحسن البصري أن الآية في الزكاة والتطوع جميعا وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه وقال السدي هي منسوخة بفرض الزكاة قال أبو بكر هي ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع أما الفرض فلم يرد به الوالدين ولا الولد وإن سلفوا لقيام الدلالة عليه وأما التطوع فهي عامة في الجميع ومتى أمكننا استعمالها مع فرض الزكاة فغير جائز الحكم بنسخها وكذلك حكم سائر الآيات متى أمكن الجمع بين جميعها في أحكامها من غير إثبات نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخ شيء منها وليس يمتنع أن يكون المراد به النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين وذلك إذا كان الرجل غنيا لأن قوله تعالى قل العفو قد دل على أن النفقة إنما تجب عليه فيما يفضل فإذا كان هو وعياله محتاجين لا يفضل عنهم شيء فليس عليه نفقة وقد دلت الآية على معان منها أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله وينتظم

ذلك الصدقات من النوافل والفروض ومنها أن الأقرب فالأقرب أولى بذلك بقوله فللوالدين والأقربين مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم - لمراد الله بقوله ابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك وفيه الدلالة على وجوب نفقة الوالدين والأقربين عليه فإن قيل فينغبي أن يلزمه نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكر في الآية قيل له قد اقتضى ظاهرها ذلك وخصصنا بعضها من النفقة التي تستحقها الأقارب بدلالة وهم داخلون في الزكاة والتطوع وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا سفيان عن مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبي هريرة قال دينار أعطيته في سبيل الله ودينار أعطيته مسكينا ودينار أعطيته في رقبة ودينار أنفقته على أهلك فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا وقد روي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا المسعودي عن مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن عبدالله بن زيد عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله كانت له صدقة فهذه الآثار موافقة لمعنى قوله يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو وقد اختلف في المراد به فقال ابن عباس وقتادة الفضل عن الغنى قال الحسن وعطاء الوسط من غير إسراف وقال مجاهد أراد به الصدقة المفروضة قال أبو بكر إذا كان العفو ما فضل فجائز أن يريد به الزكاة المفروضة في أنها لا تجب إلا فيما فضل عن مقدار الحاجة وحصل به الغنى وكذلك سائر الصدقات الواجبة ويجوز أن يريد به صدقة التطوع فيتضمن ذلك الأمر بالإنفاق على نفسه وعياله والأقرب فالأقرب منه ثم بعد ذلك ما يفضل يصرفه إلى الأجانب ويحتج به في أن صدقة الفطر وسائر الصدقات لا تجب على الفقير إذ كان الله تعالى إنما أمرنا بالإنفاق من العفو والفاضل عن الغنى
قوله تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم هذا يدل على فرض القتال لأن قوله كتب عليكم بمعنى فرض عليكم كقوله كتب عليكم الصيام ثم لا يخلو القتال المذكور في الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرفه المخاطبون أو لم يرجع إلى معهود لأن الألف واللام تدخلان للجنس أو للمعهود فإن كان المراد قتالا قد عرفوه رجع الكلام

إليه نحو قوله تعالى وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم فإن كان كذلك فإنما هو أمر بقتال على وصف وهو أن نقاتل المشركين إذا قاتلونا فيكون حينئذ كلاما مبنيا على معهود قد علم حكمه مكرر ذكره تأكيدا وإن لم يكن راجعا إلى معهود فهو لا محالة مجمل مفتقر إلى البيان وذلك أنه معلوم عند وروده أنه لم يأمرنا بقتال الناس كلهم فلا يصح اعتقاد العموم فيه ومالا يصح اعتقاد العموم فيه فهو مجمل مفتقر إلى البيان وسنبين اختلاف أهل العلم في فرض الجهاد وكيفيته عند مصيرنا إلى قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إن شاء الله تعالى وقوله وهو كره لكم معناه مكروه لكم أقيم فيه المصدر مقام المفعول كقولك فلان رضي أي مرضي وقوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام قد تضمنت هذه الآية تحريم القتال في الشهر الحرام ونظيره في الدلالة عل مثله قوله الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وقوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن الليث بن سعد قال حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبدالله قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ وقد اختلف في نسخ ذلك فقالت طائفة حكمه باق لم ينسخ وممن قال ذلك عطاء بن أبي رباح حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال قلت لعطاء مالهم أن ذلك لم يكن يحل لهم أن يغزوا في الشهر الحرام ثم غزوهم بعد فيه قال فحلف لي ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا قال وما نسخت وروى سليمان بن يسار وسعيد بن المسيب أن القتال جائز في الشهر الحرام وهو قول فقهاء الأمصار والأول منسوخ بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية لأنها نزلت بعد حظر القتال في الشهر الحرام وقد اختلف في السائلين عن ذلك من هم فقال الحسن وغيره إن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن ذلك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام وقال آخرون المسلمون سألوا

عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه وقيل أنها نزلت على سبب وهو قتل واقد بن عبدالله بن عمرو بن الحضرمي مشركا فقال المشركون قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر فأعلمهم الله تعالى بقاء حظر القتال في الشهر الحرام وأرى المشركين مناقضة بإقامتهم على الكفر مع استعظامهم القتل في الشهر الحرام مع أن الكفر أعظم الإجرام ومع إخراج أهل المسجد الحرام منه وهم المؤمنون لأنهم أولى بالمسجد الحرام من الكفار لقوله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر فأعلمهم الله أن الكفر بالله وبالمسجد الحرام وهو أن الله جعل المسجد للمؤمنين ولعبادتهم إياه فيه فجعلوه لأوثانهم ومنعوا المسلمين منه فكان ذلك كفرا بالمسجد الحرام وأخرجوا أهله منه وهم المؤمنون لأنهم أولى به من الكفار فأعلمهم الله أن الكفار مع هذه الإجرام أولى بالعيب من قتل رجل من المشركين في الشهر الحرام والله سبحانه وتعالى أعلم تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب تحريم الخمر

بسم الله الرحمن الرحيم
باب
تحريم الخمر قال الله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافية مغنية وذلك لقوله قل فيهما إثم كبير والإثم كله محرم بقوله تعالى قال إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم فأخبر أن الإثم محرم ولم يقتصر على إخباره بأن فيها أثما حتى وصفه بأنه كبير تأكيدا لحظرها وقوله ومنافع للناس لا دلالة فيه على إباحتها لأن المراد منافع الدنيا وأن في سائر الحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم إلا أن تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها فذكره لمنافعها غير دال على إباحتها لا سيما وقد أكد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية وإثمهما أكبر من نفعهما يعني أن ما يستحق بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي ينبغي منهما وبما نزل في شأن الخمر قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وليس في هذه الآية دلالة على تحريم ما لم يسكر منها وفيها الدلالة على تحريم ما يسكر منها لأنه إذا كانت الصلاة فرضا نحن مأمورون بفعلها في أوقاتها فكل ما أدى إلى المنع منها فهو محظور فإذا كانت الصلاة ممنوعة في حال السكر وكان شربها مؤديا إلى ترك الصلاة كان محظورا لأن فعل ما يمنع من الفرض محظور ومما نزل في شأن الخمر مما لا مساغ للتأويل فيه قوله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إلى قوله فهل أنتم منتهون فتضمنت هذه الآيات ذكر تحريمها من وجوه أحدها قوله رجس من عمل الشيطان وذلك لا يصح إطلاقه إلا فيما كان محظورا محرما ثم أكده بقوله فاجتنبوه وذلك أمر يقتضي لزوم اجتنابه ثم قال تعالى فهل أنتم منتهون ومعناه فانتهوا فإن قيل ليس في قوله تعالى فيهما إثم كبير دلالة على تحريم القليل منها لأن مراد الآية ما يلحق من المأثم بالسكر وترك الصلاة والمواثبة

والقتال فإذا حصل المأثم بهذه الأمور فقد وفينا ظاهر الآية مقتضاها من التحريم ولا دلالة على تحريم القليل منها قيل له معلوم أن في مضمون قوله فيهما إثم كبير ضمير شربها لأن جسم الخمر هو فعل الله تعالى ولا مأثم فيها وإنما المأثم مستحق بأفعالنا فيها فإذا كان الشرب مضمرا كان تقديره في شربها وفعل الميسر إثم كبير فيتناول ذلك شرب القليل منها والكثير كما لو حرمت الخمر لكان معقولا أن المراد به شربها والانتفاع بها فيقتضي ذلك تحريم قليلها وكثيرها وقد روى في ذلك حديث حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير قال الميسر هو القمار كان الرجل في الجاهليةيخاطر على أهله وماله وقال وقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها ثم أن ناسا من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضا وتكلموا بما لا يرضي الله عز و جل فأنزل الله إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه قال فالميسر القمار والأنصاب الأوثان والأزلام القداح كانوا يستقسمون بها قال وحدثناأبو عبيد قال حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فقال اللهم بين لنا في الخمر فنزلت قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما فقال اللهم بين لنا في الخمر فنزلت إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إلى قوله فهل أنتم منتهون فقال عمر انتهينا إنها تذهب المال وتذهب العقل قال وحدثنا لأبو عبيدالله هشيم قال أخبرنا المغيرة عن أبي رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي نزلت في البقرة وبعد الآية التي في النساء فكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت تركوها ثم حرمت في المائدة في قوله فهل أنتم منتهون فانتهى القوم عنها فلم يعودوا فيها فمن الناس من يظن أن قوله قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس لم يدل على التحريم لأنه لو كان دالا لما شربوه ولما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم -
ولما سئل عمر البيان بعده وليس هذا كذلك عندنا وذلك لأنه جائز أن يكونوا تأولوا في قوله

ومنافع للناس جواز استباحة منافعها فإن الإثم مقصور على بعض الأحوال دون بعض فإنما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل وأما قوله إنها لو كانت حراما لما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم -
على شربها فإنه ليس في شيء من الأخبار علم النبي ص - بشربها ولا إقرارهم عليه بعد علمه وأما سؤال عمر رضي الله عنه بيانا بعد نزول هذه الآية فلأنه كان للتأويل فيه مساغ وقد علم هو وجه دلالتها على التحريم ولكنه سأل بيانايزول معه احتمال التأويل فأنزل الله تعالى إنما الخمر والميسر الآية ولم يختلف أهل النقل في أن الخمر قد كانت مباحة في أول الإسلام وأن المسلمين قد كانوا يشربونها بالمدينة ويتبايعون بها مع علم النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك وإقرارهم عليه إلى أن حرمها الله تعالى فمن الناس من يقول إن تحريمها على الإطلاق إنما ورد في قوله إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه الى قوله فهل أنتم منتهون وقد كانت محرمة قبل ذلك في بعض الأحوال وهي أوقات الصلاة بقوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وأن بعض منافعها قد كان مباحا وبعضها محظورا بقوله قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس إلى أن أتم تحريمها بقوله فاجتنبوه وقوله فهل أنتم منتهون وقد بينا ما يقتضيه ظاهر كل واحد من حكم الآيات من حكم التحريم وقد اختلف فيما يتناوله اسم الخمر من الأشربه فقال الجمهور الأعظم من الفقهاء اسم الخمر في الحقيقة يتناول الني المشتد من ماء العنب وزعم فريق من أهل المدينة ومالك والشافعي أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فهو خمر والدليل على أن اسم الخمر مخصوص بالني المشتد من ماء العنب دون غيره وأن غيره إن سمي بهذا الاسم فإنما هو محمول عليه ومشبه به على وجه المجاز حديث أبي سعيد الخدري قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم - بنشوان فقال له أشربت خمرا فقال ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله قال فماذا شربت قال الخليطين قال فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الخليطين فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي ص - فلم ينكره عليه ولو كان ذلك يسمى خمرا من جهة لغة أو شرع لما أقره عليه إذ كان في نفي التسمية التي علق بها حكم نفي الحكم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يقر أحدا على حظر مباح ولا على استباحة محظور وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر منتف على سائر الأشربة إلا من الني المشتد من ماء العنب لأنه إذا كان الخليطان لا يسميان خمرا مع وجود قوة الإسكار منهما علمنا أن الاسم مقصور على ما وصفنا ويدل عليه

ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا عبدالرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الأشربة عام حجة الوداع فقال حرام الخمر بعينها والسكر من كل شراب قال عبدالباقي وحدثنا محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا شعيب بن واقد قال حدثنا قيس عن قطن عن منذر عن محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا شعيب بن واقد قال حدثنا قيس عن قطن عن منذر عن محمد بن الحنفية عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا عياش بن الوليد قال حدثنا علي بن عباس قال حدثنا سعيد بن عمارة قال حدثنا الحارث بن النعمان قال سمعت أنس بن مالك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال الخمر بعينها حرام والسكر من كل شراب وقد روى عبدالله بن شداد عن ابن عباس من قوله مثل ذلك وروى عنه أيضا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد حوى هذا الخبر معاني منها أن اسم الخمر مخصوص بشراب بعينه دون غيره وهو الذي لم يختلف في تسميته بها دون غيرها من ماء العنب وأن غيرها من الأشربة غير مسمى بهذا الاسم لقوله والسكر من كل شراب وقد دل أيضا على أن المحرم من سائر الأشربة هو ما يحدث عنده السكر لولا ذلك لما اقتصر منها على السكر دون غيره ولما فصل بينها وبين الخمر في جهة التحريم ودل أيضا على أن تحريم الخمر حكم مقصور عليها غير متعد إلى غيرها قياسا ولا استدلالا إذ علق حكم التحريم بعين الخمر دون معنى فيها سواها وذلك ينفي جواز القياس عليها لأن كل أصل ساغ القياس عليه فليس الحكم المنصوص عليه مقصورا عليه ولا متعلقا به بعينه بل يكون الحكم منصوبا على بعض أوصافه مما هو موجود في فروعه فييكون الحكم تابعا للوصف جاريا معه في معلولاته ومما يدل على أن سائر الأشربة المسكرة لا يتناولها اسم الخمر قوله ص - في حديث أبي هريرة عنه الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة فقوله الخمر اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه فاستوعب به جميع ما يسمى بهذا الاسم فلم يبق شيء من الأشربة يسمى به إلا وقد استغرقه ذلك فانتفى بذلك أن يكون ما يخرج من غير هاتين الشجرتين يسمى خمرا ثم نظرنا فيما يخرج منهما هل جميع الخارج منهما مسمى باسم الخمر أم لا فلما اتفق الجميع على أن كال ما يخرج منهما من الأشربة غير مسمى باسم الخمر لأن العصير والدبس والخل ونحوه من هاتين الشجرتين ولا يسمى شيء معه خمرا علمنا أن مراده بعض الخارج من هاتين الشجرتين

وذلك البعض غير مذكور في الخبر فاحتجنا إلى الاستدلال على مراده من غيره في إثبات اسم الخمر للخارج منهما فسقط الاحتجاج به في تحريم جميع الخارج منهما وتسميته باسم الخمر ويحتمل مع ذلك أن يكون مراده أن الخمر أحدهما كقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان و يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم والمراد أحدهما فكذلك جائز أن يكون المراد في قوله الخمر من هاتين الشجرتين أحدهما فإن كان المراد هما جميعا فإن ظاهر اللفظ يدل على أن المسمى بهذا الاسم هو أول شراب يصنع منهما لأنه لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله من هاتين الشجرتين بعض كل واحدة منهما لاستحالة كون بعضها خمرا دل على أن المراد أول خارج منهما من الأشربة لأن من يعتورها معان في اللغة منها التبعيض ومنها الابتداء كقولك خرجت من الكوفة وهذا كتاب من فلان وما جرى مجرى ذلك فيكون معنى من في هذا الموضع على ابتداء ما يخرج منهما وذلك إنما يتناول العصير المشتد والدبس السائل من النخل إذا اشتد ولذلك قال أصحابنا فيمن حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئا أنه على رطبها وتمرها ودبسها لأنهم حملوا من ما ذكرنا من الابتداء قال أبو بكر ويدل على ما ذكرنا اسم الخمر عن سائر الأشربة إلا ما وصفنا ما روي عن ابن عمر أنه قال لقد حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة يومئذ منها شيء وابن عمر رجل من أهل اللغة ومعلوم أنه قد كان بالمدينة السكر وسائر الأنبذة المتخذة من التمر لأن تلك كانت أشربتهم ولذلك قال جابر بن عبدالله نزل تحريم الخمر وما يشرب الناس يومئذ إا البسر والتمر وقال أنس بن مالك كنت ساقي عمومتي من الأنصار حين نزل تحريم الخمر فكان شرابهم يومئذ الفضيح فلما سمعوا أراقوها فلما نفى ابن عمر اسم الخمر عن سائر الأشربة التي كانت بالمدينة دل ذلك على أن الخمر عنده كانت شراب العنب الني المشتد وأن ما سواها غير مسمى بهذا الاسم ويدل عليه أن العرب كانت تسمى الخمر سبيئة ولم تكن تسمى بذلك سائر الأشربة المتخذة من تمر النخل لأنها كانت تجلب إليها من غير بلادها ولذلك قال الأعشى ... وسبيئة مما يعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها ...
وتقول سبأت الخمر إذا شريتها فنقلوا الاسم إلى المشترى بعد أن كان الأصل إنما هو يجلبها من موضع إلى موضع على عادتها في الاتساع في الكلام ويدل عليه أيضا قول

أبي الأسود الدؤلي وهو رجل من أهل اللغة حجة فيما قال منها فقال ... دع الخمر تشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيا لمكانها ... فإن لا تكنه أو يكنها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها ...
فجعل غيرها من الأشربة أخالها بقوله رأيت أخاها مغنيا لمكانها ومعلوم أنه لو كان يسمى خمرا لما سماه أخا لها ثم أكده بقوله فإن لا تكنه أو يكنها فإنه أخوها فأخبر أنها ليست هو فثبت بما ذكرنا من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة وأهل اللغة أن اسم الخمر مخصوص بما وصفنا ومقصور عليه دون غيره ويدل على ذلك أنا وجدنا بلوى أهل المدينة بشرب الأشربة المتخذة من التمر والبسر كانت أعم منها بالخمر وإنما كانت بلواهم بالخمر خاصة قليلة لقلتها عندهم فلما عرف الكل من الصحابة تحريم الني المشتد واختلفوا فيما سواها وروي عن عظماء الصحابة مثل عمر وعبدالله وأبي ذر وغيرهم شرب النبيذ الشديد وكذلك سائر التابعين ومن بعدهم من أخلافهم من الفقهاء من أهل العراق لا يعرفون تحريم هذه الأشربة ولا يسمونها باسم الخمر بل ينفونه عنها دل ذلك على معنيين أحدهما أن اسم الخمر لا يقع عليها ولا يتناولها لأن الجميع متفقون على ذم شارب الخمر وأن جميعها محرم محظور والثاني أن النبيذ غير محرم لأنه لو كان محرما لعرفوا تحريمها كمعرفتهم بتحريم الخمر إذ كانت الحاجة إلى معرفة تحريميها أمس منها إلى معرفة تحريم الخمر لعموم بلواهم بها دونها وما عمت البلوى من الأحكام فسبيل وروده نقل التواتر الموجب للعلم والعمل وفي ذلك دليل على أن تحريم الخمر لم يعقل به تحريم هذه الأشربة ولا عقل الخمر اسما لها واحتج من زعم أن سائر الأشربة التي يسكر كثير ها خمر بما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال كل مسكر خمر وبما روي عن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الخمر من خمسة أشياء التمر والعنب والحنطة والشعير والعسل وروي عن عمر من قوله نحوه وبما روي عن عمر الخمر ما خامر العقل وبما روي عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال كل مخمر خمر وكل مسكر حرام وبما روي عن أنس قال كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيح فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الأواني وكسروها وقالوا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم -
هذه الأشربة خمرا وكذلك عمر وأنس وعقلت الأنصار من تحريم الخمر تحريم الفضيح وهو نقيع البسر ولذلك

أراقوها وكسروا الأواني ولا تخلو هذه التسمية من أن تكون واقعة على هذه الأشربة من جهة اللغة أو الشرع وأيهما كان فحجته ثابتة والتسمية صحيحة فثبت بذلك أن ما أسكر من الأشربة كثيره فهو خمر وهو محرم بتحريم الله إياها من طريق اللفظ والجواب عن ذلك وبالله التوفيق أن الأسماء على ضربين ضرب سمي به الشيء حقيقة لنفسه وعبارة عن معناه والضرب الآخر ما سمي به الشيء مجازا فأما الضرب ألأول فواجب استعماله حيث ما وجد وأما الضرب الآخر فإنما يجب استعماله عند قيام الدلالة عليه نظير الضرب الأول قوله تعالى يريد الله ليبين لكم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فأطلق لفظ الإرادة في هذا الموضع مجاز لا حقيقة ونحو قوله إنما الخمر والميسر فاسم الخمر في هذا الموضع حقيقة فيما أطلق فيه وقال في موضع آخر إني أراني أعصر خمرا فأطلق اسم الخمر في هذا الموضع مجازا لأنه إنما يعصر العنب لا الخمر ونحو قوله ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها فاسم القرية فيها حقيقة وإنما أراد البنيان ثم قوله واسئل القرية التي كنا فيها مجاز لأنه لم يرد بها ما وضع اللفظ له حقيقة وإنما أراد أهلها وتنفصل الحقيقة من المجاز بأن ما لزم مسمياته فلم ينتف عنه بحال فهو حقيقة فيه وما جاز انتفاؤه عن مسمياته فهو مجاز ألا ترى أنك إذا قلت أنه ليس للحائط إرادة كنت صادقا ولو قال قائل إن الله لا يريد شيئا أو الإنسان العاقل ليست له إرادة كان مبطلا في قوله وكذلك جائز أن تقول إن العصير ليس بخمر وغير جائز أن يقال أن الني المشتد من ماء العنب ليس بخمر ونظائر ذلك كثيرة في اللغة والشرع والأسماء الشرعية في معنى أسماء المجاز لا تتعدى بها مواضعها التي سميت بها فلما وجدنا اسم الخمر قد ينتفي عن سائر الأشربة سوى الني المشتد من ماء العنب علمنا أنها ليست بخمر في الحقيقة والدليل على جواز انتفاء اسم الخمر عما وصفنا حديث أبي سعيد الخدري قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بنشوان فقال أشربت خمرا فقال والله ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله قال فماذا شربت قال شربت الخليطين فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم - الخليطين يومئذ فنفى اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم -
فأقره عليه ولم ينكره فدل ذلك على أنه ليس بخمر وقال ابن عمر حرمت الخمر وما بالمدينة يومئذ منها شيء فنفى اسم الخمر عن أشربة تمر

النخل مع وجودها عندهم يومئذ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - الخمر من هاتين الشجرتين وهو أصح إسنادا من الأخبار التي ذكر فيما أن الخمر من خمسة أشياء فنفى بذلك أن يكون ما خرج من غيرهما خمرا إذ كان قوله الخمر من هاتين الشجرتين اسما للجنس مستوعبا لجميع ما يسمى بهذا الاسم فهذا الخبر معارض ما روي من أن الخمر من خمسة أشياء وهو أصح إسنادا منه ويدل عليه انه لا خلاف أن مستحل الخمر كافر وأن مستحل هذه الأشربة لا تلحقه سمة الفسق فكيف بأن يكون كافرا فدل ذلك على أنها ليست بخمر في الحقيقة ويدل عليه أن خل هذه الأشربة لا يسمى خل خمر وأن خل الخمر هو الخل المستحيل من ماء العنب الني المشتد فإذا ثبت بما ذكرنا انتفاء اسم الخمر عن هذه الأشربة ثبت أنه ليس باسم لها في الحقيقة وأنه إن ثبت تسميتها باسم الخمر في حال فهو على جهة التشبيه بها عند وجود السكر منها فلم يجز أن يتناولها إطلاق تحريم الخمر لما وصفنا من أن أسماء المجاز لا يجوز دخولها تحت إطلاق أسماء الحقائق فينبغي أن يكون قوله الخمر من خمسة أشياء محمولا على الحال التي يتولد منها السكر فسماها باسم الخمر في تلك الحال لأنها قد عملت عمل الخمر في توليد السكر واستحقاق الحد ويدل عليه أن هذه التسمية إنما تستحقها في حال توليدها السكر قول عمر الخمر ما خامر العقل وقليل النبيذ لا يخامر العقل لأن ما خامر العقل هو ما غطاه وليس ذلك بموجود في قليل ما أسكر كثيره من هذه الأشربة وإذا ثبت بما وصفنا أن اسم الخمر مجاز في هذه الأشربة فلا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه فلا يجوز أن ينطوي تحت إطلاق تحريم الخمر ألا ترى أنه ص - قد سمى فرسا لأبي طلحة ركبة لفزع كان بالمدينة فقال وجدناه بحرا فسمى الفرس بحرا إذ كان جوادا واسع الخطو ولا يعقل بإطلاق اسم البحر الفرس الجواد وقال النابغة للنعمان بن المنذر ... فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
...
ولم تكن الشمس اسما له ولا الكواكب اسما للملوك فصح بما وصفنا ان اسم الخمر لا يقع على هذه الأشربة التي وصفنا وأنه مخصوص بماء العنب الني المشتد حقيقة وإنما يسمى به غيرها مجازا والله أعلم
باب تحريم الميسر
قال الله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير قال أبو بكر دلالته

على تحريم الميسر كهى على ما تقدم من بيانه ويقال أن اسم الميسر في أصل اللغة إنما هو للتجزئة وكل ما جزأته فقد يسرته يقال للجاز الياسر لأنه يجزىء الجزور والميسر الجزور نفسه إذا تجزى وكانوا ينحرون جزورا ويجعلونه أقساما يتقامرون عليها بالقداح على عادة لهم على ذلك فكل من خرج له قدح نظروا إلى ما عليه من السمة فيحكمون له بما يقتضيه أسماء القداح فسمي على هذا سائر ضروب القمار ميسرا وقال ابن عباس وقتادة ومعاوية بن صالح وعطاء وطاوس ومجاهد الميسر القمار وقال عطاء ةطاوس ومجاهد حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز وروي عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجر ا فإنها من الميسر وروى سعيد بن أبي هند عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لرجل إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا فارتفعا إلى علي فقال هذا قمار ولم يجزه ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم القمار وأن المخاطرة من القمار قال ابن عباس إن المخاطرة فمار وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة وقد كان ذلك مباحا إلى أن ورد تحريمه وقد خاطر أبو بكر الصديق المشركين حين نزلت ألم غلبت الروم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم - زد في الخطر وابعد في الأجل ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمارولا خلاف في حظره إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق في الدواب والإبل والنصال إذا كان الذي يستحق واحدا إن سبق ولا يستحق الآخر إن سبق وإن شرط أن من سبق منهما أخذ ومن سبق أعطى فهذا باطل فإن أدخلا بينهما رجلا إن سبق استحق وإن سبق لم يعط فهذا جائز وهذا الدخيل الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم - محللا وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه سابق بين الخيل وإنما خص ذلك لأن فيه رياضة للخيل وتدريبا لها على الركض وفيه استظهار وقوة على العدو قال الله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة روى أنها الرمي ومن رباط الخيل فظاهر قوله ومن رباط الخيل يقتضي جواز السبق بها لما فيه من القوة على العدو وذلك الرمي وما ذكره الله تعالى من تحريم الميسر وهو القمار يوجب تحريم القرعة في العبيد يعتقهم المريض ثم يموت لما فيه من القمار وإحقاق بعض وإنجاح بعض وهذا هو معنى

القمار بعينه وليست القرعة في القسمة كذلك لأن كل واحد يستوفى في نصيبه لا يحقق واحد منهم والله أعلم
باب
التصرف في مال اليتيم قال الله تعالى ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم قال أبو بكر اليتيم المنفرد عن أحد أبويه فقد يكون يتيما من الأم مع بقاء الأب وقد يكون يتيما من الأب مع بقاء الأم إلا أن الأظهر عند الإطلاق هو اليتيم من الأب وإن كانت الأم باقية ولا يكاد يوجد إلإطلاق في اليتيم من الأم إذا كان الأب باقيا وكذلك سائر ما ذكر الله من أحكام الأيتام إنما المراد بها الفاقدون لآبائهم وهم صغار ولا يطلق ذلك عليهم بعد البلوغ إلا على وجه المجاز لقرب عهدهم باليتيم والدليل على أن اليتيم اسم للمنفرد تسميتهم للمرأة المنفردة عن الزوج يتيمة سواء كانت كبيرة أو صغيرة قال الشاعر ... إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى ...
وتسمى الرابية يتيمة لانفرادها عما حواليها قال الشاعر يصف ناقته ... قوداء تملك رحلها ... مثل اليتيم من الأرانب ...
يعني الرابية ويقال درة يتيمة لأنها مفردة لا نظير لها وكتاب لابن المقفع في مدح أبي العباس السفاح واختلاف مذاهب الخوارج وغيرهم يسمى اليتيمة قال أبو تمام ... وكثير عزة يوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة يسهب ...
وإذا كان اليتيم اسما للانفراد كان كاملا لمن فقد أحد أبويه صغيرا أو كبيرا إلا أن الانطلاق إنما يتناول ما ذكرنا من فقد الأب في حال الصغر حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز و جل ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير قال الله تعالى لما أنزل إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم وتحرجوا أن يخالطوهم وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم -
عنه فأنزل الله يسألونك عن اليتامى الى قوله ولو شاء الله لأعنتكم قال لو شاء الله لأخرجكم وضيق عليكم ولكنه وسع ويسر فقال ومن

كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ويروى ذلك موقوفاعلى عمر وعن عمر وعائشة وابن عمر وشريح وجماعة من التابعين دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة به وقد حوت هذه الآية ضرويا من الأحكام أحدها قوله قل إصلاح لهم خير فيه الدلالة على جواز خلط ماله بماله وجواز التصرف فيه بالبيع والشرى إذا كان ذلك صلاحا وجواز دفعه مضاربة إلى غيره وجواز أن يعمل ولي اليتيم مضاربة أيضا وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد وغالب الظن ويدل على أن لولي اليتيم أن يشتري من ماله لنفسه إذا كان خير لليتيم وذلك بأن ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة مما يخرج عن ملكه وهو قول أبي حنيفة ويبيع أيضا من مال نفسه لليتيم لأن ذلك من الإصلاح له ويدل أيضا على أن له تزويج اليتيم إذا كان ذلك من الإصلاح وذلك عندنا فيمن كان ذا نسب منه دون الوصي الذي لا نسب بينه وبينه لأن الوصية نفسها لا يستحق بها الولاية في التزويج ولكنه قد اقتضى ظاهره أن للقاضي أن يزوجه ويتصرف في ماله على وجه الإصلاح ويدل على أن له أن يعلمه ما له فيه صلاح من أمر الدين والأدب ويستأجر له على ذلك وأن يؤاجره ممن يعلمه الصناعات والتجارات ونحوها لأن جميع ذلك قد يقع على وجه الإصلاح ولذلك قال أصحابنا إن كل من كان اليتيم في حجره من ذوي الرحم المحرم فله أن يؤاجره ليعلم الصناعات وقال محمد له أن ينفق عليه من ماله وقالوا أنه إذا وهب لليتيم مال فلمن هو في حجره ان يقبضه له لما له فيه من الإصلاح فظاهر الآية قد اقتضى جميع ذلك كله وقوله ويسألونك عن اليتامة قل إصلاح لهم خير إنما عنى بالمضمرين في قوله ويسألونك القوام على الأيتام الكافلين لهم وذلك ينتظم كل ذي رحم محرم لأن له إمساك اليتيم وحفظه وحياضته وحضانته وقد انتظم قوله قل إصلاح لهم خير سائر الوجوه التي ذكرنا من التصرف في ماله على وجه الإصلاح والتزويج والتقويم والتأديب وقوله خير قد دل على معان منها إباحة التصرف على اليتامى من الوجوه التي ذكرنا ومنها أن ذلك مما يستحق به الثواب لأنه سماه خيرا وما كان خيرا فإنه يستحق به الثواب ومنها أنه لم يوجبه وإنما وعد به الثواب فدل على أنه ليس بواجب عليه التصرف في ماله بالتجارة ولا هو مجبر على تزويجه

لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده الندب والإرشاد وقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم فيه إباحة خلط ماله بماله والتجارة والتصرف فيه ويدل على أنه له أن يخالط اليتيم بنفسه في الصهر والمناكحة وأن يزوجه أو يزوج اليتيمة بعض ولده فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله واختلط هو بهم فقد انتظم قوله وإن تخالطوهم إباحة خلط ماله بماله والتصرف فيه وجواز تزويجه بعض ولده ومن يلي عليه فيكون قد خلطه بنفسه والدليل على أن اسم المخالطة يتناول جميع ذلك قولهم فلان خليط فلان إذا كان شريكا وإذا كان يعامله ويبايعه ويشاريه ويداينه وإن لم يكن شريكا وكذلك يقال قد اختلط فلان بفلان إذا صاهره وذلك كله مأخوذ من الخلطة التي هي الاشتراك في الحقوق من غير تمييز بعضهم من بعض فيها وهذه المخالطة معقودة بشريطة الإصلاح من وجهين أحدهما تقديمه ذكر الإصلاح فيما أجاب به من أمر اليتامى والثاني قوله عقيب ذكر المخالطة والله يعلم المفسد من المصلح وإذا كانت الآية قد انتظمت جواز خلطه مال اليتيم بماله في مقدار ما يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس فقد دل على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه وقد يختلف أكل الناس فإذا كان الله قد أباح في أموال الأيتام فهو في مال العقلاء البالغين بطيبة أنفسهم أجوز ونظيره في تجويزه المناهدة قوله تعالى في قصة أهل الكهف فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فكان الورق لهم جميعا لقوله بورقكم فأضافه إلى الجماعة وأمره بالشراء ليأكلوا جميعا منه وقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم قد دل على ما ذكرنا من جواز المشاركة والخلطة على أنه يستحق الثواب بما يتحرى فيه الإصلاح من ذلك لأن قوله فإخوانكم قد دل على ذلك إذ هو مندوب إلى معونة أخيه وتحرى مصالحه لقوله تعالى إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه فقد انتظم قوله فإخوانكم الدلالة على الندب والإرشاد واستحقاق الثواب بما يليه منه وقوله ولو شاء الله لأعنتكم يعني به لضيق عليكم في التكليف فيمنعكم من مخالطة الأيتام والتصرف لهم في أموالهم ولأمركم بإفراد أموالكم عن أمولهم أو لأمركم على جهة الإيجاب بالتصرف لهم وطلب الأرباح بالتجارات لهم ولكنه وسع ويسر وأباح لكم التصرف لهم على وجه الإصلاح ووعدكم

الثواب عليه ولم يلزمكم ذلك على جهة الإيجاب فيضيق عليكم تذكيرا بنعمه وإعلاما منه اليسر والصلاح لعباده وقوله فإخوانكم يدل على أن أطفال المؤمنين هم مؤمنون في الأحكام لأن الله تعالى سماهم إخوانا لنا والله تعالى قد قال إنما المؤمنون إخوة والله تعالى أعلم
باب
نكاح المشركات قال الله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال ثم استثنى أهل الكتاب فقال والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان قال عفائف غير زوان فأخبر ابن عباس أن قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن مرتب على قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وأن الكتابيات مستثنيات منهن وروي عن ابن عمر أنها عامة في الكتابيات و غيرهن حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب وكره نكاح نسائهم قال أبو عبيد وحدثنا عبدالله بن صالح عن الليث قال حدثني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال إن الله حرم المشركات على المسلمين قال فلا أعلم من الشرك شيئا أكبر أو قال أعظم من أن تقول ربها عيسى أو عبد من عبيد الله فكرهه في الحديث الأول ولم يذكر التحريم وتلا في الحديث الثاني الآية ولم يقطع فيها بشيء وأخبر أن مذهب النصارى شرك قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا علي بن سعد عن أبي المليح عن ميمون ابن مهران قال قلت لابن عمر إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب فننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فقرأ علي أية التحليل وآية التحريم قال قلت أني أقرأ ما تقرأ فننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فأعاد على آية التحليل وآية التحريم قال أبو بكر عدوله بالجواب بالإباحة والحظر إلى تلاوة الآية دليل على أنه كان واقفا في الحكم غير قاطع فيه بشيء وما ذكر عنه من الكراهة يدل على أنه ليس على وجه التحريم كما يكره تزوج نساء أهل

الحرب من الكتابيات لا على وجه التحريم وقد روي عن جماعة من ال الصحابة والتابعين إباحة نكاح الكتابيات حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثني سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن عمر مولى عفرة قال سمعت عبدالله بن علي بن السائب يقول إن عثمان تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية على نسائه وبهذا الإسناد من غير ذكر نافع أن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية من أهل الشام وروي عن حذيفة أيضا أنه تزوج يهودية وكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه حذيفة أحرام هي فكتب إليه عمر لا ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن وروي عن جماعة من التابعين إباحة تزويج الكتابيات منهم الحسن وإبراهيم والشعبي ولا نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين تحريم نكاحهن وما روي عن ابن عمر فيه فلا دلالة فيه على أنه رآه محرما وإنما فيه عنه الكراهة كما روي كراهة عمر لحذيفة تزويج الكتابية من غير تحريم وقد تزوج صعثمان وطلحة وحذيفة الكتابيات ولو كان ذلك محرما عند الصحابة لظهر منهم نكير أو خلاف وفي ذلك دليل على اتفاقهم على جوازه وقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن غير موجب لتحريم الكتابيات من وجهين أحدهما أن ظاهر لفظ المشركات إنما يتناول عبدة الأوثان منهم عند الإطلاق ولا يدخل فيه الكتابيات إلا بدلالة ألا ترى إلى قوله ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم وقال لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ففرق بينهم في اللفظ وظاهره يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه إلا أن تقوم الدلالة على شمول الاسم للجميع وأنه أفرد بالذكر لضرب من التعظيم أو التأكيد كقوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فأفردهما بالذكر تعظيما لشأنهما مع كونهما من جملة الملائكة إلا أن الأظهر أن المعطوف غير المعطوف عليه إلا أن تقوم الدلالة على أنه من جنسه فاقتضى عطفه أهل الكتاب على المشركين أن يكونوا غيرهم وأن يكون التحريم مقصورا على عبدة الأوثان من المشركين والوجه الآخر أنه لو كان عموما في الجميع لوجب أن يكون مرتبا على قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وأن لا تنسخ إحداهما بالأخرى ما أمكن استعمالهما فإن قيل قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من

قبلكم إنما أراد به اللاتي أسلمن من أهل الكتاب كقوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وقوله من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون قيل له هذا خلف من القول دال على غباوة قائله والمحتج به وذلك من وجهين أحدهما أن هذا الاسم إذا أطلق فإنما يتناول الكفار منهم كقوله من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وقوله ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك وما جرى مجرى ذلك من الألفاظ المطلقة فإنما يتناول اليهود والنصارى ولا يعقل به من كان من أهل الكتاب فأسلم إلا بتقييد ذكر الإيمان ألا ترى أن الله تعالى لما أراد به من أسلم منهم ذكر الإسلام مع ذكره أنهم من أهل الكتاب فقال ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله واليوم الآخر والوجه الآخر أنه ذكر في الآية المؤمنات وقد انتظم ذكر المؤمنات اللاتي كن من أهل الكتاب فأسلمن ومن كن مؤمنات في الأصل لأنه قال والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فكيف يجوز أن يكون مراده بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من المؤمنات المبدوء بذكرهن وربما احتج بعض القائلين بهذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة قال أراد كعب بن مالك أن يتزوج امرأة من أهل الكتاب فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنهاه وقال إنها لا تحصنك قال فظاهر النهي يقتضي الفساد فيقال إن هذا حديث مقطوع من هذا الطريق ولا يجوز الاعتراض بمثله على ظاهر القرآن في إيجاب نسخه ولا تخصيصه وإن ثبت فجائز أن يكون على وجه الكراهية كما روي عن عمر من كراهته لحذيفة تزويج اليهودية لا على وجه التحريم ويدل عليه قوله إنها لا تحصنك ونفي التحصين غير موجب لفساد النكاح لأن الصغيرة لا تحصنه وكذلك الأمة ويجوز نكاحهما وقد اختلف في تزوج الكتابية الحربية فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا قال وتلا هذه الآية قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله وهم صاغرون قال الحكم فحدثت به إبراهيم فأعجبه قال أبو بكر يجوز أن يكون ابن عباس رأى ذلك على وجه الكراهية وأصحابنا يكرهونه من غير تحريم وقد روي عن علي أنه كره نساء اهل

الحرب من أهل الكتاب وقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات وغير جائز تخصيصه بغير دلالة وقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لا تعلق له بجواز النكاح ولا فساده ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي لقوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فبان بما وصفنا أنه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح وإن ما كرهه أصحابنا لقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى وجعل بينكم مودة ورحمة فلما أخبر أن النكاح سبب المودة والرحمة ونهانا عن موادة أهل الحرب كرهوا ذلك وقوله يوادون من حاد الله ورسوله إنما هو في أهل الحرب دون أهل الذمة لأنه لفظ مشتق من كونهم في حد ونحن في حد وكذلك المشاقة وهو أن يكونوا في شق ونحن في شق وهذه صفة أهل الحرب دون أهل الذمة فلذلك كرهوه كرهوا ذلك وقوله يوادون من حاد الله ورسوله إنما هو في أهل الذمة لأنه لفظ مشتق من كونهم في حد ونحن في حد وكذلك المةوشاقة وهو أن يكونوا في شق وهذه صفة أهل الحرب ومن جهة أخرى وهو أن ولده ينشأ في دار الحرب على أخلاق أهلها وذلك منهي عنه قال ص أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين وقال ص - أنا بريء من كل مسلم مع مشرك فإن قيل ما أنكرت أن يكون قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله مخصصا لقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قاصرا لحكمه على الذميات منهن دون الحربيات قيل له الآية إنما اقتضت النهي عن الوداد والتحاب فأما نفس عقد النكاح فلم تتناوله الآية وإن كان قد يصير سببا للموادة والتحاب فنفس العقد ليس هو الموادة والتحاب إلا أنه يؤدي إلى ذلك فاستحسنوا له غيرهن فإن قيل لما قال عقيب تحريم نكاح المشركات أولئك يدعون إلى النار دل على أنه لهذه العلة حرم نكاحهن وذلك موجود في نكاح الكتابيات الذميات والحربيات منهن فوجب تحريم نكاحهن لهذه العلة كتحريم نكاح المشركات قيل له معلوم أن هذه ليست علة موجبة لتحريم النكاح لأنها لو كانت كذلك لكان غير جائز إباحتهن بحال فلما وجدنا نكاح المشركات قد كان مباحا في أول الإسلام إلى أن نزل تحريمهن مع وجود هذا المعنى وهو دعاء الكافرين لنا إلى النار دل على أن هذا المعنى ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح وقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين تحت نبيين من أنبياء الله تعالى

قال الله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين فأخبر بصحة نكاحهما مع وجود الكفر منهم افثبت بذلك أن الكفر ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح وإن كان الله تعالى قد قال في سياق تحريم المشركات أولئك يدعون إلى النار فجعله علما لبطلان نكاحهن وما كان كذلك من المعاني التي تجري مجرى العلل الشرعية فليس فيه تأكيد فيما يتعلق به الحكم من الاسم فيجوز تخصيصخ كتخصيص الاسم وإذا كان قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب يجوز به تخصيص التحريم الذي علق بالاسم جاز أيضا تخصيص الحكم المنصوب على المعنى الذي أجري مجرى العلل الشرعية ونظير ذلك قوله إنما يريد ا لشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله فذكر ما يحدث عن شرب الخمر من هذه الأمور المحظورة وأجراها مجرى العلة وليس بواجب إجراؤها في معلولاتها لأنه لو كان كذلك لوجب أن يحرم سائر البياعات والمناكحات وعقود المداينات لإرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في سائرها وأن يصدنا بها عن ذكر الله فلما لم يجب اعتبار المعنى في سائر ما وجد فيه بل كان مقصور الحكم على المذكور دون غيره كان كذلك حكم سائر العلل الشرعية المنصوص عليها منها والمقتضية والمستدل عليها وهذا مما يستدل به على تخصيص العلل الشرعية فوجب بما وصفنا أن يكون حكم التحريم مقصورا فيما وصفنا على المشركات منهن دون غيرهن ويكون ذكر دعائهم إيانا إلى النار تأكيدا للحظر في المشركات غير متعد به إلى سواهن لأن الشرك والدعاء إلى النار هما علما تحريم النكاح وذلك غير موجود في الكتابيات وقد قيل إن ذلك في مشركي العرب المحاربين كانوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين فنهوا عن نكاحهن لئلا يمكن بهم إلى مودة أهاليهن من المشركين فيؤدي ذلك إلى التقصير منهم في قتالهم دون أهل الذمة الموادين الذين أمرنا بترك قتالهم إلا أنه إن كان كذلك فهو يوجب تحريم نكاح الكتابيات الحربيات لوجود هذا المعنى ولا نجد بدا من الرجوع إلى حكم معلول هذه العلة بما قدمنا وقوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة يدل على جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة لأن الله تعالى أمر المؤمنين بتزويج الأمة المؤمنة بدلا من الحرة المشركة التي تعجبهم ويجدون الطول إليها وواجد الطول إلى الحرة

المشركة هو واجدة إلى الحرة المسلمة إذ لا فرق بينهما في العادة في المهور فإذا كان كذلك وقد قال الله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا يصح الترغيب في نكاح الأمة المؤمنة وترك الحرة المشركة إلا وهو يقدر على تزويج الحرة المسلمة فتضمنت الآية جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة ويدل من وجه آخر على ذلك وهو أن النهي عن نكاح المشركات عام في واجد الطول وغير واجده للغني والفقير منهم ثم عقب ذلك بقوله ولأمة مؤمنة خير من مشركة فأباح نكاحها لمن حظر عليه نكاح المشركة فكان عموما في الغني والفقير موجبا لجواز نكاح الأمة للفريقين
باب
الحيض قوله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض والمحيض قد يكون اسما للحيض نفسه ويجوز أن يسمى به موضع الحيض كالمقبل والمبيت هو موضع القيلولة وموضع البيتوتة ولكن في فحوى اللفظ ما يدل على أن المراد بالمحيض في هذا الموضع هو الحيض لأن الجواب ورد بقوله هو أذى وذلك صفة لنفس الحيض لا الموضع الذي فيه وكانت مسألة القوم عن حكمه وما يجب عليهم فيه وذلك لأنه قد كان قوم من اليهود يجاورونهم بالمدينة وكانوا يجتنبون مؤاكلة النساء ومشاربتهن ومجالسهن في حال الحيض فأرادوا أن يعلموا حكمه في الإسلام فأجابهم الله بقوله هذا هو أذى يعني أنه نجس وقذر ووصفه له بذلك قد أفاد لزوم اجتنابه لأنهم كانوا عالمين قبل ذلك بلزوم اجتناب النجاسات فأطلق فيه لفظا علقوا منه الأمر بتجنبه ويدل على أن الأذى اسم يقع على النجاسات قول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا أصاب نعل أحدكم أذى فليمسحها بالأرض وليصل فيها فإنه لها طهور فسمى النجاسة أذى وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله قل هو أذى الأخبار عن حاله في تأذى الإنسان به لأن ذلك لا فائدة فيه علمنا أنه أراد الأخبار بنجاسته ولزوم اجتنابه وليس كل أذى نجاسة قال الله تعالى ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر والمطر ليس بنجس وقال ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإنما كان الأذى المذكور في الآية عبارة عن النجاسة ومفيدا لكونه قذرا يجب اجتنابه لدلالة الخطاب عليه ومقتضى سؤال السائلين عنه وقد اختلف الفقهاء فيما يلزم اجتنابه من الحائض بعد اتفاقهم على أن له أن يستمتع منها بما

فوق المئزر وورد به التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم -
روته عائشة وميمونة أن النبي ص - كان يباشر نساءه وهن حيض فوق الإزار واتفقوا أيضا أن عليه اجتناب الفرج منها واختلفوا في الإستمتاع منها بما تحت الإزار بعد أن يجتنب شعائر الدم فروى عن عائشة وأم سلمة أن له أن يطأها فيما دون الفرج وهو قول الثوري ومحمد بن الحسن وقالا يجتنب موضع الدم وروي مثله عن الحسن والشعبي وسعيد بن المسيب والضحاك وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس أن له منها ما فوق الإزار وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف والأوزاعي ومالك والشافعي قال أبو بكر قوله فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن قد انتظم الدلالة من وجهين على حظر ما تحت الإزار أحدهما قوله فاعتزلوا النساء في المحيض ظاهره يقتضي لزوم اجتنابها فيما تحت المئزز وفوقه فلما اتفقوا على إباحة الاستمتاع منها بما فوقه سلمناه للدلاة وحكم الحظر قائم فيما دونه إذ لم تقم الدلالة على إباحة الاستمتاع منها بما فوقه سلمناه للدلاة وحكم الحظر قائم فيما دونه إذ لم تقم الدلالة عليه والوجه الآخر قوله ولا تقربوهن وذلك في حكم اللفظ الأول في الدلالة على مثل ما دل عليه فلا يخص منه عند الاختلاف إلا ما قامت الدلالة عليه ويدل عليه أيضا من جهة السنة حديث يزيد ابن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عمير مولى عمر بن الخطاب أن نفرا من أهل العراق سألوا عم عما يحل لزوج الحائض منها وغير ذلك فقال سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال لك منها ما فوق الإزار وليس لك منها ما تحته ويدل عليه أيضا حديث الشيباني عن عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي صلى الله عليه وسلم - أن تتزر في فور حيضها ثم يباشرها فأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يملك إربه وروى الشيباني أيضا عن عبدالله بن شداد عن ميمونة زوج النبي ص - عن مثله ومن أباح له ما دون المئزر احتج بحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في بيت فسئل النبي صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى ويسألونك عن المحيض الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح وبما روى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لها ناوليني الخمرة فقالت إني حائض فقال ليست حيضتك في يدك قالوا وهذا يدل على أن كل عضو منها ليس فيه الحيض حكمه حكم ما كان فيه قبل الحيض في الطهارة وفي جواز الاستمتاع والجواب عن ذلك لمن رأى حظر ما دون مئزرها أن قوله في حديث أنس

إنما فيه ذكر سبب نزول الآية وما كانت اليهود تفعله فأخبر عن مخالفتهم في ذلك وأنه ليس علينا إخراجها من البيت وترك مجالستها وقوله اصنعوا كل شيء إلا النكاح جائز أن يكون المراد به الجماع فيما دون الفرج لأنه ضرب من النكاح والمجامعة وحديث عمر الذي ذكرناه قاض عليه متأخر عنه والدليل على ذلك أن في حديث أنس إخبارا عن حال نزول الآية وحديث عمر بعد ذلك لأنه لم يخبر عن حال نزول الآية وقد أخبر فيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عما يحل من الحائض وذلك لا محالة بعد حديث أنس من وجهين أحدهما أنه لم يسئل عما يحل منها إلا وقد تقدم تحريم إتيان الحائض والثاني أنه لو كان السؤال في حال نزول الآية عقيبها لاكتفى بما ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال اصنعوا كل شيء إلا النكاح وفي ذلك دليل على أن سؤال عمر كان بعد ذلك ومن جهة أخرى أنه لو تعارض حديث عمر وحديث أنس لكان حديث عمر أولى بالاستعمال لما فيه من حظر الجماع فيما دون الفرج وفي ظاهر حديث أنس الإباحة والحظر والإباحة إذا اجتمعا فالحظر أولى ومن جهة أخرى وهو أن خبر عمر يعضده ظاهر القرآن وهو قوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن وخبر أنس يوجب تخصيصه وما يوافق القرآن من الأخبار فهو أولى مما يخصه ومن جهة أخرى وهو أن خبر أنس مجمل عام ليس فيه بيان إباحة موضع بعينه وخبر عمر مفسر فيه بيان الحكم في الموضعين مما تحت الإزار وما فوقه والله أعلم
باب
بيان معنى الحيض ومقداره قال أبو بكر الحيض اسم لمقدار من الدم يتعلق به أحكام منها تحريم الصلاة والصوم وحطر الجماع وانقضاء العدة واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن وتصير المرأة به بالغة فإذا تعلق بوجود الدم هذه الأحكام كان له مقدار ما سمي حيضا وإذا لم يتعلق به هذه الأحكام لم يسم حيضا ألا ترى أن الحائض ترى الدم في أيامها وبعد أيامها على هيئة واحدة فيكون ما في أيامها منه حيضا لتعلق هذه الآحكام به مع وجوده وما بعد أيامها فليس بحيض لفقد هذه الأحكام مع وجوده وكذلك نقول في الحامل أنها لا تحيض وهي قد ترى الدم ولكن ذلك الدم لما لم يتعلق به ما ذكرنا من الأحكام لم يسم حيضا فالمستحاضة قد ترى الدم السائل دهرا ولا يكون حيضا وإن كان كهيئة الدم الذي

يكون مثله حيضا إذا رأته في أيامها فالحيض اسم لدم يفيد في الشرع تعلق هذه الأحكام به إذا كان له مقدار ما والنفاس والحيض فيما يتعلق بهما من تحريم الصلاة والصوم وجماع الزوج واجتناب ما يجتنبه الحائض سواء وإنما يختلفان من وجهين أحدهما أن مقدار مدة الحيض ليس هو مقدار مدة النفاس والثاني أن النفاس لا تأثير له في انقضاء العدة ولا في البلوغ وكان أبو الحسن يحد الحيض بأنه الدم الخارج من الرحم الذي تكون به المرأة بالغة في ابتدائه بها وما تعتاده النساء في الوقت بعد الوقت وإنما أراد بذلك عندنا أن تكون بالغة في ابتدائه بها إذا لم يكن قد تقدم بلوغها قبل ذلك من جهة السن أو الاحتلام أو الإنزال عند الجماع فأما إذا تقدم بلوغها قبل ذلك بما وصفنا ثم رات دما فهو حيض إذا رأته مقدار مدة الحيض وإن لم تصر بالغة في ابتدائه بها وقد اختلف الفقهاء في مقدار مدة الحيض فقال أصحابنا أقل مدة الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة وهو قول سفيان الثوري وهو المشهور عن أصحابنا جميعا وقد روي عني أبي يوسف ومحمد إذا كان يومين وأكثر اليوم الثالث فهو حيض والمشهور عن محمد مثل قول أبي حنيفة وقال مالك لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره وحكى عبدالرحمن بن مهدي عن مالك أنه كان يرى أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما حدثنا عبدالله بن جعفر بن فارس قال حدثنا هارون بن سليمان الجزار قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي بذلك وقال الشافعي أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وروى عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن علي بن ثابت عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير قال الحيض إلى ثلاثة عشر فإذا زادت فهي استحاضة وقال عطاء إذا زادت على خمسة عشر فهي استحاضة وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر ثم رجع عنه إلى ما ذكرنا ومما يحتج به للقائلين بأن أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة حديث القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد ويدل عليه أيضا حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك أنهما قالا الحيض ثلاثة أيام أربعة أيام إلى عشرة أيام وما زاد فهو استحاضة ويدل ذلك على ما وصفنا من وجهين أحدهما أن القول إذا ظهر عن جماعة من الصحابة واستفاض ولم يوجد له منهم مخالف فهو إجماع وحجة على من بعدهم وقد روى ما وصفنا عن هذين الصحابيين من غير خلاف

ظهر من نظرائهم عليهم فثبت حجته والثاني أن هذا الضرب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى وعبادات محضة طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق مثل إعداد ركعات الصلوات المفروضات وصيام رمضان ومقادير الحدود وفرائض الإبل في الصدقات ومثله مقدار مدة الحيض والطهر ومنه مقدار المهر الذي هو مشروط في عقد النكاح والقعود قدر التشهد في آخر الصلاة فمتى روي عن صحابي فيما كان هذا وصفه قول في تحديد شيء من ذلك وإثبات مقدراه فهو عندنا توقيف إذ لا سبيل إلى إثباته من طريق المقاييس فإن قيل ليس يمتنع أن يكون مقدار الحيض معتبرا بعادات النساء فيجب الرجوع إليها فيه ويدل عليه قوله ص - لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فردها إلى العادة وأثبتها ستا أو سبعا فجائز على هذا أن يكون قول من قال بالعشرة في أكثره وبالثلاث في أقله إنما صدر عن العادة عنده قيل له إنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في الأقل الذي لا نقص عنه وفي الأكثر الذي لا يزاد عليه وقد اتفق الجميع على المذكور من العدد وفي قصة حمنة وهو ست أو سبع ليس بحد في ذلك وأنه لا اعتبار به في إثبات التحديد فسقط الاحتجاج به في موضع الخلاف وقوله لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر يصلح أن يكون دليلا مبتدأ لصحة قولنا من قبل أن قوله كما تحيض النساء في كل شهر لما كان مستوعبا لجنس النساء اقتضى أن يكون ذلك حكم جميع النساء وذلك ينفي أن يكون حيض امرأة أقل من ذلك فلو لا قيام دلالة الإجماع على أن الحيض قد يكون ثلاثا لما جاز لأحد أن يجعل الحيض أقل من ست أو سبع فلما حصل الاتفاق على كون الثلاث حيضا خصصناه من عموم الخبر وبقي حكم ما دون الثلاث منفيا بمقتضى الخبر ويحتج بمثله في أكثر الحيض ويدل على ذلك أيضا ما روي عنه ص - أنه قال ما رأيت ناقصا عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن فقيل ما نقصان دينهن فقال تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي فدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليالي وأقلها ثلاثة أيام وأكثرها عشرة أيام ويدل عليه حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة أنه ص -
قال لفاطمة بنت أبي حبيش اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضأي لكل صلاة وروى الحكم عن أبي جعفر أن سودة قالت للنبي ص - إني أستحاض فأمرها أن تقعد أيام حيضها فإذا مضت توضأت

لكل صلاة وصلت وفي بعض ألفاظ حديث فاطمة بنت أبي حبيس دعي الصلاة بعدد الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وفي حديث أم سلمة عنه ص - في المرأة التي سألته أنها تهراق الدم فقال لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر ثم لتغتسل ولتصل وروى شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عنه ص - قال المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وفي بعض ألفاظ هذا الحديث تدع الصلاة أيام إقرائها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت أبي حبيش والمرأة التي روت قصتها أم سلمة أن تدع الصلاة أيام حيضها من غير مسألة منه لها عن مقدار حيضها قبل ذلك وجب بذلك أن تكون مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة ولو كان الحيض يكون أقل من ثلاث لما أجابها بذكر الأيام والليالي وقال في حديث عدي بن ثابت المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها وذلك لفظ عام في سائر النساء واسم الأيام إذا أطلقت في عدد محصور يقع أقله على ثلاثة وأكثره على عشرة ولا بد من أن يكون له عدد محصور يضاف إليه الأيام فوجب أن يكون عدده ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - ووجه آخر وهو أنه متى تقدمت معرفة الوقت الذي أضيفت إليه الأيام فإن اسم الأيام لا يتناول عددا محصورا نظيره قول القائل أيام السنة فلا تختص بالثلاثة ولا بالعشرة وقوله أياما معدودات لم تختص بما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه قال كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم فلما أضافها إلى الوقت الذي قد تقررت معرفته عند المخاطبين لم تختص بما بين الثلاثة إلى العشرة وقوله تدع الصلاة أيام حيضها وأيام إقرائها لم يتقدم عند السامعين عدد أيامها فيكون ذكر الأيام راجعا إليها دون ما تختص به من العدد فوجب أن يكون محمولا على ما يختص به من هذا العدد وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة وإنما كان ذلك كذلك لأن اسم الأيام قد تطلق ويراد بها وقت مبهم كما يطلق اسم الليالي على وقت مبهم ولا يراد بها سواد الليل فإذا تقدمت معرفة الوقت المضاف إليه الأيام فذكر الأيام فيه بمعنى الوقت المبهم الذي لا يراد به عدد قال الشاعر ... ليالي تصطاد الرجال بفاحم ... ولم يرد به سواد الليل دون بياض النهار وقال آخر

واذكر أيام الحمى ثم انثنى ... على كبدي من خشية أن تصدعا ... وليست عشيات الحمى برواجع ... إليك ولكن خل عينيك تدمعا ... ولم يرد بذكر الأيام يياض النهار ولا بذكر العشيات أواخره وإنما أراد وقتا قد تقررت معرفته عند المخاطب وكقوله تعالى فأصبح من النادمين ولم يرد به أول النهار دون آخره وقال الشاعر ... أصبحت عاذلتي معتلة ... ولم يرد به الصباح دون المساء وقال لبيد ... وأمسى كأحلام النيام نعيمهم ... وأي نعيم خلته لا يزايل ... ولم يرد به المساء دون الصباح وإنما أراد وقتا مبهما وهذا أشهر في اللغة من أن يحتاج فيه إلى الإكثار من الشواهد فلما انقسم اسم الأيام إلى هذين المعنيين قلنا فيما تقررت معرفته إذا أضيف إليه الأيام فمعناه الوقت وما كان منه حكما مبتدأ فهو محمول على ما تصح إضافة الأيام إليه فمعناها إذا عين وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة ووجه آخر وهو أنه لما كان في مفهوم لسان العرب أن اسم الأيام إذا أضيف إلى عدد لم يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا يفارق هذا العدد اسم الأيام بحال لأنك إذا قلت أحد عشر لم تقل أياما وإنما تقول أحد عشر يوما وكذلك إذا أطلقت أيام الشهر فقلت ثلاثين لم يحسن عليه اسم الأيام وقلت ثلاثين يوما فلما كان اسم الأيام مع ذكر العدد المضاف لا يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة علمنا أنها حقيقة فيه محمولة على حقيقته ولا تصرف عنه إلى غيره إلا بدلالة لأنه مجاز من حيث جاز أن ينفى عنه اسم الأيام بحال وهو إذا عين عدده أضيفت الأيام إليه فإن قيل لما قال دعي الصلاة أيام إقرائك فجعل الأيام وأقلها ثلاثة للإقراء وهي جمع أقله ثلاثة حصل لكل يوم قرء قيل له المراد بقوله أيام إقرائك حيضة واحدة بدلالة أن من كانت عادتها في الحيض ما بين الثلاثة إلى العشرة مراده ذلك لا محالة ومعلوم أن المراد في مثلهما بقوله إقرائك حيضة واحدة فكذلك من لا عادة لها ويدل على ذلك قوله ثم اغتسلي وتوضأي لكل صلاة ومعلوم أن مراده عند مضي كل حيضة فعلمنا أن المراد بقوله ايام إقرائك أيام حيضة وأيضا قال في حديث الأعمش الذي ذكرنا أيام محيضك وفي غيره أيام حيضك وقال فلتدع الصلاة الأيام والليالي التي كانت

===============================

ج5. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص


تقعد وقال نقصان دينهن تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي ولم يذكر الإقراء في هذه الأخبار وإنما ذكر الحيض فوجب بمقتضاها أن يكون الحيض اياما وأن مالا يقع عليه اسم الأيام فليس بحيض لأنه ص - قصد إلى بيان حكم جميع النساء في الحيض وقد حدث محمد بن شجاع قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إسرائيل عن عثمان بن سعيد عن عبدالله بن أبي مليكة عن فاطمة بنت أبي حبيش ذكرت قصتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعائشة مري فاطمة فلتمسك كل شهر عدد أيام إقرائها ثم تغتسل فأبان في هذا الحديث عن مراده بذكر الإقراء وإنها حيضة في كل شهر لأنه قال تمسك كل شهر عدد أيام إقرائها وقد أخبر في حديث آخر أن عادة النساء في كل شهر حيضة واحدة بقوله لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فإن قيل كيف يجوز أن تسمى الحيضة الواحدة إقراء والحيضة الواحدة إنما هي قرء واحد فينبغي أن تكون الإقراء اسما لجماعة حيض قيل له ما كان القراء اسما لدم الحيض جاز أن تسمى الحيضة الواحدة إقراء على أنها عبارة عن أجزاء الدم كما يقال ثوب أخلاق يراد به العبارة عن كل قطعة منه وقال الشاعر ... جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منه التواق ... فسمى القميص الواحد أخلاقا لأنه أراد العبارة عن كل قطعة منه كذلك جاز أن تسمى الحيضة الواحدة إقراء عبارة بها عن أجزاء الدم فإن قيل أن اسم الأيام قد يقع على يومين فيجب أن يجعل أقل الحيض يومين لوقوع الاسم عليها قيل له إنما يطلق اسم الأيام عليهما مجازا وحقيقتها ثلاثة فما فوقها وحكم اللفظ أن يحمل على حقيقته حتى تقوم الدلالة على جواز صرفه إلى المجاز ودليل آخر وهو أن مدة أقل الحيض وأكثره لما لم يكن لنا سبيل إلى إثبات مقدارها من طريق المقاييس وكان طريقها التوقيف أو الاتفاق على ما تقدم من بيانه في هذا الباب ثم اتفق الجميع على أن الثلاث حيض وكذلك العشر واختلفوا فيما دون الثلاث وفوق العشر أثبتنا ما اتفقوا عليه ولم نثبت ما اختلفوا فيه لعدم ما يوجبه من توقيف أو اتفاق فإن قيل فقد اتفق الجميع على أن المبتدأة تترك الصلاة في أول ما ترى الدم وإن كانت رؤيته يوما وليلة فدل على أن اليوم والليلة حيض ومن ادعى أن ذلك الدم لم يكن حيضا احتاج إلى دلالة لأنه قد حكم له بحكم الحيض بديا فلا

ينقض هذا الحكم إلا بدلالة توجب نقضه وهذا يوجب أن يكون الحيض يوما وليلة قيل له وقد اتفقوا على أنها تترك الصلاة إذا رأته وقت صلاة فينبغي أن يكون ذلك دليلا على أن مدة الحيض وقت صلاة فلما لم يدل أمرنا إياها بترك الصلاة إذا رأت الدم وقت صلاة على أن أقل الحيض وقت صلاة بل كان حكم ذلك الدم مراعى منتظرا به استكمال مدة الحيض على اختلافهم فيها كذلك اليوم والليلة فإن قيل لما قال الله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فقد أوجب علينا الرجوع إلى قولها حين وعظها بترك الكتمان قيل له ليس هذا من مسئلتنا في شيء وإنما هو كلام في قبول خبرها إذا أخبرت عما خلق الله في رحمها ونحن نجعل القول قولها في ذلك وأما الحكم بأن ذلك الدم حيض أو ليس بحيض فليس ذلك إليها لأن ذلك حكم وليس الحكم مخلوقا في رحمها فنرجع إلى قولها قال أبو بكر وجميع ما قدمنا من ذلك منتظم دلالة على بطلان قول من حد مقدار أقل الحيض بيوم وليلة وعلى بطلان قول من لم يجعل لقليل الحيض ولا لكثيره مقدارا معلوما وعلى فساد قول من اعتبر عادة نسائها ويدل على بطلان قول من أسقط اعتبار المقدار في قليله وكثيره أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود منها فيجب على هذه القضية أن لا تكون في الدنيا مستحاضة لوجود الدم وكون جميعه حيضا وقد علمنا بطلان ذلك بالسنة واتفاق الأمة فإن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي ص - إني أستحاض فلا أطهر فأخاف أن لا يكون لي في الإسلام حظ واستحيضت حمنة سبع سنين فلم يقل الشارع لهما أن جميع ذلك حيض بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة فلا بد من أن يكون لما كان منه حيضا مقدار موقت وهو ما أخبر عن مقداره بذكر الأيام ويلزم أيضا من لا يجعل لأقل الحيض ولا لأكثره مقدارا معلوما أن يجعل دم المبتدأة إذا استمر بها كله حيضا وإن رأته سنة لفقد عادة الحيض منها ووجود الدم في رحمها وهذا خلف من القول متفق على بطلانه فإن قيل لما كان النفاس مثل الحيض فيما يتعلق به من الحكم ولم يكن لأقله حد معلوم فكذلك الحيض قيل له إنما أثبتنا ذلك نفاسا بالاتفاق ولم نقس عليه الحيض إذ ليس طريق إثباته المقاييس وقد احتج الفريقان من مثبتي القليل والكثير من الدم حيضا وممن قدره بيوم وليلة بقوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض وقول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة إذ كان

ظاهره يقتضي القليل والكثير لأنه ليس في اللفظ توقيت فإذا رأت الدم يوما وليلة فقد تناوله الظاهر فيقال لهم إنما يجب أن يثبت ذلك حيضا حتى يعتزلها فيه إذ ليس في اللفظ دلالة على كيفية الحيض ولا على معناه وصفته فإذا ثبت أنه حيض حينئذ أجري فيه حكم الآية والخبر ومتى اختلفوا فيه لم يكن في هذه الآية دليل على معناه ودعوى الخصم تكون دليلا في المسئلة فإن قيل قد بين الشارع علامة دم الحيض وصفته بما يغني عن اعتبار المقدار معه بقوله دم الحيض هو الأسود المحتدم فمتى وجد الدم بهذه الصفة كان حيضا قيل له لا خلاف أن الدم الذي ليست هذه صفته قد يكون حيضا إذا رأته في أيامها أو رأته وهي مبتدأة وقد يوجد على هذه الصفة بعد أيامها أو في أيامها فيكون ما في أيامها منه حيضا وما بعد أيامها استحاضة فغير جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - جعل وجود هذه الصفة علما للحيض ودليلا عليه وهي توجد مع عدمه وتعدم مع وجوده وإنما وجه ذلك عندنا أنه علم ذلك من حال امرأة بعينها وإن حيضها أبدا يكون بهذه الصفة فأخبر عن حكمها خاصة دون غيرها فلم يجز اعتباره في غيرها وقد احتج الفريقان أيضا من مثبتي مقدار أقل الحيض يوما وليلة ومن نافى تقديره بقوله تعالى ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فزعم من أسقط اعتبار المقدار أنه لما وصف الحيض بكونه أذى فحيثما وجد الأذى فهو حيض بغير اعتبار التوقيف إذ ليس في الآية ذكر المقدار ومن قال باليوم والليلة يقول إن ظاهره يقتضي وجود الأذى في اليوم والليلة حيضا وفيما دونه وخصصنا ما دونه بدلالة فبقي حكم اللفظ في اليوم والليلة فيقال لهم ينبغي أن يثبت الحيض أولا حتى تثبت هذه الصفة وهي كونه أذى لأنه تعالى إنما جعل الحيض أذى ولم يجعل الأذى حيضا وقد علمنا أنه ليس كل أذى حيضا وأن كل حيض أذى كما أنه ليس كل نجاسة حيضا وإن كان كل حيض نجاسة فوجب أن يثبت الحيض حتى يكون أذى وأيضا معلوم أنه لو كان مراده أن يجعل الأذى اسم المحيض أنه لم يرد به أن كل أذى حيض لأن سائر ضروب الأذى ليست بحيض فيحصل حينئذ المراد أذى منكرا إذ يحتاج في معرفته إلى دلالة من غيره حتى إذا حصلت لنا معرفته حكمنا فيه بحكم الحيض وأيضا فإن الأذى اسم مشترك يقع على أشياء مختلفة المعاني وما كان هذا وصفه من الأسماء فليس يجوز أن يكون عموما واحتج بعض من جعل أكثر الحيض خمسة عشر يوما أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما رأيت ناقصات

عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن فقيل وما نقصان دينهن فقال تمكث إحداهن نصف عمرها لا تصلي
قال وهذا يدل على أن الحيض خمسة عشر يوما ويكون الطهر خمسة عشر يوما لأنه أقل الطهر فيكون الحيض نصف عمرها ولو كان أكثر الحيض أقل من ذلك لم توجد امرأة لا تصلي نصف عمرها فيقال له لم يرو أحد نصف عمرها وإنما روي على وجهين أحدهما شطر عمرها والآخر تمكث إحداهن الأيام والليالي تصلي فأما ذكر نصف عمرها فلم يوجد في شيء من الأخبار وقوله شطر عمرها لا دلالة فيه على أنه أراد النصف لأن الشطر هوبمنزلة قوله طائفة وبعض ونحو ذلك قال الله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنما أراد ناحيته وجهته ولم يرد نصفه وقد بين مقدار ذلك الشطر في قوله ص - تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي فوجب أن لا يكون هو المراد دون غيره ومع ذلك فإنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضا نصف عمرها لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ من عمرها وهو طهر بلا حيض فلو جاز أن يكون الحيض بعد البلوغ خمسة عشر يوما إلى انقضاء عمرها وكان طهرها مع ذلك خمسة عشر لما حصل الحيض نصف عمرها فعلمنا بطلان قول من زعم أن حيضها قد يكون نصف عمرها
ذكر الاختلاف في أقل مدة الطهر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح والشافعي أقل الطهر خمسة عشر يوما وهو قول عطاء وأما مالك بن أنس فإنه لا يوقت فيه شيئا في إحدى الروايات وفي رواية عبدالملك بن حبيب عنه أن الطهر لا يكون أقل من خمسة عشر وقال الأوزاعي قد يكون الطهر أقل من خمسة عشر ويرجع فيه إلى مقدار طهر المرأة قبل ذلك وقد حكي عن الشافعي أنه علم أن طهر المرأة أقل من خمسة عشر جعل القول قولها وذكر الطحاوي عن أبي عمران عن يحيى بن أكثم أنه قال أقل الطهر تسعة عشر يوما واحتج فيه بأن الله تعالى جعل عدل كل حيضة وطهر شهرا والحيض في العادة أقل من الطهر فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر فوجب أن يكون عشرة وأن يكون باقي الشهر طهرا وهو تسعة عشر لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما وقد حكينا عن سعيد بن جبير أن الطهر أقله ثلاثة عشر يوما والدليل على أن أقله خمسة عشر يوما أنه لما كان أكثر الحيض

عشرة أيام وقد جعل الله تعالى الشهر الواحد بدلا من حيض وطهر وجب أن يكون الطهر أكثر منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأثبت الست أو السبع حيضا وجعل في الشهر طهرا اقتضى ذلك أن يكون هذا حكم جميع النساء مالم تقم الدلالة على خمسة عشر يوما ولم تقم على عشرة ولا على ثلاثة عشر فلا يكون ذلك طهرا صحيحا وأيضا لما كان الطهر من الحيض يلزم به الصلوات أشبه الإقامة فلما كان أقل الإقامة عندنا خمسة عشر يوما ولم يكن لأكثرها غاية وجب أن يكون الطهر من الحيض كذلك وأيضا فإن طريق إثبات مقدار الطهر التوقيف أو الإتفاق وقد ثبت باتفاق فقهاء السلف أن خمسة عشر يكون طهرا صحيحا واختلفوا فيما دونها وقفنا عند الإتفاق ولم نثبت ما دونها طهرا لعدم التوقيف والإتفاق فيه وأما ما حكي عن يحيى بن أكثم من تقديره الطهر تسعة عشر يوما فإنه يفسد من وجوه أحدها أن اتفاق السلف قد سبقه في كون الطهر خمسة عشر فلا يكون خلافا عليهم ولأن من تقدمه اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه قال عطاء خمسة عشر يوما وقال سعيد بن جبير ثلاثة عشر يوما وقال مالك في بعض الروايات خمسة عشر وفي بعضها عشرة ولم يقل أحد منهم تسعة عشر ويفسد من جهة أنه أثبت له مقدارا من غير توقيف ولا اتفاق وذلك غير جائز فيما هذا وصفه وأما احتجاجه بما قدمنا ذكره فلا معنى له ولا يوجب ما ذكرنا وذلك لأنه معلوم أن ما أقامه الله من الشهر الواحد مقام حيضة وطهر غير مانع وجود حيضة وطهر في أقل من شهر لأنه لو كان حيضها ثلاثة أيام حصل لها حيضة وطهر في أقل من شهر وإذا لم يدل إيجاب الله تعالى شهرا عن حيضة وطهر على وجود حيضة وطهر في أقل منه وجاز نقصان الحيض عن عشرة حتى تستوفي لها حيضة وطهر في أقل من شهر وتنقضي عدتها بالحيض في أقل من ثلاثة أشهر وإن لم ميجز أن تنقضي عدتها إذا كانت بالشهور في أقل من ثلاثة أشهر لم يمتنع أن ينقص الطهر بعد استيفاء الحيضة عشرا فيكون أقل من تسعة عشر يوما فبان بما وصفنا أن ما ذكره ليس بدليل على وجوب الاقتصار في أقل الطهر على تسعة عشر يوما وإنما يدل ذلك على أن الطهر قد يكون هذا القدر ولا دلالة فيه على أنه لا يكون أقل منه والله أعلم
ذكر الاختلاف في الطهر العارض في حال الحيض
قال أصحابنا جميعا فيمن ترى يوما دما ويوما طهرا أن ذلك كدم متصل وكذلك قال

أبو يوسف إذا كان الطهر بين الدمين أقل من خمسة عشر فهو كدم متصل وقال محمد إذا كان الطهر الذي بين الدمين أقل من ثلاثة أيام فهو كدم متصل وإذا كان ثلاثة أيام أو أكثر من العشرة فإنه ينظر إلى الدمين والطهر الذي بينهما فإن كان الطهر أكثر منهما فصل بين الدمين وإن كانا سواء أو أقل فهو كدم متصل ومتى كان الطهر أكثر من الدمين ففصل بينهما اعتبر كل واحد من الدمين بنفسه فإن كان الأول منهما ثلاثة أيام فإنه يكون حيضا وكذلك إن لم يكن الأول ثلاثا وكان الآخر منهما ثلاثا فالآخر حيض وإن لم يكن واحد منهما ثلاثا فليس واحد منهما بحيض وقال مالك إذا رأت يوما دما ويوما طهرا أو يومين ثم رأت دما كذلك فإنه تلغى أيام الطهر وتضم أيام الدم بعضها إلى بعض فإن دام بها ذلك استظهرت بثلاثة أيام على أيام حيضها فإن رأت في خلال أيام الاستظهار أيضا طهر ألغاه حتى يحصل ثلاثة أيام دم الاستظهار وأيام الطهر تصلي وتصوم ويأتيها زوجها ويكون ما جمع من أيام الدم بعضه إلى بعض حيضة واحدة ولا يعتد بأيام الطهر في عدة من طلاق فإذا استظهرت بثلاثة أيام بعد أيام حيضها تتوضأ لكل صلاة وتغتسل كل يوم إذا انقطع عنها من أيام الطهر وإنما أمرت بالغسل لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها وحكى الربيع عن الشافعي نحو ذلك قال ابو بكر معلوم أن الحائض لا ترى الدم أبدا سائلا وكذلك المستحاضة إنما تراه في وقت وينقطع في وقت ولا خلاف أن انقطاع دمها ساعة ونحوها لا يخرجها من حكم الحيض في وقت رؤية الطهر وانقطاع الدم في مثل هذا الوقت إن ذلك كله كدم متصل كما قالوا جميعا في انقطاعه ساعة ونحوها ولأن الطهر الذي بينهما ليس بطهر صحيح عند الجميع لأن أحدا لا يجعل الطهر الصحيح يوما ولا يومين ولم يقل أحد أن الطهر الذي بين الحيضتين يكون أقل من عشرة أيام على ما بيناه فيما سلف وأيضا لو كان طهر اليوم واليومين الذي بين الدمين طهرا يوجب الصلاة والصوم لوجب أن يكون كل واحد من الدمين حيضة تامة فلما اتفق الجميع على أن هذا القدر من الطهر غير معتد به في الفصل بين الدمين وجعل كل واحد منهما حيضة تامة وجب أن يسقط حكمه ويصير مع ما قبله وبعده من الدم كدم متصل وقد اختلف في الصفرة والكدرة في أيام الحيض فروي عن أم عطية الأنصارية قالت كنا لا نعتد بالصفرة ولا بالكدرة بعد الغسل شيئا واتفق فقهاء الأمصار على أن الصفرة في ايام الحيض حيض

منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والليث وعبدالله بن الحسن والشافعي واختلفوا في الكدرة فقال جميع من قدمنا ذكرهم أنها حيض في أيام الحيض وإن لم يتقدمها دم وقال أبو يوسف لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الدم وقد روي عن عائشة وأسماء بنت أبي بكر قالتا لا تصلي الحائض حتى ترى القصة البيضاء ولم يختلفوا في أن الكدرة حيض بعد الدم فلما كان وجودها عقيب الدم دليلا على أن الكدرة من اختلاط أجزاء الدم وجب أن يكون ذلك حكمها إذا وجدت في أيام الحيض وإن لم يتقدمها دم وأن يكون الوقت المعتاد فيه الدم دلالة على أن الكدرة من اختلاط أجزاء الدم بالبياض والدليل على أن للوقت تأثيرا في ذلك أن المرأة ترى الدم في أيام حيضها وبعدها فيكون ما رأته في أيامها حيضا وما بعد أيامها غير حيض وكان الوقت علما لكونه حيضا ودلالة عليه فكذلك يجب أن يكون الوقت دليلا على أن الكدرة من أجزاء دم الحيض وأن يكون حيضا وقد اختلف في حيض المبتدأة إذا رأت الدم واستمر بها فقال أصحابنا وجميعا عشرة منها حيض وما زاد فهو استحاضة إلى آخر الشهر فيكون حيضها عشرة وطهرها عشرين ولم يذكر عنهم خلاف في الأصول وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف تأخذ في الصلاة بالثلاث أقل الحيض وفي الزوج بالعشرة ولا تقضي صوما عليها إلا بعد العشرة وتصوم العشر من رمضان وتقضي سبعا منها وقال إبراهيم النخعي تقعد مثل أيام نسائها وقال مالك تقعد ما تقعد نحوها من النساء ثم هي مستحاضة بعد ذلك وقال الشافعي حيضها أقل ما يكون يوما وليلة والدليل على صحة القول الأول اتفاق الجميع على أنها مأمورة بترك الصلاة إلى أكثر الحيض على اختلافهم فيه فصارت محكوما لها بحكم الحيض في هذه الأيام ومثلها يجوز أن يكون حيضا فوجب أن تكون العشرة كلها حيضا لوقوع الحكم لها بذلك وعدم عادتها لخلافه ألا ترى أن الكل يقولون إن الدم لو انقطع عن العشرة لكان كله حيضا فثبت أن العشرة محكوم لها فيها لحكم الحيض وغير جائز نقض ذلك إلا بدلالة وأيضا فلو كان ما زاد على الأقل مشكوكا فيه بعد وجود الزيادة على الأكثر لكان الأولى أن لا ينقض ما حكمنا به حيضا بالشك ألا ترى أنه ص - حكم للشهر الذي يغم الهلال في آخره بثلاثين بقوله فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين لما كان ابتداء الشهر يقينا لم يحكم بانقضائه بالشك فإن قيل فمن كانت لها عادة دون العشر فزاد الدم ردت إلى أيام

عادتها ولم يكن حكمنا لها بديا في الزيادة بحكم الحيض مانعا من اعتبار أيامها وكذلك من رأت الدم في أول ايامها كانت مأمورة بترك الصلاة ولو دون الثلاث فإن انقطع ما دون الثلاث حكمنا بأن ما رأته لم يكن حيضا وإن تم ثلاثا كان حيضا قيل له أما التي كان لها أيام معروفة فإن حكم الزيادة لم يقع إلا مراعى معتبرا بانقطاعه في العشرة لقوله ص - المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها فاقتضى ذلك كون الزيادة مراعاة لعلمنا بان لها أياما معروفة وأما المبتدأة فلم يكن لها قبل ذلك أيام يجب اعتبارها فلذلك كانت رؤيتها الدم في العشرة غير مراعاة بل عندنا أن ما رأته المبتدأة في العشرة فهو كالعادة يصير ذلك أياما لها في العدد والوقت وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون الدم الذي رأته المبتدأة في العشر مراعى بل واجب أن يحكم لها فيه بحكم الحيض إذ كان مثله يكون حيضا وأما من رأت الدم في أول أيامها وحكمنا له فيه بحكم الحيض في باب الأمر بترك الصلاة والصيام ثم انقطاعه دون الثلاث يخرجه عن كونه حيضا فلأن ذلك وقع مراعى في الابتداء لعلمنا بأن لأقل الحيض مقدارا متى قصر عنه لم يكن الدم الذي رأته حيضا فمن أجل ذلك وقع مراعى وليس للمبتدأة بعد رؤيتها للدم ثلاثا حال يجب مراعاتها فوجب أن تكون العشرة كلها حيضا لعدم الدلالة الموجبة للاقتصار به على ما دونها وأما أبو يوسف فإنه جعلها بمنزلة من كان حيضها خمسا أو ستا فكانت شاكة في الستة وقالوا جميعا أنها تأخذ بالأقل في لصلاة وكذلك الميراث والرجعة وتأخذ في الأزواج بالأكثر احتياطا وكذلك المبتدأة قال أبو بكر وليس هذا نظيرا لمسألتنا من قبل أن هذه قد كانت لها أيام معلومة وقد تيقنا الخمسة وشككنا في الستة فاحتطنا لها في الصلاة والصوم واحتطنا أيضا في الأزواج فلم نبحها لهم بالشك والمبتدأة ليس لها أيام يجب اعتبارها فما رأته من الدم الذي يكون مثله حيضا فهو حيض ولا معنا لردها إلى أقل الحيض إذ ليس معنا دلالة توجب ذلك ويفسد هذا القول أيضا من جهة أن أقل الحيض ليس بعادة لها فلا فرق بينه وبين ما زاد عليه في امتناع وجوب الرد إليه فوجب حينئذ اعتبار الأكثر لوقوع الحكم بكونه حيضا وعدم الدلالة على نقض هذا الحكم ويدل أيضا على صحة قول أبي حنيفة أن الله تعالى جعل عدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر بدلا من الحيض فجعل مكان كل حيضة وطهر شهرا فدل ذلك على أنه إذا استمر بها الدم ولم تكن لها عادة فواجب أن تستوفي لها حيضة وطهر

ومعلوم أنه ليس لأكثر الطهر حد معلوم ولأكثر الحيض مقدار معلوم فوجب أن يستوفى لها أكثر الحيض ويكون بقية الشهر طهرا لأنه ليس مقدار من الطهر في بقية الشهر بالاعتبار أولى من غيره فوجب أن يكون المعتبر من الطهر لبقية الشهر هو الذي يبقى بعد أكثر الحيض ألا ترى أنك إذا نقصت الحيض من العشرة احتجت أن تزيد ما نقصته منها في الطهر وليس زيادة الطهر بأن يكون خمسة أو ستة فوجب أن يعتبر أكثر الحيض ويجعل الباقي من الشهر طهرا ويدل على وجوب استيفاء حيضة وطهر في الشهر لهذه المبتدأة قوله ص - لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء في كل شهر حيضة وطهر فإن قيل فهلا اعتبرت لها ستا أو سبعا كما قال ص - قيل له لم نقل ذلك لوجوه أحدها أنا لا نعلم أحدا من أهل العلم قال ذلك في المبتدأة والثاني أن هذه كانت عادة المرأة المخاطبة بذلك أعني ستا أو سبعا فلا يعتبر بها غيرها فاستدلالنا من الخبر بما وصفنا صحيح لأنا أردنا إثبات الحيضة والطهر في الشهر في المتعارف المعتاد وأما قول من قال أنها تقعد مثل حيض نسائها فلا معنى له لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يرد المستحاضة إلى وقت نسائها وإنما رد واحدة إلى عادتها فقال تقعد أيام إقرائها وأمر أخرى أن تقعد في علم الله ستا أو سبعا وأمر أخرى أن تغتسل لكل صلاة ولم يقل لواحدة منهن أقعدي أيام نسائك وأيضا فإن ايام نسائها والأجنبيات ومن كان دون سنها وفوقها سواء وقد يتفقن في السن مع اختلاف عاداتهن في الحيض فليس لنسائها في ذلك خصوصية دون غيرهن وقد تنازع أهل العلم في قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن فمن الناس من يقول أن انقطاع الدم يوجب إباحة وطئها ولم يفرقوا في ذلك بين أقل الحيض وأكثره ومنهم من لا يجوز وطأها إلا بعد الاغتسال في أقل الحيض وأكثره وهو مذهب الشافعي وقال أصحابنا إذا انقطع دمها وأيامها دون العشرة فهي في حكم الحائض حتى تغتسل إذا كانت واجدة للماء أويمضي عليها وقت الصلاة فإذا كان أحد هذين خرجت من الحيض وحل لزوجها وطؤها وانقضت عدتها إن كانت آخر حيضة وإذا كانت أيامها عشرة ارتفع حكم الحيض بمضي العشرة وتكون حينئذ بمنزلة امرأة جنب في إباحة وطء الزوج وانقضاء العدة وغير ذلك
واحتج من أباح وطأها في سائر الأحوال عند مضي أيام حيضها وانقطاع دمها قبل

الاغتسال بقوله ولا تقربوهن حتى يطهرن وحتى غاية تقتضي أن يكون حكم ما بعدها بخلافها فذلك عموم في إباحة وطئها بانقطاع الدم كقوله تعالى حتى مطلع الفجر وقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ولا جنبا إلا عابري سبل حتى تغتسلوا فكانت هذه نهايات لما قدر بها وكان حكم ما بعدها بخلافها فكذلك قوله حتى يطهرن إذا قرئ بالتخفيف فمعناها انقطاع الدم وقالوا وقد قرىء حتى يطهرن بالتشديد وهو يحتمل ما يحتمله قوله حتى يطهرن بالتخفيف فيراد به انقطاع الدم إذ جائز أن يقال طهرت المرأة وتطهرت إذا انقطع دمها كما يقال تقطع الحبل وتكسر الكوز والمعنى انقطع وانكسر ولا يقتضي ذلك فعلا من الموصوف بذلك
واحتج من حظر وطأها في كل حال حتى تغتسل بقوله فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله فشرط في إباحته شيئين أحدهما انقطاع الدم والآخر الاغتسال لأن قوله فإذا تطهرن لا يحتمل غير الغسل وهو كقول القائل لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار فإذا دخلها وقعد فيها فأعطه دينارا فيعقل به أن استحقاق الدينار موقوف على الدخول والقعود جميعا وكقوله تعالى ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا فشرط الأمرين في إحلالها للأول فلا تحل له فأحدهما كذلك قوله تعالى فإذا تطهرن فأتوهن مشروط في إباحة الوطء المعنيان وهو الطهر الذي يكون بانقطاع الدم والاغتسال قال أبو بكر قوله تعالى حتى يطهرن إذا قرئ بالتخفيف فإنما هو انقطاع الدم لا الإغتسال لأنها لو اغتسلت وهي حائض لم تطهر فلا يحتمل قوله حتى يطهرن إلا معنى واحدا وهو انقطاع الدم الذي به يكون الخروج من الحيض وإذا قرئ بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع الدم ومن الغسل لما وصفنا آنفا فصارت قراءة التخفيف محكمة وقراءة التشديد متشابهة وحكم المتشابه أن يحمل على المحكم ويرد إليه فيحصل معنىالقراءتين على وجه واحد وظاهرهما يقتضي إباحة الوطء بانقطاع الدم الذي هو خرج من الحيض وأما قوله فإذا تطهرن فإنه يحتمل ما احتملته قراءة التشديد في قوله حتى يطهرن من المعنيين فيكون بمنزلة قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن ويكون كلاما سائغا مستقيما كما تقول لا تطعه حتى يدخل الدار فإذا دخلها فأعطه ويكون تأكيدا لحكم الغاية وإن كان حكمنا بخلاف ما قبلها وإذا

كان للاحتمال فيه مساغ على الوجه الذي ذكرنا وكان واجبا حمل الغاية على حقيقتها فالذي يقتضيه ظاهر التلاوة إباحة وطئها بانقطاع الدم الذي يخرج به من الحيض ومن جهة أخرى فيها احتمال وهو أن يكون معنى قوله فإذا تطهرن فإذا حل لهن أن يتطهرن بالماء أو التيمم كقوله إذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم معناه قد حل له الإفطار وقوله من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل معناه فقد جاز له أن يحل وكما يقال للمطلقة إذا انقضت عدتها أنها قد حلت للأزواج ومعناه قد حل لها أن تتزوج وعلى هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس إذا حللت فآذنيني وإذا احتمل ذلك لم تزل الغاية عن حقيقتها بحظر الوطء بعدها وأما قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن الغاية في هذا الموضع مستعملة على حقيقتها ونكاح الزوج وهو وطؤه إياها هو الذي يرفع التحريم الواقع بالثلاث ووطء الزوج الثاني مشروط لذلك وقد ارتفع ذلك بالوطء قبل طلاقه إياها وطلاق الزوج الثاني غير مشروط في رفع التحريم الواقع بالثلاث فإذا لا دليل للشافعي في الآية على الحد الذي ذكرنا على صحة مذهبه ولا على نفي قول مخالفيه وأما على مذهبنا فإن الآية مستعملة على ما احتملت من التأويل على حقيقتها في الحالتين اللتين يمكن استعمالهما فنقول إن قوله يطهرن إذا قرئ بالتخفيف فهو مستعمل على حقيقته فيمن كانت أيامها عشرا فيجوز للزوج استباحة وطئها بمضي العشر وقوله يطهرن بالتشديد فإذا تطهرن مستعملان في الغسل إذا كانت أيامها دون العشر ولم يمض وقت الصلاة لقيام الدلالة على أن مضي وقت الصلاة يبيح وطئها على ما سنبينه فيما بعد ولا يكون فيه استعمال واحد من الفعلين على المجاز بل مستعملان على الحقيقة في الحالين فإن قيل هلا كانت القراءتان كالآيتين تستعملان معا في حال واحدة قيل له لو جعلناهما كالآيتين كان ما ذكرنا أولى من قبل أنه لو وردت آيتان تقتضي إحداهما انقطاع غاية الدم لإباحة الوطء والأخرى تقتضي الغسل غاية لها لكان الواجب استعمالهما على حالين على أن تكون كل واحدة منهما مقرة على حقيقتها فيما اقتضته من حكم الغاية ولا يمكن ذلك إلا باستعمالهما في حالين على الوجه الذي بينا ولو استعملناهما على ما يقول المخالف كان فيه إسقاط إحدى الغايتين لأنه يقول إنها وإن طهرت وانقطع دمها لم يحل له أن يطأها حتى تغتسل فلو جعلنا ذلك دليلا مبتدأ كان سائغا مقنعا وإنما اعتبر أصحابنا فيمن

كان أيامها دون العشر فانقطع دمها بما وصفنا من قبل أنه جائز أن يعاودها الدم فيكون حيضا إذ ليس كل طهر تراه المرأة يكون طهرا صحيحا لأن الحائض ترى الدم سائلا مرة ومنقطعا مرة فليس في انقطاعه في وقت يجوز أن يكون حائضا فيه وقوع الحكم بزوال الحيض فقالوا إن انقطاع الدم فيمن وصفنا حالها معتبر بأحد شيئين إما بالإغتسال فيزول عنها حكم الحيض بالاتفاق وباستباحتها الصلاة وذلك ينافي حكم الحيض أو بمضي وقت صلاة فيلزمها فرض الصلاة ولزوم فرضها مناف لبقاء حكم الحيض إذ غير جائز أن يلزم الحائض فرض الصلاة فإذا انتفى حكم الحيض وثبت حكم الطهر ولم يبق إلا الإغتسال لم يمنع الوطء بمنزلة امرأة جنب جائز لزوجها وطؤها وعلى هذا المعنى عندنا ما روي عن الصحابة في اعتبار الاغتسال في انقضاء العدة وقد روى عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من الصحابة الخبر فالخبر منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس قالوا الرجل أحق بامرأته مالم تغتسل من حيضتها الثالثة وروي مثله عن علي وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأما إذا كانت أيامها عشرة فإنه غير جائز عندنا وجود الحيض بعد العشرة فوجب الحكم بانقضائه لامتناع جواز بقاء حكمه والله تعالى إنما منع من وطء الحائض أو ممن يجوز أن يكون حائضا فأما مع ارتفاع حكم الحيض وزواله فهو غير ممنوع من وطء زوجته لأنه تعالى قال فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن وقد طهرت لا محالة ألا ترى أنها منقضية العدة إن كانت معتدة وأن حكمها حكم سائر الطاهرات ولا تأثير لوجوب الاغتسال عليها في منع وطئها على ما بيناه فإن قيل إذا انقطع دمها فيما دون العشرة فقد وجب عليها الغسل ولزوم الغسل ينافي بقاء حكم الحيض إذ غير جائز لزوم الغسل على الحائض كما قلت في لزوم فرض الصلاة قيل له إذا كان الغسل من موجبات الحيض فلزومه غير مناف لحكمه وبقائه ألا ترى أن السلام لما كان من موجبات تحريمة الصلاة لم يكن لزومه بانتهائه إلى آخرها نافيا لبقاء حكمها وكذلك الحلق لما كان من موجبات الإحرام لم يكن لزومه نافيا لبقاء إحرامه مالم يحلق كذلك الغسل لما كان من موجبات الحيض لم يكن وجوبه عليها مانعا من بقاء حكم الحيض وأما الصلاة فليست من موجبات الحيض وإنما هو حكم آخر يختص لزومه بالطاهر من النساء دون الحائض ففي لزومها نفي لحكم الحيض وقوله حتى يطهرن فإذا تطهرن لما احتمل

الغسل صار كقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا ويدل على أن على الحائض الغسل بعد انقضاء حيضها وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - واتفقت الآمة عليه قوله تعالى فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله قال أبو بكر هو إطلاق من حظر وإباحة وليس هو على الوجوب كقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وإذا حللتم فاصطادوا وهو إباحة وردت بعد حظر وقوله من حيث أمركم الله قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس يعني في الفرج وهو الذي أمر بتجنبه في الحيض في اول الخطاب في قوله فاتعزلوا النساء في المحيض وقال السدي والضحاك من قبل لطهر دون الحيض وقال ابن الحنفية من قبل النكاح دون الفجور قال أبو بكر هذا كله مراد الله تعالى لأنه مما أمر الله به فانتظمت الآية جميع ذلك قوله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين روي عن عطاء المتطهرين بالماء للصلاة وقال مجاهد المتطهرين من الذنوب قال أبو بكر المتطهرين بالماء أشبه لأنه قد تقدم في الآية ذكر الطهارة فالمراد بها الطهارة بالماء للصلاة في قوله فإذا تطهرن فأتوهن فالأظهر أن يكون قوله ويحب المتطهرين مدحا لمن تطهر بالماء للصلاة وقال تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين وروي أنه مدحهم لأنهم كانوا يستنجون بالماء وقوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الحرث المزدرع وجعل في هذا الموضع كناية عن الجماع وسمى النساء حرثا لأنهن مزدرع الأولاد وقوله فأتوا حرثكم أنى شئتم يدل على أن إباحة الوطء مقصورة على الجماع في الفرج لأنه موضع الحرث واختلف في إتيان النساء في أدبارهن فكان أصحابنا يحرمون ذلك وينهون عنه أشد النهي وهو قول الثوري والشافعي فيما حكاه المزني قال الطحاوي وحكى لنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم أنه سمع الشافعي يقول ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في تحريمه ولا تحليله شيء والقياس أنه حلال وروى أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم عن مالك قال ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك فيه أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم قال فأي شيء أبين من هذا وما أشك فيه قال ابن القاسم فقلت لمالك بن أنس عندنا بمصر الليث بن سعد يحدثنا عن الحارث بن يعقوب عن أبي الحباب سعيد بن يسار قال قلت لابن عمر ما تقول في الجواري أنحمض لهن فقال وما التحميض فذكرت الدبر قال ويفعل ذلك أحد من

المسلمين فقال مالك فأشهد على ربيعة بن أبي عبدالرحمن يحدثني عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال لا بأس به قال ابن القاسم فقال رجل في المجلس يا أبا عبدالله فإنك تذكر عن سالم أنه قال كذب العبد أو كذب العلج على أبي يعني نافعا كما كذب عكرمة على ابن عباس فقال مالك وأشهد على يزيد بن رومان يحدثني عن سالم عن أبيه انه كان يفعله قال أبو بكر قد روى سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم إلا أن زيد بن أسلم لا يعلم له سماع من ابن عمر وروى الفضل بن فضالة عن عبدالله بن عباس عن كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر أنه قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى ان تؤتى النساء في أدبارهن قال نافع كذبوا علي أن ابن عمر عرض المصحف يوما حتى بلغ نساؤكم حرث لكم فقال يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية قلت لا قال إنا كنا معشر قريش نجبي النساء وكانت نساء الأنصار قد أخذن عن اليهود إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله هذه فهذا يدل على أن السبب غير ما ذكره زيد بن أسلم عن ابن عمر لأن نافعا قد حكى عنه غير ذلك السبب وقال ميمون بن مهران أيضا قال ذلك نافع يعني تحليل وطء النساء في أدبارهن بعدما كبر وذهب عقله قال أبو بكر المشهور عن مالك إباحة ذلك وأصحابه ينفون عنه هذه المقالة لقبحها وشناعتها وهي عنه أشهر من أن يندفع بنفيهم عنه وقد حكى محمد بن سعيد عن أبي سليمان الجوزجاني قال كنت عند مالك بن أنس فسئل عن النكاح في الدبر فضرب بيده إلى رأسه وقال الساعة اغتسلت منه وقد رواه عنه ابن القاسم على ما ذكرنا وهو مذكور في الكتب الشرعية ويروى عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا ويتأول فيه قوله تعالى أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مثل ذلك إن كنتم تشتهون وروي عن ابن مسعود أنه قال محاش النساء حرام وقال عبدالله بن عمر وهي اللوطية الصغرى وقد اختلف عن ابن عمر فيه فكأنه لم يرو عنه فيه شيء لتعارض ما روي عنه فيه وظاهر الكتاب يدل على أن الإباحة مقصورة على الوطء في الفرج الذي هو موضع الحرث وهو الذي يكون منه الولد وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم -
آثار كثيرة في تحريمه رواه خزيمة بن ثابت وأبو هريرة وعلي بن طلق كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تأتوا النساء

في أدبارهن وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال هي اللوطية الصغرى يعني إتيان النساء في أدبارهن وروى حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من أتى حائضا أوامرأته في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد وروى ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول فأنزل الله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج وروت حفصة بنت عبدالرحمن عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال في صمام واحد وروى مجاهد عن ابن عباس مثله في تأويل الآية قال يعني كيف شئت في موضع الولد وروى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا ينظر الله إلى الرجل أتى امرأته في دبرها وذكر ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها فقال هذا يسألني عن الكفر وقد روي عن ابن عمر في قوله نساؤكم حرث لكم قال كيف شئت إن شئت عزلا أو غير عزل رواه أبو حنيفة عن كثير الرياح الأصم عن ابن عمر وروي نحوه عن ابن عباس وهذا عندنا في ملك اليمين وفي الحرة إذا أذنت فيه وقد روي ذلك على ما ذكرنا من مذهب أصحابنا عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وآخرين غيرهم فإن قيل قوله عز و جل والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم يقتضي إباحة وطئهن في الدبر لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة ولا مخصوصة قيل له لما قال الله تعالى فأتوهن من حيث أمركم الله ثم قال في نسق التلاوة فأتوا حرثكم أنى شئتم أبان بذلك موضع المأمور به وهو موضع الحرث ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد فهو مقصور عليه دون غيره وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم كما كان حظر وطء الحائض قاضيا على قوله إلا على أزواجهم فكانت هذه الآية مرتبة على ما ذكر من حكم الحائض ومن يحظر ذلك يحتج بقوله قل هو أذى فحظر وطء الحائض للأذى الموجود في الحيض وهو القذر والنجاسة وذلك موجود في غير موضع الولد في جميع الأحوال فاقتضى هذا التحليل حظر وطئهن إلا في موضع الولد ومن يبيحه يجيب عن ذلك بأن المستحاضة يجوز وطؤها باتفاق من الفقهاء مع وجود الأذى هناك وهو دم الاستحاضة وهو نجس

كنجاسة دم الحيض وسائر الأنجاس ويجيبون أيضا علىتخصيصه إباحة موضع الحرث باتفاق الجميع على إباحة الجماع فيما دون الفرج وإن لم يكن موضعا للولد فدل على أن الإباحة غير مقصورة على موضع الولد ويجابون عن ذلك بأن ظاهر الآية يقتضي كون الإباحة مقصورة على الوطء في الفرج وأنه هو الذي عناه الله تعالى بقوله من حيث أمركم الله إذ كان معطوفا عليه ولولا قيام دلالة الإجماع لما جاز الجماع فيما دون الفرج ولكنا سلمناه للدلالة وبقي حكم الحظر فيما لم تقم الدلالة عليه
قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية قد قيل فيه وجهان أحدهما أن تجعل يمينه مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس فإذا طلب منه ذلك قال قد حلفت فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما هو مندوب إليه أو هو مأمور به من البر والتقوى والإصلاح فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعل وليدع يمينه ويروى ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن وطاوس وهو نظير قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وروى أشعث عن ابن سيرين قال حلف أبو بكر في يتيمين كانا في حجره كانا فيمن خاض في أمر عائشة أحدهما مسطح وقد شهد بدرا أن لا يصلهما وأن لا يصيبا منه خيرا فنزلت هذه الآية ولا يأتل أولوا الفضل منكم فكسا أحدهما وحمل الآخر وقد ورد معناه في السنة أيضا وقد روى أنس بن مالك وعدي بن حاتم وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وهذا هومعنى قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم على التأويل الذي ذكرنا لأن معناه على هذا التأويل أن لا يمنع بيمينه من فعل ما هو خير بل يفعل الذي هو خير ويدع يمينه والوجه الثاني أن يكون قوله عرضة لأيمانكم يريد به كثرة الحلف وهو ضرب من الجرأة على الله تعالى وابتذال لاسمه في كل حق وباطل لأن تبروا في الحلف بها وتتقوا المأثم فيها وروي نحوه عن عائشة من أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة يقول القائل قد جعلتني عرضة للوم وقال الشاعر لا تجعليني عرضة اللوائم وقد ذم الله تعالى مكثري الحلف بقوله ولا تطع كل حلاف مهين فالمعنى لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء لأن تبروا إذا حلفتم وتتقوا المآثم فيها إذا قلت أيمانكم لأن كثرتها تبعد من البر والتقوى

وتقرب من المآثم والجرأة على الله تعالى فكان المعنى أن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون بررة أتقياء لقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وإذا كانت الآية محتملة للمعنيين وليسا متضادين فالواجب حملها عليهما جميعا فتكون مفيدة لحظر ابتذاله اسما لله تعالى واعتراضه باليمين في كل شيء حقا كان أو باطلا ويكون مع ذلك محظورا عليه أن يجعل يمينه عرضة مانعة من البر والتقوى والإصلاح وإن لم يكثر بل الواجب عليه أن لا يكثر اليمين ومتى حلف لم يحتجر بيمينه عن فعل ما حلف عليه إذا كان طاعة وبرا وتقوى وإصلاحا كما قال ص -
من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية قال أبو بكر رحمه الله قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى لا تسمع فيها لاغية يعني كلمة فاحشة قبيحة ولا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما على هذا المعنى وقال وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه يعني الكفر والكلام القبيح وقال والغوا فيه يعني الكلام الذي لا يفيد شيئا ليشغلوا السامعين عنه وقال وإذا مروا باللغو مروا كراما يعني الباطل ويقال لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه وقد روي في لغو اليمين معان عن السلف فروي عن ابن عباس أنه قال هو الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك فلا يكون وكذلك روي عن مجاهد وإبراهيم قال مجاهد ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان أن تحلف على الشيء وأنت تعلم وهذا في معنى قوله بما كسبت قلوبكم وقالت عائشة هو قول الرجل لا والله وبلى والله وروي عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك عندنا في النهي عن اليمين على الماضي رواه عنها عطاء أنها قالت قول الرجل فعلنا والله كذا وصنعنا والله كذا وروي مثله عن الحسن والشعبي وقال سعيد بن جبير هو الرجل يحلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه وهذا التأويل موافق لتأويل من تأول قوله عرضة لأيمانكم أن يمتنع باليمين من فعل مباح أو يقدم بها على فعل محظور وإذا كان اللغو محتملا لهذه المعاني ومعلوم أنه لما عطف قوله ولكن يؤاخذكم بما كسبت أن مراده ما عقد قلبه فيه على الكذب والزور وجب أن تكون هذه المؤاخذة هي عقاب الآخرة وأن لا تكون الكفارة المستحقة بالحنث لأن تلك الكفارة غير متعلقة بكسب القلب لاستواء حال

القاصد بها للخير والشر وتساوي حكم العمد والسهو فعلم أ ن مراده ما يستحق من العقاب بقصده إلى اليمين الغموس وهي اليمين على الماضي قال القاصد بها خلافها إلى الكذب فينبغي أن يكون اللغو هي التي لا يقصد بها إلى الكذب وهي على الماضي ويظن أنه كما حلف عليه فسماها لغوا من حيث لم يتعلق بها حكم في إيجاب كفارة ولا في استحقاق عقوبة وهي التي روي معناها عن ابن عباس وعائشة أنها قول الرجل لا والله وبلى والله في عرض كلامه وهو يظن أنه صادق فكان بمنزلة اللغو من الكلام الذي لا فائدة فيه ولا حكم له ويحتمل أن يريد به ما قال سعيد بن جبير فيمن حلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه يعني به عقاب الآخرة وإن كانت الكفارة واجبة إذا حنث وقال مسروق كل يمين ليس له الوفاء بها فهي لغو لا تجب فيها كفارة وهذا موافق لقول سعيد بن جبير والأولى الذي قدمنا إلا أن سعيدا يوجب الكفارة ومسروقا لا يوجبها وإن حنث وقد روي عن ابن عباس رواية أخرى وهي أن لغو اليمين ما تجب فيه الكفارة منها وروي مثله عن الضحاك وروي عن ابن عباس أن لغو اليمين حنث النسيان
باب
الإيلاء قال الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر قال أبو بكر الإيلاء في اللغة هو الحلف يقولون آلى يؤلي إيلاء وإليه قال كثير ... قليل الألا يا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الآلية برت ... فهذا أصله في اللغة وقد اختص في الشرع بالحلف على ترك الجماع الذي يكسب الطلاق بمضي المدة حتى إذا قيل آلى فلان من امرأته عقل به ذلك وقد اختلف فيما يكون به موليا على وجوه أحدها ما روي عن علي وابن عباس رواية الحسن وعطاء أنه إذا حلف أن لا يقربها لأجل الرضاع لم يكن موليا وإنما يكون موليا إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب والثاني ما روي عن ابن عباس أن كل يمين حالت دون الجماع إيلاء ولم يفرق بين الرضا والغضب وهو قول إبراهيم وابن سيرين والشعبي والثالث ما روي عن سعيد بن المسيب أنه في الجماع وغيره من الصفات نحو أن يحلف أن لا يكلمها فيكون موليا وقد روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال تزوجت امرأة فلقيت ابن عباس فقال بلغني أن في حلقها شيئا قال تالله لقد خرجت وما أكلمها قال عليك بها قبل أن

تمضي أربعة أشهر فهذا يدل على موافقة قول سعيد بن المسيب ويدل على موافقة ابن عمر في أن الهجران من غير يمين هو الإيلاء والرابع قول ابن عمر أنه إن هجرها فهو إيلاء ولم يذكر الحلف فأما من فرق بين حلفه على ترك جماعها ضرارا وبينه على غير وجه الضرار فإنه ذهب إلى أن الجماع حق لها ولها المطالبة به وليس له منعها حقها من ذلك فإذا حلف على ترك حقها من الجماع كان موليا حتى تصل إلى حقها من الفرقة إذ ليس له إلا إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان وأما إذا قصد الصلاح في ذلك بأن تكون مرضعة فحلف أن لا يجامعها لئلا يضر ذلك بالصبي فهذا لم يقصد منع حقها ولا هو غير ممسك لها بمعروف فلا يلزم التسريح بالإحسان ولا يتعلق بيمينه حكم الفرقة وقوله فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم يستدل من اعتبر الضرار لأن ذلك يقتضي أن يكون مذنبا يقتضي الفيء غفرانه وهذا عندنا لا يدل على تخصيصه من كان هذا وصفه لأن الآية قد شملت الجميع وقاصد الضرر أحد من شمله العموم فرجع هذا الحكم إليه دون غيره ويدل على استواء حال المطيع والعاصي في ذلك أنهما يستويان في وجوب الكفارة بالحنث كذلك يجب أن يستويا في إيجاب الطلاق بمضي المدة وأيضا سائر الأيمان المعقودة لا يختلف فيها حكم المطيع والعاصي فيما يتعلق بها من إيجاب الكفارة وجب أن يكون كذلك حكم الطلاق لأنهما جميعا يتعلقان باليمين وأيضا لا يختلف حكم الرجعة على وجه الضرار وغيره كذلك الإيلاء وفقهاء الأمصار على خلاف ذلك لأن الآية لم تفرق بين المطيع والعاصي فهي عامة في الجميع وأما قول من قال إنه إذا قصد ضرارها بيمين على الكلام ونحوه فلا معنى له لأن قوله للذين يؤلون من نسائهم لا خلاف أنه قد أضمر فيه اليمين على ترك الجماع لاتفاق الجميع على أن الحالف على ترك جماعها مول فترك الجماع مضمر في الآية عند الجميع فأثبتناه وما عدا ذلك من ترك الكلام ونحوه لم تقم الدلالة على إضماره في الآية فلم يضمره ويدل على ما بيناه قوله فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم ومعلوم عند الجميع أن المراد بالفيء هو الجماع ولا خلاف بين السلف فيه فدل ذلك على أن المضمر في قوله للذين يؤلون من نسائهم هو الجماع دون غيره وأما ما روي عن ابن عمر من أن الهجران يوجب الطلاق فإنه قول شاذ وجائز أن يكون مراده إذا حلف ثم هجرها مدة الإيلاء وهو مع ذلك خلاف الكتاب قال الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم والآلية اليمين على ما بينا وهجرانها ليس

بيمين فلا يتعلق به وجوب الكفارة وروى أشعث عن الحسن أن أنس بن مالك كانت عنده امرأة في خلقها سوء فكان يهجرها خمسة أشهر وستة أشهر ثم يرجع إليها ولا يرى ذلك إيلاء وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في المدة التي إذا حلف عليها يكون موليا فقال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء إذا حلف على أقل من أربعة أشهر ثم تركها أربعة أشهر لم يجامعها لم يكن موليا وهو قول أصحابنا ومالك والشافعي والأوزاعي وروي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم والحكم وقتادة وحماد أنه يكون موليا إن تركها أربعة أشهر بانت وهو قول ابن شبرمة والحسن بن صالح قال الحسن بن صالح وكذلك إن حلف أن لا يقربها في هذا البيت فهو مول فإن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء وإن قربها في غيره قبل المدة سقط الإيلاء ولو حلف أن لا يدخل هذه الدار وفيها امرأته ومن أجلها حلف فهو مول قال أبو بكر قال الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر والإيلاء هو اليمين وقد ثبت بما قدمنا إن ترك جماعها بغير يمين لا يكسبه حكم الإيلاء وإذا حلف على أقل من أربعة أشهر فمضت مدة اليمين كان تاركا لجماعها فيما بقي من مدة الأربعة الأشهر التى هي التربص بغير يمين وترك جماعها بغير يمين لا تأثير له في إيجاب البينونة وما دون الأربعة أشهر لا يكسبه حكم البينونة لأن الله تعالى قد جعل له تربص أربعة أشهر فل يبق هناك معنى يتعلق به إيجاب الفرقة فكان بمنزلة تارك جماعها بغير يمين فلا يلحقه حكم الإيلاء وأما قول الحسن بن صالح أنه إذا حلف أن لا يقربها في هذا البيت أنه يكون موليا فلا معنى له لأن الإيلاء كل يمين في زوجة يمنع جماعها أربعة أشهر لا يحنث على ما بينا وهذه اليمين لم تمنعه جماعها هذه المدة لأنه يمكنه الوصول إلى جماعها بغير حنث بأن يقربها في غير ذلك البيت وقد اختلف أيضا فيمن حلف على أربعة أشهر سواء فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والثوري هو مول فإن لم يقربها في المدة حتى مضت بانت بالإيلاء وروى عطاء عن ابن عباس قال كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين فوقت الله تعالى لهم أربعة أشهر فمن كان إيلاؤه دون ذلك فليس بمول وقال مالك والشافعي إذا حلف على أربعة أشهر فليس بمول حتى يحلف على أكثر من ذلك قال أبو بكر هذا قول يدفعه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فجعل هذه المدة تربصا للفيء فيها ولم يجعل له التربص أكثر منها فمن

امتنع من جماعها باليمين هذه المدة أكسبه ذلك حكم الإيلاء الطلاق ولا فرق بين الحلف على الأربعة الأشهر وبينه على أكثر منها إذ ليس له تربص أكثر من هذه المدة ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يقتضي كونه موليا في حلفه على أربعة أشهر وأقل منها وأكثر منها لأن مدة الحلف غير مذكورة في الآية وإنما خصصنا ما دونها بدلالة وبقي حكم اللفظ في الأربعة الأشهر وما فوقها فإن قيل إذا حلف على أربعة أشهر سواء لم يصح تعلق الطلاق بها لأنك توقع الطلاق بمضيها ولا إيلاء هناك قيل له لا يمتنع لأن مضي المدة إذا كان سببا للإيقاع لم يجب اعتبار بقاء اليمين في حال وقوعه ألا ترى أن مضي الحول لما كان سببا لوجوب الزكاة فليس بواجب أن يكون الحول موجودا في حال الوجوب بل يكون معدوما منقضيا وإن من قال لامرأته إن كلمت فلانا فأنت طالق كانت هذه يمينا معقودة فإن كلمته طلقت في الحال وقد انحلت فيها اليمين وبطلت كذلك مضي مدة الإيلاء لما كان سببا لوقوع الطلاق لم يمتنع وقوعه واليمين غير موجودة وقوله تعالى فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم قال أبو بكر الفيء في اللغة هو الرجوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل يعني حتى ترجع من البغي إلى العدل الذي هو أمر الله وإذا كان الفيء الرجوع إلى الشيء اقتضى ظاهر اللفظ أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار ثم قال لها قد فئت إليك وقد أعرضت عما عزت عليه من هجران فراشك باليمين أن يكون قد فاء إليها سواء كان قادرا على الجماع أو عاجزا هذا هو مقتضى ظاهر اللفظ إلا أن أهل العلم متفقون على أنه إذا أمكنه الوصول إليها لم يكن فيئه إلا الجماع واختلفوا فيمن آلى وهو مريض أو بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو هي رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب فقال أصحابنا إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح ولا تطلق بمضي المدة ولو كان محرما بالحج وبينه وبين الحج أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا الجماع وقال زفر فيئه بالقول وقال ابن القاسم إذا آلى وهي صغيرة لا تجامع مثلها لم يكن موليا حتى تبلغ الوطء ثم يوقف بعد مضي أربعة أشهر مذ بلغت الوطء وهو رأي ابن القاسم بن عمرو ولم يروه عن مالك وقال ابن وهب عن مالك في المولي إذا وقف عند انقضاء الأربعة الأشهر ثم راجع امرأته أنه إن لم يصبها حتى تنقضي عدتها فلا سبيل له إليها ولا رجعة إلا أن يكون له عذر من مرض أو سجن أو ما أشبه

ذلك فإن ارتجاعه إياها ثابت عليها وإن مضت عدتها ثم تزوجها بعد ذلك فإن لم يصبها حتى ينقضي أربعة أشهر وقف أيضا وقال إسماعيل بن إسحاق قال مالك إن مضي الأربعة الأشهر وهو مريض أو محبوس لم يوقف حتى يبرأ لأنه لا يكلف مالا يطيق وقال مالك لو مضت أربعة أشهر وهو غائب إن شاء كفر عن يمينه وسقط عنه ا لإيلاء قال إسماعيل وإنما قال ذلك في هذا الموضع لأن الكفارة قبل الحنث جائزة عنده وإن كان لا يستحب أن يكون إلا بعد الحنث وقال الأشجعي عن الثوري في المولي إذا كان له عذر من مرض أو كبر أو حبس أو كانت حائضا أو نفساء فليفئ بلسانه يقول قد فئت إليك يجزيه ذلك وهو قول الحسن بن صالح وقال الأوزاعي إذا آلى من امرأته ثم مرض أو سافر فأشهد على الفيء من غير جماع وهو مريض أو مسافر ولا يقدر على الجماع فقد فاء فليكفر عن يمينه وهي امرأته وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر أو حاضت أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه وقال الليث بن سعد إذا مرض بعد الإيلاء ثم مضت أربعة أشهر فإنه يوقف كما يوقف الصحيح فإما فاء وإما طلق ولا يؤخر إلى أن يصح وقال المزني عن الشافعي إذا آلى المجبوب ففيئه بلسانه وقال في الإيلاء لا إيلاء على المجبوب قال ولو كانت صبية فآلى منها استؤنفت به أربعة أشهر بعد ما تصير إلى حال يمكن جماعها والمحبوس يفيء باللسان ولو أحرم لم يكن فيئه إلا الجماع ولو آلى وهي بكر فقال لا أقدر على اقتضاضها أجل أجل العنين قال أبو بكر الدليل على أنه إذا لم يقدر على جماعها في المدة كان فيئه باللسان قوله فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم وهذا قد فاء لأن الفيء الرجوع إلى الشيء وهو قد كان ممتنعا من وطئها بالقول وهو اليمين فإذا فاء بالقول فقال قد فئت إليك فقد رجع عما منع نفسه منه بالقول إلى ضده فتناوله العموم وأيضا لما تعذر جماعها قام القول فيه مقام الوطء في المنع من البينونة وأما تحريم الوطء بالإحرام والحيض فليس بعذر أما الإحرام فلأنه كان يفعله ولا يسقط حقها من الوطء وأما الحيض والنفاس فإن الله جعل للمولى تربص أربعة أشهر مع علمه بوجود الحيض فيها واتفق السلف على أن المراد الفيء بالجماع في حال إمكان الجماع فلم يجز أن ينقله عنه إلى غيره مع إمكان وطئها وتحريم الوطء لا يخرجه من إمكانه فصار بمنزلة الإحرام والظهار ونحو ذلك لأنه منع من الوطء بتحريمه لا بالعجز وتعذره ولأن حقها باق في الجماع ويدل على ذلك على أنه لو أبانها

يخلع وهو مول منها لم يكن التحريم الواقع موجبا لجواز فيئه بالقول وهومع ذلك لو وطئها في هذه الحال بطل الإيلاء فإن قيل إذا كان الفيء بالقول لا يسقط اليمين فواجب بقاؤها إذ لا تأثير للفيء بالقول في إسقاطها قيل له هذا غير واجب من قبل أنه جائز بقاء المين وبطلان الإيلاء من جهة ما تعلق به من الطلاق ألا ترى أنه إذا طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج كانت اليمين باقية لو وطئها حنث ولم يلحقها بها طلاق وإن ترك وطئها وكذلك لو أن رجلا قال لامرأة أجنبية والله لا أقربك لم يكن إيلاء فإن تزوجها كانت اليمين باقية لو وطئها لزمته الكفارة ولا يكون موليا في حكم الطلاق فليس بقاء اليمين إذا علة في حكم الطلاق فجاز من أجل ذلك أن يفيء إليها بلسانه فيسقط حكم الطلاق في هذه اليمين ويبقى حكم الحنث بالوطء وإنما شرط أصحابنا في صحة الفيء بالقول وجود الضرر في المدة كلها ومتى كان الوطء مقدورا عليه في شيء من المدة لم يكن فيئه عندهم إلا الجماع من قبل أن الفيء بالقول قائم مقام الوطء عند عدمه لئلا يقع الطلاق بمضي المدة فمتى قدر على الوطء في المدة بطل الفيء بالقول كالمتيمم إذا أقيم تيممه مقام الطهارة بالماء في إباحة الصلاة كان متى وجد الماء قبل الفراغ منها بطل تيممه وعاد إلى أصل فرضه سواء كان وجوده للماء في أول الصلاة أو في آخرها كذلك القدرة على الوطء في المدة تبطل حكم الفيء بالقول وقال محمد إذا فاء بالقول لوجود العذر في المدة ثم انقضت المدة والعذر قائم فقد بطل حكم الإيلاء منها فكان بمنزلة من حلف على أجنبية أن لا يقربها ثم تزوجها فيكون يمينه باقية إن قربها حنث وإن ترك جماعها أربعة أشهر لم تطلق
قوله تعالى وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم قال أبو بكر اختلف السلف في عزيمة الطلاق إذا لم يفئ على ثلاثة أوجه فقال ابن عباس عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر وهو قول ابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان وقالوا إنها تبين بتطليقة واختلف عن علي وابن عمر وأبي الدرداء فروي عنهم مثل قول الأولين وروي عنهم أنه يوقف بعد مضي المدة فإما أن يفيء إليها وإما أن يطلقها وهو قول عائشة وأبي الدرداء والقول الثالث قول سعيد بن المسيب وسالم بن عبدالله وأبي بكر بن عبدالرحمن والزهري وعطاء وطاوس قالوا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة رجعية وذهب أصحابنا إلى قول ابن عباس ومن تابعه فقالوا إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفيء بانت بتطليقة وهو قول

الثوري والحسن بن صالح وقال مالك والليث والشافعي بما روي عن أبي الدرداء وعائشة أنه يوقف بعد مضي المدة فإما إن يفيء وإما أن يطلق ويكون تطليقة رجعية إذا طلق قال مالك ولا تصح رجعته حتى يطأها في العدة وقال الشافعي ولو عفت عن ذلك بعد المدة كان لها بعد ذلك أن تطلب ولا يؤجل في الجماع أكثر من يوم وقال الأوزاعي بقول سعيد بن المسيب وسالم ومن تابعهما أنها تطلق واحدة رجعية بمضي المدة قال أبو بكر قوله تعالى وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم يحتمل الوجوه التي حصل عليها اختلاف السلف ولولا احتماله لها لما تأولوه عليها لأنه غير جائز تأويل اللفظ المأول على مالا احتمال فيه وقد كان السلف من أهل اللغة والعالمين بما يحتمل من الألفاظ والمعاني المختلفة ومالا يحتملها فلما اختلفوا فيه على هذه الوجوه دل ذلك على احتمال اللفظ لها ومن جهة أخرى وهي أن هذا الاختلاف قد كان شائعا مستفيضا فيما بينهم من غير نكير ظهر من واحد منهم على غيره فصار ذلك إجماعا منهم على توسع الاجتهاد في حمله على أحد هذه الوجوه وإذا ثبت ذلك احتجنا أن ننظر في الأولى من هذه الأقاويل وأشبهها بالحق فوجدنا ابن عباس قد قال عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر قبل الفيء إليها فسمى ترك الفيء حتى تمضي المدة عزيمة الطلاق فوجب أن يصير ذلك اسما له لأنه لم يخل من أن يكون قاله شرعا أولغة وأي الوجهين كان فحجته ثابته واعتبار عمومه واجب إذا كانت أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا وإذا كان هكذا وقد علمنا أن حكم الله في المولي أحد شيئين إما الفيء وإما عزيمة الطلاق وجب أن يكون الفيء مقصورا على الأربعة الأشهر وأنه فائت بمضيها فتطلق لأنه لو كان الفيء باقيا لما كان مضي المدة عزيمة للطلاق ومن جهة أخرى وهو أنه معلوم أن العزيمة إنما هي في الحقيقة عقد القلب على الشيء تقول عزمت علي كذا أي عقدت قلبي على فعله وإذا كان كذلك وجب أن يكون مضي المدة أولى بمعنى عزيمة الطلاق من الوقف لأن الوقف يقتضي إيقاع طلاق بالقول إما أن يوقعه الزوج وإما أن يطلقها القاضي عليه على قول من يقول بالوقف وإذا كان كذلك كان وقوع الفرقة بمضي المدة لتركه الفيء فيها أولى بمعنى الآية لأن الله لم يذكر إيقاعا مستأنفا وإنما ذكر عزيمة فغير جائز أن نزيد في الآية ما ليس فيها ووجه آخر وهو أنه لما قال للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم

اقتضى ذلك أحد أمرين من فيء أو عزيمة طلاق لا ثالث لهما والفىء إنما هو مراد في المدة مقصور الحكم عليها والدليل عليه قوله تعالى فإن فاؤا والفاء للتعقيب يقتضي أن يكون الفيء عقيب اليمين لأنه جعل الفيء عقيب اليمين لأنه جعل الفيء لمن له تربص أربعة أشهر وإذا كان حكم الفيء مقصورا على المدة ثم فات بمضيها وجب حصول الطلاق إذ غير جائز له أن يمنع الفيء والطلاق جميعا ويدل على أن المراد الفيء في المدة اتفاق الجميع على صحة الفيء فيها فدل على أنه مراد فيها فصار تقديره فإن فاؤا فيها وكذلك قرئ في حرف عبدالله بن مسعود فحصل الفيء مقصورا عليها دون غيرها وتمضي المدة بفوت الفيء وإذا فات الفيء حصل الطلاق فإن قيل لما قال تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤا فعطف بالفاء على التربص في المدة دل على أن الفيء مشروط بعد التربص وبعد مضي المدة وأنه متى ما فاء فإنما عجل حقا لم يكن عليه تعجيله كمن عجل دينا مؤجلا قيل له لولا أن الفيء مراد الله تعالى لما صح وجوده فيها وكان يحتاج بعد هذا الفيء إلى فيء بعد مضيها فلما صح الفيء في هذه المدة دل على أنه مراد الله بالآية ولذلك بطل معه عزيمة الطلاق ثم قولك إن المراد بالفيء إنما هو بعد المدة مع قولك إن الفيء في المدة صحيح كهو بعدها تبطل معه عزيمة الطلاق مناقضة منك في اللفظ كقولك إنه مراد في المدة غير مراد فيها وقولك إنه كالدين المؤجل إذا عجله لا يزيد عنك ما وصفنا من المناقضة لأن الدين المؤجل لا يخرجه التأجيل من حكم اللزوم ولولا ذلك لما صح البيع بثمن مؤجل لأن ما تعلق ملكه من الأثمان على وقت مستقبل لا يصح عقد البيع عليه ألا ترى أنه لو قال بعتكه بألف درهم لا يلزمك إلا بعد أربعة أشهر كان البيع باطلا والتأجيل الذي ذكرت لا يخرجه من أن يكون الثمن واجبا ملكا للبائع ومتى عجله وأسقط الأجل كان ذلك من موجب العقد إلا أنه مخالف للفيء في الإيلاء من قبل إن فوات الفيء يوجب الطلاق وإذا كان الفيء مرادا في المدة فواجب أن يكون فواته فيها موجبا للطلاق على ما بينا وأيضا فإن قوله تعالى فإن فاؤا فيه ضمير المولي المبدوء بذكره في الآية وهو الذي له تربص أربعة أشهر والذي يقتضيه الظاهر إيقاع الفيء عقيب اليمين ودليل آخر وهو قوله تربص أربعة أشهر كقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فلما كانت البينونة واقعة بمضي المدة في تربص الإقراء وجب أن يكون كذلك

حكم تربص الإيلاء من وجوه أحدها أنا لو وقفنا المولي لحصل التربص أكثر من أربعة أشهر وذلك خلاف الكتاب ولو غاب المولي عن امرأته سنة أو سنتين ولم ترفعه المرأة ولم تطالب بحقها لكان التربص غير مقدر بوقت وذلك خلاف الكتاب والوجه الثاني أنه لما كانت البينونة واقعة بمضي المدة في تربص الإقراء وجب مثله في الإيلاء والمعنى الجامع بينهما ذكر التربص في كل واحدة من المدتين والوجه الثالث أن كل واحدة من المدتين واجبة عن قوله وتعلق بها حكم البينونة فلما تعلقت في إحداهما بمضيها كانت الأخرى مثلها للمعنى الذي ذكرناه فإن قيل تأجيل العنين حولا بالاتفاق تخيير امرأته بعد مضي الحول إذا لم يصل إليها في الحول ولم يوجب ذلك زيادة في الأجل كذلك ما ذكرت من حكم الإيلاء إيجاب الوقف بعد المدة لا يوجب زيادةفيها قيل له ليس في الكتاب ولا في السنة تقدير أجل العنين وإنما أخذ حكمه من قول السلف والذين قالوا إنه يؤجل حولاهم الذين خيروها بمضيه قبل الوصول إليها ولم يوقعوا الطلاق قبل مضي المدة ومدة الإيلاء مقدرة بالكتاب من غير ذكر التخيير معها فالزائد فيها مخالف لحكمه وأيضا فإن أجل العنين إنما يوجب لها الخيار بمضيه وأجل المولي عندك إنما يوجب عليه الفيء فإن قال أفئ لم يفرق بينهما ولو قال العنين أنا أجامعها بعد ذلك لم يلتفت إلى قوله وفرق بينهما باختيارها فإن قيل لما لم يكن الإيلاء بصريح الطلاق ولا كناية عنه فالواجب أن لا يقع الطلاق قيل له وليس اللعان بصريح الطلاق ولا كناية عنه فيجب على قول المخالف أن لا توقع الفرقة حتى يفرق الحاكم ولا يلزمنا على أصلنا لأن الإيلاء يجوز أن يكون كناية عن الفرقة إذ ان قوله لا أقربك يشبه كناية الطلاق ولما كان أضعف أمرا من غيرها فلا يقع به الطلاق إلا بانضمام أمر آخر إليه وهو مضي المدة على النحو الذي يقوله إذ قد وجدنا من الكنايات مالا يقع فيه الطلاق بقول الزوج إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو قول الزوج لامرأته قد خيرتك وقوله أمرك بيدك فلا يقع الطلاق فيه إلا باختيارها فكذلك لا يمتنع أن يقال في الإيلاء أنه كناية إلا أنه أضعف حالا من سائر الكنايات فلا يقع فيه الطلاق باللفظ دون انضمام معنىآخر إليه فأما اللعان فلا دلالة فيه على معنى الكنايات لأن قذفه إياها بالزنا وتلا عنهما لا يصلح أن يكون عبارة عن البينونة بحال وأيضا فإن اللعان مخالف للإيلاء من جهة أن حكمه لا يثبت إلا عند الحاكم

والإيلاء يثبت حكمه بغير الحاكم فكذلك ما يتعلق به من الفرقة وبهذا المعنى فارق العنين أيضا لأن تأجيل متعلق بالحاكم والإيلاء يثبت حكمه من غير حاكم فكذلك ما يتعلق به من حكم الفرقة واحتج من قال بالوقف بقوله تعالى وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم إنه لما قال سميع عليم دل على أن هناك قولا مسموعا وهو الطلاق قال أبو بكر وهذا جهل من قائله من قبل أن السميع لا يقتضي مسموعا لأن الله تعالى لم يزل سميعا ولا مسموعا وأيضا قال الله تعالى وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم وليس هناك قول لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاثبتوا وعليكم بالصمت وأيضا جائز أن يكون ذلك راجعا إلى أول الكلام وهو قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم فأخبر أنه سامع لما تكلم به عليم بما أضمره وعزم عليه ومما يدل على وقوع الفرقة بمضي المدة أن القائلين بالوقف يثبتون هناك معاني أخر غير مذكورة في الاية إذ كانت الآية إنما اقتضت أحد شيئين من فيء أو طلاق وليس فيها ذكر مطالبة المرأة ولا وقف القاضي الزوج على الفيء أو الطلاق فلم يجز لنا أن نلحق بالآية ما ليس فيها ولا أن نزيد فيها ما ليس منها وقول مخالفينا يؤدي إلى ذلك ولا يوجب الاقتصار على موجب حكم الآية وقولنا يوجب الاقتصار علىحكم الآية من غير زيادة فيها فكان أولى ومعلوم أيضا أن الله تعالى إنما حكم في الإيلاء بهذا الحكم لإيصال المرأة إلى حقها من الجماع أو الفرقة وهو على معنى قوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقول من قال بالوقف يقول إن لم يفئ أمره بالطلاق فإذا طلق لم يخل من أن يجعله طلاقا بائنا أو رجعيا فإن جعله بائنا فإن صريح الطلاق لا يكون بائنا عند أحد فما دون الثلاث جعله رجعيا فلا حظ للمرأة في ذلك لأنه متى شاء راجعها فتكون امرأته كما كانت فلا معنى لإلزامه طلاقا لا تملك به المرأة بضعها وتصل به إلى حقها وأما قول مالك إنه لا يصح رجعته حتى يطأها في العدة فقول شديد الاختلال من وجوه أحدها أنه قال إذا طلقها طلاقا رجعيا والطلاق الرجعي لا تكون الرجعة فيه موقوفة على معنى غيرها والثاني أنه إذا منعه الرجعة إلا بعد الوطء فقد نفى أن يكون رجعيا وهو لو راجعها لم تكن رجعة والثالث أنه محظور عليه الوطء بعد الطلاق عنده ولا تقع الرجعة فيه بنفس الوطء فكيف يباح له وطؤها وأما قول من قال أنه تقع تطليقة رجعية بمضي المدة فإنه قول ظاهر الفساد من وجوه

أحدها ما قدمنا ذكره في الفصل الذي قبل هذا والثاني أن سائر الفرق الحادثة في الأصول بغير تصريح فإنها توجب البينونة من ذلك فرقة العنين واختيار الأمة وردة الزوج واختيار الصغيرين فلما لم يكن معه تصريح بإيقاع الطلاق وجب أن يكون بائنا وقد اختلف في إيلاء الذمي فقال أصحابنا جميعا إذا حلف بعتق أو طلاق أن لا يقربها فهو مول وإن حلف بصدقة أو حج لم يكن موليا وإن حلف بالله كان موليا في قول أبي حنيفة ولم يكن موليا في قول صاحبيه وقال مالك لا يكون موليا في شيء من ذلك وقال الأوزاعي إيلاء الذمي صحيح ولم يفصل بين شيء من ذلك وقال الشافعي الذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء قال أبو بكر لما كان معلوما أن الإيلاء إنما يثبت حكمه لما يتعلق بالحنث من الحق الذي يلزمه فواجب على هذا أن يصح إيلاء الذمي إذا كان بالعتق والطلاق لأن ذلك يلزمه كما يلزم المسلم وأما الصدقة والصوم والحج فلا يلزمه إذا حنث لأنه لو أوجبه على نفسه لم يلزمه بإيجابه ولأنه لا يصح منه فعل هذه القرب لأنه لا قربة له ولذلك لم يلزمه الزكوات والصدقات الواجبة على المسلمين في أموالهم في أحكام الدنيا فوجب على هذا أن لا يكون موليا بحلفه الحج والعمرة والصدقة والصيام إذ لا يلزمه بالجماع شيء فكان بمنزلة من لم يحلف وقوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم يقتضي عموم المسلم والكافر ولكنا خصصناه بما وصفنا وأما إذا حلف بالله تعالى فإن أبا حنيفة جعله موليا وإن لم تلزمه كفارة في أحكام الدنيا من قبل أن حكم تسمية الله تعالى قد تعلق على الكافر كهى على المسلم بدلالة أن إظهار الكافر تسمية الله تعالى على الذبيحة يبيح أكلها كالمسلم ولو سمى الكافر باسم المسيح لم تؤكل فثبت حكم تسميته وصار كالمسلم في حكمها فكذلك الإيلاء لأنه يتعلق به حكمان أحدهما الكفارة والآخر الطلاق فثبت حكم التسمية عليه في باب الطلاق ومن الناس من يزعم أن الإيلاء لا يكون إلا بالحلف بالله عز و جل وأنه لا يكون بحلفه بالعتاق والطلاق والصدقة ونحوها وهذا غلط من قائله لأن الإيلاء إذا كان هو الحلف وهو حالف بهذه الأمور ولا يصل إلى جماعها إلا بعتق أو طلاق أو صدقة يلزمه وجب أن يكون موليا كحلفه بالله لأن عموم اللفظ ينتظم الجميع إذ كان من حلف بشيء منه فهو مول
فصل ومما تفيد هذه الآية من الأحكام ما استدل به منها محمد بن الحسن على

امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال لما حكم الله للمولى بأحد حكمين من فيء أو عزيمة الطلاق فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لسقط الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن موليا وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله وذلك خلاف الكتاب والله الموفق للصواب
باب
الإقراء قال الله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء واختلف السلف في المراد بالقرء المذكور في هذه الآية فقال علي وعمر وعبدالله بن مسعود وابن عباس وأبو موسى هو الحيض وقالوا هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وروى وكيع عن عيسى الحافظ عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من أصحاب محمد ص - الخبر فالخبر منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس قالوا الرجل أحق بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها قالت عائشة الإقراء الإطهار وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها ولا تحل للأزواج حتى تغتسل وقال أصحابنا جميعا الإقراء الحيض وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح إلا أن أصحابنا قد قالوا لا تنقضي عدتها إذا كانت أيامها دون العشرة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة وهو قول الحسن بن صالح إلا أنه قال اليهودية والنصرانية في ذلك مثل المسلمة وهذا لم يقله أحد ممن جعل الإقراء الحيض غير الحسن ابن صالح وقال أصحابنا الذمية تنقضي عدتها بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة لا غسل عليها فهي في معنى من اغتسلت فلا تنتظر بعد انقطاع الدم شيئا آخر وقال ابن شبرمة إذا انقطع من الحيضة الثالثة بطلت الرجعة ولم يعتبر الغسل وقال مالك والشافعي الإقراء الإطهار فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد بانت وانقطعت الرجعة قال أبو بكر قد حصل من اتفاق السلف وقوع اسم الإقراء على المعنيين من الحيض ومن الإطهار من وجهين أحدهما أن اللفظ لو لم يكن محتملا لهما لما تأوله السلف عليهما لأنهم أهل اللغة والمعرفة بمعاني الأسماء وما يتصرف عليه المعاني من العبارات فلما تأولها فريق على الحيض وآخرون على الإطهار

علمنا وقوع الاسم عليهما ومن جهة أخرى أن هذا الاختلاف قد كان شائعا بينهم مستفيضا ولم ينكر واحد منهم على مخالفيه في مقالته بل سوغ له القول فيه فدل ذلك على احتمال اللفظ المعنيين وتسويغ الاجتهاد فيه ثم لا يخلو من أن يكون الاسم حقيقة فيهما أو مجازا فيهما أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر فوجدنا أهل اللغة مختلفين في معنى القرء في أصل اللغة فقال قائلون منهم هو اسم للوقت حدثنا بذلك أو عمر وغلام ثعلب عن ثعلب أنه كان إذا سئل عن معنى القرء لم يزدهم على الوقت وقد استشهد لذلك بقول الشاعر ... يا رب مولى حاسد مباغض ... على ذي ضغن وضب فارض ... له قروء كقروء الحائض ...
يعني وقتا تهيج فيه عداوته وعلى هذا تألوا قول الأعشى ... وفي كان عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا ... مورثة ما لا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا ...
يعني وقت وطئهن ومن ا لناس من يتأوله على الطهر نفسه كأنه قال لما ضاع فيها من طهر نسائك وقال الشاعر ... كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح ...
يعني لوقتها في الشتاء وقال آخرون هم الضم والتأليف ومنه قوله ... تريك إذا دخلت على خلاء ... وقد أمنت عيون الكاشحينا ... ذراعي عطيل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا ...
يعني لم تضم في بطنها جنينا ومنه قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته وقروت الأرض إذا جمعت شيئا إلى شيء وسيرا إلى سير ويقولون ما قرأت الناقة سلى قط أي ما اجتمع رحمها على ولد قط ومنه أقرأت النجوم إذا اجتمعت في الأفق ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرىء ذكره الأصمعي والكسائي والفراء وحكى عن بعضهم أنه قال هو الخروج من شيء إلى شيء وهذا قول ليس عليه شاهد من الل غة ولا هو ثابت عمن يوثق به من أهلها وليس فيما ذكرنا من الشواهد ما يليق بهذا المعنى فهو ساقط مردود ثم يقول وإن كانت حقيقته الوقت فالحيض أولى به لأن الوقت إنما يكون وقتا لما يحدث فيه والحيض هو الحادث وليس الطهر شيئا أكثر من عدم الحيض وليس هو شيء حادث

فوجب أن يكون الحيض أولى بمعنى الاسم وإن كان هو الضم والتأليف فالحيض أولى به لأن دم الحيض إنما يتألف ويجتمع من سائر أجزاء البدن في حال الحيض فمعناه أولى بالاسم أيضا فإن قيل إنما يتألف الدم ويجتمع في أيام الطهر ثم يسيل في أيام الحيض قيل له أحسبت أن الأمر كذلك ودلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه قد صار القرء اسما للدم إلا أنك زعمت أنه يكون اسما له في حال الطهر وقلنا يكون اسما له في حال الحيض فلا مدخل إذا للطهر في تسميته بالقرء لأن الطهر ليس هو الدم ألا ترى أن الطهر قد يكون موجودا مع عدم الدم تارة ومع وجوده أخرى على أصلك فإذا القرء اسم للدم وليس باسم للطهر ولكنه لا يسمى بهذا الاسم إلا بعد ظهوره لأنه لا يتعلق به حكم إلا في هذه الحال ومع ذلك فلا يتيقن كونه في الرحم في حال الطهر فلم يحركونه في حال الطهر أن نسميه باسم القرء لأن القرء اسم يتعلق به حكم ولا حكم له قبل سيلانه وقبل العلم بوجوده وأيضا فمن اين لك العلم باجتماع الدم في الرحم في حال الطهر واحتباسه فيه ثم سيلانه في وقت الحيض فإن هذا قول عار من دليل يقوم عليه ويرده ظاهر الكتاب قال الله تعالى ويعلم ما في الأرحام فاستأثر تعالى بعلم ما في الأرحام ولم يطلع عباده عليه فمن أين لك القضاء باجتماع الدم في حال الطهر ثم سيلانه في وقت الحيض وما أنكرت ممن قال إنما يجتمع من سائر البدن ويسيل في وقت الحيض لا قبل ذلك ويكون أولى بالحق منك لأنا قد علمنا يقينا وجوده في هذا الوقت ولم نعلم وجوده في وقت قبله فلا يحكم به لوقت متقدم وإذ قد بينا وقوع الاسم عليهما وبينا حقيقة ما يتناوله هذا الاسم في اللغة فليدل على أنه اسم للحيض دون الطهر في الحقيقة وأن إطلاقه على الطهر إنما هو مجاز واستعارة وإن كان ما قدمنا من شواهد اللغة وما يحتمله اللفظ من حقيقتها كافية في الدلالة على أن حقيقته تختص بالحيض دون الطهر فنقول لما وجدنا أسماء الحقائق التي لا تنتفي عن مسمياتها بحال ووجدنا أسماء المجاز قد يجوز أن تنتفي عنها في حال وتلزمها في اخرى ثم وجدنا اسم القرء غير منتف عن الحيض بحال ووجدناه قد ينتفي عن الطهر لأن الطهر موجود في الآيسة والصغيرة وليستا من ذوات الإقراء علمنا أن اسم القرء للطهر الذي بين الحيضتين مجاز وليس بحقيقة سمي بذلك لمجاورته للحيض كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان مجاورا له وكان منه بسبب لا ترى أنه حين جاور الحيض سمي به وحين لم

يجاوره لم يسم به فدل ذلك على أنه مجاز في الطهر حقيقة في الحيض ومما يدل على أن المراد الحيض دون الطهر أنه لما كان اللفظ محتملا للمعنيين واتفقت الأمة على أن المراد أحدهما فلو أنهما تساويا في الاحتمال لكان الحيض أولاها وذلك لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم - وردت بالحيض دون الطهر بقوله المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها وقال لفاطمة بنت أبي حبيش فإذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة وإذا أدبر فاغتسلي وصلي ما بين القرء إلى القرء فكان لغة النبي صلى الله عليه وسلم - أن القرء الحيض فوجب أن لا يكون معنى الآية إلا محمولا عليه لأن القرآن لا محالة نزل بلغته ص - وهو المبين عن الله عز و جل مراد الألفاظ المحتملة للمعاني ولم يرد لغته بالطهر فكان حمله على الحيض أولى منه على الطهر ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن مسعود قال حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال طلاق الأمة ثنتان وقرؤها حيضتان قال أبو عاصم فحدثني مظاهر قال حدثني به القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله إلا أنه قال وعدتها حيضتان وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد ابن شاذان قال حدثنا معلى قال حدثنا عمر بن شبيب عن عبدالله بن عيسى عن عطية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال تطليق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان فنص على الحيضتين في عدة الأمة وذلك خلاف قول مخالفينا لأنهم يزعمون أن عدتها طهران ولا يستوعبون لها حيضتين وإذا ثبت أن عدة الأمة حيضتان كانت عدة الحرة ثلاث حيض وهذان الحديثان وإن كان ورودهما من طريق الآحاد فقد اتفق أهل العلم على استعمالها في أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة فأوجب ذلك صحته ويدل عليه أيضا حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرىء بحيضة ومعلوم أن أصل العدة موضوع للاستبراء فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم - استبراء الأمة بالحيضة دون الطهر وجب أن تكون العدة بالحيض دون الطهر إذ كل واحد منهما موضوع في الأصل للاستبراء أو لمعرفة براءة الرحم من الحبل وإن كان قد تجب العدة على الصغيرة والآيسة لأن الأصل للاستبراء ثم حمل عليه غيره من الآيسة والصغيرة لئلا يترخص في التي قاربت البلوغ وفي الكبيرة التي قد يجوز أن تحيض وترى الدم بترك العدة فأوجب على الجميع العدة احتياطا للاستبراء الذي ذكرنا ويدل عليه

أيضا قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر فأوجب الشهور عند عدم الحيض فأقامها مقامها فدل ذلك على أن الأصل هو الحيض كما أنه لما قال فلم تجدوا ماء فتيمموا علمنا أن الأصل الذي نقل عنه إلى الصعيد هو الماء ويدل عليه أن الله حصر الإقراء بعدد يقتضي استيفاءه للعدة وهو قوله تعالى ثلاثة قروء واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاءها بكما لها فيمن طلقها للسنة لأن طلاق السنة أن يوقعه في طهر لم يجامعها فيه فلا بد إذا كان كذلك من أن يصادف طلاقه طهرا قد مضى بعضه ثم تعتد بعده بطهرين آخرين فهذان طهران وبعض الثالث فلما تعذر استيفاء الثلاث إذا أراد طلاق السنة علمنا أن المراد الحيض الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية بكماله وليس هذا كقوله تعالى الحج أشهر معلومات فالمراد شهران وبعض الثالث لأنه لم يحصرها بعدد وإنما ذكرها بلفظ الجمع والإقراء محصورة بعدد لا يحتمل الأقل منه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول رأيت ثلاثة رجال ومرادك رجلان وجائز أن تقول رأيت رجالا والمراد رجلان وأيضا فإن قوله تعالى الحج أشهر معلومات معناه عمل الحج في أشهر معلومات ومراده في بعضها لأن عمل الحج لا يستغرق الأشهر وإنما يقع في بعض الأوقات منها فلم يحتج فيه إلى استيفاء العدد وأما الإقراء فواجب استيفاؤها للعدة فإن كانت الإفراد الإطهار فواجب أن يستوفى العدد المذكور كما يستغرق الوقت كله فيكون جميع أوقات الطهر عدة إلى انقضاء عددها فلم يجز الاقتصار به على ما دون العدد المذكور فوجب أن يكون المراد الحيض إذا أمكن استيفاء العدد عند إيقاع طلاق السنة وكما لم يجز الاقتصار في هذه الآيسة والصغيرة على شهرين وبعض الثالث بقوله تعالى فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك لما ذكر ثلاثة قروء على شهرين وبعض الثالث فإن قيل إذا طلقها في الطهر فبقيته قرء تام قيل له فينبغي أن تنقضي عدتها بوجود جزء من الطهر الثالث إذا كان الجزء منه قرءا تاما فإن قيل القرء هو الخروج من حيض أو من طهر إلى حيض إلا أنهم قد اتفقوا أنه لو طلقها وهي حائض لم يكن خروجها من حيض إلى طهر معتدا به قرء فإذا ثبت أن خروجها من حيض إلى طهر غير مراد بقي الوجه الآخر وهو خروجها من طهر إلى حيض ويمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا طلقها في الحيض قيل له قول القائل القرء هو خروج من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر قول يفسد من وجوه أحدها أن السلف اختلفوا

في معنى قوله تعالى يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فقال منهم قائلون هي الحيض وقال آخرون هي الأطهار ولم يقل أحد منهم إنه خروج من حيض إلى طهر أو من طهر إلى حيض فقول القائل بما وصفت خارج عن إجماع السلف وقد انعقد الإجماع منهم بخلافه فهو ساقط ومن جهة أخرى أن أهل اللغة اختلفوا في معناه في أصل اللغة على ما قدمنا من أقوالهم فيه ولم يقل منهم أحد فيما ذكر من حقيقته ما يوجب احتمال خروجها من حيض فيفسد من هذا الوجه أيضا ويفسد أيضا من جهة أن كل من ادعى معنى لاسم من طريق اللغة فعليه أن يأتي بشاهد منها عليه أو رواية عن أهلها فيه فلما عرى هذا القول من دلالة اللغة ورواية فيها سقط ومن أخرى ومن جهة وهي أنه لو كان القرء اسما للانتقال على الوجه الذي ذكرت لوجب أن يكون قد سمي به في الأصل غيره على وجه الحقيقة ثم ينتقل من الانتقال من طهر إلى حيض إذ معلوم أنه ليس باسم موضوع له في أصل اللغة وإنما هو منقول من غيره فإذا لم يسم شيء من ضروب الانتقال بهذا الاسم علمنا أنه ليس باسم له وأيضا لوكان كذلك لوجب أن يكون انتقالها من الطهر إلى الحيض قرءا ثم انتقالها من الحيض إلى الطهر قرءا ثانيا ثم انتقالها من الطهر الثاني إلى الحيض قرءا ثالثا فتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الثانية إذ ليس بحيض على أصلك اسم القرء بالانتقال من الحيض إلى الطهر دون الانتقال من الطهر إلى الحيض فإن قيل الظاهر يقتضيه إلا أن دلالة الإجماع منعت منه قيل له ما أنكرت ممن قال لك إن المراد الانتقال من الحيض إلى الطهر إلا أنه إذا طلقها في الحيض لم يعتد بانتقالها من الحيض إلى الطهر فيه بدلالة الإجماع وحكم اللفظ باق بعد ذلك في سائر الانتقالات من الحيض إلى الطهر فإذا لم يمكنه الانفصال مما ذكرنا وتعارضا سقطا وزال الاحتجاج به فإن قيل اعتبار خروجها من طهر إلى حيض أولى من اعتبار خروجها من حيض إلى طهر لأن في انتقالها من طهر إلى حيض دلالة على براءة رحمها من الحبل وخروجها من حيض إلى طهر غير دال على ذلك لأنه قد يجوز أن تحبل المرأة في آخر حيضها ويدل عليه قول تأبط شرا ... ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل ... يعني إن أمه لم تحبل به في بقية حيضها فيقال له قولك أنه يجوز أن تحبل به في بقية حيضها قول خطأ لأن الحبل لا يجامعه الحيض قال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل

حتى تستبرىء بحيضة فجعل وجود الحيض علما لبراءة رحمها من الحبل فثبت أن الحمل والحيض لا يجتمعا ومتى حملت المرأة وهى حائض ارتفع الحيض ولا يكون الدم الموجود من الحبل حيضا وإنما يكون دم استحاضة وإذا كان كذلك فقولك إن خروجها من الحيض إلى الطهر لا دلالة فيه على براءة رحمها قول خطأ وأما استشهاده بقول تأبط شرا فإنه من العجائب وما علم هذا الشاعر الجاهل بذلك وقد قال الله تعالى ويعلم ما في الأرحام وقال تعالى عالم الغيب يعني أنه استأثر بعلم ذلك دون خلقه وأن الخلق لا يعلمون منه إلا ما علمهم مع دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم - على انتفاء اجتماع الحيض والحبل ومع ذلك فإن ما ذكره هذا القائل دلالة على صحة قولنا لأنه إذا كانت العدة بالإقراء إنما هي لاستبراء الرحم من الحبل والطهر لا استبراء فيه لأن الحمل طهر وجب أن يكون الاعتبار بالحيض التي هي علم البراءة الرحم من الحبل إذ ليس في الطهر دلالة عليه ويدل على أن العدة بالإقراء استبراء أنها لو رأت الدم ثم ظهر بها حبل كانت العدة هي هي الحبل فدل ذلك على أن العدة لذوات الإقراء إنما هي استبراء من الحبل والإستبراء من الحبل إنما يكون بالحيض لا بالطهر من وجهين أحدهما أن عدة الشهور للصغيرة والآيسة طهر صحيح وليس باستبراء والمعنى الآخر أن الطهر مقارن للحبل فدل على أن الاستبراء لا يقع بما يقارنه وإنما يقع بما ينافيه وهو الحيض فيكون دلالة على براءة رحمها من الحبل فوجب أن تكون العدة بالحيض دون الإطهار واحتج من اعتبر الإطهار بقوله تعالى فطلقوهن لعدتهن وقول النبي صلى الله عليه وسلم - لعمر حين طلق ابنه امرأته حائضا مرة فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء قال فهذا يدل من وجهين على أنها بالإطهار أحدهما قوله بعد ذكره الطلاق في الطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وذلك إشارة إلى الطهر دون الحيض فدل على أن العدة بالإطهار دون الحيض والثاني قوله تعالى وأحصوا العدة وذلك عقيب الطلاق في الطهر فوجب أن يكون المحصى هو بقية الطهر وهو الذي يلي الطلاق فيقال له أما قولك فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء فإن اللام قد تدخل في ذلك لحال ماضية ومستقبلة ألا ترى إلى قوله ص - صوموا لرؤيته يعني لرؤية ماضية وقال تعالى ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها يعني الآخرة فاللام ههنا للاستقبال والتراخي ويقولون تأهب للشتاء يعني وقتا مستقبلا

متراخيا عن حال التأهب وإذا كان اللفظ محتملا للماضي والمستقبل ومتى تناول المستقبل فليس في مقتضاه وجوده عقيب المذكور بلا فصل وإذا كان كذلك ووجدنا قوله ص - لابن عمر فيه ذكر حيضة ماضية والحيضة المستقبلة معلومة وإن لم تكن مذكورة وذلك في قوله مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء فاحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الحيضة الماضية فيدل ذلك على أن العدة إنما هي الحيض وجائز أن يريد حيضة مستقبلة إذ هي معلوم كونها على مجرى العادة فليس الطهر حينئذ بأولى بالاعتبار من الحيض لأن الحيض في المستقبل وإن لم يكن مذكورا فجائز أن يراد به إذا كان معلوما كما أنه لم يذكر طهرا بعد الطلاق وإنما ذكر طهرا قبله ولكن الطهر لما كان معلوما وجوده بعد الطلاق إذا طلقها فيه على مجرى العادة جاز عندك رجوع الكلام إليه وإرادته باللفظ ومع ذلك فجائز أن تحيض عقيب الطلاق بلا فصل فليس إذا في اللفظ دلالة على أن المعتبر في الاعتداد به هو الطهر دون الحيض ومع ذلك فقد دل على أنه لو طلقها في آخر الطهر فحاضت عقيب الطلاق بلا فصل إن عدتها ينبغي أن تكون الحيض دون الطهر بمقتضى لفظه ص - إذ ليس في اللفظ ذكر حيض بعد الطلاق ولا طهر فإذا حاضت عقيب الطلاق كان ذلك عدتها ثم لم يفرق أحد في اعتبار الحيض بين وجوده عقيب الطلاق ومتراخيا عنه فأوجب ذلك أن يكون الحيض هو المعتد به من الإقراء دون الطهر فإن قيل الحيضة الماضية غير جائز أن تكون مرادة بالخبر لأن ما قبل الطلاق من الحيض لا يكون عدة قيل له إذا كانت تعتد به بعد الطلاق جاز أن يسميها عدة كما قال تعالى حتى تنكح زوجا غيره فسماه زوجا قبل النكاح ويلزم مخالفنا من ذلك ما لزمنا لأنه ص - ذكر الطهر وأمره أن يطلقها فيه ولم يذكر الطهر الذي بعد الطلاق فقد سمى الطهر الذي قبله عدة لأنه به تعتد عندك فما أنكرت أن تسمي التى قبل الطلاق عدة إذ كانت بها تعتد وأما قوله تعالى وأحصوا العدة فإن الأحصاء ليس بمختص بالطهر دون الحيض لأن كل ذي عدد فالأحصاء يلحقه فإن قيل إذا كان الذي يلي الطلاق هو الطهر وقد أمرنا بالإحصاء فإوجب أن ينصرف الأمر بالإحصاءإليه لأن الأمر على الفور قيل له هذا غلط لأن الإحصاء إنما ينصرف إلى أشياء ذوي عدد فأما شيء واحد قبل انضمام غيره إليه فلا عبرة بإحصائه فإذا لزوم الإحصاء يتعلق بما يوجد في

المستقبل من الإقراء متراخيا عن وقت الطلاق ثم حينئذ الطهر لا يكون أولى به من الحيض إذ كانت سمة الإحصاء تناولهما جميعا وتلحقهما على وجه واحد وأيضا فيلزمك على هذا أن تقول إنها لو حاضت عقيب الطلاق أن تكون عدتها بالحيض للزوم الإحصاء عقيبه والذي يليه في هذه المحال الحيض فينبغي أن يكون هو العدة وقال بعض المخالفين ممن صنف في أحكام القرآن قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن معناه في عدتهن كما يقول الرجل كتب لغرة الشهر معناه في هذا الوقت وهذا غلط لأن في هي طرف واللام وإن كانت متصرفة على معان فليس في أقسامها التي تتصرف عليها وتحتملها كونها ظرفا والمعاني التي تنقسم إلها لام الإضافة خمسة منها لام الملك كقولك له مال ولام الفعل كقولك له كلام وله حركة ولام العلة كقولك قام لأن زيدا جاءه وأعطاه لأنه سأله ولام النسبة كقولك له أب وله أخ ولام الاختصاص كقولك له علم وله إرادة ولام الاستغاثة كقولك يا لبكر ويا لدارم ولام كي وهو قوله تعالى وليرضوه وليقترفوا ولام العاقبة كقوله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا فهذه المعاني التي تنقسم إليها هذه اللام ليس في شيء منها ما ذكره هذا القائل وهو مع ذلك ظاهر الفساد لأنه إذا كان قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن معناه في عدتهن فينبغي أن تكون العدة موجودة حتى يطلقها فيها كما لو قال قائل طلقها في شهر رجب لم يجز له أن يطلقها قبل أن يوجد منه شيء فبان بذلك فساد قول هذا القول وتناقضه ومما يدل على أن قوله تعالى وأحصوا العدة لا دلالة فيه على أنه الطهر الذي مسنون فيه طلاق السنة أنه لو طلقها بعد الجماع في الطهر لكان مخالفا للسنة ولم يختلف حكم ما تعتد به عند الفريقين بكونه جميعا من حيض أو طهر فدل ذلك على أنه لا تعلق لإيقاع طلاق السنة في وقت الطهر بكونه عدة محضاة منها ويدل عليه أنه لو طلقها وهي حائض لكانت معتدة عقيب الطلاق ونحن مخاطبون بإحصاء عدتها فدل على أنه لا تعلق للزوم الإحصاء ولا لوقت طلاق السنة لكونه هو المعتد به دون غيره وقال القائل الذي قدمنا ذكر اعتراضه في هذا الفصل وقد اعتبرتم يعني أهل العراق معاني أخر غير الإقراء من الاغتسال أو مضي وقت الصلاة والله تعالى إنما أوجب العدة بالإقراء وليس الاغتسال ولا مضي وقت الصلاة في شيء فيقال له لم نعتبر غير الإقراء التي هي عندنا ولكنا لم نتيقن انقضاء الحيض والحكم بمضيه إلا بأحد معنيين لمن كانت أيامها دون العشرة وهو

الاغتسال واستباحة الصلاة به فتكون طاهرا بالاتفاق على ما روي عن عمر وعلي وعبدالله وعظماء السلف من بقاء الرجعة إلى أن تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة فيلزمها فرضها فيكون لزوم فرض الصلاة منافيا لبقاء حكم الحيض وهذا إنما هو كلام في مضي الحيضة الثالثة ووقوع الطهر منها وليس ذلك من الكلام في المسألة في شيء ألا ترى أنا نقول أن أيامها إذا كانت عشرة انقضت عدتها بمضي العشرة اغتسلت أو لم تغتسل لحصول اليقين بانقضاء الحيضة إذ لا يكون الحيض عندنا أكثر من عشرة فالملزم لنا ذلك على اعتبار الحيض مغفل في إلزامه واضع للإقراء في غير موضعها قال أبو بكر رحمه الله وقد أفردنا لهذه المسألة كتابا واستقصينا القول فيها أكثر من هذا وفيما ذكرناه ههنا كفاية وهذا الذي ذكره الله تعالى من العدة ثلاثة قروء ومراده مقصور على الحرة دون الأمة وذلك لأنه لا خلاف بين السلف أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة وقد روينا عن علي وعمر وعثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرين منهم أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان والسنة والإجماع قد دلا على أن مراد الله تعالى في قوله ثلاثة قروء هو الحرائر دون الإماء قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن أبي بن كعب قال كان من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها وروى نافع عن ابن عمر في قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن قال الحيض والحبل وقال عكرمة الحيض والحكم عن مجاهد وإبراهيم أحدهما الحمل وقال الآخر الحيض وعن علي أنه استحلف امرأة أنها لم تستكمل الحيض وقضى بذلك عثمان وقال أبو بكر لما وعظها بترك الكتمان دل على أن القول قولها في وجود الحيض أو عدمه وكذلك في الحبل لأنهما جميعا مما خلق الله في رحمها ولولا أن قولها فيه مقبول لما وعظت بترك الكتمان ولا كتمان لها فثبت بذلك أن المرأة إذا قالت أنا حائض لم يحل لزوجها وطؤها وأنها إذا قالت قد طهرت حل له وطؤها وكذلك قال أصحابنا أنه إذا قال لها أنت طالق إن حضت فقالت قد حضت طلقت وكان قولها كالبينة وفرقوا بين ذلك وبين سائر الشروط إذا علق بها الطلاق نحو قوله إن دخلت الدار وكلمت زيدا فقالوا لا يقبل قولها إذا لم يصدقها الزوج إلا ببينة وتصدق في الحيض والطهر لأن الله تعالى قد أوجب علينا

قبول قولها في الحيض والحبل وفي انقضاء العدة وذلك معنى يخصها ولا يطلع عليه غيرها فجعل قولها كالبينة فكذلك سائر ما تعلق من الأحكام بالحيض فقولها مقبول فيه وقالوا لو قال لها عبدي حر إن حضت فقالت قد حضت لم تصدق لأن ذلك حكم في غيرها أعني عتق العبد والله تعالى إنما جعل قولها كالبينة في الحيض فيما يخصها من انقضاء عدتها ومن إباحة وطئها أو حظره فأما فيما لا يخصها ولا يتعلق بها فهو كغيره من الشروط فلا تصدق عليه ونظير هذه الآية في تصديق المؤتمن فيما اؤتمن عليه قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا لما وعظه بترك البخس دل ذلك على أن القول قوله فيه ولولا أنه مقبول القول فيه لما كان موعوظا بترك البخس وهو لو بخس لم يصدق عليه ومنه أيضا قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه دل ذلك على أن الشاهد إذا كتم أو أظهر كان المرجع إلى قوله فيما كتم وفيما أظهر لدلالة وعظه إياه بترك الكتمان على قبول قوله فيها وذلك كله أصل في أن كل من اؤتمن على شيء فالقول قوله فيه كالمودع إذا قال قد ضاعت الوديعة أو قد رددتها وكالمضارب والمستأجر وسائر المأمونين على الحقوق ولذلك قلنا إن قوله تعالى فرهان مقبوضة ثم قوله تعالى عطفا عليه فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه فيه دلالة على أن الرهن ليس بأمانة لأنه لو كان أمانة لما عطف الأمانة عليه إذ كان الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره ومن الناس من يقول إن قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنما هو مقصور الحكم على الحبل دون الحيض لأن الدم إنما يكون حيضا إذا سال ولا يكون حيضا وهو في الرحم لأن الحيض هو حكم يتعلق بالدم الخارج فما دام في الرحم فلا حكم له ولا معنى لاعتباره ولا اؤتمان المرأة عليه قال أبو بكر هذا صحيح إذ الدم لا يكون حيضا إلا بعد خروجه من الرحم ولكن دلالة الآية قائمة على ما ذكرنا وذلك لأن وقت الحيض إنما يرجع فيه إلى قولها إذ ليس كل دم سائل حيضا وإنما يكون حيضا بأسباب أخر نحو الوقت والعادة وبراءة الرحم عن الحبل وإذا كان كذلك وكانت هذه الأمور إنما تعلم من جهتها فهي إذا قالت قد حضت ثلاث حيض فالقول قولها بمقتضى الآية وكذلك إذا قالت لم أر دما ولم تنقض عدتي فالقول قولها وكذلك إذا قالت قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه وانقضت عدتي فالقول قولها وإنما التصديق متعلق بحيض قد وجد ودم قد

سال وفي هذه الآية دلالة على أن الحيض لا يتعلق حكمه بلون الدم لأنه لو كان كذلك لما اختصت هي بالرجوع إلى قولها دوننا لأنها وإيانا متساوون في التفرقة بين الألوان فدل ذلك على أن دم الحيض غير متميز بلونه من لون دم الاستحاضة وأنهما على صفة واحدة ففيه دلالة على بطلان قول من اعتبر الحيض بلون الدم وإنما لم يعلم ذلك إلا من جهتها عند سقوط اعتبار لون الدم لما وصفنا من أن وقت الحيض والعادة فيه ومقداره وأوقات الطهر إنما يعلم من جهتها إذ ليس كل دم حيضا وكذلك وجود الحمل النافي لكون الدم حيضا وإسقاط سقط كل ذلك المرجع فيه إلى قولها لأنا لا نعلمه نحن ولا نقف عليه إلا من جهتها فلذلك جعل القول فيه قولها وذكر هشام عن محمد أن قول المرأة مقبول في وجود الحيض ويحكم ببلوغها إذا كانت قد بلغت سنا تحيض مثلها وذلك لما ذكرنا من قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن قال محمد ولو قال صبي مراهق قد احتلمت لم يصدق فيه حتى يعلم الاحتلام أو بلوغ سن يكون مثله بالغا فيها ففرق بين الحيض والاحتلام والفرق بينهما أن الحيض إنما يعلم من جهتها لتعلقه بالأوقات والعادة والمعاني التي لا تعلم من جهة غيرها ودلالة الآية على قبول قبولها فيه وليس كذلك الاحتلام لأنه لا يتعلق خروج المنى على وجه الدفق والشهوة بأسباب أخر غير خروجه ولا اعتبار فيه بوقت ولا عادة فلما كان كذلك لم يعتبر قوله فيه حتى نعلم يقينا صحة ما قال ومن جهة أخرى أن دم الحيض والاستحاضة لما كانا على صفة واحدة لم يجز لمن شاهد الدم أن يقضى له بحكم الحيض فوجب الرجوع إلى قولها إذ كان إنما هو شيء تعلمه هي دوننا وأما الاحتلام فلا يشتبه فيه خروج المنى على أحد شاهده وهو يدرك ويعلم من غير التباس منه بغيره فلذلك لم نحتج فيه إلى الرجوع إلى قوله وقوله تعالى إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ليس بشرط في النهي عن الكتمان وإنما هو على وجه التأكيد وأنه من شرائط الأيمان فعليها أن لا تكتم ومن يؤمن ومن لا يؤمن في هذا النهي سواء وهو كقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وقول مريم إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا قد تضمن ضروبا من الأحكام أحدها أن ما دون الثلاث لايرفع الزوجية ولا يبطلها وإخبار ببقاء الزوجية معه لأنه سماه بعلا بعد الطلاق فدل ذلك على بقاء التوارث وسائر أحكام الزوجية ما دامت معتدة ودل على أن له الرجعة

ما دامت معتدة لأنه قال في ذلك يعني فيما تقدم ذكره من الثلاثة قروء ودل على أن إباحة هذه الرجعة مقصورة على حال إرادة الإصلاح ولم يرد بها الإضرار بها وهو كقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا فإن قيل فما معنى قوله تعالى أحق بردهن في ذلك مع بقاء الزوجية وإنما يقال ذلك فيما قد زال عنه ملكه فأما فيما هو في ملكه فلا يصح أن يقال بردها إلى ملكه مع بقاء ملكه فيها قيل له لما كان هناك سبب قد تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدة طاز إطلاق اسم الرد عليه ويكون ذلك بمعنى المانع من زوال الزوجية بانقضاء العدة فسماه ردا إذ كان رافعا لحكم السبب الذي تعلق به زوال الملك وهو كقوله تعالى فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وهو ممسك لها في هذه الحال لأنها زوجته وإنما المراد الرجعة الموجبة لبقاء النكاح بعد انقضاء الحيض التي لو لم تكن الرجعة لكانت مزيلة للنكاح وهذه الرجعة وإن كانت إباحتها معقودة بشريطة إرادة الإصلاح فإنه لا خلاف لين أهل العلم أنه إذا راجعها مضارا في الرجعة مريدا لتطويل العدة عليها إن رجعته صحيحة وقد دل على ذلك قوله تعالى فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ثم عقبه بقوله تعالى ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه فلو لم تكن الرجعة صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالما لنفسه بفعلها وقد دلت الآية أيضا على جواز إطلاق لفظ العموم في مسميات ثم يعطف عليه بحكم يختص به بعض ما انتظمه العموم فلا يمنع ذلك اعتبار عموم اللفظ فيما يشمله في غير ما خص به المعطوف لأن قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء عام في المطلقة ثلاثا وفيما دونها لا خلاف في ذلك ثم قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث ولم يوجب ذلك الاقتصار بحكم قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء على ما دون الثلاث ولذلك نظائره كثيرة في القرآن والسنة نحو قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وذلك عموم في الوالدين الكافرين والمسلمين ثم عطف عليه قوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وذلك خاص في الوالدين المشركين فلم يمنع ذلك عموم أول الخطاب في الفريقين من المسلمين والكفار والله أعلم بالصواب

باب
حق الزوج على المرأة وحق المرأة على الزوج قال الله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة قال أبو بكر رحمه الله أخبر الله تعالى في هذه الآية أن لكل واحد من الزوجين على صاحبه حقا وإن الزوج مختص بحق له عليها ليس لها عليه مثله بقوله تعالى وللرجال عليهن درجة ولم يبين في هذه الآية ما لكل واحد منهما على صاحبه من الحق مفسرا وقد بينه في غيرها وعلى لسان رسوله ص - فمما بينه الله تعالى من حق المرأة عليه قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف وقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقال تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقال تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم وكانت هذه النفقة من حقوقها عليه وقال تعالى وآتوا ا لنساء صدقاتهن نحلة فجعل من حقها عليه أن يوفيها صداقها وقال تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهنقنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فجعل من حقها عليه أن لا يأخذ مما أعطاها شيئا إذا أراد فراقها وكان النشوز من قبله لأن ذكر الاستبدال يدل على ذلك وقال تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة فجعل من حقها عليه ترك إظهار الميل إلى غيرها وقد دل ذلك على أن من حقها القسم بينها وبين سائر نسائه لأن فيه ترك إظهار الميل إلى غيرها ويدل عليه أن عليه وطأها بقوله تعالى فتذروها كالمعلقة يعني لا فارغة فتتزوج ولا ذات زوج إذ لم يوفها حقها من الوطء ومن حقها أن لا يمسكها ضرارا على ما تقدم من بيانه وقوله تعالى ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف إذا كان خطابا للزوج فهو يدل على أن من حقها إذا لم يمل إليها أن لا يعضلها عن غيره بترك طلاقها فهذه كلها من حقوق المرأة على الزوج وقد انتظمت هذه الآيات إثباتها لها ومما بين الله من حق الزوج على المرأة قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله فقيل فيه حفظ مائة في رحمها ولا تحتال في إسقاطه ويحتمل حفظ فراشها عليه ويحتمل حافظات لما في بيوتهن من مال أزواجهن ولأنفسهن وجائز أن يكون المراد جميع ذلك لاحتمال اللفظ له وقال تعالى الرجال قوامون على النساء قد أفاد ذلك لزومها طاعته لأن وصفه بالقيام عليها يقتضي ذلك وقال تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن

واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ويدل على أن عليها طاعته في نفسها وترك النشوز عليه وقد روي في حق الزوج على المرأة وحق المرأة عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار بعضها مواطىء لما دل عليه الكتاب وبعضها زائد عليه من ذلك ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي وغيره قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم - بعرفات فقال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وروى ليث عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عمر قال جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله ما حق الزوج على الزوجة فذكر فيها أشياء لا تصدق بشيء من بيته إلا بإذنه فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر فقالت يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته قال لا تخرج من بيته إلا بإذنه ولا تصوم يوما إلا بإذنه وروى مسعر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ثم قرأ الرجال قوامون على النساء الآية قال أبو بكر ومن الناس من يحتج بهذه الآية في إيجاب التفريق إذا أعسر الزوج بنفقتها لأن الله تعالى جعل لهن من الحق عليها مثل الذي عليهن فسوى بينها فغير جائز أن يستبيح بضعها من غير نفقة ينفقها عليها وهذا غلط من وجوه أحدها أن النفقة ليست بدلا عن ا لبضع فيفرق بينهما ويستحق البضع عليها من أجلها لأنه قد ملك البضع بعقد النكاح وبدله هو المهر والوجه الثاني أنها لو كانت بدلا لما استحقت التفريق بالآية لأنه عقب ذلك قوله تعالى وللرجال عليهن درجة فاقتضى ذلك تفضيله عليها فيما يتعلق بينهما من حقوق النكاح وأن يستبيح بعضها وإن لم يقدر على نفقتها وأيضا فإن كانت النفقة مستحقة عليها بتسليمها نفسها في بيته فقد أوجبنا لها عليه مثل ما أبحنا منها له وهو فرض النفقة وإثباتها في ذمته لها فلم تخل في هذه الحال من إيجاب الحق لها كما أوجبناه له عليها ومما تضمنه قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف من الدلالة على الأحكام إيجاب مهر المثل إذا لم يسم لها مهرا لأنه قد ملك عليها بضعها بالعقد واستحق عليها تسليم نفسها إليه فعليه

لها مثل ملكه عليها ومثل البضع هو قيمته وهي مهر المثل كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فقد عقل به وجوب قيمة ما يستملكه عليه بما لا يمثل له من جنسه وكذلك مثل البضع هو مهر المثل وقوله تعالى بالمعروف يدل على أن الواجب من ذلك مالا شطط فيه ولا تقصير كما قال ص - في المتوفى عنها زوجها ولم يسم لها مهرا ولم يدخل بها لها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط وقوله أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط فهذا هو المعنى المعروف المذكور في الآية وقد دلت الآية أيضا على أنه لو تزوجها على أنه لا مهر لها إن المهر واجب لها إذ لم تفرق بين من شرط نفي المهر في النكاح وبين من لم يشرط في إيجابه لها مثل الذي عليها وقوله وللرجال عليهن درجة قال أبو بكر مما فضل به الرجل على المرأة ما ذكره الله من قوله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض فأخبر بأنه مفضل عليها بأن جعل قيما عليها وقال تعالى وبما أنفقوا من أموالهم فهذا أيضا مما يستحق به التفضيل عليها ومما فضل به عليها ما ألزمها الله من طاعته بقوله تعالى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ومن درجات التفضيل ما أباحه للزوج من ضربها عند النشوز وهجران فراشها من وجوه التفضيل عليها ما ملك الرجل من فراقها بالطلاق ولم تملكه ومنها أنه جعل له أن يتزوج عليها ثلاثا سواها ولم يجعل لها أن تتزوج غيره ما دامت في حباله أو في عدة منه ومنها زيادة الميراث على قسمها ومنها أن عليها أن تنتقل إلى حيث يريد الزوج وليس على الزوج اتباعها في النقلة والسكنى وأنه ليس لها أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ضروب أخر من التفضيل سوى ما ذكرنا منها حديث إسماعيل بن عبدالملك عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن وحديث خلف بن خليفة عن حفص بن أخي أنس عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة بالقيح والصديد ثم لحسته لما أدت حقه وروى الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة

حتى تصبح وفي حديث حصين بن محصن عن عمة له أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم - فقال أذات زوج أنت فقالت نعم قال فأين أنت منه قالت ما ألوه إلا ما عجزت عنه قال فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك أو نارك وروى سفيان عن أبي زياد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تصوم المرأة يوما وزوجها شاهد من غير رمضان إلا بإذنه وحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - النساء أن يصمن إلا بإذن أزواجهن فهذه الأخبار مع ما تضمنته دلالة الكتاب توجب تفضيل الزوج على المرأة في الحقوق التي يقتضيها عقد النكاح وقد ذكر في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء نسخ في مواضع أحدها ما رواه مطرف عن أبي عثمان النهدي عن أبي بن كعب قال لما نزلت عدة النساء في الطلاق والمتوفى عنها زوجها قلنا يا رسول الله قد بقي نساء لم تنزل عدتهن بعد الصغار والكبار والحبلى فنزلت واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إلى قوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وروى عبدالوهاب عن سعيد عن قتادة قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فجعل عدة المطلقة ثلاث حيض ثم نسخ منها التي لم يدخل بها في العدة ونسخ من الثلاثة القروء امرأتان واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فهذه العجوز التي لاتحيض والائي والئي لم يحضن فهذه البكر عدتها ثلاثة أشهر وليس الحيض من أمرها في شيء ونسخ من الثلاثة القروء الحامل فقال وأولات الأحمال أجلهن أن يضعه حملهن فهذه أيضا ليست من القروء في شيء إنما أجلها أن تضع حملها قال أبو بكر أما حديث أبي بن كعب فلا دلالة فيه على نسخ شيء وإنما أكثر ما فيه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم - عن عدة الصغيرة والآيسة والحبلى فهذا يدل على أنهم علموا خصوص الآية وأن الحبلى لم تدخل فيها مع جواز أن تكون مرادة بها وكذلك الصغيرة لأنه كان جائزا أن يشترط ثلاثة قروء بعد بلوغها وإن طلقت وهي صغيرة وأما الآيسة فقد عقل من الآية أنها لم ترد بها لأن الآيسة هي التي لا ترجى لها حيض فلا جائر أن يتناولها مراد الآية بحال وأما حديث قتادة فإنه ذكر أن الآية كانت عامة في اقتضائها إيجاب العدة بالإقراء في المدخول بها وغير المدخول بها وأنه نسخ منها غير المدخول بها وهذا ممكن أن يكون كما قال وأما قوله ونسخ عن الثلاثة قروء امرأتان وهي الايسة والصغيرة فإنه أطلق لفظ النسخ في الآية وأراد به التخصيص وكثيرا ما يوجد

عن ابن عباس وعن غيره من أهل التفسير إطلاق لفظ النسخ ومرادهم التخصيص فإنما أراد قتادة بذكر النسخ في الآيسة التخصيص لا حقيقة النسخ لأنه غير جائز ورود النسخ إلا فيما قداستقر حكمه وثبت وغير جائز أن تكون الآيسة مرادة بعدة الإقراء مع استحالة وجودها منها فدل على أنه أراد التخصيص وقد يحتمل وجها على بعد عندنا وهو أن يكون مذهب قتادة أن التي ارتفع حيضها وإن كانت شابة تسمى آيسة وأن عدتها مع ذلك الإقراء وإن طالت المدة فيها وقد روي عن عمر أن التي ارتفع حيضها من الآيسات وتكون عدتها عدة الآيسة وإن كانت شابة وهو مذهب مالك فإن كان إلى هذا ذهب في معنى الآيسة فهذه جائز أن تكون مرادة بالإقراء لأنها يرجى وجودها منها وأما قوله ونسخ من الثلاثة قروء الحامل فإن هذا أيضا جائز سائغ لأيه لا يمتنع ورود العبارة بأن عدة الحامل ثلاث حيض بعد وضع الحمل وإن كانت ممن لا تحيض وهي حامل فجائز أن يكون عدتها ثلاثة قروء بعد وضع الحمل فنسخ بالحمل إلا أن أبي بن كعب قد أخبر أن الحامل لم تكن مرادة بعدة الإقراء وأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأخبر بأنه لم تنزل في الحامل والآيسة والصغيرة فأنزل الله تعالى ذلك وليس يجوز إطلاق النسخ على الحقيقة إلا فيما قد علم ثبوت حكمه وورود الحكم الناسخ له متأخرا عنه إلا أن يطلق لفظ النسخ والمراد التخصيص على وجه المجاز فلا يضيق وأولى الأشياء بنا حمله على وجه التخصيص فيكون قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن لم يرد إلا خاصا في المطلقات ذوات الحيض المدخول بهن وأن الآيسة والصغيرة والحامل لم يردن قط بالآية إذ ليس معنا تاريخ لورود هذه الأحكام ولا علم باستقرار حكمها ثم نسخه بعده فكأن هذه الآيات وردت معا وترتبت أحكامها على ما اقتضاها من استعمالها وبني العام على الخاص منها وقد روي عن ابن عباس وجه آخر من النسخ في هذه الآية وهو ما روى الحسين بن الحسن بن عطية عن أبيه عطية عن ابن عباس قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى قوله وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته كان أحق بردها وإن طلقها ثلاثا فنسختها هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن إلى قوله جميلا وعن الضحاك بن مزاحم والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقال فعدتهن ثلاثة أشهر فنسخ واستثنى منها فقال إذا نكحتم المؤمنات ثم

طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وروي فيها وجه آخر وهو ما روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان الرجل إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك إلي ولا تحلين مني أبدا فأنزل الله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان منهم طلق أو لم يطلق وروى شيبان عن قتادة في قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك قال في القروء الثلاثة ثم قال الطلاق مرتان لكل مرة قرء فنسخت هذه الآية ما كان قبلها فجعل الله حد الطلاق ثلاثا فجعله أحق برجعتها مالم تطلق ثلاثا
باب
عدد الطلاق قال الله عز و جل الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال أبو بكر قد ذكرت في معناه وجوه أحدها أنه بيان للطلاق الذي نثبت معه الرجعة يروى ذلك عن عروة بن الزبير وقتادة والثاني أنه بيان لطلاق السنة المندوب إليه ويروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والثالث أنه أمر بأنه إذا أراد أن يطلقها ثلاثا فعليه تفريق الطلاق فيتضمن الأمر بالطلاق مرتين ثم ذكر بعدهما الثالثة قال أبو بكر فأما قول من قال إنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق وإن ذكر معه الرجعة عقيبه فإن ظاهره يدل على أنه قصد به بيان المباح منه وأما ما عداه فمحظور وبين مع ذلك حكمه إذا أوقعه على الوجه المأمور به بذكر الرجعة عقيبه والدليل على أن المقصد فيه الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة أنه قال الطلاق مرتان وذلك يقتضي التفريق لا محالة لأنه لو طلق اثنتين معا لما جاز أن يقال طلقها مرتين وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع فحينئذ يطلق عليه وإذا كان هذا هكذا فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين إذا كان هذا الحكم ثابتا في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين فثبت بذلك أن ذكره للمرتين إنما هو أمر بإيقاعه مرتين ونهي عن الجمع بينهما في مرة واحدة ومن جهة أخرى أنه لو كان اللفظ محتملا للأمرين لكان الواجب حمله

على إثبات الحكم في إيجاب الفائدتين وهو الأمر بتفريق الطلاق متى أراد يطلق اثنتين وبيان حكم الرجعة إذا طلق كذلك فيكون اللفظ مستوعبا للمعنيين وقوله تعالى الطلاق مرتان وإن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر كقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء والوالدات يرضعن أولادهن وما جرى هذا المجرى مما هو في صيغة الخبر ومعناه الأمر والدليل على أنه أمر وليس بخبر أنه لو كان خبرا لوجد مخبره على ما أخبر به لأن أخبار الله لا تنفك من وجود مخبراتها فلما وجدنا الناس قد يطلقون الواحدة والثلاث معا ولو كان قوله تعالى الطلاق مرتان اسما للخبر لاستوعب جميع ما تحته ثم وجدنا في الناس من يطلق لا على الوجه المذكور في الآية علمنا أنه لم يرد الخبر وأنه تضمن أحد معنيين إما الأمر بتفريق الطلاق متى أردنا الإيقاع أو الإخبار عن المسنون المندوب إليه منه وأولى الأشياء حمله على الأمر إذ قد ثبت أنه لم يرد به حقيقة الخبر لأنه حينئذ يصير بمعنى قوله طلقوا مرتين متى أردتم الطلاق وذلك يقتضي الإيجاب وإنما ينصرف إلى الندب بدلالة ويكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - الصلاة مثنى مثنى والتشهد في كل ركعتين وتمكن وخشوع فهذه صيغة الخبر والمراد الأمر بالصلاة على هذه الصفة وعلى أنه إن حمل على أن المراد بيان المسنون من الطلاق كانت دلالته قائمة على حظر جمع الإثنين والثلاث لأن قوله الطلاق مرتان منتظم لجميع الطلاق المسنون فلا يبقى شيء من مسنون الطلاق إلا وقد انطوى تحت هذا اللفظ فإذا ما خرج عنه فهو على خلاف السنة فثبت بذلك أن من جمع اثنتين أو ثلاثا في كلمة فهو مطلق لغير السنة فانتظمت هذه الآية الدلالة على معان منها أن مسنون الطلاق التفريق بين إعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثا ومنها أن له أن يطلق اثنتين في مرتين ومنها أن ما دون الثلاث تثبت معه الرجعة ومنها أنه إذا طلق اثنتين في الحيض وقعتا لأن الله قد حكم بوقوعهما ومنها أنه نسخ هذه الآية الزيادة على الثلاث على ما روي عن ابن عباس وغيره إنهم كانوا يطلقون ما شاؤا من العدد ثم يراجعون فقصروا على الثلاث ونسخ به ما زاد ففي هذه الآية دلالة على حكم العدد المسنون من الطلاق وليس فيها ذكر الوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق وقد بين الله ذلك في قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم - طلاق العدة فقال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض ما هكذا أمرك الله إنما طلاق العدة أن تطلقها طاهرا من غير جماع

أو حاملا وقد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء فكان طلاق السنة معقودا بوصفين أحدهما العدد والآخر الوقت فأما العدد فأن لا يزيد في طهر واحد على واحدة وأما الوقت فأن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها وقد اختلف أهل العلم في طلاق السنة لذوات الإقراء فقال أصحابنا أحسن الطلاق أن يطلقها إذا طهرت قبل الجماع ثم يتركها حتى تنقضي عدتها وإن أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها عند كل طهر واحدة قبل الجماع وهو قول الثوري وقال أبو حنيفة وبلغنا عن إبراهيم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة وأن هذا عندهم أفضل من أن يطلقها ثلاثا عند كل طهر واحدة وقال مالك وعبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون والليث بن سعد والحسن بن صالح والأوزاعي طلاق السنة أن يطلقها في طهر قبل الجماع تطليقة واحدة ويكرهون أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار لكنه إن لم يرد رجعتها تركها حتى تنقضي عدتها من الواحدة وقال الشافعي فيما رواه عنه المزني لا يحرم عليه أن يطلقها ثلاثا ولو قال لها أنت طالق ثلاثا للسنة وهي طاهر من غير جماع طلقت ثلاثا معا قال أبو بكر فنبدأ بالكلام على الشافعي في ذلك فنقول إن دلالة الآية التي تلوتها ظاهرة في بطلان هذه المقالة لأنها تضمنت الأمر بإيقاع الإثنتين في مرتين فمن أوقع الإثنتين في مرة فهو مخالف لحكمها ومما يدل على ذلك قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وظاهره يقتضي تحريم الثلاث لما فيها من تحريم ما أحل لنا من الطيبات والدليل على أن الزوجات قد تناولهن هذا العموم قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء فوجب بحق العموم حظر الطلاق الموجب لتحريمها ولولا قيام الدلالة في إباحة إيقاع الثلاث في وقت السنة وإيقاع الواحدة لغير المدخول بها لاقتضت الآية حظره ومن جهة أخرى من دلائل الكتاب أن الله تعالى لم يبح الطلاق ابتداء لمن تجب عليها العدة لا مقرونا بذكر الرجعة منها قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف وقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقوله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إلا مقرونا بذكر الرجعة وحكم الطلاق مأخوذ من هذه الآيات لولاها لم يكن الطلاق من أحكام الشرع فلم يجز لنا إثباته مسنونا إلا على هذه

الشريطة وبهذا الوصف وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد وأقل أحوال هذا اللفظ حظر خلاف ما تضمنته الآيات التي تلونا من إيقاع الطلاق المبدأ مقرونا بما يوجب الرجعة ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة أمر الله أن يطلق لها النساء وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة قال حدثنا يونس عن ابن شهاب قال أخبرني سالم بن عبدالله عن أبيه أنه طلق امرأته وهي حئض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم قال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله فذكر سالم في رواية الزهري عنه ونافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها ثم يدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر مثله وروى يونس وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أره أن يراجعها حتى تطهر ثم قال إن شاء طلق وإن شاء أمسك والأخبار الأول لما فيها من الزيادة ومعلوم أن جميع ذلك إنما ورد في قصة واحدة وإنما ساوى بعضهم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم - على وجهه وحذف بعضهم ذكر الزيادة إغفالا أو نسيانا فوجب استعماله بما فيه من زيادة ذكر الحيضة إذ لم يثبت أن الشارع ص - قال ذلك عاريا من ذكر الزيادة وذكره مرة مقرونا بها إذ كان فيه إثبات القول منه في حالين وهذا مما لا نعلمه فغير جائز إثباته وعلى أنه لو كان الشارع ص - قد قال ذلك في حالين لم يخل من أن يكون المتقدم منهما هو الخبر الذي فيه الزيادة والآخر متأخرا عنه فيكون ناسخا له وأن يكون الذي لا زيادة فيه هو المتقدم ثم ورد بعده ذكر الزيادة فيكون ناسخا للأول بإثبات الزيادة ولا سبيل لنا إلى العلم بتاريخ الخبرين لا سيما وقد أشار الجميع من الرواة إلى قصة واحدة فإذا لم يعلم التاريخ وجب إثبات الزيادة من وجهين أحدهما أن كل شيئين لا يعلم تاريخهما فالواجب الحكم بهما معا ولا يحكم بتقدم أحدهما على الآخر كالغرقى والقوم يقع عليهم البيت وكما نقول في البيعين

من قبل رجل واحد إذا قامت عليهما البينة ولم يعلم تاريخهما فيحكم بوقوعهما معا فكذلك هذان الخبران وجب الحكم بهما معا إذ لم يثبت لهما تاريخ فلم يثبت الحكم إلا مقرونا بالزيادة المذكورة فيه والوجه الآخر أنه قد ثبت أن الشارع قد ذكر الزيادة وأثبتها وأمر باعتبارها بقوله مره فليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء لورودها من طرق صحيحة فإذا كانت ثابتة في وقت واحتمل أن تكون منسوخة بالخبر الذي فيه حذف الزيادة واحتمل أن تكون غير منسوخة لم يجز لنا إثبات النسخ بالاحتمال ووجب بقاء حكم الزيادة ولما ثبت ذلك وأمر الشارع ص - بالفصل بين التطليقة الموقعة في الحيض وبين الأخرى التي أمره بإيقاعها بحيضة ولم يبح له إيقاعها في الطهر الذي يلي الحيضة ثبت إيجاب الفصل بين كل تطليقتين بحيضة وأنه غير جائز له الجمع بينهما في طهر واحد لأنه ص - كما أمره بإيقاعها في الطهر ونهاه عنها في الحيض فقد أمره أيضا بأن لا يواقعها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيه ولا فرق بينهما فإن قيل قد روي عن أبي حنيفة أنه إذا طلقها ثم راجعها في ذلك الطهر جاز له إيقاع تطليقة أخرى في ذلك الطهر فقد خالف بذلك ما أردت تأكيده من الزيادة المذكورة في الخبر قيل له ذكرنا هذه المسألة في الأصول ومنعه من إيقاع التطليقة الثانية في ذلك الطهر وإن راجعها حتى يفصل بينهما بحيضة وهذا هو الصحيح والرواية الأخرى غير معمول عليها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في النهي عن إيقاع الثلاث مجموعة بما لا مساغ للتأويل فيه وهو ما حدثنا ابن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان الجوهري قال حدثنا معلى بن منصور قال حدثنا سعيد بن زريق أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال حدثنا عبدالله بن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم راد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرئين الباقيين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء فأمرني رسول الله فراجعتها وقال إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك فقلت يا رسول الله ارأيت لو كنت طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها قال لا كانت تبين وتكون معصية فأخبر ص -
نصا في هذا الحديث بكون الثلاث معصية فإن قيل لما قال النبي ص - في سائر أخبار ابن عمر حين ذكر الطهر الذي هو وقت لإيقاع طلاق السنة ثم ليطلقها إن شاء ولم يخصص ثلاثا مما دونها كان ذلك إطلاقا للإثنتين والثلاث معا قيل

له لما ثبت بما قدمنا من إيحابه الفصل بين التطليقتين بحيضة ثم عطف عليه بقوله ثم ليطلقها إن شاء علمنا أنه إنما أراد واحدة لا أكثر منها لاستحالة إرادته نسخ ما أوجبه بديا من إيجابه الفصل بينهما وما اقتضاه ذلك من حظر الجمع بين تطليقتين إذ غير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد لأن النسخ لا يصح إلا بعد استقرار الحكم والتمكن من الفعل ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول في خطاب واحد قد أبحت لكم ذا الناب من السباع وقد حظرته عليكم لأن ذلك عبث والله تعالى منزه عن فعل العبث وإذا ثبت ذلك علمنا أن قوله ثم ليطلقها إن شاء مبني على ما تقدم من حكمه في ابتداء الخطاب وهو أن لا يجمع بين اثنتين في طهر واحد وأيضا فلو خلا هذا اللفظ من دلالة حظر الجمع بين التطليقتين في طهر واحد لما دل على إباحته لوروده مطلقا عاريا من ذكر ما تقدم لأن قوله ثم ليطلقها إن شاء لم يقتض اللفظ أكثر من واحد وكذلك نقول في نظائر ذلك من الأوامر أنه إنما يقتضي أدنى ما يتناوله الاسم وإنما يصرف إلى الأكثر بدلالة كقول الرجل لآخر طلق امرأتي إن الذي يجوز له إيقاعه بالأمر إنما هو تطليقة واحدة لا أكثر منها وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لعبده تزوج أنه يقع على امرأته واحدة فإن تزوج اثنتين لم يجز نكاح واحدة منهما إلا أن يقول المولى أردت اثنتين وكذلك قوله فليطلقها إن شاء لم يقتض إلا تطليقة واحدة وما زاد عليها فإنما يثبت بدلالة فهذا الذي قدمناه من دلالة الكتاب والسنة على حظر جمع الثلاث والإثنتين في كلمة واحدة قد ورد بمثله اتفاق السلف من ذلك ما روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله أنه قال طلاق السنة أن يطلقها تطليقة واحدة وهي طاهر في غير جماع فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى وقال إبراهيم مثل ذلك وروى زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله قال من أراد الطلاق الذي هو الطلاق فليطلق عند كل طهر من غير جماع فإن بدا له أن يراجعها وأشهد رجلين وإذا كانت الثانية في مرة أخرى فكذلك فإن الله تعالى يقول الطلاق مرتان وروى ابن سيرين عن علي قال لو أن الناس أصابوا أحد الطلاق ما ندم أحد على امرأة يطلقها وهي طاهر من غير جماع أو حاملا قد تبين حملها فإذا بدا له أن يراجعها راجعها وإن بدا له أن يخلي سبيلها وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا إسماعيل قال أخبرنا أيوب عن عبدالله بن كثير عن مجاهد

قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال له إنه طلق امرأته ثلاثا قال فسكت ابن عباس حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال يطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال ومن يتق الله يجعل له مخرجا وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك وإن الله تعالى قال يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن أي قبل عدتهن وعن عمران بن حصين أن رجلا قال له إني طلقت امرأتي ثلاثا فقال أثمت بربك وحرمت عليك امرأتك وأبو قلابة قال سئل ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فقال لا أرى من فعل ذلك إلا قد حرج وروى ابن عون عن الحسن قال كانوا ينكلون من طلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد وروي عن ابن عمران أنه كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد أوجعه ضربا وفرق بينهما فقد ثبت عن هؤلاء الصحابة حظر جمع الثلاث ولا يروى عن أحد من الصحابة خلافه فصار إجماعا فإن قيل قد روي أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته ثلاثا في مرضه وإن ذلك لم يعب عليه ولو كان جمع الثلاث محظورا لما فعله وتركهم النكير عليه دليل على أنهم رأوه سائغا له قيل له ليس في الحديث الذي ذكرت ولا في غيره أنه طلق ثلاثا في كلمة واحدة وإنما أراد أنه طلقها ثلاثا على الوجه الذي جوز عليه الطلاق وقد بين ذلك في أحاديث رواها جماعة عن الزهري عن طلحة بن عبدالله بن عوف أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر تطليقتين ثم قال لها في مرضه إن أخبرتني بطهرك لأطلقنك فبين في هذا الحديث أنه لم يطلقها ثلاثا مجتمعة وقد روي في حديث فاطمة بنت قيس شبيها بهذا وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان بن يزيد العطار قال حدثنا يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن أن فاطمة بنت قيس حدثته أن أبا حفص بن المغيرة طلقها وأن خالد بن الوليد ونفر من بني مخزوم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا نبي الله إن أبا حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاثا وإنه ترك لها نفقة يسيرة فقال لا نفقة لها وساق الحديث فيقول المحتج لإباحة إيقاع الثلاث معا بأنهم قالوا للنبي ص - أنه طلقها ثلاثا فلم ينكره وهذا خبر قد أجمل فيه ما فسر في غيره وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت عند

أبي حفص بن المغيرة وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات فزعمت أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث قال أبو داود وكذلك رواه صالح بن كيسان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن الزهري فبين في هذا الحديث ما أجمل في الحديث الذي قبله أنه إنما طلقها آخر ثلاث تطليقات وهو أولى لما فيه من الإخبار عن حقيقة الأمر والأول فيه ذكر الثلاث ولم يذكر إيقاعهن معا فهو محمول على أنه فرقهن على ما ذكر في هذا الحديث الذي قبله فثبت بما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة واتفاق السلف أن جمع الثلاث محظور فإن قيل فيما قدمناه من دلالة قوله تعالى الطلاق مرتان على حظر جمع الإثنتين في كلمة واحدة أنه من حيث دل على ما ذكرت فهو دليل على أن له أن يطلقها في طهر واحد مرتين إذ ليس في الآية كفريقهما في طهرين وفيه إباحة تطليقتين في مرتين وذلك يقتضي إباحة تفريق الإثنتين في طهر واحد وإذا جاز ذلك في طهر واحد جاز جمعهما بلفظ واحد إذ لم يفرق أحد بينهما قيل له هذا غلط من قبل أن ذلك اعتبار يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ ورفعه رأسا وإزالة فائدته وكل قول يؤدي إلى رفع حكم اللفظ فهو ساقط وإنما صار مسقطا لفائدة اللفظ وإزالة حكمه من قبل أن قوله تعالى الطلاق مرتان قد اقتضى تفريق الإثنتين وحظر جمعهما في لفظ واحد على ما قدمنا من بيانه وإباحتك لتفريقهما في طهر واحد يؤدي إلى إباحة جمعهما في كلمة واحدة وفي ذلك رفع حكم اللفظ ومتى حظرنا تفريقهما وجمعهما في طهر واحد وأبحناه في طهرين فليس فيه وقع حكم اللفظ بل فيه استعماله على الخصوص في بعض المواضع دون بعض فلم يؤد قولنا بالتفريق في طهرين إلى رفع حكمه وإنما أوجب تخصيصه إذ كان اللفظ موجبا للتفريق واتفق الجميع على أنه إذا أوجب التفريق فرقهما في طهرين فخصصنا تفريقهما في طهر واحد بدلالة الاتفاق مع استعمال حكم اللفظ ومتى أبحنا التفريق في طهر واحد أدى ذلك إلى رفع حكم اللفظ رأسا حتى يكون ذكره للطلاق مرتين وتركه سواء وهذا قول ساقط مردود واحتج من أباح ذلك أيضا بحديث عويمر العجلاني حين لاعن النبي صلى الله عليه وسلم - بينه وبين امرأته فلما فرغا من لعانهما قال كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا ففارقها قبل أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم -
بينهما قال فلما لم ينكر الشارع ص - إيقاع الثلاث معا دل على إباحته وهذا الخبر لا يصح للشافعي الاحتجاج به لأن من مذهبه

أن الفرقة قد كانت وقعت بلعان الزوج قبل لعان المرأة فبانت منه ولم يلحقها طلاق فكيف كان ينكر عليها طلاقا لم يقع ولم يثبت حكمه فإن قيل فما وجهه على مذهبك قيل له جائز أن يكون ذلك قبل أن يسن الطلاق للعدة ومنع الجمع بين التطليقات في طهر واحد فلذلك لم ينكر عليه الشارع ص - وجائز أيضا أن تكون الفرقة لما كانت مستحقة من غير جهة الطلاق لم ينكر عليه إيقاعها بالطلاق وأما من قال سنة الطلاق أن لا يطلق إلا واحدة وهو ما حكيناه عن مالك بن أنس والليث والحسن بن حي والأوزاعي فإن الذي يدل على إباحة الثلاث في الأطهار المتفرقة قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وفي ذلك إباحة لإيقاع الإثنتين ولما اتفقنا على أنه لا يجمعهما في طهر واحد وجب استعمال حكمهما في الطهرين وقد روي في قوله تعالى أو تسريح بإحسان أنه للثالثة وفي تخيير له في إيقاع الثلاث قبل الرجعة ويدل عليه قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن قد انتظم إيقاع الثلاث للعدة وذلك لأنه معلوم أن المراد لأوقات العدة كما بينه الشارع ص - في قوله يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وإذا كان المراد به أوقات الأطهار تناول الثلاث كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس قد عقل منه تكرار فعل الصلاة لدلوكها في سائر الأيام كذلك قوله فطلقوهن لعدتهن لما كان عبارة عن أوقات الأطهار اقتضى تكرار الطلاق في سائر الأوقات وأيضا لما جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الأول لأنها طاهر من غير جماع طهرا لم يوقع فيه طلاقا جاز إيقاعه في الطهر الثاني لهذه العلة وأيضا لما اتفقوا على أنه لو راجعها جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الثاني وجب أن يجوز ذلك له إذا لم يراجعها لوجود المعنى الذي من أجله جاز إيقاعه في الطهر الأول إذ لا حظ للرجعة في إباحة الطلاق ولا في حظره ألا ترى أنه لو راجعها ثم جامعها في ذلك الطهر لم يجز له إيقاع الطلاق فيه ولم يكن للرجعة تأثير في إباحته فوجب أن يجوز له أن يطلقها في الطهر الثاني قبل الرجعة كما جاز له ذلك لو لم يراجع فإن قيل لا فائدة في الثانية والثالثة لأنه إن أراد أن يبينها أمكنه ذلك بالواحدة بأن يدعها حتى تنقضي عدتها وقال تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا وهذا هو ا لفرق بينه إذا راجعها أو لم يراجعها في إباحة الثانيةوالثالثة إذا راجع وحظرهما إذا لم يراجع قيل له في إيقاع الثانية

والثالثة فوائد بتعجلها لو لم يوقع الثانية والثالثة لم تحصل له وهو أن تبين منه بإيقاع الثالثة قبل انقضاء عدتها فيسقط ميراثها منه لو مات ويتزوج أختها وأربعا سواها على قول من يجيز ذلك في العدة فلم يخل في إيقاع الثانية والثالثة من فوائد وحقوق تحصل له فلم تكن لغوا مطرحا وجاز من أجلها إيقاع ما بقي من طلاقها في أوقات السنة كما يجوز ذلك لو راجعها وبالله التوفيق
ذكر
الاختلاف في الطلاق بالرجال قال أبو بكر رحمه الله اتفق السلف ومن بعدهم من فقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين خارجان من قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان واتفقوا على أن الرق يوجب نقصان الطلاق فقال علي وعبدالله الطلاق بالنساء يعني أن المرأة إن كانت حرة فطلاقها ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا وأنها إن كانت أمة فطلاقها اثنتان حرا كان زوجها أو عبدا وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح وقال عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس الطلاق بالرجال يعنون أن الزوج إن كان عبدا فطلاقه اثنتان سواء كانت الزوجة حرة أو أمة وإن كان حرا فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة وهو قول مالك والشافعي وقال ابن عمر أيهما رق نقص الطلاق برقه وهو قول عثمان البتي وقد روى هشيم عن منصور بن زادان عن عطاء عن ابن عباس قال الأمر إلى المولى في الطلاق أذن له العبد أو لم يأذن ويتلو هذه الآية ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء روى هشام عن أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس أن غلاما كان لابن عباس طلق امرأته تطليقتين فقال له ابن عباس ارجعها لا أم لك فإنه ليس لك من الأمر شيء فأبى فقال هي لك فاتخذها فهذا يدل على أنه رأى طلاقه واقعا لولاه لم يقل له ارجعها وقوله هي لك يدل على أنها كانت أمة وجائز أن يكون الغلام حرا لأنهما إذا كان امملوكين فلا خلاف أن رقهما ينقص الطلاق وقد روي في ذلك حديث يدل على أنه كان لا يرى طلاق العبد شيئا ويرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا علي بن المبارك قال حدثنا يحيى بن أبي كثير أن عمر بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم أعتقا بعد

ذلك هل يصلح له أن يخطبها بعد ذلك قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أبو داود وقد سمعت أحمد بن حنبل قال قال عبدالرزاق قال ابن المبارك لعمر من أبو حسن هذا لقد تحمل صخرة عظيمة قال أبو داود وأبو حسن هذا روى عنه الزهري وكان من الفقهاء قال أبو بكر وهذا الحديث يرده الإجماع لأنه لا خلاف بين الصدر الأول ومن بعدهم من الفقهاء أنهما إذا كانا مملوكين أنها تحرم بالإثنتين ولا تحل له إلا بعد زوج والذي يدل على أن الطلاق بالنساء حديث ابن عمر وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وقد تقدم ذكر سنده وقد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة وإن كان وروده من طريق الآحاد فصار في حيز التواتر لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر لما بيناه في مواضع ولم يفرق الشارع في قله وعدتها حيضتان بين من كان زوجها حرا أو عبدا فثبت بذلك اعتبار الطلاق بها دون الزوج ودليل آخر هو أنه لما اتفق الجميع على أن الرق يوجب نقص الطلاق كما يوجب نقص الحد ثم كان الاعتبار في نقصان الحد برق من يقع به دون من يوقعه وجب أن يعتبر نقصان الطلاق برق من يقع به دون من يوقعه وهو المرأة ويدل عليه أنه لا يملك تفريق الثلاث عليها على الوجه المسنون وإن كان حرا إذا كانت الزوجة أمة ألا ترى أنه إذا أراد تفريق الثلاث عليها في أطهار متفرقة لم يمكنه إيقاع الثالثة بحال فلو كان مالكا للجميع لملك التفريق على الوجه المسنون كما لو كانت حرة وفي ذلك دليل على أنه غير مالك للثلاث إذا كانت الزوجة أمة والله أعلم
ذكر
الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا قال أبو بكر قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان الآية يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنها وذلك لأن قوله الطلاق مرتان قد أبان عن حكمه إذا أوقع اثنين بأن يقول أنت طالق أنت طالق في طهر واحد وقد بينا أن ذلك خلاف السنة فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الإثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا لأن أحدا لم يفرق بينهما وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الإثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار

فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور فإن قيل قدمت بديا في معنى الآية أن المراد بها بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك فكيف نحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنها على هذا الوجه قيل له قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الإثنتين والثلاث لغير السنة وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك ألا ترى أنه لوقال طلقوا ثلاثا في الأطهار وإن طلقتم جميعا معا وقعن كان جائزا وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما فإن قيل معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله فطلقوهن لعدتهن وقد بين الشارع الطلاق للعدة وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه قيل له نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما فنقول إن المندوب إليه المأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه ا لآية وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضه الآية الأخرى وهي قوله تعالى الطلاق مرتان وقوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد إذ ليس في قوله فطلقوهن نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة وهو قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن إلى قوله تعالى وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب ومن يتق الله يجعل له مخرجا يعني والله أعلم أنه إذا أوقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا إن الله يقول ومن يتق الله يجعل له مخرجا وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته فإن قيل لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع إذ ليس هو الطلاق المأمور به كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد قيل له أما كونه عاصيا في الطلاق

فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا وحكم مع ذلك بصحة وقوعه فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته وقد نهاه الله عن مراجعتها ضرارا بقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه فلما لم يكن مالكا لما يوقعه وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا ألا ترى أنه لو وطئ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عمر الذي ذكرنا سنده حين قال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا كانت تبين ويكون معصية وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبدالله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال ما أردت بالبتة قال واحدة قال آلله قال آلله قال هو على ما أردت فلو لم تقع الثلاث إذا أراها لما استحلفه بالله ما أراد إلا واحدة وقد تقدم ذكر أقاويل السلف فيه وأنه يقع وهو معصية فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كانت معصية وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه قال كان الحجاج بن أرطاة خشنا وكان يقول طلاق الثلاث ليس بشيء وقال محمد بن إسحاق الطلاق الثلاث ترد إلى الواحدة واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم -
كيف طلقتها فقال طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال نعم قال فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال فرجعتها وبما روى أبو عاصم عن ابن جريج عن

ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال نعم وقد قيل أن هذين الخبرين منكران وقد روى سعيد بن جبير ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس والنعمان بن أبي عياش كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته وقد روى حديث أبي الصهباء على غير هذا الوجه وهو أن ابن عباس قال كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة فقال عمر لو أجزناه عليهم وهذا معناه عندنا أنهم إنما كانوا يطلقون ثلاثا فأجازها عليهم وقد روى ابن وهب قال أخبرني عياش بن عبدالله الفهري عن ابن شهاب عن سهل بن سعد أن عويمر العجلاني لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بينه وبين امرأته قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذلك عليه وما قدمنا من دلالة الآية والسنة والاتفاق يوجب إيقاع الطلاق في الحيض وإن كان معصية وزعم بعض الجهال ممن لا يعد خلافه أنه لا يقع إذا طلق في الحيض واحتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبدالرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع فقال كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال إن عبدالله طلق وهي حائض فقال فردها علي ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قيل له هذا غلط فقد رواه جماعة عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة من ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال حدثنا يونس بن جبير قال سألت عبدالله بن عمر قال قلت رجل طلق امرأته وهي حائض قال تعرف عبدالله بن عمر قلت نعم قال فإنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها قال قلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجزوا ستحمق فهذا خبر ابن عمر في هذا الحديث أنه اعتد بتلك التطليقة ومع ذلك فقد روي في سائر أخبار ابن عمر أن الشارع أمره بأن يراجعها ولو لم يكن الطلاق واقعا لما احتاج إلى الرجعة وكانت لا تصح

رجعته لأنه لا يجوز أن يقال راجع امرأته ولم يطلقها إذ كانت الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق ولو صح ما روي أنه لم يره شيئا كان معناه أنه لم يبنها منه بذلك الطلاق ولم تقع الزوجية قوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال أبو بكر لما كانت الفاء للتعقيب وقال الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان اقتضى ذلك كون الإمساك المذكور بعد الطلاق وهذا الإمساك إنما هو الرجعة لأنه ضد الطلاق وقد كان وقوع الطلاق موجبه التفرقة عند انقضاء العدة فسمى الله الرجعة إمساكا لبقاء النكاح بها بعد مضي ثلاث حيض ورفع حكم البينونة المتعلقة بانقضاء العدة وإنما أباح له إمساكها على وصف وهو أن يكون بمعروف وهو وقوعه على وجه يحسن ويجمل فلا يقصد به ضرارها على ما ذكره في قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وإنما أباح له الرجعة على هذه الشريطة ومتى أرجع بغير معروف كان عاصيا فالرجعة صحيحة بدلالة قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه فلولا صحة الرجعة لما كان لنفسه ظالما بها وفي قوله تعالى فإمساك بمعروف دلالة على وقوع الرجعة بالجماع لأن الإمساك على النكاح إنما هو الجماع وتوابعه من اللمس والقبلة ونحوها والدليل عليه أن من يحرم عليه جماعها تحريما مؤبدا لا يصح له عقد النكاح عليها فدل ذلك على أن الإمساك على النكاح مختص بالجماع فيكون بالجماع ممسكا لها وكذلك اللمس والقبلة للشهوة والنظر إلى الفرج شهموه إذ كانت صحة عقد النكاح مختصة باستباحة هذه الأشياء فمتى فعل شيئا من ذلك كان ممسكا لها بعموم قوله تعالى فإمساك بمعروف وأما قوله أو تسريح بإحسان فقد قيل فيه وجهان أحدهما أن المراد به الثالثة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - حديث غير ثابت من طريق النقل ويرده الظاهر أيضا وهو ما حدثنا اعبدالله بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرازق قال أخبرنا الثوري عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال قال رجل يا رسول الله أسمع الله يقول الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فأين الثالثة قال التسريح بإحسان وقد روي عن جماعة من السلف منهم السدي والضحاك أنه تركها حتى تنقضي عدتها وهذا التأويل أصح إذ لم يكن الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك ثابتا وذلك من وجوه أحدها أن سائر المواضع الذي ذكره الله فيها عقيب الطلاق الإمساك والفراق فإنما أراد به ترك الرجعة

حتى تنقضي عدتها منه قوله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف والمراد بالتسريح ترك ا لرجعة إذ معلوم أنه لم يرد فأمسكوهن بمعروف أو طلقوهن واحدة أخرى ومنه قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ولم يرد به إيقاعا مستقبلا وإنما أراد به تكرها حتى تنقضي عدتها والجهة الأخرى أن الثالثة مذكورة في نسق الخطاب في قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإذا كانت الثالثة مذكورة في صدر هذا الخطاب مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج وجب حمل قوله تعالى أو تسريح بإحسان على فائدة مجددة وهي وقوع البينونة بالإثنتين بعد انقضاء العدة وأيضا لما كان معلوما أن المقصد فيه عدد الطلاق الموجب للتحريم ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق وبلا عدد محصور فلو كان قوله تعالى أو تسريح بإحسان هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج وإنما علم التحريم بقوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فوجب أن لا يكون قوله تعالى أو تسريح بإحسان هو الثالثة وأيضا لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى فإن طلقها عقيب ذلك هي الرابعة لأن الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره فثبت بذلك أن قوله تعالى أو تسريح بإحسان هو تركها حتى تنقضي عدتها قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره منتظم لمعان منها تحريمها على المطلق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره مفيد في شرط ارتفاع التحريم الواقع بالطلاق الثلاث العقد والوطء جميعا لأن النكاح هو الوطء في الحقيقة وذكر الزوج يفيد العقد وهذا من الإيجاز والاقتصار على الكناية المفهمة المغنية عن التصريح وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار مستفيضة في أنها لا تحل للأول حتى يطأها الثاني منها حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا فتزوجت عبدالرحمن بن الزبير فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت يا نبي الله إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزبير وإنه يا رسول الله ما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وقال لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك

وروى ابن عمر وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله ولم يذكرا قصة امرأة رفاعة وهذه أخبار وقد تلقاها الناس بالقبول واتفق الفقهاء على استعمالها فهي عندنا في حيز التواتر ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك إلا شيء يروى عن سعيد بن المسيب أنه قال إنها تحل للأول بنفس عقد النكاح دون الوطء ولم نعلم أحدا تابعه عليه فهو شاذ وقوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره غاية التحريم الموقع بالثلاث فإذا وطئها الزوج الثاني ارتفع ذلك التحريم الموقع وبقي التحريم من جهة إنها تحت زوج كسائر النساء الأجنبيات فمتى فارقها الثاني وانقضت عدتها حلت للأول وقوله تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا مرتب على ما أوجب من العدة على المدخول بها في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقوله تعالى ولا تعزموا عقدةالنكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ونحوها من الآي الحاظرة للنكاح في العدة وقوله تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا نص على ذكر الطلاق ولا خلاف أن الحكم في إباحتها للزوج الأول غير مقصور على الطلاق وأن سائر الفرق الحادثة بينهما من نحو موت أو ردة أو تحريم بمنزلة الطلاق وإن كان المذكور نفسه هو الطلاق وفيه الدلالة أيضا على جواز النكاح بغير ولي لأنه أضاف التراجع إليها من غير ذكر الولي وفيه أحكام أخر نذكرها عند ذكرنا لأحكام الخلع بعد ذلك ولكنا قدمنا ذكر الثالثة لأنه يتصل به في المعنى بذكر الإثنتين وإن تخللهما ذكر الخلع وبالله التوفيق
باب الخلع
قال الله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فحظر على الزوج بهذه الآية أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا على الشريطة كما أن قوله تعالى ولا تقل لهما أف قد دل على حظر ما فوقه من ضرب أو شتم وقوله تعالى إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله قال طاوس يعني فيما افترض على كل واحد منهما في العشرة والصحبة وقال القاسم بن محمد مثل ذلك وقال الحسن هو أن تقول المراة والله لا أغتسل لك من جنابة وقال أهل اللغة إلا أن يخافا معناه إلا أن يظنا وقال أبو محجن الثقفي أنشده الفراء رحمه الله تعالى ... إذا مت فادفني إلى جب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالعراء فإنني ... أخاف إذا مت أن لا أذوقها ... وقال آخر ... أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي ... يعني ما ظننت وهذا الخوف من ترك إقامة حدود الله على وجهين إما أن يكون أحدهما سيء الخلق أو جميعا فيفضي بهما ذلك إلى ترك إقامة حدود الله فيما ألزم كل واحد منهما من حقوق النكاح في قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وإما أن يكون أحدهما مبغضا للآخر فيصعب عليه حسن العشرة والمجاملة فيؤدبه ذلك إلى مخالفة أمر الله في تقصيره في الحقوق التي تلزمه وفيما ألزم الزوج من إظهار الميل إلى غيرها في قوله تعالى فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة فإذا وقع أحد هذين وأشفقا من ترك إقامة حدود الله التي حدها لهما حل الخلع وروى جابر الجعفي عن عبدالله بن يحيى عن علي كرم الله وجهه أنه قال كلمات إذا قالتهن المرأة حل له أن يأخذ الفدية إذا قالت له لا أطيع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا أغتسل لك من جنابة وقال المغيرة عن إبراهيم قال لا يحل للرجل أن يأخذ الفدية من امرأته إلا أن تعصيه ولا تبر له قسما وإذا فعلت ذلك وكان من قبلها حلت له الفدية وإن أبى أن يقبل منها الفدية وأبت أن تعطيه بعثا حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها وذكر علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال تركها إقامة حدود الله استخفافا بحق الزوج وسوء خلقها فتقول والله لا أبر لك قسما ولا أطأ لك مضجعا ولا أطيع لك أمرا فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية ولا يأخذ أكثر مما أعطاها شيئا ويخلي سبيلها وإن كانت الإساءة من قبلها ثم قال فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا يقول إن كان عن غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء كما قال الله تعالى وقد اختلف في نسخ هذه الآية فروى حجاج عن عقبة بن أبي الصهباء قال سألت بكر بن عبدالله عن رجل تريد منه امرأته الخلع قال لا يحل له أن يأخذ منها شيئا قلت له يقول الله في كتابه فلا جناح عليهما فيما افتدت به قال هذه نسخت بقوله وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهم قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا وروى أبو عاصم عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت إذا كانت له ظالمة مسيئة فدعاها إلى الخلع أيحل له قال لا إما أن يرضى فيمسك وإما أن يسرح قال أبو بكر وهو قول شاذ يرده ظاهر الكتاب والسنة واتفاق

السلف ومع ذلك فليس في قوله وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج الآية ما يوجب نسخ قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لأن كل واحدة منهما مقصورة الحكم على حال مذكورة فيها فإنما حظر الخلع إذا كان النشوز من قبله وأراد استبدال زوج مكان زوج غيرها وأباحه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله بأن تكون مبغضة له أو سيئة الخلق أو كان هو سيء الخلق ولا يقصد مع ذلك الإضرار بها لكنهما يخافان أن لا يقيما حدود الله في حسن العشرة وتوفية ما لزمهما الله من حقوق النكاح وهذه الحال غير تلك فليس في إحداهما ما يعترض به على الأخرى ولا يوجب نسخها ولا تخصيصها أيضا إذ كل واحدة مستعملة فيما وردت فيه وكذلك قوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إذا كان خطابا للأزواج فإنما حظر عليهم أخذ شيء من مالها إذا كان النسوز من قبله قاصدا للإضرار بها إلا أن يأتي بفاحشة مبينة فقال ابن سيرين وأبو قلابة يعني أن يظهر منها على زنا وروي عن عطاء والزهري وعمرو بن شعيب إن الخلع لا يحل إلا من الناشز فليس في شيء من هذه الآيات نسخ وجميعها مستعمل والله أعلم
ذكر
اختلاف السلف وسائر فقهاء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع روي عن علي رضي الله عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبرايهم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد إذا كان النسوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا فإن فعل جاز في القضاء وقال ابن شبرمة تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه وإن كانت على إضرار منه لم تجز وقال ابن وهب عن مالك إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك وقال الثوري إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا وإذا

كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة إن كانت ناشزة كان في ثلثها وإن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز أنهما إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها فلا أرى بذلك بأسا وقال الحسن بن حي إذا كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها بقليل ولا كثير وإذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه وكذلك قول عثمان البتي وقال الشافعي إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا وتأخذ الفراق به قال أبو بكر قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات منها قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله فلذلك قال أصحابنا لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا وقال تعالى في آية أخرى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فاباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع ولكن ما زاد مخصوص بالسنة وقال تعالى في آية أخرى لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قيل فيه إنه خطاب للزوج وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة قيل فيها إنها هي الزنا وقيل فيها إنها النشوز من قبلها وهذه نظير قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقال تعالى في آية أخرى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وسنذكر حكمها في مواضعها إن شاء الله تعالى وذكر الله تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها فقلنا إذا كان النشوز من قبله لم يحل له

أخذ شيء منها بقوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا وقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بعض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد وكذلك ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وقد قيل فيه إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها
وأما قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فهذا في غير حال الخلع بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به وقول من قال إنه لما أجاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز والخلع خطأ لأن الله تعالى قد نص على الموضعين في أحدهما بالحظر وهو قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله وفي الآخر بالإباحة وهو قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فقول القائل لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة نفسها من غير الخلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الملع ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من هذه قالت أنا حبيبة بنت سهل قال ما شأنك قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاءه ثابت بن قيس قال له هذه حبيبة بنت سهل فذكرت ما شاء الله أن تذكر فقالت حبيبة كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لثابت خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها خلي سبيلها وفي بعضها فارقها وإنما قالوا إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبي سمينة قال حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال النبي ص - تردين إليه ما أخذت منه قالت نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
أما الزيادة فلا وقال أصحابنا لا يأخذ منه الزيادة لهذا الخبر وخصوا به ظاهر الآية وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر

بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لفظ محتمل لمعان والاجتهاد سائغ فيه وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة وكذلك قوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد وهو كقوله تعالى أ و لامستم النساء وقوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به وإنما قال أصحابنا إذا خلعها على أكثر مما أعطاها أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنه أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وأيضا فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنى في غيره وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة وبيع حاضر لباد وتلقي الركبان ونحو ذلك وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره وكذلك الصلح عن دم العمد كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل وهو بدل البضع كذلك جاز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها لأنه بدل من البضع في الحالين فإن قيل لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن قيل له قولك إن الخلع فسخ للعقد خطأ وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان فروي عن الحسن وابن سيرين إن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان وقال سعيد بن جبير لا يكون الخلع حتى يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها فإن اتعظت وإلا ضربها فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق وإن رأى أن يجمع جمع وروي عن علي وعمر وعثمان وابن عمر وشريح وطاوس والزهري في آخرين أن الخلع جائز دون السلطان وروى سعيد عن قتادة قال كان زياد أول من

رد الخلع دون السلطان ولا خلاف بين فقهاء الأمصاء في جوازه دون السلطان وكتاب الله يوجب جوازه وهو قوله تعالى ولا جناح عليهما فيما افتدت به وقال تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان وقول النبي صلى الله عليه وسلم - لامرأة ثابت بن قيس أتردين عليه حديقته فقالت نعم فقال للزوج خذها وفارقها يدل على ذلك أيضا لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسئلهما النبي صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله اخلعها بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها بل فرق بينهما كما روى سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين كما قال في حديث آخر لا سبيل لك عليها ولم يرجع ذلك إلى الزوج فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ويدل عليه أيضا قوله ص - لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه وقد اختلف في الخلع هل هو طلاق أم ليس بطلاق فروي عن عمر وعبدالله وعثمان والحسن وأبي سلمة وشريح وإبراهيم والشعبي ومكحول إن الخلع تطليقة بائنة وهو قول فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه وروي عن ابن عباس أنه ليس بطلاق حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال أخبرني عبدالملك بن ميسرة قال سأل رجل طاوسا عن الخلع فقال ليس بشيء فقلت لا تزال تحدثنا بشيء لا نعرفه فقال والله لقد جمع ابن عباس بين امرأة وزوجها بعد تطليقتين وخلع ويقال هذا مما أخطأ فيه طاوس وكان كثير الخطأ مع طلالته وفضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها أنه روي عن ابن عباس أنه قال من طلق ثلاثا كانت واحدة وروي من غير وجه عن ابن عباس أن من طلق امرأته عدد النجوم بانت منه بثلاث قالوا وكان أيوب يتعجب من كثرة خطأ طاوس وذكر ابن أبي نجيح عن طاوس أنه قال الخلع ليس بطلاق قال فأنكره عليه أهل مكة فجمع ناسا منهم واعتذر إليهم وقال إنما سمعت ابن عباس يقول ذلك وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال حدثنا أبو همام قال حدثنا الوليد عن أبي سعيد روح بن جناح قال سمعت زمعة بن أبي عبدالرحمن قال سمعت سعيد بن المسيب يقول جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الخلع تطليقة ويدل على أنه طلاق قوله ص - لثابت بن قيس حين

نشزت عليه امرأته خل سبيلها وفي بعض الألفاظ فارقها بعد ما قال للمرأة ردي عليه حديقته فقالت قد فعلت ومعلوم أن من قال لامرأته قد فارقتك أو قد خليت سبيلك ونيته الفرقة أنه يكون طلاقا فدل ذلك على أن خلعه إياها بأمر الشارع كان طلاقا وأيضا لا خلاف أنه لو قال لها قد طلقتك على مال أو قد جعلت أمرك إليك بمال كان طلاقا وكذلك لو قال قد خلعتك بغير مال يريد به الفرقة كان طلاقا كذلك إذا خلعها بمال فإن قيل إذا قال بلفظ الخلع كان بمنزلة الإقالة في البيع فتكون فسخا لا بيعا مبتدأ قيل له لا خلاف في جواز الخلع بغير مال وعلى أقل من المهر والإقالة لا تجوز إلا بالثمن الذي كان في العقد ولو كان الخلع فسخا كالإقالة لما جاز إلا بالمهر الذي تزوجها عليه وفي اتفاق الجميع على جوازه بغير مال وبأقل من المهر دلالة على أنه طلاق بمال وأنه ليس بفسخ وأنه لا فرق بينه وبين قوله قد طلقتك على هذا المال ومما يحتج به من يقول أنه ليس بطلاق إن الله تعالى لما قال الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ثم عقب ذلك بقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلى أن قال في نسق التلاوة فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فأثبت الثالثة بعد الخلع دل ذلك على أن الخلع ليس بطلاق إذ لو كان طلاقا لكانت هذه رابعة لأنه ذكر الخلع بعد التطليقتين ثم ذكر الثالثة بعد الخلع وهذا ليس عندنا على هذا التقدير وذلك لأن قوله تعالى الطلاق مرتان أفاد حكم الإثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع وأثبت معهما الرجعة بقوله تعالى فإمساك بمعروف ثم ذكر حكمهما إذا كانتا على وجه الخلع وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيهما والحال التي يجوز فيها أخذ المال أو لا يجوز ثم عطف على ذلك قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فعاد ذلك إلى الإثنتين المقدم ذكرهما على وجه الخلع تارة وعلى غير وجه الخلع أخرى فإذا ليس فيه دلالة على أن الخلع بعد اثنتين ثم الرابعة بعد الخلع وهذا مما يستدل به على أن المختلعة يلحقها الطلاق لأنه لما اتفق فقهاء الأمصار على أن تقدير الآية وترتيب أحكامها على ما وصفنا وحصلت الثالثة بعد الخلع وحكم الله بصحة وقوعها وحرمتها عليه أبدا إلا بعد زوج فدل ذلك على أن المختلفعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة ويدل على أن الثالثة بعد الخلع قوله تعالى في نسق التلاوة فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله عطف

على ما تقدم ذكره وقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة بشريطة زوال ما كانا عليه من الخوف لترك إقامة حدود الله لأنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة فدل ذلك على أن الثالثة مذكورة بعد الخلع وقوله تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأنه علق الإباحة بالظن فإن قيل قوله تعالى فلا تحل له من بعد عائد على قوله الطلاق مرتان دون الفدية المذكورة بعدها قيل له هذا يفسد من وجوه أحدها أن قوله ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا خطاب مبتدأ بعد ذكر الإثنتين غير مرتب عليهما لأنه معطوف عليه بالواو وإذا كان كذلك ثم قال عقيب ذكر الفدية فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وجب أن يكون مرتبا على الفدية لأن الفاء للتعقيب وغير جائز ترتيبه على الإثنتين المبدوء بذكرهما وترك عطفه على ما يليه إلا بدلالة تقتضي ذلك وتوجبه كما تقول في الإستنثناء بلفظ التخصيص أنه عائد عل ما يليه ولا يرد ما تقدمه إلا بدلالة ألا ترى إلى قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم إن شرط الدخول عائد على الربائب دون أمهات النساء إذ كان العطف بالفاء يليهن دون أمهات النساء مع أن هذا أقرب ما ذكرت من عطف قوله تعالى فإن طلقها على قوله تعالى الطلاق مرتان دون ما يليه في الفدية لأنك لا تجعله عطفا على ما يليه من الفدية وتجعله عطفا على ما تقدم دون ما توسط بينهما من ذكر الفدية فأيضا وأيضا فإنا نجعله عطفا على جميع ما تقدم من الفدي ومما تقدمها من التطليقتين على غير وجه الفدية فيكون منتظما لفائدتين إحداهما جواز طلاقها بعد الخلع بتطليقتين والأخرى بعد التطليقتين إذا أوقعهما على غير وجه الفدية والله أعلم
باب
المضارة في الرجعة قال الله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف قال أبو بكر المراد بقوله فبلغن أجلهن مقاربة البلوغ والإشراف عليه لا حقيقته لأن الأجل المذكور هو العدة وبلوغه هو انقضاؤها ولا رجعة بعد انقضاء العدة وقد عبر عن العدة بالأجل في مواضع منها قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن

بمعروف أو فارقوهن بمعروف ومعناه معنى ما ذكر في هذه الآية وقال تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وقال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن وقال ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله فكان المراد بالآجال المذكورة في هذه الآي العدد ولما ذكره الله تعالى في قوله فإذا بلغن أجلهن والمراد مقاربته دون انقضائه ونظائره كثيرة في القرآن واللغة قال الله تعالى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ومعناه إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة وقال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله معناه إذا أردت قراءته وقال وإذا قلتم فاعدلوا وليس المراد العدل بعد القول ولكن قبله يعزم على أن لا يقول إلا عدلا فعلى هذا ذكر بلوغ الأجل وأراد به مقاربته دون وجود نهايته وإنما ذكر مقاربته البلوغ عند الأمر بالإمساك بالمعروف وإن كان عليه ذلك في سائر أحوال بقاء النكاح لأنه قرن إليه التسريح وهو انقضاء العدة وجمعهما في الأمر والتسريح إنما له حال واحد ليس يدوم فخص حال بلوغ الأجل بذلك لينتظم المعروف الأمرين جميعا وقوله تعالى فأمسكوهن بمعروف المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وقوله تعالى أو سرحوهن بمعروف معناه تركها حتى تنقضي عدتها وأباح الإمساك بالمعروف وهو القيام بما يجب لها من حق على ما تقدم من بيانه وأباح التسريح أيضا على وجه يكون معروفا بأن لا يقصد مضارتها بتطويل العدة عليها بالمراجعة وقد بينه عقيب ذلك بقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا ويجوز أن يكون من الفراق بالمعروف أن يمتعها عند الفرقة ومن الناس من يحتج بهذه الآية وبقوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته لأن الله تعالى إنما خيره بين أحد شيئين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وترك الإنفاق ليس بمعروف فمتى عجز عنه تعين عليه التسريح فيفرق الحاكم بينهما قال أبو بكر رحمه الله وهذا جهل من قائله والمحتج به لأن العاجز عن نفقة امرأته يمسكها بمعروف إذ لم يكلف الإنفاق في هذا الحال قال الله تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا فغير جائز أن يقال إن المعسر غير ممسك بالمعروف إذ كان ترك الإمساك بمعروف ذما والعاجز غير مذموم بترك الإنفاق ولو كان العاجز عن النفقة غير ممسك

بمعروف لوجب أن يكون أصحاب الصفة وفقراء الصحابة الذين عجزوا عن النفقة على أنفسهم فضلا عن نسائهم غير ممسكين بمعروف وأيضا فقد علمنا أن القادر على الإنفاق الممتنع منه غير ممسك بمعروف ولا خلاف أنه لا يستحق التفريق فكيف يجوز أن يستدل بالآية على وجوب التفريق على العاجز دون القادر والعاجز ممسك بمعروف والقادر غير ممسك وهذا خلف من القول قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا روي عن مسروق والحسن ومجاهد وقتادة وإبراهيم هو تطويل العدة عليها بالمراجعة إذا قاربت انقضاء عدتها ثم يطلقها حتى تستأنف العدة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها فأمر الله بإمساكها بمعروف ونهاه عن مضارتها بتطويل العدة عليها وقوله تعالى ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه دل على وقوع الرجعة وإن قصد بها مضارتها لولا ذلك ما كان ظالما لنفسه إذ لم يثبت حكمها وصارت رجعته لغوا لا حكم لها وقوله تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا روي عن عمر وعن الحسن عن أبي الدرداء قال كان الرجل يطلق امرأته ثم يرجع فيقول كنت لاعبا فأنزل الله تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من طلق أو حرر أو نكح فقال كنت لاعبا فهو جاد فأخبر أبو الدرداء إن ذلك تأويل الآية وأنها نزلت فيه فدل ذلك على أن لعب الطلاق وجده سواء وكذلك الرجعة لأنه ذكر عقيب الإمساك أو التسريح فهو عائد عليهما وقد أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما بينه وروى عبدالرحمن بن حبيب عن عطاء عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال أربع واجبات على كل من تكلم بهن العتاق والطلاق والنكاح والنذر وروى جابر عن عبدلله بن لحي عن علي أنه قال ثلاث لا يلعب بهن الطلاق والنكاح والصدقة وروى القاسم بن عبدالرحمن عن عبدالله قال إذا تكلمت بالنكاح فإن النكاح جده ولعبه سواء كما أن جد الطلاق ولعبه سواء وروي ذلك عن جماعة من التابعين ولا نعلم فيه خلافا بين فقهاء الأمصار وهذا أصل في إيقاع طلاق المكره لأنه لما استوى حكم الجاد والهازل فيه وكانا إنما يفترقان مع قصدهما إلى القول من جهة وجود إرادة أحدهما لإيقاع حكم ما لفظ به والآخر غير مريد الإيقاع حكمه لم يكن للنية تأثير في دفعه وكان المكره قاصدا إلى القول غير مريد لحكمه لم يكن لفقد نية الإيقاع تأثير في دفعه فدل ذلك على أن شرط

وقوعه وجود لفظ الإيقاع من مكلف والله أعلم
باب
النكاح بغير ولي قال الله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن الآية وقوله تعالى فبلغن أجلهن المراد حقيقة البلوغ بانقضاء العدة والعضل يعتوره معنيان أحدهما المنع والآخر الضيق يقال عضل الفضاء بالجيش إذا ضاق بهم والأمر المعضل هو الممتنع وداء عضال ممتنع وفي التضييق يقال عضلت عليهم الأمراء أضيقت وعضلت المرأة بولدها إذا عسر ولادها وأعضلت والمعنيان متقاربان لأن الأمر الممتنع يضيق فعله وزواله والضيق ممتنع أيضا وروى الشعبي سئل عن مسألة صعبة فقال زباء ذات وبر لا تنساب ولا تنقاد ولو نزلت بأصحاب محمد لأعضلت بهم وقوله تعالى ولا تعضلوهن معناه لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج وقد دلت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير ولي ولا إذن وليها أحدها إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الولي والثاني نهيه عن العضل إذا تراضى الزوجان فإن قيل لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه قيل له هذا غلط لأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نهى عنه فكيف يستدل به على إثبات الحق وأيضا فإن الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النكاح فجائز أن يكون النهي عن العضل منصرفا إلى هذا الضرب من المنع لأنها في الأغلب تكون في يد الولي بحيث يمكنه منعها من ذلك ووجه آخر من دلالة الآية على ما ذكرنا وهو أنه لما كان الولي منهيا عن العضل إذا زوجت هي نفسها من كفؤ فلا حق له في ذلك كما لو نهى عن الربا والعقود الفاسدة لم يكن له حق فيما قد نهى عنه فلم يكن له فسخه وإذا اختصموا إلى الحاكم فلو منع الحاكم من مثل هذا العقد كان ظالما مانعا مما هو محظور عليه منعه فيبطل حقه أيضا في الفسخ فيبقى العقد لا حق لأحد في فسخه فينفذ ويجوز فإن قيل إنما نهى الله سبحانه الولي عن العضل إذا تراضوا بينهم بالمعروف فدل ذلك على أنه ليس بمعروف إذا عقده غير الولي قيل له قد علمنا أن المعروف مهما كان من شيء فغير جائز أن يكون عقد الولي وذلك لأن في نص الآية جواز عقدها ونهي الولي عن منعها فغير جائز أن يكون معنى المعروف أن لا يجوز عقدها لما فيه من نفي موجب

الآية وذلك لا يكون إلا على وجه النسخ ومعلوم امتناع جواز الناسخ والمنسوخ في خطاب لأن النسخ لا يجوز إلا بعد استقرار الحكم والتمكن من الفعل فثبت بذلك أن المعروف المشروط في تراضيهما ليس هو الولي وأيضا فإن الباء تصحب الإبدال فإنما انصرف ذلك إلى مقدار المهر وهو أن يكون مهر مثلها لا نقص فيه ولذلك قال أبو حنيفة إنها إذا نقضت من مهر المثل فللأولياء أن يفرقوا بينهما ونظير هذه الآية في جواز النكاح بغير ولي قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا قد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا أحدهما إضافته عقد النكاح إليها في قوله حتى تنكح زوجا غيره والثاني فلا جناح عليهما أن يتراجعا فنسب التراجع إليهما من غير ذكر الولي ومن دلائل القرآن على ذلك قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الولي وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفي الموجب الآية فإن قيل إنما أراد بذلك اختيار الأزواج وأن لا يجوز العقد عليها إلا بإذنها قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما عموم اللفظ في اختيار الأزواج وفي غيره والثاني أن اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها وإنما يحصل ذلك بالعقد الذي يتعلق به أحكام النكاح وأيضا فقد ذكر الاختيار مع العقد بقوله إذا تراضوا بينهم بالمعروف
ذكر
الاختلاف في ذلك اختلف الفقهاء في عقد المرأة على نفسها بغير ولي فقال أبو حنيفة لها أن تزوج نفسها كفوا وتستوفي المهر ولا اعتراض للولي عليها وهو قول زفر وإن زوجت نفسها غير كفو فالنكاح جائز أيضا وللأولياء أن يفرقوا بينهما وروي عن عائشة أنها زوجت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير وعبدالرحمن غائب فهذا يدل على أن من مذهبهما جواز النكاح بغير ولي وهو قول محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة وقال أبو يوسف لا يجوز النكاح بغير ولي فإن سلم الولي جاز وإن أبى أن يسلم والزوج كفو أجازه القاضي وإنما يتم النكاح عنده حين يجيزه القاضي وهو قول محمد وقد روي عن أبي يوسف غير ذلك والمشهور عنه ما ذكرناه قال الأوزاعي إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفوا فالنكاح جائز وليس للولي أن يفرق بينهما وقال ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن

صالح والشافعي لا نكاح إلا بولي وقال ابن شبرمة لا يجوز النكاح وليس الوالدة بولي ولا أن تجعل المرأة وليها رجلا إلا قاض من قضاة المسلمين وقال ابن القاسم عن مالك إذا كانت امرأة معتقة أو مسكينة أو دنية لا حظ لها فلا بأس أن تستخلف رجلا ويزوجها ويجوز وقال مالك وكل امرأة لها مال وغنى وقدر فإن تلك ينبغي أن يزوجها إلا الأولياء أو السلطان قال وأجاز مالك للرجل أن يزوج المرأة وهو من فخذها وإن كان غيره أقرب منه إليها وقال الليث في المرأة تزوج بغير ولي أن غيره أحسن منه يرفع أمرها إلى السلطان فإن كان كفوا أجازه ولم يفسخه وذلك في الثيب وقال في السوداء تزوج بغير ولي أنه جائز قال والبكر إذا زوجها غير ولي والولي قريب حاضر فهذا الذي أمره إلى الولي يفسخه له السلطان إن رأى لذلك وجها والولي من قبل هذا أولى من الذي أنكحها قال أبو بكر وجميع ما قدمنا من دلائل الآي الموجبة لجواز عقدها تقضي بصحة قول أبي حنيفة في هذه المسألة ومن جهة السنة حديث ابن عباس حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ليس للولي مع الثيب أمر قال أبو داود وحدثنا أحمد بن يونس وعبدالله بن مسلمة قالا حدثنا مالك عن عبدالله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الأيم أحق بنفسها من وليها فقوله ليس للولي مع الثيب أمر يسقط اعتبار الولي في العقد وقوله الأيم أحق بنفسها من وليها يمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها كقوله ص - الجار بصقبه وقوله لأم الصغير أنت أحق به مالم تنكحي فنفى بذلك كله أن يكون له معها حق ويدل عليه حديث الزهري عن سهل بن سعد في المرأة التي وهبت نفسها للنبي ص - فقال ص -
مالي في النساء من أرب فقام رجل فسأله أن يزوجها فزوجها ولم يسألها هل لها ولي أم لا ولم يشترط الولي في جواز عقدها وخطب النبي صلى الله عليه وسلم - أم سلمة فقالت ما أحد من أوليائي شاهد فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -
ما أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكرهني فقالت لابنها وهو غلام صغير قم فزوج أمك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتزوجها ص -
بغير ولي فإن قيل لأن النبي ص - كان وليها وولي المرأة التي وهبت نفسها له لقوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم قيل له هو أولى بهم فيما يلزمه من اتباعه وطاعته فيما يأمرهم به فإما أن يتصرف عليهم في

أنفسهم وأموالهم فلا ألا ترى أنه لم يقل لها حين قالت له ليس أحد من أليائي شاهد وما عليك من أوليائك وأنا أولى بك منهم بل قال ما أحد منهم يكرهني وفي هذا دلالة على أنه لم يكن وليا لهن في النكاح ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله كذلك المرأة لما كانت جائزة التصرف في مالها وجب جواز عقد نكاحها والدليل على أن العلة في جواز نكاح الرجل ما وصفنا أن الرجل إذا كان مجنونا غير جائز التصرف في ماله لم يجز نكاحه فدل على صحة ما وصفنا واحتج من خالف في ذلك بحديث شريك عن سماك عن أبي أخي معقل بن يسار عن معقل أن أخت معقل كانت تحت رجل فطلقها ثم أراد أن يراجعها فأبى عليها معقل فنزلت هذه الآية فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن وقد روي عن الحسن أيضا هذه القصة وأن الآية نزلت فيها وأنه ص - دعا معقلا وأمره بتزويجها وهذا الحديث غير ثابت على مذهب أهل النقل لما في سنده من الرجل المجهول الذي روى عنه سماك وحديث الحسن مرسل ولو ثبت لم ينف دلالة الآية على جواز عقدها من قبل أن معقلا فعل ذلك فنهاه الله عنه فبطل حقه في العضل فظاهر الآية يقتضي أن يكون ذلك خطابا للأزواج لأنه قال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن فقوله تعالى فلا تعضلوهن إنما هو خطاب لمن طلق وإذا كان كذلك كان معناه عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها كما قال ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وجائز أن يكون قوله تعالى ولا تعضلوهن خطابا للأولياء وللأزواج ولسائر الناس والعموم يقتضي ذلك واحتجوا أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أيما امرأة نكحت بغير وليها فنكاحها باطل وبما روي من قوله لا نكاح إلا بولي وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها فأما الحديث الأول فغير ثابت وقد بينا علله في شرح الطحاوي وقد روي في بعض الألفاظ أيما امرأة تزوجت بغير إذن مواليها وهذا عندنا على الأمة تزوج نفسها بغير إذن مولاها وقوله لا نكاح إلا بولي لا يعترض على موضع الخلاف لأن هذا عندنا نكاح بولي لأن المرأة ولي نفسها كما أن الرجل ولي نفسه لأن الولي هو الذي يستحق الولاية على من يلي عليه والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها فكذلك في بعضها وأما حديث أبي هريرة فمحمول على وجه الكراهة لحضور المرأة مجلس الإملاك لأنه

مأمور بإعلان النكاح ولذلك يجمع له الناس فكره للمرأة حضور ذلك المجمع وقد ذكر أن قوله الزانية هي التي تنكح نفسها من قول أبي هريرة وقد روي في حديث آخر عن أبي هريرة هذا الحديث وذكر فيه أن أبا هريرة قال كان يقال الزانية هي التي تنكح نفسها وعلى أن هذا اللفظ خطأ بإجماع المسلمين لأن تزويجها نفسها ليس بزنا عند أحد من المسلمين والوطء غير مذكور فيه فإن حملته على أنها زوجت نفسها ووطئها الزوج فهذا أيضا لا خلاف فيه أنه ليس بزنا لأن من لا يجيزه إنما يجعله نكاحا فاسدا يوجب المهر والعدة ويثبت به النسب إذا وطئ وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح الطحاوي وقوله عز و جل ذلكم أزكى لكم وأطهر يعني إذا لم تعضلوهن لأن العضل ربما أدى إلى ارتكاب المحظور منهما على غير وجه العقد وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال سمعت عبدالله بن هرمز قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض
باب
الرضاع قال الله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين الآية قال أبو بكر ظاهره الخبر ولكنه معلوم من مفهوم الخطاب أنه لم يرد به الخبر لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره فلما كان في الوالدات من لا يرضع علم أنه لم يرد به الخبر ولا خلاف أيضا في أنه لم يرد به الخبر وإذا لم يكن المراد حقيقة اللفظ الذي هو الخبر لم يخل من أن يكون المراد إيجاب الرضاع على الأم وأمرها به إذ قد يرد الأمر في صيغة الخبر كقوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وأن يريد به إثبات حق الرضاع للأم وإن أبى الأب أو تقدير ما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في آية أخرى فإ ن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقال تعالى وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى دل ذلك على أنه ليس المراد الرضاع شاءت الأم أو أبت وأنها مخيرة في أن ترضع أو لا ترضع فلم يبق إلا الوجهان الآخران وهو أن الأب إذا أبى استرضاع الأم أجبر عليه وإن أكثر ما يلزمه في نفقة الرضاع للحولين فإن أبى أن ينفق نفقة الرضاع أكثر منهما لم يجبر عليه

ثم لا يخلو بعد ذلك قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن من أن يكون عموما في سائر الأمهات مطلقات كن أو غير مطلقات أو أن يكون معطوفا على ما تقدم ذكره من المطلقات مقصور الحكم عليهن فإن كان المراد سائر الأمهات المطلقات منهن والمزوجات فإن النفقة الواجبة للمزوجات منهن هي نفقة الزوجية وكسوتها لا للرضاع لأنها لا تستحق نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية فتجتمع لها نفقتان إحداهما للزوجية والأخرى للرضاع وإن كانت مطلقة فنققة الرضاع أيضا مستحقة بظاهر الآية لأنه أوجبها بالرضاع وليست في هذه الحال زوجة ولا معتدة منه لأنه يكون معطوفا على قوله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فتكون منقضية العدة بوضع الحمل وتكون النفقة المستحقة أجرة الرضاع وجائز أن يكون طلقها بعد الولادة فتكون عليها العدة بالحيض وقد اختلفت الرواية من أصحابنا في وجوب نفقة الرضاع ونفقة العدة معا ففي إحدى الروايتين أنهما تستحقهما معا وفي الأخرى أنها لا تستحق للرضاع شيئا مع نفقة العدة فقد حوت الآية الدلالة على معنيين أحدهما أن الأم أحق برضاع ولدها في الحولين وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه والثاني أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله تعالى أوجب هذه النفقة على الأب للأم وهما جميعا وارثان ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث فصار ذلك أصلا في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار والكبار الزمنى يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه وقوله تعالى رزقهن وكسوتهن بالمعروف يقتضي وجوب النفقة والكسوة لها في حال الزوجية لشمول الآية لسائر الوالدات من الزوجات والمطلقات وقوله تعالى بالمعروف يدل على أن الواجب من النفقة والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره إذ ليس من المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف ويدل أيضا على أنها على مقدار الكفاية مع اعتبار حال الزوج وقد بين ذلك بقوله عقيب ذلك لا تكلف نفس إلا وسعها فإذا اشتطت المرأة وجلبت من النفقة أكثر من المعتاد

المتعارف لمثلها لم تعط وكذلك إذا قصر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العرف والعادة لم يحل ذلك وأجبر على نفقة مثلها وفي هذه الآية دلالة على جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها لأن ما أوجبه الله تعالى في هذه الآية للمطلقة هما أجرة الرضاع وقد بين ذلك بقوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وفي هذه الآية دلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث إذ توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن وأكثر الرأي إذ كان ذلك معتبرا بالعادة وكل ما كان مبنيا على العادة فسبيله الاجتهاد وغالب الظن إذ ليست العادة مقصورة على مقدار واحد لا زيادة عليه ولا نقصان ومن جهة أخرى هو مبني على الاجتهاد وهو اعتبار حاله في إعساره ويساره ومقدار الكفاية والإمكان بقوله لا تكلف نفس إلا وسعها واعتبار الوسع مبني على العادة وقوله تعالى لا تكلف نفس إلا وسعها يوجب بطلان قول أهل الإجبار في اعتقادهم أن الله يكلف عباده مالا يطيقون وإكذاب لهم في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى الله عما يقولون وينسبون إليه من السفه والعبث علوا كبيرا قوله تعالى لا تضار والدة بوالدها ولا مولود له بولده روي عن الحسن ومجاهد وقتادة قالوا هو المضارة في الرضاع وعن سعيد بن جبير وإبراهيم قالا إذا قام الرضاع على شيء خيرت الأم قال أبو بكر فمعناه لا تضار والدة بولدها بأن لا تعطى إذا رضيت بأن ترضعه بمثل ما ترضعه به الأجنبية بل تكون هي أولى على ما تقدم في أول الآية من قوله والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف فجعل الأم أحق برضاع الولد هذه المدة ثم أكد ذلك بقوله تعالى لا تضار والدة بولدها يعني والله أعلم أنها إذا رضيت بأن ترضع بمثل ما ترضع به غيرها لم يكن للأب أن يضارها فيدفعه إلى غيرها وهو كما قال في آية أخرى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن فجعلها أولى بالرضاع ثم قال وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى فلم يسقط حقها من الرضاع إلا عند التعاسر ويحتمل أن يريد به أنها لا تضار بولدها إذا لم تختر أن ترضعه بأن ينتزع منها ولكنه يؤمر الزوج بأن يحضر الظئر إلى عندها حتى ترضعه في بيتها وكذلك قول أصحابنا ولما كانت الآية محتملة للمضارة في نزع الولد منها واسترضاع غيرها وجب حمله على المعنيين فيكون الزوج ممنوعا من استرضاع غيرها إذا رضيت هي بأن ترضعه بأجرة

مثلها وهي الرزق والكسوة بالمعروف وإن لم ترضع أجبر الزوج على إحضار المرضعة حتى ترضعه في بيتها حتى لا يكون مضارا لها بولدها وفي هذا دلالة على أن الأم أحق بإمساك الولد ما دام صغيرا وإن استغنى عن الرضاع بعد ما يكون ممن يحتاج إلى الحضانة لأن حاجته إلى الأم بعد الرضاع كهي قبله فإذا كانت في حال الرضاع أحق به وإن كانت المرضعة غيرها علمنا في كونه عند الأم حقا لها وفيه حق للولد أيضا وهو أن الأم أرفق به وأحنى عليه وذلك في الغلام عندنا إلا أن يأكل وحده ويشرب وحده ويتوضأ وحده وفي الجارية حتى تحيض لأن الغلام إذا بلغ الحد الذي يحتاج فيه إلى التأديب ويعقله ففي كونه عند الأم دون الأب ضرر عليه والأب مع ذلك أقوم بتأديبه وهي الحال التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم - مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع فمن كان سنه سبعا فهو مأمور بالصلاة على وجه التعليم والتأديب لأنه يعقلها فكذلك سائر الأدب الذي يحتاج إلى تعلمه وفي كونه عندها في هذه الحال ضرر عليه ولا ولاية لأحد على الصغير فيما يكون فيه ضرر عليه وأما الجارية فلا ضرر عليها في كونها عند الأم إلى أن تحيض بل كونها عندها أنفع لها لأنها تحتاج إلى آداب النساء ولا تزول هذه الولدية عنها إلا بالبلوغ لأنها تستحقها عليها بالولادة ولا ضرر عليها في كونها عندها فلذلك كانت أولى إلى وقت البلوغ فإذا بلغت احتاجت إلى التحصين والأب أقوم بتحصينها فلذلك كان أولى بها وبمثل دلالة القرآن على ما وصفنا ورد الأثر عن الرسول ص - وهو ما روي عن علي كرم الله وجهه وابن عباس أن عليا اختصم هو وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في بنت حمزة وكانت خالتها تحت جعفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم - ادفعوها إلى خالتها فإن الخالة والدة فكان هذا الخبر أنه جعل الخالة أحق من العصبة كما حكمت الآية بأن الأم أحق بإمساك الولد من الأب وهذا أصل في أن ذوات الرحم المحرم أولى بإمساك الصبي وحضانته من حضانة العصبة من الرجال الأقرب فالأقرب منهم وقد حوى هذا الخبر معاني منها أن الخالة لها حق الحضانة وأنها أحق به من العصبة وسماها والدة ودل ذلك على أن كل ذات رحم محرم من الصبي فلها هذا الحق الأقرب فالأقرب إذ لم يكن هذا الحق مقصورا على الولادة وقد روى عمر بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمر أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله حين كان بطني له وعاء وثديي له

سقاء وحجري له حواء أراد أبوه أن ينتزعه مني فقال أنت أحق به مالم تتزوجي وروى مثل ذلك عن جماعة من الصحابة منهم علي وأبو بكر وعبدالله بن مسعود والمغيرة بن شعبة في آخرين من الصحابة والتابعين وقال الشافعي يخير الغلام إذا أكل أو شرب وحده فإن اختار الأب كان أولى به وكذلك إن اختار الأم كان عندها وروي فيه حديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
خير غلاما بين أبويه فقال له اختر أيهما شئت وروى عبدالرحمن بن غنم قال شهدت عمر بن الخطاب خير صبيا بين أبويه فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فجائز أن يكون بالغا لأنه قد يجوز أن يسمى غلاما بعد البلوغ وقد روي عن علي أنه خير غلاما وقال لو قد بلغ هذا يعني أخا له صغيرا لخيرته فهذا يدل على أن الأول كان كبيرا وقد روي في حديث أبي هريرة أن امرأة خاصمت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
وقالت إنه طلقني وأنه يريد أن ينزع مني ابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - استهما عليه فقال من يحاجني في ابني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا غلام هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت فأخذ الغلام بيد أمه وقول الأم قد سقاني من بئر أبي عنبة يدل على أنه كان كبيرا وقد اتفق الجميع أنه لا اختيار للصغير في سائر حقوقه وكذلك في الأبوين قال محمد بن الحسن لا يخير الغلام لأنه لا يختار إلا شر الأمرين قال أبو بكر هو كذلك لأنه يختار اللعب والإعراض عن تعلم الأدب والخير وقال الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا ومعلوم أن الأب أقوم بتأديبه وتعليمه وأن في كونه عند الأم ضررا عليه لأنه ينشأ على أخلاق النساء وأما قوله تعالى ولا مولود له بولده فإنه عائد على المضارة نهى الرجل أن يضارها بولدها ونهى المرأة أيضا أن تضار بولده والمضارة من جهتها قد تكون في النفقة وغيرها فأما في النفقة فأن تشتط عليه وتطلب فوق حقها وفي غير النفقة أن تمنعه من رؤيته والإلمام به ويحتمل أن تغترب به وتخرجه عن بلده فتكون مضارة له بولده ويحتمل أن تريد أن لا يطيعه وتمتنع من تركه عنده فهذه الوجوه كلها محتملة ينطوي عليها قوله تعالى ولا مولود له بولده فوجب حمل الآية عليها قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك هو عطف على جميع المذكور قبله من عند قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض بالواو وهي الحرف الجمع فكان الجميع مذكورا في حال واحدة النفقة والكسوة والنهي لكل واحد منهما عن مضارة الآخر

على ما اعتورها من المعاني التي قدمنا ذكرها ثم قال الله وعلى الوارث مثل ذلك يعني النفقة والكسوة وأن لا يضارها ولا تضاره إذ كانت المضارة قد تكون في غيرها فلما قال عطفا على ذلك وعلى الوارث مثل ذلك كان ذلك موجبا على الوارث جميع المذكور وقد روي عن عمر وزيد بن ثابت والحسن وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وقتادة في قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك قالوا النفقة وعن ابن عباس والشعبي عليه أن لا يضار قال أبو بكر قولهما عليه أن لا يضار لا دلالة فيه على أنهما لم يريا النفقة واجبة على الوارث لأن المضارة قد تكون في النفقة كما تكون في غيرها فعوده على المضارة لا ينفي إلزامه النفقة ولولا أن عليه النفقة ما كان لتخصيصه بالنهي عن المضارة فائدة إذ هو في ذلك كالأجنبي ويدل على أن المراد المضارة في النفقة وفي غيرها قوله تعالى عقيب ذلك وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم فدل ذلك على أن المضارة قد انتظمت الرضاع والنفقة وقد اختلف السلف فيمن تلزمه نفقة الصغير فقال عمر بن الخطاب إذا لم يكن له أب فنفقته على العصبات وذهب في ذلك إلى أن الله تعالى أوجب النفقة على الأب دون الأم لأنه عصبة فوجب أن تختص بها العصبات بمنزلة العقل وقال زيد بن ثابت النفقة على الرجال والنساء على قدر مواريثهم وهو قول أصحابنا وروي عن ابن عباس ما ذكرنا من أن على الوارث أن لا يضارها وقد بينا أن هذا يدل على أنه رأى على الوارث النفقة لأن المضارة تكون فيها وقال مالك لا نفقة على أحد إلا الأب خاصة ولا تجب على الجد وعلى ابن الإبن للجد وتجب على الإبن للأب وقال الشافعي لا تجب نفقة الصغير على أحد من قرابته إلا الوالد والولد والجد وولد الولد قال أبو بكر وظاهر قوله وعلى الوارث مثل ذلك واتفاق السلف على ما وصفنا من إيجاب النفقة يقضيان بفساد هذين القولين لأن قوله وعلى الوارث مثل ذلك عائد على جميع المذكورين في النفقة والمضارة وغير جائز لأحد تخصيصه بغير دلالة وقد ذكرنا اختلاف السلف فيمن تجب عليه من الورثة ولم يقل أحد منهم أن الأخ والعم لا تجب عليهما النفقة وقول مالك والشافعي خارج عن قول الجميع ومن حيث وجب على الأب وهو ذو رحم محرم وجب على من هو بهذه الصفة الأقرب فالأقرب لهذه العلة ويدل عليه قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله تعالى أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم فذكر ذوي الرحم المحرم وجعل لهم أن

يأكلوا من بيوتهم فدل على أنهم مستحقون لذلك لولاه لما أباحه لهم فإن قيل قد ذكرنا فيه أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ولا يستحاقن النفقة قيل له هو منسوخ عنهم بالإتفاق ولم يثبت نسخ ذوي الرحم المحرم فإن قيل فأوجبوا النفقة على ابن العم إذا ان وارثا قيل له الظاهر يقتضيه وخصصناه بدلالة فإن قيل فإن كان قوله وعلى الوارث مثل ذلك موجبا للنفقة على كل وارث فالواجب إيجاب النفقة على الأب والأم على قدر مواريثهما منه قيل له إنما المراد وعلىالوارث غير الأب وذلك لأنه قد تقدم ذكر الأب في أول الخطاب بإيجاب جميع النفقة عليه دون الأم ثم عطف عليه قوله وعلى الوارث مثل ذلك وغير جائز أن يكون مراده الأب مع سائرالورثة لأنه نسخ ما قد تقدم وغير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في شيء واحد في خطاب إذ كان النسخ غير جائز إلا بعد استقرار الحكم والتمكين من الفعل وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه إذا ولد مولود وأبوه ميت أو معدوم فعلى أمه أن ترضعه لقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن فلا يسقط عنها بسقوط ما كان يجب على الأب فإن انقطع لبنها بمرض أو غيره فلا شيء عليها وإن كان يمكنها أن تسترضع فلم تفعل وخافت عليه الموت وجب عليها أن تسترضع لا من جهة ما على الأب لكن من جهة أن على كل واحد إعانة من يخاف عليه إذا أمكنه وهذا الفصل من كلامه يشتمل على ضروب من الإختلال أحدها أنه أوجب الرضاع على الأم لقوله والوالدات يرضعن أولادهن وأعرض عن ذكر ما يتصل به من قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف فإنما جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة والكسوة فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل ومعلوم أن لزوم النفقة للأب بدلا من الرضاع يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب ملكا باستحقاق البدل عليه فاستحال إيجابها على الأم وقد أوجبها الله تعالى على الأب بإلزامها بدل من النفقة والكسوة والثاني قوله يرضعن أولادهن ليس فيه إيجاب الرضاع عليها وإنما جعل به الرضاع حقا لها لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت وكان الأب حيا وقد نص الله على ذلك في قوله وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى فلا يصح الاستدلال بالآية على إيحاب الرضاع عليها في حال فقد الأب وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته وهو المنصوص عليه في الآية ثم زعم أنه إن انقطع لبنها

بمرض أو غيره فلا شيء عليها وإن أمكنها أن تسترضع وهذا أيضا متنقض لأنها إن كانت منافع الرضاع مستحقة عليها للولد في حال فقد الأب فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها إذا تعذر عليها الرضاع كما وجب على الأب استرضاعه وإن لم تكن منافع الرضاع مستحقة عليها في مالها فغير جائز إلزامها الرضاع وما الفرق بين لزومها منافع الرضاع وبين لزوم ذلك في مالها إذا تعذر عليها ثم ناقض فيه من وجه آخر وهو أنه لم يلزمها نفقته بعد انقضاء الرضاع ويفرق بين الرضاع وبين النفقة بعدالرضاع وهما جميعا من نفقة الصغير فمن أين أوجب الفرق بينهما ولو جازت الفرقة من هذا الوجه لجاز مثله في الأب حتى يقال إن الذي يلزمه إنما هو نفقة الرضاع فإذا انقضت مدة الرضاع فلا نفقة عليه للصغير لأن الله تعالى إنما أوجب عليه نفقتها وكسوتها للرضاع ثم زعم أنه إذا أمكنها أن تسترضع وخافت عليه الموت فعليها أن تسترضع على الوجه الذي يلزمها ذلك لو خافت عليه الموت فإن كان ذلك على هذا المعنى فكيف خصها بإلزامها ذلك دون جيرانها ودون سائر الناس وهذا كله تخليط وتشبه غير مقرون بدلالة ولا مستند إلى شبهة وقد حكي مثل ذلك عن مالك أنه لا يوجب النفقة إلا على الأب للإبن وعلى الإبن للأب ولا يوجبها للجد على ابن الإبن وهو قول خارج عن أقاويل السلف والخلف جميعا لا نعلم عليه موافقا ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يرده وهو قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن إلى قوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا والجد داخل في هذه الجملة لأنه أب قال الله تعالى ملة أبيكم إبراهيم وهو مأمور بمصاحبته بالمعروف لا خلاف في ذلك وليس من الصحبة بالمعروف تركه جائعا مع القدرة على سد جوعته ويدل عليه أيضا قوله ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم فذكر بيوت هؤلاء الأقرباء ولم يذكر بيت الإبن ولا ابن الإبن لأن قوله من بيوتكم قد اقتضى ذلك كقوله أنت ومالك لأبيك فأضاف إليه ملك الإبن كما أضاف إليه بيت الإبن واقتصر على إضافة البيوت إليه والدليل على أنه أراد بيوت الإبن وابن الإبن أنه قد كان معلوما قبل ذلك أن الإنسان غير محظور عليه مال نفسه فإنه لا وجه لقول القائل لا جناح عليك في أكل مال نفسك فدل ذلك على أن المراد بقوله أن تأكلوا من بيوتكم هي بيوت الأبناء وأبناء الأبناء إذ لم يذكرهما جميعا كما ذكر سائر الأقرباء وقد اختلف

موجبو النفقة على الورثة على قدر مواريثهم فقال أصحابنا هي على كل من كان من أهل الميراث على قدر ميراثه من الصبي إذا كان ذا رحم محرم منه ولا نفقة على من لم يكن ذا رحم محرم من الصبي وإن كان وارثا ولذلك أوجبوا النفقة على الخال والميراث لإبن العم لأن ابن العم ليس رحم محرم والخال وإن لم يكن وارثا في هذه الحال فهو من أهل الميراث ذو رحم محرم وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به وارثا في حال الحياة لأن الميراث لا يكون في حال الحياة وبعد الموت لا يدرى من يرثه وعسى أن يكون هذا الصبي يرث هذا الذي عليه النفقة بموته قبله وجائز أن يحدث له من الورثة من يحجب من أوجبنا عليه ولما كان ذلك كذلك علمنا أنه ليس المراد حصول الميراث وإنما المعنى أنه ذو رحم محرم من أهل الميراث وقال ابن أبي ليلى النفقة واجبة على كل وارث ذا رحم محرم كان أو غير ذي رحم محرم فيوجبها على ابن العم دون الخال والدليل على صحة ما ذكرنا اتفاق الجميع على أن مولى العتاقة لا تجب عليه النفقة وإن كان وارثا وكذلك المرأة لا تجب عليها نفقة زوجها الصغير وهي ممن يرثه فدل ذلك على أن كونه ذا رحم محرم شرط في إيجاب النفقة وأما قوله عز و جل حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة فإنه لا يخلو توقيت الحولين من أحد المعنيين إما أن يكون تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم أو لما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في نسق التلاوة بعد ذكر الحولين فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما دل ذلك على أن الحولين ليسا تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم لأن الفاء للتعقيب فواجب أن يكون الفصال الذي علقه بإرادتهما بعد الحولين وإذا كان الفصال معلقا بتراضيهما وتشاورهما بعد الحولين فقد دل ذلك على أن ذكر الحولين ليس هو من جهة توقيت نهاية الرضاع الموجب للتحريم وإنه جائز أن يكون بعدهما رضاع وقد روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ثم قال فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح إن أراد أن يفطماه قبل الحولين أو بعده فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى فإن أرادا فصالا على ما قبل الحولين وبعده ويدل عليه قوله تعالى وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم وظاهره الاسترضاع بعد الحولين لأنه معطوف على ذكر الفصال الذي علقه بتراضيهما

فأباحه لهما وأباح للأب الاسترضاع بعد ذلك كما أباح لهما الفصال إذا كان فيه صلاح الصبي ودل ما وصفنا على أن ذكر الحولين إنما هو توقيت لما يلزم الأب في الحكم من نفقة الرضاع ويجبره الحاكم عليه والله أعلم
ذكر
اختلاف الفقهاء في وقت الرضاع قال أبو بكر قد كان بين السلف اختلاف في رضاعة الكبير فروي عن عائشة أنها كانت ترى رضاع الكبير موجبا للتحريم كرضاع الصغير وكانت تروي في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لسهلة بنت سهيل وهي امرأة ابي حذيفة أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك وكانت عائشة إذا ارادت أن يدخل عليها رجل أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه خمس رضعات ثم يدخل عليها بعد ذلك وأبى سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك وقلن لعل هذه كانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لسالم وحده وقد روي أن سهلة بنت سهيل قالت يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة فيحتمل أن يكون ذلك خاصا لسالم كما تأوله سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم -
كما خص أبا زياد ابن دينار بالجذعة في الأضحية وأخبر أنها لا تجزي عن أحد بعده وقد روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن رضاع الكبير لا يحرم وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
دخل عليها وعندها رجل فقالت يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال ص - انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة فهذا يوجب أن يكون حكم الرضاع مقصورا على حال الصغير وهي الحال التي يسد اللبن فيها جوعته ويكتفي في غذائه وقد روي عن أبي موسى أنه كان يرى رضاع الكبير وروي عنه ما يدل على رجوعه وهو ما روى أبو حصين عن أبي عطية قال قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت فتورم ثديها فجعل يمجه ويصبه فدخل في بطنه جرعة منه فسأل أبا موسى فقال بانت منك فأتى ابن مسعود فأخبره ففصل فأقبل بالأعرابي إلى الأشعري فقال أرضيعا ترى هذا الأشمط إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم فقال الأشعري لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم وهذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول إلى قول ابن مسعود

إذ لولا ذلك لم يقل لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بن أظهركم وكان باقيا على مخالفته وإن ما أفتى به حق وقد روي عن علي وابن عباس وعبدالله وأم سلمة وجابر بن عبدالله وابن عمر أن رضاع الكبير لا يحرم ولا نعلم أحدا من الفقهاء قال برضاع الكبير إلا شيء يروى عن الليث بن سعد يرويه عنه أبو صالح أن رضاع الكبير يحرم وهو قول شاذ لأنه قد روي عن عائشة ما يدل على أنه لا يحرم وهو ما روى الحجاج عن الحكم عن أبي الشعثاء عن عائشة قالت يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم وقد روى حرام بن عثمان عن ابن جابر عن أبيهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال وروي عن النبي ص - في حديث عائشة الذي قدمنا إنما الرضاعة من المجاعة وفي حديث آخر ما أنبت اللحم وأنشز العظم وهذا ينفي كون الرضاع في الكبير وقد روي حديث عائشة الذي قدمناه في رضاع الكبير على وجه آخر وهو ما روى عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة كانت تأمر بنت عبدالرحمن بن أبي بكر أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا فإذا ثبت شذوذ قول من أوجب رضاع الكبير فحصل الاتفاق على أن رضاع الكبير غير محرم وبالله التوفيق وقد اختلف فقهاء الأمصار في مدة ذلك فقال أبو حنيفة ما كان من رضاع في الحولين وبعدهما بستة أشهر وقد فطم أو لم يفطم فهو يحرم وبعد ذلك لا يحرم فطم أو لم يفطم وقال زفر بن الهذيل ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والحسن بن صالح والشافعي يحرم في الحولين ولا يحرم بعدهما ولا يعتبر الفطام وإنما يعتبر الوقت وقال ابن وهب عن مالك قليل الرضاع وكثيره محرم في الحولين وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم قليله ولا كثيره وقال ابن القاسم عن مالك الرضاع حولان وشهر أو شهران بعد ذلك ولا ينظر إلى إرضاع أمه إياه إنما ينظر إلى الحولين وشهر أو شهرين قال وإن فصلته قبل الحولين وأرضعته قبل تمام الحولين فهو فطيم فإن ذلك لا يكون رضاعا إذا كان قد استغنى قبل ذلك عن الرضاع فلا يكون ما أرضع بعده رضاعا وقال الأوزاعي إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم لم يكن رضاعا بعد الحولين وقد روي عن السلف في ذلك أقاويل فروي عن علي لا رضاع بعد فصال وعن عمر وابن عمر لا رضاع إلا ما كان في الصغر وهذا يدل من قولهم على

ترك اعتبار الحولين لأن عليا علق الحكم بالفصال وعمر وابنه بالصغر من غير توقيت وعن أم سلمة أنها قالت إنما يحرم من الرضاع ما كان في الثدي قبل الفطام وعن أبي هريرة لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام فعلق الحكم بما كان قبل الفطام وبما فتق الأمعاء وهو نحو ما روي عن عائشة أنها قالت إنما يحرم من الرضاعة ما أنبت اللحم والدم فهذا كله يدل على أنه لم يكن من مذهبهم اعتبار الحولين وقد روي عن عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس أنهما قالا لا رضاع بعد الحولين وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الرضاعة من المجاعة يدل على أنه غير متعلق بالحولين لأنه لو كان الحولان توقيتا له لما قال الرضاعة من المجاعة ولقال الرضاعة في الحولين فلما لم يذكر الحولين وذكر المجاعة زمعناها أن اللبن إذا كان يسد جوعته ويقوي عليه بدنه فالرضاعة في تلك الحال وذلك قد يكون بعد الحولين فاقتضى ظاهر ذلك صحة الرضاع الموجب للتحريم بعد الحولين وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا رضاع بعد فصال وذلك يوجب أنه إذا فصل بعد الحولين أن ينقطع حكمه بعد ذلك وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز العظم دلالته على نفي توقيت الحولين بمدة الرضاع لدلالة الأخبار المتقدمة وقد حكي عن ابن عباس قول لست أثق بصحة النقل فيه هو أنه يعتبر ذلك بقوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فإن ولدت المرأة لستة أشهر فرضاعه حولان كاملان وإن ولدت لتسعة أشهر فأحد وعشرون شهرا وإن ولدت لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون شهرا يعتبر فيه تكملة ثلاثين شهرا بالحمل والفصال جميعا ولا نعلم أحدا من السلف والفقهاء بعدهم اعتبر ذلك ولما كانت احوال الصبيان تختلف في الحاجة إلى الرضاع فمنهم من يستغني عنه قبل الحولين ومنهم من لا يستغني عنه بعد كمال الحولين واتفق الجميع على نفي الرضاع للكبير وثبوت الرضاع للصغير على ما قدمنا من الرواية فيه عن السلف ولم يكن الحولان حدا للصغير إذ لا يمتنع أحد أن يسميه صغيرا وإن أتى عليه حولان علمنا أن الحولين ليس بتوقيف لمدة الرضاع ألا ترى أنه ص - لما قال الرضاعة من المجاعة وقال الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز العظم فقد اعتبر معنى تختلف فيه أحوال الصغار وإن كان الأغلب أنهم قد يستغنون عنه بمضي الحولين فسقط اعتبار الحولين في ذلك ثم مقدار الزيادة عليهما طريقة الإجتهاد لأنه تحديد بين الحال التي يكتفى فيها باللبن في غذائه وينبت عليه

لحمه وبين الانتقال إلى الحال التي يكتفى فيها بالطعام ويستغنى عن اللبن وكان عند أبي حنيفة أنه ستة أشهر بعد الحولين وذلك اجتهاد في التقدير والمقادير التي طريقها الاجتهاد لا يتوجه على القائل بها سؤال نحو تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف وتقدير متعة النساء بعد الطلاق وما جرى مجرى ذلك ليس لأحد مطالبة من غلب على ظنه شيء من هذه المقادير بإقامة الدلالة عليه فهذا أصل صحيح في هذا الباب يجري مسائله فيه على منهاج واحد ونظيره ما قال أبو حنيفة في حد البلوغ أنه ثماني عشرة سنة وأن المال لا يدفع إلى البالغ الذي لم يؤنس رشده إلا بعد خمس وعشرين سنة في نظائر لذلك من المسائل التي طريق إثبات المقادير فيها الإجتهاد فإن قال قائل وإن كان طريقة الإجتهاد فلا بد من جهة يغلب معها في النفس اعتبار هذا المقدار بعينه دون غيره فما المعنى الذي أوجب من طريق الإجتهاد اعتبار ستة أشهر بعد الحولين دون سنة تامة على ما قال زفر قيل له أحد ما يقال في ذلك أن الله تعالى لما قال وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ثم قال وفصاله في عامين فعقل من مفهوم الخطابين كون الحمل ستة أشهر ثم جارت الزيادة عليه إلى تمام الحولين إذ لا خلاف أن الحمل قد يكون حولين ولا يكون عندنا الحمل أكثر منهما فلا يخرج الحمل المذكور في هذه الجملة من جملة الحولين كذلك الفصال لا يخرج من جملة ثلاثين شهرا لأنهما جميعا قد انتظمتهما الجملة المذكورة في قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وكان أبو الحسن يقول في ذلك لما كان الحولان هما الوقت المعتاد للفطام وقد جازت الزيادة عليه بما ذكرنا وجب أن تكون مدة الإنتقال من غذاء اللبن بعد الحولين إلى غذاء الطعام ستة أشهر كما كانت مدة انتقال الولد في بطن الأم إلى غذاء الطعام بالولادة ستة أشهر وذلك أقل مدة الحمل فإن قال قائل قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة نص على أن الحولين تمام الرضاع فغير جائز أن يكون بعده رضاع قيل له إطلاق لفظ الإتمام غير مانع من الزيادة عليه ألا ترى أن الله تعالى قد جعل مدة الحمل ستة أشهر في قوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقوله تعالى وفصاله في عامين فجعل مجموع الآيتين الحمل ستة أشهر ثم لم تمتنع الزيادة عليها فكذلك ذكر الحولين للرضاع غير مانع جواز الزيادة عليهما وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من أدرك عرفة فقد تم حجه ولم تمتنع زيادة الفرض عليها تقدير لما يلزم الأب من

أجرة الرضاع وأنه غير مجبر على أكثر منهما لإثباته الرضاع بتراضيهما بقوله تعالى فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وبقوله تعالى وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم فلما ثبت الرضاع بعد الحولين دل ذلك على أن حكم التحريم به غير مقصور عليهما فإن قيل هلا اعتبرت الفطام على ما اعتبره مالك في الحولين في حال استغناء الصبي عن اللبن بالطعام بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا رضاع بعد فصال وبما روي عن الصحابة فيه على نحو ما قدمنا ذكره مما يدل كله على اعتبار الفطام قيل له لو وجب ذلك لوجب اعتبار حال الصبي بعد الحولين في حاجته إلى اللبن واستغنائه عنه لأن من الصبيان من يحتاج إلى الرضاع بعد الحولين فلما اتفق الجميع على سقوط اعتبار ذلك بعد الحولين دل على سقوط اعتباره في الحولين ووجب أن يكون حكم التحريم معلقا بالوقت دون غيره فإن قال قائل قد روي في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا رضاع بعد الحولين قيل له المشهور عنه لا رضاع بعد فصال فجائز أن يكون هذا هو أصل الحديث وإن من ذكر الحولين حمله على المعنى وحده وأيضا لو ثبت هذا اللفظ احتمل أن يريد أيضا لا رضاع على الأب بعد الحولين على نحو تأويل قوله تعالى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وقد تقدم ذكره وأيضا لو كان الحولان هما مدة الرضاع وبهما يقع الفصال لما قال تعالى فإن ارادا فصالا وهذا القول يدل من وجهين على أن الحولين ليسا توقيتا للفصال أحدهما ذكره للفصال منكورا في قوله تعالى فصالا ولو كان الحولان فصالا لقال الفصال حتى يرجع ذكر الفصال إليهما لأنه معهود مشار إليه فلما أطلق فيه لفظ النكرة دل على أنه لم يرد به الحولين والوجه الآخر تعليقه الفصال بإرادتهما وما كان مقصورا على وقت محدود لا يعلق بالإرادة والتراضي والتشاور وفي ذلك دليل على ما ذكرنا وقوله تعالى فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح أمر الصغير وذلك موقوف على غالب ظنهما لا من جهة اليقين والحقيقة وفيه أيضا دلالة على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر لقوله تعالى فإن ارادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فأجاز ذلك بتراضيهما وتشاورهما وقد روي نحو ذلك عن مجاهد وقد روي عن بعض السلف نسخ في هذه الآية روى شيبان عن قتادة في قوله تعالى

والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ثم أنزل التخفيف بعد ذلك فقال تعالى لمن أراد أن يتم الرضاعة قال أبو بكر كأنه عنده كان رضاع الحولين واجبا ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من مدة الرضاع بقوله تعالى لمن أراد أن يتم الرضاعة وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مثل قتادة وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن اراد أن يتم الرضاعة ثم قال فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا حرج إن أرادا أن يفطما قبل الحولين أو بعدهما والله أعلم
باب
ذكر عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والتربص بالشيء الانتظار به قال الله تعالى فتربصوا به حتى حين وقال تعالى ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر يعني ينتظر وقال تعالى أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون فأمرها الله تعالى بأن يتربصن بأنفسهن هذه المدة عن الأزواج ألا ترى أنه عقبه بقوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن وقد كانت عدة المتوفى عنها زوجها سنة بقوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فتضمنت هذه الآية أحكاما منها توقيت العدة سنة ومنها أن نفقتها وسكناها كانت في تركة زوجها ما دامت معتدة بقوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلىالحول ومنها أنها كانت ممنوعة من الخروج في هذه السنة فنسخ منها من المدة ما زاد على أربعة أشهر وعشرا ونسخ أيضا وجوب نفقتها وسكناها في التركة بالميراث لقوله تعالى أربعة أشهر وعشا من غير إيجاب نفقة ولا سكنى ولم يثبت نسخ الإخراج فالمنع من الخروج في العدة الثانية قائم إذ لم يثبت نسخه وقد حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخرساني عن ابن عباس في هذه الآية يعني قوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج قال كان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها سنة فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا وصية لوارث إلا أن يرضى الورثة

قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد عن حميد عن نافع أنه سمع زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة وأم حبيبة أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم -
فذكرت أن بنتا لها توفي عنها زوجها واشتكت عينها وهي تريد أن تكحلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة عند رأس الحول وإنما هي أربعة أشهر وعشرا قال حميد فسألت زينب وما رميها بالبعرة فقالت كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها عمدت إلى شرى بيت لها فجلست فيه سنة فإذا مرت سنة خرجت فرمت ببعرة من ورائها رواه مالك عن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو عن حميد عن نافع عن زينب بنت أبي سلمة وذكرت الحديث وقالت فيه كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر سنة ثم تؤتى بدابة حمار وشاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن عدة الحول منسوخة بأربعة أشهر وأخبر ببقاء حظر الطيب عليها في العدة وعدة الحول وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في التنزيل وعدة الشهور متأخرة عنها ناسخة لها لأن نظام التلاوة ليس هو على نظام التنزيل وترتيبه واتفق أهل العلم على أن عدة الحول منسوخة بعدة الشهور على ما وصفنا وأن وصية النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها منسوخة إذا لم تكن حاملا واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها أيضا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ولا خلاف بين أهل العلم أيضا في أن هذه الاية خاصة في غير الحامل واختلفوا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها على ثلاثة أنحاء فقال علي وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس عدتها أبعد الأجلين وقال عمر وعبدالله وزيد بن ثابت وابن عمر وأبو هريرة في آخرين عدتها أن تضع حملها وروي عن الحسن أن عدتها أن تضع حملها وتطهر من نفاسها ولا يجوز لها أن تتزوج وهي ترى الدم وأما علي فإنه ذهب إلى أن قوله تعالى أربعة أشهر وعشرا يوجب الشهور وقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن يوجب انقضاء العدة بوضع الحمل فجمع بين الآيتين في إثبات حكمهما للمتوفى عنها زوجها وجعل انقضاء عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أومضي الشهور وقال عبدالله بن مسعود من شاء باهلته أن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن نزل بعد قوله أربعة أشهر وعشرا

فحصل بما ذكرنا اتفاق الجميع على أن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن عام في المطلقة والمتوفى عنها زوجها وإن كان مذكورا عقيب ذكر الطلاق لاعتبار الجميع بالحمل في انقضاء العدة لأنهم قالوا جميعا أن مضي الشهور لا تنقضي به عدتها إذا كانت حاملا حتى تضع حملها فوجب أن يكون قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن مستعملا على مقتضاه وموجبه وغير جائز اعتبار الشهور معه ويدل على ذلك أيضا عدة الشهور خاصة في غير المتوفى عنها زوجها ويدل عليه أيضا أن قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء مستعمل في المطلقات غير الحوامل وأن الإقراء غير مشروطة مع الحمل في الحامل بل كانت عدة الحامل المطلقة وضع الحمل من غير ضم الإقراء إليها وقد كان جائزا أن يكون الحمل والإقراء مجموعين عدة لها بأن لا تنقضي عدتها بوضع الحمل حتى تحيض ثلاث حيض فكذلك يجب أن تكون عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي الحمل غير مضموم إليه الشهور وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله في هذه الآية حين نزلت وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال فيهما جميعا وقد روت أم سلمة أن سبيعة بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأن تتزوج وروى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبو السنابل بن بعكك أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها ببضع وعشرين ليلة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن تتزوج وهذا حديث قد ورد من طرق صحيحة لا مساغ لأحد في العدول عنه مع ما عضده من ظاهر الكتاب وهذه الآية خاصة في الحرائر دون الإماء لأنه لا خلاف بين السلف فيما نعلمه وبين فقهاء الأمصار في أن عدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمسة أيام نصف عدة الحرة وقد حكي عن الأصم أنها عامة في الأمة والحرة وكذلك يقول في عدة الأمة في الطلاق أنها ثلاث حيض وهو قول شاذ خارج عن أقاويل السلف والخلف مخالف للسنة لأن السلف لم يختلفوا في أن عدة الأمة من الحيض والشهور على النصف من عدة الحرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم - طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وهذا خبر قد تلقاه الفقهاء بالقبول واستعملوه في تنصيف عدة الأمة فهو في حيز التواتر الموجب للعلم عندنا واختلف السلف في المتوفى عنها زوجها إذا لم تعلم بموته وبلغها الخبر فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر

وعطاء وجابر بن زيد عدتها منذ يوم يموت وكذلك في الطلاق من يوم طلق وهو قول الأسود بن زيد في آخرين وهو قول فقهاء الأمصار وقال علي والحسن البصري وخلاس بن عمرو من يوم يأتيها الخبر في الموت وفي الطلاق من يوم طلق وهو قول ربيعة وقال الشعبي وسعيد بن المسيب إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت وإذا لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر وجائز أن يكون مذهب علي على هذا المعنى بأن يكون قد خفي عليها وقت الموت فأمرها بالاحتياط من يوم يأتيها الخبر وذلك لأن الله تعالى نص على وجوب العدة بالموت والطلاق بقوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن كما قال تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فأوجب العدة فيهما بالموت وبالطلاق فواجب أن تكون العدة فيهما من يوم الموت والطلاق ولما اتفقوا على أن عدة المطلقة من يوم طلق ولم يعتبروا وقت بلوغ الخبر كذلك عدة الوفاء لأنهما جميعا سببا وجوب العدة وأيضا فإن العدة ليست هي فعلها فيعتبر فيها علمها وإنما هي مضي الأوقات ولا فرق بين علمها بذلك وبين جهلها به وأيضا لما كانت العدة موجبة عن الموت كالميراث وإنا يعتبر في الميراث وقت الوفاة لا وقت بلوغ خبرها وجب أن تكون كذلك العدة وأن لا يختلف فيها حكم العلم والجهل كما لا يختلف في الميراث وأيضا فإن أكثر ما في العلم أن تجتنب ما تجتنبه المعتدة من الخروج والزينة إذا علمت فإذا لم تعلم فترك اجتناب ما يلزم اجتنابه في العدة لم يكن مانعا من انقضاء العدة لأنها لو كانت عالمة بالموت فلم تجتنب الخروج والزينة لم يؤثر ذلك في انقضاء العدة فكذلك إذا لم تعلم به قوله تعالى أربعة أشهر وعشرا ذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال في المتوفى عنها زوجها والمعتدة من الطلاق بالشهور أنه إن وجبت مع رؤية الهلال اعتدت بالأهلة كان الشهر ناقصا أو تاما وإن كانت العدة وجبت في بعض شهر لم تعمل على الأهلة واعتدت تسعين يوما في الطلاق وفي الوفاة مائة وثلاثين يوما وذكر أيضا سليمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة بخلاف ذلك قال إن كانت العدة وجبت في بعض شهر فإنها تعتد بما بقي من ذلك الشهر أياما ثم تعتد لما يمر عليها من الأهلة شهورا ثم تكمل الأيام الأول ثلاثين يوما وإذا وجبت العدة مع رؤية الهلال اعتدت بالأهلة وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وروي عن مالك في الإجارة مثله وقال ابن

القاسم وكذلك قوله في الأيمان والطلاق وكذلك قال أصحابنا في الإجارة وروى عمرو بن خالد عن زفر في الإيلاء في بعض الشهر أنها تعتد بكل شهر يمر عليها ناقصا أو تاما قال وقال أبو يوسف تعتد بالأيام حتى تستكمل مائة وعشرين يوما ولا تنظر إلى نقصان الشهر ولا إلى تمامه قال أبو بكر وهذا على ما حكاه سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في عدة الشهور ولا خلاف بين الفقهاء في مدة العدد وأجل الإيلاء والأيمان والإجارات إذا عقدت على الشهور مع رؤية الهلال أنه تعتبر الأهلة في سائر شهوره سواء كانت ناقصة أو تامة وإذا كان ابتداء المدة في بعض الشهر فهو على الخلاف الذي ذكرنا وأما وجه من اعتبر في ذلك بقية الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما وسائر الشهود بالأهلة ثم يكمله الشهر الأخر بالأيام مع بقية الشهر الأول فإنه ذهب إلى معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين فدل ذلك على معنيين أحدهما أن كل شهر ابتداؤه وانتهاؤه بالهلال واحتجنا إلى اعتباره فواجب اعتباره بالهلال ناقصا كان أو تاما كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم - باعتباره في صوم رمضان وشعبان وكل شهر لم يكن ابتداؤه وانتهاؤه بالأهلة فهو ثلاثون وإنما ينقص بالهلال فلما لم يكن ابتداء الشهر الأول بالهلال وجب فيه استيفاء ثلاثين يوما من آخر المدة وسائر الشهور لما أمكن استيفاؤها بالأهلة وجب اعتبارها بها وعلى قول من اعتبر سائر الشهور بالأيام يقول لما لم يكن ابتداء المدة بالهلال وجب استيفاء هذا الشهر بالأيام ثلاثون يوما فيكون انقضاؤه في بعض الشهر الذي يليه ثم يكون كذلك حكم سائر الشهور قالوا ولا يجوز أن يجبر هذا الشهر من أحد الشهور ويجعل ما بينهما شهورا بالأهلة لأن الشهور سبيلها أن تكون أيامها متصلة متوالية فوجب استيفاء شهر كامل ثلاثين يوما منذ أول المدة أياما متوالية فيقع ابتداءالشهر الثاني في بعض الشهر الثاني فتكون الشهور وأيامها متوالية متصلة ومن يعتبر الأهلة فيما يستقبل من الشهور بعد بقية الشهر الأول فإنه يحتج بما قد قدمنا ذكره من أنه قد استقبل الشهر الذي يليه بالهلال فوجب أن يكون انتهاؤه بالهلال قال الله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واتفق أهل العلم بالنقل أنها كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشرا من ربيع الآخر فاعتبر الهلال فيما يأتي من الشهور دون عدد الأيام فوجب مثله في نظائره من المدة وقوله تعالى وعشرا

ظاهرها أنها الليالي والأيام مرادة معها ولكن غلبت الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره لأن ابتداء شهور الأهلة بالليالي منذ طلوع الأهلة فلما كان ابتداؤها الليل غلبت الليالي وخصت بالذكر دون الأيام وإن كانت تفيد ما بإزائها من الأيام ولو ذكر جمعا من الأيام أفادت ما بإزائها من الليالي والدليل عليه قوله تعالى ثلاثة ايام إلا رمزا وقال تعالى في موضع آخر ثلاث ليال سويا والقصة واحدة فاكتفى تارة بذكر الأيام عن الليالي وتارة بذكر الليالي عن الأيام وقال النبي صلى الله عليه وسلم - الشهر تسع وعشرون وفي لفظ آخر تسعة وعشرون فدل على أن كل واحد من العددين إذا أطلق أفاد بإزائه من الآخر ألا ترى أنه لما اختلف العددان من الليالي والأيام فصل بينهما في اللفظ في قوله تعالى سبع ليال وثمانية أيام حسوما وذكر الفراء أنهم يقولون صمنا عشرا من شهر رمضان فيعبرون بذكر الليالي عن الأيام لأن عشرا لا تكون إلا الليالي ألا ترى أنه لو
قال عشرة أيام لم يجز فيها إلا التذكير وأنشد الفراء ... اقامت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجارا ... فقال ثلاثا وهي الليالي وذكر اليوم والليلة في المراد وإذا ثبت ما وصفنا كان قوله تعالى أربعة أشهر وعشرا مفيدا لكون المدة أربعة أشهر على ما قدمنا من الاعتبار وعشرة أيام زائدة عليها وإن كان لفظ العدد واردا بلفظ التأنيث
ذكر الإختلاف في خروج المعتدة من بيتها
قال أصحابنا لا تنتقل المبتوتة ولا المتوفى عنها زجها عن بيتها الذي كانت تسكنه وتخرج المتوفى عنها زوجها بالنهار ولا تبيت في غير منزلها ولا تخرج المطلقة ليلا ولا نهارا إلا من عذر وهو قول الحسن وقال مالك لا تنتقل المطلقة المبتوتة ولا الرجعية ولا المتوفى عنها ولا يخرجن بالنهار ولا يبتن عن بيوتهن وقال الشافعي ولم يكن الإحداد في سكنى البيوت فتسكن المتوفى عنها زوجها أي بيت كانت فيه جيدا أو رديا وإنما الإحداد في الزينة قال أبو بكر أما المطلقة فلقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فحظر خروجها وإخراجها في العدة إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وذلك ضرب من العذر فأباح خروجها لعذر وقد اختلف في الفاحشة المذكورة في هذه الآية وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى وأما المتوفى عنها زوجها فإن الله تعالى قال في العدة الأولى

متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ منها ما زاد على الأربعة الأشهر والعشر فبقي حكم هذه العدة الثانية على ما كان عليه من ترك الخروج إذ لم يرد لها نسخ وإنما النسخ فيما زاد وقد وردت السنة بمثل ما دل عليه الكتاب حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن سلمة القعنبي عن مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها قتله عبد له فسألت رسول الله ص - أن أرجع إلى أهلي فإنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فلما كان عثمان أرسل إلي وسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به وقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال حدثنا موسى بن مسعود قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح قال قال عطاء قال ابن عباس نسخت هذه الآية عدتها عند أهله فتعتد حيث شاءت وهو قول الله عز و جل غير إخراج قال عطاء إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في منزلها وإن شاءت خرجت لقول الله تعالى فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن قال عطاء ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت قال أبو بكر ليس في إيجاب الميراث ما يوجب نسخ الكون في المنزل وقد يجوز اجتماعهما فليس في ثبوت أحدهما نفي الآخر وقد ثبت ذلك ايضا بسنة الرسول ص - بعد نسخ الحول وإيجاب الميراث لأن عدة الفريعة كانت أربعة أشهر وعشرا وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم - عن النقلة وما روينا من قصة الفريعة قد دل على معنيين أحدهما لزوم السكون في المنزل الذي كانت تسكنه يوم الوفاة والنهي عن النقلة والثاني جواز الخروج إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم - الخروج ولو كان الخروج محظورا لنهاها عنه وقد روي مثل ذلك عن جماعة من السلف منهم عبدالله بن مسعود وعمر وزيد بن ثابت وأم سلمة وعثمان أنهم قالوا المتوفى عنها زوجها تخرج بالنهار ولا تبيت عن بيتها وروى عبدالرزاق عن ابن كثير عن مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فآمنت نساؤهم وكن متجاورات في دار

فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقلن نبيت عند إحدانا فقال تزاورن بالنهار فإذا كان الليل فلتأو كل واحدة منكن إلى بيتها وروي عن جماعة من السلف أن المتوفى عنها زوجها تعتد حيث شاءت منهم علي وابن عباس وجابر بن عبدالله وعائشة وما قدمنا من دليل الكتاب والسنة يوجب صحة القول الأول فإن قيل قال الله تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف فهذا يدل على أن لها أن تنتقل قيل له المعنى فإذا خرجن بعد انقضاء العدة كما قال في الآية الأخرى فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن ويدل على أن المراد ما ذكرنا أنها لو خرجت قبل انقضاء العدة لم يكن لها أن تتزوج بالاتفاق فدل ذلك على أن المراد فإذا خرجن بعد انقضاء العدة وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان حظر الانتقال باقيا على المتوفى عنها زوجها وإنما قالوا إن المطلقة لا تخرج ليلا ولا نهارا لقوله تعالى ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وذلك عموم في جميعهن وحظر عن خروجهن في سائر الأوقات وخالفت المتوفى عنها زوجها فهي مستغنية عن الخروج والله أعلم
باب ذكر إحداد المتوفى عنها زوجها
روي عن جماعة من الصحابة أن عليها اجتناب الزينة والطيب منهم عائشة وأم سلمة وابن عمر وغيرهم ومن التابعين سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وحكاه عن فقهاء المدينة وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن عبدالله بن أبي بكر عن حميد بن نافع عن زينب بنت بن أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث قالت زينب دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليالي إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب ودخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول وهو على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب وسمعت أمي أم سلمة تقول

جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لامرأتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول قال حميد فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس الحول فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتضي بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره فحظر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم - الاكتحال في العدة وأخبر بالعدة التي كانت تعتد إحداهن وما تجتنبه من الزينة والطيب ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشرا فدل بذلك علىأن هذه العدة محتدا بها العدة التي كانت سنة في اجتناب الطيب والزينة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إبراهيم بن طهمان قال حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -
عن النبي ص -
أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلية ولا تختضب ولا تكتحل وروى أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل وروت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لها وهي معتدة من زوجها لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قوله عز و جل والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم الآية قد تضمنت هذه الآية أربعة أحكام أحدها الحول وقد نسخ منه ما زاد على أربعة أشهر وعشرا والثاني نفقتها وسكناها في مال الزوج فقد نسخ بالميراث على ما روي عن ابن عباس وغيره لأن الله تعالى أوجبها لها على وجه الوصية لأزواجهم كما كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت بالميراث وقول النبي صلى الله عليه وسلم -
لا وصية لوارث ومنها الإحداد الذي دلت عليه الدلالة من الآية فحكمه باق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومنها انتقالها عن بيت زوجها فحكمه باق في حظره فنسخ من الآية حكمان وبقي حكمان ولا نعلم آية اشتملت على أربعة أحكام فنسخ منها اثنان وبقي اثنان غيرها ويحتمل أن يكون قوله تعالى غير إخراج منسوخا لأن المراد به السكنى الواجبة في مال الزوج فقد نسخ كونها في مال الزوج فصار حظر

الإخراج منسوخا إلا أن قوله تعالى غير إخراج قد تضمن معنيين أحدهما وجوب السكنى في مال الزوج والثاني حظر الخروج والإخراج لأنهم إذا كانوا ممنوعين من إخراجها فهي لا محالة مأمورة باللبس فإذا نسخ وجوب السكنى في مال الزوج بقي حكم لزوم اللبث في البيت وقد اختلف أهل العلم في نفقة المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس وجابر بن عبدالله نفقتها على نفسها حاملا كانت أو غير حامل وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وقبيصة بن ذؤيب وروى الشعبي عن علي وعبدالله قالا إذا مات عنها زوجها فنفقتها من جميع المال وروى الحكم عن إبراهيم قال كان أصحاب عبدالله يقضون في الحامل المتوفى عنها زوجها إن كان المال كثيرا فنفقتها من نصيب ولدها وإن كان قليلا فمن جميع المال وروى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال ينفق عليها من جميع المال وقال أصحابنا جميعا لا نفقة لها ولا سكنى في مال الميت حاملا كانت أو غير حامل وقال ابن أبي ليلى هي في مال الزوج بمنزلة الدين على الميت إذا كانت حاملا وقال مالك بن أنس نفقتها على نفسها وإن كانت حاملا ولها السكنى إن كانت الدار للزوج وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بسكناها حتى تنقضي عدتها وإن كانت في بيت بكراء فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج هذا رواية ابن وهب عنه وقال ابن القاسم عنه لا نفقة لها في مال الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت وإن كان عليه دين فهي أحق بالسكنى من الغرماء وتباع للغرماء ويشترط السكنى على المشتري وقال الثوري إن كانت حاملا أنفق عليها من جميع المال حتى تضع فإذا وضعت أنفق على الصبي من نصيبه هذه رواية الأشجعي عنه وروى عنه المعافى أن نفقتها من حصتها وقال الأوزاعي في المرأة يموت زوجها وهي حامل فلا نفقة لها وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال حتى تضع وقال الليث بن سعد في أم الولد إذا كانت حاملا منه فإنه ينفق عليها من المال فإن ولدت كان ذلك في حظ ولدها وإن لم تلد كان ذلك دينا يتبع به وقال الحسن بن صالح للمتوفى عنها زوجها النفقة من جميع المال وقال الشافعي في المتوفى عنها زوجها قولين أحدهما لها النفقة والسكنى والآخر لا نفقة لها ولا سكنى قال أبو بكر لا تخلو نفقة الحامل من أحد ثلاثة أوجه إما أن تكون واجبة على حسب وجوبها بديا حين كانت عدتها حولا في قوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلىالحول غير إخراج أو أن تكون واجبة على حسب وجوبها للمطلقة المبتوتة أو تجب للحامل

دون غيرها لأجل الحمل والوجه الأول باطل لأنها كانت واجبة على وجه الوصية والوصية للوارث منسوخة والوجه الثاني لا يصح أيضا من قبل أن النفقة لم تكن واجبة في حال الحياةوإنما تجب حالا فحالا على حسب مضي الأوقات وتسليم نفسها في بيت الزوج ولا يجوز إيجابها بعد الموت من وجهين أحدهما أن سبيلها أن يحكم بها الحاكم على الزوج ويثبتها في ذمته وتؤخذ من ماله وليس للزوج ذمة فتثبت فيها فلم يجز أخذها من ماله إذا لم تثبت عليه والثاني أن ذلك الميراث قد انتقل إلى الورثة بالموت إذا لم يكن هناك دين عند الموت فغير جائز إثباتها في مال الورثة ولا في مال الزوج فتؤخذ منه وإن كانت حاملا لم يخل إيجاب النفقة لها في مال الزوج من أحد وجهين إما أن يكون وجوبها متعلقا بكونها في العدة أو لأجل الحمل وقد بينا أن إيجابها لأجل العدة غير جائز ولا يجوز إيجابها لأجل الحمل لأن الحمل نفسه لا يستحق نفقة على الورثة إذ هو موسر مثلهم بميراثه ولو ولدته لم تجب نفقته على الورثة فكيف تجب له في حال الحمل فلم يبق وجه يستحق به النفقة والله أعلم
باب
التعريض بالخطبة في العدة قال الله تعالى ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم الآية وقد قيل في الخطبة أنها الذكر الذي يستدعي به إلى عقدة النكاح والخطبة بالضم الموعظة المتسقة على ضروب من التأليف وقد قيل أيضا إن الخطبة ماله أول وآخر كالرسالة والخطبة للحال نحو الجلسة والقعدة وقيل في التعريض أنه ما تضمن الكلام من الدلالة على شيء من غير ذكر له كقول القائل ما أنا بزان يعرض بغيره أنه زان ولذلك رأى عمر فيه الحد وجعله كالتصريح والكناية العدول عن صريح اسمه إلى ذكر يدل عليه كقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر يعني القرآن فالهاء كناية عنه وقال ابن عباس التعريض بالخطبة أن يقول لها إني أريد أن أتزوج امرأة من أمرها وأمرها يعرض لها بالقول وقال الحسن هو أن يقول لها إني بك لمعجب وإني فيك لراغب ولا تفوتينا نفسك وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس وهي في العدة لا تفوتينا نفسك ثم خطبها بعد انقضاء العدة على أسامة بن زيد وقال عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال هو أن يقول لها وهي في العدة إنك لكريمة وإني فيك لراغب وإن الله لسائق إليك خيرا أو نحو هذا من القول

وقال عطاء هو أن يقول إنك لجميلة وإني فيك لراغب وإن قضىالله شيئا كان فكان التعريض أن يتكلم بكلام يدل فحواه على رغبته فيها ولا يخطبها بصريح القول قال سعيد بن جبير في قوله تعالى إلا أن تقولوا قولا معروفا أن يقول إني فيك لراغب وإني لأرجو أن نجتمع وقوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم يعني أضمرتموه من التزويج بعد انقضاء عدتها فأباح التعريض بالخطبة وإضمار نكاحها من غير إفصاح به وذكر إسماعيل بن إسحاق عن بعض الناس أنه احتج في نفي الحد في التعريض بالقذف بأن الله تعالى لم يجعل التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض بالقذف كالتصريح قال إسماعيل فاحتج بما هو حجة عليه إذ التعريض بالنكاح قد فهم به مراد القائل فإذا فهم به مراده وهو القذف حكم عليه بحكم القاذف قال وإنما يزيل الحد عن المعرض بالقذف من يزيله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف إذ كان محتملا لغيره قال وينبغي على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف جائز مباح كما أبيح التعريض بالخطبة بالنكاح قال وإنما اختير التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جوابا منها ولا يقتضي التعريض جوابا في الأغلب فلذلك افترقا قال أبو بكر الكلام الأول الذي حكاه عن خصمه في الدلالة على نفي الحد بالتعريض صحيح ونقضه ظاهر الاختلال واضح الفساد ووجه الإستدلال به على نفي الحد بالتعريض أنه لما حظر عليه المخاطبة بعقد النكاح صريحا وأبيح له التعريض به اختلف حكم التعريض والتصريح في ذلك على أن التعريض بالقذف مخالف لحكم التصريح وغير جائز التسوية بينهما كما خالف الله بين حكمهما في خطبة النكاح وذلك لأنه معلوم أن الحدود مما يسقط بالشبهة فهي في حكم السقوط والنفي آكد من النكاح فإذا لم يكن التعريض في النكاح كالتصريح وهو آكد في باب الثبوت من الحد كان الحد أولى أن لا يثبت بالتعريض من حيث دل على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بالتعريض لم يقع بينهما عقد النكاح فكان تعريضه بالعقد مخالفا للتصريح فالحد أولى أن لا يثبت بالتعريض وكذلك لم يختلفوا أن الإقرار في العقود كلها لا يثبت بالتعريض ويثبت بالتصريح لأن الله فرق بينهما في النكاح فكان الحد أولى أن لا يثبت به وهذه الدلالة واضحة على الفرق بينهما في سائر ما يتعلق حكمه بالقول وهي كافية مغنية في جهة الدلالة على ما وصفنا وإن أرادنا رده إليه من جهة القياس

لعلة تجمعهما كان سائغا وذلك أن النكاح حكمه متعلق بالقول كالقذف فلما اختلف حكم التصريح والتعريض بالخطبة بهذا المعنى ثبت حكمه بالتعريض وإن كان حكمه ثابتا بالإفصاح والتصريح كما حكم الله به في النكاح وأما قوله إن التعريض بالقذف ينبغي أن يكون بمنزلة التصريح لأنه قد عرف مراده كما عرف بالتصريح فإني أظنه نسي عند هذا القول حكم الله تعالى في الفصل بين التعريض والتصريح بالخطبة إذ كان المراد مفهوما مع الفرق بينهما لأنه إن كان الحكم متعلقا بمفهوم المراد فلذلك بعينه موجود في الخطبة فينبغي أن يستوي حكمهما فيها فإذا كان نص التنزيل قد فرق بينهما فقد انتقض هذا الإلزام وصح الإستدلال به على ما وصفنا وأما قوله إن من أزال الحد عن المعرض بالقذف فإنما أزاله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف لاحتمال كلامه لغيره فإنها وكالة لم تثبت عن الخصم وقضاء على غائب بغير بينة وذلك لأن أحدا لا يقول بأن حد القذف متعلق بإرادته وإنما يتعلق عند خصومه بالإفصاح به دون غيره فالذي يحيل به خصمه من أنه أزال الحد لأنه لم يعلم مراده لا يقبلونه ولا يعتمدونه وأما إلزامه خصمه أن يبيح التعريض بالقذف كما يبيح التعريض بالنكاح فإنه كلام رجل غير مثبت فيما يقوله ولا ناظر في عاقبة ما يؤل إليه حكم إلزامه له فنقول إن خصمه الذي احتج به لم يجعل ما ذكره علة للإباحة حتى يلزم عليه إباحة التعريض بالقذف وإنما استدل بالآية على إيجاب الفرق بين التعريض والتصريح فأما الحظر موقوفان على دلالتهما من غير هذا الوجه وأما قوله إنما حيز التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جوابا منها ولا يقتضي التعريض جوابا في الأغلب فإنه كلام فارغ لا معنى تحته وهو مع ذلك منتقض وذلك التعريض بالنكاح والتصريح به لا يقتضي واحد منهما جوابا لأن النهي إنما انصرف إلى خطبتها لوقت مستقبل بعد انقضاء العدة بقوله تعالى ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا وذلك لا يقتضي الجواب كما لا يقتضي التعريض ولم يجز الخطاب عن النهي عن العقد المقتضي للجواب حتى يفرق بينهما بما ذكر فقد بان بذلك أنه لا فرق بين التعريض والتصريح في نفي اقتضاء الجواب وهذا الموضع هو الذي فرقت الآية فيه بين الأمرين فأما العقد المقتضي للجواب فإنما هو منهي عنه بقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وإن كان نهيه عن العقد نفسه فقد

اقتضاه نهيه عن الإفصاح بالخطبة من جهة الدلالة كدلالة قوله تعالى ولا تقل لهما أف على حظر الشتم والضرب وأما وجه انتقاضه فإنه لا خلاف أن العقود المقتضية للجواب لا تصح بالتعريض وكذلك الإقرارات لا تصح بالتعريض وإن لم تقتض جوابا من المقر له فلم يختلف حكم ما يقتضي من ذلك جوابا ومالا يقتضيه فعلمت أن اختلافهما من هذا الوجه لا يوجب الفرق بينهما وأما قوله تعالى ولكن لا تواعدوهن سرا فإنه مختلف في المراد به فقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد مواعدة السر أن يأخذ عليها عهدا أو ميثاقا أن تحبس نفسها عليه ولا تنكح زوجا غيره وقال الحسن وإبراهيم وأبو مجلز ومحمد وجابر بن زيد لا تواعدوهن سرا الزنا وقال زيد بن أسلم لا تواعدهن سرا لا تنكح المرأة في عدتها ثم تقول سأسره ولا يعلم به أو يدخل عليها فيقول لا يعلم بدخولي حتى تنقضي العدة قال أبو بكر اللفظ محتمل لهذه المعاني كلها لأن الزنا قد يسمى سرا قال الحطيئة ... ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع ... وأراد بالسر الزنا وصفهم بالعفة عن نساء جيرانهم وقال رؤبة يصف حمار الوحش وأتانه لما كف عنها حين حملت ... قد أحضنت مثل دعاميص الرنق ... أجنة في مستكنات الحلق ... فعف عن أسرارها بعد العسق ... يعني بعد اللزوق يقال عسق به إذا لزق به وأراد بالسر ههنا الغشيان وعقدالنكاح نفسه يسمى سرا كما يسمى به الوطء ألا ترى أن الوطء والعقد كل واحد منهما يسمى نكاحا ولذلك ساغ تأويل الآية على الوطء وعلى العقد وعلى التصريح بالخطبة لما بعد انقضاء العدة وأظهر الوجوه وأولاها بمراد الآية مع احتمالها لسائر ما ذكرنا ما روي عن ابن عباس ومن تابعه وهو التصريح بالخطبة وأخذ العهد عليها أن تحبس نفسه عليه ليتزوجها بعد انقضاء العدة لأن التعريض المباح إنما هو في عقد يكون بعد انقضاء العدة وكذلك التصريح واجب أن يكون حظره من هذا الوجه بعينه ومن جهة أخرى أن ذلك معنى لم نستفده إلا بالآية فهو لا محالة مراد بها وأما حظر إيقاع العقد في العدة فمذكور باسمه في نسق التلاوة بقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله فإذا كان ذلك

=====================================================

ج6. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص


مذكورا في نسق الخطاب بصريح اللفظ دون التعريض وبالإفصاح دون الكناية فإنه يبعد أن يكون مراده بالكناية المذكورة بقوله سرا هو والذي قد أفصح به في المخاطبة وكذلك تأويل من تأوله على الزنا فيه بعد لأن المواعدة بالزنا محظورة في العدة وغيرها إذ كان تحريم الله الزنا تحريما مبهما مطلقا غير مقيد بشرط ولا مخصوص بوقت فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة تخصيصه حظر المواعدة بالزنا بكونها في العدة وليس يمتنع أن يكون الجميع مرادا لاحتمال اللفظ له بعد أن لا يخرج منه تأويل ابن عباس الذي ذكرناه وقوله تعالى علم الله أنكم ستذكرونهن يعني إن الله علم أنكم ستذكرونهن بالتزويج لرغبتكم فيهن ولخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم وأباح لهم التوصل إلى المراد من ذلك بالتعريض دون الإفصاح وهذا يدل على ما اعتبره أصحابنا في جواز التوصل إلى استباحة الأشياء من الوجوه المباحة وإن كانت محظورة من وجوه أخر ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
حين أتاه بلال بتمر جيد فقال أكل تمر خيبر هكذا فقال لا إنما نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا تفعلوا ولكن بيعوا تمركم بعرض ثم اشتروا به هذا التمر فأرشدهم إلى التوصل إلى أخذ التمر الجيد ولهذا الباب موضع غير هذا سنذكره إن شاء الله وقوله تعالى علم الله أنكم ستذكرونهن كقوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم وأباح لهم الأكل والجماع في ليالي رمضان علمنا أنه لو لم يبح لهم لكان فيهم من يواقع المحظور عنه فخفف عنهم رحمة منه بهم وكذلك قوله تعالى علم الله أنكم ستذكرونهن هو على هذا المعنى قوله عز و جل ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله قيل فيه أن أصل العقدة في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل وعقدت العقد تشبيها له بعقد الحبل في التوثق وقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح معناه ولا تعقدوه ولا تعزموا عليه أن تعقدوه في العدة وليس المعنى أن لا تعزموا بالضمير على إيقاع العقد بعد انقضاء العدة لأنه قد أباح إضمار عقد بعد انقضاء العدة بقوله ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم والإكنان في النفس هو الإضمار فيها فعلمنا أن المراد بقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح إنما تضمن النهي عن إيقاع العقد في العدة وعن العزيمة عليه فيها وقوله تعالى حتى يبلغ الكتاب أجله يعني به انقضاء العدة وذلك في مفهوم الخطاب غير محتاج إلى بيان ألا ترى أن فريعة بنت مالك حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم -
أجابها

بأن قال لا حتى يبلغ الكتاب أجله فعقلت من مفهوم خطابه انقضاء العدة ولم يحتج إلى بيان من غيره ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحا وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد وقد اختلف السلف ومن بعدهم في حكم من تزوج امرأة في عدتها من غيره فروى ابن المبارك قال حدثنا أشعث عن الشعبي عن مسروق قال بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال لا ينكحها أبدا وجعل الصداق في بيت المال وفشا ذلك بين الناس فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال رحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال إنهما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة قيل فما تقول أنت فيها قال لها الصداق بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما وتكمل عدتها من الأول ثم تكمل العدة من الآخر ثم يكون خاطبا فبلغ ذلك عمر فقال يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة وروى ابن أبي زائدة عن أشعث مثله وقال فيه فرجع عمر إلى قول علي قال أبو بكر قد اتفق علي وعمر على قول واحد لما روي أن عمر رجع إلى قول علي واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر يفرق بينهما ولها مهر مثلها فإذا انقضت عدتها من الأول تزوجها الآخر إن شاء وهو قول الثوري والشافعي وقال مالك والأوزاعي والليث بن سعد لا تحل له أبدا قال مالك والليث ولا بملك اليمين قال أبو بكر لا خلاف بين من ذكرنا قوله من الفقهاء أن رجلا لو زنى بامرأة جاز له أن يتزوجها والزنا أعظم من النكاح في العدة فإذا كان الزنا لا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالوطء بشبهة أحرى أن لا يرحمها عليه وكذلك من تزوج أمة على حرة أو جمع بين أختين ودخل بهما لم تحرم عليه تحريما مؤبدا فكذلك الوطء عن عقد كان في العدة لا يخلو من أن يكون وطأ بشبهة أو زنا وأيهما كان فالتحريم غير واقع به فإن قيل قد يوجب الزنا والوطء بالشبهة تحريما مؤبدا عندكم كالذي يطأ أم امرأته أو ابنتها فتحرم عليه تحريما مؤبدا قيل له ليس هذا مما نحن فيه بسبيل لأن كلامنا إنما هو في وطء يوجب تحريم الموطوءة نفسها فأما وطء يوجب تحريم غيرها فإن ذلك حكم كل وطء عندنا زنا كان أو وطء بشبهة أو مباحا وأنت لم تجد في الأصول وطأ يوجب تحريم الموطوءة فكان قولك خارجا عن الأصول وعن أقاويل السلف أيضا لأن عمر قد رجع إلى قول علي في هذه المسألة وأما ما روي عن عمر أنه جعل المهر في بيت المال

فإنه ذهب إلى أنه مهر حصل لها من وجه محظور فسبيله أن يتصدق به فلذلك جعله في بيت المال ثم رجع فيه إلى قول علي رضي الله عنه ومذهب عمر في جعل مهرها لبيت المال إذ قد حصل لها ذلك من وجه محظور يشبه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الشاة المأخوذة بغير إذن مالكها قدمت إليه مشوية فلم يكد يسيغها حين أراد الأكل منها فقال إن هذه تخبرني أنها أخذت بغير حق فأخبروه بذلك فقال أطعموها الأسارى ووجه ذلك عندنا إنما صارت لهم بضمان القيمة فأمرهم بالصدقة بها لأنها حصلت لهم من وجه محظور ولم يكونوا قد أدوا القيمة إلى أصحابها وقد روي عن سليمان بن يسار أن مهرها لبيت المال وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري الصداق لها على ما روي عن علي وفي اتفاق عمر وعلي على أن لا حد عليهما دلالة على أن النكاح في العدة لا يوجب الحد مع العلم بالتحريم لأن المرأة كانت عالمة بكونها في العدة ولذلك جلدها عمر وجعل مهرها في بيت المال وما خالفهما في ذلك أحد من الصحابة فصار ذلك أصلا في أن كل وطء عن عقد فاسد أنه لا يوجب الحد سواء كانا عالمين بالتحري أو غير عالمين به وهذا يشهد لأبي حنيفة فيمن وطئ ذات محرم منه بنكاح أنه لا حد عليه وقد اختلف الفقهاء في العدة إذا وجبت من رجلين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك في رواية ابن القاسم عنه والثوري والأوزاعي إذا وجبت عليها العدة من رجلين فإن عدة واحدة تكون لهما جميعا سواء كانت العدة بالحمل أو بالحيض أو بالشهور وهو قول إبراهيم النخعي وقال الحسن بن صالح والليث والشافعي تعتد لكل واحد عدة مستقبلة والذي يدل على صحة القول الأول قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء يقتضي كون عدتها ثلاثة قروء إذا طلقها زوجها ووطئها رجل بشبهة لأنها مطلقة قد وجبت عليها عدة ولو أوجبنا عليها أكثر من ثلاثة قروء كنا زائدين في الآية ما ليس فيها إذ لم تفرق بين من وطئت بشبهة من المطلقات وبين غيرها ويدل عليه أيضا قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ولم يفرق بين مطلقة قد وطئها أجنبي بشبهة وبين من لم توطأ فاقتضى ذلك أن تكون عدتها ثلاثة أشهر في الوجهين جميعا ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ولم يفرق بين من عليها عدة من رجل أو رجلين ويدل عليه أيضا قوله تعالى يسئلونك عن الأهلة قل هي

مواقيت للناس والحج لأن العدة إنما هي بمضي الأوقات والأهلة والشهور وقد جعلها الله وقتا لجميع الناس فوجب أن تكون الشهور والأهلة وقتا لكل واحد منهما لعموم الآية ويدل عليه اتفاق الجميع على أن الأول لا يجوز له عقد النكاح عليها قبل انقضاء عدتها منه فعلمنا أنها في عدة من الثاني لأن العدة منه لا تمنع من تزويجها فإن قيل منع من ذلك لأن العدة منه نتلوها عدة من غيرها قيل له فقد يجوز أن يتزوجها ثم يموت هو قبل بلوغها مواضع الاعتداد من الثاني فلا تلزمها عدة من الثاني فلو لم تكن في هذه الحال معتدة منه لما منع العقد عليها لأن عدة تجب في المستقبل لا ترفع عقدا ماضيا ويدل عليه أن الحيض إنما هو استبراء للرحم من الحبل فإذا طلقها الأول ووطئها الثاني بشبهة قبل أن تحيض ثم حاضت ثلاث حيض فقد حصل الإستبراء ويستحيل أن يكون استبراء من حمل الأول غير استبراء من حمل الثاني فوجب أن تنقضي به العدة منهما جميعا ويدل عليه أن من طلق امرأته وأبانها ثم وطئها في العدة بشبهة أن عليها عدتين عدة من الوطء وتعتد بما بقي من العدة الأولى من العدتين ولا فرق بين أن تكون العدة من رجلين أو رجل واحد فإن قيل إن هذا حق واجب لرجل واحد والأول واجب لرجلين قيل له لا فرق بين الرجل الواحد والرجلين لأن الحقين إذا وجبا لرجل واحد فواجب إيفاؤهما إياه جميعا كوجوبهما لرجلين في لزوم توفيتهما إياهما ألا ترى أنه لا فرق بين الرجلين والرجل الواحد في آجال الديون ومواقيت الحج والإجارات ومدد الإيلاء في أن مضي الوقت الواحد يصير كل واحد منهما مستوفيا لحقه فتكون ا لشهور التي لهذا هي بعينها للآخر وقد روى أبو الزناد عن سليمان بن يسار عن عمر في التي تزوجت في العدة أنه أمرها أن تعتد منهما وظاهر ذلك يقتضي أن تكون عدة واحدة منهما فإن قيل روى الزهري عن سليمان بن يسار عن عمر أنه قال تعتد بقية عدتها من الأول ثم تعتد من الآخر قيل له ليس فيه أنها تعتد من الآخر عدة مستقبلة فوجب أن يحمل معناه على بقية العدة ليوافق أبي الزناد والله أعلم
باب
متعة المطلقة قال الله عز و جل لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن تقديره مالم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ألا ترى أنه عطف

عليه قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم فلو كان الأول بمعنى مالم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لما عطف عليها المفروض لها فدل ذلك على أن معناه مالم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة وقد تكون أو بمعنى الواو قال الله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا معناه ولا كفورا وقال تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط والمعنى وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى ومسافرون وقال تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون معناه ويزيدون فهذا موجود في اللغة وهي النفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو منه ما قدمنا من قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا معناه ولا كفورا لدخولها على النفي وقال تعالى حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم أو في هذه المواضع بمعنى الواو فوجب على هذا أن يكون قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة لما دخلت على النفي أن تكون بمعنى الواو فيكون شرط وجوب المتعة المعنيين جميعا من عدم المسيس والتسمية جميعا بعد الطلاق وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض وأنها ليست كالمدخول بها لإطلاقه إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب المتعة فروي عن علي أنه قال لكل مطلقة متعة وعن الزهري مثله وقال ابن عمر لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس فحسبها نصف ما فرض لها وروي عن القاسم بن محمد مثله وقال شريح وإبراهيم والحسن تخير التي تطلق قبل الدخول ولم يفرض على المتعة وقال شريح وقد سألوه في متاع فقال لا نأبى أن نكون من المتقين فقال إني محتاج فقال لا نأبى أن نكون من المحسنين وقد روي عن الحسن وأبي العالية لكل مطلقة متاع وسئل سعيد بن جبير عن المتعة على الناس كلهم فقال لا على المتقين وروى ابن أبي الزناد عن أبيه في كتاب البغية وكانوا لا يرون المتاع للمطلقة واجبا ولكأنها تخصيص من الله وفضل وروى عطاء عن ابن عباس قال إذا فرض الرجل وطلق قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع وقال محمد بن علي المتعة التي لم يفرض لها والتي قد فرض لها ليس لها متعة وذكر محمد بن إسحاق عن نافع قال كان ابن عمر لا يرى للمطلقة متعة واجبة إلا للتي أنكحت بالعوض ثم يطلقها قبل أن

يدخل بها وروى معمر عن الزهري قال متعتان إحداهما يقضي بها السلطان والأخرى حق على المتقين من طلق قبل أن يفرض ولم يدخل أخذ المتعة لأنه لا صداق عليه ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض فالمتعة حق عليه وعن مجاهد نحو ذلك فهذا قول السلف فيها وأما فقهاء الأمصار فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وزفر قالوا المتعة واجبة للتي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا وإن دخل بها فإنه يمتعها ولا يجبر عليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعي إلا أن الأوزاعي زعم أن أحد الزوجين إذا كان مملوكا لم تجب المتعة وإن طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا وقال بن أبي ليلى وأبو الزناد المتعة ليست واجبة إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا يجبر عليها ولم يفرقا بين المدخول بها وبين غير المدخول بها وبين من سمي لها وبين من لم يسم لها وقال مالك والليث لا يجبر أحد على المتعة سمي لها أو لم يسم لها دخل بها أو لم يدخل وإنما هي مما ينبغي أن يفعله ولا يجبر عليها قال مالك وليس للملاعنة متعة على حال من الحالات وقال الشافعي المتعة واجبة لكل مطلقة ولكل زوجة إذا كان الفراق من قبله أو يتم به إلا التي سمي لها وطلق قبل الدخول قال أبو بكر نبدأ بالكلام في إيجاب المتعة ثم نعقبه بالكلام على من أوجبها لكل مطلقة والدليل على وجوبها قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين وقال تعالى في آية أخرى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا وقال في آية أخرى وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين فقد حوت هذه الآيات الدلالة على وجوب المتعة من وجوه أحدها قوله تعالى فمتعوهن لأنه أمر والأمر يقتضي الوجوب حتى تقوم الدلالة على الندب والثاني قوله تعالى متاعا بالمعروف حقا على المحسنين تأكيد لإيجابه إذ جعلها من شرط الإحسان وعلى كل أحد أن يكون من المحسنين وكذلك قوله تعالى حقا على المتقين قد دل قوله حقا عليه على الوجوب وقوله تعالى حقا على المتقين تأكيدا لإيجابها وكذلك قوله تعالى فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا قد دل على الوجوب من حيث هو أمر وقوله تعالى وللمطلقات متاع

بالمعروف يقتضي الوجوب أيضا لأنه جعلها لهم وما كان للإنسان فهو ملكه له المطالبة به كقولك هذه الدار لزيد فإن قيل لما خص المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب المتعة عليهم دل على أنها غير واجبة وأنها ندب لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون والمحسنون وغيرهم قيل له إنما ذكر المتقين والمحسنين تأكيدا لوجوبها وليس تخصيصهم بالذكر نفيا على غيرهم كما قال تعالى هدى للمتقين وهو هدى للناس كافة وقوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس فلم يكن قوله تعالى هدى للمتقين موجبا لأن لا يكون هدى لغيرهم كذلك قوله تعالى حقا على المتقين وحقا على المحسنين غير ناف أن يكون حقا على غيرهم وأيضا فإنا نوجبها على المتقين والمحسنين بالآية ونوجبها على غيرهم بقوله تعالى فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا وذلك عام في الجميع بالإتفاق لأن كل من أوجبها من فقهاء الأمصار على المحسنين والمتقين أوجبها على غيرهم ويلزم هذا السائل أن لا يجعلها ندبا ايضا لأن ما كان ندبا لا يختلف فيه المتقون وغيرهم فإذا جاز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في المندوب إليه من المتعة وهم وغيرهم فيه سواء فكذلك جائز تخصيص المحسنين والمتقين بالذكر في الإيجاب ويكونون هم وغيرهم فيه سواء فإن قيل لما لم يخصص المتقين والمحسنين في سائر الديون من الصداق وسائر عقود المداينات عند إيجابهم عليهم وخصهم بذلك عند ذكر المتعة دل على أنها ليست بواجبة قيل له إذا كان لفظ الإيجاب موجودا في الجميع فالواجب علينا الحكم بمقتضى اللفظ ثم تخصيصه بعض من أوجب عليه الحق بذكر التقوى والإحسان إنما هو على وجه التأكيد ووجوه التأكيد مختلفة فمنها ما يكون ذكر بتقييد التقوى والإحسان ومنها ما يكون بتخصيص لفظ الأداء نحو قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وقوله تعالى فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ومنها ما يكون بالأمر بالإشهاد عليه والرهن به فكيف يستدل بلفظ التأكيد على نفي الإيجاب وأيضا فإنا وجدنا عقد النكاح لا يخلو من إيجاب البدل إن كان مسمى فالمسمى وإن لم يكن فيه تسمية فمهر المثل ثم كانت حاله إذا كان فيه تسمية أن البضع لا يخلو من استحقاق البدل له مع ورود الطلاق قبل الدخول وفارق النكاح بهذا المعنى سائر العقود لأن عود المبيع إلى ملك البائع يوجب سقوط الثمن كله وسقوط حق الزوج عن بضعها بالطلاق قبل الدخول لا يخرجه من استحقاق بدل ما هو نصف المسمى فوجب

أن يكون ذلك حكمه إذا لم تكن فيه تسمية والمعنى الجامع بينها ورود الطلاق قبل الدخول وأيضا فإن مهر المثل مستحق بالعقد والمتعة هي بعض مهر المثل فتجب كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول فإن قيل مهر المثل دراهم ودنانير والمتعة إنما هي أثواب قيل له المتعة أيضا عندنا دراهم ودنانير لو أعطاها لم يجبر على غيرها وهذا الذي ذكرناه من أنها بعض مهر المثل يسوغ على مذهب محمد لأنه يقول إذا رهنها بمهر المثل رهنا ثم طلقها قبل الدخول كان رهنا بالمتعة محبوسا بها إن هلك هلك بها وأبو يوسف فإنه لا يجعله رهنا بالمتعة فإن هلك هلك بغير شيء والمتعة واجبة باقية عليه فهذا يدل على أنه لم يرها بعض مهر المثل ولكنه أوجبها بمقتضى ظاهر ا لقرآن وبالإستدلال وبالأصول على أن البضع لا يخلو من بدل مع ورود الطلاق قبل الدخول وأنه لا فرق بين وجود التسمية في العقد وبين عدمها إذ غير جائز حصول ملك البضع له بغير بدل فوجوب مهر المثل بالعقد عند عدم التسمية كوجوب المسمى فيه فوجب أن يستوي فيه حكمهما في وجوب بدل البضع عند ورود الطلاق قبل الدخول وأن تكون المتعة قائمة مقام بعض مهر المثل وإن لم تكن بعضه كما تقوم القيم مقام المستهلكات وقد قال إبراهيم في المطلقة قبل الدخول وقد سمي لها أن لها نصف الصداق هو متعتها فكانت المتعة اسما لما يستحق بعد الطلاق قبل الدخول ويكون بدلا من البضع فإن قيل إذا قامت مقام بعض مهر المثل فهو عوض من المهر والمهر لا يجب له عوض قبل الطلاق فكذلك بعده قيل له لم نقل إنه لم بدل منه وإن قام مقامه كما لا نقول أن قيم المستهلكات أبدال لها بل كأنها هي حين قامت مقامها ألا ترى أن المشتري لا يجوز له أخذ بدل المبيع قبل القبض ببيع ولا غيره ولو كان استهلكه مستهلك كان له أخذ القيمة منه لأنها تقوم مقامه كأنها هو لا على معنى العوض فكذلك المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع كما يجب نصف المسمى بدلا من البضع مع الطلاق فإن قيل لو كانت المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع لوجب اعتبارها بالمرأة كما يعتبر مهر المثل بحالها دون حال الزوج فلما أوجب الله تعالى اعتبار المتعة بحال الرجل في قوله تعالى ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره دل على أنها ليست بدلا من البضع وإذا لم تكن بدلا من البضع لم يجز أن تكن بدلا من الطلاق لأن البضع يحصل لها بالطلاق فلا يجوز أن تستحق بدل ما يحصل لها وهذا يدل على أنها

ليست بدلا عن شيء وإذا كان كذلك علمنا أنها ليست بواجبة قيل له أما قولك في اعتبار حاله دون حالها فليس كذلك عندنا وأصحابنا المتأخرون مختلفون فيه فكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يقول يعتبر فيها حال المرأة أيضا وليس فيه خلاف الآية لأنا نستعمل حكم الآية مع ذلك في اعتبار حال الزوج ومنهم من يقول يعتبر حاله دون حالها ومن قال بهذا يلزمه سؤال هذا السائل أيضا لأنه يقول إن مهر المثل إنما وجب اعتباره بها في الحال التي يحصل البضع للزوج إما بالدخول وإما بالموت القائم مقام الدخول في استحقاق كمال المهر فكان بمنزلة قيم المتلفات في اعتبارها بأنفسها وأما المتعة فإنها لا تجب عندنا إلا في حال سقوط حقه من بضعها لسبب من قبله قبل الدخول أو ما يقوم مقامه فلم يجب اعتبار حال المرأة إذ البضع غير حاصل للزوج بل حصل لها بسبب من قبله من غير ثبوت حكم الدخول فلذلك اعتبر حاله دونها وأيضا لو سلمنا لك أنها ليست بدلا عن شيء لم يمنع ذلك وجوبها لأن النفقة ليست بدلا عن شيء بدلالة أن بدل البضع هو المهر وقد ملكه بعقد النكاح والدخول والاستمتاع إنما هو تصرف في ملكه وتصرف ا لإنسان في ملكه لا يوجب عليه بدلا ولم يمنع ذلك وجوبها ولذلك تلزمه نفقة أبيه وابنه الصغير بنص الكتاب والإنفاق ليس بدلا عن شيء ولم يمنع ذلك وجوبها والزكوات والكفارات ليست بدلا عن شيء وهن واجبات فالمستدل بكونها غير بدل عن شيء على نفي إيجابها مغفل وأيضا فاعتبارها بالرجل وبالمرأة إنما هو كلام في تقديرها والكلام في التقدير ليس يتعلق بالإيجاب ولا بنفيه وأيضا لو لم تكن واجبة لم تكن مقدرة بحال الرجل فلم اقال تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره دل على ا لوجوب إذ ما ليس بواجب غير معتبر بحال الرجل إذ له أن يفعل ما شاء منه في حال اليسار والإعسار فلما قدرها بحال الرجل ولم يطلقها فيخير الرجل فيها دل على وجوبها وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة وقال هذا القائل أيضا لما قال تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره اقتضى ذلك أن لا تلزم المقتر الذي لا يملك شيئا وإذا لم تلزمه لم تلزم الموسر ومن ألزمها المقتر فقد خرج من ظاهر الكتاب لأن من لا مال له لم تقتض الآية إيجابها عليه إذ لا مال له فيعتبر قدره فغير جائز أن نجعلها دينا عليه وأن لا يكون مخاطبا بها قال أبو بكر هذا الذي ذكره هذا القائل إغفال منه لمعنى الآية لأن الله تعالى لم يقل على الموسع على قد ماله

وعلى المقتر على قدر ماله وإنما قال تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وللمقتر قدر يعتبر به وهو ثبوته في ذمته حتى يجد فيسلمه كما قال الله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف فأوجبها عليه بالمعروف ولو كان معسرا لا يقدر على شيء لم يخرج عن حكم الآية لأن له ذمة تثبت فيها النفقة بالمعروف حتى إذا وجدها أعطاها كذلك المقتر في حكم المتعة وكسائر الحقوق التي تثبت في الذمة وتكون الذمة كالأعيان ألا ترى أن شراء المعسر بمال في ذمته جائز وقامت الذمة مقام العين في باب ثبوت البدل فيها فكذلك ذمة الزوج المقتر ذمة صحيحة يصح إثبات المتعة فيها كما تثبت فيها النفقات وسائر الديون قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على جواز النكاح بغير تسمية مهر لأن الله تعالى حكم بصحة الطلاق فيه مع عدم التسمية والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح وقد تضمنت الدلالة على أن شرطه أن لا صداق لها لا يفسد النكاح لأنها لما لم يفرق بين من سكت عن التسمية وبين من شرط أن لا صداق فهي على ا لأمرين جميعا وزعم مالك أنه إذا شرط أن لا مهر لها فالنكاح فاسد فإن دخل بها صح النكاح ولها مهر مثلها وقد قضت الآية بجواز النكاح وشرطه أن لا مهر لها ليس بأكثر من ترك التسمية فإذا كان عدم التسمية لا يقدح في العقد فكذلك شرطه أن لا مهر لها وإنما قال أصحابنا أنها غير واجبة للمدخول بها لأنا قد بينا أن المتعة بدل من البضع وغير جائز أن تستحق بدلين فلما كانت مستحقة بعد الدخول المسمى أو مهر المثل لم يجز أن تستحق معه المتعة ولا خلاف أيضا بين فقهاء الأمصار أن المطلقة قبل الدخول لا تستحقها على وجه الوجوب إذا وجب لها نصف المهر فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنها لم تستحقه مع وجوب بعض المهر فأن لا تستحقه مع وجوب جميعه أولى والثاني أن المعنى فيه أنها قد استحقت شيئا من المهر وذلك موجود في المدخول بها فإن قيل لما وجبت المتعة حين لم يجب شيء من المهر وجب أن يكون وجوبها عند استحقاق المهر أولى قيل فينبغي أن تستحقها إذا وجب نصف المهر لوجوبها عند عدم شيء منه وأيضا فإنما استحقها عند فقد شيء من المهر لعلة أن البضع لا يخلو من بدل قيل الطلاق وبعده فلما لم يجب المهر وجبت المتعة ولما استحقت بدلا آخر لم يجز أن تستحقها فإن قيل قال الله تعالى وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين وذلك عام في سائرهن إلا ما خصه الدليل قيل له هو كذلك إلا أن المتاع اسم لجميع ما ينتفع به قال الله تعالى

وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم وقال تعالى متاع قليل ثم مأواهم جهنم وقال تعالى إنما هذه الحياة الدنيا متاع وقال الأفوه الأودي ... إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار ... فالمتعة والمتاع اسم يقع على جميع ما ينتفع به ونحن فمتى أوجبنا للمطلقات شيئا مما ينفع به من مهر أو نفقة فقد قضينا عهدة الآية فمتعة التي لم يدخل بها نصف المهر المسمى والتي لم يسم لها على قدر حال الرجل والمرأة وللمدخول بها تارة المسمى وتارة المثل إذا لم يكن مسمى وذلك كله متعة وليس بواجب إذا أوجبنا لها ضربا من المتعة أن توجب لها سائر ضروبها لأن قوله تعالى وللمطلقات متاع إنما يقتضي أدنى ما يقع عليه الاسم فإن قيل قوله تعالى وللمطلقات متاع يقتضي إيجابه بالطلاق ولا يقع على ما استحقته قبله من المهر قيل له ليس كذلك لأنه جائز أن تقول وللمطلقات المهور التي كانت واجبة لهن قبل الطلاق فليس في ذكر وجوبه بعد الطلاق ما ينفي وجوبه قبله إذ لو كان كذلك لما جاز ذكر وجوبه في الحالين مع ذكر الطلاق فيكون فائدة وجوبه بعد الطلاق إعلامنا أن مع الطلاق يجب المتاع إذ كان جائزا أن يظن ظان أن الطلاق يسقط ما وجب فأبان عن إيجابه بعده كهو قبله وأيضا إن كان المراد متاعا وجب بالطلاق فهو على ثلاثة أنحاء إما نفقة العدة للمدخول بها أو المتعة أو نصف المسمى لغير المدخول بها وذلك متعلق بالطلاق لأن النفقة تسمى متاعا على ما بينا كما قال تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فسمى النفقة والسكنى الواجبتين لها متاعا ومما يدل على أن المتعة غير واجبة مع المهر اتفاق الجميع على أنه ليس لها المطالبة بها قبل الطلاق فلو كانت المتعة تجب مع المهر بعد الطلاق لوجبت قبل الطلاق إذ كانت بدلا من البضع وليست بدلا من الطلاق فكان يكون حكمها حكم المهر وفي ذلك دليل على امتناع وجوب المتعة والمهر فإن قيل فأنتم توجبونها بعد الطلاق لمن لم يسم لها ولم يدخل بها ولا توجبونها قبله ولم يكن انتفاء وجوبها قبل الطلاق دليلا على انتفاء وجوبها بعده وكذلك قلنا في المدخول بها قيل له إن المتعة بعض مهر المثل إذ قام مقام بعضه وقد كانت المطالبة لها واجبة بالمهر قبل الطلاق فلذلك صحت ببعضه بعده وأنت فلست تجعل المتعة بعض المهر فلم يخل إيجابها من أن تكون بدلا من البضع أو من الطلاق فإن كانت بدلا من البضع مع

مهر المثل فواجب أن تستحقها قبل الطلاق وإن لم تكن بدلا من البضع استحال وجوبها عن الطلاق في حال حصول البضع لها والله تعالى أعلم
ذكر
تقدير المتعة الواجبة قال الله تعالى ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف وإثبات المقدار على اعتبار حاله في الإعسار واليسار طريقه الاجتهاد وغالب الظن ويختلف ذلك في الأزمان أيضا لأن الله تعالى شرط في مقدارها شيئين أحدهما اعتبارها بيسار الرجل وإعساره والثاني أن يكون بالمعروف مع ذلك فوجب اعتبار المعنيين في ذلك وإذا كان كذلك وكان المعروف منهما موقوفا على عادات الناس فيها والعادات قد تختلف وتتغير وجب بذلك مراعاة العادات في الأزمان وذلك أصل في جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث إذ كان ذلك حكما مؤديا إلى اجتهاد رأينا وقد ذكرنا أن شيخنا أبا الحسن رحمه الله يقول يجب مع ذلك اعتبار حال المرأة وذكر ذلك أيضا علي بن موسى القمي في كتابه واحتج بأن الله تعالى علق الحكم في تقدير المتعة بشيئين حال الرجل بيساره وإعساره وأن يكون مع ذلك بالمعروف قال فلو اعتبرنا حال الرجل وحده عاريا من اعتبار حال المرأة لوجب أن يكون لو تزوج امرأتين أحدهما شريفة والأخرى دنية مولاة ثم طلقهما قبل الدخول ولم يسم لهما أن تكونا متساويتين في المتعة فتجب لهذه الدنية كما تجب لهذه الشريفة وهذا منكر في عادات الناس وأخلاقهم غير معروف قال ويفسد من وجه آخر قول من اعتبر حال الرجل وحده دونها وهو أنه لو كان رجلا موسرا عظيم الشأن فيتزوج امرأة دنية مهر مثلها دينار أنه لو دخل بها وجب لها مهر مثلها إذ لم يسم لها شيئا دينار واحد ولو طلقها قبل الدخول لزمته المتعة على قدر حاله وقد يكون ذلك أضعاف مهر مثلها فتستحق قبل الدخول بعد الطلاق أكثر مما تستحقه بعد الدخول وهذا خلف من القول لأن الله تعالى قد أوجب للمطلقة قبل الدخول نصف ما أوجبه لها بعد الدخول فإذا كان القول باعتبار حال دونها يؤدي إلى مخالفة معنى الكتاب ودلالته وإلى خلاف المعروف في العادات سقط ووجب اعتبار حالها معه ويفسد أيضا من وجه آخر وهو أنه لو تزوج رجلان موسران أختين فدخل أحدهما بامرأته كان لها مهر مثلها ألف درهم إذ لم يسم لها مهرا وطلق الآخر امرأته قبل الدخول من غير تسمية أن تكون المتعة لها على قدر

حال الرجل وجائز أن يكون ذلك ضعاف مهر أختها فيكون ما تأخذه المدخول بها أقل مما تأخذه المطلقة وقيمة البضعين واحدة وهما متساويتان في المهر فيكون الدخول مدخلا عليها ضررا ونقصانا في البدن وهذا منكر غير معروف فهذه الوجوه كلها تدل على اعتبار حال المرأة معه وقال أصحابنا أنه إذا طلقها قبل الدخول ولم يسم لها وكانت متعتها أكثر من نصف مهر مثلها أنها لا تجاوز بها نصف مهر مثلها فيكون لها الأقل من نصف مهر مثلها ومن المتعة لأن الله تعالى لم يجعل المسمى لها أكثر من نصف التسمية مع الطلاق قبل الدخول فغير جائز أن يعطيها عند عدم التسمية أكثر من النصف مهر المثل ولما كان المسمى مع ذلك أكثر من مهر المثل فلم تستحق بعد الطلاق أكثر من النصف ففي مهر المثل أولى ولم يقدر أصحابنا لها مقدارا معلوما لا يتجاوز به ولا يقصر عنه وقالوا هي على قدر المعتاد المتعارف في كل وقت وقد ذكر عنهم ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار والإزار هو الذي تستتر به بين الناس عند الخروج وقد ذكر عن السلف في مقدارها أقاويل مختلفة على حسب ما غلب في رأي كل واحد منهم فروى إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس قال أعلى المتعة الخادم ثم دون ذلك النفقة ثم دون ذلك الكسوة وروى أياس بن معاوية عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر أخبرني على قدري فأني موسر أكسو كذا أكسو كذا فحسبت ذلك فوجدته قيمته ثلاثين درهما وروى عمرو عن الحسن قال ليس في المتعة شيء بوقت على قدر الميسرة وكان حماد يقول يمتعها بنصف مهر مثلها وقال عطاء أوسع المتعة درع وخمار وملحفة وقال الشعبي كسوتها في بيتها درع وخمار وملحفة وجلبابة وروى يونس عن الحسن قال كان منهم من يمتع بالخادم والنفقة ومنهم من يمتع بالكسوة والنفقة ومن كان دون ذلك فثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة ومن كان دون ذلك متع بثوب واحد وروى عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب قال أفضل المتعة خمارا وأوضعها ثوب وروى الحجاج عن أبي إسحاق أنه سأل عبدالله بن مغفل عنها فقال لها المتعة على قدر ماله وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد آرائهم ولم ينكر بعضهم على بعض ما صار إليه من مخالفته فيه فدل على أنها عندهم موضوعة على ما يؤديه إليه اجتهاده وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة في النصوص قوله عز و جل وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف

ما فرضتم قيل إن أصل الفرض الحز في القداح علامة لها تميز بينها والفرضة العلامة في قسم الماء على خشب أو جص أو حجارة يعرف بها كل ذي حق نصيبه من الشرب وقد سمي الشط الذي ترفأ فيه السفن فرضة لحصول الأثر فيه بالنزول إلى السفن والصعود منها ثم صار اسم الفرض في الشرع واقعا على المقدار وعلى ما كان في أعلى مراتب الإيجاب من الواجبات وقوله تعالى إن الذي فرض عليك القرآن معناه أنزل وأوجب عليك أحكامه وتبليغه وقوله تعالى عند ذكر المواريث فريضة من الله ينتظم الأمرين من معنى الإيجاب لمقادير الأنصباء التي بينها لذوي الميراث وقوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة المراد بالفرض ههنا تقدير المهر وتسميته في العقد ومنه فرائض الإبل وهي المقادير الواجبة فيها على اعتبار أعدادها وأسنانها فسمى التقدير فرضا تشبيها له بالحز الواقع في القداح التي تتميز به من غيرها وكذلك سبيل ما كان مقدارا من الأشياء فقد حصل التمييز به بينه وبين غيره والدليل على أن المراد بقوله تعالى وقد فرضتم لهن فريضة تسمية المقدار في العقد أنه قدم ذكر المطلقة التي لم يسم لها بقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ثم عقبه بذكر من فرض لها وطلقت بعد الدخول فلما كان الأول على نفي التسمية كان الثاني على إثباتها فأوجب الله لها نصف المفروض بنص التنزيل وقد اختلف فيمن سمي لها بعد العقد ثم طلقت قبل الدخول فقال أبو حنيفة لها مهر مثلها وهو قول محمد وكان أبو يوسف يقول لها نصف الفرض ثم رجع إلى قولهما وقال مالك والشافعي لها نصف الفرض والدليل على أن لها مهر مثلها أن موجب هذا العقد مهر المثل وقد اقتضى وجوب مهر المثل بالعقد وجوب المتعة بالطلاق قبل الدخول فلما تراضيا على تسمية لم ينتف موجب العقد من المتعة والدليل على ذلك أن هذا الفرض لم يكن مسمى في العقد كما لم يكن مهر المثل مسمى فيه وإن كان واجبا به فلما كان ورود الطلاق قبل الدخول مسقطا لمهر المثل بعد وجوبه إذ لم يكن مسمى في العقد وجب أن يكون كذلك حكم المفروض بعده إذ لم يكن مسمى فيه فإن قيل مهر المثل لم يوجبه العقد وإنما وجب بالدخول قيل له هذا غلط لأنه غير جائز استباحة البضع بغير بدل والدليل على ذلك أنه لو شرط في العقد أنه لا مهر لها لوجب لها المهر فلما كان المهر بدلا من استباحة البضع ولم يجز نفيه بالشرط وجب أن يكون

من حيث استباح البضع أن يلزمه المهر ويدل على ذلك أن الدخول بعد صحة العقد إنما هو تصرف فيما قد ملكه وتصرف الإنسان في ملكه لا يلزمه بدلا ألا ترى أن تصرف المشتري في السلعة لا يوجب عليه بدلا بالتصرف فدل ذلك على استحقاقهما لمهر المثل بالعقد ويدل على ذلك أيضا اتفاق الجميع على أن لها أن تمنع نفسها بمهر المثل ولو لم تكن قد استحقته بالعقد كيف كان يجوز لها أن تمنع نفسها بما لم يجب بعد ويدل على ذلك أيضا أن لها المطالبة به ولو خاصمته إلى القاضي لقضى به لها والقاضي لا يبتدئ إيجاب مهر لم تستحقه كما يبتدئ إيجاب سائر الديون إذا لم تكن مستحقة وذلك كله دليل على أن التي لم يفرض لها مهر قد استحقت مهر المثل بالعقد وملكته على الزوج حسب ملكها للمسمى لو كانت في العقد تسمية فإن قيل لو كان مهر المثل واجبا بالعقد لما سقط كله بالطلاق قبل الدخول كما لا يسقط جميع المسمى قيل له لم يسقط كله لأن المتعة بعضه على ما قدمنا وهي بإزاء نصف المسمى لمن طلقت قبل الدخول وزعم إسماعيل بن إسحاق أن المهر لا يجب بالعقد وإن استباح الزوج البضع قال لأن الزوج بإزاء الزوجة كالثمن بإزاء المبيع فإن كان كما قال فواجب أن لا يلزمه المهر بالدخول لأن الوطء كان مستحقا لها على الزوج كما استحق هو التسليم عليها إذ ما استباحه كل واحد منهما بإزاء ما استباحه الآخر فمن أين صار الزوج مخصوصا بإيجاب المهر إذا دخل بها وينبغي أن لا يكون لها أن تحبس نفسها بالمهر إذا لم تستحق ذلك بالعقد وواجب أيضا أن لا تصح تسمية المهر لأنه قد صح من جهته بما عقد عليه كما صح من جهتها فلا يلزمه المهر كما لا يلزمها له شيء وواجب على هذا أن لا يقوم البضع عليها بالدخول وبالوطء بالشبهة وأن لا يصح أخذ البدل منها لسقوط حقه عن بعضها وهذا كله مع ما عقلت الأمة من أن الزوج يجب عليه المهر بدلا من استباحة البضع يدل على سقوط قول هذا القائل وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث سهل بن سعد الساعدي حين قال للرجل الذي خطب إليه المرأة التي وهبت نفسها منه قد ملكتها بما معك من القرآن يدل على أن الزوج في معنى الملك لبضعها ومن الدليل على أن الفرض الواقع بعد العقد يسقطه الطلاق قبل الدخول أن الفرض إنما أقيم مقام مهر المثل لأنه غير جائز إيجابه مع مهر المثل ولما كان كذلك وجب أن يسقطه الطلاق قبل الدخول كما يسقط مهر المثل ومن جهة أخرى أن الفرض إنما ألحق بالعقد ولم يكن موجودا فيه فمن حيث بطل العقد بطل

ما ألحق به فإن قيل فالمسمى في العقد ثبوته كان بالعقد ولا يبطل ببطلانه قيل له قد كان أبو الحسن رحمه الله يقول إن المسمى قد بطل وإنما يجب نصف المهر حسب وجوب المتعة وكذلك قال إبراهيم النخعي هذا متعتها ومن الناس من يحتج بهذه الآية في أن المهر قد يكون أقل من عشرة دراهم لأن الله تعالى قال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم فإذا سمى درهمين في العقد وجب بقضية الآية أن لا تستحق بعد الطلاق أكثر من درهم وهذا لا يدل عندنا على ما قالوا وذلك لأن تسمية الدرهمين عندنا تسمية العشرة لأن العشرة لا تتبعض في العقد وتسمية لبعضها تسمية لجميعها كما أن الطلاق لما لم يتبعض كان إيقاعه لنصف تطليقة إيقاعا لجميعها والذي قد فرض أقل من عشرة قد فرض العشرة عندنا فيجب نصفها بعد الطلاق وأيضا فإن الذي اقتضته الاية وجوب نصف المفروض ونحن نوجب نصف المفروض ثم نوجب الزيادة إلى تمام خمسة دراهم بدلالة أخرى والله أعلم
ذكر
اختلاف أهل العلم في الطلاق بعد الخلوة قال أبو بكر تنازع أهل العلم في معنى قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم واختلفوا في المسيس المراد بالآية فروي عن علي وابن عمر وزيد بن ثابت إذا أغلق بابا وأرخى سترا ثم طلقها فلها جميع المهر وروى سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال لها الصداق كاملا وهو قول علي بن الحسين وإبراهيم في آخرين من التابعين وروى فراس عن الشعبي عن ابن مسعود قال لها نصف الصداق وإن قعد بين رجليها والشعبي عن ابن مسعود مرسل وروي عن شريح مثل قول ابن مسعود وروى سفيان الثوري عن عمر عن عطاء عن ابن عباس إذا فرض الرجل قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع فمن الناس من ظن أن قوله في هذا كقول عبدالله بن مسعود وليس كذلك لأن قوله فرض يعني أنه لم يسم لها مهرا وقوله قبل أن يمس يريد قبل الخلوة لأنه قد تأوله على الخلوة في حديث طاوس عنه فأوجب لها المتعة قبل الخلوة واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق وطئ أو لم يطأ وهي أن لا يكون أحدهما محرما أو مريضا أو لم تكن حائضا أو صائمة في رمضان أو رتقاء فإنه إن كان

كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها والعدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدة وقال سفيان الثوري لها المهر كاملا إذا خلا بها ولم يدخل بها إذا جاء ذلك من قبله وإن كانت رتقاء فلها نصف المهر وقال مالك إذا خلا بها وقبلها وكشفها إن كان ذلك قريبا فلا أرى لها إلا نصف المهر وإن تطاول ذلك فلها المهر إلا أن تضع له ما شاءت وقال الأوزاعي إذا تزوج امرأة فدخل بها عند أهلها قبلها ولمسها ثم طلقها ولم يجامعها أو أرخى عليها سترا أو أغلق بابا فقد تم الصداق وقال الحسن بن صالح إذا خلا بها فلها نصف المهر إذ لم يدخل بها وإن ادعت الدخول بعد الخلوة فالقول قولها بعد الخلوة وقال الليث إذا أرخى عليا سترا فقد وجب الصداق وقال الشافعي إذا خلا بها ولم يجامعها حتى طلق فلها نصف المهر ولا عدة عليها قال أبو بكر مما يحتج به في ذلك من طريق الكتاب قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فأوجب إيفاء الجميع فلا يجوز إسقاط شيء منه إلا بدليل ويدل عليه قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض فيه وجهان من الدلالة على ما ذكرنا أحدهما قوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا والثاني وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وقال الفراء الإفضاء الخلوة دخل بها أو لم يدخل هو حجة في اللغة وقد أخبر أن الإفضاء اسم للخلوة فمنع الله تعالى أن يأخذ منه شيئا بعد الخلوة وقد دل على أن المراد هو الخلوة الصحيحة التي لا تكون ممنوعا فيها من الإستمتاع لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض وهو الموضع الذي لا بناء فيه ولا حاجز يمنع من إدراك ما فيه فأفاد بذلك استحقاق المهر بالخلوة على وصف وهي التي لا حائل بينها ولا مانع من التسليم والاستمتاع إذ كان لفظ الإفضاء يقتضيه ويدل عليه أيضا قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف وقوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة يعني مهورهن وظاهره يقتضي وجوب الإيتاء في جميع الأحوال إلا ما قام دليله قال أبو بكر ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال أخبرنا معلى بن منصور قال حدثنا ابن لهيعة قال حدثنا أبو الأسود عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم

يدخل وهو عندنا اتفاق الصدر الأول لأن حديث فراس عن الشعبي عن عبدالله بن مسعود لا يثبته كثير من الناس من طريق فراس وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب الهر ووجبت العدة فأخبر أنه قضاء الخلفاء الراشدين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ ومن طريق النظر أن المعقود عليه من جهتها لا يخلو إما أن يكون الوطء أو التسليم فلما اتفق الجميع على جواز نكاح المجبوب مع عدم الوطء دل ذلك على أن صحة العقد غير متعلقة بالوطء إذ لو كان كذلك لوجب أن لا يصح العقد عند عدم الوطء ألا ترى أنه لما تعلقت صحته بصحة التسليم كان من لا يصح منها التسليم من ذوات المحارم لم يصح عليها العقد وإذا كانت صحة العقد متعلقة بصحة التسليم من جهتها فواجب أن تستحق كمال المهر بعد صحة التسليم بحصول ما تعلقت به صحة العقد له وأيضا فإن المستحق من قبلها هو التسليم ووقوع الوطء إنما هو من قبل الزوج فعجزه وامتناعه لا يمنع من صحة استحقاق المهر ولذلك قال عمر رضي الله عنه في المخلو بها لها المهر كاملا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم وأيضا لو استأجر دار أو خلى بينها وبينه استحق الأجر لوجود التسليم كذلك الخلوة في النكاح وإنما قالوا إنها إذا كانت محرمة أو حائضا أو مريضة إن ذلك لا تستحق به كمال المهر من قبل أن هناك تسليما آخر صحيحا تستحق به كمال المهر إذ ليس ذلك تسليما صحيحا ولما لم يوجد التسليم المستحق بعقد النكاح لم تستحق كمال المهر واحتج من أبى ذلك بظاهر قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم وقال تعالى في آية أخرى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فعلق استحقاق كمال المهر ووجوب العدة بوجود المسيس وهو الوطء إذ كان معلوما أنه لم يرد به وجود المس باليد والجواب عن ذلك أن قوله تعالى من قبل أن تمسوهن قد اختلف الصحابة فيه على ما وصفنا فتأوله علي وعمر وابن عباس وزيد وابن عمر على الخلوة فليس يخلو هؤلاء من أن يكونوا تأولوها من طريق اللغة أو من جهة أنه اسم له في الشرع إذ غير جائز تأويل اللفظ على ما ليس باسم له في الشرع ولا في اللغة فإن كان ذلك عندهم

اسما له من طريق اللغة فهم حجة فيها لأنهم أعلم باللغة ممن جاء بعدهم وإن كان من طريق الشرع فأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا وإذا صار ذلك اسما لها صار تقدير الآية وإن طلقتموهن من قبل الخلوة فنصف ما فرضتم وأيضا لما اتفقوا على أنه لم يرد به حقيقة المس باليد وتأوله بعضهم على الجماع وبعضهم على الخلوة ومتى كان اسما للجماع كان كناية عنه وجائز أن يكون حكمه كذلك وإذا أريد به الخلوة سقط اعتبار ظاهر اللفظ لاتفاق الجميع على أنه لم يرد حقيقة معناه وهو المس باليد ووجب طلب الدليل على الحكم من غيره وما ذكرناه من الدلالة يقتضي أن مراد الآية هو الخلوة دون الجماع فأقل أحواله أن لا يخص به ما ذكرنا من ظاهر الآي والسنة وأيضا لو اعتبرنا حقيقة اللفظ اقتضى ذلك أن يكون لو خلا بها ومسها بيده أن تستحق كمال المهر لوجود حقيقة المس وإذا لم يخل بها ومسها بيده خصصناه بالإجماع وأيضا لو كان المراد الجماع فليس يمتنع أن يقوم مقامه ما هو مثله وفي حكمه من صحة التسليم كما قال تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا وما قام مقامه من الفرقة فحكمه حكمه في إباحتها للزوج الأول وقد حكي عن الشافعي في المجبوب إذاجامع امرأته أن عليه كمال المهر إن طلق من غير وطء فعلمنا أن الحكم غير متعلق بوجود الوطء وإنما هو متعلق بصحة التسليم فإن قيل لو كان التسليم قائما مقام الوطء لوجب أن يحلها للزوج الأول كما يحلها الوطء قيل له هذا غلط لأن التسليم إنما هو علة لاستحقاق كمال المهر وليس بعلة لإحلالها للزوج الأول ألا ترى أن الزوج لو مات عنها قبل الدخول استحقت كمال المهر وكان الموت بمنزلة الدخول ولا يحلها ذلك للزوج الأول قوله تعالى إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح قوله تعالى إلا أن يعفون المراد به الزوجات لأنه لو أراد الأزواج لقال إلا أن يعفوا ولا خلاف في ذلك وقد روي أيضا عن ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف ويكون عفوها أن تترك بقية الصداق وهو النصف الذي جعله الله لها بعد الطلاق بقوله تعالى فنصف ما فرضتم فإن قيل قد يكون الصداق عرضا بعينه وعقارا لا يصح فيه العفو قيل له ليس معنى العفو في هذا الموضع أن تقول قد عفوت وإنما العفو هو التسهيل أو الترك والمعنى فيه أن تتركه له على الوجه الجائز في عقود التمليكات فكان تقدير الآية أن تملكه إياه وتتركه له تمليكا بغير عوض تأخذه منه فإن قال قائل في هذا دلالة على جواز

هبة المشاع فيما يقسم لإباحة الله تعالى لها تمليك نصف الفريضة إياه بعدالطلاق ولم يفرق بين ماكان منها عينا أو دينا ولا بين ما يحتمل القسمة أو لا يحتملها فوجب بقضية الآية جواز هبة المشاع فيقال له ليس الأمر كما ظننت لأنه ليس المعنى في العفو أن تقول قد عفوت إذ لا خلاف أن رجلا لو قال لرجل قد عفوت لك عن داري هذه أو قد أبرأتك من داري هذه أن ذلك لا يوجب تمليكا ولا يصح به عقد هبة وإذا كان كذلك وما نص عليه في الآية من العفو غير موجب لجواز عقود التمليكات به علم أن المراد به تمليكها على الوجه الذي تجوز عليه عقود الهبات والتمليكات إذ كان اللفظ الذي به يصح التمليك غير مذكور فصار حكمه موقوفا على الدلالة فما جاز في الأصول جاز في ذلك ومالم يجز في الأصول من عقود الهبات لم يجز في هذا ومع هذا فإن كان هذا السائل عن ذلك من أصحاب الشافعي فإنه يلزمه أن يجيز الهبة غير مقبوضة لأن الله سبحانه لم يفرق بين المهر المقبوض وغير المقبوض فإذا عفت وقد قبضت فواجب أن يجوز من غير تسليمه إلى الزوج وإذا لم يجز ذلك وكان محمولا على شروط الهبات كذلك في المشاع وإن كان من أصحاب مالك واحتج به في جوازها في المشاع وقبل القبض كان الكلام على ما قدمناه وأما قوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإن السلف قد اختلفوا فيه فقال علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب وقتادة ونافع هو الزوج وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وابن شبرمة والأوزاعي والشافعي قالوا عفوه أن يتم لها كمال المهر بعد الطلاق قبل الدخول قالوا وقوله تعالى إلا أن يعفون البكر والثيب وقد روي عن ابن عباس في ذلك روايتان إحداهما ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال هو الزوج وروى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال رضي الله بالعفو وأمر به وإن عفت فكما عفت وإن ضنت وعفى وليها جاز وإن أبت وقال علقمة والحسن وإبراهيم وعطاء وعكرمة وأبو الزناد هو الولي وقال مالك بن أنس إذا طلقها قبل الدخول وهي بكر جاز عفو أبيها عن نصف الصداق وقوله تعالى إلا أن يعفون اللاتي قد دخل بهن قال ولا يجوز لأحد أن يعفو عن شيء من الصداق إلا الأب وحده لا وصي ولا غيره وقال الليث لأبي البكر أن يضع من صداقها عند عقدة

النكاح ويجوز ذلك عليها وبعد عقدة النكاح ليس له أن يضع شيئا من صداقها ولا يجوز أيضا عفوه عن شيء من صداقها بعد الطلاق قبل الدخول ويجوز له مبارأة زوجها وهي كارهة إذا كان ذلك نظرا من أبيها لها فكما لم يجز للأب أن يضع شيئا من صداقها بعد النكاح كذلك لا يعفو عن نصف صداقها بعد ذلك وذكر ابن وهب عن مالك أن مبارأته عليها جائزة قال أبو بكر قوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح متشابه لاحتماله الوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما فوجب رده إلى المحكم وهو قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال تعالى في آية أخرى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا وقال تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله فهذه الآيات محكمة لا احتمال فيها لغير المعنى الذي اقتضته فوجب رد الآية المتشابهة وهي قوله تعالىأو يعفو الذي بيده عقدة النكاح إليها لأمر الله تعالى الناس برد المتشابه إلى المحكم وذم متبعي المتشابه من غير حمله على معنى المحكم بقوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وأيضا لما كان اللفظ محتملا للمعاني وجب حمله على موافقة الأصول ولا خلاف أنه غير جائز للأب هبة شيء من مالها للزوج ولا لغيره فكذلك المهر لأنه مالها وقوله من حمله على الولي خارج عن الأصول لأن أحدا لا يستحق الولاية على غيره في هبة مالها فلما كان قول القائلين بذلك مخالفا للأصول خارجا عنها وجب حمل معنى الآية على موافقتها إذ ليس ذلك أصلا بنفسه لاحتماله للمعاني وما ليس بأصل في نفسه فالواجب رده إلى غيره من الأصول واعتباره بها وأيضا فلو كان المعنيان جميعا في حيز الاحتمال ووجد نظائرهما في الأصول لكان في مقتضى اللفظ ما يوجب أن يكون الزوج أولى بظاهر اللفظ من الولي وذلك لأن قوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح لا يجوز أن يتناول الولي بحال لا حقيقة ولا مجازا لأن قوله تعالى الذي بيده عقدة النكاح يقتضي أن تكون العقدة موجودة وهي في يد من هي في يده فأما عقدة غير موجودة فغير جائز إطلاق اللفظ عليها بأنها في يد أحد فلما لم تكن هناك عقدة موجودة في يد الولي قبل العقد ولا بعده وقد كانت العقدة في يد الزوج قبل الطلاق فقد تناوله اللفظ بحال فوجب أن يكون حمله على الزوج أولى منه على الولي فإن قيل إنما حكم

الله بذلك بعد الطلاق وليست عقدة النكاح بيد الزوج بعد الطلاق قيل له يحتمل اللفظ بأن يريد الذي كان بيده عقدة النكاح والولي لم يكن بيده عقدة النكاح ولا هي في يده في الحال فكان الزوج أولى بمعنى الآية من الولي ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة ولا تنسوا الفضل بينكم فندبه إلى الفضل وقال تعالى وأن تعفوا أقرب للتقوى وليس في هبة مال الغيرأفضال منه على غيره والمرأة لم يكن منها أفضال وفي تجويز عفو الولي إسقاط معنى الفضل المذكور في الآية وجعله تعالى بعد العفو أقرب للتقوى ولا تقوى له في هبة مال غيره وذلك الغير لم يقصد إلى العفو فلا يستحق به سمة التقوى وأيضا فلا خلاف أن الزوج مندوب إلى ذلك وعفوه وتكميل المهر لها جائز منه فوجب أن يكون مرادا بها وإذا كان الزوج مرادا انتفى أن يكون الولي مرادا بها لأن السلف تأولوه على أحد معنيين إما الزوج وإما الولي وإذ قد دللنا على أن الزوج مراد وجب أن تمتنع إرادة الولي فإن قال قائل على ما قدمنا فيما تضمنته الآية من الندب إلى الفضل وإلى ما يقرب من التقوى وإن كان ذلك خطابا مخصوصا به المالك دون من يهب مال الغير ليس يمتنع في الأصول أن تلحق هذه التسمية للولي وإن فعل ذلك في مال من يلي عليه والدليل على ذلك أنه يستحق الثواب بإخراج صدقة الفطر عن الصغير من مال الصغير وكذلك الأضحية والختان قيل أغفلت موضع الحجاج مما قدمناه وذلك أنا قلنا هو غير مستحق للثواب والفضل بالتبرع بمال الغير فعارضتنا بمن وجب عليه حق في ماله فأخرجه عنه وليه وهو الأب ونحن نجيز للوصي ولغير الوصي أن يخرج عنه هذه الحقوق ولا نجيز عفوهم عنه فكيف تكون الأضحية وصدقة الفطر والحقوق الواجبة بمنزلة التبرع وإخراج مالا يلزم من ملكها وزعم بعض من احتج لمالك أنه لو أراد الزوج لقال إلا أن يعفون أو يعفو الزوج لما قد تقدم من ذكر الزوجين فيكون الكلام راجعا إليهما جميعا فلما عدل عن ذلك إلى ذكر من لا يعرف إلا بالصفة علم أنه لم يرد الزوج قال أبو بكر وهذا الكلام فارغ لا معنى تحته لأن الله تعالى يذكر إيجاب الأحكام تارة بالنصوص وتارة بالدلالة على المعنى المراد من غير نص عليه وتارة بلفظ يحتمل للمعاني وهو في بعضها أظهر وبه أولى وتارة بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة يحتاج في الوصول إلى المراد بالاستدلال عليه من غيره وقد وجد ذلك كله في القرآن وقوله لو أراد الزوج

لقال أو يعفو حتى يرجع الكلام إلى الزوج دون غيره ولما عدل عنه إلى لفظ محتمل خلف من القول لا معنى له ويقال له لو أراد الولي لقال الولي ولم يورد لفظا يشترك فيه الولي وغيره وقال هذا القائل أن العافي هو التارك لحقه وهي إذا تركت النصف الواجب لها فهي عافية وكذلك الولي فإن الزوج إذا أعطاها شيئا غير واجب لها لا يقال له عاف وإنما هو واهب وهذا أيضا كلام ضعيف لأن الذي تأولوه على الزوج قالوا إن عفوه هو إتمام الصداق لها وهم الصحابة والتابعون وهم أعلم بمعاني اللغة وما تحتمله من هذا القائل وايضا فإن العفو في هذا الموضع ليس هو قوله قد عفوت وإنما المعنى فيه تكميل المهر من قبل الزوج أو تمليك المرأة النصف الباقي بعد الطلاق إياه ألا ترى أن المهر لو كان عبدا بعينه لكان حكم الآية مستعملا فيه والندب المذكور فيها قائما فيه ويكون عفو المرأة أن تملكه النصف الباقي لها بعد الطلاق لا بأن تقول قد عفوت ولكن على الوجه الذي يجوز فيه عقود التمليكات فكذلك العفو من قبل الزوج ليس هو أن يقول قد عفوت لكن بتمليك مبتدأ على حسب ما تجوز التمليكات وكذلك لو كانت المرأة قد قبضت المهر واستهلكته كان عفو الزوج في هذه الحالة إبراءاها من الواجب عليها ولو كان المهر دينا في ذمة الزوج كان عفوها إبراءه من الباقي فكل عفو أضيف إلى المرأة فمثله يضاف إلى الزوج ويقال فما تقول في عفو الولي على أي صفة هو فإنا نجعل عفو الزوج على مثلها فالاشتغال بمثل ذلك لا يجدي نفعا لأن ذلك كلام في لفظ العفو والعدول عنه وهو مع ذلك منتقض على قائله إلا أني ذكرته إبانة عن اختلال قول المخالفين ولجأهم إلى تزويق الكلام بما لا دلالة فيه وقوله تعالى إلا أن يعفون يدل على بطلان قول من يقول إن البكر إذا عفت عن نصف الصداق بعد الطلاق إنه لا يجوز وهو قول مالك لأن الله تعالى لم يفرق بين البكر والثيب في قوله تعالى إلا أن يعفون ولما كان قوله وابتداء خطابه حين قال تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم عاما في الأبكار والثيب وجب أن يكون ما عطف عليه من قوله تعالى إلا أن يعفون عاما في الفريقين منهما وتخصيص الثيب بجواز العفو دون البكر لا دلالة عليه وقوله تعالى فنصف ما فرضتم يوجب أن يكون إذا تزوجها على ألف درهم ودفعها إليها ثم طلقها قبل الدخول وقد اشترت بها متاعا أن يكون لها نصف الألف وتضمن

للزوج النصف وقال مالك يأخذ الزوج نصف المتاع الذي اشترته والله تعالى إنما جعل له نصف المفروض وكذلك المرأة فكيف يجوز أن يؤخذ منها مالم يكن مفروضا ولا هو قيمة له وهو أيضا خلاف الأصول لأن رجلا لو اشترى عبدا بألف درهم وقبض البائع ألف واشترى بها متاعا ثم وجد المشتري بالعبد عيبا فرد لم يكن له على المتاع الذي اشتراه البائع سبيل وكان المتاع كله للبائع وعليه أن يرد على المشتري ألفا مثلها فالنكاح مثله لا فرق بينهما إذ لم يقع عقد النكاح على المتاع كما لم يقع عقد البيع عليه وإنما وقع على الألف والله تعالى أعلم
باب
الصلاة الوسطى وذكر الكلام في الصلاة قال الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فيه أمر بفعل الصلاة وتأكيد وجوبها بذكر المحافظة وهي الصلوات الخمس المكتوبات المعهودات في اليوم والليلة وذلك لدخول الألف واللام عليها إشارة بها إلى معهود وقد انتظم ذلك القيام بها واستيفاء فروضها وحفظ حدودها وفعلها في مواقيتها وترك التقصير فيها إذ كان الأمر بالمحافظة يقتضي ذلك كله وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر مع ذكره سائر الصلوات وذلك يدل على معنيين إما أن تكون أفضل الصلوات وأولاها بالمحافظة عليها فلذلك أفردها بالذكر عن الجملة وإما أن تكون المحافظة عليها أشد من المحافظة على غيرها وقد روي في ذلك روايات مختلفة يدل بعضها على الوجه الأول وبعضها على الوجه الثاني فمنها ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال هي الظهر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وفي بعض ألفاظ الحديث فكانت أثقل الصلوات على الصحابة فأنزل الله تعالى ذلك قال زيد بن ثابت وإنما سماها وسطى لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين وروي عن ابن عمر وابن عباس أن الصلاة الوسطى صلاة العصر وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها صلاة الفجر وقد روي عن عائشة وحفصة وأم كلثوم أن في مصحفهن حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وروي عن البراء بن عازب قال نزلت حافظوا على الصلوات وصلاة العصر وقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم نسخها الله تعالى فأنزل حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فأخبر البراء أن ما في مصحف

هؤلاء من ذكر صلاة العصر منسوخ وقد روى عاصم عن زر عن علي قال قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم - اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا قال علي كنا نرى أنها صلاة الفجر وروى عكرمة وسعيد بن جبير ومقسم عن ابن عباس مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنها صلاة العصر وكذلك روى سمرة بن جندب عن رسول الله ص - وروي عن علي من قوله أنها صلاة العصر وكذلك عن أبي بن كعب وعن قبيصة بن ذؤيب المغرب وقيل إنما سميت صلاة العصر الوسطى لأنها بين صلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وقيل إن أول الصلوات وجوبا كانت الفجر وآخرها العشاء الآخرة فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب ومن قال إن الوسطى الظهر يقول لأنها وسطى صلاة النهار بين الفجر والعصر ومن قال الصبح فقد قال ابن عباس لأنها تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار فجعلها وسطى في الوقت ومن الناس من يستدل بقوله تعالى والصلاة الوسطى على نفي وجوب الوتر لأنها لو كانت واجبة لما كان لها وسطى لأنها تكون حينئذ ستا فيقال له إن كانت الوسطى العصر فوجهه ما قيل أنها وسطى في الإيجاب وإن كانت الظهر فلأنها بين صلاتي النهار الفجر والعصر فلا دلالة على نفي وجوب الوتر التي هي من صلاة الليل وأيضا فإنها وسطى الصلوات المكتوبات وليس الوتر من المكتوبات وإن كانت واجبة لأنه ليس كل واجب فرضا إذا كان الفرض هو أعلى في مراتب الوجوب وأيضا فإن فرض الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات لقوله ص - إن الله زادكم إلى صلاتكم صلاة وهي الوتر وإنما سميت وسطى قبل وجوب الوتر وأما قوله عز و جل وقوموا لله قانتين فإنه قد قيل في معنى القنوت في أصل اللغة أنه الدوام على الشيء وروي عن السلف فيه أقاويل روي عن ابن عباس والحسن وعطاء والشعبي وقوموا لله قانتين مطيعين وقال نافع عن ابن عمر قال القنوت طول القيام وقرأ أمن هو قانت آناء الليل وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الصلاة طول القنوت يعني القيام وقال مجاهد القنوت السكوت والقنوت الطاعة ولما كان أصل القنوت الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة أو أطال الخشوع والسكوت كل هؤلاء فاعلو القنوت وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قنت شهرا يدعو فيه

على حي من أحياء العرب والمراد به أطال قيام الدعاء وقد روى الحارث عن شبل عن أبي عمرو الشيباني قال كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فنزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت فاقتضى ذلك النهي عن الكلام في الصلاة وقال عبدالله بن مسعود كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا قبل أن نأتي أرض الحبشة فلمارجعت سلمت عليه فلم يرد علي فذكرت ذلك له فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وأنه قضى أن لا تتكلموا في الصلاة وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم - فرد عليه بالإشارة فلما سلم قال كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك وروى إبراهيم الهجري عن ابن عياض عن أبي هريرة قال كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ففي هذه الأخبار حظر الكلام في الصلاة ولم تختلف الرواة أن الكلام كان مباحا في الصلاة إلى أن حظره واتفق الفقهاء على حظره إلا أن مالكا قال يجوز فيها لإصلاح الصلاة وقال الشافعي كلام السهو لا يفسدها ولم يفرق أصحابنا بين شيء منه وأفسدوا الصلاة بوجوده فيها على وجه السهو وقع أو لإصلاح الصلاة والدليل عليه أن الآية التي تلونا من قوله تعالى وقوموا لله قانتين ورواية من روى أنها نزلت في حظر الكلام في الصلاة مع احتماله له لو لم ترد الرواية بسبب نزولها ليس فيها فرق بين الكلام الواقع على وجه السهو والعمد وبينه إذا قصد به إصلاح الصلاة أو لم يقصد وكذلك سائر الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في حظره فيها لم يفرق فيها بين ما قصد به إصلاح الصلاة وبين غيره ولا بين السهو والعمد منه فهي عامة في الجميع فإن قيل النهي عن الكلام في الصلاة مقصور مقصور على العامد دون الناسي لاستحالة نهي الناسي قيل له حكم النهي قد يجوز أن يتعلق على الناسي كهو على العامد وإنما يختلفان في المأثم واستحقاق الوعيد فأما في الأحكام التي هي فساد الصلاة وإيجاب قضائها فلا يختلفان ألا ترى أن الناسي بالأكل والحدث والجماع في الصلاة في حكم العامد فيما يتعلق عليه من أحكام هذه الأفعال من إيجاب القضاء وإفساد الصلاة وإن كانا مختلفين في حكم المأثم واستحقاق الوعيد وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان حكم النهي فيما يقتضيه من إيجاب القضاء معلقا بالناسي كهو بالعامد لا فرق

بينهما فيه وإن اختلفا في حكم المأثم والوعيد فقد دلت هذه الأخبار على فساد قول من فرق بين ما قصد به الإصلاح للصلاة وبين مالم يقصد به إصلاحها وعلى فساد قول من فرق بين الناسي والعامد ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -
في حديث معاوية بن الحكم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيه شيء من كلام الناس وحقيقته الخبر فهو محمول على حقيقته فاقتضى ذلك إخبارا من النبي صلى الله عليه وسلم - بأن الصلاة لا يصلح فيها كلام الناس فلو بقي مصليا بعد الكلام لكان قد صلح الكلام فيها من وجه فثبت بذلك أن ما وقع فيه كلام الناس فليس بصلاة ليكون مخبره خبرا موجودا في سائر ما أخبر به من وجه آخر أن ضد الصلاح هو الفساد وهو يقتضيه في مقابلته فإذا لم يصلح فيها ذلك فهي فاسدة إذا وقع الكلام فيها ولو لم يكن كذلك لكان قد صلح الكلام فيها من غير إفساد وذلك خلاف مقتضى الخبر واحتج الفريقان جميعا من مخالفينا الذين حكينا من قولهما بحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وروي من طرق قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها إحداهما على الآخر يعرف في وجهه الغضب قال وخرج سرعان الناس فقالوا أقصرت الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يسميه ذا اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال له لم أنس ولم تقصر الصلاة فقال بل نسيت فأقبل على القوم فقال أصدق ذو اليدين قالوا نعم فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين وسلم وسجد سجدتي السهو قالوا فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام ولم يمتنع من البناء وقد كان أبو هريرة متأخر الإسلام وروى يحيى بن سعيد القطان قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال أتينا أبا هريرة فقلنا حدثنا فقال صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ثلاث سنين وقد روي عنه أنه قدم المدينة والنبي ص - بخيبر فخرج خلفه وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم -
خيبر قالوا فإذا كانت هذه القصة بعد إسلام أبي هريرة ومعلوم أن نسخ الكلام كان بمكة لأن عبدالله بن مسعود لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أرض الحبشة كان الكلام في الصلاة محظورا لأنه سلم عليه فلم يرد عليه وأخبره بنسخ الكلام في الصلاة فثبت بذلك أن ما في حديث ذي اليدين كان بعد حظر الكلام في الصلاة وقال أصحاب مالك إنما لم تفسد به الصلاة لأنه كان لإصلاحها وقال الشافعي لأنه وقع ناسيا

فيقال لهم لو كان حديث ذي اليدين بعد نسخ الكلام لكان مبيحا للكلام فيها ناسخا لحظره المتقدم له لأنه لم يخبرهم أن جواز ذلك مخصوص بحال دون حال وقد روى سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من نابه في صلاته شيء فليقل سبحان الله إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال وروى سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال التسبيح للرجال والتصفيق للنساء فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لمن نابه شيء في صلاته من الكلام وأمر بالتسبيح فلما لم يكن من القول تسبيح في قصة ذي اليدين ولا أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم - تركه دل ذلك على أن قصة ذي اليدين كانت قبل أن يعلمهم التسبيح إذ غير جائز أن يكون قد علمهم التسبيح ثم يخالفونه إلى غيره ولو كانوا خالفوا ما أمروا به من التسبيح في مثل هذه الحال لظهر فيه النكير عليهم في تركهم التسبيح المأمور به إلى الكلام المحظور وفي هذا دليل على أن قصة ذي اليدين كانت على على أحد وجهين إما قبل حظر الكلام ثم حظر الكلام في الصلاة وإما أن تكون بعد حظر الكللام بديا منه ثم أبيح الكلام ثم حظر بقوله التسبيح للرجال والتصفيق للنساء وقد كان نسخ الكلام بالمدينة بعد الهجرة ويدل عليه ما روى معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر وذكر الحديث قال الزهري فكان هذا قبل بدر ثم استحكمت الأمور بعده وقال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت وقال أبو سعيد الخدري سلم رجل على النبي صلى الله عليه وسلم - فرد عليه إشارة وقال كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك وأبو سعيد الخدري من أصاغر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
ويدل على صغر سنه ما روى هشام عن أبيه عن عائشة قالت وما علم أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنما كانا غلامين صغيرين وكان قدوم عبدالله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم - من الحبشة إنما كان بالمدينة وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبدالرحمن وعروة بن الزبير أن عبدالله بن مسعود ومن كان معه بالحبشة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وقد روى أهل السير أن عبدالله بن مسعود لما قتل أبا جهل يوم بدر بعد ما أثخنه ابنا عفراء وإذا كان كذلك فقد أخبر عبدالله بن مسعود بحظر الكلام في الصلاة عند قدومه من الحبشة وكان ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم -
يريد الخروج إلى بدر وروى عبدالله بن وهب

عن عبدالله بن العمري عن نافع عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذي اليدين فقال كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين ثبت بذلك أن ما رواه أبو هريرة كان قبل إسلامه لأن إسلامه كان عام خيبر فثبت أن أبا هريرة لم يشهد تلك القصة وإن حدث بها كما قال البراء ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
سمعناه ولكن سمعنا وحدثنا أصحابنا وروى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال والله ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكن كان يحدث بعضنا بعضا ولا يتهم بعضنا بعضا وقد روى ابن جريج قال أخبرني عمرو عن يحيى بن جعدة أنه أخبره عن عبدالرحمن بن عبدالقاري أنه سمع أبا هريرة يقول لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح وهو جنب فليفطر ولكن محمد قاله ورب هذا البيت ثم لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك قال لا علم لي بهذا إنما أخبرني به الفضل بن العباس فليس في روايته بحديث ذي اليدين ما يدل على مشاهدته فإن قيل فقد روي في بعض أخباره أنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - قيل له يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو منهم كما روى مسعر بن كدام عن عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف فأنتم اليوم بنو عبدالله ونحن بنو عبدالله إنما يعني أنه قال ذلك لقومه فإن قيل لو كان حظر الكلام في الصلاة متقدما لبدر لما شهده زيد بن أرقم لأنه كان صغير السن وكان يتيما في حجر عبدالله بن رواحة حين خرج إلى مؤتة ومثله لا يدرك قصة كانت قبل بدر قيل له إن كان زيد بن أرقم قد شهد إباحة الكلام في الصلاة فإنه جائز أن يكون قد أبيح بعد الحظر وجائز أن يكون أبو هريرة أيضا قد شهد إباحة الكلام في الصلاة بعد حظره ثم حظر بعد ذلك إلا أن أخباره عن قصة ذي اليدين لا محالة لم يكن عن مشاهدة لأنه أسلم بعدها وجائز أن يكون زيد بن أرقم أخبرعن حال المسلمين في كلامهم في الصلاة إلى نزول قوله تعالى وقوموا لله قانتين ويكون معنى قوله كنا نتكلم في الصلاة أخبارا عن المسلمين وهو منهم كما قال النزال بن سبرة قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكما قال الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة وهو لم يكن بها يومئذ إنما طرئ عليها بعده ومما يدل على أن قصة ذي اليدين كانت في حال إباحة الكلام أن فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم -
استند إلىجذع في المسجد وأن سرعان الناس خرجوا فقالوا أقصرت الصلاة وأن النبي ص

أقبل على القوم فسألهم فقالوا صدق وبعض هذا الكلام كان عمدا وبعضه كان لغير إصلاح الصلاة فدل على أنها كانت في حال إباحة الكلام وجملة الأمر في ذلك إن كان في حال إباحة الكلام بديا قبل حظره فلا حجة للمخالف فيه وإن كان بعد حظر الكلام فليس يمتنع أن يكون أبيح بعد الحظر ثم حظر فكان آخر أمره الحظر ونسخ به ما في حديث أبي هريرة وقد بينا أن قوله التسبيح للرجال والتصفيق للنساء كان بعد حديث أبي هريرة إذ لو كان متقدما لأنكر عليه ترك المأمور به من التسبيح ولكان القوم لا يخالفونه إلى الكلام مع علمهم بحظر الكلام والأمر بالتسبيح وفي ذلك دليل على أن الأمر بالتسبيح ناسخ لحظر الكلام متأخر عنه فوجب أن يكون ما في حديث أبي هريرة مختلفا في استعماله فوجب أن تقضي عليه الأخبار الواردة في الحظر لأن من أصلنا أنه متى ورد خبران أحدهما خاص والآخر عام واتفقوا على استعمال العام واختلفوا في استعمال الخاص كان الخبر المتفق على استعماله قاضيا على المختلف فيه فإن قيل قد فرقتم بين حدث الساهي والعامد فهلا فرقتم بين سهو الكلام وعمده قيل له هذا سؤال فارغ لا يستحق الجواب إلا أن يتبين وجه الدلالة في إحدى المسألتين على الأخرى ومع ذلك فإنه لا فرق عندنا بين حدث الساهي والعامد في إفساد الصلاة بعد أن يكون من فعله وإنما الفرق بين ما كان من فعله أو سبقه من غير فعله فأما لو سهى فحك قرحة وخرج منها دم أو تقيأ فسدت صلاته وإن كان ساهيا فإن قيل فقد فرقتم بين سلام الساهي والعامد وهو كلام في الصلاة فكذلك سائر الكلام فيها قيل له إنما السلام ضرب من الذكر مسنون به الخروج من الصلاة فإذا قصد إليه عامدا فسدت به الصلاة كما يخرج به منها في آخر وإذا كان ساهيا فهو ذكر من الأذكار لا يخرج به من الصلاة وإنما كان ذكر لأنه سلام على الملائكة وعلى حضرة من المصلين وهو لو قال السلام على ملائكة الله وجبريل وميكال أو على نبي الله لا تفسد صلاته فلما كان ضربا من الأذكار لم يخرج به من الصلاة إلا أن يكون عامدا له ويدل على هذا أنه موجود مثله في الصلاة لا يفسدها وهو قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا كان مثله قد يوجد في الصلاة ذكرا مسنونا لم يكن مفسدا لها إذا وقع منه ناسيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وما أبيح في الصلاة من الكلام فليس بداخل فيه

فلا تفسد به الصلاة ولم يتناوله الخبر وإنما أفسدنا به الصلاة إذا تعمد لا من حيث كان من كلام الناس المحظور في الصلاة ولكن من جهة أنه مسنون للخروج من الصلاة فإذا عمد له فقد قصد الوجه المسنون له فقطع صلاته وأيضا لما كان من شرط الصلاة الشرعية ترك الكلام فيها ومتى تعمد الكلام لم تكن صلاة عند الجميع إذا لم يقصد به إلى إصلاحها وجب أن يكون وجود الكلام فيها مخرجا لها من أن تكون صلاة شرعية كالطهارة لما كانت من شرطها لم يختلف حكمها في ترك الطهارة سهوا أو عمدا وكذلك ترك القراءة والركوع والسجود وسائر فروضها لا يختلف حكم السهو والعمد فيها لأن الصلاة لما كانت اسما شرعيا وكان صحة هذا الاسم لها متعلقة بشرائطه متى عدمت زال الاسم وكان من شروطها ترك الكلام وجب أن يكون وجوده فيها يسلبها اسم الصلاة الشرعية ولم يكن فاعلا للصلاة فلم نجزه فإن ألزمونا على ذلك الصيام وما شرط فيه من ترك الأكل وتعلق الاسم الشرعي به ثم اختلف فيه حكم السهو والعمد فإنا نقول إن القياس فيهما سواء ولذلك قال أصحابنا لولا الأثر لوجب أن لا يختلف فيه حكم الأكل سهوا أو عمدا وإذا سلموا القياس فقد استمرت العلة وصحت قوله عز و جل فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية ذكر الله تعالى في أول الخطاب الأمر بالصلاة والمحافظة عليها وذلك يدل على لزوم استيفاء فروضها والقيام بحدودها لاقتضاء ذكر المحافظة لها وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر لما بينا فيما سلف من فائدة ذكر التأكيد لها ثم عطف عليه قوله تعالى وقوموا لله قانتين فاشتمل ذلك على لزوم السكوت والخشوع فيها وترك المشي والعمل فيها وذلك في حال الأمن والطمأنينة ثم عطف عليه حال الخوف وأمر بفعلها على الأحوال كلها ولم يرخص في تركها لأجل الخوف فقال تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا قوله فرجالا جمع راجل لأنك تقول راجل ورجال كتاجر وتجار وصاحب وصحاب وقائم وقيام وأمر بفعلها في حال الخوف راجلا ولم يعذب في تركها كما أمر المريض بفعلها على الحال التي يمكنه فعلها من قيام وقعود وعلى جنب وأمره بفعل الصلاة راكبا في حال الخوف إباحة لفعلها بالإيماء لأن الراكب إنما يصلي بالإيماء لا يفعل فيها قياما ولا ركوعا ولا سجودا وقد روي عن ابن عمر في صلاة الخوف قال فإن كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع

لا أرى ابن عمر وقال ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - والمذكور في هذه الآية إنما هو الخوف دون القتال فإذا خاف وقد حصره العدو جازله فعلها كذلك ولما أباح له فعلها راكبا لأجل الخوف لم يفرق بين مستقبل القبلة من الركبان وبين من ترك استقبالها تضمنت الدلالة على جواز فعلها من غير استقبالها لأن الله تعالى أمر بفعلها على كل حال ولم يفرق بين من أمكنه استقبالها وبين من لم يمكنه فدل على أن من لا يمكنه استقبالها فجائز له فعلها على الحال التي يقدر عليها ويدل من جهة أخرى على ذلك وهو أن القيام والركوع والسجود من فروض الصلاة وقد أباح تركها حين أمره بفعلها راكبا فترك القبلة أحرى بالجواز إذا كان فعل الركوع والسجود آكد من القبلة فإذا جاز الركوع والسجود فترك القبلة أحرى بالجواز فإن قيل على ما ذكرناه من أن الله لم يبح ترك الصلاة في حال الخوف وأمر بها على الحال التي يمكن فعلها قد كان النبي صلى الله عليه وسلم - ترك أربع صلوات يوم الخندق حتى كان هوى الليل ثم قضاهن على الترتيب وفي ذلك دليل على جواز ترك الصلاة في حال الخوف قيل له إن الذي اقتضته هذه الآية الأمر بالصلاة في حال الخوف بعد تقديم تأكيد فروضها لأنه عطف على قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ثم زادها تأكيدا بقوله تعالى وقوموا لله قانتين فأمر فيها بالدوام على الخشوع والسكون والقيام وحظر فيها التنقل من حال إلا إلى حال هي الصلاة من الركوع والسجود ولو اقتصر على ذلك لكان جائزا أن يظن ظان أن شرط جواز الصلاة فعلها على هذه الأوصاف فبين حكم هذه الصلوات المكتوبات في حال الخوف فقال تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فأمر بفعلها في هذه الحال ولم يعذر أحدا من المكلفين في تركها ولم يذكر حال القتال إذ ليس جميع أحوال الخوف هي أحوال القتال لأن حضور العدو يوجب الخوف وإن لم يكن قتال قائم فإنما أمر بفعلها في هذه الحال ولم يذكر حال القتال والنبي صلى الله عليه وسلم -
إنما لم يصل يوم الخندق لأنه كان مشغولا بالقتال والاشتغال بالقتال يمنع الصلاة ولذلك قال ص - ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى وكذلك يقول أصحابنا أن الاشتغال بالقتال يفسدها فإن قيل ما أنكرت من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - إنما لم يصل يوم الخندق لأنه لم يكن نزلت صلاة الخوف قيل له قد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي جميعا أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق وقد صلى النبي

ص - فيها صلاة الخوف فدل ذلك على أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف إنما كان للقتال لأنه يمنع صحتها وينافيها ويستدل بهذه الآية من يقول إن الخائف تجوز له الصلاة وهو ماش وإن كان طالبا لقوله تعالى فإن خفتم فرجالا أوركبانا وليس هذا كذلك لأنه ليس في الآية ذكر المشي ومع ذلك فالطالب غير خائف لأنه إن انصرف لم يخف والله سبحانه إنما أباح ذلك للخائف وإذا كان مطلوبا فجائز له أن يصلي راكبا وماشيا إذا خاف وأما قوله فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم مالم تكونوا تعلمون لما ذكر الله تعالى حال الخوف وأمر بالصلاة على الوجه الممكن من راجل وراكب ثم عطف عليه حال الأمن بقوله تعالى فإذا أمنتم فاذكروا الله دل ذلك على أن المراد ما تقدم بيانه في حال الخوف وهو الصلاة فاقتضى ذلك إيجاب الذكر في الصلاة وهو نظير قوله تعالى فاذكروا الله قياما وقعودا ونظيره أيضا قوله تعالى وذكر اسم ربه فصلى وقوله تعالى وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا فتضمنت هذه المخاطبة من عند قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى الأمر بفعل الصلاة واستيفاء فروضها وشروطها وحفظ حدودها وقوله تعالى وقوموا لله قانتين تضمن إيجاب القيام فيها ولما كان القنوت اسما يقع على الطاعة اقتضى أن يكون جميع أفعال الصلاة طاعة وأن لا يتخللها غيرها لأن القنوت هو الدوام على الشيء فأفاد ذلك النهي عن الكلام فيها وعن المشي وعن الإضطجاع وعن الأكل والشرب وكل فعل ليس بطاعة لما تضمنوا اللفظ من الأمر بالدوام على الطاعات التي هي من أفعال الصلاة والنهي عن قطعها بالاشتغال بغيرها لما فيه من ترك القنوت الذي هو الدوام عليها واقتضىأيضا الدوام على الخشوع والسكون لأن اللفظ ينطوي عليه ويقتضيه فانتظم هذا اللفظ مع قلة حروفه جميع أفعال الصلاة وأذكارها ومفروضها ومسنونها واقتضى النهي عن كل فعل ليس بطاعة فيها والله الموفق والمعين
باب الفرار من الطاعون
قال الله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم قال ابن عباس كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم الله وروي عن الحسن أيضا أنهم

فروا من الطاعون وقال عكرمة فروا من القتال وهذا يدل على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون وهو نظير قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وقوله تعالى قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم وقوله تعالى قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وقوله تعالى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وإذا كانت الآجال موقتة محصورة لا يقع فيها تقديم ولا تأخير عما قدرها الله عليه فالفرار من الطاعون عدول عن مقتضى ذلك وكذلك الطيرة والزجر والإيمان بالنجوم كل ذلك فرارا من قدر الله عز و جل الذي لا محيص لأحد عنه وقد روي عن عمرو بن جاب رالحضرمي عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف روى يحيى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيئ فهي في الفرس والمرأة والدار وإذا سمعتم بالطاعون بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليه وإذا كان وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا عنه وروي عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله في الطاعون وروى الزهري عن عبدالحميد بن عبدالرحمن عن عبدالله بن الحارث بن عبدالله بن نوفل عن ابن عباس أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا بسرغ لقيه التجار فقالوا الأرض سقيمة فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه فعزم على الرجوع فقال له أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال له عمر لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان أحدهما خصيبة والأخرى جديبة ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله فجاء عبدالرحمن بن عوف فقال عندي من هذا علم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه فحمد الله عمر وانصرف ففي هذه الأخبار النهي عن الخروج عن الطاعون فرارا منه والنهي عن الهبوط عليه أيضا فإن قال قائل إذا كانت الآجال مقدرة محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها فما وجه نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن دخول أرض بها الطاعون وهو قد منع الخروج منها بديا لأجله ولا فرق بين دخولها وبين البقاء فيها قيل له إنما وجه النهي أنه إذا دخلها وبها الطاعون فجائز أن تدركه منيته وأجله بها فيقول قائل لو لم يدخلها ما مات فإنما نهاه

عن دخولها لئلا يقال هذا وهو كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم فكره النبي صلى الله عليه وسلم - أن يدخلها فعسى يموت فيها بأجله فيقول قوم من الجهال لو لم يدخلها لم يمت وقد أصاب بعض الشعراء في هذا المعنى حين قال ... يقولون لي لو كان بالرمل لم تمت ... بثينة والأنباء يكذب قيلها ... ولو أنني استودعتها الشمس لاهتدت ... إليها بالمنايا عينها ودليلها ... وعلى هذا المعنى الذي قدمنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يوردن ذو عاهة على مصح مع قوله لا عدوى ولا طيرة لئلا يقال إذا أصاب الصحيح عاهة بعد إيراد ذي عاهة عليه إنما أعداه ما ورد عليه وقيل له يا رسول الله إن النقبة تكون بمشفر البعير فتجرب لها الإبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم - فما أعدى الأول وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير استفتح مصرا فقيل له إن هنا طاعونا فدخلها وقال ما جئنا إلا للطعن والطاعون وقد روي أن أبا بكر لما جهز الجيوش إلى الشام شيعهم ودعا لهم وقال اللهم أفهم بالطعن والطاعون فاختلف أهل العلم في معنى ذلك فقال قائلون لما رآهم على حال الاستقامة والبصائر الصحيحة والحرص على جهاد الكفار خشي عليهم الفتنة وكانت بلاد الشام بلاد الطاعون مشهور ذلك بها أحب أن يكون موتهم على الحال التي خرجوا عليها قبل أن يفتتنوا بالدنيا وزهرتها وقال آخرون قد كان النبي صلى الله عليه وسلم - قال فناء أمتي بالطعن والطاعون يعني عظم الصحابة وأخبر أن الله سيفتح البلاد بمن هذه صفته فرجا أبو بكر أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم - وأخبر عن حالهم ولذلك لم يجب أبو عبيدة الخروج من الشام وقال معاذ لما وقع الطاعون بالشام وهو بها قال اللهم اقسم لنا حظا منه ولما طعن في كفه أخذ يقبلها ويقول ما يسرني بها كذا وكذا وقال لئن كنت صغيرا فرب صغير يبارك الله فيه أو كلمة نحوها يتمنى الطاعون ليكون من أهل الصفة التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم - بها أمته الذين يفتح الله بهم البلاد ويظهر بهم الإسلام وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول من أنكر عذاب القبر وزعم أنه من القول بالتناسخ لأن الله أخبر أنه أمات هؤلاء القوم ثم أحياهم فكذلك يحييهم في القبر ويعذبهم إذا استحقوا ذلك وقوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن

الله سميع عليم هو أمر بالقتال في سبيل الله وهو مجمل إذ ليس فيه بيان السبيل المأمور بالقتال فيه وقد بينه في مواضع غيره وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى وقوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة إنما هو تأكيد لاستحقاق الثواب به إذ لا يكون قرضا إلا والعوض مستحق به وجهلت اليهود ذلك أو تجاهلت لما نزلت هذه الآية فقالوا إن الله يستقرض منا فنحن أغنياء وهو فقير إلينا فأنزل الله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وعرف المسلمون معناه ووثقوا بثواب الله ووعده وبادروا إلى الصدقات فروي أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ألا ترى ربنا يستقرض منا مما أعطانا لأنفسنا وإن لي أرضين إحداهما بالعالية والأخرى بالسافلة وإني قد جعلت خيرهما صدقة
وقوله تعالى إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا الآية يدل على أن الإمامة ليست وارثة لإنكار الله تعالى عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة ولا الملك وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب ودل ذلك أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس وأنها مقدمة عليه لأن الله أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرف منه نسبا وذكره للجسم ههنا عبارة عن فضل قوته لأن في العادة من كان أعظم جسما فهو أكثر قوة ولم يرد بذلك عظم الجسم بلا قوة لأن ذلك لا حظ له في القتال بل هو وبال على صاحبه إذا لم يكن ذا قوة فاضلة قوله عز و جل فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف يدل على أن الشرب من النهر إنما هو الكرع فيه ووضع الشفة عليه لأنه قد كان حظر الشرب وحظر الطعم منه إلا لمن اغترف غرفة بيده وهذا يدل علىصحة قول أبي حنيفة فيمن قال إن شربت من الفرات فعبدي حر أنه على أن يكرع فيه وإن اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث لأن الله قد كان حظر عليهم الشرب من النهر وحظر مع ذلك أن يطعم منه واستثنى من الطعم الاغتراف فحظر الشرب باق على ما كان عليه فدل على أن الاغتراف ليس بشرب منه قوله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي روي عن الضحاك والسدي وسليمان بن موسى إنه منسوخ بقوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وقوله تعالى فاقتلوا المشركين وروي عن الحسن وقتادة أنها خاصة في أهل

الكتاب الذين يقرون على الجزية دون مشركي العرب لأنهم لا يقرون على الجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وقيل إنها نزلت في بعض أبناء الأنصار كانوا يهودا فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام وروى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقيل فيه أي لا تقولوا لمن أسلم بعد حرب أنه أسلم مكرها لأنه إذا رضي وصح إسلامه فليس بمكره قال أبو بكر لا إكراه في الدين أمر في صورة الخبر وجائز نزول ذلك قبل الأمر بقتال المشركين فكان في سائر الكفار كقوله تعالى إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وكقوله تعالى إدفع بالتي هي أحسن السيئة وقوله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما فكان القتال محظورا في أول الإسلام إلى أن قامت عليهم الحجة بصحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - فلما عاندوه بعد البيان أمر المسلمون بقتالهم فنسخ ذلك عن مشركي العرب بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وسائر الآي الموجبة لقتال أهل الشرك وبقي حكمه على أهل الكتاب إذا أذعنوا بأداء الجزية ودخلوا في حكم أهل الإسلام وفي ذمتهم ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يقبل من المشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وجائز أن يكون حكم هذه الآية ثابتا في الحال على أهل الكفر لأنه ما من مشرك إلا وهو لو تهود أو تنصر لم يجبر على الإسلام وأقررناه على دينه بالجزية وإذا كان ذلك حكما ثابتا في سائر من انتحل دين أهل الكتاب ففيه دلالة على بطلان قول الشافعي حين قال من تهود من المجوس أو النصارى أجبرته على الرجوع إلى دينه أو إلى الإسلام والآية دالة على بطلان هذا القول لأن فيها الأمر بأن لا نكره أحدا على الدين وذلك عموم يمكن استعماله في جميع الكفار على الوجه الذي ذكرنا فإن قال قائل فمشركو العرب الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقتالهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف قد كانوا مكرهين على الدين ومعلوم أن من دخل في الدين مكرها فليس بمسلم فما وجه إكراههم عليه قيل له إنما أ كرهوا على إظهار الإسلام لا على المتقاده لأن الاعتقاد لا يصح منا الإكراه عليه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم اموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فأخبر ص -
أن القتال إنما كان على إظهار الإسلام وأما الاعتقادات فكانت موكولة إلى الله تعالى ولم يقتصر بهم النبي صلى الله عليه وسلم - على القتال

دون أن أقام عليهم الحجة والبرهان في صحة نبوته فكانت الدلائل منصوبة للإعتقاد وإظهار الإسلام معا لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الإسلام فقد اقتضت منه الإظهاره والقتال لإظهار الإسلام وكان في ذلك أعظم المصالح منها أنه إذا أظهر الإسلام وإن كان غير معتقد له فإن مجالسته للمسلمين وسماعه القرآن ومشاهدته لدلائل الرسول ص - مع ترادفها عليه تدعوه إلى الإسلام وتوضح عنده فساد اعتقاده ومنها أن يعلم الله أن في نسلهم من يوقن ويعتقد التوحيد فلم يجز أن يقتلوا مع العلم بأنه سيكون في أولادهم من يعتقد الإيمان وقال أصحابنا فيمن أكره من أهل الذمة على الإيمان أنه يكون مسلما في الظاهر ولا يترك والرجوع إلى دينه إلا أنه لا يقتل إن رجع إلى دينه ويجبر على الإسلام من غير قتل لأن الإكراه لا يزيل عنه حكم الإسلام وإذا أسلم وإن كان دخوله فيه مكرها دالا على أنه غير معتقد له لما وصفنا من أسلام من أسلم من المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم - وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - إظهار الإسلام عند القتال إسلاما في الحكم فكذلك المكره على الإسلام من أهل الذمة واجب أن يكون مسلما في الحكم ولكنهم لم يقتلوا المشبهة ولا نعلم خلافا أن أسيرا من أهل الحرب لو قدم ليقتل فأسلم أنه يكون مسلما ولم يكن إسلامه خوفا من القتل مزيلا عنه حكم الإسلام فكذلك الذمي فإن قال قائل قوله تعالى لا إكراه في الدين يحظر إكراه الذمي على الإسلام وإذا كان الإكراه على هذا الوجه محظورا وجب أن لا يكون مسلما في الحكم وأن لا يتعلق عليه حكمه ولا يكون حكم الذمي في هذا حكم الحربي لأن الحربي يجوز أن يكره على الإسلام لإبائه الدخول في الذمة ومن دخل في الذمة لم يجز إكراهه على الإسلام قيل له إذا ثبت أن الإسلام لا يختلف حكمه في الإكراه والطوع لمن يجوز إجباره عليه أشبه في هذا الوجه العتق والطلاق وسائر ما لا يختلف فيه حكم جده وهزله ثم لا يختلف بعد ذلك أن يكون الإكراه مأمورا به أو مباحا كما لا يختلف حكم العتق والطلاق في ذلك لأن رجلا لو أكره رجلا على طلاق أو عتاق ثبت حكمهما عليه وإن كان المكره ظالما في إكراهه منهيا عنه وكونه منهيا عنه لا يبطل حكم العتق والطلاق عندنا كذلك ما وصفنا من أمر الإكراه على الإسلام
قوله عز و جل ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك الآية قال أبو بكر

إن إيتاء الله الملك للكافر إنما هو من جهة كثرة المال واتساع الحال وهذا جائز أن ينعم الله على الكافرين به في الدنيا ولا يختلف حكم الكافر والمؤمن في ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا فهذا الضرب من الملك جائز أن يؤتيه الله الكافر وأما الملك الذي هو تمليك الأمر والنهي وتدبير أمور الناس فإن هذا لا يجوز أن يعطيه الله أهل الكفر والضلال لأن أوامر الله تعالى وزواجره إنما هي استصلاح للخلق فغير جائز استصلاحهم بمن هو على الفساد مجانب للصلاح ولأنه لا يجوز أن يأتمن أهل الكفر والضلال على أوامره ونواهيه وأمور دينه كما قال تعالى في آية أخرى لا ينال عهدي الظالمين وكانت محاجة الملك الكافر لإبراهيم عليه السلام وهو النمروذ بن كنعان أنه دعاه إلى اتباعه وحاجه بأنه ملك يقدر على الضرر والنفع فقال إبراهيم عليه السلام فإن ربي الذي يحيي ويميت وأنت لا تقدر على ذلك فعدل عن موضع احتجاج إبراهيم عليه السلام إلى معارضته بالإشراك في العبارة دون حقيقة المعنى لأن إبراهيم عليه السلام حاجه بأن أعلمه أن ربه هو الذي يخلق الحياة والموت على سبيل الأختراع فجاء الكافر برجلين فقتل أحدهما وقال قد أمته وخلى الآخر وقال قد أحييته على سبيل مجاز الكلام لا على الحقيقة لأنه كان عالما بأنه غير قادر على اختراع الحياة والموت فلما قرر عليه الحاجة وعجز الكافر عن بمعارضه بأكثر مما أورد زاده حجاجا لا يمكنه مع معارضته ولا إيراد شبهة يموه بها على الحاضرين وقد كان الكافر عالما بأن ما ذكره ليس بمعاضة لكنه أراد المتويه على أغمار أصحابه كما قال فرعون حين آمنت السحرة عند إلقاء موسى عليه السلام العصا وتلقفها جميع ما لقوا من الحبال والعصي وعلموا أن ذلك ليس بسحر وأنه من فعل الله فأراد فرعون التمويع عليهم فقال إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها يعني تواطأتم عليه مع موسى قبل هذا الوقت حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته والإيمان به وكان ذلك مما موه به على أصحابه وكذلك الكافر الذي حاج إبراهيم عليه السلام ولم يدعه إبراهيم عليه السلام وما رام حتى أتاه بما لم يمكنه دفعه بحال ولا معارضة فقال فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فانقطع وبهت ولم يمكنه أن يلجأ إلى معاضة أو شبهة وفي حجاج إبراهيم عليه السلام بهذا اللطف دليل وأوضح برهان لمن عرف معناه وذلك أن القوم الذين

بعث فيهم إبراهيم عليه السلام كانوا صابئين عبدة أوثان على أسماء الكواكب السبعة وقد حكى الله عنهم في غير هذا الموضع أنهم كانوا يعبدون الأوثان ولم يكونوا يقرون بالله تعالى وكانوا يزعمون حوادث العالم كلها في حركات الكواكب السبعة وأعظمها عندهم الشمس ويسمونها وسائر الكواكب آلهة والشمس عندهم هو الإله الأعظم الذي ليس فوقه إله وكانوا لا يعترفون بالباري جل وعز وهم لا يختلفون وسائر من يعرف مسير الكواكب أن لها ولسائر الكواكب حركتين متضادتين إحداهما من المغرب إلى المشرق وهي حركتها التي تختص بها لنفسها والأخرى تحريك الفلك لها من المشرق إلى المغرب وبهذه الحركة تدور علينا كل يوم وليلة دورة وهذا أمر مقرر عند من يعرف مسيرها فقال له إبراهيم عليه السلام إنك تعترف أن الشمس التي تعبدها وتسميها إلها لها حركة قسر ليس هي حركة نفسها بل هي بتحريك غيرها لها يحركها من المشرق إلى المغرب والذي أدعوك إلى عبادته هو فاعل هذه الحركة في الشمس ولو كانت إلها لما كانت مقسورة ولا مجبرة فلم يمكنه عند ذلك دفع هذا الحجاج بشبهة ولا معارضة إلا قوله حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين وهاتان الحركتان المتضادتان للشمس ولسائر الكواكب لا توجدان لها في حال واحدة لاستحالة وجود ذلك في جسم واحد في وقت واحد ولكنها لا بد من أن تتخلل إحداهما سكون فتوجد الحركة الأخرى في وقت لا توجد فيه الأولى قال أبو بكر فإن قيل كيف ساغ لإبراهيم عليه السلام الانتقال عن الحجاج الأول إلى غيره قيل له لم ينتقل عنه بل كان ثابتا عليه وإنما أردفه بحجاج آخر كما أقام الله الدلائل على توحيده من عدة وجوه وكل ما في السموات والأرض دلائل عليه وأيد نبيه ص - بضروب من المعجزات كل واحدة منها لو انفردت لكانت كافية مغنية وقد حاجهم إبراهيم عليه السلام بغير ذلك من الحجاج في قوله تعالى وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي روى في التفسير أنه أراد تقرير قومه على صحة استدلاله وبطلان قولهم فقال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين وكان ذلك في ليلة يجتمعون فيها في هياكلهم وعند أصنامهم عيدا لهم فقررهم ليلا على أمر الكواكب عند ظهوره وأفوله وحركته وانتقاله وأنه لا يجوز أن يكون مثله إلها لما ظهرت فيه من آيات الحدث ثم كذلك في القمر ثم لما أصبح قررهم على مثله في

الشمس حتى قامت الحجة عليهم ثم كسر أصنامهم وكان من أمره ما حكاه الله عنه وهذه الآية تدل على صحة المحاجة في الدين واستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائل الله تعالى على توحيده وصفاته الحسنى وتدل على أن المحجوج المنقطع يلزمه اتباع الحجة وترك ما هو عليه من المذهب الذي لا حجة له فيه وتدل على بطلان قول من لا يرى الحجاج في إثبات الدين لأنه لو كان كذلك لما حاجه إبراهيم عليه السلام وتدل على أن المحجوج عليه أن ينظر فيما ألزم من الحجاج فإذا لم يجد منه مخرجا صار إلى ما يلزمه وتدل على أن الحق سبيله أن لا يقبل بحجته إذ لا فرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل وإلا فلولا الحجة التي بان بها الحق من الباطل لكانت الدعوى موجودة في الجميع فكان لا فرق بينه وبين الباطل وتدل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء وأن طريق معرفته ما نصب من الدلائل على توحيده لأن أنبياء الله عليهم السلام إنما حاجوا الكفار بمثل ذلك ولم يصفوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه وإنما وصفوه بأفعاله واستدلوا بها عليه قوله عز و جل قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام قول هذا القائل لم يكن كذبا وقد أماته الله مائة عام لأنه أخبر عما عنده فكأنه قال عندي أني لبثت يوما أو بعض يوم ونظيره أيضا ما حكاه الله تعالى عن أصحاب الكهف قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم وقد كانوا لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين ولم يكونوا كاذبين فيما أخبروا عما عندهم كأنهم قالوا عندنا في ظنوننا إنما لبثنا يوما أو بعض يوم ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم -
حين صلى ركعتين وسلم في إحدى صلاة العشاء فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فقال لم تقصر ولم أنس وكان ص - صادقا لأنه أخبر عما عنده في ظنه وكان عنده أنه قد أتمها فهذا كلام سائغ جائز غير ملوم عليه قائله إذا أخبر عن اعتقاده وظنه لا عن حقيقة مخبره ولذلك عفا الله عن الحالف بلغو اليمين وهو فيما روى قول الرجل لمن سأله هل كان كذا وكذا فيقول على ما عنده لا والله أو يقول بلى والله وإن اتفق مخبره خلافه لأنه إنما أخبر عن عقيدته وضميره والله الموفق
باب
الامتنان بالصدقة قال الله تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى الآية وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق

ماله رئاء الناس وقال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وقال تعالى وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن الصدقات إذا لم تكن خالصة لله عارية من من وأذى فليست بصدقة لأن إبطالها هو إحباط ثوابها فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القربة إلى الله تعالى فغير جائز أن يشوبه رياء ولا وجه غير القربة فإن ذلك يبطله كما قال تعالى ولا تبطلوا أعمالكم وقال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فما لم يخلص لله تعالى من القرب فغير مثاب عليه فاعله ونظيره أيضا قوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب ومن أجل ذلك قال أصحابنا لا يجوز الاستيجار على الحج وفعل الصلاة وتعليم القرآن وسائر الأفعال التي شرطها أن تفعل على وجه القربة لأن أخذ الأجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها وروى عمرو عن الحسن في قوله تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى قال هو المتصدق يمن بها فنهاه الله عن ذلك وقال ليحمد الله إذ هداه للصدقة وعن الحسن في قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم قال يثبتون أين يضعون أموالهم وعن الشعبي قال تصديقا ويقينا من أنفسهم وقال قتادة ثقة من أنفسهم والمن في الصدقة أن يقول المتصدق قد أحسنت إلى فلان ونعشته وأغنيته فذلك ينغصها على المتصدق بها عليه والأذى قوله أنت أبدا فقير وقد بليت بك وأراحني الله منك ونظيره من القول الذي فيه تعبير له بالفقر فقال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى يعني والله أعلم ردا جميلا ومغفرة قيل فيها ستر الخلة على السائر وقيل العفو عمن ظلمه خير من صدقة يتبعها أذى لأنه يستحق المأثم بالمن والأذى ورد السائل بقول جميل فيه السلامة من المعصية فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة برد جميل خير من صدقة يتبعها أذى وامتنان وهو نظير قوله تعالى وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا والله تعالى الموفق

باب
المكاسية قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض فيه إباحة المكاسب وأخبار أن فيها طيبا والمكاسب وجهان أحدهما إبدال الأموال وأرباحها والثاني إبدال المنافع وقد نص الله تعالى على إباحتها في مواضع من كتابه نحو قوله تعالى وأحل الله البيع وقوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله وقال تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعني والله أعلم من يتجر ويكري ويحتج مع ذلك وقال تعالى في إبدال المنافع فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقال شعيب عليه السلام إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من استأجر أجيرا فليعلمه أجره وقال ص - لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه وقد روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم أنه من التجارات منهم الحسن ومجاهد وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال لأن قوله تعالى ما كسبتم ينتظمها وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها فهو عموم في أصناف الأموال مجمل في المقدار الواجب فيها فهو مفتقر إلى البيان ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم - بذكر مقادير الواجبات فيه صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه نحو أموال التجارة ويحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجاب الزكاة في العروض ويحتج فيه أيضا في إيجاب صدقة الخيل وفي كل ما ختلف فيه من الأموال وذلك لأن قوله تعالى أنفقوا المراد به الصدقة والدليل عليه قوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون يعني تتصدقون ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة ومن أهل العلم من قال إن هذا في صدقة التطوع لأن الفرض إذا أخرج عنه الرديء كان الفضل باقيا في ذمته حتى يؤدى وهذا عندنا يوجب صرف اللفظ عن الوجوب إلى النفل من وجوه أحدها أن قوله أنفقوا أمر والأمر عندنا على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب وقوله ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون لا دلالة فيه على أنه ندب إذ لا يختص

النهي عن إخراج الردي بالنفل دون الفرض وأن يجب عليه إخراج فضل ما بين الردي إلى الجيد لأنه لا ذكر له في الآية وإنما يعلم ذلك بدلالة أخرى فلا يعترض ذلك على مقتضى الآية في إيجاب الصدقة ومع ذلك لو دلت الدلالة من الآية على أنه ليس عليه إخراج غير الرديء الذي أخرجه لم يوجب ذلك صرف حكم الآية عن الإيجاب إلى الندب لأنه جائز أن يبتدىء الخطاب بالإيجاب ثم يعطف عليه بحكم مخصوص في بعض ما اقتضاه عمومه ولا يوجب ذلك الاقتصار بحكم ابتداء الخطاب على الخصوص وصرفه عن العموم ولذلك نظائر كثيرة قد بيناها في مواضع وقوله تعالى ومما أخرجنا لكم من الأرض عموم في إيجابه الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها ويحتج به لأبي حنيفة رضي الله عنه في إيجابه العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها مما تقصد الأرض بزراعتها ومما يدل من فحوى الآية على أن المراد بها الصدقات الواجبة قوله تعالى في نسق التلاوة ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه وهذا إنما هو في الديون إذا اقتضاها صاحبها لا يتسامح بالرديء عن الجيد إلا على إغماض وتساهل فدل ذلك على أن المراد الصدقة الواجبة والله أعلم إذا ردها إلى الإغماض في اقتضاء الدين ولو كان تطوعا لم يكن فيها إغماض إذا له أن يتصدق بالقليل والكثير وله أن لا يتصدق وفي ذلك دليل على أن المراد الصدقة الواجبة وأما قوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون روى الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن نوعين من التمر الجعرور ولون الحبيق قال وكان ناس يخرجون شر ثمارهم في الصدقة فنزلت ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وروي عن البراء بن عازب مثل ذلك قال في قوله تعالى ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطي لما أخذه إلا على إغماض وحياء وقال عبيدة إنما ذلك في الزكاة والدرهم الزائف أحب إلى من الثمرة وعن ابن معقل في هذه الآية قال ليس في أموالهم خبيث ولكنه الدرهم القسي والزيف ولستم بآخذيه قال لو كان لك على رجل حق لم تأخذ الدرهم القسي والزيف ولم تأخذ من ا لثمر إلا الجيد إلا أن تغمضوا فيه يجوزا فيه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو هذا وهو ما كتبه في كتاب الصدقة وقال فيه ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار رواه الزهري عن سالم عن أبيه وقد قيل عن ابن عباس في قوله

تعالى إلا أن تغمضوا فيه إلا أن تحطوا من الثمن وعن الحسن وقتادة مثله وقال البراء ابن عازب إلا أن تتساهلوا فيه وقيل لستم بآخذيه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة هذه الوجوه كلها محتملة وجائز أن يكون جميعها مراد الله تعالى بأنهم لا يقبلونه في الهدية إلا بإغماض ولا يقبضونه من الجيد إلا بتساهل ومسامحة ولا يبيعون بمثله إلا بحبط ووكس وقد اختلف أصحابنا فيمن أدى من المكيل والموزون دون الواجب في الصفة فأدى عن الجيد رديا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يجب عليه أداء الفضل وقال محمد عليه أن يؤدي الفضل الذي بينهما وقالوا جميعا في الغنم والبقر وجميع الصدقات مما لا يكال ولا يوزن أن عليه أدار الفضل فيجوز أن يحتج لمحمد بهذه الآية وقوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون والمراد به الرديء منه وقوله تعالى ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ولصاحب الحق أن لا يغمض فيه ولا يتساهل ويطالب بحقه من الجودة فهذا يدل على أن عليه أداء الفضل حتى لا يقع في إغماض لأن الحق في ذلك لله تعالى وقد نفى الإغماض في الصدقة بنهيه عن عطاء الردي فيها وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فإنهما قالا كل مالا يجوز التفاضل فيه فإن الجيد والردي حكمهما سواء في حظر التفاضل بينهما وإن قيمته من جنسه لا يكون إلا بمثله ألا ترى أنه لو اقتضى دينا على أنه جيد فأنفقه ثم علم أنه كان رديا أنه لا يرجع على الغريم بشيء وأن ما بينهما من الفضل لا يغرمه وإنما يقول أبو يوسف فيه أنه يغرم مثل ما قبض من الغريم ويرجع بدينه وغير ممكن مثله في الصدقة لأن الفقير لا يغرم شيئا فلو غرمه لم تكن له مطالبة المتصدق برد الجيد عليه فلذلك لم يلزمه إعطاء الفضل وإنما نهى الله تعالى المتصدق عن قصد الردي بالإخراج وقد وجب إخراج الجيد فإنهم يقولون إنه منهي عنه ولكن لما كان حكم ما أعطي حكم الديد فيما وصفنا أجزأ عنه وأما ما يجوز فيه التفاضل فإنه مأمور بإخراج الفضل فيه لأنه جائز أن تكون قيمته من جنسه أكثر منه ويباع بعضه ببعض متفاضلا وأما محمد فإنه لم يجز إخراج الردي من الجيد إلا بمقدار قيمته منه فأوجب عليه إخراج الفضل إذ ليس بين العبد وبين سيده ربا وفي هذه الآية دلالة على جواز اقتضاء الردي عن الجيد في سائر الديون لأن الله تعالى أجاز الإغماض في الديون بقوله تعالى إلا أن تغمضوا فيه ولم يفرق بين شيء منه فدل ذلك على معان منها جواز اقتضاء الزيوف التي أقلها غش وأكثرها

فضة عن الجياد في رأس مال السلم وثمن الصرف اللذين لا يجوز أن يأخذ عنهما غيرهما ودل على أن حكم الردي في ذلك حكم الجيد وهذا يدل أيضا على جواز بيع الفضة الجيدة بالردية وزنا بوزن لأن ما جاز اقتضاء بعضه عن بعض جاز بيعه به ويدل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم - الذهب بالذهب مثلا بمثل إنما أراد المماثلة في الوزن لافي الصفة وكذلك سائر ما ذكره معه ويدل على جواز اقتضاء الجيد عن الردي برضا الغريم كما جاز اقتضاء الردي عن الجيد إذ لم يكن لاختلافهما في الصفة حكم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - خيركم أحسنكم قضاء قال جابر بن عبدالله قضاني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وزادني وروي عن ابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي قالوا لا بأس إذا أقرضه دراهم سودا أن يقبضه بيضا إذا لم يشرط ذلك عليه وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أنه كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيرا منها وهذا ليس فيه دلالة على أنه كرهه إذا رضي المستقرض وإنما لا يجوز له أن يأخذ خيرا منها إذا لم يرض صاحبه قوله تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء قد قيل إن الفحشاء تقع على وجوه والمراد بها في هذا الموضع البخل والعرب تسمي البخيل فاحشا والبخل فحشا وفحشا قال الشاعر ... أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ...
يعني مال البخيل وفي هذه الآية ذم البخيل والبخل قوله عز و جل إن تبدوا الصدقات فنعما هي الآية روي عن ابن عباس أنه قال هذا في صدقة التطوع فأما في الفريضة فإظهارها أفضل لئلا تلحقه تهمة وعن الحسن ويزيد بن أبي حبيب وقتادة الإخفاء في جميع الصدقات أفضل وقد مدح الله تعالى على إظهار الصدقة كما مدح على اخفائها في قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم وجائز أن يكون قوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم في صدقة التطوع على ما روي عن ابن عباس وجائز أن يكون في جميع الصدقات الموكول أداؤها إلى أربابها من نفل أو فرض دون ما كان منها أخذه إلى الإمام إلا أن عموم اللفظ يقتضي جميعها لأن الألف واللام هنا للجنس فهي شاملة لجميعها وهذا يدل على أن جميع الصدقات مصروفة إلى الفقراء وأنها انما تستحق بالفقر لا غير وأن ما ذكر الله تعالى من أصناف من تصرف إليهم الصدقة في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين إنما

يستحق منهم من يأخذها صدقة بالفقر دون غيره وإنما ذكر الأصناف لما يعمهم من أسباب الفقر دون من لا يأخذها صدقة من المؤلفة قلوبهم والعاملين عليها فإنهم لا يأخذونها صدقة وإنما تحصل في يد الإمام صدقة للفقراء ثم يصرف إلى المؤلفة قلوبهم والعاملين ما يعطون على أنه ليس بصدقة لكن عوضا من العمل ولدفع أذيتهم عن أهل الإسلام أو ليستمالوا به إلى الإيمان ومن المخالفين من يحتج بذلك في جواز إعطاء جميع الصدقات للفقراء دون الإمام وأنهم إذا أعطوا الفقراء صدقة المواشي سقط حق الإمام في الأخذ لقوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وذلك عام في سائرها لأن الصدقة ههنا اسم للجنس وليس في هذا عندنا دلالة على ما ذكروا لأن أكثر ما فيه أنه خير للمعطى فليس فيه سقوط حق الإمام في الأخذ وليس كونها خيرا له نافيا لثبوت حق الإمام في الأخذ إذ لا يمتنع أن يكون خيرا لهم ويأخذها الإمام فيتضاعف الخير بأخذها ثانيا وقد قدمنا قول من يقول إن هذا في صدقة التطوع ومن أهل العلم من يقول إن الإجماع قد حصل على أن إظهار صدقة الفرض أولى من إخفائها كما قالوا في الصلوات المفروضة ولذلك أمروا بالاجتماع عليها في الجماعات بأذان وإقامة وليصلوها ظاهرين فكذلك سائر الفروض لئلا يقيم نفسه مقام تهمة في ترك أداء الزكاة وفعل الصلاة قالوا فهذا يوجب أن يكون قوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم في التطوع خاصة لأن ستر الطاعات النوافل أفضل من إظهارها لأنه أبعد من الرياء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه
قال سبعة يظلهم الله في ظل عرشه أحدهم رجل تصدق بصدقة لم تعلم شماله ما تصدقت به يمينه وهذا إنما هو في التطوع دون الفرض ويدل على أن المراد صدقة التطوع أنه لا خلاف أن العامل إذا جاء قبل أن تؤدى صدقة المواشي فطالبه بأدائها أن الفرض عليه أداؤها إليه فصار إظهار أدائها في هذه الحال فرضا وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء صدقة التطوع والله تعالى أعلم بالصواب
باب إعطاء المشرك من الصدقة
قال الله تعالى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم قال أبو بكر ما تقدم في هذا الخطاب وما جاء في نسقه يدل على أن قوله تعالى

ليس عليك هداهم إنما معناه في الصدقة عليهم لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى إن تبدوا الصدقات فنعما هي ثم عطف عليه قوله تعالى ليس عليك هداهم ثم عقب ذلك بقوله تعالى وما تنفقوا من خير فلأنفسكم فدل ما تقدم من الخطاب في ذلك وتأخر عنه من ذكر الصدقة أن المراد إباحة الصدقة عليهم وإن لم يكونوا على دين الإسلام وقد روى ذلك عن جماعة من السلف روي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فأنزل الله ليس عليك هداهم فقال ص - تصدقوا على أهل الأديان وروى الحجاج عن سالم المكي عن ابن الحنفية قال كره الناس أن يتصدقوا على المشركين فأنزل الله ليس عليك هداهم فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة قال أبو بكر لا ندري هذا من كلام من هو أعني قوله فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة وجائز أن يريد به من غير الزكاة وصدقات المواشي دون كفارات الأيمان ونحوها وأيضا قوله فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة لا يوجب تخصيص الآية لأن فعلهم لا يقتضي الوجوب ومع ذلك فهم مخيرون بين أن يتصدقوا عليهم وبين أن لا يتصدقوا وروى الأعمش عن جعفر بن أياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان ناس لهم أنساب وقرابة من قريظة والنضير فكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم على الإسلام فنزلت ليس عليك هداهم إلى آخر الآية وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء قالت أتتني أمي في عهد قريش راغبة وهي مشركة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم - أصلها قال نعم قال أبو بكر ونظير هذه الآية في دلالتها على ما دلت عليه قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فروي عن الحسن قال هم الأسراء من أهل الشرك وروي عن سعيد بن جبير وعطاء قال هم أهل القبلة وغيرهم قال أبو بكر الأول أظهر لأن الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا ونظيرها أيضا قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إلى آخر القصة فأباح برهم وإن كانوا مشركين إذا لم يكونوا أهل حرب لنا والصدقات من البر فاقتضى جواز دفع الصدقات إليهم وظواهر هذه الآي توجب جواز دفع سائرها إليهم إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد خص منها الزكوات وصدقات المواشي وكل ما كان أخذه من الصدقات إلى الإمام بقوله أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم وقال لمعاذ أعلمهم

إن الله فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد على فقرائهم فكانت الصدقات التي أخذها إلى الإمام مخصوصة من هذه الجملة فلذلك قال أبو حنيفة كل صدقة ليس أخذها إلى الإمام فجائز إعطاؤها أهل الذمة وما كان أخذها إلى الإمام لا يعطى أهل الذمة فيجيز إعطاء الكفارات والنذور وصدقة الفطر أهل الذمة فإن قيل فزكاة المال ليس اخذها إلى الإمام ولا يجوز أن تعطى أهل الذمة قيل أخذها في الأصل إلى الإمام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - يأخذها وكذلك أبو بكر وعمر فلما كان عثمان قال للناس إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل أرباب الأموال وكلاء له في أدائها ولم يسقط في ذلك حق الإمام في أخذها وقال أبو يوسف كل صدقة واجبة فغير جائز دفعها إلى الكفار قياسا على الزكاة قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض الآية يعني والله أعلم النفقة المذكورة بديا والمراد بها الصدقة وروي عن مجاهد والسدي المراد فقراء المهاجرين وقوله تعالى أحصروا في سبيل الله قيل إنهم منعوا أنفسهم التصرف في التجارة خوف العدو من الكفار روي ذلك عن قتادة لأن الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة فإذا منعه العدو قيل أحصره وقوله تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يعني والله أعلم الجاهل بحالهم وهذا يدل على أن ظاهر هيئتهم وبزتهم يشبه حال الأغنياء ولولا ذلك لما ظنهم الجاهل أغنياء لأن ما يظهر من دلالة الفقر شيئان أحدهما بذاذة الهيئة ورثاثة الحال والآخر المسألة على أنه فقير فليس يكاد يحسبهم الجاهل أغنياء إلا لما يظهر له من حسن البزة الدالة على الغنى في الظاهر وفي هذه الآية دلالة على أن من له ثياب الكسوة ذات قيمة كثيرة لا تمنعه إعطاء الزكاة لأن الله تعالى قد أمرنا بإعطاء الزكاة من ظاهر حاله مشبه لأحوال الأغنياء ويدل على أن الصحيح الجسم جائز أن يعطى من الزكاة لأن الله تعالى أمر بإعطاء هؤلاء القوم وكانوا من المهاجرين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم - المشركين ولم يكونوا مرضى ولا عميانا وقوله عز و جل تعرفهم بيسماهم فإن السيما العلامة قال مجاهد المراد به هنا التخشع وقال السدي والربيع بن أنس هو علامة الفقر وقال الله تعالى سيماهم في وجوههم من أثر السجود يعني علامتهم فجائز أن تكون العلامة المذكورة في قوله تعالى تعرفهم بسيماهم ما يظهر في وجه الإنسان من كسوف

البال وسوء الحال وإن كانت بزتهم وثيابهم وظاهر هيئتهم حسنة جميلة وجائز أن يكون الله تعالى قد جعل لنبيه علما يستدل به إذا رآهم عليه على فقرهم وإن كنا لا نعرف ذلك مهم إلا بظهور المسألة منهم أو بما يظهر من بذاذة هيئتهم وهذا يدل على أن لما يظهر ذلك عليه وقد اعتبر أصحابنا ذلك في الميت في دار الإسلام أو في دار الحرب إذا لم يعرف أمره قبل ذلك في إسلام أو كفر أنه ينظر إلى سيماه فإن كانت عليه سيما أهل الكفر من شد زنار أو عدم ختان وترك الشعر على حسب ما يفعله رهبان النصارى حكم له بحكم الكفار ولم يدفن في مقابر المسلمين ولم يصل عليه وإن كان عليه سيما أهل الإسلام حكم له بحكم المسلمين في الصلاة والدفن وإن لم يظهر عليه شيء ن ذلك فإن كان في مصر من الأمصار التي للمسلمين فهو مسلم وإن كان في دار الحرب فمحكوم له بحكم الكفر فجعلوا اعتبار سيماه بنفسه أولى منه بموضعه الموجود فيه فإذا عدمنا السيما حكمنا له بحكم أهل الموضع وكذلك اعتبروا في اللقيط ونظيره أيضا قوله تعالى إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فاعتبر العلامة ومن نحوه قوله تعالى ولتعرفنهم في لحن القول وأخوة يوسف عليه السلام لطخوا قميصه بدم وجعلوه علامة لصدقهم قال الله تعالى وجاؤا على قميصه بدم كذب وقوله تعالى لا يسألون الناس إلحافا يعني والله أعلم إلحاحا وإدامة للمسألة لأن إلحاف المسألة هو الاستقصاء فيها وإدامتها وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة فإن قيل فإنما قال الله عز و جل لا يسألون الناس إلحافا فنفى عنهم الإلحاف في المسألة ولم ينف عنهم المسألة رأسا قيل له في فحوى الآية ومضمون المخاطبة ما يدل على نفي المسألة رأسا وهو قوله تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فلو كانوا أظهروا المسألة وإن لم تكن إلحافا لما حسبهم أغنياء وكذلك قوله تعالى من التعفف لأن التعفف هو القناعة وترك المسألة فدل ذلك على وصفهم بترك المسألة أصلا ويدل على أن التعفف هو ترك المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم - من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله وإذا ثبت بما ذكرنا من دلالة الآي أن ثياب الكسوة لا تمنع الزكاة وإن كانت سرية وجب أن يكون كذلك حكم المسكن والأثاث والفرس والخادم لعموم الحاجة إليه فإذا كانت الحاجة إلى هذه الأشياء حاجة ماسة فهو غير غني بها لأن الغنى هو ما فضل

عن مقدار الحاجة واختلف الفقهاء في مقدار ما يصير به غنيا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا فضل عن مسكنه وكسوته وأثاثه وخادمه وفرسه ما يساوي مائتي درهم لم تحل له الزكاة وإن كان أقل من مائتي درهم حلت له الزكاة وقال مالك في رواية ابن القاسم يعطي من الزكاة من له أربعون درهما وروى غيره عن مالك أنه لا يعطي من له أربعون درهما وقال الثوري والحسن بن صالح لا يأخذ الزكاة من له خمسون درهما وقال عبدالله بن الحسن من لا يكون عنده ما يقوته أو يكفيه سنة فإنه يعطى من الصدقة وقال الشافعي يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى الغنى كان ذلك تجب فيه الزكاة أو لا تجب ولا أجد في ذلك حدا ذكره المزني والربيع وحكى عنه أنها لا تحل للقوي المكتسب وإن كان فقيرا والدليل على صحة ما ذكرنا من اعتبار مائتي درهم فاضلا عما يحتاج إليه ما روى عبدالحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول من استغنى أغناه الله ومن استعفف أعفه الله ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافا فدل ذكره لهذا المقدار أنه هو الذي يخرج به من حد الفقر إلى الغنى ويوجب تحريم المسألة ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم ثم قال في مائتي درهم خمسة دارهم وليس فيما دونها شيء فجعل حد الغني مائتي درهم فوجب اعتبارها دون غيرها ودل أيضا على أن الذي لا يملك هذا القدر يعطى من الزكاة لأنه ص - جعل الناس صنفين أغنياء وفقراء فجعل الغني من ملك هذا المقدار وأمر بأخذ الزكاة منه وجعل الفقير الذي يرد عليه هو الذي لا يملك هذا القدر وقد روى أبو كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم قلت يا رسول الله ما ظهر غناه قال أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم وقد روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وسمعته يقول لرجل من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية يومئذ أربعون درهما وروى محمد بن عبدالرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة قيل يا رسول الله وما غناه قال خمسون درهما أو حسابها من الذهب وهذه واردة في

كراهة المسألة ولا دلالة فيها على تحريم الصدقة عليه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -
يستحب ترك المسألة لمن يملك ما يغديه ويعشيه إذ كان هناك من فقراء المسلمين وأهل الصفة من لا يقدر على غداء ولا عشاء فاختار النبي صلى الله عليه وسلم - لمن يملك هذا القدر الاقتصار على ما يملكه والتعفف بترك المسألة ليصل ذلك إلى من هو أحوج منه إليه لا على وجه التحريم ولما اتفق الجميع على أن سبيل استباحة الصدقة ليست سبيل الضرورة إلى الميتة إذ كانت الميتة لا تحل إلا عند الخوف على النفس والصدقة تحل بإجماع المسلمين لمن احتاج ولم يخف الموت إذا لم يكن عنده شيء فوجب أن يكون المبيح لها الفقر وأيضا لما كانت هذه الأخبار مختلفا في استعمال حكمها وهي في أنفسها مختلفة واتفق الجميع على استعمال الخبر الذي روينا في مائتي درهم وتحريم الصدقة معها وجب أن يكون ثابت الحكم وما عداه إما أن يكون على وجه الكراهة للمسألة أو منسوخة بخبرنا إن كان المراد بها تحريم الصدقة
باب
الربا قال الله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس إلى قوله وأحل الله البيع وحرم الربا قال أبو بكر أصل الربا في اللغة هو الزيادة ومنه الرابية لزيادتها على ما حواليها من الأرض ومنه الربوة من الأرض وهي المرتفعة ومنه قولهم أربى فلان على فلان في القول أو الفعل إذا زاد عليه وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الإسم موضوعا لها في اللغة ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم - سمى النساء ربا في حديث أسامة بن زيد فقال إنما الربا في النسيئة وقال عمر بن الخطاب إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن يعني الحيوان وقال عمر أيضا إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وأن النبي صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالما بأسماء اللغة لأنه من أهلها ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء ربا وهو ربا في الشرع وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة فهو مفتقر إلى البيان ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع

بذلك وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم - كثيرا من مراد الله بالآية نصا وتوفيقا ومنه ما بينه دليلا فلم يخل مراد الله من أن يكون معلوما عند أهل العلم بالتوقيف والإستدلال والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض والدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلا من جنس واحد هذا كان المتعارف المشهور بينهم ولذلك
قال الله تعالى وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض وقال تعالى لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا أخر من البياعات وسماها ربا فانتظم قوله تعالى وحرم الربا تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة واسم الربا في الشرع يعتوره معان أحدها الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية والثاني التفاضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون على قول أصحابنا ومالك بن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مقتاتا مدخرا والشافعي يعتبر الأكل مع الجنس فصار الجنس معتبرا عند الجميع فيما يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه على ما قدمنا والثالث النساء وهو على ضروب منها في الجنس الواحد من كل شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض نساء سواء كان من المكيل أو من الموزون أو من غيره فلا يدون عندنا بيع ثوب مروي بثوب مروي نساء لوجود الجنس ومنها وجود المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل وهو الكيل والوزن في غير الأثمان التي هي الدراهم والدنانير فلو باع حنطة بجص نساء لم يجز لوجود الكيل ولو باع حديدا بصفر نساء لم يجز لوجود الوزن والله تعالى الموفق
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان
قال عمر رضي الله عنه إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا فعلم أنه قال ذلك توقيفا فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء والتفاضل على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء والدليل على ذلك قول النبي ص

الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا وذكر التمر والملح والذهب والفضة فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون ربا وقال ص - في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبدالرحمن بن عباس إنما الربا في النسيئة وفي بعض الألفاظ لا ربا إلا في النسيئة فثبت أن اسم ا لربا في الشرع يقع على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى وقد كان ابن عباس يقول لا ربا إلا في النسيئة ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله قال جابر بن زيد رجع ابن عباس عن قوله في الصرف وعن قوله في المتعة وإنما معنى حديث أسامة النساء في الجنسين كما روي في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد وذكر الأصناف الستة ثم قال بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد وفي بعض الأخبار وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا ومن الربا المراد بالآية شرى ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن ةإسحاق عن أبيه عن أبي العالية قال كنت عند عائشة فقالت لها امرأة إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمان مائة درهم وأنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة فقالت بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب فقالت يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي فقالت فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله فدلت تلاوتها الآية الربا عند قولها أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي إن ذلك كان عندها من الربا وهذه التسمية طريقها التوقيف وقد روى ابن المبارك عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال سألته عن رجل إلي باع طعاما من رجل أجل فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه فقال هو ربا ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول إذ لا خلاف أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائز فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا وقد روي النهي عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم والشعبي وقال الحسن وابن سيرين في آخرين إن باعه بنقد جاز أن يشتريه فإن كان باعه بنسيئة لم

يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل وروي عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز ولم يذكر فيه قبض الثمن وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن فدل قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة فلا يسمى به إلا من طريق الشرع وأسماء الشرع توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم - والله أعلم بالصواب
ومن أبواب الربا الدين بالدين
وقد روى موسى بن عبيدة عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الكالئ بالكالئ وفي بعض الألفاظ عن الدين بالدين وهما سواء وقال في حديث أسامة بن زيد إنما الربا في النسيئة إلا أنه في ا لعقد عن الدين بالدين وأنه معفو عنه بمقدار المجلس لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة وهما دين بدين إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائز وهما دينان وإن افترقا قبل التقابض بطل
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه
الرجل يكون عليه ألف درهم دين مؤجل فيصالحه منه على خمس مائة حالة فلا يجوز وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال سألت ابن عمر يكون لي على الرجل الدين إلى أجل فأقول عجل لي وأضع عنك فقال هو ربا وروي عن زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي لا بأس بذلك والذي يدل على بطلان ذلك شيئان أحدهما تسمية ابن عمر إياه ربا وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف والثاني أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل فأبطله الله تعالى وحرمه وقال وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم وقال تعالى وذروا ما بقي من الربا حظر أن يؤخذ للأجل عوض فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحط بحذاء الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له أجلني وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز لأن المائة

عوض من الأجل كذلك الحط في معنى الزيادة إذ جعله عوضا من الأجل وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم أن الشرط الثاني باطل فإن خاطه غدا فله أجر مثله لأنه جعل الحط بحذاء الأجل والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه لأنه بمنزلة بيع الأجل على النحو الذي بيناه ومن أجاز من السلف إذا قال عجل لي وأضع عنك فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ويعجب الآخر الباقي بغير شرط وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم -
في الأصناف الستة وإن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله ص - وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد وقوله إنما الربا في النسيئة وإن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله إنما الربا في النسيئة وقوله إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد وتسمية عمر إياه ربا وشرى ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا وشرط التعجيل مع الحط وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - من جهات كثيرة وهو عندنا في حيز التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم يجب اعتباره في غيره واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما سلف من هذا الباب وإن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة وقد قال قوم هم شذوذ عندنا لا يعدون خلافا أن حكم تحريم التفاضل مقصور على الأصناف التي ورد فيها التوقيف دون تحريم غيرها ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل والوزن دلائل من الأثر والنظر وقد ذكرناها في مواضع ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون وبالكيل في المكيل فدل ذلك على أن الاعتبار في التحريم الكيل والوزن مضموما إلى الجنس ومما يحتج به المخالف من الآية على اعتبار الأكل قوله عز و جل الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وقوله تعالى لا تأكلوا الربا فأطلق اسم الربا على المأكول قالوا فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول وهذا عندنا لا يدل

على ما قالوا من وجوه أحدها ما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى البيان فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله والثاني أن أكثر ما فيه إثبات الربا في مأكول وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا ونحن قد أثبتنا الربا في كثير من المأكولات وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة الآية ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف والاتفاق على تحريك بيع ألف بألف ومائة كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان في المال وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة وجب أن لا يصح الأجل في القرض كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة إذ كان نقصان الأجل كنقصان الوزن وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن وتارة من جهة نقصان الأجل وجب أن يكون القرض كذلك فإن قال قائل ليس القرض في ذلك كالبيع لأنه يجوز له مفارقته في القرض قبل قبض البدل ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف قيل له إنما يكون الأجل نقصانا إذا كان مشروطا فأما إذا لم يكن مشروطا فإن ترك القبض لا يوجب نقصا في أحد المالين وإنما بطل البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن الآخر ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان والصنف الواحد في وجوب التقابض في المجلس أعني الذهب بالفضة مع جواز التفاضل فيهما فعلمنا أن الموجب لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب للنقصان في غير المقبوض ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم ولم يقبض ثمنه سنين جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة ولو كان باعه بألف إلى شهر ثم حل الأجل لم يكن للمشتري بيعه مرابحة بألف حالة حتى يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل فدل ذلك على أن الأجل المشروط في العقد يوجب نقصا في الثمن ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم فإذا كان كذلك فالتشبيه بين القرض والبيع من الوجه الذي ذكرنا صحيح لا يعترض عليه هذا السؤال ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم - إنما الربا في النسيئة ولم يفرق بين البيع والقرض فهو على الجميع ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا لا يصح إلا مقبوضا أشبه الهبة فلا يصح فيه التأجيل كما لا يصح في الهبة وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم - التأجيل فيها بقوله من أعمر عمري فهي له ولورثته من بعبده فأبطل التأجيل المشروط في الملك وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها وعاريتها قرضها لأنها تمليك المنافع إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها ولذلك قال أصحابنا إذا

أعاره دراهم فإن ذلك قرض ولذلك لم يجيزوا استيجار الدراهم لأنها قرض فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض ومما يدل على أن قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - تدرون أي الصدقة خير قالوا الله ورسوله أعلم قال خير الصدقة المنحة أن تمنح أخاك الدراهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة والمنحة هي العارية فجعل قرض الدراهم عاريتها ألا ترى إلى
قوله في حديث آخر والمنحة مردودة فلما لم يصح التأجيل في العارية لم يصح في القرض وأجاز الشافعي التأجيل في القرض وبالله التوفيق ومنه الإعانة
باب البيع
قوله عز و جل وأحل الله البيع عموم في إباحة سائر البياعات لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيحاب وقبول عن تراض منهما وهذا هو حقيقة البيع في مفهوم اللسان ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد به الخصوص لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات نحو بيع مالم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات وإنما خصت منها بدلائل إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف لقوله تعالى وأحل الله البيع والبيع اسم للإيجاب والقبول وليست حقيقته وقوع الملك به للعاقد ألا ترى أن البيع المعقود على شرط خيار المتبايعين لم يوجب ملكا وهو بيع والوكيلان يتعاقدان البيع ولا يملكان وقوله تعالى وحرم الربا حكمه ما قدمناه من الإجمال والوقف على ورود البيان فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض وفي سياق الآية ما أوجب تخصيص ما هو ربا من البياعات من عموم قوله تعالى وأحل الله البيع وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملا أنه يوجب إجمال لفظ البيع وليس كذلك عندنا لأن مالا يسمى ربا من البياعات فحكم

العموم جار فيه وإنما يجب الوقوف فيما شككنا أنه ربا أو ليس بربا فأما ما تيقنا أنه ليس بربا فغير جائز الاعتراض عليه بآية تحريم الربا وقد بينا ذلك في أصول الفقه وأما قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا حكاية عن المعتقدين لإباحته من الكفار فزعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا وبين سائر الأرباح المكتسبة بضروب البياعات وجهلوا ما وضع الله أمر الشريعة عليه من مصالح الدين والدنيا فذمهم الله على جهلهم وأخبر عن حالهم يوم القيامة وما يحل بهم من عقابه قوله تعالى وأحل الله البيع يحتج به في جواز بيع مالم يره المشتري ويحتج فيمن اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل بالافتراق قبل القبض وذلك لأنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع وحقوقه من القبض والتصرف والملك وما جرى مجرى ذلك فاقتضى ذلك بقاء هذه الأحكام مع ترك التقابض وهو كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم المراد تحريم الاستمتاع بهن ويحتج أيضا لذلك بقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم من وجهين أحدهما ما اقتضاه من إباحة الأكل قبل الافتراق وبعده من غير قبض والآخر إباحة أكله لمشتريه قبل قبض الآخر بعد الفرقة وأما قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله فالمعنى فيه أن من انزجر بعد النهي فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا ولم يرد به مالم يقبض لأنه قد ذكر في نسق التلاوة حظر ما لم يقبض منه وإبطاله بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فأبطل الله من الربا مالم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول التحريم ولم يتعقب بالفسخ ما كان منه مقبوضا بقوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وقد روي ذلك عن السدي وغيره من المفسرين وقال تعالى وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فأبطل منه ما بقي مما لم يقبض ولم يبطل المقبوض ثم قال تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم وهو تأكيد لإبطال مالم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ولا زيادة وروي عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة وقال جابر بعرفات إن كل ربا في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبدالمطلب فكان فعله ص - مواطئا لمعنى الآية في إبطال الله تعالى من الربا مالم يكن مقبوضا وإمضائه ما كان

مقبوضا وفيما روي في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم - ضروب من الأحكام أحدها أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه فهو كالموجود في حال وقوعه وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد لم يوجب فسخه وذلك نحو النصرانيين إذا تبايعا عبدا بخمر فالبيع جائز عندنا وإن أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل العقد وكذلك لو اشترى رجل مسلم صيدا ثم أحرم البائع أو المشتري بطل البيع لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل القبض كما أبطل الله تعالى من الربا مالم يقبض لأنه طرأ عليه ما يوجب تحريمه قبل القبض وإن كانت الخمر مقبوضة ثم اسلما أو أحرما لم يبطل البيع كما لم يبطل الله الربا المقبوض حين أنزل التحريم فهذا جائز في نظائره من المسائل ولا يلزم عليه أن يقتل العبد المبيع قبل القبض ولا يبطل البيع وللمشتري اتباع الجاني من قبل أنه لم يطرأ على العقد ما يوجب تحريم العقد لأن العقد باق على هيئته التي كان عليها والقيمة قائمة مقام المبيع وإنما يعتبر المبيع وللمشتري الخيار فحسب وفيها دلالة على أن هلاك المبيع في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد وهو قول أصحابنا والشافعي وقال مالك لا يبطل والثمن لازم للمشتي إذا لم يمنعه ودلالة الآية ظاهرة على أن قبض المبيع من تمام البيع وأن سقوط القبض يوجب بطلان العقد وذلك لأن الله تعالى لما أسقط قبض الربا أبطل العقد الذي عقداه وأمر بالاقتصار على رأس المال فدل ذلك على أن قبض المبيع من شرائط صحة العقد وأنه متى طرأ على العقد ما يسقطه أوجب ذلك بطلانه وفيها الدلالة على أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ وإن كانت معقودة على فساد لأنه معلوم أنه قد كان بين نزول الآية وبين خطبة النبي صلى الله عليه وسلم - بمكة ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا وقوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف يدل على ذلك أيضا لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الإسلام وقد قيل إن معنى قوله تعالى فله ما سلف من ذنوبه على معنى أن الله يغفرها له وليس هذا كذلك لأن الله تعالى قد قال وأمره إلى الله يعني فيما يستحقه من عقاب أو ثواب

فلم يعلمنا حكمه في الآخرة ومن جهة أخرى أنه لو ان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا فيكون على الأمرين جميعا لاحتماله لهما فيغفر الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل إسلامه وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد التقابض فيها لقوله تعالى فله ما سلف وأمره إلى الله قوله عز و جل يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله قال أبو بكر يحتمل ذلك معنيين أحدهما إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادوا له والثاني إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن اعتقدوا تحريمه وقد روي عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أربى أن الإمام يستتيبه فإن تاب وإلا قتله وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له لأنه لا خلاف بنين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه وقوله وتعالى فأذنوا بحرب من الله ورسوله لا يوجب إكفارهم لأن ذلك قد يطلق على ما دون الكفر من المعاصي قال زيد بن اسلم عن أبيه أن عمر رأى معاذا يبكي فقال ما يبكيك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم وقال تعالى إنما جزاء الذين يحاربون ا لله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة وأن هذه السمة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها وإن كانت دون الكفر وقوله تعالى فأذنوا بحرب من الله ورسوله أخبار منه بعظم معصية وأنه يستحق بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافرا وكان ممتنعا على الإمام فإن لم يكن ممتنعا عاقبه الإمام بمقدار ما يستحقه من التعزير والردع وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها وإن كان ممتنعا حورب عليها هو ومتبعوه وقوتلوا حتى ينتهوا وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من المتسلطين الظلمة وآخذي الضرائب واجب على كل المسلمين قتالهم وقتلهم إذا كانوا

ممتنعين وهؤلاء أعظم جرما من آكلي ا لربا لانتهاكهم حرمة النهي وحرمة المسلمين جميعا وآكل الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في أخذ الربا ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمة لأنه أعطاه بطيبة نفسه وآخذوا الضرائب في معنى قطاع الطريق المنتهكين لحرمة نهي الله تعالى وحرمة المسلمين إذ كانوا يأخذونه جبرا وقهرا لا على تأويل ولا شبهة فجائز لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قتلهم وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين بهم يقومون على أخذ الأموال وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين أحدهما الكفر والآخر منع الزكاة وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها فانتظموا به معنيين أحدهما الامتناع من قبول أمر الله تعالى وذلك كفر والآخر الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام فكان قتاله إياهم للأمرين جميعا ولذلك قال لو منعوني عقالا وفي بعض الأخبار عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه فإنما قلنا أنهم كانوا كفارا ممتنعين من قبول فرض الزكاة لأن الصحابة سموهم أهل الردة وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا هذا وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم ولو لم يكونوا مرتدين لما سار فيهم هذه السيرة وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول ولا من بعدهم من المسلمين أعني في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل الردة فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر وإن كان ممتنعا بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غر مستحلين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل نجران وكانوا ذمة نصارى إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله وروى أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني أيوب الدمشقي قال حدثني سعدان بن يحيى عن عبدالله بن أبي حميد عن أبي مليح الهذلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صالح أهل نجران فكتب كتابا في آخره على أن لا تأكلوا الربا فمن أكل الربا فذمتي منه بريئة فقوله تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله عقيب قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا هو عائد عليهما جميعا من رد الأمر على حاله ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر

فمن رد الأمر قوتل على الردة ومن قبل الأمر وفعله محرما له قوتل على تركه إن كان ممتنعا ولا يكون مرتدا وإن لم يكن ممتنعا عزر بالحبس والضرب على ما يرى الإمام وقوله تعالى فأذنوا بحرب من الله ورسوله إعلام بأنهم إن لم يفعلوا ما أمروا به في هذه الآية فهم محاربون الله ورسوله وذلك أخبار منه بمقدار عظم الجرم وأنهم يستحقون به هذه السمة وهي أن يسموا محاربين الله ورسوله وهذه السمة يعتورها معنيان أحدهما الكفر إذا كان مستحلا والآخر الإقامة على أكل الربا مع اعتقاد التحريم على ما بينا ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم ويكون إيذانا لهم بالحرب حتى لا يؤتوا على غرة قبل العلم بها كقوله تعالى وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين فإذا حمل على هذا الوجه كان الخطاب بذلك متوجا إليهم إذا كانوا ذوي منعة وإذا حملناه على الوجه الأول دخل كل واحد من فاعلي ذلك في الخطاب وتناوله الحكم المذكور فيه فهو أولى قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فيه تأويلان أحدهما وإن كان ذو عسرة غريما لكم فنظرة إلى ميسرة والثاني على أن المكتفية باسمها على معنى وإن وقع ذو عسرة أو إن وجد ذو عسرة كقول الشاعر ... فدى لبني شيبان رحلي وناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ... معناه إذا وجد يوم كذلك وقد اختلف في معنى قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فروي عن ابن عباس وشريح وإبراهيم أنه في الربا خاصة وكان شريح يحبس المعسر في غيره من الديون وروي عن إبراهيم والحسن والربيع بن خيثم والضحاك أنه في سائر الديون وروي عن ابن عباس رواية أخرى مثل ذلك وقال آخرون إن الذي في الآية إنظار المعسر في الربا وسائر الديون في حكمه قياسا عليه قال أبو بكر لما كان قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة محتملا أن يكون شاملا لسائر الديون على ما بينا من وجه الاحتمال ولتأويل من تأوله من السلف على ذلك إذ غير جائز أن يكونوا تأولوه على مالا احتمال فيه وجب حمله على العموم وأن لا يقتصر به على الربا إلا بدلالة لما فيه من تخصيص لفظ العموم من غير دلالة فإن قيل لما كان قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وكان متضمنا لما

قبله وجب أن يكون حكمه مقصورا عليه قيل هو كلام مكتف بنفسه لما في فحواه من الدلالة على معناه وذلك لأن ذكر الإعسار والإنظار قد دل على دين تجب المطالبة به والإنظار لا يكون إلا في حق قد ثبت وجوبه وصحت المطالبة به إما عاجلا وإما آجلا فإذا كان في مضمون اللفظ دلالة على دين يتعلق به في حكم الإنظار إذا كان ذو عسرة كان اللفظ مكتفيا بنفسه ووجب اعتباره على عمومه ولم يجب الاقتصار به على الربا دون غيره وزعم بعض الناس ممن نصر هذا القول الذي ذكرناه أن هذا لا يجوز أن يكون في الربا لأن الله تعالى قد أبطله فكيف يكون منظرا به قال فالواجب أن تكون ا لآية عامة في سائر الديون وهذا الحجاج ليس بشيء لأن الله تعالى إنما أبطل الربا وهو الزيادة المشروطة ولم يبطل رأس المال لأنه قال وذروا ما بقي من الربا والربا هو الزيادة ثم قال وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم ثم عقب ذلك بقوله وإن كان ذو عسرة يعني سائر الديون ورأس المال أحدها وإبطال ما بقي من الربا لم يبطل رأس المال بل هو دين عليه يجب أداؤه فإن قيل إذا كان الإنظار مأمورا به في رأس المال فهو وسائر الديون عليه سواء قيل له إنما كلامنا فيما شمله العموم من حكم الآية فإن كان ذلك في رأس مال الربا فلم يتناول غيره من طريق النص وإنما يتناوله من جهة العموم للمعنى فيحتاج حينئذ إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ورده إلى المذكور في الآية بمعنى يجمعهما وليس الكلام بينك وبين الخصم من جهة القياس وإنما اختلفتما في عموم الآية وخصوصها والكلام في القياس ورد غير المذكور إلى المذكور مسألة أخرى
وقوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدين على الدين وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه لأنه تعالى جعل اقتضاؤه ومطالبته من غير شرط رضى المطلوب وهذا يوجب أن من له على غيره دين فطالبه به فله أخذه منه شاء أم أبى وبهذا المعنى ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - حين قالت له هند إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف فأباح لها أخذ ما استحقته على أبي سفيان من النفقة من غير رضى أبي سفيان وفي الآية دلالة على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالما ودلالتها على ذلك من وجهين أحدهما قوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم فجعل له المطالبة

برأس المال وقد تضمن ذلك أمر الذي عليه الدين بقضائه وترك الامتناع من أدائه فإنه متى امتنع منه كان له ظالما ولاسم الظلم مستحقا وإذا كان كذلك استحق العقوبة وهي الحبس والوجه الآخر من الدلالة عليه قوله تعالى في نسق التلاوة لا تظلمون ولا تظلمون يعني والله أعلم لا تظلمون بأخذ الزيادة ولا تظلمون بالنقصان من رأس المال فدل ذلك على أنه متى امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالما له مستحقا للعقوبة واتفق الجميع على أنه لا يستحق العقوبة بالضرب فوجب أن يكون حبسا لاتفاق الجميع على أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثل ما دلت عليه الآية وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال حدثنا عبدالله بن المبارك عن وبر بن أبي دليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لي الواجد يحل عرضه وعقوبته قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس وروى ابن عمر وجابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال مطل الغني ظلم وإذا أحيل أحدكم على ملئ فليحتل فجعل مطل الغني ظلما والظالم لا محالة مستحق العقوبة وهي الحبس لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا معاذ بن أسد قال أخبرنا النضر بن شميل قال أخبرنا هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - بغريم لي فقال لي الزمه ثم قال يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك وهذا يدل على أن له حبس الغريم لأن الأسير يحبس فلما سماه أسيرا له دل على أن له حبسه وكذلك قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والمراد بالعقوبة هنا الحبس لأن أحدا لا يوجب غيره واختلف الفقهاء في الحال التي توجب الحبس فقال أصحابنا إذا ثبت عليه شيء من الديون من أي وجه ثبت فإنه يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسئل عنه فإن كان موسرا تركه في الحبس أبدا حتى يقضيه وإن كان معسرا أخلى سبيله وذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة أن المطلوب إذا قال إني معسر وأقام البينة على ذلك أو قال فسل عني فلا يسأل عنه أحدا وحبسه شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه إلا أن يكون معروفا بالعسر فلا يحبسه وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران قال كان متأخروا أصحابنا منهم محمد بن شجاع يقولون إن كل دين كان أصله من مال وقع في يدي المدين كأثمان البياعات والعروض ونحوها فإنه

يحبسه به وما لم يكن أصله من مال وقع في يده مثل المهر والجعل من الخلع والصلح من دم العمد والكفالة لم يحبسه به حتى يثبت وجوده وملاؤه وقال ابن أبي ليلى بحبسه في الديون إذا أخبر أن عنده مالا وقال مالك لا يحبس الحر ولا العبد في الدين ولا يستبرأ أمره فإن اتهم أنه قد خبأ مالا حبسه وإن لم يجد له شيئا لم يحبسه وخلاه وقال الحسن بن حي إذا كان موسرا حبس وإن كان معسرا لم يحبس وقال الشافعي إذا ثبت عليه دين بيع ما ظهر ودفع ولم يحبس فإن لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من ماله فإن ذكر عسره وقبلت منه البينة بقوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأحلفه مع ذلك بالله ومنع غرماءه من لزومه قال أبو بكر إنما قال أصحابنا إنه يحبسه في أول ما ثبت عند القاضي دينه لما دللنا عليه من الآية والأثر على كونه ظالما في الامتناع من قضاء ما ثبت عليه وإنه مستحق للعقوبة متى امتنع من أداء ما وجب عليه فالواجب بقاء العقوبة عليه حتى يثبت زوالها عنه بالإعسار فإن قيل إنما يكون ظالما إذا امتنع من أدائه مع الإمكان لأن الله تعالى لا يذمه على ما لم يقدره عليه ولم يمكنه منه ولذلك شرط النبي صلى الله عليه وسلم - الوجود في استحقاق العقوبة بقوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته وإذا كان شرط استحقاق العقوبة وجود المال الذي يمكنه أداؤه منه فغير جائز حبسه وعقوبته إلا بعد أن يثبت أنه واجد ممتنع من أداء ما وجب عليه وليس ثبوت الدين عليه علما لإمكان أدائه على الدوام إذ جائز أن يحدث الإعسار بعد ثبوت الدين قيل له أما لديون التي حصلت إبدالها في يده فقد علمنا يساره بأدائها يقينا ولم نعلم إعساره بها فوجب كونه باقيا على حكم اليسار والوجود حتى يثبت الإعسار وأما ما كان لزمه منها من غير بدل حصل في يده يمكنه أداؤه منه فإن دخوله في العقد الذي ألزمه ذلك اعتراف منه بلزوم أدائه وتوجه المطالبة عليه بقضائه ودعواه الإعسار به بمنزلة دعوى التأجيل للموسر فهو غير مصدق عليه ولذلك سوى أصحابنا بين الديون التي قد علم حصول إبدالها في يده وبين مالم تحصل في يده إذ كان دخوله في العقد الموجب عليه ذلك الدين اعترافا منه بلزوم الأداء وثبوت حق المطالبة للمطالب وذلك لأن كل متعاقدين دخلا في عقد فدخولهما فيه اعتراف منهما بلزوم موجب العقد من الحقوق وغير مصدق بعد العقد واحد منهما على نفي موجبه ومن أجل ذلك قلنا إن ذلك يقتضي اعترافا منهما بصحته إذ كان ذلك

مضمنا للزوم حقوقه وفي تصديقه على فساده نفي ما لزمه بظاهر العقد ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن مدعي الفساد منهما بعد وقوع العقد بينهما وصحته في الظاهر غير مصدق عليه وإن القول قول مدعي الصحة منهما وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن من ألزم نفسه دينا بعقد عقده على نفسه أنه يلزمه أداؤه محكوم عليه بأنه موسر به وغير مصدق على الإعسار المسقط عنه المطالبة كما لا يصدق على التأجيل بعد ثبوته عليه حالا وإنما قال أصحابنا أنه يحبسه في أول ما يرفعه إلى القاضي إذا طلب ذلك الطالب ولا يسئل عنه من قبل أنه توجهت عليه المطالبة بأدائه ومحكوم له باليسار في قضائه فالواجب أن يستبرئ أمره بديا إذ جائز أن يكون له مال قد خبأه لا يقف عليه غيره فلا يوقف بذلك على إعساره فينبغي له أن يحبسه استظهارا لما عسى أن يكون عنده إذ كان في الأغلب أنه إن كان عنده شيء آخر أضجره الحبس وألجأه إلى إخراجه فإذا حبسه هذه المدة فقد استظهر في الغالب فحينئذ يسئل عنه لأنه جائز أن يكون هناك من يعلم يساره سرا فإذا ثبت عنده إعساره خلاه من الحبس وقد روي عن شريح أنه كان يحبس المعسر في غير الربا من الديون فقال له معسر قد حبسه قال الله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فقال شريح إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها والله لا يأمرنا بشيء ثم يعذبنا عليه وقد قدمنا ذكر مذهب شريح في تأويل الآية وإن قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة مقصور على الربا دون غيره وإن غيره من الديون لا يختلف في الحبس فيها الموسر والمعسر ويشتبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الإعسار على الحقيقة إذ جائز أن يظهر الإعسار وحقيقة أمره اليسار فاقتصر بحكم الإنظار على رأس مال الربا الذي نزل به القرآن وحمل ما عداه على موجب عقد المداينة من لزوم القضاء وتوجه المطالبة عليه بالأداء وقد بينا وجه فساد هذا القول بما قد دللنا عليه من مقتضى عموم اللفظ لسائر الديون ومع ذلك فلو كان نص التنزيل واردا في الربا دون غيره لكان سائر الديون بمنزلته قياسا عليه إذ لا فرق في حال اليسار بينهما في صحة لزوم المطالبة بهما ووجوب أدائهما فوجب أن لا يختلفا في حال الأداء في سقوط الحبس فيها دونه فأما قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها واحتجاج شريح به في حبس المطلوب فإن الآية إنما هي في ا لأعيان الموجودة في يده لغيره فعليه أداؤه وأما الديون

المضمونة في ذمته فإنما المطالبة بها معلقة بإمكان أدائها فمن كان معسرا فإن الله لم يكلفه إلا ما في إمكانه قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا فإذا لم يكن مكلفا لأدائها لم يجز أن يحبس بها فإن قيل إن الدين من الأمانات لقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وإنما يريد به الدين المذكور في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه قيل له إن كان الدين مرادا بقوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فإن الأمر بذلك توجه إليه على شريطة الإمكان لما وصفنا من أن الله تعالى لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يتسع لفعله وهو محكوم له من ظاهر إعساره أنه غير قادر على أدائه ولم يكن شريح ولا أحد من السلف يخفى عليهم إن الله لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه بل كانوا عالمين بذلك ولكنه ذهب عندي والله أعلم إلى أنه لم يتيقن وجود ذلك ويجوز أن يكون قادرا على أدائه مع ظهور إعساره فلذلك حبسه
واختلفوا أهل العلم في الحاكم إذا ثبت عنده إعساره وأطلقه من الحبس هل يحول بين الطالب وبين لزومه فقال أصحابنا للطالب أن يلزمه وذكر ابن رستم عن محمد قال والملزوم في الدين لا يمنع من دخول منزله للغذاء والغائط والبول فإن أعطاه الذي يلزمه الغذاء وموضع الخلاء فله أن يمنعه من إتيان منزله وقال غيرهم منهم مالك والشافعي ليس له أن يلزمه وقال الليث بن سعد يؤاجر الحر المعسر فيقضي دينه من أجرته ولا نعلم أحدا قال بمثل قوله إلا الزهري فإن الليث بن سعد روى عن الزهري قال يؤاجر المعسر بما عليه من الدين حتى يقضي عنه والذي يدل على أن ظهور الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة والاقتضاء حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - اشترى من أعرابي بعيرا إلى أجل فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه فقال جئتنا وما عندنا شيء ولكن أقم حتى تأتي الصدقة فجعل الأعرابي يقول واغدراه فهم به عمر فقال ص - دعه فإن لصاحب الحق مقالا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ليس عنده شيء ولم يمنعه الاقتضاء وقال إن لصاحب الحق مقالا فدل ذلك على أن الإعسار بالدين غير مانع اقتضاءه ولزومه به وقوله أقم حتى تأتي الصدقة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما اشترى البعير للصدقة لا لنفسه لأنه لو كان اشتراه لنفسه لم يكن ليقضيه من إبل الصدقة لأنه لم يكن تحل له الصدقة فهذا يدل على أن

من اشترى لغيره يلزمه ثمن ما اشترى وإن حقوق العقد متعلقة به دون المشتري له لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يمنعه اقتضاءه ومطالبته به وهو في معنى الحديث الذي رواه أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم - استسلف بكرا ثم قضاه من إبل الصدقة لأن السلف كان دينا على مال الصدقة وروي في خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لصاحب الحق اليد واللسان رواه محمد بن الحسن وقال في اليد اللزوم وفي اللسان الاقتضاء وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا محمد بن إسحاق قال حدثنا امحمد بن يحيى قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير فقال له والله ما عندي شيء أقضيكه اليوم قال والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل يتحمل عنك قال والله ما عندي قضاء ولا أجد من يحتمل عني قال فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن هذا لزمني فاستنظرته شهرا واحدا فأبى حتى أقضيه وآتيه بحميل فقلت والله ما أجد حميلا ولا عندي قضاء اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هل تنظره شهرا واحدا قال لا قال أنا أحمل بها فتحمل بها رسول الله ص - فذهب الرجل فأتاه بقدر ما وعده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من أين أصبت هذا الذهب قال من معدن قال اذهب فلا حاجة لنا فيها ليس فيها خير فقضى عنه رسول الله وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يمنعه من لزومه مع حلفه بالله ما عنده قضاء وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال حدثنا عبدالله بن علي بن الجارود قال حدثنا إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة قال حدثنا ابن أبي عبيدة قال حدثنا أبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه تمرا كان عليه وشدد عليه الأعرابي حتى قال له أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره الصحابة فقالوا له ويحك أتدري من تكلم فقال لهم إني طالب حق فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم - هلا مع صاحب الحق كنتم ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها إن كان عندك تمر فاقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه فقال أوفيتنا أوفى الله لك فقال أولئك خيار الناس أنها لا قدست أمة لا يؤخذ للضعيف منها حقه غير متعتع فلم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم - ما يقضيه ولم ينكر على الأعرابي مطالبته واقتضاءه بذلك بل أنكر على الصحابة انتهارهم إياه وقال هلا مع صاحب الحق كنتم وهذا يوجب أن لا يكون منظرا بنفس الإعسار دون أن ينظره الطالب ويدل عليه

أيضا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن العباس المؤدب قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا عبدالوارث عن محمد بن جحادة عن ابن بريدة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من أنظر معسرا فله صدقة ومن أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة فقلت يا رسول الله سمعتك تقول من أنظر معسرا فله صدقة ثم سمعتك تقول له بكل يوم صدقة قال من أنظر معسرا قبل أن يحل الدين فله صدقة ومن أنظره إذا حل الدين فله بكل يوم صدقة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن علي بن عبدالملك بن السراج قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله الهروي قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا سعيد بن حجنة الأسدي قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت أنه سمع أبا اليسر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم لا ظل إلا ظله فقوله في الحديث الأول من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة يوجب أن لا يكون منظرا بنفس الإعسار دن إنظار الطالب إياه لأنه لو كان منظرا بغير إنظاره لما صح القول بأن من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة إذ غير جائز أن يستحق الثواب إلا على فعله فأما من قد صار منظرا بغير فعله فإنه يستحيل أن يستحق الثواب بالإنظار وحديث أبي اليسر يدل على ذلك أيضا من وجهين أحدهما ما أخبر عنه من استحقاق الثواب بإنظاره والثاني أنه جعل الإنظار بمنزلة الحط ومعلوم أن الحط لا يقع إلا بفعله فكذلك الإنظار وهذا كله يدل على أن قوله تعالى فنظرة إلى ميسرة ينصرف على أحد وجهين إما أن يكون وقوع الإنظار هو تخليته من الحبس وترك عقوبته إذ كان غير مستحق لها لأن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما جعل مطل الغني ظلما فإذا ثبت إعساره فهو غير ظالم بترك القضاء فأمر الله بإنظاره من الحبس فلا يوجب ذلك ترك لزومه أو أن يكون المراد الندب والإرشاد إلى إنظاره بترك لزومه ومطالبته فلا يكون منظرا إلا بنظرة الطالب بدلالة الأخبار التي أوردناها فإن قال قائل اللوزم بمنزلة الحبس لا فرق بينهما لأنه في الحالين ممنوع من التصرف قيل له ليس كذلك لأن اللزوم لا يمنعه التصرف فإنما معناه أن يكون معه من قبل الطالب من يراعي أمره في كسبه وما يستفيده فيترك له مقدار القوت ويأخذ الباقي قضاء من دينه وليس في ذلك إيجاب حبس ولا عقوبة وروى مروان بن معاوية قال حدثنا أبو مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الله يقول لعبد

من عباده ما عملت قال ما عملت لك كثير عمل أرجوك به من صلاة ولا صوم غير أنك كنت أعطيتني فضلا من مال فكنت أخالط الناس فأيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال الله عز و جل نحن أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي فغفر له فقال ابن مسعود هكذا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث أيضا يدل على مثل ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من أن الإنظار لا يقع بنفس الإعسار لأنه جمع بين إنظار المعسر والتيسير على الموسر وذلك كله مندوب إليه غير واجب واحتج من حال بينه وبين لزومه إذا أعسر وجعله منظرا بنفس الإعسار بما رواه الليث بن سعد عن بكير عن عياض بن عبدالله عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال ص -
تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله ص - خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك فاحتج القائل بما وصفنا بقوله ص - ليس لكم إلا ذلك وإن ذلك يقتضي نفي اللزوم فيقال له معلوم أنه لم يرد سقوط ديونهم لأنه لا خلاف أنه متى وجد كان الغرماء أحق بما فضل عن قوته وإذا لم ينف بذلك بقاء حقوقهم في ذمته فكذلك لا يمنع بقاء لزومهم له ليستوفوا ديونهم مما يكسبه فاضلا عن قوته وهذا هو معنى اللزوم لأنا لا نختلف في ثبوت حقوقهم فيما يكسبه في المستقبل فقد اقتضى ذلك ثبوت حق اللزوم لهم ولم ينتف ذلك بقوله ص - ليس لكم إلا ذلك كما لم ينتف بقاء حقوقهم فيما يستفيده وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخبار التي ذكرنا من إنظار المعسر وما ذكر من ترغيب الطالب في إنظاره يدل على جواز التأجيل في الديون الحالة الواجبة عن الغصوب والبيوع وزعم الشافعي أنه إذا كان حالا في الأصل لا يصح التأجيل به وذلك خلاف الآثار التي قدمنا لأنها قد اقتضت جواز تأجليه وبين ذلك حديث ابن بريدة فيمن أجل قبل أن يحل أو بعد ما حل وقد تقدم سنده وجدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن الشعبي عن سمعان عن سمرة بن جندب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال ههنا أحد من بني فلان فلم يجبه أحد ثم قال ههنا أحد من بني فلان فلم يجبه أحد ثم قال ههنا أحد من بني فلان فقام رجل فقال أنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين إني لم أنوه بكم إلا خيرا إن صاحبكم مأسور بدينه فلقد رأيته أدى عنه حتى

ما أحد يطالبه بشيء وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني سليمان بن داود المهري النهدي قال حدثنا وهب قال حدثني سعيد بن أبي أيوب أنه سمع أبا عبدالله القرشي يقول سمعت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري يقول عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه عبد بعد الكبائر التي نهاه الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء وفي هذين الحديثين دليل على أن المطالبة واللزوم لا يسقطان عن المعسر كما لم تسقط عنه المطالبة بالموت وإن لم يدع له وفاء فإن قيل لا يخلوا هذا الرجل المدين إذا مات مفلسا من أن يكون مفرطا في قضاء دينه أو غير مفرط فإن كان مفرطا فإنما هو مطالب عند الله بتفريطه كسائر الذنوب التي لم يتب منها وإن كان غير مفرط فالله تعالى لا يؤاخذه به لأن الله لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه قيل له إنما ذلك فيمن فرط في قضاء دينه ثم لم يتب من تفريطه حتى مات مفلسا فيكون مؤاخذا به وهذا حكم المعسر بدين الآدمي لأنا لا نعلم توبته من تفريطه فواجب أن يكون مطالبا فيه في الدنيا كما كان مؤاخذا به عند الله تعالى فإن قيل فينبغي أن تفرقوا بين المفرط في قضاء دينه المصر على تفريطه وبين من لم يفرط أصلا أو فرط ثم تاب من تفريطه فتوجبون له لزوم من فرط ولم يتب ولا تجعلون له ذلك فيمن لم يفرط أو فرط ثم تاب قيل له لو وقفنا على حقيقة توبته من تفريطه أو علمنا أنه لم يكن مفرطا في قضائه لخالفنا بين حكمه وحكم من ظهر تفريطه في باب اللوزم كما اختلف حكمهما عند الله تعالى ولكنا لا نعلم أنه غير مفرط في الحقيقة لجواز أن يكون له مال مخبوء وقد أظهر الإعسار وكذلك المظهر لتوبته من تفريطه مع ظهور عسرته جائز أن يكون موسرا بأداء دينه ولا تكون لما أظهره حقيقة وإذا كان كذلك فحكم اللزوم والمطالبة قائم عليه كما تثبت عليه المطالبة لله تعالى بعد موته وحديث أبي قتادة أيضا يدل على ذلك وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يصلي على رجل مات وعليه دين فأتي بميت فقال أعليه دين فقالوا نعم ديناران فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة الأنصاري هما علي يا رسول الله قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فلما فتح الله على رسول الله ص - قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته فلو لم تكن

المطالبة قائمة عليه إذا مات مفلسا كان لا يترك الصلاة عليه إذا مات مفلسا لأنه كان يكون بمنزلة من لا دين عليه وفي هذا دليل على أن الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة وقد روى إسماعيل بن المهاجر عن عبدالملك بن عمير قال كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل بغريمه قال هات بينة على مال أحبسه فإن قال فإني إذا ألزمه قال وما منعك من لزومه وأما قول الزهري والليث بن سعد في إجازتهما الحد واستيفاء الدين من أجرته فخلاف الآية والآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أما الآية فقوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ولم يقل فليؤاجر بما عليه وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء منها إجارته وإنما فيها أو تركه وحديث أبي سعيد الخدري ليس لكم إلا ذلك حين لم يجدوا له غير ما أخذوا
قوله عز و جل وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون يعني والله أعلم أن التصدق بالدين الذي على المعسر خير من إنظاهر به وهذا يدل على أن الصدقة أفضل من القرض لأن القرض إنما هو دفع المال وتأخير استرجاعه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال قرض مرتين كصدقة مرة وروى علقمة عن عبدالله عن النبي ص - قال السلف يجري مجرى شطر الصدقة وروي عن عبدالله بن مسعود من قوله وعن ابن عباس مثله وعن إبراهيم وقتادة في قوله وأن تصدقوا خير لكم قالا برأس المال ولما سمى الله الإبراء من الدين صدقة اقتضى ظاهره جوازه عن الزكاة لأنه سمى الزكاة صدقة وهي على ذي عسرة فلو خلينا والظاهر كان واجبا جوازه عن سائر أمواله التي فيها الزكاة من عين ودين وغيره إلا أن أصحابنا قالوا إنما سقط زكاة المبرأ منه دون غيره لأن الدين إنما هو حق ليس بعين والحقوق لا تجري مجرى الزكاة مثل سكنى الدار وخدمة العبد ونحوها وتسميته إياه بالصدقة لا توجب جوازه عن الزكاة في سائر الأحوال ألا ترى أن الله تعال قد سمى البراءة من القصاص صدقة في قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى قوله فمن تصدق به فهو كفارة له والمراد به العفو عن القصاص ولا نعلم خلافا بين أهل العلم أن العفو عن القصاص غير مجزئ في الكفارة وقال تعالى حاكيا عن أخوة يوسف وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا وهم لم يسألوه أن يتصدق عليهم بماله وإنما سألوه أن يبيعهم ولا يمنعهم الكيل لأنهم كانوا منعوا بديا ألا ترى أنهم

قالوا فأوف لنا الكيل وهو ما اشتروه ببضاعتهم فإذا كان وقوع اسم الصدقة عليه لم يوجب جوازه عن الزكاة لم يكن إطلاق اسم الصدقة على الدين علة لجوازه عن الزكاة والله تعالى أعلم
باب
عقود المداينات قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه قال أبو بكر ذهب قوم إلى أن الكتاب والإشهاد على الديون الآجلة قد كانا واجبين بقوله تعالى فاكتبوه إلى قوله فاستشهدوا شهيدين من رجالكم ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته روي ذلك عن ابي سعيد الخدري والشعبي والحسن وقال آخرون هي محكمة لم ينسخ منها شيء وروى عاصم الأحول وداود بن أبي هند عن عكرمة قال قال ابن عباس لا والله إن آية الدين محكمة وما فيها نسخ وقد روى شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ورجل له على رجل دين ولم يشهد عليه به قال أبو بكر وقد روي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وروى جويبر عن الضحاك إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا عليه لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره وقال سعيد بن جبير وأشهدوا إذا تبايعتم يعني وأشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجل أو لم يكن فيها أجل فأشهد على حقك على كل حال وقال ابن جريج سئل عطاء أيشهد الرجل على أن بايع بنصف درهم قال نعم هو تأويل قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وروى مغيرة عن إبراهيم قال يشهد لو على دستجة بقل وقد روي عن الحسن والشعبي إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد لقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وروى ليث عن مجاهد أن ابن عمر كان إذا باع أشهد ولم يكتب وهذا يدل على أنه رآه ندبا لأنه لو كان واجبا لكانت الكتابة مع الإشهاد لأنهما مأمور بهما في الآية قال أبو بكر لا يخلو قوله تعالى فاكتبوه إلى قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم من أن يكون موجبا للكتابة والإشهاد على الديون الآجلة في حال نزولها وكان هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن ورد نسخ إيجابه بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته

وأن يكون نزول الجميع معا فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وجب الحكم بورودهما معا فلم يرد الأمر بالكتاب والإشهاد إلا مقرونا بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندب غير واجب وما روي عن ابن عباس من أن آية الدين محكمة لم ينسخ منه شيء لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجبا لأنه جائز أن يريد أن الجميع ورد معا فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون الإشهاد ندبا وهو قوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وما روي عن ابن عمر إنه كان يشهد وعن إبراهيم وعطاء أنه يشهد على القليل كله عندنا أنهم رأوه ندبا لا إيجابا وما روي عن أبي موسى ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم أحدهم من له على رجل دين ولم يشهد فلا دلالة على أنه رآه واجبا ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى مالنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا وإن شيئا منه غير واجب وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم ولو كان الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا لو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين وقوله تعالى فاكتبوه مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية وهو يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين فإنما أمر بذلك للمتداينين فإن قيل ما وجه قوله تعالى بدين والتداين لا يكون إلا بدين قيل له

لأن قوله تعالى تداينتم لفظ مشترك يحتمل أن يكون من الدين الذي هو الجزاء كقوله تعالى مالك يوم الدين يعني يوم الجزاء فيكون بمعنى تجازيتم فأزال الإشتراك عن اللفظ بقوله تعالى بدين وقصره على المعاملة بالدين وجائز أن يكون على جهة التأكيد وتمكين المعنى في النفس وقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ينتظم سائر عقود المداينات التي يصح فيها الآجال ولا دلالة فيه على جواز التأجيل في سائر الديون لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ثم يحتاج أن يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه ألا ترى أنها لم تقتض جواز دخول الأجل على الدين بالدين حتى يكونا جميعا مؤجلين وهو بمنزلة قوله من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم لا دلالة فيه على جواز السلم في سائر المكيلات والموزونات بالآجال المعلومة وإنما ينبغي أن يثبت جوازه في المكيل والموزون المعلوم الجنس والنوع والصفة بدلالة أخرى وإذا ثبت أنه مما يجوز السلم فيه احتجنا بعد ذلك إلى أن نسلم فيه إلى أجل معلوم وكما تدل الآية على جواز عقود المداينات ولم يصح الاستدلال بعمومهما في إجازة سائر عقود المداينات لأن الآية إنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صحت المداينة كذلك لا تدل على جواز شرط الأجل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صح الدين والتأجيل فيه وقد احتج بعضهم في جواز التأجيل في القرض بهذه الآية إذ لا تفرق بين القرض وسائر عقود المداينات وقد علمنا أن القرض مما شمله الاسم وليس ذلك عندنا كما ذكر لأنه لا دلالة فيها على جواز كل دين ولا على جواز التأجيل في جميعها وإنما فيها الأمر بالإشهاد على دين قد ثبت فيه التأجيل لاستحالة أن يكون المراد به الإشهاد على مالم يثبت من الديون ولا من الآجال فوجب أن يكون مراده إذا تداينتم بدين قد ثبت فيه التأجيل فاكتبوه فالمستدل به على جواز تأجيل القرض مغفل في استدلاله ومما يدل على أن القرض لم يدخل فيه أن قوله تعالى إذا تداينتم بدين قد اقتضى عقد المداينة وليس القرض بعقد مداينة إذ لا يصير دينا بالعقد دون القبض فوجب أن يكون القرض خارجا منه قال أبو بكر وقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قد اشتمل على كل دين ثابت مؤجل سواء كان بدله عينا أو دينا فمن اشترى دارا أو عبدا بألف درهم إلى أجل كان

مأمورا بالكتاب والإشهاد بمقتضى الآية وقد دلت الآية على أنها مقصورة في دين مؤجل في أحد البدلين لا فيهما جميعا لأنه تعالى قال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ولم يقل بدينين فإنما أثبت الأجل في أحد البدلين فغير جائز وجود الأجل في البدلين جميعا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن الدين بالدين وأما إذا كانا دينين بالعقد فهذا جائز في السلم وفي الصرف إلا أن ذلك مقصور على المجلس ولا يمتنع أن يكون السلم مرادا بالآية لأن التأجيل في أحد البدلين وهو السلم وقد أمر الله تعالى بالإشهاد على عقد مداينة موجب لدين مؤجل وقد روى قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس قال أشهد أن السلم المؤجل في كتاب الله وأنزل فيه أطول آية في كتاب الله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه فأخبر ابن عباس أن السلم المؤجل مما انطوى تحت عموم الآية وعلى هذا كل دين ثابت مؤجل فهو مراد بالآية سواء كان من إبدال المنافع أو الأعيان نحو الأجرة المؤجلة في عقود الإجارات والمهر إذا كان مؤجلا وكذلك الخلع والصلح من دم العمد والكتابة المؤجلة لأن هذه ديون مؤجلة ثابتة بعقد مداينة وقد بينا أن الآية إنما اقتضت هذا الحكم في أحد البدلين إذا كان مؤجلا لا فيهما لأنه قال إذا تداينتم بدين إلى أجل فكل عقد انتظمه الآية فهو العقد الذي ثبت به دين مؤجل ولم تفرق بين أن يكون ذلك الدين بدلا من منافع أو أعيان فوجب أن يكون جميع المندوب إليه من الكتاب والإشهاد مرادا بها هذه العقود كلها وأن ما يكون ما ذكر من عدد الشهود وأوصاف الشهادة معتبرا في سائرها إذ ليس في اللفظ تخصيص شيء منه دون غيره فيوجب ذلك جواز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح إذا كان المهر دينا مؤجلا وفي الخلع والإجارة والصلح من دم العمد وسائر ما كان هذا وصفه وغير جائز الاقتصار بهذه الأحكام على بعض الديون المؤجلة دون بعض مع شمول الآية لجميعها وقوله تعالى إلى أجل مسمى يعني معلوما وقد روي ذلك عن جماعة من السلف وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وقوله تعالى وليكتب بينكم كاتب بالعدل فيه أمر لمن تولى كتابة الوثائق بين الناس أن يكتبها بالعدل بينهم والكتاب وإن لم يكن حتما فإن سبيله إذا كتب أن يكتب على حد العدل والاحتياط والتوثق من الأمور التي من أجلها يكتب الكتاب بأن يكون شرطا صحيحا جائزا على ما توجبه الشريعة

وتقضينه وعليه التحرز من العبارات المحتملة للمعاني وتجنب الألفاظ المشتركة وتحري تحقيق المعاني بألفاظ مبينة خارجة عن حد الشركة والاحتمال والتحرز من خلاف الفقهاء ما أمكن حتى يحصل للمداينين معنى الوثيقة والاحتياط المأمور بهما في الآية ولذلك قال تعالى عقيب الأمر بالكتاب ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله يعني والله أعلم ما بينه من أحكام العقود الصحيحة والمداينات الثابتة الجائزة لكي يحصل لكل وحد من المتداينين ما قصد من تصحيح عقد المداينة ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلا بالحكم لا يأمن أن يكتب ما يفسد عليهما ما قصداه ويبطل ما تعاقداه والكتاب وإن لم يكن حتما وكان ندبا وإرشادا إلى الأحوط فإنه متى كتب فواجب أن يكون على هذه الشريطة كما قال عز و جل إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فانتظم ذلك صلاة الفرض والنفل غير واجب عليه ولكنه متى قصد فعلها وهو محدث فعليه أن لا يفعلها إلا بشرائطها من الطهارة وسائر أركانها وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم - من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم والسلم ليس بواجب ولكنه متى أراد أن يسلم مفعليه استيفاء الشرائط فكذلك كتاب الدين والإشهاد ليس بواجبين ولكنه متى كتب فعلى الكاتب أن يكتبه على الوجه الذي أمره الله تعالى به وأن يستوفي فيه شروط صحته ليحصل المعنى المقصود بكتابته وقد اختلف السلف في لزوم الكاتب الكتابة فروي عن الشعبي أنه قال هو واجب على الكفاية كالجهاد ونحوه وقال السدي واجب على الكاتب في حال فراغه وقال عطاء ومجاهد هو واجب وقال الضحاك نسختها ولا يضار كاتب ولا شهيد قال أبو بكر قد بينا أن الكتاب غير واجب في الأصل على المتداينين فكيف يكون واجبا على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا لعقد ولا سبب له فيه وعسى أن يكون من رآه واجبا إلى أن الأصل واجب فكذلك على من يحسن الكتابة أن يقوم بها لمن يجب ذلك عليه والأصل وإن لم يكن واجبا عندنا فإن المتداينين متى قصدا إلى ما ندبهما إليه من الإستيثاق بالكتاب ولم يكونا عالمين بذلك فإنه فرض على من علم ذلك أن يبينه لهما وليس عليه أن يكتبه ولكن يبينه حتى يكتباه أو يكتبه لهما أجير أو متبرع بإملاء من يعلمه كما لو أراد إنسان أن يصوم صوما تطوعا أو يصلي صلاة تعرف أحكامهما كان على العالم بذلك إذا سئل أن يبينه لسائله وإن لم تكن هذه الصلاة والصوم فرضا لأن على العلماء بيان النوافل

والمندوب إليه إذا سألوا عنها كما أن عليهم بيان الفروض وقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم - بيان النوافل والمندوب إليه كما أن عليه بيان الفروض قال الله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وقال تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم وفيما أنزل الله على نبيه أحكام النوافل فكان عليه بيانها لأمته كبيان ا لفروض وقد نقلت الأمة عن نبيها ص - بيان المندوب إليه كما نقلت عنه بيان الفروض وإذا كان كذلك فعلى من علم علما من فرض أو نفل ثم سئل عنه أن يبينه لسائله وقال الله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار فعلى هذا الوجه يلزم من عرف الوثائق والشروط بيانها لسائلها على حسب ما يلزمه بيان سائر علوم الدين والشريعة وهذا فرض لازم للناس على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين فأما أن يلزمه أن يتولى الكتابة بيده فهذا ما لا أعلم أحدا يقوله اللهم إلا أن لا يوجد من يكتبه فغير ممتنع أن يقول قائل عليه كتبه ولو كان كتب الكتاب فرضا على الكاتب لما كان الإستيجار يجوز عليه لأن الإستيجار على فعل الفروض باطل لا يصح فلما لم يختلف الفقهاء في جواز أخذ الأجرة على كتب كتاب الوثيقة دل ذلك على أن كتبه ليس بفرض لا على الكفاية ولا على التعيين قوله تعالى ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله نهي للكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر الله به وهذا النهي على الوجوب إذا كان المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام الشرع كما تقول لا تصل النفل على غير طهارة ولا غير مستور العورة ليس ذلك أمرا بالصلاة النافلة ولا نهيا عن فعلها مطلقا وإنما هو نهي عن فعلها على غير شرائطها المشروطة لها وكذلك قوله تعالى ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب هو نهي عن كتبه على خلاف الجائز منه إذ ليست الكتابة في الأصل واجبة عليه ألا ترى أن قول القائل لا تاب أن تصلي النافة بطهارة وستر العورة ليس فيه إيجاب منه للنافلة فكذلك ما وصفنا وقوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فيه إثبات إقرار الذي عليه الحق وإجازة ما أقربه وإلزامه إياه لأنه لولا جواز إقراره إذا أقر ولم يكن إملاء الذي عليه الحق بأولى من إملاء غيره من الناس فقد تضمن ذلك جواز إقرار كل مقر بحق عليه وقوله عز و جل وليتق الله

ربه ولا يبخس منه شيئا يدل على أن كل من أقر بشيء لغيره فالقول قوله فيه لأن البخس هو النقص فلما وعظه الله تعالى في ترك البخس دل ذلك على أنه إذا بخس كان قوله مقبولا وهو نظير قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لما وعظهن في الكتمان دل على أن المرجع فيه إلى قولهن وكقوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه قد دل ذلك أنهم متى كتموها كان القول قولهم فيها وكذلك وعظه الذي عليه الحق في ترك البخس دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - بمثل ما دل عليه الكتاب وهو قوله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فجعل القول من ادعى عليه دون المدعي وأوجب عليه اليمين وهو معنى قوله تعالى ولا يبخس منه شيئا في إيجاب الرجوع إلى قوله واحتج بعضهم بهذه الآية على أن القول قول المطلوب في الأجل لأن الله رد الإملاء إليه ووعظه في البخس وهو النقصان ويستحيل وعظ المطلوب في بخس الأجل ونقصانه وهو لو أسقط الأجل كله بعد ثبوته لبطل كما لا يوعظ الطالب في نقصان ماله إذ لو أبرأه من جميعه لصحت براءته فلما كان ذلك كذلك علمنا أن المراد بالبخس في مقدار الديون لا في الأجل فليس إذا في الآية دليل على أن القول قول المطلوب في الأجل فإن قيل إثبات الأجل في المال يوجب نقصانه فلما كان القول قول المطلوب في نقصان المال ومقداره وجب أن يكون القول قوله في الأجل لما فيه من بخس المال ونقصانه إذ قد تضمنت الآية تصديقه في بخسه والجنس تارة يكون بنقصان المقدار وتارة بنقصان الصفة من أجل رداءة في المقربه قيل له لما قال تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا اقتضى ذلك النهي عن بخس الحق نفسه فكان تقديره ولا يخنس من الدين شيئا ومدعي الأجل غير باخس من الدين ولا ناقص له إذ كان بخس الدين هو نقصان مقداره وليس الأجل هو الدين ولا بعضه وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآية على تصديقه على دعوى الأجل ويدلك على أن الأجل ليس من الدين إن الدين قد يحل ويبطل الأجل ويكون هو ذلك الدين وقد يسقط الأجل ويعجل الدين فيكون الذي عجل هو الدين الذي كان مؤجلا وإذا كان ذلك كذلك ثم قال تعالى ولا يبخس منه شيئا يعني من الدين شيئا لم يتناول ذلك

الأجل ولم يدل عليه ومن جهة أخرى أن الأجل إنما يوجب نقصا فيه من طريق الحكم لأن المقبوض بعد الأجل وقبله إذا كان على صفة واحدة فقد علمت أنه لا تأثير له في نقصان المقبوض وإنما يقال أنه نقص فيه من طريق الحكم على المجاز لا على الحقيقة وقد تناولت الآية البخس الذي هو حقيقة وهو نقصان المقدار ونقصانه في نفسه من ردائة أو غبن أو غيرها نحو إقراره بالدرهم السود والحنطة الردية فإن ذلك كله بخس من جهة الحقيقة لاختلاف صفات المقبوض عنه فلم يجز أن يتناول بعض الأجل الذي ليس بحقيقة فيه بل هو مجاز لأن اللفظ متى أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه وفي هذه الآية دلالة على أن القول قول الطالب في الأجل لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم اقتضى ذلك الإشهاد على المتداينين جميعا إذا كان المال مؤجلا فلو كان القول قول المطلوب في الأجل لما احتيج إلى الإشهاد به على الطالب وفي وجوب الإشهاد على الطالب بالتأجيل دلالة على أن القول قوله وأن المطلوب غير مصدق عليه إذ لو كان مصدقا فيه لما بقي للإشهاد على الطالب موضع ولا معنى فإن قال قائل إنما حكم الإشهاد مقصور على المطلوب دون الطالب قيل له هذا خلاف مقتضى الآية لأنه قال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ثم عطف عليه قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فخاطب المتداينين جميعا وأمرهما بالاستشهاد فلو جاز لقائل أن يقول إن المطلوب مخصوص به لجاز الآخر أن يقول هو مقصور على الطالب دون المطلوب فلما لم يصح ذلك وجب بظاهر الآية أن يكون الإشهاد عليهما جميعا وأن يكونا مندوبين إليه وإذا ثبت ذلك لم يكن للإشهاد على الطالب بالدين المؤجل حكم لأنه مقبول القول في نفيه دل ذلك على أن المرجع إلى قوله في الأجل وإنما جعل الله الإملاء إلى المطلوب إذا أحسن ذلك وإن كان لو أملى غيره وأقر المطلوب به جاز لأنه أثبت في الإقرار وأذكر للشهود متى أرادوا أن يتذكروا الشهادة وكان الإملاء سببا للاستذكار كما أمر باستشهاد امرأتين لتذكر إحداهما الأخرى والله تعالى أعلم
باب
الحجر على السفيه قال الله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو

فليملل وليه بالعدل قد احتج كل فريق من موجبي الحجر على السفيه ومن مبطليه بهذه الآية فاحتج مثبتوا الحجر للسفيه بقوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل فأجاز لولي السفيه الإملاء عنه واحتج مبطلو الحجر بما في مضمون الآية من جواز مداينة السفيه بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا فأجاز مداينة السفيه وحكم بصحة إقراره في مداينته وإنما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب لقصور فهمه عن استيفاء ماله وعليه مما يقتضيه شرط الوثيقة وقالوا إن قوله تعالى فليملل وليه بالعدل إنما المراد به ولي الدين وقد روي ذلك عن جماعة من السلف قالوا وغير جائز أن يكون المراد به ولي السفيه على معنى الحجر عليه وإقراره بالدين عليه لأن إقرار ولي المحجور عليه غير جائز عليه عند أحد فعلمنا أن المراد ولي الدين فأمر بإملاءالكتاب حتى يقر به المطلوب الذي عليه الدين قال أبو بكر اختلف السلف في السفيه المراد بالآية فقال قائلون منهم هو الصبي وروي ذلك عن الحسن في قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال الصبي والمرأة وقال مجاهد النساء وقال الشعبي لا تعطى الجارية مالها وإن قرأت القرآن والتوراة وهذا محمول على التي لا تقوم بحفظ المال لأنه لا خلاف أنها إذا كانت ضابطة لأمرها حافظة لمالها دفع إليها إذا كانت بالغا قد دخل بها زوجها وقد روي عن عمر أنه قال لا تجوز لامرأة مملكة عطية حتى تحيل في بيت زوجها حولا أو تلد بطنا وروي عن الحسن مثله وقال أبو الشعثاء لا تجوز لامرأة عطية حتى تلد أو يؤنس رشدها وعن إبراهيم مثله وهذا كله محمول على أنه لم يؤنس رشدها لأنه لا خلاف أن هذا ليس بحد في استحقاق دفع المال إليها لأنها لو أحالت حولا في بيت زوجها وولدت بطونا وهي غير مؤنسة للرشد ولا ضابطة لأمرها لم يدفع إليها مالها فعلمنا أنهم إنما ارادوا ذلك فيمن لم يؤنس رشدها وقد ذكر الله تعالى السفه في مواضع منها ما أراد به السفه في الدين وهو الجهل به في قوله تعالى ألا إنهم هم السفهاء وقوله تعالى سيقول السفهاء من الناس فهذا هو السفه في الدين وهو الجهل والخفة وقال تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم فمن الناس من تأوله على أموالهم كما قال تعالى ولا تقتلوا أنفسكم يعني لا يقتل بعضكم بعضا وقال تعالى فاقتلوا أنفسكم والمعنى

ليقتل بعضكم بعضا وهذا الذي ذكره هذا القائل عدول عن حقيقة اللفظ وظاهره بغير دلالة لأن قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم يشتمل على فريقين من الناس كل واحد منهما مميز في اللفظ من الآخر وأحد الفريقين هم المخاطبون بقوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم والفريق الآخر السفهاء المذكورون معهم فلما قال تعالى أموالكم وجب أن ينصرف ذلك إلى أموال المخاطبين دون السفهاء وغير جائز أن يكون المراد السفهاء لأن السفهاء لم يتوجه الخطاب إليهم بشيء وإنما توجه إلى العقلاء المخاطبين وليس ذلك كقوله تعالى فاقتلوا أنفسكم وقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم لأن القاتلين والمقتولين قد انتظمهم خطاب واحد لم يتميز أحد الفريقين من الآخر في حكم المخاطبة فلذلك جاز أن يكون المراد فليقتل بعضكم بعضا وقد قيل إن أصل السفه الخفة ومن ذلك قول الشاعر ... مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم ... يعني استخفتها الرياح وقال آخر ... نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنحمل الدهر مع الحامل ... أي تخف أحلامنا ويسمى الجاهل سفيها لأنه خفيف العقل ناقصه فمعنى الجهل شامل لجميع من أطلق اسم السفيه والسفيه في أمر الدين هو الجاهل فيه والسفيه في المال هو الجاهل لحفظه وتدبيره والنساء والصبيان أطلق عليهم اسم السفهاء لجهلهم ونقصان تمييزهم والسفيه في رأيه الجاهل فيه والبذيء اللسان يسمى سفيها لأنه لا يكاد يتفق إلا في جهال الناس ومن كان خفيف العقل منهم وإذا كان اسم السفيه ينتظم هذه الوجوه رجعنا إلى مقتضى لفظ الآية في قوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها فاحتمل أن يريد به الجهل بإملاء الشرط وإن كان عاقلا مميزا غير مبذر ولا مفسد وأجاز لولي الحق أن يمليه حتى يقر به السفيه الذي عليه الحق ويكون ذلك أولى بمعنى الآية لأن الذي عليه الحق هو المذكور في أول الآية بالمداينة ولو كان محجورا عليه لما جازت مداينته ومن جهة أخرى أن ولي المحجور عليه لا يجوز إقراره عليه بالدين وإنما يجوز على قول من يرى الحجر أن يتصرف عليه القاضي ببيع أو شرى فأما وليه فلا نعلم أحدا يجيز تصرف أوليائه عليه ولا إقرارهم وفي ذلك دليل على أنه لم يرد ولي السفيه وإنما أراد ولي الدين

وقد روي ذلك عن الربيع بن أنس وقاله الفراء أيضا وأما قوله أو ضعيفا فقد قيل فيه الضعيف في عقله أو الصبي المأذون له لأن ابتداء الآية قد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة والتصرف فأجاز تصرف هؤلاء كلهم فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب والإشهاد ذكر من لا يكمل لذلك إما لجهل بالشروط أو لضعف عقل لا يحسن معه الإملاء وإن لم يوجب نقصان عقله حجرا عليه وإما لصغر أو لخوف وكبر سن لأن قوله تعالى أو ضعيفا محتمل للأمرين جميعا وينتظمهما وذكر معهما من لا يستطيع أن يمل هو إما لمرض أو كبر سن انفلت لسانه عن الإملاء أو لخرس ذلك كله محتمل وجائز أن تكون هذه الوجوه مرادة لله تعالى لاحتمال اللفظ لها وليس في شيء منها دلالة على أن السفيه يستحق الحجر وأيضا فلو
كان بعض من يلحقه اسم السفيه يستحق الحجر لم يصح الاستدلال بهذه الآية في إثبات الحجر وذلك لأنه قد ثبت أن السفيه لفظ مشترك ينطوي تحته معان مختلفة منها ما ذكرنا من السفه في الدين وذلك لا يستحق به الحجر لأن الكفار والمنافقين سفهاء وهم غير مستحقين للحجر في أموالهم ومنها السفه الذي هو البذاء والتسرع إلى سوء اللفظ وقد يكون السفيه بهذا الضرب من السفه مصلحا لماله غير مفسده ولا مبذره وقال تعالى إلا من سفه نفسه قال أبو عبيدة يريد أهلكها وأوبقها وروي عن عبدالله بن عمر حين قال للنبي ص - إني أحب أن يكون رأسي دهينا وقميصي غسيلا وشراك نعلي جديدا أفمن الكبر هو يا رسول الله قال لا إنما الكبر من سفه الحق وغمص الناس وهذا يشبه أن يريد من جهل الحق لأن الجهل يسمى سفها والله تعالى أعلم
ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في الحجر على ا لسفيه
كان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا لسفه ولا لتبذير ولا لدين وإفلاس وإن حجر عليه القاضي ثم أقر بدين أو تصرف في ماله ببيع أو هبة أو غيرهما جاز تصرفه وإن لم يؤنس منه رشد فكان فاسدا ويحال بينه وبين ماله ومع ذلك إن أقر به لإنسان أو باعه جاز ما صنع من ذلك وإنما يمنع من ماله مالم يبلغ خمسة وعشرين سنة فإذا بلغها دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه رشد وقول عبيدالله بن الحسن في الحجر كقول أبي حنيفة وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال لا يحجر على حر وروى ابن

عون عن محمد بن سيرين قال لا يحجر على حر إنما يحجر على العبد وعن الحسن البصري مثل ذلك وقال أبو يوسف إذا كان سفيها حجرت عليه وإذا فلسته وحبسته حجرت عليه ولم أجز بيعه ولا شراءه ولا إقراره بدين إلا ببينة تشهد به عليه أنه كان قبل الحجر وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن محمد في الحجر بمثل قول أبي يوسف فيه ويزيد عليه أنه إذا صار في الحال التي يستحق معها الحجر صار محجورا عليه حجر القاضي عليه مع ذلك أو لم يحجر وكان أبو يوسف يقول لا يكون محجورا عليه بحدوث هذه الأحوال فيه حتى يحجر القاضي عليه فيكون بذلك محجورا عليه وقال محمد إذا بلغ ولم يؤنس منه رشد لم يدفع إليه ماله ولم يجز بيعه ولا هبته وكان بمنزلة من لم يبلغ فما باع أو اشترى نظر الحاكم فيه فإن رأى إجازته أجازه وهو مالم يؤنس منه رشد بمنزلة الصبي الذي لم يبلغ إلا أنه يجوز لوصي الأب أن يشتري ويبيع على الذي لم يبلغ ولا يجوز أن يبيع ويشتري على الذي بلغ إلا بأمر الحاكم وذكر ابن عبدالحكم وابن القاسم عن مالك قال ومن أراد الحجر على موليه فليحجر عليه عند السلطان حتى يوقفه للناس ويسمع منه في مجلسه ويشهد على ذلك ويرد بعد ذلك ما بويع وما أدان به السفيه فلا يلحقه ذلك إذا صلحت حاله وهو مخالف للعبد وإن مات المولى عليه وقد أدان فلا يقضي عنه وهو في موته بمنزلته في حياته إلا أن يوصي بذلك في ثلاثة فيكون ذلك له وإذا بلغ الولد فله أن يخرج عن أبيه وإن كان أبوه شيخا ضعيفا إلا أن يكون الإبن مولى عليه أو سفيها أو ضعيفا في عقله فلا يكون له ذلك وقال الفريابي عن الثوري في قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم قال العقل والحفظ لماله وكان يقوله إذا اجتمع فيه خصلتان إذا بلغ الحلم وكان حافظا لماله لا يخدع عنه وحكى المزني عن الشافعي في مختصره قال وإنما أمر الله بدفع أموال اليتامى بأمرين لم يدفع إلا بهما وهما البلوغ والرشد والرشد الصلاح في الدين بكون الشهادة جائزة مع إصلاح المال والمرأة إذا أونس منها الرشد دفع إليها مالها تزوجت أو لم تتزوج كالغلام نكح أو لم ينكح لأن الله تعالى سوى بينهما ولم يذكر تزويجا وإذا حجر عليه الإمام في سفهه وإفساده ماله أشهد على ذلك فمن بايعه بعد الحجر فهو المتلف لماله ومتى أطلق عنه الحجر ثم عاد إلى حال الحجر حجر عليه ومتى رجع إلى حال الإطلاق

أطلق عنه قال أبو بكر قد بينا ما احتج به كل فريق من مبطلي الحجر ومن مثبتيه من دلالة آية الدين وقد بينا أن الأظهر من دلالتها بطلان الحجر وجواز التصرف واحتج مثبتوا الحجر بما روى هشام بن عروة عن أبيه أن عبدالله بن جعفر أتى الزبير فقال إني ابتعت بيعا ثم أن عليا يريد أن يحجر علي فقال الزبير فإني شريكك في البيع فأتى على عثمان فسأله أن يحجر على عبدالله بن جعفر فقال الزبير أنا شريكه في هذا البيع فقال عثمان كيف أحجر على رجل شريكه الزبير قالوا فهذا يدل على أنهم جميعا وقد رأوا الحجر جائزا ومشاركة الزبير ليدفع الحجر عنه وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف ظهر من غيرهم عليهم قال أبو بكر لا دلالة في ذلك على أن الزبير رأى الحجر وإنما يدل ذلك على تسويغه لعثمان الحجر وليس فيه ما يدل على موافقته إياه فيه وذلك لأن هذا حكم سائر المسائل المختلف فيها من مسائل الاجتهاد وأيضا فإن الحجر على وجهين أحدهما الحجر في منع التصرف والإقرار والآخر في المنع من المال وجائز أن يكون الحجر الذي رآه عثمان وعلي هو المنع من ماله لأنه جائز أن يكون سن عبدالله بن جعفر في ذلك ا لوقت خمسا وعشرين سنة وأبو حنيفة يرى أن لا يدفع إليه ماله قبل بلوغ هذه السن إذا لم يؤنس منه رشد وهذا عبدالله بن جعفر هو من الصحابة وقد أبى الحجر فكيف يدعي فيه اتفاق الصحابة ويحتجون أيضا بما روى الزهري عن عروة عن عائشة أنه بلغها أن ابن الزبير بلغه أنها باعت بعض رباعها فقال لتنتهين وإلا حجرت عليها فبلغها ذلك فقالت لله علي أن لا أكلمه أبدا قالوا فهذا يدل على أن ابن الزبير وعائشة قد رأيا الحجر إلا أنها أنكرت عليه أن تكون هي من أهل الحجر فلولا ذلك لبينت أن الحجر لا يجوز ولردت عليه قوله قال أبو بكر قد ظهر النكير منها في الحجر وهذا يدل على أنها لم تر الحجر جائزا لولا ذلك لما أنكرته إن كان ذلك شيئا يسوغ فيه الاجتهاد وما ظهر منها من النكير يدل على أنها كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر فإن قيل إنما لم تسوغ الاجتهاد في الحجر عليها فأما في الحجر مطلقا فلا ولو كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر لقالت إن الحجر غير جائز فتكتفي بذلك في إنكارها الحجر عليها قيل له قد أنكرت الحجر على الإطلاق بقولها لله علي أن لا أكلمه أبدا ودعواك أنها أنكرت الحجر عليها خاصة دون إنكارها لأصل الحجر لا دلالة معها ومما يدل على بطلان الحجر ما حدثنا به

محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
أنه يخدع في البيع فقال النبي ص - إذا بايعت فقل لا خلابة فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبدالله الأرزي وإبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي قالا حدثنا عبدالوهاب قال محمد عبدالوهاب بن عطاء قال أخبرني سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
كان يبتاع وفي عقدته ضعف فأتى به أهله نبي الله ص - فقالوا يا نبي الله أحجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم -
فنهاه عن البيع فقال يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع فقال رسول الله ص - إن كنت غير تارك البيع فقال هاوها ولا خلابة فذكر في الحديث الأول أنه كان يخدع في البيع فلم يمنع من التصرف ولم يحجر عليه ولو كان الحجر واجبا لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم -
والبيع وهو مستحق المنع منه فإن قال قائل فقد قال له النبي ص - إذا بايعت فقل لا خلابة فإنما أجاز له البيع على شريطة استيفاء البدل من غير مغابنة قيل له فليرض القائلون بالحجر منا على ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم - لهذا السفيه الذي كان يخدع في البيع وليس أحد من الفقهاء يشترط ذلك على السفهاء لا من القائلين بالحجر ولا من نفاته لأن من يرى الحجر يقول يحجر عليه الحاكم ويمنعه من التصرف ولا يرون إطلاق التصرف له مع التقدمة إليه بأن يقول عند البيع لا خلابة ومبطلوا الحجر يجيزون تصرفه على سائر الأحوال فقد ثبت بدلالة هذا الخبر بطلان الحجر على السفيه بعد أن يكون عاقلا وأيضا فإن جازت الثقة به في ضبط هذا الشرط وذكره عند سائر المبايعات فقد تجوز الثقة به في ضبط عقود المبايعات ونفي المغابنات عنها واللفظ الذي في هذا الخبر من قوله إذا بايعت فقل لا خلابة يستقيم على مذهب محمد فإنه يقول إن السفيه إذا بلغ فرفع أمره إلى الحاكم أجاز من عقوده مالم تكن فيه مغابنة وضرر فأما سائر من يرى الحجر فإنه لا يعتبر ذلك قال أبو بكر ويجوز أن يقال إن مذهب محمد أيضا مخالف للأثر لأن محمدا لا يجيز بيع المحجور عليه إلا أن يرفع إلى القاضي فيجيزه فجعله بيعا موقوفا كبيع أجنبي لو باع عليه بغير أمره والنبي صلى الله عليه وسلم - لم يجعل بيع الرجل الذي قال له إذا بايعت فقل لا خلابة موقوفا بل جعله جائزا نافذا إذا قال لا خلابة فصار مذهب مثبتي الحجر مخالفا لهذا الأثر وأما حديث أنس فإنه يحتج به الفريقان جميعا فأما مثبتو

الحجر فإنهم يحتجون بأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فلم ينكره عليهم بل نهاه عن البيع ولما قال لا أصبر عن البيع قال إذا بايعت فقل لا خلابة فأطلق له البيع على شريطة نفي التغابن فيه وأما مبطلوه فإنهم يستدلون بأنه لما قال إني لا أصبر عن البيع أطلق له النبي صلى الله عليه وسلم - التصرف وقال له إذا بعت فقل لا خلابة فلو كان الحجر واجبا لما كان قوله لا أصبر عن البيع مزيلا للحجر عنه لأن أحدا من موجبي الحجر لا يرفع الحجر عنه لفقد صبره عن البيع وكما أن الصبي والمجنون المستحقين للحجر عند الجميع لو قالا لا نصبر عن البيع لم يكن هذا القول منهما مزيلا للحجر عنهما ولما قيل لهما إذا بايعتما فقولا لا خلابة وفي إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم -
له التصرف على الشريطة التي ذكرها دلالة على ان الحجر غير واجب وأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم - له بديا عن البيع وقوله فقل لا خلابة على وجه النظر له والإحتياط لماله كما تقول لمن يريد التجارة في البحر أو في طريق مخوف لا تغرر بمالك واحفظه وما جرى مجرى ذلك وليس هذا بحجر وإنما هو مشورة وحسن نظر ومما يدل على بطلان الحجر أنهم لا يختلفون أن السفيه يجوز إقراره بما يوجب الحد والقصاص وذلك مما تسقطه الشبهة فوجب أن يكون إقراره بحقوق الآدميين التي لا تسقطها الشبهة أولى فإن قال قائل المريض جائز الإقرار بما يوجب الحد والقصاص ولا يجوز إقراره ولا هبته إذا كان عليه دين يحيط بماله فليس جواز الإقرار بالحد والقصاص أصلا للإقرار بالمال والتصرف فيه قيل له إن إقرار المريض عندنا بجميع ذلك جائز وإنما نبطله إذا اتصل بمرضه الموت لأن تصرفه مراعى معتبر بالموت فإذا مات صار تصرفه واقعا في حق الغير الذي هو أولى منه به وهم الغرماء والورثة فأما تصرفه في الحال فهو جائز مالم يطرأ الموت ألا ترى أنا لا نفسخ هبته ولا نوجب السعاية على من أعتقه من عبيده حتى يحدث الموت فإقراره بالحد والقصاص والمال غير متفرقين في حال الحياة
ومما يحتج به مثبتو الحجر قوله ولا تبذر تبذيرا وقوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية فإذا كان التبذير مذموما منهيا عنه وجب على الإمام المنع منه وذلك بأن يحجر عليه ويمنعه التصرف في ماله وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم -
عن إضاعة المال يقتضي منعه عن إضاعته بالحجر عليه وهذا لا دلالة فيه على الحجر لأنا نقول إن التبذير محظور

وينهى فاعله عنه وليس في النهي عن التبذير ما يوجب الحجر لأنه إنما ينبغي أن يمنعه التبذير فأما أن يمنعه من التصرف في ماله ويبطل بياعاته وإقراره وسائر وجوه تصرفه فإن هذا الموضع هو الذي فيه الخلاف بيننا وبين خصومنا وليس في الآية ما يوجب المنع من شيء منه وذلك لأن الإقرار نفسه ليس من التبذير في شيء لأنه لو كان مبذرا لوجب منع سائر المقرين من إقرارهم وكذلك البيع بالمحاباة لا تبذير فيه لأنه لو كان مبذرا لوجب أن ينهى عنه سائر الناس وكذلك الهبة والصدقة وإذا كان كذلك فالذي تقتضيه الآية النهي عن التبذير وذم فاعله فكيف يجوز الاستدلال بها على الحجر في العقود التي لا تبذير فيها وقد يصح الاستدلال لمحمد لأنه يجيز من عقوده مالا محاباة فيه ولا إتلاف لماله إلا أن الذي في الآية إنما هو ذم المبذرين والنهي عن التبذير ومن ينفي الحجر يقول إن التبذير مذموم منهي عن فعله فأما الحجر ومنع التصرف فليس في الاية إيجابه ألا ترى أن الإنسان منهي عن التغرير بماله في البحر وفي الطريق المخوفة ولا يمنعه الحاكم منه على وجه الحجر عليه ولو أن إنسانا ترك نخله وشجره وزرعه لا يسقيها وترك عقاره ودوره لا يعمرها لم يكن للإمام أن يجبره على الإنفاق عليها لئلا يتلف ماله كذلك لا يحجر عليه في عقوده التي يخاف فيها توى ماله وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال لا دلالة فيه على الحجر كما بيناه في التبذير ومما يدل على بطلان الحجر وجواز تصرف المحجور عليه أن العاقل البالغ إذا ظهر منه سفه وتبذير فإن الفقهاء الذي تقدم ذكر أقاويلهم من موجبي الحجر ما خلا محمد بن الحسن يقول إذا حجر عليه القاضي بطل من عقوده وإقراره ما كان بعد الحجر وإذا كان جائز التصرف قبل حجر القاضي فمعنى الحجر حينئذ أني قد أبطلت ما يعقده أو ما يقر به في المستقبل وهذا لا يصح لأن فيه فسخ عقد لم يوجد بعد بمنزلة من قال لرجل كل بيع بعتنيه وعقد عاقدتنيه فقد فسخته أو كل خيار بشريطة لي في البيع فقد أبطلته أو نقول امرأة كل أمر تجعله إلي في المستقبل فقد أبطلته فهذا باطل لا يجوز فسخ العقود الموجودة في المستقبل ومما يلزم أبا يوسف ومحمد في هذا أنهما يجيزان تزويجه بعد الحجر بمهر المثل وفي ذلك إبطال الحجر لأنه إن كان الحجر واجبا لئلا يتلف ماله فإنه قد يصل إلى إتلافه بالتزويج وذلك بأن يتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها ثم يطلقها قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ثم لا يزال يفعل ذلك حتى يتلف ماله فليس

إذا في هذا الحجر احتراز من إتلاف المال وأما اشتراط الشافعي في إيناس الرشد واستحقاق دفع المال جواز الشهادة فإنه قول لم يسبقه إليه أحد ويجب على هذا أن لا يجيز إقرارات الفساق عند الحكام على أنفسهم وأن لا يجيز بيوعهم ولا أشريتهم وينبغي للشهود أن لا يشهدوا على بيع من لم تثبت عدالته وأن لا يقبل القاضي من مدع دعواه حتى تثبت عدالته ولا يقبل عليه دعوى المدعى عليه حتى يصح عنده جواز شهادته إذ لا يجوز عنده إقرار من ليس على صفة العدالة وجواز الشهادة ولا عقوده وهو محجور عليه وهذا خلاف الإجماع ولم يزل الناس منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم -
إلى يومنا هذا يتخاصمون في الحقوق فلم يقل النبي ص - ولا أحد من السلف لا أقبل دعاويكم ولا أسأل أحدا عن دعوى غيره إلا بعد ثبوت عدالته وقد قال الحضرمي الذي خاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه رجل فاجر بحضرته ولم يبطل النبي ص - خصومته ولا سأل عن حاله وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم - للحضرمي ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فقال يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حالف ليس يتورع من شيء فقال ليس لك منه إلا ذلك فلو كان الفجور يوجب الحجر لسأل ص - عن حاله أو لأبطل خصومته لإقرار الخصم بأنه محجور عليه غير جائز الخصومة ولا خلاف بين الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف في الأملاك ونفاذ العقود والإقرارات والكفر أعظم الفسوق وهو غير موجب للحجر فكيف يوجبه الفسق الذي هو دونه وهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف والأملاك ونفاذ العقود
باب الشهود
قوله عز و جل واستشهدوا شهيدين من رجالكم قال أبو بكر لما كان ابتداء الخطاب للمؤمنين في قوله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل ثم عطف عليه قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم دل ذلك على معنيين أحدهما أن يكون من صفة الشهود لأن الخطاب توجه إليهم بصفة الإيمان ولما قال في نسق الخطاب من رجالكم

كان كقوله من رجال المؤمنين فاقتضى ذاك كون الإيمان شرطا في الشهادة على المسلمين والمعنى الآخر الحرية وذلك لما في فحوى الخطاب من الدلالة من وجهين أحدهما قوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وذلك في الأحرار دون العبيد والدليل عليه أن العبد لا يملك عقود المداينات وإذا أقر بشيء لم يجز إقراره إلا بإذن مولاه والخطاب إنما توجه إلى من يملك ذلك على الإطلاق من غير إذن الغير فدل ذلك على أن من شرط هذه الشهادة الحرية والمعنى الآخر من دلالة الخطاب قوله تعالى من رجالكم فظاهر هذا اللفظ يقتضي الأحرار كقوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم يعني الأحرار ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى والصالحين من عبادكم وإمائكم فلم يدخل العبيد في قوله تعالى منكم وفي ذلك دليل على أن من شرط هذه الشهادة الإسلام والحرية جميعا وأن شهادة العبد غير جائزة لأن أوامر الله تعالى على الوجوب وقد أمر باستشهاد الأحرار فلا يجوز غيرهم وقد روى عن مجاهد في قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم قال الأحرار فإن قيل إن ما ذكرت إنما يدل على أن العبد غير داخل في الآية ولا دلالة فيها على بطلان شهادته قيل له لما ثبت بفحوى خطاب الآية أن المراد بها الأحرار كان قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم أمرا مقتضيا للإيجاب وكان بمنزلة قوله تعالى واستشهدوا رجلين من الأحرار فغير جائز لأحد إسقاط شرط الحرية لأنه لو جاز ذلك لجاز إسقاط العدد وفي ذلك دليل على أن الآية قد تضمنت بطلان شهادة العبيد واختلف أهل العلم في شهادة العبيد فروى قتادة عن الحسن عن علي قال شهادة الصبي على الصبي والعبد على العبد جائزة وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرحمن بن همام قال سمعت قتادة يحدث أن عليا رضي الله عنه كان يستثبت الصبيان في الشهادة وهذا يوهن الحديث الأول وروى حفص بن غياث عن المختار بن فلفل عن أنس قال ما أعلم أحدا رد شهادة العبد وقال عثمان البتي تجوز شهادة العبد لغير سيده وذكر أن ابن شبرمة كان يراها جائزة يأثر ذلك عن شريح وكان ابن أبي ليلى لا يقبل شهادة العبيد وظهرت الخوارج على الكوفة

وهو يتولى القضاء بها فأمروه بقبول شهادة العبيد وبأشياء ذكروها له من آرائهم كان على خلافها فأجابهم إلى امتثالها فأقروه على القضاء فلما كان في الليل ركب راحلته ولحق بمكة ولما جاءت الدولة الهاشمية ردوه إلى ما كان عليه من القضاء على أهل الكوفة وقال الزهري عن سعيد بن المسيب قال قضى عثمان بن عفان أن شهادة المملوك جائزة بعد العتق إذا لم تكن ردت قبل ذلك وروى شعبة عن المغيرة قال كان إبراهيم يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه وروى شعبة أيضا عن يونس عن الحسن مثله وروى عن الحسن أنها لا تجوز وروي عن حفص عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس قال لا تجوز شهادة العبد وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة في إحدى الروايتين ومالك والحسن بن صالح والشافعي لا تقبل شهادة العبيد في شيء قال أبو بكر وقد قدمنا ذكر الدلالة من الآية على أن الشهادة المذكورة فيها مخصوصة بالأحرار دون العبيد ومما يدل من الآية على نفي شهادة العبد قوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فقال بعضهم إذا دعي فليشهد وقال بعضهم إذا كان قد أشهد وقال بعضهم هو واجب في الحالين والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى وخدمته وهو لا يملك الإجابة فدل أنه غير مأمور بالشهادة ألا ترى أنه ليس له أن يشتغل عن خدمة مولاه بقراءة الكتاب وإملائه والشهادة ولما لم يدخل في خطاب الحج والجمعة لحق المولى فكذلك الشهادة إذ كانت الشهادة غير متعينة على الشهداء وإنما هي فرض كفاية وفرض الجمعة والحج يتعين على كل أحد في نفسه فلما لم يلزمه فرض الحج والجمعة مع الإمكان لحق المولى فهو أولى أن لا يكون من أهل الشهادة لحق المولى ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى وأقيموا الشهادة لله وقال أيضا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله إلى قوله تعالى ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فجعل الحاكم شاهدا لله كما جعل سائر الشهود شهداء لله بقوله تعالى وأقيموا الشهادة لله فلما لم يجز أن يكون العبد حاكما لم يجز أن يكون شاهدا إذ كان كل واحد من الحاكم والشاهد به ينفذ الحكم ويثبت ومما يدل على بطلان شهادة العبد قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به نفي القدرة لأن الرق والحرية لا تختلف بهما القدرة فدل على أن مراده نفي حكم أقواله وعقوده وتصرفه وملكه ألا ترى أنه جعل ذلك مثل للأصنام التي كانت تعبدها العرب على وجه المبالغة

في نفي الملك والتصرف وبطلان أحكام أقواله فيما يتعلق بحقوق العباد وقد روي عن ابن عباس أنه استدل بهذه الآية على ا العبد لا يملك الطلاق ولولا احتمال اللفظ لذلك لما تأوله ابن عباس عليه فدل ذلك على أن شهادة العبد كلا شهادة كعقده وإقراره وسائر تصرفاته التي هي من جهة القول فلما كانت شهادة العبد قوله وجب أن ينتفي وجوب حكمه بظاهر الآية ومما يدل على بطلان شهادة العبيدأن الشهادة فرض على الكفاية كالجهاد فلما لم يكن العبد من أهل الخطاب بالجهاد ولو حصره وقاتل لم يسهم له وجب أن لا يكون من أهل الخطاب بالشهادة ومتى شهد لم تقبل شهادته ولم يكن له حكم الشهود كما لم يثبت له حكم وإن شهد القتال في استحقاق السهم ويدل عليه أنه لو كان من أهل الشهادة لوجب أن لو شهد بها فحكم بشهادته ثم رجع عنها أنه يلزمه غرم ما شهد به لأن ذلك من حكم الشهادة كما أن نفاذ الحكم بها إذا أنفذها الحاكم من حكمها فلما لم يجز أن يلزمه الغرم بالرجوع علمنا أنه ليس من أهلها وإن الحكم بشهادته غير جائز وأيضا فإنا وجدنا ميراث الأنثى على النصف من ميراث الذكر وجعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل فكانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل وميراثها نصف ميراثه فوجب أن يكون العبد من حيث لم يكن من أهل الميراث رأسا أن لا يكون من أهل الشهادة لأنا وجدنا لنقصان الميراث تأثيرا في نقصان الشهادة فوجب أن يكون نفي الميراث موجبا لنفي الشهادة وما روي عن علي بن أبي طالب في جواز شهادة العبد فإنه لا يصح من طريق النقل ولو صح كان مخصوصا في العبد إذا شهد على العبد ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن العبد والحر سواء فيما تجوز الشهادة فيه فإن قيل لما كان خبر العبد مقبولا إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن رقه مانعا من قبول خبره كذلك لا يمنع من قبول شهادته قيل له ليس الخبر أصلا للشهادة فلا يجوز اعتبارها به ألا ترى أن خبر الواحد مقبول في الأحكام ولا تجوز شهادة الواحد فيها وأنه يقبل فيه فلان عن فلان ولا يقبل في الشهادة إلا على جهة الشهادة على الشهادة وأنه يجوز قبول خبره إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا تجوز شهادة الشاهد إلا أن يأتي بلفظ الشهادة والسماع والمعاينة لما يشهد به فإن الرجل والمرأة متساويان في الأخبار مختلفان في الشهادة لأن شهادة امرأتين بشهادة رجل وخبر الرجل والمرأة سواء فلا يجوز الإستدلال بقبول خبر العبد على قبول شهادته قال أبو بكر قال محمد بن الحسن لو أن

حاكما حكم بشهادة عبد ثم رفع إلي أبطلت حكمه لأن ذلك مما أجمع الفقهاء على بطلانه وقد اختلف الفقهاء في شهادة الصبيان فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا تجوز شهادة الصبيان في شيء وهو قول ابن شبرمة والثوري والشافعي وقال ابن أبي ليلى تجوز شهادة بعضهم على بعض وقال مالك تجوز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح ولا تجوز على غيرهم وإنما تجوز بينهم في الجراح وحدها قبل أن يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا فإن افترقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا قد أشهدوا على شهادتهم قبل أن يتفرقوا وإنما تجوز شهادة الأحرار الذكور منهم ولا تجوز شهادة الجواري من الصبيان والأحرار قال أبو بكر روي عن ابن عباس وعثمان وابن الزبير إبطال شهادة الصبيان وروي عن علي إبطال شهادة بعضهم على بعض وعن عطاء مثله وروى عبدالله بن حبيب بن أبي ثابت قال قيل للشعبي إن إياس بن معاوية لا يرى بشهادة الصبيان بأسا فقال الشعبي حدثني مسروق إنه كان عند علي كرم الله وجهه إذا جاءه خمسة غلمة فقالوا كنا ستة نتغاط في الماء فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الإثنين أنهما غرقاه وشهد الإثنان أن الثلاثة غرقوه فجعل على الإثنين ثلاثة أخماس الدية وعلى الثلاثة خمسي الدية إلا أن عبدالله بن حبيب غير مقبول الحديث عند أهل العلم ومع ذلك فإن معنى الحديث مستحيل لا يصدق مثله عن علي رضي الله عنه لأن أولياء الغريق إن ادعوا على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم وإن ادعوا عليهم كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعا فهذا غير ثابت عن علي كرم الله وجهه ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى وذلك خطاب للرجال البالغين لأن الصبيان لا يملكون عقود المداينات وكذلك قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق لم يدخل فيه الصبي لأن إقراره لا يجوز وكذلك قوله وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا لا يصح أن يكون خطابا للصبي لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد ثم قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وليس الصبيان من رجالنا ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين كان قوله من رجالكم عائدا عليهم ثم قوله ممن ترضون من الشهداء يمنع أيضا جواز شهادة الصبي وكذلك قوله ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا هو نهي وللصبي أن يأبى من إقامة الشهادة وليس للمدعي إحضاره لها ثم قوله ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم

قلبه غير جائز أن يكون خطابا للصغار فلا يلحقهم المأثم بكتمانها ولما لم يجز أن يلحقه ضمان بالرجوع دل على أنه ليس من أهل الشهادة لأن كل من صحت شهادته لزمه الضمان عند الرجوع وأما إجازة شهادتهم في الجراح خاصة وقبل أن يتفرقوا ويجيئوا فإنه تحكم بلا دلالة وتفرقة بين من لا فرق فيه في أثر ولا نظر لأن في الأصول أن كل من جازت شهادته في الجراح فهي جائزة في غيرها وأما اعتبار حالهم قبل أن يتفرقوا وفيجيئوا فإنه لا معنى له لأنه جائز أن يكون هؤلاء الشهود هم الجناة ويكون الذي حملهم على الشهادة الخوف من أن يؤخذوا به وهذا معلوم من عادة الصبيان إذا كان منهم جناية أحالته بها على غيره خوفا من أن يؤخذ بها وأيضا لما شرط الله في الشهادة العدالة وأوعد شاهد الزور ما أوعده به ومنع من قبول شهادة الفساق ومن لا يزع عن الكذب احتياطا لأمر الشهادة فكيف تجوز شهادته من هو غير مأخوذ بكذبه وليس له حاجز يحجزه عن الكذب ولا حياء يردعه ولا مروءة تمنعه وقد يضرب الناس المثل بكذب الصبيان فيقولون هذا أكذب من صبي فكيف يجوز قبول شهادة من هذا حاله فإن كان إنما اعتبر حالهم قبل تفرقهم وقبل أن يعلمهم غيرهم لأنه لا يتعمد الكذب دون تلقين غيره فليس ذلك كما ظن لأنهم يتعمدون الكذب من غير مانع يمنعهم وهم يعرفون الكذب كما يعرفون الصدق إذا كانوا قد بلغوا الحد الذي يقومون بمعنى الشهادة والعبارة عما شهدوا وقد يتعمدون الكذب لأسباب عارضة منها خوفهم من أن تنسب إليهم الجناية أو قصدا للمشهود عليه بالمكروه ومعان غير ذلك معلومة من أحوالهم فليس لأحد أن يحكم لهم بصدق الشهادة قبل أن يتفرقوا كما لا يحكم لهم بذلك بعد التفرق وعلى أنه لو كان كذلك وكان العلم حاصلا بأنهم لا يكذبون ولا يتعمدون لشهادة الزور فينبغي أن تقبل شهادة الإناث كما تقبل شهادة الذكور وتقبل شهادة الواحد كما تقبل شهادة الجماعة فإذا اعتبر العدد في ذلك وما يجب اعتباره في الشهادة من اختصاصها في الجراح بالذكور دون الإناث فواجب أن يستوفى لها سائر شروطها من البلوغ والعدالة ومن حيث أجازوا شهادة بعضهم على بعض فواجب إجازتها على الرجال لأن شهادة بعضهم على بعض ليست بآكد منها على الرجال إذ هم في حكم المسلمين عند قائل هذا القول والله الموفق واختلف في شهادة الأعمى فقال أبو حنيفة ومحمد لا تجوز شهادة الأعمى بحال وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله

عنه وروى عمرو بن عبيد عن الحسن قال لا تجوز شهادة الأعمى بحال وروي عن أشعث مثله إلا أنه قال إلا أن تكون في شي رآه قبل أن يذهب بصره وروى ابن لهيعة عن أبي طعمة عن سعيد بن جبير قال لا تجوز شهادة الأعمى وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثني حجاج بن جبير بن حازم عن قتادة قال شهد أعمى عند إياس بن معاوية على شهادة فقال له إياس لا نرد شهادتك إلا أن لا تكون عدلا ولكنك أعمى لا تبصر قال فلم يقبلها وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى والشافعي إذا علمه قبل العمى جازت وما علمه في حال العمى لم تجز وقال شريح والشعبي شهادة الأعمى جائزة وقال مالك والليث بن سعد شهادة الأعمى جائزة وإن علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه وإن شهد على زنا أو حد القذف لم تقبل شهادته والدليل على بطلان شهادة الأعمى ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن محمد بن ميمون البلخي الحافظ قال حدثنا يحيى بن موسى يعرف بخت قال حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول قال حدثنا عبدالله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاوس عن ابن عباس قال سئل ص - عن الشهادة فقال ترى هذه الشمس فاشهد وإلا فدع فجعل من شرط صحة الشهادة معاينة الشاهد لما شهد به والأعمى لا يعاين المشهود عليه فلا تجوز شهادته ومن جهة أخرى أن الأعمى يشهد بالاستدلال فلا تصح شهادته ألا ترى أن الصوت قد يشبه الصوت وإن المتكلم قد يحاكي صوت غيره ونغمته حتى لا يغادر منها شيئا ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجاب أنه المحكي صوته فغير جائز قبول شهادته على الصوت إذ لا يرجع منه إلى يقين وإنما يبنى أمره على غالب الظن وأيضا فإن الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة ولو عبر بلفظ غير لفظ الشهادة بأن يقول أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ وهذا اللفظ يقتضي مشاهدة المشهود به ومعاينته فلم تجز شهادة من خرج من هذا الحد وشهد عن غير معاينة فإن قال قائل يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها فعلمنا أنه يقين ليس بشك إذ غير جائز لأحد الإقدام على الوطء بالشك قيل له يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظن بأن زفت إليه امرأة وقيل له هذه امرأتك وهو لا يعرفها يحل له وطؤها

وكذلك جائز له قبول هدية جارية بقول الرسول ويجوز له الإقدام على وطئها ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة وسائر الأشياء التي ذكرت يجوز فيها استعمال غالب الظن وقبول قول الواحد فليس ذلك إذا أصلا للشهادة وأما إذا استشهد وهو بصير ثم عمي فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء والدليل عليه أنه غير جائز أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي ثم يؤديها وهو حر مسلم بالغ تقبل شهادته ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم تجز فعلمنا أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة وكان العمى مانعا من صحة التحمل وجب أن يمنع صحة الأداء وأيضا لو استشهده وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز شهادته والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه فوجب أن لا تجوز وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته ثم يشهد عليه وهو غائب أو ميت فلا يمنع ذلك جوازها فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه أو غيبته فلا يمنع قبول شهادته والجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أنه إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه فإن كان من أهل الشهادة قبلناها وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه فلا اعتبار بغيره وأما الغائب والميت فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة وغيبة المشهود عليه وموته لا تؤثر في شهادة الشاهد فلذلك جازت شهادته والوجه الآخر أنا لا نجيز الشهادة على الميت والغائب إلا أن يحضر عنه خصم فتقع الشهادة عليه فيقوم حضوره مقام حضور الغائب والميت والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر فلاتصح شهادته فإن احتجوا بقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى قوله تعالى فاستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله تعالى ممن ترضون من الشهداء والأعمى قد يكون مرضيا وهو من رجالنا الأحرار فظاهر ذلك يقتضي قبول شهادته قيل له ظاهر الآية يدل على أن الأعمى غير مقبول الشهادة لأنه قال واستشهدوا والأعمى لا يصح استشهاده لأن الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته إياه وهو غير معاين ولا مشاهد لمن يحضره لأن العمى حائل بينه وبين ذلك كحائط لو كان بينهما فيمنعه ذلك من مشاهدته ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة

من مشاهدة المشهود عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة إثبات الحق عليه وكان ذلك معدوما في الأعمى وجب أن تبطل شهادته فهذه الآية لأن تكون دليلا على بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها وقال زفر لا تجوز شهادة الأعمى إذا شهد بها قبل العمى أو بعده إلا في النسب أن يشهد أن فلانا ابن فلان قال أبو بكر يشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أن النسب قد تصح الشهادة عليه بالخبر المستفيض وإن لم يشاهده الشاهد فلذلك جائز إذا تواتر عند الأعمى الخبر بأن فلانا ابن فلان أن يشهد به عند الحاكم وتكون شهادته مقبولة ويستدل على صحة ذلك بأن الأعمى والبصير سواء فيما ثبت حكمه عن الرسول ص - من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين من طريق المعاينة وإنما يسمع أخبارهم فكذلك جائز أن يثبت عنده علم صحة النسب من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين فتجوز إقامة الشهادة به وتكون شهادته مقبولة فيه إذ ليس شرط هذه الشهادة معاينة المشهود به واختلف في شهادة البدوي على القروي فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والأوزاعي والشافعي هي جائزة إذا كان عدلا وروي نحوه عن الزهري وروى ابن وهب عن مالك قال لا تجوز شهادة بدوي على قروي إلا في الجراح وقال ابن القاسم عنه لا تجوز شهادة بدوي على قروي في الحضر إلا في وصية القروي في السفر أو في بيع فتجوز إذا كانوا عدولا قال أبو بكر جميع ما ذكرنا من دلائل الآية على قبول شهادة الأحرار البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي والبدوي لأن الخطاب توجه إليهم بذكر الإيمان بقوله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين وهؤلاء من جملة المؤمنين ثم قال تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم يعني من رجال المؤمنين الأحرار وهذه صفة هؤلاء ثم قال ممن ترضون من الشهداء وإذا كانوا عدولا فهم مرضيون وقال في آية أخرى في شأن الرجعة والفراق واستشهدوا ذوي عدل منكم وهذه الصفة شاملة للجميع إذا كانوا عدولا وفي تخصيص القروي بها دون البدوي ترك العموم بغير دلالة ولم يختلفوا أنهم مرادون بقوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وبقوله ممن ترضون من الشهداء لأنهم يجيزون شهادة البدوي على بدوي مثله على شرط الآية وإذا كانوا مرادين بالآية فقد اقتضت جواز شهادتهم على القروي من حيث اقتضت جواز شهادة بعضهم على بعض ومن حيث اقتضت جواز شهادة القروي على البدوي

فإن احتجوا بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا نافع بن يزيد بن الهادي عن محمد بن عمرو عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية فإن مثل هذا الخبر لا يجوز الإعتراض به على ظاهر القرآن مع أنه ليس فيه ذكر الفرق بين الجراح وبين غيرها ولا بين أن يكون القروي في السفر أو في الحضر فقد خالف المحتج به ما اقتضاه عمومه وقد روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال شهد أعرابي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - في رؤية الهلال فأمر بلالا ينادي في الناس فليصوموا غدا فقبل شهادته وأمر الناس بالصيام وجائز أن يكون حديث أبي هريرة في أعرابي شهد شهادة عند النبي صلى الله عليه وسلم -
وعلم النبي ص - خلافها مما يبطل شهادته فأخبر به فنقله الراوي من غير ذكر السبب وجائز أن يكون قاله في الوقت الذي كان الشرك والنفاق غالبين على الأعراب كما قال عز و جل ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب وقد وصف الله قوما آخرين من الأعراب بعد هذه الصفة ومدحهم بقوله ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول الآية فمن كانت هذه صفته فهو مرضي عند الله وعند المسلمين مقبول الشهادة ولا يخلو البدوي من أن يكون غير مقبول الشهادة على القروي إما لطعن في دينه أو جهل منه بأحكام الشهادات وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز فإن كان لطعن في دينه فإن هذا غير مختلف في بطلان شهادته ولا يختلف فيه حكم البدوي والقروي وإن كان لجهل منه بأحكام الشهادات فواجب أن لا تقبل شهادته على بدوي مثله وأن لا تقبل شهادته في الجراح ولا على القروي في السفر كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة ويلزمه أن يقبل شهادة البدوي إذا كان عدلا عالما بأحكام الشهادة على القروي وعلى غيره لزوال المعنى الذي من أجله امتنع من قبول شهادته وأن لا يجعل لزوم سمة البدو إياه والنسبة إليه علة لرد شهادته كما لا تجعل نسبة القروي إلى القرية علة لجواز شهادته إذا كان مجانبا للصفات المشروطة لجواز الشهادة قوله عز و جل فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فقال أبو بكر أوجب بديا استشهاد شهيدين وهما الشاهدان لأن الشهيد والشاهد واحد كما أن

عليم وعالم واحد وقادر وقدير واحد ثم عطف عليه قوله فإن لم يكونا رجلين يعني إن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان فلا يخلو قوله فإن لم يكونا رجلين من أن يريد به فإن لم يوجد رجلان فرجل وامرأتان كقوله فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا وكقوله فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ثم قال فمن لم يجد فصيام شهرين إلى قوله تعالى فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا وما جرى مجرى ذلك في الأبدال التي أقيمت مقام أصل الفرض عند عدمه أو أن يكون مراده فإن لم يكن الشهيدان رجلين فالشهيدان رجل وامرأتان فأفادنا إثبات هذا الاسم للرجل والمرأتين حتى يعتبر عمومه في جواز شهادتهما مع الرجل في سائر الحقوق إلا ما قام دليله فلما اتفق المسلمون على جواز شهادة رجل وامرأتين مقام رجلين عند عدم الرجلين فثبت الوجه الثاني وهو أنه أراد تسيمة الرجل والمرأتين شهيدين فيكون ذلك اسما شرعيا يجب اعتباره فيما أمرنا فيه باستشهاد شهيدين إلا موضعا قام الدليل عليه فيصح الاستدلال بعمومه في قول النبي صلى الله عليه وسلم -
لا نكاح إلا بولي وشاهدين وإثبات النكاح والحكم بشهادة رجل وامرأتين إذ قد لحقهم اسم شهدين وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم - النكاح بشهادة شاهدين وقد اختلف أهل العلم في شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الحدود ولا في القصاص وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن عبادة قال حدثنا شعبة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبي رباح أن عمر أجاز شهادة رجل وامرأتين في نكاح وروى جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد أن عمر أجاز شهادة النساء في طلاق وروى إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال تجوز شهادة النساء في العقد وروى حجاج عن عطاء أن ابن عمر كان يجيز شهادة النساء مع الرجل في النكاح وروى عن عطاء أنه كان يجيز شهادة النساء في الطلاق وروي عن عون عن الشعبي عن شريح أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في عتق وهو قول الشعبي في الطلاق وروي عن الحسن والضحاك قالا لا تجوز شهادتهن إلا في الدين والولد وقال مالك لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ولا في الطلاق ولا في النكاح ولا في الأنساب ولا في

الولاء ولا الإحصان وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق وقال الثوري تجوز شهادتهن في كل شيء إلا الحدود وروي عنه أنها لا تجوز في القصاص أيضا وقال الحسن بن حي لا تجوز شهادتهن في الحدود وقال الأوزاعي لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح وقال الليث تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ولا تجوز في النكاح لا الطلاق ولا الحدود ولا قتل العمد الذي يقاد منه وقال الشافعي لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ولا يجوز في الوصية إلا الرجل وتجوز في الوصية بالمال قال أبو بكر ظاهر هذه الآية يقتضي جواز شهادتهن مع الرجل في سائر عقود المداينات وهي كل عقد واقع على دين سواء كان بدله مالا أو بضعا أو منفع أو دم عمد لأنه عقد فيه دين إذ المعلوم أنه ليس مراد الآية في قوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى أن يكون المعقود عليهما من البدلين دينين لامتناع جواز ذلك إلى أجل مسمى فثبت أن المراد وجود دين عن بدل أي دين كان فاقتضى ذلك جواز شهادة النساء مع الرجل على عقد نكاح فيه مهر مؤجل إذا كان ذلك عقد مداينة وكذلك الصلح من دم العمد والخلع على مال والإجارات فمن ادعى خروج شيء من هذه العقود من ظاهر الآية لم يسلم له ذلك إلا بدلالة إذ كان العموم مقتضيا لجوازها في الجميع ويدل على جواز شهادة النساء في غير الأموال ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن القاسم الجوهري قال حدثنا محمد بن إبراهيم أخو أبي معمر قال حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة القابلة والولادة ليست بمال وأجاز شهادتها عليها فدل ذلك على أن شهادة النساء ليست مخصوصة بالأموال ولا خلاف في جواز شهادة النساء على الولادة وإنما الاختلاف في العدد وأيضا لما ثبت أن اسم الشهيدين واقع في الشرع على الرجل والمرأتين وقد ثبت أن اسم البينة يتناول الشهيدين وجب بعموم قوله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه القضاء بشهادة الرجل والمرأتين في كل دعوى إذ قد شملهم اسم البينة ألا ترى أنها بينة في الأموال فلما وقع عليها الاسم وجب بحق العموم قبولها لكل مدع إلا أن تقوم الدلالة على تخصيص شيء منه وإنما خصصنا الحدود والقصاص لما روى الزهري قال مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم - والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في القصاص وأيضا لما اتفق الجميع على

قبول شهادتهن مع الرجل في الديون وجب قبولها في كل حق لا تسقطه الشبهة إذا كان الدين حقا لا يسقط بالشبهة ومما يدل على جوازها في غير الأموال من الآية إن الله تعالى قد أجازها في الأجل بقوله إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ثم قال فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فأجاز شهادتها مع الرجل على الأجل وليس بمال كما أجازها في المال فإن قيل الأجل لا يجب إلا في المال قيل له هذا خطأ لأن الأجل قد يجب في الكفالة بالنفس وفي منافع الأحرار التي ليست بمال وقد يؤجله الحاكم في إقامة البينة على الدم وعلى دعوى العفو منه بمقدار ما يمكن التقدم إليه فقولك إن الأجل لا يجب إلا في المال خطأ ومع ذلك فالبضع لا يستحق إلا بمال ولا يقع النكاح إلا بمال فينبغي أن تجيز فيه شهادة النساء قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء قال أبو بكر لما كانت معرفة ديانات النساس وأماناتهم وعدالتهم إنما هي من طريق الظاهر دون الحقيقة إذا لا يعلم ضمائرهم ولا خبايا أمورهم غير الله تعالى ثم قال الله تعالى فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود ممن ترضون من الشهداء دل ذلك على أن أمر تعديل الشهود موكولا إلى اجتهاد رأينا وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم وصلاح طرائقهم وجائز أن يغلب في ظن بعض الناس عدالة شاهد وأمانته فيكون عنه رضى ويغلب في ظن غيره أنه ليس يرضى فقوله ممن ترضون من الشهداء مبني على غالب الظن وأكثر الرأي والذي بني عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة أحدها العدالة والآخر نفي التهمة وإن كان عدلا والثالث التيقظ والحفظ وقلة الغفلة أما العدالة فأصلها الإيمان واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق الله عز و جل في الواجبات والمسنونات وصدق اللهجة والأمانة وأن لا يكون محدودا في قذف وأما نفي التهمة فأن لا يكون المشهود له والدا ولا ولدا أو زوجا وزوجة وأن لا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة فشهادة هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا وإن كانوا عدولا مرضين وأما التيقظ والحفظ وقلة الغفلة فأن لا يكون غفولا غير مجرب للأمور فإن مثله ربما لقن الشيء فتلقنه وربما جوز عليه التزوير فشهد به قال ابن رستم عن محمد بن الحسن في رجل أعجمي صوام قوام مغفل يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به قال هذا أشر من الفاسق في شهادته وحدثنا عبدالرحمن بن سيما المحبر قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا ابن هلال عن أشعث الحداني قال قال

رجل للحسن يا أبا سعيد إن أياسا رد شهادتي فقام معه إليه فقال يا ملكعان لم رددت شهادته أو ما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال من استقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فقال أيها الشيخ أما سمعت الله يقول ممن ترضون من الشهداء وإن صاحبك هذا ليس برضاه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالوهاب قال حدثنا السري بن عاصم بإسناد ذكره أنه شهد عند أياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن فرد شهادته فبلغ الحسن وقال قوموا بنا إليه قال فجاء إلى إياس فقال يا لكع ترد شهادة رجل مسلم فقال نعم قال الله تعالى ممن ترضون من الشهداء وليس هو ممن أرضى قال فسكت الحسن فقال خصم الشيخ فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظا حافظا لما يسمعه متقنا لما يؤديه وقد ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في صفة العدل أشياء منها أنه قال من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود وما يشبه ما تجب فيه من العظائم وكان يؤدي الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار قبلنا شهادته لأنه لا يسلم عبد من ذنب وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته ولا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ولا من يلعب بالحمام ويطيرها وكذلك من يكثر الحلف بالكذب لا تجوز شهادته قال وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في الجماعة استخفافا بذلك أو مجانة أو فسقا فلا تجوز شهادته وإن تركها على تأويل وكان عدلا فيما سوى ذلك قبلت شهادته قال وإن داوم على ترك ركعتي الفجر لم تقبل شهادته وإن كان معروفا بالكذب الفاحش لم أقبل شهادته وإن كان لا يعرف بذلك وربما ابتلي بشيء منه والخير فيه أكثر من الشر قبلت شهادته ليس يسلم أحد من الذنوب قال وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وابن أبي ليلى شهادة أهل الأهواء جائزة إذا كانوا عدولا إلا صنفا من الرافضة يقال لهم الخطابية فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضا فيما يدعي إذا حلف له ويشهد بعضهم لبعض فلذلك أبطلت شهادتهم وقال أبو يوسف أيما رجل أظهر شتيمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - لم أقبل شهادته لأن رجلا لو كان شتاما للناس والجيران لم أقبل شهادته فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
أعظم حرمة وقال أبو يوسف ألا ترى أن أصحاب رسول الله ص - قد اختلفوا واقتتلوا وشهادة الفريقين جائزة لأنهم اقتتلوا على تأويل فكذلك أهل الأهواء من المتأولين قال أبو يوسف ومن سألت عنه فقالوا إنا نتهمه بشتم أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإني لا أقبل هذا حتى يقولوا سمعناه يشتم قال فإن قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته والفرق بينهما إن الذين قالوا نتهمه بالشتم قد أثبتوا له الصلاح وقالوا نتهمه بالشتم فلا يقبل هذا إلا بسماع والذين قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته أثبتوا له صلاحا وعدالة وذكر ابن رستم عن محمد أنه قال لا أقبل شهادة الخوارج إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين وإن شهدوا قال قلت ولم لا تجيز شهادتهم وأنت تجيز شهادة الحرورية قال لأنهم لا يستحلون أموالنا مالم يخرجوا فإذا خرجوا استحلوا أموالنا فتجوز شهادتهم مالم يخرجوا وحدثنا أبو بكر مكرم بن أحمد قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال سمعت محمد بن سماعة يقول سمعت أبا يوسف يقول سمعت أبا حنيفة يقول لا يجب على الحاكم أن يقبل شهادة بخيل فإن البخيل يحمله شدة بخله على التقصي فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن ومن كان كذلك لم يكن عدلا سمعت حماد بن أبي سليمان يقول سمعت إبراهيم يقول قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيها الناس كونوا وسطا لا تكونوا بخلاء ولا سفلة فإن البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حق لم يؤدوه وإن كان لهم حق استقصوه قال وقال ما من طباع المؤمن التقصي ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض وحدثنا مكرم بن أحمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال سمعت الحماني يقول سمعت ابن المبارك يقول سمعت أبا حنيفة يقول من كان معه بخيل لم تجز شهادته يحمله البخل على التقصي فمن شدة تقصيه يخاف الغبن فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن فلا يكون هذا عدلا وقد روي نظير ذلك عن أياس بن معاوية ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن قال قلت لأياس بن معاوية أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ولا التجار الذين يركبون البحر قال أجل أما الذين يركبون إلى الهند حتى يغرروا بدينهم ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا فعرفت أن هؤلاء لو أعطي أحدهما درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه وأما الذين يتجرون في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا وهم يعلمون فأبيت أن أجيز شهادة آكل الربا وأما الأشراف فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدا منهم نائبة أتى إلى سيد قومه فيشهد له ويشفع فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر أن لا يأتيني

بشهادة وقد روي عن السلف رد شهادة قوم ظهر منهم أمور لا يقطع فيها بفسق فاعليها إلا أنها تدل على سخف أو مجون فرأوا رد شهادة أمثالهم منه ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثنا محمود بن خداش قال حدثنا زيد بن الحباب قال أخبرني داود بن حاتم البصري أن بلال بن أبي بردة وكان على البصرة كان لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حماد بن محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا يحيى بن سليمان عن ابن جريج أن رجلا كان من أهل مكة شهد عند عمر بن عبدالعزيز وكان ينتف عنفقته ويحفي لحيته وحول شاربيه فقال ما اسمك قال فلان قال بل اسمك ناتف ورد شهادته وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن سعد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبدالرحمن بن محمد عن الجعد بن ذكوان قال دعا رجل شاهدا له عند شريح اسمه ربيعة فقال يا ربيعة يا ربيعة فلم يجب فقال يا ربيعة الكويفر فأجاب فقال له قم وقال لصاحبه هات غيره وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال الأقلف لا تجوز شهادته وروى حماد بن أبي سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة لا تجوز شهادة أصحاب الحمر يعني النخاسين وروي عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام وروى مسعر أن رجلا شهد عند شريح وهو ضيق كم القبا فرد شهادته وقال كيف يتوضأ وهو على هذه الحال وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش عن تميم بن سلمة قال شهد رجل عند شريح فقال أشهد بشهادة الله فقال شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة قال أبو بكر لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلا لقبول شهادته فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة من أجلها غير مقطوع فيها بفسق فاعليها ولا سقوط العدالة وإنما دلهم ظاهرها على سخف من هذه حاله فردوا شهادتهم من أجلها لأن كلا منهم تحري موافقة ظاهر قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء على حسب ما أداه إليه اجتهاده فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد أو مجونه أو استهانته بأمر الدين أسقط شهادته قال محمد في كتاب آداب القاضي من ظهرت منه مجانة لم أقبل شهادته قال ولا تجوز شهادة المخنث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج16وج17وج18.وج19.كتاب أحكام القرآن المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

  ج16وج17وج18.وج19.{والاخير بمشيئة  أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19    الله الواحد}     ...