9 مصاحف

9 مصاحف روابط 9 مصاحف

الأربعاء، 27 مارس 2024

ج16وج17وج18.وج19.كتاب أحكام القرآن المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

ج16وج17وج18.وج19.{والاخير بمشيئة 

أقسام الكتاب

 

 الله الواحد}

 

  كتاب  أحكام القرآن أحمد بن علي 

 

الرازي الجصاص

 

إنه لم يجبهم لأن المصلحة في أن يوكلوا إلى ما في عقولهم من الدلالة عليها للإرتياض باستخراج الفائدة وروي في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبي فلم يجبهم الله عز و جل مصداقا لما في كتابهم والروح قد يسمى به أشياء منها القرآن قال الله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا سماه روحا تشبيها بروح الحيوان الذي به يحيى والروح الأمين جبريل وعيسى بن مريم سمي روحا على نحو ما سمي به من القرآن وقوله قل الروح من أمر ربي أي من الأمر الذي يعلمه ربي وقوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا يعني ما أعطيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا من كثير بحسب حاجتكم إليه فالروح من المتروك الذي لا يصلح النص عليه للمصلحة وقد دلت هذه الآية على جواز ترك جواب السائل عن بعض ما يسئل عنه لما فيه من المصلحة في استعمال الفكر والتدبر والإستخراج وهذا في السائل الذي يكون من أهل النظر واستخراج المعاني فأما إن كان مستفتيا قد بلي بحادثة احتاج إلى معرفة حكمها وليس من أهل النظر فعلى العالم بحكمها أن يجيبه عنها بما هو حكم الله عنده قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن الآية فيه الدلالة على إعجاز القرآن فمن الناس من يقول إعجازه في النظم على حياله وفي المعاني وترتيبها على حياله ويستدل على ذلك بتحديه في هذه الآية العرب والعجم والجن والإنس ومعلوم أن العجم لا يتحدون من طريق النظم فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام دون نظم الألفاظ ومنهم من يأبى أن يكون إعجازه إلا من جهة نظم الألفاظ والبلاغة في العبادة فإنه يقول إن إعجاز القرآن من وجوه كثيرة منها حسن النظم وجودة البلاغة في اللفظ والإختصار وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مع تعريه من أن يكون فيه لفظ مسخوط ومعنى مدخول ولا تناقض ولا اختلاف تضاد وجميعه في هذه الوجوه جار على منهاج واحد وكلام العباد لا يخلو إذا طال من أن يكون فيه الألفاظ الساقطة والمعاني الفاسدة والتناقض في المعاني وهذه المعاني التي ذكرنا من عيوب الكلام موجودة في كلام الناس من أهل سائر اللغات لا يختص باللغة العربية دون غيرها فجائز أن يكون التحدي واقعا للعجم بمثل هذه المعاني في الإتيان بها عارية مما يعيبها ويهجنها من الوجوه التي ذكرناها ومن جهة أن الفصاحة لا تختص بها لغة العرب دون سائر اللغات وإن كانت

 

لغة العرب أفصحها وقد علمنا أن القرآن في أعلى طبقات البلاغة فجائز أن يكون التحدي للعجم واقعا بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها قوله تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث قوله فرقناه يعني فرقناه بالبيان عن الحق من الباطل وقوله تقرأ على الناس على مكث يعني على تثبت وتوقف ليفهموه بالتأمل ويعلموا ما فيه بالتفكر ويتفقهوا باستخراج ما تضمن من الحكم والعلوم الشريفة وقد قيل إنه كان ينزل منه شيء ويمكثون ما شاء الله ثم ينزل شيء آخر وهو في معنى قوله ورتل القرآن ترتيلا وروى سفيان عن عبيد المكتب قال سئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة جلوسهما وسجودهما وركوعهما سواء أيهما أفضل قال الذي قرأ البقرة ثم قرأ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث وروى معاوية بن قرة عن عبيدالله بن المغفل قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وهو على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة بينة وروى حماد بن سلمة عن أبي حمزة الضبعي قال قال ابن عباس لأن أقرأ القرآن فأرتلها وأتدبرها أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذا وروى الأعمش عن عمارة عن أبي الأحوص عن عبدالله قال لا تقرؤا القرآن في أقل من ثلاث واقرءوا في سبع وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبدالرحمن بن يزيد إنه كان يقرأه في سبع والأسود في ست وعلقمة في خمس وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأ القرآن في ليلة وروى ابن أبي ليلى عن صدقة عن ابن عمر قال بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم - سقف في المسجد واعتكف فيه في آخر رمضان وكان يصلي فيه فأخرج رأسه فرأى الناس يصلون فقال إن المصلي إذا صلى يناجي ربه فليعلم أحدكم بما يناجيه وفي ذلك دليل على أن المستحب الترتيل لأنه به يعلم ما يناجي ربه به ويفهم عن نفسه ما يقرأه

باب

السجود على الوجه

قال الله تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا روي عن ابن عباس قال للوجوه وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى يخرون للأذقان سجدا قال للوجوه وقال معمر وقال الحسن اللحى وسئل ابن سيرين عن السجود على الأنف فقال يخرون للأذقان سجدا وروى طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعرا ولا ثوبا قال طاوس وأشار

إلى الجبهة

 

والأنف هما عظم واحد وروى عامر بن سعد عن العباس بن عبدالمطلب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم -

يقول إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه وروي عن

النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا سجدت فمكن جبهتك وأنفك من الأرض وروى وائل بن حجر قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم -

إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض وروى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبي

سعيد الخدري أنه رأى الطين في أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأرنبته من أثر السجود وكانوا مطروا من الليل وروى عاصم الأحول عن عكرمة قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم -

رجلا ساجدا فقال النبي ص

- لا تقبل صلاة إلا بمس الأنف منها ما يمس الجبين وهذه الأخبار تدل على أن موضع السجود هو الأنف والجبهة جميعا وروى عبدالعزيز بن عبدالله قال قلت لوهب بن كيسان يا أبا نعيم مالك لا تمكن جبهتك وأنفك من الأرض قال ذاك لأني سمعت جابر بن عبدالله يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يسجد على جبهته على قصاص الشعر وروى أبو الشعثاء قال رأيت عمر سجد فلم يضع أنفه على الأرض فقيل له في ذلك فقال إن أنفي من حر وجهي وأنا أكره أن أشين وجهي وروي عن القاسم وسالم أنهما كانا يسجدان على جباههما ولا تمس أنوفهما الأرض وأما حديث جابر فجائز أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم - يسجد على قصاص شعره لعذر كان بأنفه تعذر معه السجود عليه وتأويل من تأوله على الوجوه على اللحى يدل على جواز الاقتصار بالسجود على الأنف دون الجبهة وإن كان المستحب فعل السجود عليهما لأنه معلوم أنه لم يرد به السجود على الذقن لأن أحدا من أهل العلم لا يقول ذلك فثبت أن المراد الأنف لقربه من الذقن ومن مذهب أبي حنيفة أنه إن سجد على الأنف دون الجبهة أجزأه وقال أبو يوسف ومحمد لا يجزيه وإن سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه عندهم جميعا وروى العطاف بن خالد عن نافع عن ابن عمر قال إذا وقع أنفك على الأرض فقد سجدت وروى سفيان عن حنظلة عن طاوس قال الجبهة والأنف من السبعة في الصلاة واحد وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال إن الأنف من الجبين وقال هو خيره

باب

ما يقال في السجود

قال الله عز و جل ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا فمدحهم بهذا القول عند السجود فدل على أن المسنون في السجود من الذكر هو التسبيح وروى موسى بن

 

أيوب عن عمه عن عقبة بن عامر

قال

لما نزل فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

اجعلوها في ركوعكم فلما نزل سبح

اسم ربك الأعلى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

اجعلوها في سجودكم وروى ابن أبي ليلى عن الشعبي عن صلة بن زفر عن حذيفة

أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وروى قتادة عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح وروى ابن أبي ذئب

عن إسحاق بن يزيد عن عون بن عبدالله عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا فإذا فعل ذلك فقد تم ركوعه وذكر في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال أما الركوع فعظموا فيه الرب وأم السجود فأكثروا فيه الدعاء فإنه

قمن أن يستجاب لكم وروي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده اللهم لك سجدت وبك آمنت في كلام كثير وجائز أن يكون ما رواه علي وابن عباس إنما كان يقوله قبل نزول سبح اسم ربك الأعلى ثم لما نزل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يجعل في السجود كما رواه عقبة بن عامر وقال أصحابنا والثوري والشافعي يقول في الركوع سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا وقال الثوري يستحب للإمام أن يقولها خمسا في الركوع وفي السجود حتى يدرك الذين خلفه ثلاث تسبيحات وقال ابن القاسم عن مالك في الركوع والسجود إذا أمكن ولم يسبح فهو يجزي عنه وكان لا يوقت تسبيحا وقال مالك في السجود والركوع قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى لا أعرفه فأنكره ولم يجد فيه دعاء موقتا قال ولكن يمكن يديه من ركبتيه في الركوع ويمكن جبهته من الأرض في السجود وليس فيه عنده حد

باب البكاء في الصلاة

قال الله تعالى ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ومثله قوله تعالى خروا سجدا وبكيا وفيه الدلالة على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يقطع الصلاة لأن الله تعالى قد مدحهم بالبكاء في السجود ولم يفرق بين سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجدة الشكر وروى سفيان بن عيينة قال حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد قال سمعت

 

عبدالله بن شداد قال سمعت نشيج عمر رضي الله عنه وإني لفي آخر الصفوف وقرأ في صلاة الصبح سورة يوسف حتى إذا بلغ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله نشج ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كانوا خلفه فصار إجماعا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وقوله تعالى ويزيدهم

خشوعا يعني به أن بكاءهم في حال السجود يزيدهم خشوعا إلى خشوعهم وفيه الدلالة على أن مخافتهم لله تعالى حتى تؤديهم إلى البكاء داعية إلى طاعة الله وإخلاص العبادة على ما يجب من القيام بحقوق نعمه والله الموفق

باب

الجهر بالقراءة في الصلاة والدعاء

قال الله تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا روي عن ابن عباس رواية وعائشة ومجاهد وعطاء لا تجهر بدعائك ولا تخافت به وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة إن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إذا جهر ولا يسمع من خلفه إذا خافت وذلك بمكة فأنزل الله تعالى ولا

تجهر بصلاتك وأراد به القراءة في الصلاة وقال الحسن لا تجهر بالصلاة بإشاعتها عند من يؤذيك ولا تخافت بها عند من يلتمسها فكان ذلك عند الحسن أنه أريد ترك الجهر في حال وترك ذلك المخافتة في أخرى وقيل لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بجميعها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار على ما أمرناك به وروي عن عبادة بن نسي عن غضيف بن الحارث قال سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يجهر بالقرآن أو يخافت قالت ربما جهر وربما خافت وروى أبو خالد الوالبي عن أبي هريرة أنه كان إذا قام من الليل يخفض طورا ويرفع طورا وقال هكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم - وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - رأى الناس في آخر رمضان فقال إن المصلي إذا صلى يناجي ربه فليعلم أحدكم بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يرفع الرجل صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه في الصلاة ورويت أخبار في الجهر بالقراءة في صلاة الليل روى كريب عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم - يقرأ في بعض حجره فيسمع قراءته من كان خارجا وروى إبراهيم عن علقمة قال صليت مع عبدالله ليلة فكان يرفع صوته بالقراءة فيسمع أهل الدار وروي أن أبا بكر إذا صلى

 

خفض صوته وإن عمر كان إذا صلى رفع صوته فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لأبي بكر لم تفعل هذا قال أناجي ربي وقد علم حاجتي فقال النبي ص

- أحسنت وقال لعمر لم تفعل هذا فقال أوقظ النومان وأطرد الشيطان فقال أحسنت فلما نزل ولا تجهر بصلاتك الآية قال لأبي بكر ارفع شيئا وقال لعمر اخفض شيئا وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت سمع النبي صلى الله عليه وسلم -

صوت أبي موسى فقال لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود فهذا يدل

على أن رفع الصوت لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم - وروى عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - زينوا القرآن بأصواتكم وروى حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول حسنوا أصواتكم بالقرآن وروى ابن جريج عن طاوس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس قراءة قال الذي إذا سمعت قراءته رأيت أنه يخشى الله آخر سورة بني إسرائيل

سورة

الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا فيه بيان أن ما جعله زينة لها من النبات والحيوان وغير ذلك سيجعله صعيدا جرزا والصعيد الأرض والصعيد التراب وما ذكره الله تعالى من إحالته ما عليها مما هو زينة لها صعيدا هو مشاهد معلوم من طبع الأرض إذ كل ما يحصل فيها من نبات أو حيوان أو حديد أو رصاص أو نحوه من الجواهر يستحيل ترابا فإذا كان الله جل وعلا قد أخبر أن ما عليها يصيره صعيدا جرزا وأباح مع ذلك التيمم بالصعيد وجب بعموم ذلك جواز التيمم بالصعيد الذي كان نباتا أو حيوانا أو حديدا أو رصاصا أو غير ذلك لإطلاقه تعالى الأمر بالتيمم بالصعيد وفي ذلك دليل على صحة قول أصحابنا في النجاسات إذ استحالت أرضا أنها طاهرة لأنها في هذه الحال أرض ليست بنجاسة وكذلك قالوا في نجاسة أحرقت فصارت رمادا أنه طاهر لأن الرماد في نفسه طاهر وليس بنجاسة ولا فرق بين رماد النجاسة وبين رماد الخشب الطاهر إذ النجاسة هي التي توجد على ضرب من الإستحالة وقد زال ذلك عنها بالإحراق وصارت إلى ضرب الإستحالة التي لا توجب التنجيس وكذلك الخمر إذا استحالت خلا فهو طاهر لأنه في الحال ليس

 

بخمر لزوال الإستحالة الموجبة لكونها خمرا قوله تعالى إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فيه الدلالة على أن على الإنسان أن يهرب بدينه إذا خاف الفتنة فيه وأن عليه أن لا يتعرض لإظهار كلمة الكفر وإن كان على وجه التقية ويدل على أنه إذا أراد الهرب بدينه خوف الفتنة أن يدعو بالدعاء الذي حكاه الله عنهم لأن الله قد رضي ذلك من فعلهم وأجاب دعاءهم وحكاه لنا على جهة الإستحسان لما كان منهم قوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا معناه ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم لما في ذلك من العبرة قوله تعالى لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا قيل فيه وجوه أحدها ما ألبسهم الله تعالى من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم وينتبهوا من رقدتهم وذلك وصفهم في حال نومهم لا بعد اليقظة والثاني إنهم كانوا في مكان موحش من الكهف أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون والثالث إن أظفارهم وشعورهم طالبت فلذلك يأخذ الرعب منهم قوله تعالى قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم لما حكى الله ذلك عنهم غير منكر لقولهم علمنا أنهم كانوا مصيبين في إطلاق ذلك لأن مصدره إلى ما كان عندهم من مقدار اللبث وفي اعتقادهم لا عن حقيقة اللبث في المغيب وكذلك هذا في قوله فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ولم ينكر الله ذلك لأنه أخبر عما عنده وفي اعتقاده لا عن مغيب أمره وكذلك قول موسى عليه السلام للخضر أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا و لقد جئت شيئا إمرا يعني عندي كذلك ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم -

كل ذلك لم يكن حين قال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت قوله تعالى

فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية يدل على جواز خلط دراهم الجماعة والشرى بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن كان بعضهم قد يأكل أكثر مما يأكل غيره وهذا الذي يسميه الناس المناهدة ويفعلونه في الأسفار وذلك لأنهم قالوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فأضاف الورق إلى الجماعة ونحوه قوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم فأباح لهم بذلك خلط طعام اليتيم بطعامهم وأن تكون يده مع أيديهم مع جواز أن يكون بعضهم أكثر أكلا من غيره وفي هذه الآية دلالة على جواز الوكالة بالشرى لأن الذي بعثوا به كان وكيلا لهم

 

باب

الإستثناء في اليمين

قال الله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله قال أبو بكر هذا الضرب من الإستثناء يدخل لرفع حكم الكلام حتى يكون وجوده وعدمه سواء وذلك لأن الله تعالى ندبه الإستثناء بمشيئة الله تعالى لئلا يصير كاذبا بالحلف فدل على أن حكمه ما وصفنا ويدل عليه أيضا قوله عز و جل حاكيا عن موسى عليه السلام ستجدني إن شاء الله صابرا فلم يصبر ولم يك كاذبا لوجود الإستثناء في كلامه فدل على أن معناه ما وصفنا من دخوله في الكلام لرفع حكمه فوجب أن لا يختلف حكمه في دخوله على اليمين أو على إيقاع الطلاق أو على العتاق وقد روى أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه وفي بعض الألفاظ فقد استثنى قال أبو بكر ولم يفرق بين شيء من الأيمان فهو على جميعها وعن عبدالله بن مسعود من قوله مثله وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم قالوا الإستثناء في كل شيء وقد روى إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا قال الرجل لعبده أنت حر إن شاء الله فهو حر وإذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فليست بطالق وهذا حديث شاذ واهي السند غير معمول عليه عند أهل العلم وقد اختلف أهل العلم بعد اتفاقهم على صحة الإستثناء في الوقت الذي يصح فيه الإستثناء على ثلاثة أنحاء فقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية إذا استثنى بعد سنة صح استثناؤه وقال الحسن وطاوس يجوز الإستثناء ما دام في المجلس وقال إبراهيم وعطاء والشعبي لا يصح الإستثناء إلا موصولا بالكلام وروي عن إبراهيم في الرجل يحلف ويستثني في نفسه قال لا يجهر بالإستثناء كما جهر بيمينه وهذا محمول عندنا على أنه لا يصدق في القضاء إذا ادعى أنه كان استثنى ولم يسمع منه وقد سمع منه اليمين وقال أصحابنا وسائر الفقهاء لا يصح الإستثناء إلا موصولا بالكلام وذلك لأن الإستثناء بمنزلة الشرط والشرط لا يصلح ولا يثبت حكمه إلا موصولا بالكلام من غير فصل مثل قوله أنت طالق إن دخلت الدار فلو قال أنت طالق ثم قال إن دخلت الدار بعد ما سكت لم يوجب ذلك تعلق الطلاق بالدخول ولو جاز هذا لجاز أن يقول لامرأته أنت طالق ثلاثا ثم يقول بعد سنة إن شاء الله فيبطل الطلاق ولا تحتاج إلى زوج ثان في إباحتها للأول وفي

 

تحريم الله تعالى إياها عليه بالطلاق الثلاث إلا بعد زوج دلالة على بطلان الإستثناء بعد السكوت ولما صح ذلك في الإيقاع في أنه لا يصح الإستثناء إلا موصولا بالكلام كان كذلك حكم اليمين وأيضا قال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أنه إن برأ ضربها فأمره الله تعالى أن يأخذ بيده ضغثا ويضرب به ولا يحنث ولو صح الإستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالإستثناء فيستغني به عن ضربها بالضغث وغيره ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ولو جاز الإستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالإستثناء واستغنى عن الكفارة وقال ص - إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ولم يقل إلا قلت إن شاء الله فإن قيل روى قيس عن سماك عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ثم سكت ساعة فقال إن شاء الله

فقد استثنى بعد السكوت قيل له رواه شريك عن سماك عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال والله لأغزون قريشا ثلاثا ثم قال في آخرهن إن شاء الله فأخبر أنه استثنى في آخرهن وذلك يقتضي اتصاله باليمين وهو أولى لما ذكرنا وفي هذا الخبر دلالة أيضا على أنه إذا حلف بأيمان كثيرة ثم استثنى في آخرهن كان الإستثناء راجعا إلى الجميع واحتج ابن عباس ومن تابعه في إجازة الإستثناء متراخيا عن اليمين بقوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت فتأولوا قوله واذكر ربك إذا نسيت على الإستثناء وهذا غير واجب لأن قوله تعالى واذكر ربك إذ نسيت يصح أن يكون كلاما مبتدأ مستقلا بنفسه من غير تضمين له بما قبله وغير جائز فيما كان هذا سبيله تضمينه بغيره وقد روى ثابت عن عكرمة في قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت قال إذا غضبت فثبت بذلك أنه إنما أراد الأمر بذكر الله تعالى وأن يفزع إليه عند السهو والغفلة وقد روي في التفسير أن قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله إنما نزل فيما سألت قريش عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فقال سأخبركم فأبطأ عنه جبريل عليهما السلام أياما ثم أتاه بخبرهم وأمره الله تعالى بعد ذلك بأن لا يطلق القول على فعل يفعله في المستقبل إلا مقرونا بذكر مشيئة الله تعالى وفي نحو ذلك ما روى هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال سليمان بن داود والله لأطوفن

 

الليلة على مائة امرأة فتلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فلم تلد منهن إلا واحدة ولدت نصف إنسان قوله تعالى ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازداودا تسعا روي عن قتادة أن هذا حكاية عن قول اليهود لأنه قال قل الله أعلم بما لبثوا وقال مجاهد والضحاك وعبيد بن عمير إنه إخبار من الله تعالى بأن هذا كانت مدة لبثهم ثم قال لنبيه ص - قل إن حاجك أهل الكتاب الله أعلم بما لبثوا وقيل فيه الله أعلم بما لبثوا إلى الوقت الذي نزل فيه القرآن بها وقيل قل الله أعلم بما لبثوا إلى أن ماتوا فأما قول قتادة فليس بظاهر لأنه لا يجوز صرف إخبار الله إلى أنه حكاية عن غيره إلا بدليل ولأنه يوجب أن يكون بيان مدة لبثهم غير مذكور في الكتاب مع العلم بأن الله قد أراد منا الاعتبار والإستدلال به على عجيب قدرة الله تعالى ونفاذ مشيئته قوله تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله قيل في ما شاء الله وجهان أحدهما ما شاء الله كان فحذف كقوله تعالى فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فحذف منه فافعل والثاني هو ما شاء الله وقد أفاد أن قول القائل منا ما شاء الله ينتظم رد العين وارتباط النعمة وترك الكبر لأن فيه إخبار أنه لو قال ذلك لم يصبها ما أصاب قوله تعالى إلا إبليس كان من الجن فيه بيان أنه ليس من الملائكة لأنه أخبر انه من الجن وقال الله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم فهو جنس غير جنس الملائكة كما أن الإنس جنس غير جنس الجن وروي أن الملائكة أصلهم من الريح كما أن أصل بني آدم من الأرض وأصل الجن من النار قوله تعالى نسيا حوتهما والناسي له كان يوشع بن نون فأضاف النسيان إليهما كما يقال نسي القوم زادهم وإنما نسيه أحدهم وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لمالك بن الحويرث ولابن عم له إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أحدكما

وإنما يؤذن ويقيم أحدهما وقال يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وإنما هم من الإنس قوله تعالى لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان نصب أو تعب في سعي في قربة وأن ذلك ليس بشكاية مكروهة وما ذكره الله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع الخضر فيه بيان أن فعل الحكيم للضرر لا يجوز أن يستنكر إذا كان فيه تجويز فعله على وجه الحكمة المؤدية إلى المصلحة وإن ما يقع من الحكيم من ذلك لخلاف ما يقع من السفيه وهو مثل الصبي الذي

 

إذا حجم أو سقي الدواء استنكر ظاهره وهو غير عالم بحقيقة معنى النفع والحكمة فيه فكذلك ما يفعل الله من الضرر أو ما يأمر به غير جائز استنكاره بعد قيام الدلالة أنه لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة وهذا أصل كبير في هذا الباب والخضر عليه السلام لم يحتمل موسى أكثر من ثلاث مرات فدل على أنه جائز للعالم احتمال من يتعلم منه المرتين والثلاث على مخالفة أمره وأنه جائز له بعد الثلاث ترك احتماله

في

الكنز ما هو

قال الله تعالى وكان تحته كنز لهما قال سعيد بن جبير علم وقال عكرمة مال وقال ابن عباس ما كان بذهب ولا فضة وإنما كان علما صحفا وقال مجاهد صحف من علم وقد روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في قوله وكان

تحته كنز لهما قال ذهب وفضة ولما تأولوه على الصحف وعلى العلم وعلى الذهب وعلى الفضة دل على أن اسم الكنز يقع على الجميع لولاه لم يتأولوه عليه وقال الله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فخص الذهب والفضة بالذكر لأن سائر الأشياء إذا كثرت لا تجب فيها الزكاة وإنما تجب فيها الزكاة إذا كانت مرصدة للنماء والذهب والفضة تجب فيهما وإن كانا مكنوزين غير مرصدين للنماء قوله تعالى وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما الآية فيه دلالة على أن الله يحفظ الأولاد لصلاح الآباء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال إن الله ليحفظ المؤمن في أهله وولده وفي الدويرات حوله ونحوه

قوله تعالى ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما فأخبر بدفع العذاب عن الكفار لكون المؤمنين فيهم ونحوه قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم آخر سورة الكهف

ومن

سورة مريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى إذ نادى ربه نداء خفيا فمدحه بإخفاء الدعاء وفيه الدليل على أنه إخفاءه أفضل من الجهر به ونظيره قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وروى سعد

 

ابن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم - خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي وعن الحسن إنه كان يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه وكان لا يعجبه رفع الأصوات وروى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فرأى قوما قد رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إن الذي تدعونه أقرب إليكم من حبل الوريد قوله تعالى وإني خفت الموالي من ورائي روي عن مجاهد وقتادة وأبي صالح والسدي إن الموالي العصبة وهم بنو أعمامه خافهم على الدين لأنهم كانوا شرار بني إسرائيل قوله تعالى فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب سأل الله عز و جل أن يرزقه ولدا ذكرا يلي أمور الدين والقيام به بعد موته لخوفه من بني أعمامه على تبديل دينه بعد وفاته وروى قتادة عن الحسن في قوله تعالى يرثني ويرث من آل يعقوب قال نبوته وعلمه وروى خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال كان عقيما لا يولد له ولد فسأل ربه الولد فقال يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة وعن أبي صالح مثله فذكر ابن عباس إنه يرث المال ويرث من آل يعقوب النبوة فقد أجاز إطلاق اسم الميراث على النبوة فكذلك يجوز أن يعني بقوله يرثني يرث علمي وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما

ورثوا العلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - كونوا على مشاعركم يعني بعرفات فإنكم على إرث من إرث إبراهيم وروى الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر الصديق قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم -

يقول لا نورث ما تركنا صدقة وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال

سمعت عمر ينشد نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فيهم عثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير وطلحة أنشدكم بالله الذي به تقوم السموات والأرض أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا نورث ما تركنا صدقة قالوا نعم فقد ثبت برواية هذه الجماعة عن

النبي صلى الله عليه وسلم - أن الأنبياء لا يورثون المال ويدل على أن زكريا لم يرد بقوله يرثني المال إن نبي الله لا يجوز أن يأسف على مصير ماله بعد موته إلى مستحقه وإنه إنما خاف أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه فيحرفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه قوله تعالى إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فيه الدلالة على ترك الكلام واستعمال الصمت قد كان قربة لولا ذلك لما نذرته مريم عليها السلام ولما فعلته بعد النذر وقد روى معمر عن قتادة في قوله إني نذرت

 

للرحمن صوما قال في بعض الحروف صمتا ويدل على أن مرادها الصمت قولها فلن أكلم اليوم إنسيا وهذا منسوخ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن صمت يوم إلى الليل وقال السدي كان من صام في ذلك الزمان لا يكلم الناس فأذن لها في هذا المقدار من الكلام وقد كان الله تعالى حبس زكريا عن الكلام ثلاثا وجعل ذلك آية له على الوقت الذي يخلق له فيه الولد فكان ممنوعا من الكلام من غير آفة ولا خرس قوله تعالى فخرج على قومه من المحراب قال أبو عبيدة المحراب صدر المجلس ومنه محراب المسجد وقيل إن المحراب الغرفة ومنه قوله تعالى إذ تسوروا المحراب وقيل المحراب المصلى وقوله تعالى فأوحى إليهم قيل فيه إنه أشار إليهم وأومأ بيده فقامت الإشارة في هذا الموضع مقام القول لأنها أفادت ما يفيده القول وهذا يدل على أن إشارة الأخرس معمول عليها قائمة فيما يلزمه مقام القول ولم يختلف الفقهاء أن إشارة الصحيح لا تقوم مقامه قوله وإنم كان في الأخرس كذلك لأنه بالعادة والمران والضرورة الداعية إليها قد علم بها مالا يعلم بالقول وليس للصحيح في ذلك عادة معروفة فيعمل عليها ولذلك قال أصحابنا فيمن اعتقل لسانه فأومأ وأشار بوصية أو غيرها أنه لا يعمل على ذلك لأنه ليس له عادة جارية بذلك حتى يكون في معنى الأخرس قوله تعالى قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا قال قائلون إنما تمنت الموت للحال التي دفعت إليها من الولادة من غير ذكر وهذا خطأ لأن هذه حال كان الله تعالى قد ابتلاها بها وصيرها إليها وقد كانت هي راضية بقضاء الله تعالى لها بذلك مطيعة لله وتسخط فعل الله وقضائه معصية لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة فعلمنا أنها لم تتمن الموت لهذا المعنى وإنما تمنته لعلمها بأن الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها فتمنت أن تكون قد ماتت قبل أن يعصي الناس الله بسببها قوله تعالى فناداها من تحتها قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي جبريل عليه السلام وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ووهب بن منبه الذي ناداها عيسى عليه السلام وقوله تعالى وجعلني مباركا أينما كنت قال مجاهد معلما للخير وقال غيره جعلني نفاعا وقوله تعالى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا قيل إنه عنى زكاة المال وقيل أراد التطهير من الذنوب قوله تعالى وبرا بوالدتي إلى قوله والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا يدل على أنه يجوز للإنسان أن

 

يصف نفسه بصفات الحمد والخير إذا أراد تعريفها إلى غيره لا على جهة الإفتخار وهو أيضا مثل قول يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فوصف نفسه بذلك تعريفا للملك بحاله قوله تعالى واهجرني مليا روي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي قالوا دهرا طويلا وعن ابن عباس وقتادة والضحاك مليا سويا سليما من عقوبتي قال أبو بكر هذا من قولهم فلان ملي بهذا الأمر إذا كان كامل الأمر فيه مضطلعا به قوله تعالى أضاعوا الصلاة قال عمر بن عبدالعزيز أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها ويدل على هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم - ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن يدعها حتى يدخل وقت الأخرى وقال محمد بن كعب أضاعوها بتركها قوله تعالى هل تعلم له سميا قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج مثلا وشبيها وقوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا قال ابن عباس لم تلد مثله العواقر وقال مجاهد لم نجعل له من قبل مثلا وقال قتادة وغيره لم يسم أحد قبله باسمه وقيل في معنى قوله هل تعلم له سميا أن أحدا لا يستحق أن يسمى إلها غيره وقوله تعالى إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فيه الدلالة على أن سامع السجدة وتاليها سواء في حكمها وأنهم جميعا يسجدون لأنه مدح السامعين لها إذا سجدوا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إنه تلا سجدة يوم الجمعة على المنبر فنزل وسجدها وسجد المسلمون معه وروى عطية عن ابن عمر وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب قالوا السجدة على من سمع وروى أبو إسحاق عن سليمان بن حنظلة الشيباني قال قرأت عند ابن مسعود سجدة فقال إنما السجدة على من جلس لها وروى سعيد بن المسيب عن عثمان مثله قال أبو بكر قد أوجبا السجدة على من جلس لها ولا فرق بين أن يجلس للسجدة بعد أن يكون قد سمعها إذ كان السبب الموجب لها هو السماع ثم لا يختلف حكمها في الوجوب بالنية وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يفسدها قوله تعالى وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا فيه الدلالة على أن ملك الوالد لا يبقى على ولده فيكون عبدا له يتصرف فيه كيف شاء وأنه يعتق عليه إذا ملكه وذلك لأنه تعالى فرق بين الولد والعبد فنفى بإثباته العبودية النبوة وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه بالشرى وهو

كقوله ص - الناس غاديان فبائع

 

نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها ولم يرد بذلك أن يبتدئ لنفسه عتقا بعد الشرى وإنما معناه معتقها بالشرى فكذلك قوله فيشتريه فيعتقه وهو كقوله فيشتريه فيملكه وليس المراد منه استئناف ملك آخر بعد الشرى بل يملكه ويدل على أنه يعتق عليه بنفس الشرى إن ولد الحر من أمته حر الأصل ولا يحتاج إلى استئناف عتق وكذلك المشتري لابنه لأنه لو احتاج المشتري لابنه إلى استئناف عتق لاحتاج إليه أيضا الإبن المولود من أمته إذ كانت الأمة مملوكة فإن قيل إن ولد أمته منه حر الأصل فلم يحتج من أجل ذلك إلى استئناف عتق والولد المشترى مملوك فلا يعتق بالشرى حتى يستأنف له عتقا قيل له اختلافهما من هذا الوجه لا يمنع وجه الاستدلال منه على ما وصفنا في أن الإنسان لا يبقى له ملك على ولده وأنه واجب أن يعتق عليه إذا ملكه وذلك لأنه لو جاز له أن يبقى له ملك على ولده لوجب أن يكون ولده من أمته رقيقا إلى أن يعتقه وإنما اختلف الولد والمولود من أمته والولد المشترى في كون الأول حر الأصل وكون الآخر معتقا عليه ثابت الولاء منه من قبل أن الولد المشترى قد كان ملكا لغيره فلا بد إذا اشتراه من وقوع العتاق عليه حتى يستقر ملكه إذ غير جائز إيقاع العتق في ملك بائعه لأنه لو وقع العتاق في ملكه لبطل البيع لأنه بعد العتق ولا يصح أيضا وقوعه في حال البيع لأن حصول العتق ينفي صحة البيع في الحال التي يقع فيها فوجب أن يعتق في الثاني من ملكه ولا يصح ايضا وقوع العتاق في حال الملك لأنه يكون إيقاع عتق لا في ملك فلذلك وجب أن يعتق في الثاني من ملكه وأما الولد المولود في ملكه من جاريته فإنا لو أثبتنا له ملكا فيه كان هو المستحق للعتق في حال الملك فلا جائز أن يثبت ملكه مع وجود ما ينافيه وهواستحقاق العتاق في تلك الحال فكان حر الأصل ولم يثبت له ملك فيه ولو ثبت ملكه ابتداء فيه لكان مستحقا بالعتق في حال ما يريد إثباته لوجود سببه الموجب له وهو ملكه للأم وغير جائز إثبات ملك ينتفي في حال وجوده واختلافهما من هذا الوجه لا ينفي أن يكون ملكه لولده في الحالين موجبا لعتقه وحريته قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا قيل فيه وجهان أحدهما في الآخرة يحب بعضهم بعضا كمحبة الوالد للولد وقال ابن عباس ومجاهد ودا في الدنيا آخر سورة مريم

 

ومن

سورة طه

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قال الحسن استوى بلطفه وتدبيره وقيل استولى وقوله تعالى فإنه يعلم السر وأخفى قال ابن عباس السر ما حدث به العبد غيره في خفي وأخفى منه ما أضمره في نفسه مما لم يحدث به غيره وقال سعيد بن جبير وقتادة السر ما أضمره العبد في نفسه وأخفى منه مالم يكن ولا أضمره أحد قوله تعالى فاخلع نعليك قال الحسن وابن جريج أمره بخلع نعليه ليباشر بقدمه بركة الوادي المقدس قال أبو بكر يدل عليه قوله عقيب ذلك إنك بالواد المقدس طوى فتقديره اخلع نعليك لأنك بالواد المقدس وقال كعب وعكرمة كانت من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعها قال أبو بكر ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل وذلك لأن التأويل إن كان هو الأول فالمعنى فيه مباشرة الوادي بقدمه تبركا به كاستلام الحجر وتقبيله تبركا به فيكون الأمر بخلع النعل مقصورا على تلك الحال في ذلك الوادي المقدس بعينه وإن كان التأويل هو الثاني فجائز أن يكون قد كان محظورا لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغا فإن كان كذلك فهو منسوخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال أيما إهاب دبغ فقد طهر وقد صلىالنبي ص

- في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال مالكم خلعتم نعالكم قالوا خلعت فخلعنا قال فإن جبريل أخبرني أن فيها قذرا فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم - الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعها وأخبرهم أنه إنما خلعها لأن جبريل أخبره أن فيها قذرا وهذا عندنا محمول على أنها كانت نجاسة يسيرة لأنها لو كانت كثيرة لاستأنف الصلاة قوله تعالى وأقم الصلاة لذكري قال الحسن ومجاهد لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم وقيل فيه لأن أذكرك بالثناء والمدح وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فصلاها بعد طلوع الشمس وقال إن الله يقول أقم الصلاة لذكري وروى همام بن يحيى عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وتلا أقم الصلاة لذكري وهذا يدل على أن قوله أقم الصلاة لذكري قد أريد به فعل الصلاة المتروكة وكون ذلك مرادا بالآية

 

لا ينفي أن تكون المعاني التي تأولها عليها الآخرون مرادة أيضا إذ هي غير متنافية فكأنه قال أقم الصلاة إذا ذكرت الصلاة المنسية لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم لأن أذكرك بالثناء والمدح فيكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية وهذا الذي ورد به الأثر من إيجاب قضاء الصلاة المنسية عند الذكر لا خلاف بين الفقهاء فيه وقد روي عن بعض السلف فيه قول شاذ ليس العمل عليه فروى إسرائيل عن جابر عن أبي بكر بن أبي موسى عن سعد قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها وليصل مثلها من الغد وروى الجريري عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب قال إذا فاتت الرجل الصلاة صلاها من الغد لوقتها فذكرت ذلك لأبي سعيد فقال صلها إذا ذكرتها وهذان القولان شاذان وهما مع ذلك خلاف ما ورد به الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

من أمره بقضاء الفائتة عند الذكر من غير فعل صلاة أخرى غيرها وتلاوة

النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى أقم الصلاة لذكري عقيب ذكر الفائتة وبعد قوله من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها يوجب أن يكون مراد الآية قضاء الفائتة عند الذكر وذلك يقتضي الترتيب في الفوائت لأنه إذا كان مأمورا بفعل الفائتة عند الذكر وكان ذلك في وقت صلاة فهو منهي لا محالة عن فعل صلاة الوقت في تلك الحال فأوجب ذلك فساد صلاة الوقت إن قدمها على الفائتة لأن النهي يقتضي الفساد حتى تقوم الدلالة على غيره وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا الترتيب بين الفوائت وبين صلاة الوقت واجب في اليوم والليلة وما دونهما إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت فإن زاد على اليوم والليلة لم يجب الترتيب والنسيان يسقط الترتيب عندهم أعني نسيان الصلاة الفائتة وقال مالك بن أنس بوجوب الترتيب وإن نسي الفائتة إلا أنه يقول إن كانت الفوائت كثيرة بدأ بصلاة الوقت ثم صلى ما كان نسي وإن كانت الفوائت خمسا ثم ذكرهن قبل صلاة الصبح صلاهن قبل الصبح وإن فات وقت الصبح وإن صلى الصبح ثم ذكر صلوات صلى ما نسي فإذا فرغ أعاد الصبح ما دام في الوقت فإذا فات الوقت لم يعد وقال الثوري بوجوب الترتيب إلا أنه لم يرو عنه الفرق بين القليل والكثير لأنه سئل عمن صلى ركعة من العصر ثم ذكر أنه صلى الظهر على غير وضوء أنه يشفع بركعة ثم يسلم فيستقبل الظهر ثم العصر وروي عن الأوزاعي روايتان في إحداهما إسقاط الترتيب وفي الأخرى إيجابه وقال الليث إذا ذكرها وهو في صلاة وقد صلى ركعة فإن

 

كان مع إمام فليصل معه حتى إذا سلم صلى التي نسي ثم أعاد الصلاة التي صلاها معه وقال الحسن بن صالح إذا صلى صلوات بغير وضوء أو نام عنهن قضى الأولى فالأولى فإن جاء وقت صلاة تركها وصلى ما قبلها وإن فاته وقتها حتى يبلغها وقال الشافعي الإختيار أن يبدأ بالفائتة فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه ولا فرق بين القليل والكثير قال أبو بكر وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال من نسي صلاة وذكرها وهو خلف إمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ صلى التي نسي ثم يصلي الأخرى وروى عباد بن العوام عن هشام عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال أقبلنا حتى دنونا من المدينة وقد غابت الشمس وكان أهل المدينة يؤخرون المغرب فرجوت أن أدرك معهم الصلاة فأتيتهم وهم في صلاة العشاء فدخلت معهم وأنا أحسبها المغرب فلما صلى الإمام قمت فصليت المغرب ثم صليت العشاء فلما أصبحت سألت عن الذي فعلت فكلهم أخبروني بالذي صنعت وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - بها يومئذ متوافرين وقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بوجوب الترتيب فهؤلاء السلف قد روي عنهم إيجاب الترتيب

ولم

يرو عن أحد من نظرائهم خلاف فصار ذلك إجماعا من السلف ويدل على وجوب الترتيب في الفوائت ما روى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأنا والله ما صليت بعد فنزل وتوضأ ثم صلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعد ما صلى العصر وروي عنه ص - أنه فاتته أربع صلوات حتى كان هوى من الليل فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء وهذا الخبر يدل من وجهين على وجوب الترتيب أحدهما قوله ص - صلوا كما رأيتموني أصلي فلما صلاهن على الترتيب اقتضى ذلك إيجابه والوجه الآخر أن فرض الصلاة تحل من الكتاب والترتيب وصف من أوصاف الصلاة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فلما قضى الفوائت على الترتيب كان فعله ذلك بيانا للفرض المحمل فوجب أن يكون على الوجوب ويدل على وجوبه أيضا أنهما صلاتان فرضان قد جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون ذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة وقال عمر للنبي ص - إني ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فلم ينكره النبي ص

 

ولم يأمر بالإعادة فيه الدلالة على أن من صلى العصر عند غروب الشمس فلا إعادة عليه قوله تعالى وألقيت عليك محبة مني يعني إني جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره وأحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فثبتتك قوله تعالى ولتصنع على عيني قال قتادة لتغدى على محبتي وإرادتي قوله تعالى وفتناك فتونا قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس عن قوله تعالى وفتناك فتونا فقال استأنف لها نهارا يا ابن جبير ثم ذكر في معناه وقوعه في محنة بعد محنة أخلصه الله منها أو لها إنها حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال ثم إلقاؤه في اليم ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الدرة فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ثم مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره عما عزموا عليه من قتله وقال مجاهد في قوله تعالى وفتناك فتونا معناه خلصناك خلاصا وقوله تعالى واصطنعتك لنفسي فإن الإصطناع الإخلاص بالألطاف ومعنى لنفسي لتصرف على إرادتي ومحبتي قوله تعالى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها قيل في وجه سؤال موسى عليه السلام عما في يده أنه على وجه التقرير له على أن الذي في يده عصا ليقع المعجز بها بعد التثبت فيها والتأمل لها فإذا أجاب موسى بأنها عصا يتوكأ عليها عند الإعياء وينفض بها الورق لغنمه وإن له فيها منافع أخرى فيها ومعلوم أنه لم يرد بذلك إعلام الله تعالى ذلك لأن الله تعالى كان أعلم بذلك منه ولكنه لما اقتضى السؤال منه جوابا لم يكن له بد من الإجابة بذكر منافع العصا إقرارا منه بالنعمة فيها واعتدادا بمنافعها والتزاما لما يجب عليه من الشكر له ومن أهل الجهل من يسأل عن ذلك فيقول إنما قال الله له وما تلك بيمينك يا موسى فإنما وقعت المسألة عن ماهيتها ولم تقع عن منافعها وما تصلح له فلم أجاب عما لم يسئل منه ووجه ذلك ما قدمنا وهو أنه أجاب عن المسألة بديا بقوله هي عصاي ثم أخبر عما جعل الله تعالى له من المنافع فيها على وجه الاعتراف بالنعمة وإظهار الشكر على ما منحه الله منها وكذلك سبيل أنبياء الله تعالى المؤمنين عند مثله في الإعتداد بالنعمة ونشرها وإظهار الشكر عليها وقال الله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث

 

ومن

سورة الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفست فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة نفشت فيه غنم القوم قال في حرث قوم وقال معمر قال الزهري النفش لا يكون إلا بالليل والهمل بالنهار وقال قتادة فقضى أن يأخذوا الغنم ففهمها الله سليمان فلما أخبر بقضاء داود عليه السلام قال لا ولكن خذوا الغنم فلكم ماخرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول وروى أبو إسحاق عن مرة عن مسروق وداود وسليمان قال كان الحرث كرما فنفشت فيه ليلا فاجتمعوا إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث فمروا بسليمان فذكروا ذلك له فقال أولا تدفع الغنم إلى هؤلاء فيصيبون منها قوم هؤلاء حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردوا عليهم فنزلت ففهمناها سليمان وروي عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه في قصة داود وسليمان قال أبو بكر فمن الناس من يقول إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته أن على صاحب الغنم ضمان ما أفسدت وإن كان نهارا لم يضمن شيئا وأصحابنا لا يرون في ذلك ضمانا لا ليلا ولا نهارا إذ لم يكن صاحب الغنم هو الذي أرسلها فيها واحتج الأولون بقضية داود وسليمان عليهما السلام واجتماعهما على إيجاب الضمان وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الفريابي عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل قال أبو بكر ذكر في الحديث الأول حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء وذكر

 

في هذا الحديث حرام بن محيصة عن البراء بن عازب ولم يذكر في الحديث الأول ضمان ما أصابت الماشية ليلا وإنما ذكر الحفظ فقط وهذا يدل على اضطراب الحديث بمتنه وسنده وذكر سفيان بن حسين عن الزهري عن حرام بن محيصة فقال ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فيه شيئا ثم قرأ رسول الله ص

- وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ وذلك لأن داود عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا ص - فإن قيل قد تضمنت القصة معاني منها وجوب الضمان على صاحب الغنم ومنها كيفية الضمان وإنما المنسوخ منه كيفية الضمان ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ قيل له قد ثبت نسخ ذلك أيضا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم - بخبر قد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه روى أبو هريرة وهزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال العجماء جبار وفي بعض الألفاظ جرح العجماء جبار ولا خلاف بين الفقهاء في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانا أو مالا أنه لا ضمان على صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه فلما كان هذا الخبر مستعملا عند الجميع وكان عمومه ينفي ضمان ما تصيبه ليلا أو نهارا ثبت بذلك نسخ ما ذكر في قصة داود وسليمان عليهما السلام ونسخ ما ذكر في قصة البراء أن فيها إيجاب الضمان ليلا وأيضا سائر الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه فلما اتفق الجميع على نفي ضمان ما أصابت الماشية نهارا وجب ان يكون ذلك حكمها ليلا وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - إنما أوجب الضمان في حديث البراء إذا كان صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون فائدة الخبر أنه معلوم أن السائق لها بالليل بين الزروع والحوائط لا يخلو من نفش بعض غنمه في زروع الناس وإن لم يعلم بذلك فأبان النبي صلى الله عليه وسلم - عن حكمهما إذا أصابت زرعا ويكون فائدة الخبر إيجاب الضمان بسوقه وإرساله في الزروع وإن لم يعلم بذلك وبين ما تساوى حكم العلم والجهل فيه وجائز أيضا أن تكون قضية داود وسليمان كانت على هذا الوجه بأن يكون صاحبها أرسلها ليلا وساقها وهو غير عالم بنفشها في حرث القوم فأوجبا عليه الضمان وإذا كان ذلك محتملا لم تثبت فيه دلالة على موضع

 

الخلاف وقد تنازع الفريقان من المختلفين في حكم المجتهد في الحادثة القائلون منهم بأن الحق واحد والقائلون بأن الحق في جميع أقاويل المختلفين فاستدل كل منهم بالآية على قوله وذلك لأن الذين قالوا بأن الحق في واحد زعموا أنه لما قال تعالى ففهمناها سليمان فخص سليمان بالفهم دل ذلك على أنه كان المصيب للحق عند الله دون داود إذ لو كان الحق في قوليهما لما كان لتخصيص سليمان بالفهم دون داود معنى وقال القائلون بأن كل مجتهد مصيب لما لم يعنف داود على مقالته ولم يحكم بتخطئته دل على أنهما جميعا كانا مصيبين وتخصيصه لسليمان بالتفهيم لا يدل على أن داود كان مخطئا وذلك لأنه جائز أن يكون سليمان أصاب حقيقة المطلوب فلذلك خص بالتفهيم ولم يصب داود عين المطلوب وإن كان مصيبا لما كلف ومن الناس من يقول إن حكم داود وسليمان جميعا كان من طريق النص لا من جهة الاجتهاد ولكن داود لم يكن قد أبرم الحكم ولا أمضى القضية بما قال أو أن يكون قوله ذلك على وجه الفتيا لا على جهة إنفاذ القضاء بما افتى به أو كانت قضية معلقة بشريطة لم تفصل بعد فأوحى الله تعالى إلى سليمان بالحكم الذي حكم به ونسخ به الحكم الذي كان داود أراد أن ينفذه قالوا ولا دلالة في الآية على أنهما قالا ذلك من جهة الرأي قالوا وقوله ففهمناها سليمان يعني به تفهيمه الحكم الناسخ وهذا قول من لا يجيز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم - من طريق الاجتهاد والرأي وإنما يقوله من طريق النص آخر سورة الأنبياء

ومن سورة الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أبو بكر لم يختلف السلف وفقهاء الأمصار في السجدة الأولى من الحج أنها موضع سجود واختلفوا في الثانية منها وفي المفصل فقال أصحابنا سجود القرآن أربع عشرة سجدة منها الأولى من الحج وسجود المفصل في ثلاث مواضع وهو قول الثوري وقال مالك أجمع الناس على أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء وقال الليث أستحب أن يسجد في سجود القرآن كله وسجود المفصل وموضع السجود من حم إن كنتم إياه تعبدون وقال الشافعي سجود القرآن أربع عشرة سجدة سوى سجدة ص فإنها سجدة شكر قال أبو بكر فاعتد بآخر الحج سجودا وقد روي

 

عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه سجد في ص وقال ابن عباس في سجدة حم أسجد بآخر الآيتين كما قال

أصحابنا وروى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في النجم وقال عبدالله بن مسعود سجد النبي صلى الله عليه وسلم -

في النجم قال أبو بكر ليس فيما روى زيد بن ثابت من ترك النبي ص

- السجود في النجم دلالة على أنه غير واجب فيه ذلك لأنه جائز أن لا يكون سجد لأنه صادف عند تلاوته بعض الأوقات المنهي عن السجود فيها فأخره إلى وقت يجوز فعله فيه وجائز أيضا أن يكون عند التلاوة على غير طهارة فأخره ليسجد وهو طاهر وروى أبو هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - في إذا السماء انشقت و اقرأ باسم ربك الذي خلق واختلف السلف في الثانية من الحج فروي عن عمر وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء وعمار وأبي موسى أنهم قالوا في الحج سجدتان وقالوا إن هذه السورة فضلت على غيرها من السور بسجدتين وروى خارجة بن مصعب عن أبي حمزة عن ابن عباس قال في الحج سجدة وروى سفيان بن عيينة عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الأولى عزمة والآخرة تعليم وروى منصور عن الحسن عن ابن عباس قال في الحج سجدة واحدة وروي عن الحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد أن في الحج سجدة واحدة وقد روينا عن ابن عباس فيما تقدم أن في الحج سجدتين وبين في حديث سعيد بن جبير إن الأولى عزمة والثانية تعليم والمعنى فيه والله أعلم إن الأولى هي السجدة التي يجب فعلها عند التلاوة وإن الثانية كان فيها ذكر السجود فإنما هو تعليم للصلاة التي فيها الركوع والسجود وهو مثل ما روى سفيان عن عبدالكريم عن مجاهد قال السجدة التي في آخر الحج إنما هي موعظة وليست بسجدة قال الله تعالى اركعوا واسجدوا فنحن نركع ونسجد فقول ابن عباس هو على معنى قول مجاهد ويشبه أن يكون من روى عنه من السلف أن في الحج سجدتين إنما أرادوا أن فيه ذكر السجود في موضعين وأن الواجبة هي الأولى دون الثانية على معنى قول ابن عباس ويدل على أنه ليس بموضع سجود أنه ذكر معه الركوع والجمع بين الركوع والسجود مخصوص به الصلاة فهو إذا أمر بالصلاة والأمر بالصلاة مع انتظامها للسجود ليس بموضع سجود ألا ترى أن قوله أقيموا الصلاة ليس بموضع للسجود وقال تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين وليس ذلك سجدة وقال فسبح بحمد ربك

 

وكن من الساجدين وليس بموضع سجود لأنه أمر بالصلاة كقوله تعالى واركعوا مع الراكعين قوله تعالى مخلقة وغير مخلقة قال قتادة تامة الخلق وغير تامة الخلق وقال مجاهد مصورة وغير مصورة وقال ابن مسعود إذا وقعت النطفة في الرحم أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما وإن كانت مخلقة كتب رزقه وأجله ذكر أو أنثى شقي أو سعيد وقال أبو العالية غير مخلقة السقط قال أبو بكر قوله تعالى من مضغة مخلقة ظاهره يقتضي أن لا تكون المضغة إنسانا كما اقتضى ذلك في العلقة والنطفة والتراب وإنما نبهنا بذلك على تمام قدرته ونفاذ مشيئته حين خلق إنسانا سويا معدلا بأحسن التعديل من غير إنسان وهي المضغة والعلقة والنطفة التي لا تخطيط فيها ولا تركيب ولا تعديل للأعضاء فاقتضى أن لا تكون المضغة إنسانا كما أن النطفة والعلقة ليستا بإنسان وإذا لم تكن إنسانا لم تكن حملا فلا تنقضي بها العدة إذ لم تظهر فيها الصورة الإنسانية وتكون حينئذ بمنزلة النطفة والعلقة إذ هما ليستا بحمل ولا تنقضي بهما العدة بخروجهما من الرحم وقول ابن مسعود الذي قدمناه يدل على ذلك لأنه قال إذا وقعت النطفة في الرحم أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما فأخبر أن الدم الذي تقذفه الرحم ليس بحمل ولم يفرق منه بين ما كان مجتمعا علقة أو سائلا وفي ذلك دليل على أن ما لم يظهر فيه شيء من خلق الإنسان فليس بحمل وإن العدة لا تنقضي به إذ ليس هو بولد كما أن العلقة والنطفة لما لم تكونا ولدا لم تنقض بهما العدة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان عن الأعمش قال حدثنا زيد بن وهب قال حدثنا عبدالله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله ثم يكتب شقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فأخبر ص - أنه يكون أربعين يوما نطفة وأربعين يوما علقة وأربعين يوما مضغة ومعلوم أنها لو ألقته علقة لم يعتد به ولم تنقض به العدة وإن كانت العلقة مستحيلة من النطفة إذ لم تكن له صورة الإنسانية وكذلك المضغة إذا لم تكن لها صورة الإنسانية فلا اعتبار بها وهي بمنزلة العلقة والنطفة ويدل على ذلك ايضا أن المعنى الذي به يتبين الإنسان من الحمار

 

وسائر الحيوان وجوده على هذا الضرب من البنية والشكل والتصوير فمتى لم يكن للسقط شيء من صورة الإنسان فليس ذلك بولد وهو بمنزلة العلقة والنطفة سواء فلا تنقضي به العدة لعدم كونه ولدا وأيضا فجائز أن يكون ما أسقطته مما لا تتبين له صورة الإنسان دما مجتمعا أو داء أو مدة فغير جائز أن نجعله ولدا تنقضي به العدة وأكثر أحواله احتماله لأن يكون مما كان يجوز أن يكون ولدا ويجوز أن لا يكون ولدا فلا نجعلها منقضية العدة به بالشك وعلى أن اعتبار ما يجوز أن يكون منه ولدا ولا يكون منه ولدا ساقط لا معنى له إذ لم يكن ولدا بنفسه في الحال لأن العلقة قد يجوز أن يكون منها ولد وكذلك النطفة وقد تشتمل الرحم عليهما وتضمهما وقد قال ص - إن النطفة تمكث أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ومع ذلك لم يعتبر أحد العلقة في انقضاء العدة وزعم إسماعيل بن إسحاق أن قوما ذهبوا إلى أن السقط لا تنقضي به العدة ولا تعتق به أم الولد حتى يتبين شيء من خلقه يدا أو رجلا أو غير ذلك وزعم أن هذا غلط لأن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخلت فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المخلقة فدل ذلك على أن كل شيء يكون من ذلك إلى أن يخرج الولد من بطن أمه فهو حمل وقال تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن والذي ذكره إسماعيل ومعلوم إغفال منه لمقتضى الآية وذلك لأن الله لم يخبر أن العلقة والمضغة ولد ولا حمل وإنما ذكر أنه خلقنا من المضغة والعلقة كما أخبر أنه خلقنا من النطفة ومن التراب ومعلوم أنه حين أخبرنا أنه خلقنا من المضغة والعلقة فقد اقتضى ذلك أن لا يكون الولد نطفة ولا علقة ولا مضغة لأنه لو كانت العلقة والمضغة والنطفة ولدا لما كان الولد مخلوقا منها إذ ما قد حصل ولدا لا يجوز أن يقال قد خلق منه ولد وهو نفسه ذلك الولد فثبت بذلك أن المضغة التي لم يستبن فيها خلق الإنسان ليس بولد وقوله إن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخلت فيما ذكر من خلق الإنسان كما ذكر المخلقة فإنه إن كان هذا استدلالا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول مثله في النطفة لأن الله قد ذكرها فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المضغة فينبغي أن تكون النطفة حملا وولدا لذكر الله لها فيما خلق الناس منه فإن قيل قد ذكر الله أنه خلقنا من مضغة مخلقة وغير مخلقة والمخلقة هي المصورة وغير المخلقة غير المصورة فإذا جاز أن يقول خلقكم من مضغة مصورة مع كون المصورة ولدا لم يمتنع أن يكون غير المصورة

 

ولدا مع قوله من مضغة مخلقة وغير مخلقة قيل له جائز أن يكون معنى المخلقة ما ظهر فيه بعض صورة الإنسان فأراد بقوله خلقكم منها تمام الخلق وتكميله فأما ما ليس بمخلقة فلا فرق بينه وبين النطفة لعدم الصورة فيها فيكون معنى قوله خلقكم منها أنه أنشأ الولد منها وإن لم يكن ولدا قبل ذلك هذا هو حقيقة اللفظ وظاهره وأما قوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن فإنه معلوم أن مراده وضع الولد فما ليس بولد فليس بمراد وهذا لا يشكل على أحد له أدنى تأمل وقال إسماعيل أيضا لا تخلوا هذه المضغة وما قبلها من العلقة من أن تكون ولدا أو غير ولد فإن كانت ولدا قبل أن يخلق فحكمها قبل أن يخلق وبعدها واحد وإن كانت ليست بولد إلى أن يخلق فلا ينبغي أن يرث الولد أباه إذا مات حين تحمل به أمه قبل أن يخلق قال أبو بكر وهذا إغفال ثان وكلام منتقض بإجماع الفقهاء وذلك لأنه معلوم أنه إذا مات عن امرأته وجاءت بولد لسنتين على قول من يجعل أكثر مدة الحمل سنتين أو لأربع سنين على قول من يجعل أكثر الحمل أربع سنين أو الولد يرثه ومعلوم أنه إنما كان نطفة وقت وفاة الأب وقد ورثه ومع ذلك فلا خلاف أن النطفة ليست بحمل ولا ولد وأنه لا تنقضي بها العدة ولا تعتق بها أم الولد فبان ذلك فساد اعتلاله وانتقاض قوله وليست علة الميراث كونه ولدا لأن الولد الميت هو ولد تنقضي بها العدة ويثبت به الإستيلاد في الأم وقد لا يكون من مائه فيرثه إذا كان منسوبا إليه بالفراش ألا ترى أنها لو جاءت بولد من الزنا لم يلحق نسبه بالزاني وكان ابنا لصاحب الفراش فالميراث إنما يتعلق حكمه بثبوت النسب منه لا بأنه من مائه ألا ترى أن ولد الزنا لا يرث الزاني لعدم ثبوت النسب وإن كان من مائه فعلمنا بذلك أن ثبوت الميراث ليس بمتعلق بكونه ولدا من مائه دون حصول النسبة إليه من الوجه الذي ذكرنا قال إسماعيل فإن قيل إنما ورث أباه لأنه من ذلك الأصل حين صار حيا يرث ويورث قيل له فلا ينبغي أن تنقضي به العدة وإن تم خلقه حتى يخرج حيا قال أبو بكر وهذا تخليط وكلام في هذه المسألة من غير وجهه وذلك لأن خصمه لم يجعل وجوب الميراث علة لانقضاء العدة وكون الأم به أم ولد وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأن الولد الميت عندهم جميعا تنقضي به العدة ولا يرث وقد يرث الولد ولا تنقضي به العدة إذا كان في بطنها ولدان فوضعت أحدهما ورث هذا الولد من أبيه ولا تنقضي به العدة حتى تضع الولد الآخر فإن وضعته ميتا

 

لم يرثه وانقضت العدة به فلما كان الميراث قد يثبت للولد ولا تنقضي به العدة بوضعه وقد تنقضي به العدة ولا يرث علمنا أن أحدهما ليس بأصل للآخر ولا يصح اعتباره به ثم قال إسماعيل فإن قيل إنه حمل ولكنا لا نعلم ذلك قيل له لا يجوز أن يتعبد الله بحكم لا سبيل إلى علمه والنساء يعرفن ذلك ويفرقن بين لحم أو دم سقط من بدنها أو رحمها وبين العلقة التي يكون منها الولد ولا يلتبس على جميع النساء لحم المرأة ودمها من العلقة بل لا بد من أن يكون فيهن من يعرف فإذا شهدت امرأتان أنها علقة قبلت شهادتهما وقد قال الشافعي أيضا أنها إذا أسقطت علقة أو مضغة لم تستبن شيء من خلقه فإنه يرى النساء فإن قلن كان يجيء منها الولد لو بقيت انقضت به العدة ويثبت بها الإستيلاد وإن قلن لا يجيء من مثلها ولد لم تنقض به العدة ولم يثبت به الإستيلاد وعسى أن يكون إسماعيل إنما أخذ ما قال من ذلك عن الشافعي وهو من أظهر الكلام استحالة وفسادا وذلك لأنه لا يعلم أحد الفرق بين العلقة التي يكون منها الولد وبين مالا يكون منها الولد إلا أن يكون قد شاهد علقا كان منه الولد وعلقا لم يكن منه الولد فيعرف بالعبادة الفرق بين ما كان منه ولد وبين ما لم يكن معه ولد بعلامة توجد في أحدهما دون الآخر في مجرى العادة وأكثر الظن كما يعرف كثير من الأعراب السحابة التي يكون منها المطر والسحابة التي لا يكون منها المطر وذلك بما قد عرفوه من العلامات التي لا تكاد تخلف في الأعم الأكثر فأما العلقة التي كان منها الولد فمستحيل أن يشاهدها إنسان قبل كون الولد منها متميزة من العلقة التي لم يكن منها ولد وذلك شيء قد استأثر الله بعلمه إلا من اطلع عليه من ملائكته حين يأمره بكتب رزقه وأجله وعمله شقي او سعيد قال الله تعالى الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وقال ويعلم ما في الأرحام وهو عالم بكل شيء سبحانه وتعالى ولكنه خص نفسه بالعلم بالأرحام في هذا الموضع إعلاما لنا أن أحدا غيره لا يعلم ذلك وأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن ارتضى من رسول قال الله تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول والله أعلم

باب

بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها

قال الله تعالى والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد

 

روى إسماعيل بن مهاجر عن أبيه عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها وروى سعيد بن جبير عن بن عباس قال كانوا يرون الحرم كله مسجدا سواء العاكف فيه والبادي وروى يزيد بن أبي زياد عن عبدالرحمن بن سابط سواء العاكف فيه والباد قال من يجيء من الحاج والمعتمرين سواء في المنازل ينزلون حيث شاءوا غير أن لا يخرج من بيته ساكنه قال وقال ابن عباس في قوله سواء العاكف فيه والباد قال العاكف فيه أهله والباد من يأتيه من أرض أخرى وأهله في المنزل سواء وليس ينبغي لهم أن يأخذوا من البادي إجارة المنزل وروى جعفر بن عون عن الأعمش عن إبراهيم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

مكة حرمها الله لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها وروى أبو معاوية عن

الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وروى عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال كانت رباع مكة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر وعمر وعثمان تسمى السوائب من احتاج سكن ومن استغنى سكن وروى الثوري عن منصور عن مجاهد قال قال عمر يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن عمر نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم دون الحاج وروى ابن أبي نجيح عن عبدالله بن عمر قال من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في بطنه وروى عثمان بن الأسود عن عطاء قال يكره بيع بيوت مكة وكراؤها وروى ليث عن القاسم قال من أكل كراء بيوت مكة فإنما يأكل نارا وروى معمر عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد كانوا يكرهون أن يبيعوا شيئا من رباع مكة قال أبو بكر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما ذكرنا وروي عن الصحابة والتابعين ما وصفنا من كراهة بيع بيوت مكة وأن الناس كلهم فيها سواء وهذا يدل على أن تأويلهم لقوله تعالى والمسجد الحرام للحرم كله وقد روي عن قوم إباحة بيع بيوت مكة وكراؤها وروى ابن جريج عن هشام بن حجير كان لي بيت بمكة فكنت أكريه فسألت طاوسا فأمرني بلكه وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء سواء العاكف فيه والباد قالا سواء في تعظيم البلد وتحريمه وروى عمرو بن دينار عن عبدالرحمن بن فروخ قال اشترى نافع بن عبدالحارث دار السجن لعمر بن الخطاب من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم

 

فإن رضي عمر فالبيع له وإن لم يرض فلصفوان أربع مائة درهم زاد عبدالرحمن عن معمر فأخذها عمر وقال أبو حنيفة لا بأس ببيع بناء بيوت مكة وأكره بيع أراضيها وروى سليمان عن محمد عن أبي حنيفة قال أكره إجارة بيوت مكة في الموسم وفي الرجل يقيم ثم يرجع فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأسا وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن بيع دور مكة جائز قال أبو بكر لم يتأول هؤلاء السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا ولا اسم شامل له من طريق الشرع إذ غير جائز أن يتأول الآية على معنى لا يحتمله اللفظ وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على الحرم من طريق التوقيف ويدل عليه قوله تعالى إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام والمراد فيما روى الحديبية وهي بعيدة من المسجد قريبة من الحرم وروي أنها على شفير الحرم وروى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان مضربه في الحل ومصلاه في الحرم وهذا يدل على أنه أراد بالمسجد الحرام ههنا الحرم كله ويدل عليه قوله تعالى يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم والمراد به انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه وإذا ثبت ذلك اقتضى قوله سواء العاكف فيه والباد تساوي الناس كلهم في سكناه والمقام به فإن قيل يحتمل أن يريد به إنهم متساوون في وجوب اعتقاد تعظيمه وحرمته قيل له هو على الأمرين جميعا من اعتقاد تعظيمه وحرمته ومن تساويهم في سكناه والمقام به وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يجوز بيعه لأن لغير المشتري سكناه كما للمشتري فلا يصح للمشتري تسلمه والإنتفاع به حسب الإنتفاع بالإملاك وهذا يدل على أنه غير مملوك وأما إجارة البيوت فإنما أجازها أبو حنيفة إذا كان البناء ملكا للمؤاجر فيأخذ أجرة ملكه فأما أجرة الأرض فلا تجوز وهو مثل بناء الرجل في أرض لآخر يكون لصاحب البناء إجارة البناء وقوله العاكف فيه والباد روي عن جماعة من السلف أن العاكف أهله والبادي من غير أهله قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم فإن الإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل وإنما سمي اللحد في القبر لأنه مائل إلى شق

 

القبر قال الله تعالى وذروا الذين يلحدون في أسمائه وقال لسان الذي يلحدون إليه أعجمي أي لسان الذي يؤمنون إليه والباء في قوله بإلحاد زائدة كقوله تنبت بالدهن أي تنبت الدهن وقوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم وروي عن ابن عمر أنه قال ظلم الخادم فيما فوقه بمكة إلحاد وقال عمر إحتكار الطعام بمكة إلحاد وقال غيره الإلحاد بمكة الذنوب وقال الحسن أراد بالإلحاد الإشراك بالله قال أبو بكر الإلحاد مذموم لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق فالإلحاد اسم مذموم وخص الله تعالى الحرم بالوعيد في الملحد فيه تعظيما لحرمته ولم يختلف المتأولون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد وفي ذلك دليل على أن قوله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد قد أريد به الحرم لأن قوله ومن يرد فيه بإلحاد هذه الهاء كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله والمسجد الحرام فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله وقد روى عمارة بن ثوبان قال أخبرني موسى بن زياد قال سمعت يعلى بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - احتكار الطعام بمكة إلحاد وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال بيع الطعام بمكة إلحاد وليس الجالب كالمقيم وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مرادا بقوله بإلحاد بظلم فيكون الإحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره ويشبه أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال يلحد بمكة رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخول الجاهلية قوله تعالى وأذن في الناس بالحج روى معتمر عن ليث عن مجاهد في قوله تعالى وأذن في الناس بالحج قال إبراهيم عليه السلام وكيف أؤذنهم قال تقول يا أيها الناس أجيبوا يا أيها الناس أجيبوا قال فقال يا أيها الناس أجيبوا فصارت التلبية لبيك اللهم لبيك وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس لما ابتنى إبراهيم عليه السلام البيت قال أوحى الله إليه أن أذن في الناس بالحج فقال إبراهيم عليه السلام إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه فاستجاب له ما سمعه من صخر أو شجر أو

 

أكمة أو تراب أو شيء لبيك اللهم لبيك وهذه الآية تدل على أن فرض الحج كان في ذلك الوقت لأن الله تعالى أمر إبراهيم بدعاء الناس إلى الحج وأمره كان على الوجوب وجائز أن يكون وجوب الحج باقيا إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم -

وجائز أن يكون نسخ على لسان بعض الأنبياء إلا أنه قد روي أن النبي ص

- حج قبل الهجرة حجتين وحج بعد الهجرة حجة الوداع وقد كان أهل الجاهلية يحجون على تخاليط وأشياء قد أدخلوها في الحج ويلبون تلبية الشرك فإن كان فرض الحج الذي أمر الله به إبراهيم في زمن إبراهيم باقيا حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم -

فقد حج النبي ص

- حجتين بعدما بعثه الله وقبل الهجرة والأولى فيهما هي الفرض وإن كان فرض الحج منسوخا على لسان بعض الأنبياء فإن الله تعالى قد فرضه في التنزيل بقوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وقيل إنها نزلت في سنة تسع وروي أنها نزلت في سنة عشر وهي السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم -

وهذا أشبه بالصحة لأنا لا نظن بالنبي ص

- تأخير الحج المفروض عن وقته المأمور فيه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم - من أشد الناس مسارعة إلى أمر الله وأسبقهم إلى أداء فروضه ووصف الله تعالى الأنبياء السالفين فأثنى عليهم بمسابقتهم إلى الخيرات بقوله تعالى كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - ليختلف عن منزلة الأنبياء المتقدمين في المسابقة إلى الخيرات بل كان حظه منها أوفى من حظ كل أحد لفضله عليهم وعلو منزلته في درجات النبوة فغير جائز أن يظن به تأخير الحج عن وقت وجوبه لا سيما وقد أمر غيره بتعجيله فيما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من أراد الحج فليتعجل فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم -

ليأمر غيره بتعجيل الحج ويؤخره عن وقت وجوبه فثبت بذلك أن النبي ص

- لم يؤخر الحج عن وقت وجوبه فإن كان فرض الحج لزم بقوله تعالى ولله على الناس حج البيت لأنه لم يخل تاريخ نزوله من أن يكون في سنة تسع أو سنة عشر فإن كان نزوله في سنة تسع فإن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما أخره لعذر وهو أن وقت الحج اتفق على ما كانت العرب تحجه من إدخال النسيء فيه فلم يكن واقعا في وقت الحج الذي فرضه الله تعالى فيه فلذلك أخر الحج عن تلك السنة ليكون حجه في الوقت الذي فرض الله فيه الحج ليحضر الناس فيقتدوا به وإن كان نزوله في سنة عشر فهو الوقت الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم - وإن كان فرض الحج باقيا منذ زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمن النبي

 

ص -

فإن الحج الذي فعله قبل الهجرة كان هو الفرض وما عداه نفل فلم يثبت في

الوجهين جميعا أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخر الحج بعد وجوبه عن أول أحوال الإمكان

باب

الحج ماشيا

روى موسى بن عبيد عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال ما أسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله تعالى يقول يأتوك رجالا وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين وروى القاسم بن الحكم العربي عن عبدالله الرصافي عن عبدالله بن عتبة بن عمير قال قال ابن عباس ما ندمت على شيء فاتني في شبيبتي إلا أني لم أحج راجلا ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا من المدينة إلى مكة وإن النجائب لتقاد معه ولقد قاسم الله عز و جل ماله ثلاث مرات إنه ليعطي النعل ويمسك النعل ويعطي الخف ويمسك الخف وروى عبدالرزاق عن عمرو بن زرا عن مجاهد قال كانوا يحجون ولا يركبون فأنزل الله تعالى رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق وروى ابن جريج قال أخبرني العلاء قال سمعت محمد بن علي يقول كان الحسن بن علي يمشي وتقاد دوابه قال أبو بكر قوله تعالى يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يقتضي إباحة الحج ماشيا وراكبا ولا دلالة فيه على الأفضل منهما وما رويناه عن السلف في اختيارهم الحج ماشيا وتأويل الآية عليه يدل على أن الحج ماشيا أفضل وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ما يفصح عن ذلك وهو أن أم عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالى

فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي وهذا يدل على أن المشي قربة قد لزمت بالنذر لولا ذلك لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - عليها هديا عند تركها المشي قوله تعالى يأتين من كل فج عميق روى جويبر عن الضحاك من كل فج عميق قال بلد بعيد وقال قتادة مكان بعيد قال أبو بكر الفج الطريق فكأنه قال من طريق بعيد وقال بعض أهل اللغة العمق الذاهب على وجه الأرض والعمق الذاهب في الأرض قال رؤبة ... وقاتم الأعماق خاوي المخترق ...

فأراد بالعمق هذا الذاهب على وجه الأرض فالعميق البعيد لذهابه على وجه الأرض

 

قال الشاعر ... يقطعن نور النازح العميق ...

يعني البعيد وقد روت أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة زوج النبي ص

- قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من أهل بالمسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه وروى أبو إسحاق عن الأسود أن ابن مسعود أحرم من الكوفة بعمرة وعن ابن عباس أنه أحرم من الشام في الشتاء وأحرم ابن عمر من بيت المقدس وعمران بن حصين أحرم من البصرة وروى عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة قال سئل علي عن قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله قال أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقال علي وعمر ما أرى أن يعتمر إلا من حيث ابتدأ وروي عن مكحول قال قيل لابن عمر الرجل يحرم من سمرقند أو من خراسان أو البصرة أو الكوفة فقال يا ليتنا نسلم من وقتنا الذي وقت لنا فكأنه كرهه في هذا الحديث لما يخاف من مواقعة ما يحظره الإحرام لا لبعد المسافة

باب

التجارة في الحج

قال الله تعالى ليشهدوا منافع لهم روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال التجارة وما يرضى الله من أمر الدنيا والآخرة وروى عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس قال أسواق كانت ما ذكر المنافع إلا للدنيا وعن أبي جعفر المغفرة قال أبو بكر ظاهره يوجب أن يكون قد أريد به منافع الدين وإن كانت التجارة جائزة أن تراد وذلك لأنه قال وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعل كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم فاقتضى ذلك أنهم دعوا وأمروا بالحج ليشهدوا منافع لهم ومحال أن يكون المراد منافع الدنيا خاصة لأنه لو كان كذلك كان الدعاء إلى الحج واقعا لمنافع الدنيا وإنما الحج الطواف والسعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ونحر الهدي وسائر مناسك الحج ويدخل فيها منافع الدنيا على وجه التبع والرخصة فيها دون أن تكون هي المقصودة بالحج وقد قال الله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فجعل ذلك رخصة في التجارة في الحج وقد ذكرنا ما روي فيه في سورة البقرة

باب

الأيام المعلومات

قال الله عز و جل ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة

 

الأنعام فروي عن علي وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت قال ابن عمر المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران عن بشر بن الوليد الكندي القاضي قال كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسئله عن الأيام المعلومات فأملى علي أبو يوسف جواب كتابه اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر وإلى ذلك أذهب لأنه قال على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وذلك في أيام النحر وعن ابن عباس والحسن وإبراهيم أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق وروى معمر عن قتادة مثل ذلك وروى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى واذكروا الله في أيام معلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده وذكر أبو الحسن الكرخي أن أحمد القاري روى عن محمد عن أبي حنيفة أن المعلومات العشر وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده وذكر الطحاوي أن من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد إن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق والذي رواه أبو الحسن عنهم أصح وقد قيل إنه إنما قيل لأيام التشريق معدودات لأنها قليلة كما قال تعالى وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وإنه سماها معدودة لقلتها وقيل لأيام العشر معلومات حثا على علمها وحسابها من أجل أن وقت الحج في آخرها فكأنه أمرنا بمعرفة أول الشهر وطلب الهلال فيه حتى نعد عشرة ويكون آخرهن يوم النحر ويحتج لأبي حنيفة بذلك في أن تكبير التشريق مقصور على ايام العشر مفعول في يوم عرفة ويوم النحر وهما من أيام العشر فإن قيل لما قال على ما رزقهم من بهيمة الأنعام دل على أن المراد أيام النحر كما روي عن علي قيل له يحتمل أن يريد لما رزقهم من بهيمة الأنعام كما قال لتكبروا الله على ما هداكم ومعناه لما هداكم وكما تقول أشكر الله على نعمه ومعناه لنعمه وأيضا فيحتمل أن يريد به يوم النحر ويكون قوله تعالى على ما رزقهم يريد به يوم النحر وبتكرار السنين عليه تصير أياما وهذه الآية تدل على أن ذبح سائر الهدايا في أيام النحر أفضل منه في غيرها وإن كانت من تطوع أو جزاء صيد أو غيره واختلف أهل العلم في ايام النحر فقال أصحابنا والثوري هو يوم النحر ويومان بعده وقال الشافعي ثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق قال أبو بكر وروي نحو قولنا عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس

 

ابن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وروي مثل قول الشافعي عن الحسن وعطاء وروي عن إبراهيم النخعي أن النحر يومان وقال ابن سيرين النحر يوم واحد وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وسليمان بن يسار قالا الأضحى إلى هلال المحرم قال أبو بكر قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة واستفاض ذلك عنهم وغير جائز لمن بعدهم خلافهم إذ لم يرو عن أحد من نظرائهم خلافه فثبت حجته وأيضا فإن سبيل تقدير أيام النحر التوقيف أو الاتفاق إذ لا سبيل إليها من طريق المقاييس فلما قال من ذكرنا قوله من الصحابة بالثلاثة صار ذلك توقيفا كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق إذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته وكان ذلك توقيفا وأيضا قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في أيام النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر في يوم النحر وقال قائلون إلى آخر ايام التشريق وقلنا نحن يومان بعده وجب أن نوجب فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها واحتج من جعل النحر إلى آخر أيام التشريق بما روى سليمان بن موسى عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرفة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح وهذا حديث قد ذكر عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن هذا الحديث فقال لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم وأكثر روايته عن سهو وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبدالله بن الأشج عن أبيه قال سمعت أسامة بن زيد يقول سمعت عبدالله بن أبي حسين يخبر عن عطاء عن أبي رباح وعطاء يسمع قال سمعت جابر بن عبدالله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه وكل أيام التشريق ذبح ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه لأنه لم يذكره وأيضا لما ثبت أن النحر فيما يقع عليه اسم الأيام وكان أقل ما يتناوله اسم الأيام ثلاثة وجب أن يثبت الثلاثة وما زاد لم تقم عليه

 

الدلالة فلم يثبت

في

التسمية على الذبيحة

قال الله تعالى ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإن كان المراد بهذا الذكر التسمية على الذبيحة فقد دل ذلك على أن ذلك من شرائط الذكاة لأن الآية تقتضي وجوبها وذلك لأنه قال وأذن في الناس بالحج إلى قوله ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات فكانت المنافع هي أفعال المناسك التي يقتضي الإحرام إيجابها فوجب أن تكون التسمية واجبة إذ كان الدعاء إلى الحج وقع لها كوقوعها لسائر مناسك الحج وإن كان المراد بالتسمية هي الذكور المفعول عند رمي الجمار أو تكبير التشريق فقد دلت الاية على وجوب هذا الذكر وليس يمتنع أن يكون المراد جميع ذلك وهو التسمية على الهدايا الموجبة بالإحرام للقران أو التمتع وما تعلق وجوبها بالإحرام ويراد بها تكبير التشريق والذكر المفعول عند رمي الجمار إذ لم تكن إرادة جميع ذلك ممتنعة بالآية وروى معمر عن أيوب عن نافع قال كان ابن عمر يقول حين ينحر لا إله إلا الله والله أكبر وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قلت كيف تقول إذا نحرت قال أقول الله أكبر لا إله إلا الله وروى سفيان عن أبي بكر الزبيدي عن عاصم بن شريف أن عليا ضحى يوم النحر بكبش فقال بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك ومن علي لك

باب

في أكل لحوم الهدايا

قال الله عز و جل ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها قال أبو بكر ظاهره يقتضي إيجاب الأكل إلا أن السلف متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب وذلك لأن قوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لا يخلو من أن يكون المراد به الأضاحي وهدي المتعة والقران والتطوع أو الهدايا التي تجب من جنايات تقع من المحرم في الإحرام نحو جزاء الصيد وما يجب على اللابس والمتطيب وفدية الأذى وهدي الإحصار ونحوها فأما دماء الجنايات فمحظور عليه الأكل منها وأما دم القران والمتعة والتطوع فلا خلاف أيضا أن الأكل منها ليس بواجب

 

لأن الناس في دم القران والمتعة على قولين منهم من لا يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه ولا خلاف بين السلف ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله فكلوا منها ليس على الوجوب وقد روي عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل قال مجاهد إنما هو بمنزلة قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وقال إبراهيم كان المشركون لا يأكلون من البدن حتى نزلت فكلوا منها فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل وروى يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقالوا شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله فأنزل

الله تعالى فكلوا منها وأطعموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله وقال الحسن فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فكل وإن شئت فدع وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أكل من لحم الأضحية قال أبوبكر وظاهر الآية يقتضي أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القران والمتعة وأقل أحوالها أن تكون شاملة لدم القران والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة وزعم الشافعي أن دم المتعة والقران لا يؤكل منهما وظاهر الآية يقتضي بطلان قوله وقد روى جابر وأنس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان قارنا في حجة الوداع وروى جابر أيضا وابن عباس أن النبي ص

- أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة فأكل ص -

من دم القران وأيضا لما ثبت أن النبي ص

- كان قارنا وإنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران أفضل من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحي

 

والتطوع ويدل على أنه كان قارنا أن حفصة قالت يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال إني سقت الهدي فلا أحل إلا يوم النحر ولو استقبلت من أمري ما استدبرته ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة فلو كان هديه تطوعا لما منعه الإحلال لأن هدي التطوع لا يمنع الإحلال فإن قيل إن كان النبي صلى الله عليه وسلم - قارنا فقد كان إحرام الحج يمنعه الإحلال فلا تأثير للهدي في ذلك قيل له لم يكن إحرام الحج مانعا في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر لأن فسخ الحج كان جائزا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه الذين أحرموا بالحج أن يتحللوا بعمل عمرة فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم بالعمرة مفردا بها فلم يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدي فيمنعه ذلك من الإحلال وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم -

في قرانه وكان المانع له من الإحلال سوق الهدي دون إحرام الحج وفي ذلك

دليل على صحة ما ذكرنا من أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم - كان هدي القران لا التطوع إذ لا تأثير لهدي التطوع في المنع من الإحلال بحال ويدل على أنه كان قارنا قوله ص -

أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة وعمرة ويمتنع أن

يخالف ما أمره به ربه ورواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج لا يعارض رواية من روى القران وذلك لأن راوي القران قد علم زيادة إحرام لم يعلمه الآخر فهو أولى وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول لبيك اللهم لبيك ولم يسمعه يذكر العمرة أو سمعه ذكر الحج دون العمرة وظن أنه مفرد إذ جائز للقارن أن يقول لبيك بحجة دون العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبي بهما معا فلما كان ذلك سائغا وسمعه بعضهم يلبي بالحج وبعضهم سمعه يلبي بحج وعمرة كانت رواية من روى الزيادة أولى وأيضا فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفرد الحج أفعال الحج وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر للإحرامين على فعل الحج دون العمرة وأبطل بذلك قول من يجيز لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين الأكل من هدي القران والمتعة وروى عطاء عن ابن عباس قال من كل الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر وروى عبيدالله بن عمر قال لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا لا يؤكل من الهدي كله إلا الجزاء فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا

 

الأكل من دم القران والتمتع ولا نعلم أحدا من السلف حظره قوله تعالى وأطعموا البائس الفقير روى طلحة بن عمرو عن عطاء وأطعموا البائس الفقير قال من سألك وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال البائس الذي يسأل بيده إذا سأل وإنما سمي من كانت هذه حاله بائسا لظهور أثر البؤس عليه يمد يده للمسئلة وهذا على جهة المبالغة في الوصف له بالفقر وهو في معنى المسكين لأن المسكين من هو في نهاية الحاجة والفقر وهو الذي قد ظهر عليه السكون للحاجة وسوء الحال وهو الذي لا يجد شيئا وقيل هو الذي يسئل وهذه الآية قد انتظمت سائر الهدايا والأضاحي وهي مقتضية لإباحة الأكل منها والندب إلى الصدقة ببعضها وقدر أصحابنا فيه الصدقة بالثلث وذلك لقوله تعالى فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير قال النبي صلى الله عليه وسلم - في لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا فجعلوا الثلث للأكل والثلث للإدخار والثلث للبائس الفقير وفي قوله تعالى فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير دلالة على حظر بيعها ويدل عليه قوله ص - فكلوا وادخروا وفي ذلك منع البيع ويدل عليه ما روى سفيان عن عبدالكريم الجزري عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن علي قال أمرني النبي صلى الله عليه وسلم -

أن أقوم على بدنة وقال أقسم جلودها وحلالها ولا تعط الجازر منها شيئا

فإنا نعطيه من عندنا فمنع النبي صلى الله عليه وسلم - أن يعطي منها أجرة الجازر وفي ذلك منع من البيع لأن إعطاء الجازر ذلك من أجرته هو على وجه البيع ولما جاز الأكل منها دل على جواز الإنتفاع بجلودها من غير جهة البيع ولذلك قال أصحابنا يجوز الإنتفاع بجلد الأضحية وروي ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة وقال الشعبي كان مسروق يتخذ مسك أضحيته مصلى فيصلي عليه وعن إبراهيم وعطاء وطاوس والشعبي أنه ينتفع به قال أبو بكر ولما منع النبي صلى الله عليه وسلم - أن يعطى الجازر من الهدي شيئا في جزارتها وقال إنا نعطيه من عندنا دل ذلك على معنيين أحدهما أن المحظور من ذلك أن يعطيه منها على وجه الأجرة لأن في بعض ألفاظ حديث علي وأمرني أن لا أعطي أجر الجزار منها وفي بعضها أن لا أعطيه في جزارتها منها شيئا فدل على أنه جائز أن يعطي الجازر من غير أجرته كما يعطي سائر الناس وفي دليل على جواز الإجارة على نحر البدن لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال نحن نعطيه من عندنا وهو أصل في جواز الإجارة على كل عمل معلوم وأجاز أصحابنا الإجارة على ذبح شاة ومنع أبو حنيفة الإجارة على قتل رجل بقصاص والفرق بينهما

 

أن الذبح عمل معلوم والقتل مبهم غير معلوم ولا يدرى أيقتله بضربة أو ضربتين أو أكثر قوله تعالى ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم روى عبدالملك عن عطاء عن ابن عباس قال التفث الذبح والحلق والتقصير وقص الأظفار والشارب ونتف الإبط وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد مثله وكذلك عن الحسن وأبي عبيدة وقال ابن عمر وسعيد بن جبير في قوله تفثهم قال المناسك وروى أشعث عن الحسن قال نسكهم وروى حماد بن سلمة عن قيس عن عطاء ثم ليقضوا تفثهم قال الشعر والأظفار وقيل التفث قشف الإحرام وقضاؤه بحلق الرأس والإغتسال ونحوه قال أبو بكر لما تأول السلف قضاء التفث على ما ذكرنا دل ذلك على ان من قضائه حلق الرأس لأنهم تأولوه عليه ولولا أن ذلك اسم له لما تأولوه عليه إذ لا يسوغ التأويل على ما ليس اللفظ عبارة عنه وذلك دليل على وجوب االحلق لأن الأمر على الوجوب فيبطل قول من قال إن الحلق ليس بنسك في الإحرام ومن الناس من يزعم أنه إطلاق من حظر إذ كانت هذه الأشياء محظورة قبل الإحلال ولقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وقوله فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض والأول أصح لأن أمره بقضاء التفث قد انتظم سائر المناسك على ما روي عن ابن عمر ومن ذكرنا قوله من السلف ومعلوم أن فعل سائر المناسك ليس على وجه الإباحة بل على وجه الإيجاب فكذلك الحلق لأنه قد ثبت أنه قد أريد بالأمر بقضاء التفث الإيجاب في غير الحلق فكذلك الحلق وقوله وليوفوا نذورهم قال ابن عباس نحر ما نذروا من البدن وقال مجاهد كل ما نذر في الحج قال أبو بكر إن كان التأويل نحر البدن المنذورة فإن قوله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها لم يرد به ما نذر نحره من البدن والهدايا لأنه لو كان مرادا لما ذكره بعد ذكره الذبح بهيمة الأنعام وأمره إيانا بالأكل منها فيكون قوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها في غير المنذور به وهو دم التطوع والتمتع والقران يدل على أنه لم يرد الهدي المنذور أن دم النذر لا يؤكل منه قد أمر الله تعالى بالأكل من بهيمة الأنعام المذكور في الآية فدل على أنه لم يرد النذر واستأنف ذكر النذر وأفاد به معاني أحدها أنه لا يؤكل منه والثاني أن ذبح النذر في هذه الأيام أفضل منه في غيرها والثالث إيجاب الوفاء بنفس المنذور دون كفارة يمين وجائز أن يكون المراد سائر النذور في الحج من صدقة أو طواف ونحوه

 

وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال هو كل نذر إلى أجل قال أبو بكر وفيه الدلالة على لزوم الوفاء بالنذر لقوله تعالى وليوفوا نذورهم والأمر على الوجوب وهو يدل على بطلان قول الشافعي فيمن نذر حجا أو عمرة أو بدنة أو نحوها أن عليه كفارة يمين لأن الله أمرنا بالوفاء بنفس المنذور

باب

طواف الزيارة

قال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق فروي عن الحسن أنه قال وليطوفوا طواف الزيارة وقال مجاهد الطواف الواجب قال أبو بكر ظاهره يقتضي الوجوب لأنه أمر والأوامر على الوجوب ويدل عليه أنه أمر به معطوفا على الأمر بقضاء التفث ولا طواف مفعول في ذلك الوقت وهو يوم النحر بعد الذبح إلا طواف الزيارة فدل على أنه أراد طواف الزيارة فإن قيل يحتمل أن يريد به طواف القدوم الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وأصحابه حين قدموا مكة وحلوا به من إحرام الحج وجعلوه عمرة إلا رسول الله

ص - فإنه قد كان ساق الهدي فمنعه ذلك من الإحلال ومضى على حجته قيل له لا يجوز أن يكون المراد به طواف القدوم من وجوه أحدها أنه مأمور به عقيب الذبح وذبح الهدي إنما يكون يوم النحر لأنه قال ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق وحقيقة ثم للترتيب والتراخي القدوم مفعول قبل يوم النحر فثبت أنه لم يرد به طواف القدوم والوجه الثاني أن قوله وليطوفوا بالبيت العتيق هو أمر والأمر على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب وطواف القدوم غير واجب وفي صرف المعنى إليه صرف للكلام عن حقيقته والثالث أنه لو كان المراد الطواف الذي أمر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين قدموا مكة لكان منسوخا لأن ذلك الطواف إنما أمروا به لفسخ الحج وذلك منسوخ بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وبما روى ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت فسخ حجتنا لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لكم خاصة وروي عن عمر وعثمان وأبي ذر وغيرهم مثل ذلك وقال ابن عباس لا يطوف الحاج للقدوم وإنه إن طاف قبل عرفة صارت حجته عمرة وكان يحتج بقوله ثم محلها إلى البيت العتيق فذهب إلى أنه

 

يحل بالطواف فعله قبل عرفة أو بعده فكان ابن عباس يذهب إلى ان هذا الحكم باق لم ينسخ وإن فسخ الحج قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة فيصير حجه عمرة وقد ثبت بظاهر قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله نسخه وهذا معنى ما أراده عمر بن الخطاب بقوله متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة النساء ومتعة الحج وذهب فيه إلى ظاهر

هذه الآية وإلى ما علمه من توقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم - إياهم على أن فسخ الحج كان لهم خاصة وإذا ثبت أن ذلك منسوخ لم يجز تأويل قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق عليه فثبت بما وصفنا أن المراد طواف الزيارة وفيه الدلالة على وجوب تقديمه قبل مضي أيام النحر إذ كان الأمر على الفور حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير ولا خلاف في إباحة تأخيره إلى آخر أيام النحر وقد روى سفيان الثوري وغيره عن أفلح بن حميد عن أبيه أنه حج مع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيهم أبو أيوب فلما كان يوم النحر لم يزر أحد منهم البيت إلى يوم النفر إلا رجالا كانت معهم نساء فتعجلوا وإنما أراد بذلك عندنا النفر الأول وهو اليوم الثالث من يوم النحر فلو خلينا وظاهر الآية لما جاز تأخير الطواف عن يوم النحر إلا أنه لما اتفق السلف وفقهاء الأمصار على إباحة تأخيره إلى اليوم الثالث من أيام النحر أخرناه ولم يجز تأخيره إلى آخر أيام التشريق ولذلك قال أبو حنيفة من أخره إلى أيام التشريق فعليه دم وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء عليه فإن قيل لما كانت ثم تقتضي التراخي وجب جواز تأخيره إلى أي وقت شاء الطائف قيل له لا خلاف أنه ليس بواجب عليه التأخير وظاهر اللفظ يقتضي إيجاب تأخيره إذا حمل على حقيقته فلما لم يكن التأخير واجبا وكان فعله واجبا لا محالة اقتضى ذلك لزوم فعله يوم النحر من غير تأخير وهو الوقت الذي أمر فيه بقضاء التفث فاستدلالك بظاهر اللفظ على جواز تأخيره أبدا غير صحيح مع كون ثم في هذا الموضع غير مراد بها حقيقة معناها من وجوب فعله على التراخي ولهذا قال أبو حنيفة فيمن أخر الحلق إلى آخر أيام التشريق أن عليه دما لأن قوله تعالى ثم ليقضوا تفثهم قد اقتضى فعل الحلق على الفور في يوم النحر وأباح تأخيره إلى آخر أيام النحر بالإتفاق ولم يبحه أكثر من ذلك ومما يحتج به لأبي حنيفة في ذلك أن الله تعالى قد أباح النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو الثالث من النحر بقوله تعالى واذكروا الله في أيام

 

معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ويمتنع إباحة النفر قبل تقديم طواف الزيارة فثبت أنه مأمور به قبل النفر الأول وهو اليوم الثالث من النحر فإذا تضمن ذلك فقد تم الطواف فهو لا محالة منهي عن تأخيره فإذا أخره لزمه جبرانه بدم وقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق لما كان لفظا ظاهر المعنى بين المراد اقتضى جواز الطواف على أي وجه أوقعه من حدث أو جنابة أو عريان أو منكوسا أو زحفا إذ ليس فيه دلالة على كون الطهارة وما ذكرنا شرطا فيه ولو شرطنا فيه الطهارة وما ذكرنا كنا زائدين في النص ما ليس فيه والزيادة في النص غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ فقد دلت الآية على وقوع الطواف موقع الجواز وإن فعله على هذه الوجوه المنهي عنها وقوله ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق يقتضي جواز أي ذلك فعله من غير ترتيب إذ ليس في اللفظ دلالة على الترتيب فإن فعل الطواف قبل قضاء التفث أو قضى التفث ثم طاف فإن مقتضى الآية أن يجزي جميع ذلك إذ الواو لا توجب الترتيب ولم يختلف الفقهاء في إباحة الحلق واللبس قبل طواف الزيارة ولم يختلفوا أيضا في حظر الجماع قبله واختلفوا في الطيب والصيد فقال قائلون هما مباحان قبل الطواف وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وهو قول عائشة في آخرين من السلف وقال عمر بن الخطاب وابن عمر لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف للزيارة وقال قوم لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف وروى سفيان بن عيينة عن عبدالرحمن بن القاسم عن عائشة قالت طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على إباحة اللبس والحلق قبل الطواف وليس لهما تأثير في إفساد الإحرام فوجب أن يكون الطيب والصيد مثلهما وقوله تعالى بالبيت العتيق قال معمر عن الزهري قال قال ابن الزبير إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة وقال مجاهد أعتق من أن يملكه الجبابرة وقيل إنه أول بيت وضع للناس بناه آدم عليه السلام ثم جدده إبراهيم عليه السلام فهو أقدم بيت فسمي لذلك عتيقا قوله تعالى ذلك ومن يعظم حرمات الله يعني به والله أعلم اجتناب ما حرم الله عليه في وقت الإحرام تعظيما لله عز و جل واستعظاما لمواقعة ما نهى الله عنه في إحرامه صيانة لحجه وإحرامه فهو خير له عند ربه من ترك استعظامه والتهاون به قوله تعالى

 

وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم قيل فيه وجهان أحدهما إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله من الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب والثاني وأحلت لكم بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم في حال إحرامكم إلا ما يتلى عليكم من الصيد فإنه يحرم على المحرم قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان يعني اجتنبوا تعظيم الأوثان فلا تعظموها واجتنبوا الذبائح لها على ما كان يفعله المشركون وسماها رجسا استقذارا لها واستخفافا بها وإنما أمرهم باستقذارها لأن المشركين كانوا ينحرون عليها هداياهم ويصبون عليها الدماء وكانوا مع هذه النجاسات يعظمونها فنهى الله المسلمين عن تعظيمها وعبادتها وسماها رجسا لقذارتها ونجاستها من الوجوه التي ذكرنا ويحتمل أن يكون سماها رجسا للزوم اجتنابها كاجتناب الأقذار والأنجاس

باب

شهادة الزور

قال الله عز و جل واجتنبوا قول الزور والزور الكذب وذلك عام في سائر وجوه الكذب وأعظمها الكفر بالله والكذب على الله عز و جل وقد دخل فيه شهادة الزور حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد ويعلى ابنا عبيد عن سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان عن خريم بن فاتك قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

صلاة الصبح ثم قال عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثم تلا هذه الآية

فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به وروى وائل بن ربيعة عن عبدالله بن مسعود قال عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن العباس المؤدب قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا محمد بن الفرات التميمي قال سمعت محارب بن دثار يقول أخبرني عبدالله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول شاهد الزور لا تزول قدماه حتى توجب له النار وقد اختلف في حكم شاهد الزور فقال أبو حنيفة لا يعزر وهذا عندنا على أنه إن جاء تائبا فأما إن كان مصرا فإنه لا خلاف عندي بينهم في أنه يعزر وقال أبو يوسف ومحمد يضرب ويسخم وجهه ويشهر ويحبس وقد روى عبدالله بن عامر عن أبيه قال أتي عمر بن الخطاب بشاهد زور فجرده وأوقفه للناس يوما وقال هذا فلان بن فلان فاعرفوه ثم حبسه

 

وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا العباس بن الوليد البزاز قال حدثنا خلف بن هشام قال حدثنا حماد بن زيد عن الحجاج عن مكحول أن عمر بن الخطاب قال في شاهد الزور يضرب ظهره ويحلق رأسه ويسخم وجهه ويطال حبسه قوله تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب قال أهل اللغة الشعائر جمع شعيرة هي العلامة التي تشعر بما جعلت له وإشعار البدن هو أن تعلمها بما يشعر أنها هدي فقيل على هذا إن الشعائر علامات مناسك الحج كلها منها رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة وروى حبيب المعلم عن عطاء أنه سئل عن شعائر الله فقال حرمات الله اتباع طاعته واجتناب معصيته فذلك شعائر الله وروى شريك عن جابر عن عطاء ومن يعظم شعائر الله قال استسمانها واستعظامها وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس ومن يعظم شعائر الله قال في الإستحسان والاستسمان والإستعظام وعن عكرمة مثله وكذلك قول مجاهد وقال الحسن شعائر الله دين الله قال أبو بكر يجوز أن تكون هذه الوجوه كلها مرادة بالآية لاحتمالها لها

باب

في ركوب البدنة

قال الله عز و جل لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة لكم فيها منافع في ألبانها وظهورها وأصوافها إلى أن تسمى بدنا ثم محلها إلى البيت العتيق وعن محمد بن كعب القرظي مثله وقال عطاء إنه ينتفع بها إلى أن تنحر وهو قول عروة بن الزبير قال ابو بكر فاتفق ابن عباس ومن تابعه على أن قوله إلى أجل مسمى أريد به إلى أن تصير بدنا فذلك هو الأجل المسمى وكرهوا بعد ذلك أن تركب وقال عطاء ومن واقفه يركبها بعد أن تصير بدنة وقال عروة بن الزبير يركبها غير فادح لها ويحلبها عن فضل ولدها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في ذلك أخبار يحتج بها من أباح ركوبها فروى أبو هريرة أن النبي ص

- رأى رجلا يسوق بدنة فقال له ويحك اركبها فقال إنها بدنة فقال ويحك اركبها وروى شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك وهذا عندنا إنما أباحه لضرورة علمه من حاجة الرجل إليها وقد بين ذلك في أخبار أخر منها ما روى إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم - برجل يسوق بدنة وهو يمشي وقد بلغ منه فقال اركبها قال إنها بدنة قال اركبها وسئل جابر عن ركوب الهدي

 

فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا وقد روى ابن جريج عن

أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ركوب الهدي قال اركب بالمعروف إذا احتجت إليها حتى تجد ظهرا فبين في هذه الأخبار أن إباحة ركوبها معقودة بشريطة الضرورة إليها ويدل على أنه لا يملك منافعها أنه لا يجوز له أن يؤاجرها للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات

باب

محل الهدي

قال الله تعالى وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلى قوله لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ومعلوم أن مراده تعالى فيما جعل هديا أو بدنة فيما وجب أن تجعل هديا من واجب في ذمته فأخبر تعالى أن محل ما كان هذا وصفه إلى البيت العتيق والمراد بالبيت ههنا الحرم كله إذ معلوم أنها لا تذبح عند البيت ولا في المسجد فدل على أنه الحرم كله فعبر عنه بذكر البيت إذ كانت حرمة الحرم كله متعلقة بالبيت وهو كقوله تعالى في جزاء الصيد هديا بالغ الكعبة ولا خلاف أن المراد الحرم كله وقد روى أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عرفة كلها موقف ومنى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر وعموم الآية يقتضي أن يكون محل سائر الهدايا الحرم ولا يجزي في غيره إذ لم تفرق بين شيء منها وقد اختلف في هدي الإحصار فقال أصحابنا محله ذبحه في الحرم وذلك لأنه قال ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وكان المحل مجملا في هذه الآية فلما قال ثم محلها إلى البيت العتيق بين فيه ما أجمل ذكره في الآية الأولى فوجب أن يكون محل هدي الإحصار الحرم ولم يختلفوا في سائر الهدايا التي يتعلق وجوبها بالإحرام مثل جزاء الصيد وفدية الأذى ودم التمتع أن محلها الحرم فكذلك هدي الإحصار لما تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون في الحرم قوله والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير قيل إن البدن الإبل المبدنة بالسمن يقال بدنت الناقة إذا سمنتها ويقال بدن الرجل إذا سمن وإنما قيل لها بدنة من هذه الجهة ثم سميت الإبل بدنا مهزولة كانت أو سمينة فالبدنة اسم يختص بالبعير في اللغة إلا أن البقرة لم صارت في حكم البدنة قامت مقامها وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فصار البقر في حكم البدن ولذلك كان

تقليد البقرة كتقليد البدنة في باب وقوع

 

الإحرام بها لسائقها ولا يقلد غيرهما فهذان المعنيان اللذان يختص بهما البدن دون سائر الهدايا وروي عن جابر بن عبدالله قال البقرة من البدن واختلف أصحابنا فيمن قال لله علي بدنة هل يجوز له نحرها بغير مكة فقال أبو حنيفةومحمد يجوز له ذلك وقال أبو يوسف لا يجوز له نحره إلا بمكة ولم يختلفوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة وأن من قال لله علي جزور أنه يذبحه حيث شاء وروي عن ابن عمر أنه قال من نذر جزورا نحرها حيث شاء وإذا نذر بدنة نحرها بمكة وكذا روي عن الحسن وعطاء وكذا روي عن عبدالله بن محمد بن علي وسالم وسعيد بن المسيب قالا إذا جعل على نفسه هديا فبمكة وإذا قال بدنة فحيث نوى وقال مجاهد ليست البدن إلا بمكة وذهب أبو حنيفة أن البدنة بمنزلة الجزور ولا يقتضي إهداءها إلى موضع فكان بمنزلة ناذر الجزور والشاة ونحوها وأما الهدي فإنه يقتضي إهداءه إلى موضع وقال الله تعالى هديا بالغ الكعبة فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي ويحتج لأبي يوسف بقوله تعالى والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فكان اسم للبدنة مفيدا لكونها قربة كالهدي إذ كان اسم الهدي يقتضي كونه قربة مجعولا لله فلما لم يجز الهدي إلا بمكة كان كذلك حكم البدنة قال أبو بكر وهذا لا يلزم من قبل أنه ليس كل ما كان ذبحه قربة فهو مختص بالحرم لأن الأصحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن فوصفه للبدن بأنها من شعائر الله لا يوجب تخصيصها بالحرم قوله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف روى يونس عن زياد قال رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ راحلته فنحرها وهي باركة فقال انحرها قياما مقيدة سنة أبي القاسم ص - وروى أيمن بن نابل عن طاوس في قوله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف قياما وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال من قرأ صواف فهي قائمة مضمومة يداها ومن قرأ صوافن قيام معقولة وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قرأها صوافن قال معقولة يقول بسم الله والله أكبر وروى الأعمش عن أبي الضحى قال سمعت ابن عباس وسئل عن هذه الآية صواف قال قياما معقولة وروى جويبر عن الضحاك قال كان ابن مسعود يقرأها صوافن وصوافن أن يعقل إحدى يديهما فتقوم على ثلاث وروى قتادة عن الحسن أنه قرأها صوافي قال خالصة من الشرك وعن ابن عمر وعروة بن الزبير أنها تنحر مستقبلة القبلة قال أبو بكر حصلت قراءة السلف لذلك على ثلاثة أنحاء أحدها صواف بمعنى مصطفة قياما وصوافي

 

بمعنى خالصة لله تعالى وصوافن بمعنى معقلة في قيامها قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم إذا سقطت وقال أهل اللغة الوجوب هو السقوط ومنه وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب قال قيس بن الخطيم ... أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب ... يعني أول مقتول سقط على الأرض وكذلك البدن إذا نحرت قياما سقطت لجنوبها وهذا يدل على أنه قد أراد بقوله صواف قياما لأنها إذا كانت باركة لا يقال إنها تسقط إلا بالإضافة فيقال سقطت لجنوبها وإذا كانت قائمة ثم نحرت فلا محالة يطلق عليها اسم السقوط وقد يقال للباركة إذا ماتت فانقلبت على الجنب أنها سقطت لجنبها فاللفظ محتمل للأمرين إلا أن أظهرهما أن تكون قائمة فتسقط لجنبها عند النحر وقوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها يدل على أنه قد اريد بوجوبها لجنوبها موتها فهذا يدل على أنه ليس المراد سقوطها فحسب وأنه إنما أراد سقوطها للموت فجعل وجوبها عبارة عن الموت وهذا يدل علىأنه لا يجوز الأكل منها إلا بعد موتها ويدل عليه قوله ص - ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميتة وقوله تعالى فكلوا منها يقتضي إيجاب الأكل منها إلا أن أهل العلم متفقون على أن الأكل منها غير واجب وجائز أن يكون مستحسنا مندوبا إليه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع وكان لا يأكل يوم الأضحى حتى يصلي صلاة العيد ثم يأكل من لحم أضحيته وقال ص - كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلث فكلوا وادخروا وروى أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن علقمة قال بعث معي عبدالله بهدية فقلت له ماذا تأمرني أن أصنع به قال إذا كان يوم عرفة فعرف به وإذا كان يوم النحر فانحره صواف فإذا وجب لجنبه فكل ثلثا وتصدق بثلث وابعث إلى أهل أخي ثلثا وروى نافع عن ابن عمر كان يفتي في النسك والأضحية ثلث لك ولأهلك وثلث في جيرانك وثلث للمساكين وقال عبدالملك عن عطاء مثله قال وكل شيء من البدن واجبا كان أو تطوعا فهو بهذه المنزلة إلا ما كان من جراد صيد أو فدية من صيام أو صدقة أو نسك أو نذر مسمى للمساكين وقد روى طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن مسعود قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق بثلثها ونأكل ثلثها ونعطي الجازر ثلثها والجازر غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لعلي لا تعطي الجازر منها شيئا وجائز أن

 

يكون الجازر صحيحا وإنما أمرنا بإعطائه من غير أجرة الجزارة وإنما نهى أن يعطى الجازر منها من أجرته ولما ثبت جواز الأكل منها دل ذلك على جواز إعطائه الأغنياء لأن كل ما يجوز له أكله يجوز أن يعطى منه الغني كسائر امواله وإنما قدروا الثلث للصدقة على وجه الإستحباب لأنه لما جاز له أن يأكل بعضه ويتصدق ببعضه ويهدي بعضه على غير وجه الصدقة كان الذي حصل للصدقة الثلث وقد قدمنا قبل ذلك أنه لما قال ص -

في لحوم الاضاحي فكلوا وادخروا وقال الله تعالى فكلوا

منها وأطعموا البائس الفقير حصل الثلث للصدقة وقوله تعالى فكلوا منها عطفا على البدن يقتضي عمومه جواز الأكل من بدن القران والتمتع لشمول اللفظ لها قوله تعالى وأطعموا القانع والمعتر قال أبو بكر القانع قد يكون الراضي بما رزق والقانع السائل أخبرنا أبو عمر غلام ثعلب قال أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال القناعة الرضا بما رزقه الله تعالى ويقال من القناعة رجل قانع وقنع ومن القنوع رجل قانع لا غير قال أبو بكر وقال الشماخ في القنوع ... لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع ...

واختلف السلف في المراد بالآية فروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا القانع الذي لا يسئل والمعتر الذي يسئل وروي عن الحسن وسعيد بن جبير قالا القانع الذي يسئل وروي عن الحسن قال المعتر يتعرض ولا يسئل وقال مجاهد القانع جارك الغني والمعتر الذي يعتريك من الناس قال أبو بكر إن كان القانع هو الغني فقد اقتضت الآية أن يكون المستحب الصدقة بالثلث لأن فيها الأمر بالأكل وإعطاء الغني وإعطاء الفقير الذي يسئل قوله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم قيل في معناه لن يتقبل الله اللحوم ولا الدماء ولكن يتقبل التقوى منها وقيل لن يبلغ رضا الله لحومها ولا دماءها ولكن يبلغه التقوى منكم وإنما قال ذلك بيانا أنهم إنما يستحقون الثواب بأعمالهم إذ كانت اللحوم والدماء فعل الله فلا يجوز أن يستحقوا بها الثواب وإنما يستحقونه بفعلهم الذي هو التقوى ومجرى موافقة أمر الله تعالى بذبحها قوله تعالى كذلك سخرها لكم يعني ذللها لتصريف العباد فيما يريدون منها خلاف السباع الممتنعة بما أعطيت من القوة والآلة قوله تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد قال مجاهد صوامع الرهبان والبيع كنائس اليهود وقال الضحاك

 

صلوات كنائس اليهود ويسمونها صلوتا وقيل إن الصلوات مواضع صلوات المسلمين مما في منازلهم وقال بعضهم لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع في أيام شريعة عيسى عليه السلام وبيع في أيام شريعة موسى عليه السلام ومساجد في أيام شريعة محمد ص - وقال الحسن يدفع عن هدم مصليات أهل الذمة بالمؤمنين قال أبو بكر في الآية دليل على أن هذه المواضع المذكورة لا يجوز أن تهدم على من كان له ذمة أو عهد من الكفار وأما في دار الحرب فجائز لهم أن يهدموها كما يهدمون سائر دورهم وقال محمد بن الحسن في أرض الصلح إذا صارت مصرا للمسلمين لم يهدم ما كان فيها من بيعة أو كنيسة أو بيت نار وأما ما فتح عنوة وأقر أهلها عليها بالجزية فإنه ما صار منها مصرا للمسلمين فإنهم يمنعون من فيها الصلاة في بيعهم وكنائسهم ولا تهدم عليهم ويؤمرون بأن يجعلوها إن شاؤوا بيوتا مسكونة قوله تعالى الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة قال أبو بكر هذه صفة الذين أذن لهم في القتال بقوله تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا إلى قوله الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلى قوله الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وهذه صفة المهاجرين لأنهم الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق فأخبر تعالى أنه إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وهو صفة الخلفاء الراشدين الذين مكنهم الله في الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم

وقد

مكنوا في الأرض فوجب أن يكونوا أئمة القائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه ولا يدخل معاوية في هؤلاء لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وليس معاوية من المهاجرين بل هو من الطلقاء قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس أن السبب في نزول هذه الآية إنه لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم -

أفرأيتم

اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في تلاوته ... تلك الغرانيق العلى ... وإن شفاعتهن لترتجى

 

وقد اختلف في معنى ألقى الشيطان فقال قائلون لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم -

هذه السورة وذكر فيها الأصنام علم الكفار أنه يذكرها بالذم والعيب فقال

قائل منهم حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى تلك الغرانيق العلى وذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش في المسجد الحرام فقال سائر الكفار الذين كانوا بالبعد منه إن محمدا قد مدح آلهتنا وظنوا أن ذلك كان في تلاوته فأبطل الله ذلك من قولهم وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يتله وإنما تلاه بعض المشركين وسمى الذي القى ذلك في حال تلاوة النبي

ص - شيطانا لأنه كان من شياطين الإنس كما قال تعالى شياطين الإنس والجن والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس وقيل إنه جائز أن يكون شيطانا من شياطين الجن وقال ذلك عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم -

ومثل ذلك جائز في أزمان الأنبياء عليهم السلام كما حكى الله تعالى عنه

بقوله وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى مالا ترون وإنما قال ذلك إبليس حين تصور في صورة سراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر وكما تصور في صورة الشيخ النجدي حين تشاورت قريش في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم -

وكان مثل ذلك جائزا في زمن النبي ص

- لضرب من التدببر فجائز أن يكون الذي قال ذلك شيطانا فظن القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قاله وقال بعضهم جائز أن يكون النبي ص

- قد تكلم بذلك على سبيل السهو الذي لا يعرى منه بشر فلا يلبث أن ينبهه الله عليه وأنكر بعض العلماء ذلك وذهب إلى أن المعنى إن الشيطان كان يلقي وساوسه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم - ما يشغله عن بعض ما يقول فيقرأ غلطا في القصص المتشابهة نحو قصة موسى عليه السلام وفرعون في مواضع من القرآن مختلفة الألفاظ فكان المنافقون والمشركون ربما قالوا قد رجع عن بعض ما قرأ وكان ذلك يكون منه على طريق السهو فنبهه الله تعالى عليه فأما الغلط في قراءة تلك الغرانيق فإنه غير جائز وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم - كما لا يجوز وقوع الغلط على بعض القرآن بإنشاد شعر في أضعاف التلاوة على أنه من القرآن وروي عن الحسن أنه لما تلا ما فيه ذكر الأصنام قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم -

إنما هي عندكم كالغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى في قولكم على جهة

النكير عليهم قوله تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر قيل إن المنسك الموضع المعتاد لعمل خير أو شر وهو المألف

 

لذلك ومناسك الحج مواضع العبادات فيه فهي متعبدات الحج وقال ابن عباس منسكا عيدا وقال مجاهد وقتادة متعبدا في إراقة الدم بمنى وغيره وقال عطاء ومجاهد أيضا وعكرمة ذبائح هم ذابحوه وقيل إن المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها قال أبو بكر قال النبي صلى الله عليه وسلم -

في حديث البراء بن عازب أن النبي ص

- خرج يوم الأضحى فقال إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فجعل الصلاة والذبح جميعا نسكا وهذا يدل على أن اسم النسك يقع على جميع العبادات إلا أن الأظهر الأغلب في العادة عند الإطلاق الذبح على وجه القربة قال الله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وليس يمتنع أن يكون المراد جميع العبادات ويكون الذبح أحد ما أريد بالآية فيوجب ذلك أن يكونوا مأمورين بالذبح لقوله تعالى فلا ينازعنك في الأمر وإذ كنا مأمورين بالذبح ساغ الاحتجاج به في إيجاب الأضحية لوقوعها عامة في الموسرين كالزكاة ولو جعلناه على الذبح الواجب في الحج كان خاصا في دم القران والمتعة إذ كانا نسكين في الحج دون غيرهما من الدماء إذ كانت سائر الدماء في الحج إنما يجب على جهة جبران نقص وجناية فلا يكون إيجابه على وجه ابتداء العبادة به وقوله تعالى جعلنا منسكا هم ناسكوه يقتضي ظاهره ابتداء إيجاب العبادة به واختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب الأضحية فروى الشعبي عن أبي سريحة قال رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان وقال عكرمة كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ويقول من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس وقال ابن عمر ليست بحتم ولكن سنة ومعروف وقال أبو مسعود الأنصاري إني لأدع الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم علي وقال إبراهيم النخعي الأضحية واجبة إلا على مسافر وروي عنه أنه قال كانوا إذا شهدوا ضحوا وإذا سافروا لم يضحوا وروى يحيى بن يمان عن سعيد بن عبدالعزيز عن مكحول قال الأضحية واجبة وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر الأضحية واجبة على أهل اليسار من أهل الامصار والقرى المقيمين دون المسافرين ولا أضحية على المسافر وإن كان موسرا وحد اليسار في ذلك ما تجب فيه صدقة الفطر وروي عن أبي يوسف مثل ذلك وروي عنه أنها ليست بواجبة وهي سنة وقال مالك بن أنس على الناس كلهم أضحية المسافر والمقيم ومن تركها من غير عذر فبئس ما صنع وقال الثوري والشافعي ليست بواجبة وقال الثوري لا بأس بتركها وقال عبدالله بن

 

الحسن يؤثر بها أباه أحب إلي من أن يضحى قال أبو بكر ومن يوجبها يحتج له بهذه الآية ويحتج له بقوله قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت قد اقتضى الأمر بالأضحية لأن النسك في هذا الموضع المراد به الأضحية ويدل عليه ما روى سعيد بن جبير عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يا فاطمة اشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه وقولي إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وروى أن عليا رضي الله عنه كان يقول عند ذبح الأضحية إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله الآية وقال أبو بردة بن نيار يوم الأضحى يا رسول الله إني عجلت بنسكي وقال ص - إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فدل ذلك على أن هذا النسك قد أريد به الأضحية وأخبر أنه مأمور بقه بقوله وبذلك أمرت والأمر يقتضي الوجوب ويحتج فيه بقوله فصل لربك وانحر قد روى أنه أراد صلاة العيد وبالنحر الأضحية والأمر يقتضي الإيجاب وإذا وجب على النبي صلى الله عليه وسلم - فهو واجب علينا لقوله تعالى فاتبعوه وقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ويحتج للقائلين بإيجابها من جهة الأثر بما رواه زيد بن الحباب عن عبدالله بن عياش قال حدثني الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كان له يسار فلم يضح فلا يقربن مصلانا وقد رواه غير زيد بن الحباب مرفوعا جماعة منهم يحيى بن سعيد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عباس بن الوليد بن المبارك قال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالله بن عياش عن الأعرج عن أبي هريرة ق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قدر على سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ورواه يحيى بن يعلى أيضا مرفوعا حدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن النعمان الفراء قال حدثنا يحيى بن يعلى عن عبدالله بن عياش أو عباس عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مسجدنا ورواه عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج عن أبي هريرة قال من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ويقال إن عبيد الله بن أبي جعفر فوق ابن عياش في الضبط والجلالة فوقفه على أبي هريرة ولم يرفعه ويقال إن الصحيح أنه موقوف عليه غير مرفوع ويحتج لإيجابها أيضا بحديث أبي رملة الحنفي عن مخنف بن سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال على كل أهل بيت في عام أضحية وعتيرة قال أبو بكر والعتيرة

 

منسوخة بالاتفاق وهي إنهم كانوا يصومون رجب ثم يعترون وهي الرجبية وقد كان ابن سيرين وابن عون يفعلانه ولم تقم الدلالة على نسخ الأضحية فهي واجبة بمقتضى الخبر إلا أنه ذكر في هذا الحديث على كل أهل بيت أضحية ومعلوم أن الواجب من الأضجية لا يجزى عن أهل البيت وإنما يجزى عن واحد فبدل ذلك على أنه لم يرد الإيجاب ومما يحتج لموجبيها ما حدثنا عبدالباقي قال حدثنا احمد بن أبي عون البزوري قال حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن مجاهد عن الشعبي عن جابر والبراء بن عازب قالا قام النبي صلى الله عليه وسلم - على منبره يوم الأضحى فقال من صلى معنا هذه الصلاة فليذبح بعد الصلاة فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله إني ذبحت ليأكل معنا أصحابنا إذا رجعنا قال ليس بنسك قال عندي جذعة من المعز قال تجزى عنك ولا تجزى عن غيرك فيستدل من هذا الخبر بوجوه على الوجوب أحدها قوله ص - من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح بعد الصلاة وهو أمر بالذبح يقتضي ظاهره الوجوب والوجه الثاني قوله ص - تجزى عنك ولا تجزى عن غيرك ومعناه تقضى عنك لأنه يقال جزى عني كذا بمعنى قضى عني والقضاء لا يكون إلا عن واجب فقد اقتضى ذلك الوجوب ومن جهة أخرى أن في بعض ألفاظ هذا الحديث فمن ذبح قبل الصلاة فليعد أضحيته وفي بعضها أنه قال لأبي بردة أعد أضحيتك ومن يأبى ذلك يقول إن قوله ص - من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح يدل على أنه لم يرد الإيجاب لأن وجوبها لا يتعلق بشهود الصلاة عند الجميع ولما عم الجميع ولم يخصص به الأغنياء دل على أنه أراد الندب وأما قوله تجزى عنك فإنما أراد به جواز قربة والجواز والقضاء على ضربين أحدهما جواز قربة والآخر جواز فرض فليس في ظاهر إطلاق لفظ الجواز والقضاء دلالة على الوجوب وأيضا يحتمل أن يكون أبو بردة قد كان أوجب الأضحية نذرا فأمره بالإعادة فإذا ليس فيما خاظب به أبو بردة دلالة على الوجوب لأنه حكم في شخص معين ليس بعموم لفظ في إيجابها على كل أحد فإن قيل لو أراد القضاء عن واجب لسأله عن قيمته ليوجب عليه مثله قيل له قد قال أبو بردة إن عندي جذعة خير من شاتي لحم فكانت الجذعة خيرا من الأولى ومما يحتج به على الوجوب من طريق النظر إتفاق الجميع على لزومها بالنذر فلولا أن لها أصلا في الوجوب لما لزمت بالنذر كسائر الأشياء التي ليس لها أصل في الوجوب فلا تلزم بالنذر ومما يحتج به للوجوب

 

ما روى جابر الجعفي عن أبي جعفر قال نسخت الأضحية كل ذبح كان قبلها ونسخت الزكاة كل زكاة كانت قبلها ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ونسخ غسل الجنابة كل غسل كان قبله قالوا فهذا يدل على وجوب الأضحى لأنه نسخ به ما كان قبله ولا يكون المنسوخ به إلا واجبا ألا ترى أن كل ما ذكره أنه ناسخ لما قبله فهو فرض أو واجب قال أبو بكر وهذا عندي لا يدل على الوجوب لأن نسخ الواجب هو بيان مدة الوجوب فإذا بين بالنسخ أن مدة الإيجاب كانت إلى هذا الوقت لم يكن في ذلك ما يقتضي إيجاب شيء آخر ألا ترى أنه لو قال قد نسخت عنكم العتيرة والعقيقة وسائر الذبائح التي كانت تفعل لم تكن فيه دلالة على وجوب ذبيحة أخرى فليس إذا في قوله نسخت الأضحية كل ذبيحة كانت قبلها دلالة على وجوب الأضحية وإنما فائدة ذكر النسخ في هذا الموضع بالأضحية أنه بعد ما ندبنا إلى الأضحية لم تكن هناك ذبيحة أخرى واجبة ومما يحتج به من نفي وجوبها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا عبدالعزيز بن الخطاب قال حدثنا مندل بن علي عن أبي حباب عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الأضحى على فريضة وهو عليكم سنة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا سعيد بن محمد أبو عثمان الأنجداني قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا عبدالرحيم بن سليم عن عبدالله بن محرز عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أمرت بالأضحى والوتر ولم تعزم على وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن علي بن العباس الفقيه قال حدثنا عبدالله بن عمر قال حدثنا محمد بن عبدالوارث قال حدثنا أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ثلاث هن علي فريضة ولكم تطوع الأضحى والوتر والضحى ففي هذه الأخبار أنها ليست بواجبة علينا إلا أن الأخبار لو تعارضت لكانت الأخبار المقتضية للإيجاب أولى بالاستعمال من وجهين أحدهما أن الإيجاب طارىء على إباحة الترك والثاني أن فيه حظر الترك وفي نفيه إباحة الترك والحظر أولى من الإباحة ومما يحتج به في نفي الوجوب ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثني سعيد بن أيوب قال حدثني عياش القتباني عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة فقال رجل أرأيت إن لم أجد إلا منيحة إنني أفأضحي بها قال لا

 

ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك وتحلق عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله عز و جل فلما جعل هذه الأشياء بمنزلة الأضحية دل على أن الأضحية غير واجبة إذ كان فعل هذه الأشياء غير واجب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني إبراهيم بن موسى الرازي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش عن جابر بن عبدالله قال ذبح النبي صلى الله عليه وسلم - يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجئين فلما وجههما قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح قالوا ففي ذبحه عن الأمة دلالة على أنها غير واجبة لأنها لو كانت واجبة لم تجز شاة عن جميع الأمة قال أبو بكر وهذا لا ينفي الوجوب لأنه تطوع بذلك وجائز أن يتطوع عمن قد وجب عليه كما يتطوع الرجل عن نفسه ولا يسقط ذلك عنه وجوب ما يلزمه ومما يحتج من نفي الوجوب ما قدمنا روايته عن السلف من نفي إيجابه وفيه الدلالة من وجهين على ذلك أحدهما أنه لم يظهر من أحد من نظرائهم من السلف خلافه وقد استفاض عمن ذكرنا قولهم من السلف نفي إيجابه والثاني أنه لو كان واجبا مع عموم الحاجة إليه لوجب أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف لأصحابه على وجوبه ولو كان كذلك لورد النقل به مستفيضا متواترا وكان لا أقل من أن يكون وروده في وزن ورود إيجاب صدقة الفطر لعموم الحاجة إليه وفي عدم النقل المستفيض فيه دلالة على نفي الوجوب ويحتج فيه بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما اختلف حكم المقيم والمسافر فيه كصدقة الفطر فلما لم يوجبه أبو حنيفة على المسافر دل على أنه غير واجب ويحتج فيه أيضا بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما أسقطه مضي الوقت فلما اتفق الجميع على أنه يسقط بمضي أيام النحر دل على أنه غير واجب إذ كانت سائر الحقوق الواجبة في الأموال نحو الزكاة وصدقة الفطر والعشر ونحوها لا يسقطها مضي الأوقات قوله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده إلى قوله ملة أبيكم إبراهيم قيل معناه جاهدوا في الله حق جهادة واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ولذلك نصب وقال بعضهم نصب لأنه أراد كملة أبيكم إلا أنه لما حذف الجار اتصل الاسم بالفعل فنصب قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن علينا اتباع شريعة إبراهيم إلا ما ثبت

 

نسخه على لسان نبينا ص -

وقيل إنه إنما قال ملة أبيكم إبراهيم لأنها داخلة في ملة نبينا ص

- وإن كان المعنى أنه كملة أبيكم إبراهيم فإنه يعني أن الجهاد في الله حق جهاده كملة أبيكم إبراهيم عليه السلام لأنه جاهد في الله حق جهاده وقال ابن عباس وجاهدوا في الله حق جهاده جاهدوا المشركين وروي عن ابن عباس أيضا لا تخافوا في الله لومة لائم وهو الجهاد في الله حق جهاده وقال الضحاك يعني اعملوا بالحق لله عز و جل قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج قال ابن عباس من ضيق وكذلك قال مجاهد ويحتج به في كل ما اختلف فيه من الحوادث أن ما أدى إلى الضيق فهو منفي وما أوجب التوسعة فهو أولى وقد قيل وما جعل عليكم في الدين من حرج إنه من ضيق لا مخرج منه وذلك لأن منه ما يتخلص منه بالتوبة ومنه ما ترد به المظلمة فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من عقوبته وقوله ملة أبيكم إبراهيم الخطاب لجميع المسلمين وليس كلهم راجعا بنسبه إلى أولاد إبراهيم فروي عن الحسن أنه أراد أن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد كما قال تعالى وأزواجه أمهاتكم وفي بعض القراءات وهو أب لهم قوله تعالى هو سماكم المسلمين من قبل قال ابن عباس ومجاهد يعني إن الله سماكم المسلمين وقيل إن إبراهيم سماكم المسلمين لقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وقوله تعالى من قبل وفي هذا قال مجاهد من قبل القرآن وفي القرآن وقوله تعالى هو اجتباكم يدل على أنهم عدول مرضيون وفي ذلك بطلان طعن الطاعنين عليهم إذ كان الله لا يجتبي إلا أهل طاعته واتباع مرضاته وفي ذلك مدح للصحابة المخاطبين بذلك ودليل على طهارتهم قوله تعالى ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فيه الدلالة على صحة إجماعهم لأن معناه ليكون الرسول شهيدا عليكم بطاعة من أطاع في تبليغه وعصيان من عصى وتكونوا شهداء على الناس بأعمالهم فيما بلغتموهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم وهذه الآية نظير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا فبدأبمدحهم ووصفهم بالعدالة ثم أخبر أنهم شهداء وحجة على من بعدهم كما قال هنا هو اجتباكم إلى قوله وتكونوا شهداء على الناس قوله تعالى وافعلوا الخير ربما يحتج به المحتج في إيجاب قربة مختلف في وجوبها وهذا عندنا لا يصح الاحتجاج به في إيجاب شيء ولا يصح اعتقاد العموم

 

فيه آخر سورة الحج

ومن

سورة المؤمنين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون روى ابن عوف عن محمد بن سيرين قال كان النبي صلى الله عليه وسلم - إذا صلى رفع رأسه إلى السماء فلما نزلت الذين هم في صلاتهم خاشعون نكس رأسه وروى هشام عن محمد قال لما نزلت الذين هم في صلاتهم خاشعون خفوا أبصارهم فكان الرجل يحب أن لا يجاوز بصره موضع سجوده وروي عن جماعة الخشوع في الصلاة أن لا يجاوز بصره موضع سجوده وروي عن ابراهيم ومجاهد والزهري الخشوع السكون وروى المسعودي عن أبي سنان عن رجل منهم قال سئل علي عن قوله الذين هم في صلاتهم خاشعون قال الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء المسلم ولا تلتفت في صلاتك وقال الحسن خاشعون خائفون قال أبو بكر الخشوع ينتظم هذه المعاني كلها من السكون في الصلاة والتذلل وترك الإلتفات والحركة والخوف من الله تعالى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال اسكنوا في الصلاة وكفوا أيديكم في الصلاة وقال أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا وأنه نهى عن مس الحصى في الصلاة وقال إذا قام الرجل يصلي فإن الرحمة تواجهه فإذا التفت انصرفت عنه وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يلمح في الصلاة ولا يلتفت وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو توبة قال حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام قال حدثني السلوى أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وذكر الحديث إلى قوله من يحرسنا الليلة قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله قال فاركب فركب فرسا له فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -

استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يغرن من قبلك الليلة فلما أصبحنا

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال هل أحسستم فارسكم قالوا يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال أبشروا قد جاءكم

فارسكم فأخبر في هذا الحديث أنه كان يلتفت إلى الشعب وهو في

 

الصلاة وهذا عندنا كان عذرا من وجهين أحدهما أنه لم يأمن من مجيء العدو من تلك الناحية والثاني اشتغال قلبه بالفارس إلى أن طلع وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا وروى حماد بن سلمة عن حميد عن معاوية بن قرة قال قيل لابن عمر إن كان الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا قال لكنا نقول هكذا وهكذا ونكون مثل الناس وروي عن ابن عمر أنه كان لا يلتفت في الصلاة فعلمنا أن الالتفات المنهى عنه أن يولي وجهه يمنة ويسرة فأما أن يلحظ يمنة ويسرة فإنه غير منهي عنه وروى سفيان عن الأعمش قال كان ابن مسعود إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى وروى أبو مجلز عن أبي عبيدة قال كان أبن مسعود إذا قام إلى الصلاة خفض فيها صوته وبدنه وبصره وروى علي بن صالح عن زبير اليامي قال كان أراد أن يصلي كأنه خشبة قوله تعالى والذين هم عن اللغو معرضون واللغة هو الفعل الذي لا فائدة فيه وما كان هذا وصفه من القول والفعل فهو محظور وقال ابن عباس اللغو الباطل والقول الذي لا فائدة فيه هو الباطل وإن كان الباطل قد يبتغي به فوائد عاجلة قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون يجوز أن يكون المراد عاما في الرجال والنساء لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر كقوله قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون قد أريد به الرجال والنساء ومن الناس من يقول إن قوله والذين هم لفروجهم حافظون خاص في الرجال بدلالة قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وذلك لا محالة أريد به الرجال قال أبو بكر وليس يمتنع أن يكون اللفظ الأول عاما في الجميع والاستثناء خاص في الرجال كقوله ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ثم قال وإن جاهداك لتشرك بي فالأول عموم في الجميع والعطف في بعض ما انتظمه اللفظ وقوله والذين هم لفروجهم حافظون عام لدلالة الحال عليه وهو حفظها من مواقعة المحظور بها قوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون يقتضي تحريم نكاح المتعة إذ ليست بزوجة ولا مملوكة يمين وقد بينا ذلك في سورة النساء في قوله وراء ذلك معناه غير ذلك وقوله العادون يعني من يتعدى الحلال إلى الحرام فأما قوله إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم استثناء من الجملة المذكورة لحفظ الفروج وإخبار عن إباحة وطء الزوجة وملك اليمين فاقتضت الآية حظر ما عدا هذين الصنفين في الزوجات وملك الأيمان ودل بذلك على إباحة وطء الزوجات

 

وملك اليمين لعموم اللفظ فيهن فإن قيل لو كان ذلك عموما في إباحة وطئهن لوجب أن يجوز وطؤهن في حال الحيض ووطء الأمة ذات الزوجة والمعتدة من وطء بشبهة ونحو ذلك قيل له قد اقتضى عموم اللفظ إباحة وطئهن في سائر الأحوال إلا أن الدلالة قد قامت على تخصيص من ذكرت كسائر العموم إذا خص منه شيء لم يمنع ذلك بقاء حكم العموم فيما لم يخص وملك اليمين متى أطلق عقل به الأمة والعبد المملوكان ولا يكاد يطلق ملك اليمين في غير بني آدم لا يقال للدار والدابة ملك اليمين وذلك لأن ملك العبد والأمة أخص من ملك غيرهما ألا ترى أنه يملك التصرف في الدار بالنقض والبناء ولا يملك ذلك في بني آدم ويجوز عارية الدار وغيرها من العروض ولا يجوز عارية الفروج قوله تعالى والذين هم على صلواتهم يحافظون روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى يحافظون قالوا فعلها في الوقت وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن يترك الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى وقال مسروق الحفاظ على الصلاة فعلها لوقتها وقال إبراهيم النخعي يحافظون دائمون وقال قتادة يحافظون على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها قال أبو بكر المحافظة عليها مراعاتها للتأدية في وقتها على استكمال شرائطها وجميع المعاني التي تأول عليها السلف المحافظة هي مرادة بالآية وأعاد ذكر الصلاة لأنه مأمور بالمحافظة عليها كما هو بالخشوع فيها قوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة الآية روى وكيع عن مالك بن مغول عن عبدالرحمن بن سعيد ابن وهب عن عائشة قالت قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يشرب الخمر ويسرق قال لا يا عائشة ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه وروى جرير عن ليث عمن حدثه عن عائشة وعن ابن عمر يؤتون ما آتوا قال الزكاة ويروى عن الحسن قال لقد أدركت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيآتكم أن تعذبوا عليها قوله تعالىأولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون الخيرات هنا الطاعات يسارع إليها أهل الإيمان بالله ويجتهدون في السبق إليها رغبة فيها وعلما بما لهم بها من حسن الجزاء وقوله وهم لها سابقون قال ابن عباس سبقت لهم السعادة وقال غيره وهم من أهل الخيرات سابقون إلى الجنة وقال آخرون وهم إلى الخيرات سابقون قوله تعالى ولهم أعمال من دون ذلك قال

 

قتادة وأبو العالية خطايا من دون الحق وعن الحسن ومجاهد أعمال لهم من دون ما هم عليه لا بد من أن يعملوها وقوله تعالى مستكبرين به سامرا تهجرون قرىء بفتح التاء وضم الجيم وقرىء بضم التاء وكسر الجيم فقيل في تهجرون قولان أحدهما قول ابن عباس تهجرون الحق بالإعراض عنه وقال مجاهد وسعيد بن جبير تقولون الهجر وهو السيء من القول ومن قرأ تهجرون فليس إلا من الهجر عن ابن عباس وغيره يقال اهجر المريض إذا هدأ ووحد سامرا وإن كان المراد ا لسمار لأنه في موضع المصدر كما يقال قوموا قياما وقيل إنما وحد لأنه في موضع الوقت بتقدير ليلا تهجرون وكانوا يسمرون بالليل حول الكعبة وقد اختلف في السمر فروى شعبة عن أبي المنهال عن أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وروى شعبة عن منصور عن خيثمة عن

عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا سمر إلا لرجلين مصل أو مسافر وعن ابن عمر أنه كان ينهى عن السمر بعد العشاء وأما الرخصة فيه فما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال قال عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم - لا يزال يسمر الليلة عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وكان ابن عباس يسمر بعد العشاء وكذلك عمرو بن دينار وأيوب السختياني إلى نصف الليل آخر سورة المؤمنين

ومن سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال أبو بكر لم يختلف السلف في أن حد الزانيين في أول الإسلام ما قال الله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم إلى قوله واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فكان حد المرأة الحبس والأذى بالتعبير وكان حد الرجل التعبير ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ونسخ عن المحصن بالرجم وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم فكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم إلى قوله أو يجعل الله لهن سبيلا وذلك لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم - إيانا على أن ما ذكره

 

من ذلك هو السبيل المراد بالآية ومعلوم أنه لم تكن بينهما واسطة حكم آخر لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدما لقوله ص - بحديث عبادة إن المراد بالسبيل هو ما ذكره دون غيره وإذا كان كذلك كان الأذى والحبس منسوخين عن غير المحصن بالآية وعن المحصن بالسنة وهو الرجم واختلف أهل العلم في حد المحصن وغير المحصن في الزنا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يرجم المحصن ولا يجلد ويجلد غير المحصن وليس نفيه بحد وإنما هو موكول إلى رأي الإمام إن رأى نفيه للدعارة فعل كما يجوز حبسه حتى يحدث توبة وقال ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح لا يجتمع الجلد والرجم مثل قول أصحابنا واختلفوا في النفي بعد الجلد فقال ابن أبي ليلى ينفى البكر بعد الجلد وقال مالك ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد ومن نفى حبس في الموضع الذي ينفى إليه وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ينفى الزاني وقال الأوزاعي ولا تنفى المرأة وقال الشافعي ينفى العبد نصف سنة والدليل على أن نفي البكر الزاني ليس بحدان قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة يوجب أن يكون هذا هو الحد المستحق بالزنا وأنه كمال الحد فلو جعلنا النفي حدا معه لكان الجلد بعض الحد وفي ذلك إيجاب نسخ الآية فثبت أن النفي إنما هو تعزيز وليس بحد ومن جهة أخرى أن الزيادة في النص غير جائزة إلا بمثلي ما يجوز به النسخ وأيضا لو كان النفي حدا مع الجلد لكان من النبي صلى الله عليه وسلم - عند تلاوته توقيف للصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حده ولو كان كذلك لكان وروده في وزن ورود نقل الآية فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد وقد روي عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فقال عمر لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنا وروي عن علي أنه قال في البكرين إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها وقال إبراهيم النخعي كفى بالنفي فتنة فلو كان النفي ثابتا مع الجلد على أنهما حد الزاني لما خفى على كبراء الصحابة ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة وشبل وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأمة إذا زنت فليجلدها فإن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير وقد حوى هذا الخبر الدلالة من وجهين على صحة قولنا أحدهما

 

إنه لو كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد والثاني أن الله تعالى قال فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فإذا كان جلد الأمة نصف حد الحرة وأخبر ص - في حدها بالجلد دون النفي دل ذلك على أن حد الحرة هو الجلد ولا نفي فيه فإن قيل إنما أراد بذلك التأديب دون الحد وقد روي عن ابن عباس أن الأمة إذا زنت قبل أن تحصن أنه لا حد عليها لقوله تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قيل له قد روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها قال ذلك ثلاث

مرات ثم قال في الثالثة أو الرابعة ثم ليبعها ولو بضفير وقوله ص - بعها ولو بضفير يدل على أنها لا تنفى لأنه لو وجب نفيها لما جاز بيعها إذ لا يمكن المشتري تسلمها لأن حكمها أن تنفى فإن قيل في حديث شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبدالله عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر يجلد وينفى والثيب يجلد ويرجم وروى الحسن عن قبيصة بن ذؤيب عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وحديث الزهري عن عبيد الله بن عبدالله عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديته منه بوليدة ومائة شاة ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الغنم والوليدة فرد عليك وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قيل له غير جائز أن تزيد في حكم الآية بأخبار الآحاد لأنه يوجب النسخ لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ فالواجب إذا كان هكذا حمله على وجه التعزير لا أنه حد مع الجلد فرأى النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر وكسر الأواني لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة وأيضا فإن حديث عبادة وارد لا محالة قبل آية الجلد وذلك لأنه قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا فلو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لكان السبيل مجعولا قبل ذلك ولما كان الحكم مأخوذا عنه بل عن الآية قثبت بذلك أن آية الجلد

 

إنما نزلت بعد ذلك وليس فيها ذكر النفي فوجب أن يكون ناسخا لما في حديث عبادة من النفي إن كان النفي حدا ومما يدل على أن النفي على وجه التعزير وليس بحد أن الحدود معلومة المقادير والنهايات ولذلك سميت حدودا لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها فلما لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم - للنفي مكانا معلوما ولا مقدارا من المسافة والبعد علمنا أنه ليس بحد وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام كالتعزير لما لم يكن له مقدار معلوم كان تقديره موكولا إلى رأي الأمام ولو كان ذلك حدا لذكر النبي صلى الله عليه وسلم - مسافة الموضع الذي ينفى إليه كما ذكر توقيت السنة لمدة النفي وأما الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فإن فقهاء الأمصار متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد والدليل على صحة ذلك حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف وإن أبا الزاني قال سألت رجلا من أهل العلم فقالوا على امرأة هذا الرجم فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم - بل عليها الرجم والجلد وقال لأنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يذكر جلدا ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره له كما ذكر الرجم وقد وردت قصة ماعز من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد ولو كان الجلد حدا مع الرجم لجلده النبي صلى الله عليه وسلم - ولو جلده لنقل كما نقل الرجم إذ ليس أحدهما بأولى بالنقل من الآخر وكذلك في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن وضعت ولم يذكر جلدا ولو كانت جلدت لنقل وفي حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال قال عمر قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخبر أن الذي فرضه الله هو الرجم وأن النبي صلى الله عليه وسلم - رجم ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره واحتج من جمع بينهما بحديث عبادة الذي قدمناه وقوله الثيب بالثيب الجلد والرجم وبما روى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم - فجلد ثم أخبر أنه قد كان أحصن فأمر به فرجم وبما روى أن عليا جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فأما حديث عبادة فإنا قد علمنا أنه وارد عقيب كون حد الزانيين الحبس

والأذى ناسخا له واسطة بينهما بقوله ص - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ثم كان رجم ماعز والغامدية وقوله واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها

 

بعد حديث عبادة فلو كان ما ذكر في حديث عبادة من الجمع بين الجلد والرجم ثابتا لا يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم - في هذه الوجوه وأما حديث جابر فجائز أن يكون جلده بعض الحد لأنه لم يعلم بإحصانه ثم لما ثبت إحصانه رجمه وكذلك قول أصحابنا ويحتمل حديث علي رضي الله عنه في جلده شراحة ثم رجمها أن يكون على هذا الوجه واختلف الفقهاء في الذميين هل يحدان إذا زنيا فقال أصحابنا والشافعي يحدان إلا أنهما لا يرجمان عندنا وعند الشافعي يرجمان إذا كانا محصنين وقد بينا ذلك فيما سلف وقال مالك لا يحد الذميان إذا زنيا قال أبو بكر وظاهر قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة يوجب الحد على الذميين ويدل عليه حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وقوله ص -

أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ولم يفرق بين الذمي والمسلم وأيضا فإن

النبي صلى الله عليه وسلم - رجم اليهوديين فلا يخلو ذلك من أن يكون بحكم التوراة أو حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم -

فإن كان رجمهما بحكم التوراة فقد صار شريعة للنبي ص

- لأن ما كان من شرائع الأنبياء المتقدمين مبقى إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم -

فهو شريعة لنبينا ص

- مالم ينسخ وإن كان رجمهما على أنه حكم مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم -

فهو ثابت إذ لم يرد ما يوجب نسخه والصحيح عندنا أنه رجمهما على أنه شريعة

مبتدأة من النبي صلى الله عليه وسلم - لا على تبقية حكم التوراة والدليل عليه أن حد الزانيين في أول الإسلام كان الحبس والأذى المحصن وغير المحصن فيه سواء فدل ذلك على أن الرجم الذي أوجبه الله في التوراة قد كان منسوخا فإن قيل فإن النبي صلى الله عليه وسلم - رجم اليهوديين وأنت لا ترجمهما فقد خالفت الخبر الذي احتججت له في إثبات حد الزنا على الذميين قيل له استدلالنا من خبر رجم اليهوديين على ما ذكرنا صحيح وذلك لأنه لما ثبت أنه رجمهما صح أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما وإنما رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن من شرط الرجم الإحصان فلما شرط الإحصان فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

من أشرك بالله فليس بمحصن صار حدهما الجلد فإن قيل إنما رجم النبي ص

- اليهوديين من قبل أنه لم تكن لليهوديين ذمة وتحاكموا إليه قيل له لو لم يكن الحد واجبا عليهم لما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم -

عليهما ومع ذلك فدلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا كان من لا ذمة له قد

حده النبي صلى الله عليه وسلم - في الزنا فمن له ذمة وتجري عليه أحكام المسلمين أحرى بذلك ويدل عليه أنهم لا يختلفون أن الذمي يقطع في السرقة فكذلك في الزنا إذ كان فعلا

 

لا يقر عليه فوجب أن يزجر عنه بالحد كما وجب زجر المسلم به وليس هو كالمسلم في شرب الخمر لأنهم مقرون على التخلية بينهم وبين شربها وليسوا مقرين على السرقة ولا على الزنا واختلف فيمن أكره على الزنا فقال أبو حنيفة إن أكرهه غير سلطان حد وإن أكرهه سلطان لم يحد وقال أبو يوسف ومحمد لا يحد في الوجهين جميعا وهو قول الحسن بن صالح والشافعي وقال زفر إن أكرهه سلطان حد أيضا وأما المكرهة فلا تحد في قولهم جميعا فأما إيجاب الحد عليه في حال الإكراه فإن أبا حنيفة قال القياس أن يحد سواء أكرهه سلطان أو غيره ولكنه ترك القياس في إكراه السلطان ويحتمل قوله في إكراه السلطان معنيين أحدهما أن يريد به الخليفة فإن كان قد أراد هذا فإنما أسقط الحد لأنه قد فسق وانغزل عن الخلافة بإكراهه إياه على الزنا فلم يبق هناك من يقيم الحد عليه والحد إنما يقيمه السلطان فإذا لم يكن هناك سلطان لم يقم الحد كمن زنى في دار الحرب ويحتمل أن يريد به من دون الخليفة فإن كان أراد ذلك فوجهه أن السلطان مأمور بالتوصل إلى درء الحد فإذا أكرهه على الزنا فإنما أراد التوصل إلى إيجابه فلا تجوز له إقامته إذا لأنه بإكراهه أراد التوصل إلى إيجابه فلا يجوز له ذلك ويسقط الحد وأما إذا أكرهه غير سلطان فإن الحد واجب وذلك لأنه معلوم أن الإكراه ينافي الرضا وما وقع عن طوع ورضا فغير مكره عليه فلما كانت الحال شاهدة بوجوب الرضا منه بالفعل دل ذلك على أنه لم يفعله مكرها ودلالة الحال على ما وصفنا أنه معلوم أن حال الإكراه هي حال خوف وتلف النفس والانتشار والشهوة ينافيهما الخوف والوجل فلما وجد منه الانتشار والشهوة في هذه الحال علم أنه فعله غير مكره لأنه لو كان مكرها خائفا لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة وفي ذلك دليل على أن فعله ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحد فإن قيل إن وجود الانتشار لا ينافي ترك الفعل فعلمنا حين فعل مع ظهور الإكراه أنه فعله مكرها كشرب الخمر والقذف ونحوه قيل له هذا لعمري هكذا ولكنه لما كان في العادة أن الخوف على النفس ينافي الانتشار دل ذلك على أنه فعله طائعا ألا ترى أن من أكره على الكفر فأقر أنه فعله طائعا كان كافرا مع وجود الإكراه في الظاهر كذلك الحال الشاهدة بالتطوع هي بمنزلة الإقرار منه بذلك فيحد

 

باب

صفة الضرب في الزنا

قال الله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله روي عن الحسن وعطاء ومجاهد وأبي مجلز قالوا في تعطيل الحدود لا في شدة الضرب وروى ابن أبي مليكة عن عبيدالله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وأحسبه قال وظهرها قال فقلت لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله قال يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها وقد أوجعت حيث ضربت وروي عن سعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي قالوا في الضرب واختلف الفقهاء في شدة الضرب في الحدود فقال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر التعزير أشد الضرب وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف وقال مالك والليث الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح بين الضربين وقال الثوري ضرب الزنا أشد من ضرب القذف وضرب القذف أشد من ضرب الشرب وقال الحسن بن صالح ضرب الزنا أشد من ضرب الشرب والقذف وروي عن عطاء قال حد الزانية أشد من حد الفرية وحد الفرية والخمر واحد وعن الحسن قال ضرب الزنا أشد من القذف و القذف أشد من الشرب وضرب الشرب أشد من ضرب التعزير وروي عن علي أنه ضرب رجلا قاعدا وعليه كساء قسطلاني قال أبو بكر قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله لما كان محتملا لما تأوله السلف عليه من تعطيل الحد ومن تخفيف الضرب اقتضى ظاهره أن يكون عليهما جميعا في أن لا يعطل الحد تشديد في الضرب وذلك يقتضي أن يكون أشد من ضرب القاذف والشارب وإنما قالوا إن التعزير أشد الضرب وأرادوا بذلك أنه جائز للإمام أن يزيد في شدة الضرب للإيلام على جهة الزجر والردع إذ لا يمكنه فيه بلوغ الحد ولم يعنوا بذلك أنه لا محالة أشد الضرب لأنه موكول إلى رأي الإمام واجتهاده ولو رأى أن يقتصر من الضرب في التعزير على الحبس إذا كان ذا مروءة وكان ذلك الفعل منه ذلة جاز له أن يتجافى عنه ولا يعزره فعلمت أن مرادهم بقولهم التعزير أشد الضرب إنما هو إذا رأى الإمام ذلك للزجر والردع فعل وقد روى شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال كان لرجل على ابن أخ لأم سلمة رضي الله عنها دين فمات فقضت عنه فكتب إليها يحرج عليها فيه فرفعت ذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عامله اضربه ثلاثين

 

ضربة كلها تبضع اللحم وتحدر الدم فهذا من ضرب التعزير وروى شعبة عن واصل عن المعرور بن سويد

قال

أتى عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال أفسدت حسبها أضربوها ولا تحرقوا عليها جلدها فهذا يدل على أنه كان يرى ضرب الزاني أخف من التعزير قال أبو بكر قد دل قوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله على شدة ضرب الزاني على ما بينا وأنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبي صلى الله عليه وسلم - بالجريد والنعال وضرب الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب وإنما جعلوا ضرب القاذف أخف الضرب لأن القاذف جائز أن يكون صادقا في قذفه وإن له شهودا على ذلك والشهود مندوبون إلى الستر على الزاني فإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب ومن جهة أخرى أن القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب فإن قيل روى سفيان بن عيينة قال سمعت سعد بن إبراهيم يقول للزهري إن أهل العراق يقولون إن القاذف لا يضرب ضربا شديدا ولقد حدثني أبي أن أمه أم كلثوم أمرت بشاة فسلخت حين جلد أبو بكرة فألبسته مسكها فهل كان ذلك إلا من ضرب شديد قيل له هذا لا يدل على شدة الضرب لأنه جائز أن يؤثر في البدن الضرب الخفيف على حسب ما يصادف من رقة البشرة ففعلت ذلك إشفاقا عليه

باب ما يضرب من أعضاء المحدود

قال الله سبحانه وتعالى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولم يذكر ما يضرب منه ظاهره يقتضي جواز ضرب جميع الأعضاء وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار فيه فروى ابن أبي ليلى عن عدي بن ثابت عن المهاجر بن عميرة عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل سكران أو في حد فقال اضرب واعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير وروى سفيان بن عيينة عن أبي عامر عن عدي بن ثابت عن مهاجر بن عميرة عن علي رضي الله عنه أنه قال اجتنب رأسه ومذاكيره واعط كل عضو حقه فذكر في هذا الحديث الرأس وفي الحديث الأول الوجه وجائز أن يكون قد استثناهما جميعا وروي عن عمر أنه أمر بالضرب في حد فقال أعط كل عضو حقه ولم يستثن شيئا وروى المسعودي عن

 

القاسم قال أتى أبو بكر برجل انتفى من ابنه فقال أبو بكر اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس وقد روي عن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات ذروا على وجه التعنت وروي عن ابن عمر أنه لا يصيب الرأس وقال أبو حنيفة ومحمد يضرب في الحدود الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران عن أصحاب أبي يوسف أن الذي يضرب به الرأس من الحد سوط واحد وقال مالك لا يضرب إلا في الظهر وذكر ابن سماعة عن محمد في التعزير أنه يضرب الظهر بغير خلاف وفي الحدود يضرب الأعضاء إلا ما ذكرنا وقال الحسن بن صالح يضرب في الحد والتعزير الأعضاء كلها ولا يضرب الوجه ولا المذاكير وقال الشافعي يتقى الوجه والفرج قال أبو بكر اتفق الجميع على ترك ضرب الوجه والفرج وروي عن علي استثناء الرأس أيضا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه وإذا لم يضرب الوجه فالرأس مثله لأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه وإنما أمر باجتناب الوجه لهذه العلة ولئلا يلحقه أثر يشينه أكثر مما هو مستحق بالفعل الموجب للحد والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق الوجه أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر البدن من هذا الوجه لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه فوجب من أجل ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما ووجه آخر وهو أنه ممنوع من ضرب الوجه لما يخاف فيه من الجناية على البصر وذلك موجود في الرأس لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث الماء في العين وربما حدث منه أيضا اختلاط في العقل فهذه الوجوه كلها تمنع ضرب الرأس وأما اجتناب الفرج فمتفق عليه وهو أيضا مقتل فلا يؤمن أن يحدث أكثر مما هو مستحق بالفعل وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعي الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة يضرب التعزير في إزار ولا يفرق في التعزير خاصة في الأعضاء وقال أبو يوسف ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة وقال الثوري لا يجرد الرجل ولا

 

يمد وتضرب المرأة قاعدة والرجل قائما قال أبو بكر في حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم - اليهوديين قال رأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة وهذا يدل على أن الرجل كان قائما والمرأة قاعدة وروى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال أتي عمر بسوط فيه شدة فقال أريد ألين من هذا فأتي بسوط فيه لين فقال أريد أشد من هذا فأتي بسوط بين السوطين فقال اضرب ولا يرى أبطك واعط كل عضو حقه وعن ابن مسعود أنه ضرب رجلا حدا فدعا بسوط فأمر فدق بين حجرين حتى لان ثم قال اضرب ولا تخرج أبطك واعط كل عضو حقه وعن علي أنه قال للجلاد اعط كل عضو حقه وروى حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به وذلك في زمن عمر بن الخطاب وروي عن أبي هريرة أنه جلد رجلا قائما في القذف قال أبو بكر هذه الأخبار تدل على معاني منها اتفاقهم على أن ضرب الحدود بالسوط ومنها أنه يضرب قائما إذ لا يمكن إعطاء كل عضو حقه إلا وهو قائم ومنها أنه يضرب بسوط بين سوطين وإنما قالوا أنه يضرب مجردا ليصل الألم إليه ويضرب القاذف وعليه ثيابه لأن ضربه أخف وإنما قالوا لا يمد لأن فيه زيادة في الإيلام غير مستحق بالفعل ولا هو من الحد وروى يزيد بن هارون عن الحجاج عن الوليد بن مالك أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه وروى ليث عن مجاهد ومغيرة عن إبراهيم قالا يجلد القاذف وعليه ثيابه وعن الحسن قال إذا قذف الرجل في الشتاء لم يلبس ثياب الصيف ولكن يضرب في ثيابه التي قذف فيها إلا أن يكون عليه فرو أو حشو يمنعه من أن يجد وجع الضرب فينزع ذلك عنه وقال مطرف عن الشعبي مثل ذلك وروى شعبة عن عدي بن ثابت عمن شهد عليا رضي الله عنه أنه أقام على رجل الحد فضربه على قبا أو قرطق ومذهب أصحابنا موافق لما روي عن السلف في هذه الأخبار ويدل على صحته أن من عليه حشو أو فرو فلم يصل الألم أن الفاعل لذلك غير ضارب في العادة ألا ترى أنه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم إنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه ولو وصل إليه الألم كان ضاربا

 

في إقامة الحدود في المسجد

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي لا تقام الحدود في المساجد وهو قول الحسن بن صالح قال أبو يوسف وأقام ابن أبي ليلى حدا في المسجد فخطأه أبو حنيفة وقال مالك لا بأس بالتأديب في المسجد خمسة أسواط ونحوها وأما الضرب الموجع والحد فلا يقام في المسجد قال أبو بكر روى إسماعيل بن مسلم المكي عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل بالولد الوالد وروي عن النبي ص

- أنه قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراكم وبيعكم وإقامة حدودكم وجمروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر ومن جهة النظر أنه لا يؤمن أن يكون من المحدود بالمسجد من خروج النجاسة ما سبيله أن ينزه المسجد عنه

في

الذي يعمل عمل قوم لوط

قال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وقال مالك والليث يرجمان أحصنا أو لم يحصنا وقال عثمان البتي والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد والشافعي هو بمنزلة الزنا وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء قال أبو بكر قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل

نفس بغير نفس فحصر ص - قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عن ذلك لأنه لا يسمى زنا فإن احتجوا بما روى عاصم بن عمرو عن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل وارجموهما جميعا وبما روى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قيل له عاصم بن عمرو وعمرو بن أبي عمرو ضعيفان لا تقوم بروايتهما حجة ولا يجوز بهما إثبات حد وجائز أن يكون لو ثبت إذا فعلاه مستحلين له وكذلك نقول فيمن استحل ذلك أنه يستحق القتل وقوله فاقتلوا الفاعل والمفعول به يدل على أنه ليس بحد وأنه بمنزلة قوله من بدل دينه فاقتلوه لأن حد فاعل ذلك ليس هو قتلا على الإطلاق وإنما هو الرجم عند من جعله كالزنا إذا كان محصنا

 

وعند من لا يجعله بمنزلة الزنا ممن يوجب قتله فإنما يقتله رجما فقتله على الإطلاق ليس هو قولا لأحد ولو كان بمنزلة الزنا لفرق فيه بين المحصن وغير المحصن وفي تركه ص - الفرق بينهما دليل على أنه لم يوجبه على وجه الحد

في الذي يأتي البهيمة

قال

أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتي لا حد عليه ويعزر وروي مثله عن ابن عمر وقال الأوزاعي عليه الحد قال أبو بكر قوله ص - لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس ينفي قتل فاعل ذلك إذ ليس ذلك بزنا في اللغة ولا يجوز إثبات الحدود إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق وذلك معدوم في مسئلتنا ولا يجوز إثباته من طريق المقاييس وقد روى عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة وعمر وهذا ضعيف لا تثبت به حجة ومع ذلك فقد روى شعبة وسفيان وأبو عوانة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس فيمن أتى بهيمة إنه لا حد عليه وكذلك رواه إسرائيل وأبو بكر بن عياش وأبو الأحوص وشريك وكلهم عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس مثله ولو كان حديث عمرو بن أبي عمرو ثابتا لما خالفه ابن عباس وهو رواية إلى غيره وإن صح الخبر كان محمولا على من استحله

فصل قال أبو بكر وقد أنكرت طائفة شاذة لا تعد خلافا الرجم وهم الخوارج وقد ثبت الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم -

بفعل النبي ص

- وبنقل الكافة والخبر الشائع المستفيض الذي لا مساغ للشك فيه وأجمعت الأمة عليه فروى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وخطب عمر فقال لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في بعض المصحف وبعض هؤلاء الرواة يروي خبر رجم ماعز وبعضهم خبر الجهينية والغامدية وخبر ماعز يشتمل على أحكام منها إنه ردده ثلاث مرات ثم لما أقر الرابعة سأل عن صحة عقله فقال هل به جنة فقالوا لا وإنه استنهكه ثم قال له لعلك لمست لعلك قبلت فلما أبى إلا التصميم على الإقرار بصريح الزنا سأل عن إحصانه ثم لما هرب حين أدركته الحجارة قال هلا تركتموه وفي ترديده ثلاث مرات ثم المسألة عن عقله بعد

 

الرابعة دلالة على أن الحد لا يجب إلا بعد إقراره أربعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد قد وجب فلو كان الحد واجبا بإقراره مرة واحدة لسأل عنه في أول إقراره ومسئلته جيرانه وأهله عن عقله يدل على أن على الإمام الاستثبات والإحتياطيات في الحد ومسئلته عن الزنا كيف هو وما هو وقوله لعلك لمست لعلك قبلت يفيد حكمين أحدهما أنه لا يقصر على إقراره بالزنا دون استثباته في معنى الزنا حتى يبينه بصفة لا يختلف فيه أنه زنا وقوله لعلك لمست لعلك قبلت تلقين له الرجوع عن الزنا وأنه إنما أراد اللمس كما روي أنه للسارق ما أخاله سرق ونظيره ما روي عن عمر أنه جيء بامرأة حبلى بالموسم وهي تبكي فقالوا زنت فقال عمر ما يبكيكي فإن المرأة ربما استكرهت على نفسها يلقنها ذلك فأخبرت أن رجل ركبها وهي نائمة فقال عمر لو قتلت هذه لخشيت أن تدخل ما بين هذين الأخشبين النار فخلى سبيلها وروي أن عليا قال لشراحة حين أقرت عنده بالزنا لعلك عصيت نفسك قالت أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها وقوله ص - هلا تركتموه يدل على جواز رجوعه عن إقراره لأنه لما امتنع مما بذل نفسه له بديا قال هلا تركتموه ولما لم يجلده دل على أن الرجم والجلد لا يجتمعان قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الطائفة الرجل إلى الألف وقرأ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقال عطاء رجلان فصاعدا وقال الحسن وأبو بريدة الطائفة عشرة وقال محمد بن كعب القرظي في قوله إن نعف عن طائفة منكم قال كان رجلا وقال الزهري وليشهد عذابهما طائفة ثلاثة فصاعدا وقال قتادة ليكون عظة وعبرة لهم وحكي عن مالك والليث أربعة لأن الشهود أربعة قال أبو بكر يشبه أن المعنى في حضور الطائفة ما قاله قتادة أنه عظة وعبرة لهم فيكون زجرا له عن العود إلى مثله وردعا لغيره عن إتيان مثله والأولى أن تكون الطائفة جماعة يستفيض الخير بها ويشيع فيرتدع الناس عن مثله لأن الحدود موضوعة للزجر والردع وبالله التوفيق

باب

تزويج الزانية

قال الله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين قال أبو بكر روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

 

جده قال كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له وكان وعد رجلا أن يحمله من أسرى مكة وإن عناقا رأته فقالت له أقم الليلة عندي قال يا عناق قد حرم الله الزنا فقالت يا أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقلت يا رسول الله أتزوج عناق فلم يرد حتى نزلت هذه الاية الزاني لا ينكح

إلا زانية أو مشركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تنكحها فبين عمرو بن شعيب في هذا الحديث أن الآية نزلت في الزانية المشركة أنها لا ينكحها إلا زان أو مشرك وإن تزوج المسلم المشركة زنا إذ كانت لا تحل له وقد اختلف السلف في تأويل الآية وحكمها فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قد نسختها الآية التي بعدها وأنكحوا الأيامى منكم قال كان يقال هي من أيامى المسلمين فأخبر سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة قال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال كان رجال يريدون الزنا بنساء زوان بغايا معلنات كن كذلك في الجاهلية فقيل لهم هذا حرام فأرادوا نكاحهن فذكر مجاهد أن ذلك كان في نساء مخصوصات على الوصف الذي ذكرنا وروي عن عبدالله بن عمر في قوله الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة إنه نزل في رجل تزوج امرأة بغية على أن تنفق عليه فأخبر عبدالله بن عمر أن النهي خرج على هذا الوجه وهو أن يزوجها على أن يخليها والزنا وروى حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يعني بالنكاح جماعها وروى ابن شبرمة عن عكرمة الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله وقال شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس بغايا كن في الجاهلية يجعلن على أبوابهن رايات كرايات البياطرة يأتيهن ناس يعرفن بذلك وروى مغيرة عن إبراهيم النخعي الزاني لا ينكح إلا زانية يعني به الجماع حين يزني وعن عروة بن الزبير مثله قال أبو بكر فذهب هؤلاء إلى أن معنى الآية الإخبار باشتراكهما في الزنا وأن المرأة كالرجل في ذلك فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثل إذا طاوعته وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها فحكم تعالى في ذلك بمساواتهما في

 

الزنا ويفيد ذلك مساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة وقطع الموالاة وما جرى مجرى ذلك وروي فيه قول آخر وهو ما روى عاصم الأحول عن الحسن في هذه الآية قال المحدود لا يتزوج إلا محدودة واختلف السلف في تزويج الزانية فروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين أن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها وروي عن علي وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا وعن علي إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته وكذلك هي إذا زنت قال أبو بكر فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية وفقهاء الأمصار متفقون على جواز النكاح وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب الفرقة بينهما ولا يخلو قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية من أحد وجهين إما أن يكون خبرا وذلك حقيقته أو نهيا وتحريما ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو العقد وممتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنا وجدنا زانيا يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر فثبت أنه أراد الحكم والنهي فإذا كان كذلك فليس يخلو من أن يكون المراد الوطء والعقد وحقيقة النكاح هو الوطء في اللغة لما قد بيناه في مواضع فوجب أن يكون محمولا عليه على ما روي عن ابن عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع ولا يصرف إلى العقد إلا بدلالة لأنه مجاز ولأنه إذا ثبت أنه قد أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه وأيضا فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجبا للفرقة إذ كانا جميعا موصوفين بأنهما زانيان لأن الآية قد اقتضت إباحة نكاح الزاني للزانية فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زنى بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما حال في الزوجية يوجب الفرقة ولا نعلم أحدا يقول ذلك وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمراة الزانية أن تتزوج مشركا ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح المشركات وتزويج المشركين محرم منسوخ فدل ذلك على أحد المعنيين إما أن يكون المراد الجماع على ما روي عن ابن عباس ومن تابعه أو أن يكون حكم الآية منسوخا على ما روي عن سعيد بن المسيب ومن الناس من يحتج في أن الزنا لا يبطل النكاح بما روى هارون بن رياب عن عبيدالله بن عبيد ويرويه عبدالكريم الجزري عن أبي

 

الزبير وكلاهما يرسله أن رجلا قال للنبي ص -

إن امرأتي لا تمنع يد لامس فأمر النبي ص

- بالاستمتاع منها فيحمل ذلك على أنها لا تمنع أحد ممن يريدها على الزنا وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل قالوا لو صح هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق قالوا وهذا أولى لأنه حقيقة اللفظ وحمله على الوطء كناية ومجاز وحمله على ما ذكرنا أولى وأشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم -

كما قال علي وعبدالله إذا جاءكم الحديث عن رسول الله ص

- فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنأ والذي هو أتقى فإن قيل قال الله تعالى أو لامستم النساء فجعل الجماع لمسا قيل له إن الرجل لم يقل للنبي ص - إنها لا تمنع لامسا وإنما قال يد لامس ولم يقل فرج لامس وقال الله تعالى ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس باليد وقال جريج الخطفي يعاتب قوما ... ألستم لئاما إذ ترومون جارهم ... ولولا همو لم تمنعوا كف لامس ...

ومعلوم أنه لم يرد به الوطء وإنما أراد إنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضيم ومنع أموالكم هؤلاء القوم فكيف ترومون جارهم بالظلم ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهي عنه ما دامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح لأن الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني العفائف منهن ولأنها إذا كانت كذلك لا يؤمن أن تأتي بولد من الزنا فتلحقه به وتورثه ماله وإنما يحمل قول من رخص في ذلك على أنها تائبة غير مقيمة على الزنا ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما فلو كان وجود الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاع الفرقة بقذفه إياها لاعترافه بما يوجب الفرقة ألا ترى أنه لو أقر أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول فإن قيل لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللعان دل ذلك على أن الزنا يوجب التحريم لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان قيل له لو كان كما ذكرت لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان فلما لم تقع بالقذف دل على فساد ما ذكرت فإن قيل إنما وقعت الفرقة باللعان لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها بالزنا فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل

 

الزنا قيل له وهذا غلط أيضا لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه إياها إذ ليست إحدى الشهادتين بأولى من الأخرى ولو كان الزوج محكوما له بقبول شهادته عليها بالزنا لوجب أن تحد حد الزنا فلما لم تحد بذلك دل على انه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج والله أعلم بالصواب

باب

حد القذف

قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة قال أبو بكر الإحصان على ضربين أحدهما ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما كذلك والآخر الإحصان الذي يوجب الحد على قاذفه وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى قال أبو بكر قد خص الله تعالى المحصنات بالذكر ولا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحد واجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة واتفق الفقهاء على أن قوله والذين يرمون المحصنات قد أريد به الرمي بالزنا وإن كان في فحوى اللفظ دلالة عليه من غير نص وذلك لأنه لما ذكر المحصنات وهن العفائف دل على أن المراد بالرمي رميها بضد العفاف وهو الزنا ووجه آخر من دلالة فحوى اللفظ وهو قوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يعني على صحة ما رموه به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود إنما هو مشروط في الزنا فدل على أن قوله والذين يرمون المحصنات معناه يرمونهن بالزنا ويدل ذلك على معنى آخر وهو أن القذف الذي يجب به الحد إنما هو القذف بصريح الزنا وهو الذي إذا جاء بالشهود عليه حد المشهود عليه ولولا ما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه لم يكن ذكر الرمي مخصوصا بالزنا دون غيره من الأمور التي يقع الرمي بها إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر وسائر الأفعال المحظورة ولم يكن اللفظ حينئذ مكتفيا بنفسه في إيجاب حكمه بل كان يكون مجملا موقوف الحكم على البيان إلا أنه كيفما تصرفت الحال فقد حصل الاتفاق على أن الرمي بالزنا مراد ولما كان كذلك صار بمنزلة قوله والذين يرمون المحصنات بالزنا إذ حصول الإجماع على أن الزنا مراد بمنزلة ذكره في اللفظ فوجب بذلك أن يكون وجوب حد القذف مقصورا

 

بالزنا دون غيره وقد اختلف السلف والفقهاء في التعريض بالزنا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد بن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي لا حد في التعريض بالقذف وقال مالك عليه فيه الحد وروى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان عمر يضرب الحد في التعريض وروى ابن وهب عن مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر الناس فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن يجلد الحد فجلده عمر الحد ثمانين ومعلوم أن عمر لم يشاور في ذلك إلا الصحابة الذين إذا خالفوا قبل خلافهم فثبت بذلك حصول الخلاف بين السلف ثم لما ثبت أن المراد بقوله والذين يرمون المحصنات هو الرمي بالزنا لم يجز لنا إيجاب الحد على غيره إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها الإتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنه قال اجتهادا ورأيا وأيضا فإن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين أحدهما أن الأصل أن القائل بريء الظهر من الجلد فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك فيه ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلق امرأته البتة استحلفه النبي صلى الله عليه وسلم - ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالإحتمال ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق أنها لا تجعل طلاقا إلا بدلالة والوجه الآخر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ادرؤا الحدود بالشبهات وأقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه وأيضا قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدة وبين التصريح فقال ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا يعني نكاحا فجعل التعريض بمنزلة الإضمار في النفس فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف والمعنى الجامع بينهما أن التعريض لما فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه واختلف الفقهاء في حد العبد في القذف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتي والثوري والشافعي إذا قذف العبد حرا فعليه أربعون جلدة وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وروى الثوري عن جعفر بن محمد

 

عن أبيه أن عليا قال يجلد العبد في الفرية أربعين وروى الثوري عن ابن ذكوان عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك في القذف الأربعين قال أبو بكر وهو مذهب ابن عباس وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء وروى ليث بن أبي سليم عن القاسم بن عبدالرحمن أن عبدالله بن مسعود قال في عبد قذف حرا أنه يجلد ثمانين وقال أبو الزناد جلد عمر بن عبدالعزيز عبدا في الفرية ثمانين ولم يختلفوا في أن حد العبد في الزنا خمسون على النصف من حد الحر لأجل الرق وقال الله تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فنص على حد الأمة وأنه نصف حد الحرة واتفق الجميع على أن العبد بمنزلتها لوجود الرق فيه كذلك يجب أن يكون حده في القذف على النصف من حد الحر لوجود الرق فيه واختلفوا في قاذف المجنون والصبي فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي لا حد على قاذف المجنون والصبي وقال مالك لا يحد قاذف الصبي وإن كان مثله يجامع إذا لم يبلغ ويحد قاذف الصبية إذا كان مثلها تجامع وإن لم تحصن ويحد قاذف المجنون وقال الليث يحذ قاذف المجنون قال أبو بكر المجنون والصبي والصبية لا يقع من واحد منهم زنا لأن الوطء منهم لا يكون زنا إذ كان الزنا فعلا مذموما يستحق عليه العقاب وهؤلاء لا يستحقون العقاب على أفعالهم فقاذفهم بمنزلة قاذف المجنون لوقوع العلم بكذب القاذف ولأنهم لا يلحقهم شين بذلك الفعل لو وقع منهم فكذلك لا يشينهم قذف القاذف لهم بذلك ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد إلى المقذوف لا تجوز ولا يجوز أن يقوم غيره مقامه فيه ألا ترى أن الوكالة غير مقبولة فيه وإذا كان كذلك لم تجب المطالبة لأحد وقت القذف فلم يجب الحد لأن الحد إذا وجب فإنما يجب بالقذف لا غير فإن قيل فللرجل أن يأخذ بحد أبيه إذا قذف وهو ميت فقد جاز أن يطالب عن الغير بحد القذف قيل له إنما يطالب عن نفسه لما حصل به من القدح في نسبه ولا يطالب عن الأب وأيضا لما اتفقوا على أن قاذف الصبي لا يحد كان كذلك قاذف الصبية لأنهما جميعا من غير أهل التكليف ولا يصح وقوع الزنا منهما فكذلك المجنون لهذه العلة واختلفوا فيمن قذف جماعة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري والليث إذا قذفهم بقول واحد فعليه حد واحد وقال ابن أبي ليلى إذا قال لهم يا زناة فعليه حد واحد وإن قال لكل

 

إنسان يا زاني فكل إنسان حد وهو قول الشعبي وقال عثمان البتي إذا قذف جماعة فعليه لكل واحد حد وإن قال لرجل زنيت بفلانة فعليه حد واحد لأن عمر ضرب أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم يحدهم للمرأة وقال الأوزاعي إذا قال يا زاني ابن زان فعليه حدان وإن قال لجماعة إنكم زناة فحد واحد وقال الحسن بن صالح إذا قال من كان داخل هذه الدار فهو زان ضرب لمن كان داخلها إذا عرفوا وقال الشافعي فيما حكاه المزني عنه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة فلكل واحد حد وإن قال لرجل واحد يا ابن الزانيين فعليه حدان وقال في أحكام القرآن إذا قذف امرأته برجل لاعن ولم يحد للرجل قال أبو بكر قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ومعلوم أن مراده جلد كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة فكان تقدير الآية ومن رمى محصنا فعليه ثمانون جلدة وهذا يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين ومن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فهو مخالف لحكم الآية ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي قال أنبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم -

بشريك بن سمحاء فقال النبي ص

- البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - يقول البينة وإلا فحد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت والذين يرمون أزواجهم وذكر الحديث وروى محمد بن كثير قال حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس أن هلال بن أمية قذف شريك بن سمحاء بامرأته فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك قال ذلك مرارا فنزلت آية اللعان قال أبو بكر قد ثبت بهذا الخبر أن قوله تعالى والذين يرمون المحصنات الآية كان حكما عاما في الزوجات كهو في الأجنبيات لقوله ص -

لهلال بن أمية ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك ولأن عموم الآية قد

اقتضى ذلك ثم لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم - على هلال إلا حدا واحدا مع قذفه لامرأته ولشريك بن سمحاء إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات ولم ينسخ موجب الخبر من وجوب الاقتصاد على حد واحد إذا قذف

 

جماعة فثبت بذلك أنه لا يجب على قاذف الجماعة إلا حد واحد ويدل عليه من جهة النظر أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مرارا لا يوجب إلا حدا واحدا كمن زنى مرارا أو سرق مرارا أو شرب مرارا لم يحد إلا حدا واحدا فكان اجتماع هذه الحدود التي هي من جنس واحد موجبا لسقوط بعضها والاقتصار على واحد منها والمعنى الجامع بينهما أنها حد وإن شئت قلت إنما يسقط بالشبهة فإن قيل حد القذف حق لآدمي فإذا قذف جماعة وجب أن يكون لكل واحد منهم استيفاء حده على حياله والدليل على أنه حق لآدمي أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف قيل له الحد هو حق لله تعالى كسائر الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر وإنما المطالبة به حق لآدمي لا الحد نفسه وليس كونه موقوفا على مطالبة الآدمي مما يوجب أن يكون الحد نفسه حقا لآدمي ألا ترى أن حد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة الآدمي ولم يوجب ذلك أن يكون القطع حقا للآدمي فكذلك حد القذف ولذلك لا يجيز أصحابنا العفو عنه ولا يورث ويدل على أنه حق لله تعالى اتفاق الجميع على أن العبد يجلد في القذف أربعين ولو كان حقا لآدمي لما اختلف الحر والعبد فيه إذ كان الجلد مما ينتصف ألا ترى أن العبد والحر يستويان فيما يثبت عليهما من الجنايات على الآدميين فإذا قتل العبد ثبت الدم في عنقه فإذا كان عمدا قتل وإن كان خطأ كانت الدية في رقبته كما لو قتله حر وجبت الدية فلو كان حد القذف حقا لآدمي لما اختلف مع إمكان تنصيفه الحر العبد وكذلك العبد والحر لا يختلفان في استهلاك الأموال إذ ما يثبت على الحر فمثله يثبت على العبد وقد اختلف في إقامة حد القذف من غير مطالبة المقذوف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والأوزاعي والشافعي لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وقال ابن أبي ليلى يحده الإمام وإن لم يطالب المقذوف وقال مالك لا يحده الإمام حتى يطالب المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه يقذف فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب فثبت بذلك أن ما

بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - من حد لم يكن يهمله ولا يقيمه فلما قال لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سمحاء ائتني بأربعة يشهدون وإلا

 

فحد في ظهرك ولم يحضر شهودا ولم يحده حين لم يطالب المقذوف بالحد دل ذلك على أن حد القذف لا يقام إلا بمطالبة المقذوف ويدل عليه أيضا ما روي في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة في قصة العسيف وإن أبا الزاني

قال

إن ابني زنى بامرأة هذا فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم - بقذفها وقال اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولما كان حد القذف واجبا لما انتهك من عرضه بقذفه مع إحصانه وجب أن تكون المطالبة به حقا له دون الإمام كما أن حد السرقة لما كان واجبا لما انتهك من حرز المسروق وأخذ ماله لم يثبت إلا بمطالبة المسروق منه وأما فرق مالك بين أن يسمعه الإمام أو يشهد به الشهود فلا معنى له لأن هذا إن كان مما للإمام إقامته من غير مطالبة المقذوف فواجب أن لا يختلف فيه حكم سماع الإمام وشهادة الشهود من غير سماعه

باب شهادة القذف

قال الله عز و جل ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون قال أبو بكر حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على ما قذفه بثلاثة أحكام أحدها جلد ثمانين والثاني بطلان الشهادة والثالث الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب واختلف أهل العلم في لزوم هذه الأحكام له وثبوتها عليه بالقذف بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمته سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك شهادته مقبولة ما لم يحد وهذا يقتض من قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها إذا كان فسقه من طريق الفعل لا من جهة التدين والإعتقاد والدليل على صحة ذلك قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا فأوجب بطلان شهادته عند عجزه عن إقامة البينة على صحة قذفه وفي ذلك ضربان من الدلالة على جواز شهادته وبقاء حكم عدالته ما لم يقع الحد به أحدهما قوله ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية فكان تقديره ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون

 

فإنما حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود فمن حكم بفسقهم بنفس القذف فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك أن تكون شهادة القاذف غير مردودة لأجل القذف فثبت بذلك أن بنفس القذف لم تبطل شهادته وأيضا فلو كانت شهادته تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة البينة على زنا المقذوف مبطلا لشهادته وهي قد بطلت قبل ذلك والوجه الآخر أن المعقول من هذا اللفظ أنه لا تبطل شهادته ما دامت إقامة البينة على زناة ممكنة ألا ترى أنه لو قال رجل لامرأته أنت طالق إن كلمت فلان ثم لم تدخلي الدار أنها إن كلمت فلانا لم تطلق حتى تترك دخول الدار إلى أن تموت فتطلق حينئذ قبل موتها بلا فصل وكذلك لو قال أنت طالق إن كلمت فلانا ولم تدخلي الدار كان بهذه المنزلة وكان الكلام وترك الدخول إلى أن تموت شرطا لوقوع الطلاق ولا فرق بين قوله أنت طالق إن كلمت فلانا ثم دخلت الدار وبين قوله إن كلمت فلانا ثم لم تدخليها وإن افترقا من جهة أن شرط اليمين في أحدهما وجود الدخول وفي الآخر نفيه ولما كان ذلك كذلك وكان قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء مقتضيا لشرطين في بطلان شهادة القاذف أحدهما الرمي والآخر عدم الشهود على زنا المقذوف متراخيا عن القذف وفوات الشهادة عليه به فما دامت إقامة الشهادة عليه بالزنا ممكنة بخصومة القاذف فقد اقتضى لفظ الآية بقاءه على ما كان عليه غير محكوم ببطلان شهادته وأيضا لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف أو أن يكون محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه فلو كان محكوما بكذبه بنفس القذف ولذلك بطلت شهادته فواجب أن لا يقبل

بعد

ذلك بينة على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقة في كون المقذوف زانيا فلما لم يختلفوا في حكم قبول بينته على المقذوف بالزنا وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه لم يوجب أن يكون كاذبا فواجب أن لا تبطل شهادته إذ لم يحكم بكذبه لأن من سمعناه بخبر يخبر لا نعلم فيه صدقه من كذبه لم تبطل به شهادته إلا ترى أن قاذف امرأته بالزنا لا تبطل شهادته بنفس القذف ولا يكون محكوما بكذبه بنفس قذفه ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه ولما وعظ في ترك اللعان الكاذب منهما ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم - بعد

 

مالا عن بين الزوجين الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب فأخبر أن أحدهما بغير عينه هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف دون الزوجة وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب تفسيقه ولا الحكم بتكذيبه ويدل عليه قوله عز و جل لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط بل إذا لم يأتوا بالشهداء ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة في القذف فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه الشريطة وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية فإن قيل لما قال الله تعالى لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين دل ذلك على أن على الناس إذا سمعوا من يقذف آخر أن يحكموا بكذبه ورد شهادته إلى أن يأتي بالشهداء قيل له معلوم أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها وقذفتها لأنه قال تعالى إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم الى قوله لولا إذ سمعتموه وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك وقاذفوها أيضا لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنا منهم وحسبانا حين تخلفت ولم يدع أحد منهم أنه رأى ذلك ومن أخبر عن ظن في مثله فعلينا إكذابه والنكير عليه وأيضا لما قال في نسق التلاوة فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فحكم بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة علمنا أنه لم يرد بقوله وقالوا هذا إفك مبين إيجاب الحكم بكذبهم بنفس القذف وإن معناه وقالوا هذا إفك مبين إذ سمعوه لم يأت القاذف بالشهود والشافعي يزعم أن شهود القذف إذا جاؤا متفرقين قبلت شهادتهم فإن كان القذف قد أبطل شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاث لأنه قد فسق بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه وفي قبول شهادتهم إذا جاؤا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف ويدل على صحة قولنا من جهة السنة ما روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف فأخبر ص

- ببقاء عدالة القاذف مالم يحد ويدل عليه أيضا حديث ابن منصور عباد عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال رسول الله ص

- أيجلد هلال

 

وتبطل شهادته في المسلمين فأخبر أن بطلان شهادته معلق بوقوع الجلد به ودل بذلك أن القذف لم يبطل شهادته واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف والثوري والحسن بن صالح لا تقبل شهادته إذا تاب وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب وقال مالك وعثمان البتي والليث والشافعي تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب وقال الأوزاعي لا تقبل شهادة محدود في الإسلام قال أبو بكر روى الحجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ثم استثنى فقال إلا الذين تابوا فتاب عليهم من الفسق وأما الشهادة فلا تجوز حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا حجاج وقد ورد عن ابن عباس أيضا ما حدثنا جعفر ابن محمد قال حدثنا ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون قال ثم قال إلا الذين تابوا قال فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله مقبولة قال أبو بكر ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفا لما روي عنه في الحديث الأول بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب والأول على أنه جلد فلا تقبل شهادته وإن تاب وروي عن شريح وسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا لا تجوز شهادته وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله وقال إبراهيم رفع عنهم بالتوبة اسم الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبدا وروي عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري أن شهادته تقبل إذا تاب وروي عن عمر بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبي بكرة إن تبت قبلت شهادتك وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان عن سعيد بن المسيت ثم شك وقال هو عمر بن قيس أن عمر قال لأبي بكرة إن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يتوب فشك سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس ويقال إن عمر بن قيس مطعون فيه فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا القول ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبي بكرة وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف وقد روي عن سعيد بن المسيب أن شهادته غير مقبولة

 

بعد التوبة فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا إلى ما هو أقوى منه ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبي بكرة بعد ما جلده وجائز أن يكون قاله قبل الجلد قال أبو بكر ما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى إبطال الشهادة وسمة الفسق جميعا فيرفعهما والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة والدليل عليه قوله تعالى إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم ولو قال رجل لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم مستثنى من الثلاثة وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما يليه ويدل عليه أيضا أن قوله فإن لم تكونوا دخلتم بهن في معنى الاستثناء وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء لأنه يليهن فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه وأيضا فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموما وجب أن يكون حكم العموم ثابتا وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها فإن قيل قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا إلى قوله إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور لكونه معطوفا بعضه على بعض وقال تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ثم قال وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحدث فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه قيل له قد بينا أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى المذكور فإن قيل إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة إلى جميعه وكان ذلك متعالما مشهورا في

 

اللغة فما الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع قيل له لو سلمنا لك ما ادعيت من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه وإلى جميع المذكور وإذ كان كذلك وكان اللفظ الأول عموما مقتضيا للحكم في سائر الأحوال لم يجز رد الاستثناء إليه بالاحتمال إذ غير جائز تخصيص العموم بالاحتمال ووجب استعمال حكمه في المتيقن وهو ما يليه دون ما تقدمه فإن قيل ما أنكرت أن لا يكون اللفظ الأول عموما مع دخول الاستثناء على آخر الكلام بل يصير في حيز الاحتمال ويبطل اعتبار العموم فيه إذ ليس اعتبار عمومه بأولى من اعتبار عموم الاستثناء في عوده إلى الجميع وإذا بطل فيه اعتبار العموم وقف موقف الاحتمال في إيجاب حكمه فسقط اعتبار عموم اللفظ فيه قيل له هذا غلط من قبل أن صيغة اللفظ الأول صيغة العموم لا تدافع بيننا فيه وليس للاستثناء صيغة عموم يقتضي رفع الجميع فوجب أن يكون حكم الصيغة الموجبة للعموم مستعملا فيه وأن لا نزيلها عنه إلا بلفظ يقتضي صيغته رفع العموم وليس ذلك بموجود في لفظ الاستثناء فإن قيل لو قال رجل عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا إن شاء الله فكان استثناؤه راجعا إلى جميع الأيمان إذ كانت معطوفة بعضها على بعض قيل له ليس هذا مما نحن فيه في شيء لأن هذا الضرب من الاستثناء مخالف للاستثناء الداخل على الجملة بحروف الاستثناء التي هي إلا وغير وسوى ونحو ذلك لأن قوله إن شاء الله يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت منه شيء والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله إلا لرفع حكم الكلام رأسا ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال أنت طالق إلا طالق كان الطلاق واقعا والإستثناء باطلا لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام ولذلك جاز أن يكون قوله إن شاء الله راجعا إلى جميع المذكور المعطوف بعضه على بعض ولم يجب مثله فيما وصفنا فإن قيل فلو كان قال أنت طالق وعبدي حر إلا أن يقدم فلان كان الاستثناء راجعا إلى الجميع فإن لم يقدم فلان حتى مات طلقت امرأته وعتق عبده وكان ذلك بمنزلة قوله إن شاء الله قيل له ليس ذلك على ما ظننت من قبل أن قوله إلا أن يقدم فلان وإن كانت صيغته صيغة الاستثناء فإنه في معنى الشرط

 

كقوله إن لم يقدم فلان وحكم الشرط أن يتعلق به جميع المذكور إذا كان بعضه معطوفا على بعض وذلك لأن الشرط يشبه الإستثناء الذي هو مشيئة الله عز و جل من حيث كان وجوده عاملا في رفع الكلام حتى لا يثبت منه شيء ألا ترى أنه ما لم يوجد الشرط لم يقع شيء وجائز أن لا يوجد الشرط أبدا فيبطل حكم الكلام رأسا ولا يثبت من الجزاء شيء فلذلك جاز رجوع الشرط إلى جميع المذكور كما جاز رجوع الإستثناء بمشيئة الله تعالى قال أبو بكر وقوله إلا أن يقدم فلان هو شرط وإن دخل عليه حرف الإستثناء وأما الإستثناء المحض الذي هو قوله إلاالذين تابوا و إلا آل لوط وما جرى مجراه فإنه لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء ألا ترى أن قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لا بد من أن يكون حكمه ثابتا في وقت ما وإن من رد الإستثناء إليه فإنما يرفع حكمه في بعض الأوقات بعد ثبات حكمه في بعضها وكذلك قوله إلا آل لوط غير جائز أن يكون رافعا لحكم النجاة عن الأولين وإنما عمل في بعض ما انتظمه لفظ العموم ويستدل بما ذكرنا على أن حقيقة هذا الضرب من الإستثناء رجوعه إلى ما يليه دون ما تقدمه وأن لا يرد إلى ما تقدمه إلا بدلالة وذلك لأنه لما استحال دخول هذا الإستثناء لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء وجب أن يكون مستعملا في البعض دون الكل فإذا وجب ذلك كان ذلك البعض الذي عمل فيه هو المتيقن دون غيره بمنزلة لفظ لا يصح اعتقاد العموم فيه فيكون حكمه مقصورا على الأقل المتيقن دون اعتبار لفظ العموم كذلك الإستثناء ولما جاز دخول شرط مشيئة الله تعالى وسائر شروط الأيمان لرفع حكم اللفظ رأسا وجب استعماله في جميع المذكور وأن لا يخرج منه شيء إلا بدلالة ويدل على أن الإستثناء في قوله إلا الذين تابوا مقصور على ما يليه دون ما تقدمه ان قوله فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا كل واحد منهما أمر وقوله وأولئك هم الفاسقون خبر والإستثناء داخل عليه فوجب أن يكون موقوفا عليه دون رجوعه إلى الأمر وذلك لأن الواو في قوله وأولئك هم الفاسقون للإستقبال إذ غير جائز أن يكون للجميع لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد ويدل عليه أنه لم يرجع إلى الحد إذا كان أمرا ونظيره قول القائل أعط زيدا درهما ولا تدخل الدار وفلان خارج إن شاء الله أن مفهوم الكلام رجوع الإستثناء

 

إلى الخروج دون ما تقدم من ذكر الأمر كذلك يجب أن يكون حكم الإستثناء في الآية لا فرق بينهما فإن قيل قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا إلى قوله ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ثم قال إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ومعلوم أن ما تقدم في أول الآية أمر وقوله ذلك لهم خزي في الدنيا خبر فرجع الإستثناء إلى الجميع ولم يختلف حكم الخبر والأمر قيل له إنما جاز ذلك لأن قوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله وإن كان أمرا في الحقيقة فإن صورته صورة الخبر فلما كان الجميع في صورة الخبر جاز رجوع الإستثناء إلى الجميع ولما كان قوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أمرا على الحقيقة ثم عطف عليه الخبر وجب أن لا يرجع إلى الجميع ومع ذلك فإنا نقول متى اختلف صيغ المعطوف بعضه على بعض لم يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم مما ليس في مثل صيغته إلا بدلالة فإن قامت الدلالة جاز رده إليه وقد قامت الدلالة في آية المحاربين ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه فهو مبقي على حكمه في الأصل فإن قيل لما كانت الواو للجمع ثم قال فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون صار الجميع كأنه مذكور معا لا تقدم لواحد منهما على الآخر فلما أدخل عليه الإستثناء لم يكن رجوع الإستثناء إلى شيء من المذكور بأولى من رجوعه إلى الآخر إذ لم يكن تقديم بعضها على بعض حكم في الترتيب فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معا فليس رجوع الإستثناء إلى سمة الفسق بأولى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحد ولولا قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحد لاقتضى ذلك رجوعه أيضا وزواله عنه بالتوبة وقيل له إن الواو قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للإستئناف وهي في قوله وأولئك هم الفاسقون للإستئناف لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معا وذلك في نحو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى آخر الآية لأن الجميع أمر كأنه قال فاغسلوا هذه الأعضاء لأن الجميع قد تضمنه لفظ الأمر فصارت كالجملة الواحدة المنتظمة لهذه الأوامر وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر ولا يجوز أن ينتظمهما جملة واحدة فلذلك كانت الواو للإستئناف إذ غير جائز دخول معنى الخبر في لفظ الأمر وقوله إنما جزاء الذين

 

يحاربون الله ورسوله الإستثناء فيه عائدا إلى الأمر بالقتل وما ذكر معه وغير عائد إلى الخبر الذي يليه لأن قوله إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم لا يجوز أن يكون عائدا إلى قوله ولهم في الآخرة عذاب عظيم لأن التوبة تزيل عذاب الآخرة قبل القدرة عليهم وبعدها فعلمنا أن هذه التوبة مشروطة للحد دون عذاب الآخرة ودليل آخر وهو أن قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لا يخلو من أن يكون بطلان هذه الشهادة متعلقا بالفسق أو يكون حكما على حياله تقتضي الآية تأبيده فلما كان حمله على بطلانها بلزوم سمة الفسق يبطل فائدة ذكره إذ كان ذكر التفسيق مقتضيا لبطلانها إلا بزواله والتوبة منه وجب حمله على أنه حكم برأسه غير متعلق بسمة الفسق ولا بترك التوبة وأيضا فإن كل كلام فحكمه قائم بنفسه وغير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة وفي حمله على ما ادعاه المخالف تضمينه بغيره وإبطال حكمه بنفسه وذلك خلاف مقتضى اللفظ وأيضا فإن حمله على ما ادعى يوجب أن يكون الفسق المذكور في الآية علة لما ذكر من إبطال الشهادة فيكون تقديره ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لأنهم فاسقون وفي ذلك إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى مجاز لا دلالة عليه لأن حكم اللفظ أن يكون قائما بنفسه في إيجاب حكمه وأن لا يجعل علة لغيره مما هو مذكور معه ومعطوف عليه فثبت بذلك أن بطلان الشهادة بعد الجلد حكم قائم بنفسه على وجه التأبيد المذكور في الآية غير موقوف على التوبة فإن قيل رجوع الإستثناء إلى الشهادة أولى منه إلى الفسق لأنه معلوم أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية فلا يكون رده إلى الفسق مفيدا ورده إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة إذ كان جائزا أن تكون الشهادة مردودة مع وجود التوبة فأما بقاء سمة الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في عقل ولا سمع إذ كانت سمة الفسق ذما وعقوبة وغير جائز أن يستحق التائب الذم وليس كذلك بطلان الشهادة ألا ترى أن العبد والأعمى غير جائزي الشهادة لا على وجه الذم والتعنيف لكن عبادة فكان رجوع الإستثناء إلى الشهادة أولى بإثبات فائدة الآية منه إلى الفسق قيل أن التوبة المذكورة في هذه الآية إنما هي التوبة من القذف وإكذاب نفسه فيه لأنه به استحق سمة الفسق وقد كان جائزا أن تبقى سمة الفسق عليه إذا تاب من سائر الذنوب ولم يكذب نفسه فأخبر الله تعالى بزوال سمة الفسق عنه إذا أكذب نفسه ووجه آخر وهو أن سمة الفسق إنما لزمته بوقوع الجلد

 

به ولم يكن يمتنع عند إظهار التوبة أن لا تكون مقبولة في ظاهر الحال وإن كانت مقبولة عند الله لأنا لا نقف على حقيقة توبته فكان جائزا أن يتعبدنا بأن لا نصدقه على توبته وأن نتركه على الجملة لا نتولاه على حسب ما نتولى سائر أهل التوبة فلما كان ذلك جائزا ورود العبادة به أفادتنا الآية قبول توبته ووجوب موالاته وتصديقه على ما ظهر من توبته فإن قيل لما اتفقا على أن الذمي المحدود في القذف تقبل شهادته إذا أسلم وتاب دل ذلك من وجهين على قبول شهادة المسلم المحدود في القذف أحدهما أنه قد ثبت أن الإستثناء راجع إلى بطلان الشهادة إذ كان الذمي مرادا بالآية وقد أريد به كون بطلان الشهادة موقوفا على التوبة والثاني أنه لما رفعت التوبة الحكم ببطلان شهادته كان المسلم في حكمه لوجود التوبة منه قيل له ليس الأمر فيه على ما ظننت وذلك لأن الذمي لم يدخل في الآية وذلك لأن الآية إنما اقتضت بطلان شهادة من جلد وحكم بفسقه من جهة القذف والذمي قد تقدمت له سمة الفسق فلما لم يستحق هذه السمة بالجلد لم يدخل في الآية وإنما جلدناه بالإتفاق ولم يحصل الإتفاق على بطلان شهادته بعد إسلامه بالجلد الواقع في حال كفره فأجزناها كما نجيز شهادة سائر الكفار إذا أسلموا فإن قيل فيجب على هذا أن لا يكون الفاسق من أهل الملة مرادا بالآية إذ لم يتحدث سمة الفسق بوقوع الحد به قيل له هو كذلك وإنما دخل في حكمها بالمعنى لا باللفظ وإنما أجاز أصحابنا شهادة الذمي المحدود في القذف بعد إسلامه وتوبته من قبل أن الحد في القذف يبطل العدالة من وجهين أحدهما عدالة الإسلام والآخر عدالة الفعل والذمي لم يكن مسلما حين حد فيكون وقوع الحد به مبطلا لعدالة إسلامه وإنما بطلت عدالته من جهة الفعل فإذا أسلم فأحدث توبة فقد حصلت له عدالة من جهة الإسلام ومن طريق الفعل أيضا فالتوبة فلذلك قبلت شهادته وأما المسلم فإن الحد قد أسقط عدالته من طريق الدين ولم يتحدث بالتوبة عدالة أخرى من جهة الدين إذ لم يتحدث دينا بتوبته وإنما استحدث عدالة من طريق الفعل فلذلك لم تقبل شهادته إذ كان شرط قبول الشهادة وجود العدالة من جهة الدين والفعل جميعا فإن قيل لما اتفقنا على قبول شهادته إذا تاب قبل وقوع الحد به دل ذلك على أن الإستثناء راجع إلى الشهادة كرجوعه إلى التفسيق فوجب على هذا أن يكون مقتضيا لقبولها بعد الحد كهو قبله قيل له إن شهادته لم تبطل بالقذف قبل وقوع الحد به ولا وجب الحكم

 

بتفسيقه لما بيناه في المسألة المتقدمة ولو لم يتب وأقام على قذفه كانت شهادته مقبولة وإنما بطلان الشهادة ولزومه سمة الفسق مرتب على وقوع الحد به فالإستثناء إنما رفع عنه سمة الفسق التي لزمه بعد وقوع الحد فأما قبل ذلك فغير محتاج إلى الإستثناء في الشهادة ولا في الحكم بالتفسيق ودليل آخر على صحة قولنا وهو أنا قد اتفقنا على أن التوبة لا تسقط الحد ولم يرجع الإستثناء إليه فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله لأنهما جميعا أمران قد تعلقا بالقذف فمن حيث لم يرجع الإستثناء إلى الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة وأما التفسيق فهو خبر ليس بأمر فلا يلزم على ما وصفنا ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد حق لآدمي فكذلك بطلان الشهادة حق لآدمي ألا ترى أن الشهادات إنما هي حق للمشهود له وبمطالبة يصح أداؤها وإقامتها كما تصح إقامة حد القذف بمطالبة المقذوف فوجب أن يكونا سواء في أن التوبة لا ترفعهما وأما لزوم سمة الفسق فلا حق فيه لأحد فكان الإستثناء راجعا إليه ومقصورا عليه فإن قيل إذا كان التائب من الكفر مقبول الشهادة فالتائب من القذف أحرى به قيل له التائب من الكفر يزول عنه القتل ولا يزول عن التائب من القذف حد القذف فكما جاز أن تزيل التوبة من الكفر القتل عن الكفار جاز أن تقبل توبته ولا يلزم عليه التائب من القذف لأن توبته لا تزيل الجلد عنه وأيضا فإن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام ألا ترى أن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحد والقاذف بالزنا يجب عليه الحد فغلظ أمر القذف من هذا الوجه بما لم يغلظ به أمر القذف في أحكام الدنيا وإن كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم فإن قيل فإذا تاب وأصلح فهو عدل ولي لله تعالى وقد كان بطلان شهادته بديا على وجه العقوبة والتوبة تزيل العقوبة وتوجب العدالة والولاية فغير جائز بطلان شهادته بعد توبته قيل له لا يكون بطلان شهادته بعد توبته على وجه العقوبة بل على جهة المحنة كما لا تكون إقامة الحد عليه بعد التوبة على جهة العقوبة بل على جهة المحنة ولله أن يمتحن عباده بما شاء على وجه المصلحة ألا ترى أن العبد قد يكون عدلا مرضيا عند الله وليا لله تعالى وهو غير مقبول الشهادة وكذلك الأعمى وشهادة الوالد لولده ومن جرى مجراه فليس بطلان الشهادة في الأصول موقوفا على الفسق وعلى وجه العقوبة حتى يعارض فيه بما ذكرت ومما يدل على أن توبة القاذف لا توجب جواز شهادته أن شهادته إنما بطلت بحكم الحاكم عليه بالجلد وجلده إياه ولم تبطل بقذفه

 

لما قد بينا فيما سلف فلما تعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم لم يجز إجازتها إلا بحكم الحاكم بجوازها لأن في الأصول أن كل ما تعلق ثبوته بحكم الحاكم لم يزل ذلك الحكم عنه إلا بما يجوز ثبوته من طريق الحكم كالإملاك والعتاق والطلاق وسائر الحقوق فلما لم تكن توبته مما تصح الحصومة فيه ولا يحكم بها الحاكم لم يجز لنا إبطال ما قد ثبت بحكم الحاكم فإن قيل فرقة اللعان والعنين وما جرى مجراها متعلقة بحكم الحاكم وقد يجوز أن يتزوجها فيعود النكاح فكذلك بطلان شهادة القاذف وإن كان متعلقا بحكم الحاكم فإن ذلك لا يمنع إطلاق شهادته عند توبته ويكون حكم الحاكم بديا ببطلانها مقصورا على الحال التي لم تحدث فيها توبة كما أن الفرقة الواقعة بحكم الحاكم إنما هي مقصورة على الحال التي لم يكن منهما فيها عقد مستقبل قيل له لأن النكاح الثاني مما يجوز وقوع الحكم به فجاز أن تبطل به الفرقة الواقعة بحكم الحاكم والتوبة ليست مما يحكم به الحاكم فلا تثبت فيه الخصومات فلم يجز أن يبطل به حكم الحاكم ببطلان شهادته ولكنه لو شهد الفاذف بشهادة عند حاكم يرى قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فحكم بجواز شهادته بعد حكمه جازت شهادته فإن قيل فلو أن رجلا زنى فحده الحاكم ثم تاب جازت شهادته بعد التوبة ولم يكن حكم الحاكم مانعا من قبولها بعد التوبة قيل له الزاني لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم وإنما بطلت بزناه قبل أن يحده الحاكم لظهور فسقه فلما لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم بل بفعله جازت عند ظهور توبته وشهادة القاذف لم تبطل بقذفه لما بينا فيما سلف لأنه جائز أن يكون صادقا وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلد الحاكم إياه فأما قبل ذلك فهو في حكم من لم يقذف ويدل على ذلك من جهة السنة حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين وذكر الحديث فأخبر رسول الله ص

- أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها وقد روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف قال أبو بكر ولم يستثن فيه وجود التوبة منه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا مروان عن يزيد بن أبي خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ص

 

لا تجوز في الإسلام شهادة مجرب عليه شهادة زور ولا خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر لأخيه ولا الصانع لأهل البيت ولا ظنين ولا قرابة فأبطل ص - القول بإبطال شهادة المحدود فظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حد قذف أو غيره إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه ولم تقم الدلالة في المحدود في القذف لهو على عموم لفظه تاب أو لم يتب وإنما قبلنا شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب لأن بطلان شهادته متعلق بالفسق فمتى زالت عنه سمة الفسق كانت شهادته مقبولة والدليل على ذلك أن الفعل الذي استحق به الحد من زنا أو سرقة أو شرب خمر قد أوجب تفسيقه قبل وقوع الحد به فلما لم يتعلق بطلان شهادته بالحد كان بمنزلة سائر الفساق إذا تابوا فتقبل شهاداتهم وأما المحدود في القذف فلم يوجب القذف بطلان شهادته قبل وقوع الحد به لأنه جائز أن يكون صادقا في قذفه وإنما بطلت شهادته بوقوع الحد به فلم تزل ذلك عنه بتوبته قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء قال أبو بكر قد اقتضت هذه الآية أن يكون شهود الزنا أربعة كما أوجب قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم قبول شهادة العدد المذكور فيه وامتناع جواز الاقتصار على أقل منه وقال تعالى في سياق التلاوة عند ذكر أصحاب الإفك لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فجعل عد الشهود المبرئ للقاذف من الحد أربعة وحكم بكذبه عند عجزه عن إقامة أربعة شهداء وقد بين تعالى عدد شهود الزنا في قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم الآية وأعاد ذكر الشهود الأربعة عند القذف إعلاما لنا أن القاذف لا تبرئه من الجلد إلا شهادة أربعة واختلف الفقهاء في القاذف إذا جاء بأربعة شهداء فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا فقال أصحابنا وعثمان البتي والليث بن سعد لا حد على الشهود وإن كانوا فساقا وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف في رجل قذف رجلا بالزنا ثم جاء بأربعة فساق يشهدون أنه زان أنه يحد القاذف ويدرأ عن الشهود وقال زفر يدرأ عن القاذف وعن الشهود وقال مالك وعبيدالله بن الحسن يحد الشهود قال أبو بكر ولم يختلف أصحابنا لو جاء بأربعة كفار أو محدودين في قذف أو عبيدا أو عميان أن القاذف والشهود جميعا يحدون للقذف فأما إذا

 

كانوا فساقا فإن ظاهر قوله ثم لم يأتوا بأربعة شهداء قد تناولهم إذ لم يشرط في سقوط الحد عن القاذف العدول دون الفساق فوجب بمقتضى الآية زوال الحد عن القاذف إذ جعل شرط وجوب الحد أن لا يأتي بأربعة شهداء وهو قد أتى بأربعة شهداء إذ كان الشهداء اسما لمن أقام الشهادة فإن قيل يلزمك مثله في الكفار والمحدودين في القذف ونحوهم قيل له قد اقتضى الظاهر ذلك وإنما خصصناه بدلالة وأيضا فإن الفساق إنما ردت شهادتهم للتهمة وكان ذلك شبهة في ردها فغير جائز إيجاب الحد عليهم بالشبهة التي ردت من أجلها شهادتهم ووجب سقوط الحد عن القاذف أيضا بهذه الشهادة كما أسقطناها عنهم إذ كان سبيل الشبهة أن يسقط بها الحد ولا يجب بها الحد وأما المحدود في القذف والكافر والعبد والأعمى فلم نرد شهادتهم للتهمة ولا لشبهة فيها وإنما رددناها لمعان متيقنة فيهم تبطل الشهادة وهي الحد والكفر والرق والعمى فلذلك حددناهم ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عنهم وعن القاذف ووجه آخر وهو أن الفساق من أهل الشهادة وإنما رددناها اجتهادا وقد يسوغ الاجتهاد لغيرنا في قبول شهادتهم إذا كان ما نحكم نحن بأنه فسق يوجب رد الشهادة قد يجوز أن يراه غيرنا غير مانع من قبول الشهادة فلما كان كذلك لم يكن لنا إيجاب الحد على الشهود ولا على القاذف بالاجتهاد وأما الحد في القذف والكفر ونظائرهما فليس طريق إثباتها الاجتهاد بل الحقيقة فلذلك جاز أن يحدوا ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عن القاذف وأيضا فإن الفاسق غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق ليس بمعنى يحكم به الحاكم ولا يسمع عليه البينات فلما لم يحكم بطلان شهادتهم ولا كان الفسق مما تقوم به البينات ويحكم به الحاكم لم يجز الحكم ببطلان شهادتهم في إيجاب الحد عليهم ولما كان حد القذف والكفر والرق والعمى مما يقع الحكم به وتقوم عليه البينات كان محكوما ببطلان شهادتهم وخرجوا بذلك من أن يكونوا من أهل الشهادة فوجب أن يحدوا لوقوع الحكم بالسبب الموجب لخروجهم من أن يكونوا من أهل الشهادة وأيضا فإن الفسق من الشاهد غير متيقن في حال الشهادة إذ جائز أن يكون عدلا بتوبته في الحال فيما بينه وبين الله وأما الكفر والحد والعمى والرق فقد علمنا أنه غير زائل وهو المانع له من كونه شاهدا فلذلك اختلفا فإن قيل جائز أن يكون الكافر قد أسلم أيضا فيما بينه وبين الله قيل له لا يكون مسلما باعتقاده الإسلام دون إظهاره في الموضع الذي يمكنه

 

إظهاره فإذا لم يظهره فهو باق على كفره فقول زفر في هذه المسألة أظهر لأنه إن جاز أن يكون فسق الشهود غير مخرج لهم من أن يكونوا من أهل الشهادة في باب سقوط الحد عنهم فكذلك حكمهم في سقوطه عن القاذف قال أبو بكر اختلف الفقهاء في شهود الزنا إذا جاؤا متفرقين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح يحدون وقال عثمان البتي والشافعي لا يحدون وتقبل شهادتهم ثم قال الشافعي إذا كان الزنا واحدا قال أبو بكر لما شهد الأول وحده كان قاذفا بظاهر قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاقتضى أن يكون الأربعة غيره إذ غير جائز أن يكون المعقول منه دخوله في الأربعة لأنه لا يقال ائت بنفسك بعد الشهادة أو القذف كما لا يجوز أن يقال ائت بأربعة سواك ولأنهم لم يختلفوا أنه إذا قال لها أنت زانية أنه مكلف لأن يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا وليس هو منهم فكذلك قوله أشهد إنك زانية وإذا كان كذلك فقد اقتضى ظاهر الآية إيجاب الحد على كل قاذف سواء كان قذفه بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة فلما كان ذلك حكم الأول كان كذلك حكم الثاني والثالث والرابع إذ كان كل واحد منهم قاذف محصنة قد أوجب الله عليه الحد ولم يبرئه منه إلا بشهادة أربعة غيره فإن قيل إنما أوجب الله عليه الحد إذا كان قاذفا ولم يجئ مجيء الشهادة فأما إذا جاء مجيء الشهادة بأن يقول أشهد أن فلانا زنى فليس هذا بقاذف قيل له قذفه إياها بلفظ الشهادة لا يخرجه من حكم القاذفين ألا ترى أنه لو لم يشهد معه غيره لكان قاذفا وكان الحد له لازما فلما كان كذلك علمنا أن إيراده القذف بلفظ الشهادة لا يخرجه من أن يكون قاذفا بعد أن يكون وحده وأيضا فقد تناوله عموم قوله والذين يرمون المحصنات إذ كان راميا وإنما ينفصل حكم الرامي من حكم الشاهد إذا جاء أربعة مجتمعين وهم العدد المشروط في قبول الشهادة فلا يكونون مكلفين لأن يأتوا بغيرهم فأما من دون الأربعة إذا جاؤا قاذفين بلفظ الشهادة أو بغير لفظها فإنهم قذفة إذ هم مكلفين للإتيان بغيرهم في صحة قذفهم فإن قيل قد روي أن نافع بن الحارث كتب إلى عمر رضي الله عنه أن أربعة جاؤا يشهدون على رجل وامرأة بالزنا فشهد ثلاثة أنهم رأوه كالميل في المكحلة ولم يشهد الرابع بمثل ذلك فكتب إليه عمر إن شهد الرابع على مثل ما شهد عليه الثلاثة فاجلدهما وإن كانا محصنين فارجمهما وإن لم يشهد إلا بما كتبت به إلي فاجلد الثلاثة وخل

 

سبيل الرجل والمرأة وهذا يدل على أنه لو شهد مع الثلاثة آخر أنهم لا يحدون وقبلت شهادتهم مع كون الثلاثة بديا منفردين قيل له ليس في ذلك دلالة على ما ذكرت وذلك لأن الرجل الذي لم يشهد بما شهد به الآخرون لم ينفرد عنهم بل جاؤا مجتمعين مجيء الشهادة وجائز أن يكون الجميع شهدوا بالزنا فلما استثبتوا بالرجل أن يصرح بما صرح به الثلاثة فأمر عمر بأن يوقف الرجل فإن أتى بالتفسير على ما أتى به القوم حد المشهود عليهما وإن هو لم يأت بالتفسير أبطل شهادته وجعل الثلاثة منفردين فحدهم ولم يقل عمر إن جاء رابع فشهد معهم فاقبل شهادتهم فيكون قابلا لشهادة الثلاثة المنفردين مع واحد جاء بعدهم وقد جلد أبا بكرة وأصحابه لما نكل زيادة عن الشهادة ولم يقل لهم ائتوا بشاهد آخر يشهد بمثل شهادتكم وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكره عليه أحد منهم ولو كان قبول شهادة شاهد واحد منهم لو شهد معهم جائزا لوقف الأمر واستثبتهم وقال هل يشهد بمثل شهادتكم شاهد آخر وإذا لم يقل ذلك ولم يوقف أمرهم بما عزم عليه من حدهم دل على أنهم قد صاروا قذفة قد لزمهم الحد وأنه لم يكن يبرئهم من الحد إلا شهادة أربعة آخرين فإن قيل فهو لم يقل لهم هل معكم أربعة يشهدون بمثل شهادتكم ولم يوقف أمر الحد عليهم لجواز ذلك فكذلك في الشاهد الواحد لو شهد بمثل شهادتهم قيل له لأنه لم يكن يخفى عليهم أنهم لو جاؤا بأربعة آخرين يشهدون لهم بذلك لكانت شهادتهم مقبولة وكان الحد عنهم زائلا فلو كانوا قد علموا أن هناك شهودا أربعة يشهدون بذلك لسألوه التوقيف فلذلك لم يحتج أن يعلمهم ذلك وأما الشاهد الواحد لو شهد معه فإنه جائز أن يخفى حكمه عليهم في جواز شهادته معهم أو بطلانها فلو كان ذلك مقبولا لوقفهم عليه وأعلمهم إياه حتى يأتوا به إن كان

فيمن

يقيم الحد على المملوك

قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يقيمه الإمام دون المولى وذلك في سائر الحدود وهو قول الحسن بن صالح وقال مالك يحده المولى في الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام وهو قول الليث بن سعد وقال الشافعي يحده المولى ويقطعه وقال الثوري يحده المولى في الزنا رواية الأشجعي وذكر عنه الفريابي إن المولى إذا حد عبده ثم أعتقه جازت شهادته وقال الأوزاعي يحده المولى

 

وروي عن الحسن قال ضمن هؤلاء أربعا الصلاة والصدقة والحدود والحكم رواه عنه ابن عون وروي عنه بدل الصلاة الجمعة وقال عبدالله بن محيريز الحدود والفيء والجمعة والزكاة إلى السلطان وقد روى حماد بن سلمة عن يحيى البكاء عن مسلم بن يسار عن أبي عبدالله رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه وهو عالم فخذوا عنه فسمعته يقول الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان وقد قيل إن أبا عبدالله هذا يظن أنه أخو أبي بكرة واسمه نافع فهؤلاء والسلف قد روي عنهم ذلك ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلافه وقد روي عن الأعمش أنه ذكر إقامة عبدالله بن مسعود حدا بالشام وقال الأعمش هم أمراء حيث كانوا وجائز أن يكون عبدالله بن مسعود قد كان ولي ذلك لأنه لم يذكر إن المحدود كان عبده فإن قيل روي عن ابن أبي ليلى أنه قال أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم قيل له يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على وجه التعزير لا على وجه إقامة الحد لأنهم لم يكونوا مأمورين برفعها إلى الإمام بل كانوا مأمورين بالستر عليها وترك رفعها إلى الإمام والدليل على أن إقامة الحد على المملوك إلى الإمام دون المولى قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا وقال الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقال في آية أخرى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وقد علم من قرع سمعه هذا الخطاب من أهل العلم أن المخطابين بذلك هم الأئمة دون عامة الناس فكان تقديره فليقطع الأئمة والحكام أيديهما وليجلدهما الأئمة والحكام ولما ثبت باتفاق الجميع أن المأمورين بإقامة هذه الحدود على الأحرار هم الأئمة ولم تفرق هذه الآيات بين المحدودين من الأحرار والعبيد وجب أن يكون فيهم جميعا وأن يكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي ويدل على ذلك أيضا أنه لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه ثم يرجع الشهود عن شهادتهم أن يكون له تضمين الشهود ومعلوم أن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة لأنه لو لم يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئا فكان يصير حاكما لنفسه بإيجاب الضمان عليهم ومعلوم أن أحدا من الناس لا يجوز له أن يحكم لنفسه فعلمنا أن المولى لا يملك استماع البينة على عبده بذلك ولا قطعه وأيضا فإن المولى والأجنبي سواء في حد العبد والأمة بدلالة أن إقراره عليه غير مقبول وأن

 

إقرار العبد على نفسه بذلك مقبول وإن جحده المولى فلما كان في ذلك في حكم الأجنبيين وجب أن يكون المولى بمنزلة الأجنبي في إقامة الحد وإنما جاز للحاكم أن يسمع البينة ويقيم الحد لأن قوله مقبول في ثبوت ما يوجب الحد عنه فلذلك سمع البينة وحكم بالحد فإن قيل يجوز إقرار الإنسان على نفسه بما يوجب الحد ولا يملك مع ذلك إقامة الحد على نفسه قيل له إذا كان من يجوز إقراره على نفسه ولا يقيم الحد على نفسه فمن لا يجوز إقراره على عبده أحرى بأن لا يقيم الحد عليه فإن قيل فلا نجعل قول الحاكم عليه علة جواز إقامة الحد عليه قيل له إن قول الحاكم قد ثبت عندي لا يوجب عليه الحد وليس بإقرار منه وإنما هو حكم وكذلك البينة إذا قامت عنده فإنه يقيم الحد من طريق الحكم فمن لا يقبل قوله في الحكم فهو لا يملك سماع البينة ولا إقامة الحد فإن قيل إن أبا حنيفة وأبا يوسف لا يقبلان قول الحاكم بما يوجب الحد لأنهما يقولان لا يحكم بعلمه في الحدود قيل له ليس معنى ذلك أن قول الحاكم غير مقبول إذا قال ثبت ذلك عندي ببينة أو بإقرار لأن من قولهما إن ذلك مقبول وإنما معنى قولهما إنه لا يحكم بعلمه في الحدود أنه لو شاهد رجلا على زنا أو سرقة أو شرب خمر لم يقم عليه الحد بعلمه فأما إذا قال قد شهد عندي شهود بذلك أو قال أقر عندي بذلك فإن قوله مقبول منه في ذلك ويسع من أمره الحاكم بالرجم والقطع أن يرجم ويقطع واحتج المخالف لنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وقوله إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وإن عادت فليجلدها وإن عادت فليجلدها ولا يثرب عليها فإن عادت فليبعها ولو بضفير وقد روي في بعض ألفاظ هذا الحديث فليقم عليها الحد قال أبو بكر لا دلالة في هذه الأخبار على ما ذهبوا إليه وذلك لأن قوله أقيموا الحدود على ما مبكت أيمانكم هو كقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ومعلوم أن المراد رفعه إلى الإمام لإقامة الحد فالمخاطبون بإقامة الحد هم الأئمة وسائر الناس مخاطبون برفعهم إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود فكذلك قوله ص - أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم هو على هذا المعنى وأما قوله ص - إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فإنه ليس كل جلد حدا لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير فإذا عزرناها فقد قضينا عهدة الخبر ولا يجوز أن نجلدها بعد ذلك ويدل على أنه أراد التعزير قوله لا يثرب عليها يعني ولا

 

يعيرها ومن شأن إقامة الحد أن يكون بحضرة الناس ليكون أبلغ في الزجر والتنكيل فلما

قال

ولا يثرب عليها دل ذلك أنه أراد التعزير لا الحد ويدل عليه قوله ص - في الرابعة فليبعها ولو بضفير ولم يأمر بجلدها ولو كان ذلك حدا لذكره وأمر به كما أمر به الأول والثاني والثالث لأنه لا يجوز تعطيل الحدود بعد ثبوتها عند من يقيمها وقد يجوز ترك التعزير على حسب ما يرى الإمام فيه من المصلحة فإن قيل التعزير لوجب أن يكون لو عزرها المولى ثم رفع إلى الإمام بعد التعزير أن يقيم عليها الحد لأن التعزير لا يسقط الحد فيكون قد اجتمع عليها الحد والتعزير قيل له لا ينبغي لمولاها أن يرفعها إلى الإمام بعد ذلك بل هو مأمور بالستر عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم - لهزال حين أشار على ما عز بالإقرار بالزنا لو سترته بثوبك كان خيرا لك وقال ص - من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله وأيضا فليس يمتنع اجتماع الحد والتعزير وقد يجب النفي عندنا مع الجلد على وجه التعزير وروي أن النجاشي الشاعر شرب الخمر في رمضان فضربه علي كرم الله وجهه ثمانين وقال هذا لشربك الخمر ثم جلده عشرين وقال هذا لإفطارك في رمضان فجمع عليه الحد والتعزير فلما كان ذلك جائزا لم يمتنع لو رفعت هذه الأمة بعد تعزير المولى إلى الإمام أن يحدها حد الزنا

باب اللعان

قال الله عز و جل والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم إلى آخر القصة قال ابو بكر كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات الجلد والدليل عليه قوله ص - لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك وقال الأنصار أيجلد هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فثبت بذلك أن حد قاذف الزوجات كان كحد قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان ائتني بصاحبتك فقد أنزل الله فيك وفيها قرآنا ولاعن بينهما وروي نحو ذلك في حديث عبدالله بن مسعود في الرجل الذي قال أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ فدلت هذه الأخبار على أن حد قاذف الزوجة كان الجلد وإن الله تعالى نسخه باللعان ومن أجل ذلك قال أصحابنا إن الزوج

 

إذا كان عبدا أو محدودا في قذف فلم يجب اللعان بينهما أن عليه الحد كما أنه إذا أكذب نفسه فسقط اللعان من قبله كان عليه الحد وقالوا لو كانت المرأة هي المحدودة في القذف أو كانت أمة أو ذمية أنه لا حد على الزوج لأنه قد سقط اللعان من قبلها فكان بمنزلة تصديقها الزوج بالقذف لما سقط اللعان من جهتها لم يجب على الزوج الحد واختلف الفقهاء فيمن يجب بينهما اللعان من الزوجين فقال أصحابنا جميعا أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد يسقط اللعان بأحد معنيين أيهما وجد لم يجب معه اللعان وهو أن يكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا كان أجنبيا نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية أو قد وطئت وطئا حراما في غير ملك والثاني أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون محدودا في قذف أو كافرا أو عبدا فأما إذا كان أحدهما أعمى أو فاسقا فإنه يجب اللعان وقال ابن شبرمة يلاعن المسلم زوجته اليهودية إذا قذفها وقال ابن وهب عن مالك الأمة المسلمة والحرة والنصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم وكذلك العبد يلاعن زوجته اليهودية وقال القاسم عن مالك ليس بين المسلم والكافر لعان إذا قذفها إلا أن يقول رأيتها تزني فتلا عن سواء ظهر الحمل أو لم يظهر لأنه يقول أخاف أن أموت فيلحق نسب ولدها بي وإنما يلاعن المسلم الكافر في دفع الحمل ولا يلاعنها فيما سوى ذلك وكذلك لا يلاعن زوجته الأمة إلا في نفي الحمل قال والمحدود في القذف يلاعن وإن كان الزوجان جميعا كافرين فلا لعان بينهما والمملوكان المسلمان بينهما لعان إذا أراد أن ينفي الولد وقال الثوري والحسن بن صالح لا يجب اللعان إذا كان أحد الزوجين مملوكا أو كافرا ويجب إذا كان محدودا في قذف وقال الأوزاعي لا لعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته وقال الليث في العبد إذا قذف امرأته الحرة وادعى أنه رأى عليها رجلا يلاعنها لأنه يحد لها إذا كان أجنبيا فإن كانت أمة أو نصرانية لاعنها في نفي الولد إذا ظهر بها حمل ولا يلاعنها في الرؤية لأنه لا يحد لها والمحدود في القذف يلاعن امرأته وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن إذا كانت ممن يلزمها الفرض قال أبو بكر فأما الوجه الأول من الوجهين الذين يسقطان اللعان فإنما وجب ذلك به من قبل أن اللعان في الأزواج أقيم مقام الحد في الأجنبيات وقد كان الواجب على قاذف الزوجة والأجنبية جميعا الجلد بقوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا

 

بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ثم نسخ ذلك عن الأزواج وأقيم اللعان مقامه والدليل عليه قوله ص - لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك وقول الرجل الذي قال أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت عن غيظ فأنزلت آية اللعان فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فائتني بها فلما كان اللعان في الأزواج قائما مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على قاذف من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي وأيضا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم - اللعان حدا حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الخراساني قال حدثنا عبدالرحمن بن موسى قال حدثنا روح بن دراج عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المرأة وزوجها فرق بينهما وقال إن جاءت به أرح القدمين يشبه فلانا فهو منه قال فجاءت به يشبهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لولا ما مضى من الحد لرجمتها فأخبر النبي ص

- أن اللعان حد ولما كان حدا لم يجز إيجابه على الزوج إذا كانت المرأة مملوكة إذ كان حدا مثل حد الجلد لما كان حدا لم يجب على قاذف المملوك فإن قيل لو كان حدا لما وجب على الزوج إذا قذف امرأته الحرة الجلد إذا أكذب نفسه بعد اللعان إذ غير جائز أن يجتمع حدان بقذف واحد وفي إيجاب حد القذف عليه عند إكذابه نفسه دليل على أن اللعان ليس بحد قيل له قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم - حدا وغير جائز استعمال النظر في دفع الأثر ومع ذلك فإنما يمتنع اجتماع الحدين عليه إذا كان جلدا فأما إذا كان أحدهما جلدا والآخر لعانا فإنا لم نجد في الأصول خلافه وأيضا فإن اللعان إنما هو حد من طريق الحكم فمتى أكذب نفسه وجلد الحد خرج اللعان من أن يكون حدا إذ كان ما يصير حدا من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة حدا وتارة ليس بحد فكذلك كل ما تعلق بالشيء من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة على وصف وأخرى على وصف آخر وإنما قلنا إن من شرط اللعان أن يكون الزوجات جميعا من أهل الشهادة لقوله تعالى والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إلى آخر القصة فلما سمى الله لعانهما شهادة ثم قال في المحدود في القذف ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وجب بمضمون الآيتين انتفاء اللعان عن المحدود في القذف وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في سائر

 

من خرج أن يكون من أهل الشهادة مثل العبد والكافر ونحوهما ومن جهة أخرى أنه إذا ثبت أن المحدود في القذف لا يلاعن وجب مثله في سائر من ليس هو من أهل الشهادة إذ لم يفرق أحد بينهما لأن كل من لا يوجب اللعان على المحدود لا يوجبه على من ذكرنا ووجه آخر من دلالة الاية وهو قوله تعالى ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فلا يخلو المراد به من أن يكون الأيمان فحسب من غير اعتبار معنى الشهادة فيه أو أن يكون أيمانا ليعتبر فيها معنى الشهادة على ما نقوله فلما قال تعالى ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم علمنا أنه أراد أن يكون الملاعن من أهل الشهادة إذ غير جائز أن يكون المراد ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم إذ كل أحد لا يحلف إلا على نفسه ولا يجوز إحلاف الإنسان عن غيره ولو كان المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم لاستحال وزالت فائدته فثبت أن المراد أن يكون الشاهد في ذلك من أهل الشهادة وإن كان ذلك يمينا ويدل على ذلك قوله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فلم يخل المراد من أن يكون الإتيان بلفظ الشهادة في هذه الأيمان أو الحلف من كل واحد منهما سواء كان بلفظ الشهادة أو بغيرها بعد أن يكون حلفا فلما كان قول القائل بجواز قبول اليمين منهما على أي وجه كانت كان مخالفا للآية وللسنة لأن الله تعالى قال فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله كما قال تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقال فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ولم يجز الاقتصار على الأخبار دون إيراده بلفظ الشهادة وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم - حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين دونها ولما كان ذلك كذلك علمنا أن شرط هذه الأيمان أن يكون الحالف بها من أهل الشهادة ويلاعنان فإن قيل الفاسق والأعمى ليسا من أهل الشهادة ويلاعنان قيل له الفاسق من أهل الشهادة من وجوه أحدها أن الفسق الموجب لرد الشهادة قد يكون طريقه الاجتهاد في الرد والقبول والثاني إنه غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق لا يجوز أن يحكم به الحاكم فلما لم تبطل شهادته من طريق الحكم لم يخرج من أن يكون من أهل الشهادة والثالث إن فسقه في حال لعانه غير متيقن إذ جائز أن يكون تائبا فيما بينه وبين الله تعالى فيكون عدلا مرضيا عند الله وليس هذه الشهادة يستحق بها على الغير فترد من أجل ما علم من ظهور فسقه بديا فلم يمنع فسقه من قبول لعانه وإن كان من شروطه كونه من أهل الشهادة وليس كذلك

 

الكفر لأن الكافر لو اعتقد الإسلام لم يكن مسلما إلا بإظهاره إذا أمكنه ذلك فكان حكم كفره باقيا مع اعتقاده لغيره ما لم يظهر الإسلام وأيضا فإن العدالة إنما تعتبر في الشهادة التي يستحق بها على الغير فلا يحكم بها للتهمة والفاسق إنما ردت شهادته في الحقوق للتهمة واللعان لا تبطله التهمة فلم يجب اعتبار الفسق في سقوطه وأما الأعمى فإنه من أهل الشهادة كالبصير لا فرق بينهما إلا أن شهادته غير مقبولة في الحقوق لأن بينه وبين المشهود عليه حائلا وليس شرط شهادة اللعان أن يقول رأيتها تزني إذ لو

قال

هي زانية ولم أر ذلك لاعن فلما لم يحتج إلى الإخبار عن معاينة المشهود به لم يبطل لعانه لأجل عماه وقد روي في معنى مذهب أصحابنا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن داود السراج قال حدثنا الحكم بن موسى قال حدثنا عتاب بن إبراهيم عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أربع من النساء ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن حمويه بن سيار قال حدثنا أبو سيار التستري قال حدثنا الحسن بن إسماعيل عن مجالد المصيصي قال أخبرنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن صدقة أبي توبة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أربع ليس بينهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت المملوك فإن قيل اللعان إنما يجب في نفي الولد لئلا يلحق به نسب ليس منه وذلك موجود في الأمة وفي الحرة قيل له لما دخل في نكاح الأمة لزمه حكمه ومن حكمه أن لا ينتفي منه نسب ولدها كما لزمه حكمه في رق ولده

باب القذف الذي يوجب اللعان

قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية ولا خلاف بين الفقهاء أن المراد به قذف الأجنبيات المحصنات بالزنا سواء قال زنيت أو قال رأيتك تزنين ثم قال تعالى والذين يرمون أزواجهم ولا خلاف أيضا أنه قد أريد به رميها بالزنا ثم اختلف الفقهاء في صفة القذف الموجب للعان فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي إذا قال لها يا زانية وجب اللعان وقال مالك بن أنس لا يلاعن إلا أن يقول رأيتك تزنين أو ينفي حملا بها أو ولدا منها والأعمى يلاعن

 

إذا قذف امرأته وقال الليث لا تكون ملاعنة إلا أن يقول رأيت عليها رجلا أو يقول قد كنت استبرأت رحمها وليس هذا الحمل مني ويحلف بالله ما علي ما قال وقال عثمان البتي إذا قال رأيتها تزني لاعنها وإن قذفها وهي بخراسان وإنما تزوجها قبل ذلك بيوم لم يلاعن ولا كرامة قال أبو بكر ظاهر الآية يقتضي إيجاب اللعان بالقذف سواء قال رأيتك تزنين أو لم يقل لأنه إذا قذفها بالزنا فهو رام لها سواء ادعى معاينة ذلك أو أطلقه ولم يذكر العيان وأيضا لم يختلفوا أن قاذف الأجنبية لا يختلف حكمه في وجوب الحد عليه بين أن يدعي المعاينة أو يطلقه كذلك يجب أن يكون حكم الزوج في قذفه إياها إذ كان اللعان متعلقا بالقذف كالجلد ولأن اللعان في قذف الزوجات أقيم مقام الجلد في قذف الأجنبيات فوجب أن يستويا فيما يتعلقان به من لفظ القذف وأيضا فقد قال مالك إن الأعمى يلاعن وهو لا يقول رأيت فعلمنا أنه ليس شرط اللعان رميها برؤية الزنا منها وأيضا قد أوجب مالك اللعان في نفي الحمل من غير ذكر رؤية فكذلك نفي غير الحمل يلزمه أن لا يشرط فيه الرؤية

باب

كيفية اللعان

قال الله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين واختلف أهل العلم في صفة اللعان إذا لم يكن ولد فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والثوري يشهد الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا وتشهد هي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا فإن كان هناك ولد نفاه يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من نفي هذا الولد وذكر أبو الحسن الكرخي إن الحاكم يأمر الزوج أن يقول أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتك به من نفي ولدك هذا فيقول ذلك أربع مرات ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتك به من نفي ولدك هذا ثم يأمرها القاضي فتقول أشهد بالله إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من نفي ولدي هذا فتقول ذلك أربع مرات ثم تقول في الخامسة وغضب الله علي إن كنت من الصادقين فيما رميتني به من نفي ولدي هذا وروى حيان بن بشر عن أبي

==============================================================

ج17. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

يوسف قال إذا كان اللعان بولد فرق بينهما فقال قد ألزمته أمه وأخرجته من نسب الأب قال أبو الحسن ولم أجد ذكر نفي الحاكم الولد بالقول فيما قرأته إلا في رواية حيان بن بشر قال أبو الحسن وهو الوجه عندي وروى الحسن بن زياد في سياق روايته عن أبي حنيفة قال لا يضره أن يلاعن بينهما وهما قائمان أو جالسان فيقول الرجل أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا يقبل بوجهه عليها فيواجهها في ذلك كله وتواجهه أيضا هي وروي عن زفر مثل ذلك في المواجهة وقال مالك فيما ذكره ابن القاسم عنه أنه يحلف أربع شهادات بالله يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني والخامسة لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين وتقول هي أشهد بالله ما رآني أزني فتقول ذلك أربع مرات والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقال الليث يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقال الشافعي يقول أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة يقول ذلك أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله ويقول إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله فإن رآه يريد أن يمضي أمره يضع يده على فيه ويقول إن قولك علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبه إن كنت كاذبا فإن أبى تركه فيقول لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتى فلانة من الزنا فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا كان أو اثنين وقال مع كل شهادة إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا بفلان وفلان وإن نفى ولدها قال مع كل شهادة أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وإن هذا الولد ولد زنا ما هو مني فإذا قال هذا فقد فرغ من الإلتعان قال أبو بكر قوله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين يقتضي ظاهره جواز الاقتصار عليه في شهادات اللعان إلا أنه لما كان معلوما من دلالة الحال أن التلاعن واقع على قذفه إياها بالزنا علمنا أن المراد فشهادة أحدهما بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وكذلك شهادة المرأة واقعة في نفي ما رماها به وكذلك اللعن والغضب والصدق والكذب راجع إلى إخبار الزوج عنها بالزنا فدل على أن المراد بالآية وقوع الإلتعان والشهادات على ما وقع به رمي الزوج فاكتفى بدلالة

 

الحال على المراد عن قوله فيما رميتها به من الزنا واقتصر على قوله إني لمن الصادقين وهذا نحو قوله تعالى والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات والمراد والحافظات فروجهن والذاكرات الله ولكنه حذف لدلالة الحال عليه وفي حديث عبدالله بن مسعود وابن عباس في قصة المتلاعنين عند النبي صلى الله عليه وسلم - فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ولم يذكرا فيما رماها به من الزنا وأما قول مالك إنه يشهد أربع شهادات بالله إنه رآها تزني فمخالف لظاهر لفظ الكتاب والسنة لأن في الكتاب فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين وكذلك لاعن النبي صلى الله عليه وسلم - بين الزوجين وأما قول الشافعي إنه يذكرها باسمها ونسبها ويشير إليها بعينها فلا معنى له لأن الإشارة تغني عن ذكر الاسم فذكر الاسم والنسب لغو في هذا الموضع ألا ترى أن الشهود لو شهدوا على رجل بحق وهو حاضر كانت شهادتهم أنا نشهد إن لهذا الرجل على هذا الرجل ألف درهم ولا يحتاجون إلى اسمه ونسبه

في نفي الولد

قال

أبو حنيفة إذا ولدت المرأة فنفي ولدها حين يولد أو بعده بيوم أو بيومين لاعن وانتفى الولد وإن لم ينفه حين يولد حتى مضت سنة أو سنتان ثم نفاه لاعن ولزمه الولد ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا ووقت أبو يوسف ومحمد مقدار النفاس أربعين ليلة وقال أبو يوسف إن كان غائبا فقدم فله أن ينفيه فيما بينه وبين مقدار النفاس منذ قدم ما كان في الحولين فإن قدم بعد دخروجه من الحولين لم ينتف أبدا وقال هشام سألت محمدا عن أم ولد لرجل جاءت بولد ولمولى شاهد فلم يدعه ولم ينكره فقال إذا مضى أربعون يوما من يوم ولدته فإنه يلزمه وهي بمنزلة الحرة قال قلت فإن كان المولى غائبا فقدم وقد أتت له سنون فقال محمد إن كان الابن نسب إليه حتى عرف به فإنه يلزمه وقال محمد وإن لم ينسب إليه وقال هذا لم أعلم بولادته فإن سكت أربعين يوما من يوم قدم لزمه الولد وقال مالك إذا رأى الحمل فلم ينفه حين وضعته لم ينتف بعد ذلك وإن نفاه حرة كانت أو أمة فإن انتفى منه حين ولدته وقد رآها حاملا فلم ينتف منه فإنه يجلد الحد لأنها حرة مسلمة فصار قاذفا لها وإن كان غائبا عن الحمل وقدم ثم ولدته فله أن ينفيه وقال الليث فيمن أقر بحمل امرأته ثم قال بعد ذلك رأيتها تزني لاعن في رؤية ويلزمه الحمل وقال

 

الشافعي إذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم إمكانا بينا فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه كالشفعة وقال في القديم إن لم ينفه في يوم أو يومين لم يكن له أن ينفيه قال أبو بكر ليس في كتاب الله عز و جل ذكر نفي الولد إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - نفي الولد باللعان إذا قذفها بنفي الولد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود دقال حدثنا عبدالله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بالمرأة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء هلال بن أمية من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا وذكر الحديث إلى آخر ذكر اللعان قال ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وقضى أن لا يدعي ولدها لأب قال أبو بكر وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا نفى ولدها أنه يلاعن ويلزم الولد أمه وينتفي نسبه من أبيه إلا أنهم اختلفوا في وقت نفي الولد على ما ذكرنا وفي خبر ابن عمر الذي ذكرنا في أن رجلا انتفى من ولدها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بالأم دليل على أن نفي ولد زوجته من قذف لها لولا ذلك لما لاعن بينهما إذ كان اللعان لا يجب إلا بالقذف وأما توقيت نفي الولد فإن طريقه الاجتهاد وغالب الظن فإذا مضت مدة قد كان يمكنه فيها نفي الولد وكان منه قبول للتهنئة أو ظهر منه ما يدل على أنه غير ناف له لم يكن له بعد ذلك أن ينفيه عند أبي حنيفة وتحديد الوقت ليس عليه دلالة فلم يثبت واعتبر ما ذكرنا من ظهور الرضا بالولد ونحوه فإن قيل لما لم يكن سكوته في سائر الحقوق رضا بإسقاطها كان كذلك نفي الولد قيل له قد اتفق الجميع على أن السكوت في ذلك إذا مضت مدة من الزمان بمنزلة الرضا بالقول إلا أنهم اختلفوا فيها وأكثر من وقت فيها أربعين يوما وذلك لا دليل عليه وليس اعتبار هذه المدة بأولى من اعتبار ما هو أقل منها وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الأربعين هي مدة أكثر النفاس وحال النفاس هي حال الولادة فما دامت على حال الولادة قبل نفيه وهذا ليس بشيء لأن نفي الولد لا تعلق له بالنفاس وأما قول مالك أنه إذا رآها حاملا فلم ينتف منه ثم نفاه بعد الولادة فإنه يجلد الحد فإنه قول واه لا وجه له من وجوه أحدها أن الحمل غير متيقن فيعتبر نفيه والثاني أنه ليس بآكد ممن ولدت امرأته ولم يعلم بالحمل فعلم به وسكت زمانا يلزمه الولد وإن نفاه بعد ذلك

 

لاعن ولم ينتف نسب الولد منه إذ لم تكن صحة اللعان متعلقة بنفي الولد ولم يكن منه إكذاب لنفسه بعد النفي فكيف يجوز أن يجلد وأيضا قوله تعالى والذين يرمون أزواجهم الآية فأوجب اللعان بعموم الآية على سائر الأزواج فلا يخص منه شيء إلا بدليل ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه من ذلك على وجوب الحد وسقوط اللعان

باب

الرجل يطلق امرأته طلاقا بائنا ثم يقذفها

قال أصحابنا فيمن طلق امرأته ثلاثا ثم قذفها فعليه الحد وكذلك إن ولدت ولدا قبل انقضاء عدتها فنفى ولدها فعليه الحد والولد ولده وقال ابن وهب عن مالك إذا بانت منه ثم أنكر حملها لاعنها إن كان حملها يشبه أن يكون منه وإن قذفها بعد الطلاق الثلاث وهي حامل مقر بحملها ثم زعم أنه رآها تزني قبل أن يقاذفها حد ولم يلاعن وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثا لاعنها وقال الليث إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن ولو قذفها بالزنا بعد أن بانت منه وذكر أنه رأى عليها رجلا قبل فراقه إياها جلد الحد ولم يلاعن وقال ابن شبرمة إذا ادعت المرأة حملا في عدتها وأنكر الذي يعتد منه لاعنها وإن كانت في غير عدة جلد وألحق به الولد وقال الشافعي وإن كانت امرأة مغلوبة على عقلها فنفى زوجها ولدها التعن ووقعت الفرقة وانتفى الولد وإن ماتت المرأة قبل اللعان فطالب أبوها وأمها زوجها كان عليه أن يلتعن وإن ماتت ثم قذفها حد ولا لعان إلا أن ينفي به ولدا أو حملا فيلتعن وروى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال يحد وقال ابن عمر يلاعن وروى الشيباني عن الشعبي قال إن طلقها طلاقا بائنا فادعت حملا فانتفى منه يلاعنها إنما فر من اللعان وروى أشعث عن الحسن مثله ولم يذكر الفرار وإن لم تكن حاملا جلد وقال إبراهيم النخعي وعطاء والزهري إذا قذفها بعدما بانت منه جلد الحد قال عطاء والولد ولده قال أبو بكر قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وكان ذلك حكما عاما في قاذف الزوجات والأجنبيات على ما بينا فيما سلف ثم نسخ منه قاذف الزوجات بقوله تعالى والذين يرمون أزواجهم والبائنة ليست بزوجة فعلى الذي كان زوجها الحد إذا قذفها بظاهر قوله والذين يرمون المحصنات ومن أوجب اللعان بعد البينونة وارتفاع الزوجية فقد نسخ من هذه الآية ما لم يرد توقيف بنسخه وغير جائز نسخ

 

القرآن إلا بتوقيف يوجب العلم ومن جهة أخرى أنه لا مدخل للقياس في إثبات اللعان إذ كان اللعان حدا على ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لم يختلفوا أنه لو قذفها بغير ولد أن عليه الحد ولا لعان فثبت أنه غير داخل في الآية ولا مراد إذ ليس في الآية نفي الولد وإنما فيها ذكر القذف ونفي الولد مأخوذ من السنة ولم ترد السنة بإيجاب اللعان لنفي الولد البينونة فإن قيل إنما يلاعن بينهما لنفي الولد لأن ذلك حق للزوج ولا ينتفي منه إلا باللعان قياسا على حال بقاء الزوجية قيل له هذا استعمال القياس في نسخ حكم الآية وهو قوله والذين يرمون المحصنات فلا يجوز نسخ الآية بالقياس وأيضا لو جاز إيجاب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية لجاز إيجابه لزوال الحد عن الزوج بعد ارتفاع الزوجية فلما كان لو قذفها بغير ولد حد ولم يجب اللعان ليزول الحد لعدم الزوجية كذلك لا يجب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية فإن قيل قال الله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وقال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فحكم تعالى بطلاق النساء ولم يمنع ذلك عندك من طلاقها بعد البينونة ما دامت في العدة فما أنكرت مثله في اللعان قيل له هذا سؤال ساقط من وجوه أحدها أن الله تعالى حين حكم بوقوع الطلاق على نساء المطلق لم ينف بذلك وقوعه على من ليست من نسائه بل ما عدا نسائه فحكمه موقوف على الدليل في وقوع طلاقه أو نفيه وقد قامت الدلالة على وقوعه في العدة وأما اللعان فإنه مخصوص بالزوجات ولأن من عدا الزوجات فالواجب فيهن الحد بقوله والذين يرمون المحصنات فكان موجب هذه الآية نافيا للعان ومن أوجبه وأسقط حكم الآية فقد نسخها بغير توقيف وذلك باطل ولذلك نفيناه إلا مع بقاء الوجية وأيضا فإن الله تعالى من حيث حكم بطلاق النساء فقد حكم بطلاقهن بعد البينونة بقوله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ثم عطف عليه قوله فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فحكم بوقوع الطلاق بعد الفدية لأن الفاء للتعقيب وليس معك آية ولا سنة في إيجاب اللعان بعد البينونة وأيضا فجائز إثبات الطلاق من طريق المقاييس بعد البينونة ولا يجوز إثبات اللعان بعد البينونة من طريق القياس لأنه حد لا مدخل للقياس في إثباته وأيضا فإن اللعان يوجب البينونة ولا يصح إثباتها بعد وقوع البينونة فلا معنى لإيجاب لعان

 

لا يتعلق به بينونة إذ كان موضوع اللعان لقطع الفراش وإيجاب البينونة فإذا لم يتعلق به ذلك فلا حكم له فجرى اللعان عندنا في هذا الوجه مجرى الكنايات الموضوعة للبينونة فلا يقع بها طلاق بعد ارتفاع الزوجية مثل قوله أنت خلية وبائن وبتة ونحوها فلما لم يجز أن يلحقها حكم هذه الكنايات بعد البينونة وجب أن يكون ذلك حكم اللعان في انتفاء حكمه بعد وقوع الفرقة وارتفاع الزوجية وليس كذلك حكم صريح الطلاق إذ ليس شطره ارتفاع البينونة ألا ترى أن الطلاق تثبت معه الرجعة في العدة ولو طلق الثانية بعد الأولى في العدة لم يكن في الثانية تأثير في بينونة ولا تحريم وإنما أوجب نقصان العدد فلذلك جاز أن يلحقها الطلاق في العدة بعد البينونة لنقصان العدد لا لإيجاب تحريم ولا لبينونة وأيضا فليس يجوز أن يكون وقوع الطلاق أصلا لوجوب اللعان لأن الصغيرة والمجنونة يلحقهما الطلاق ولا لعان بينهما وبين أزواجهما واختلف أهل العلم فيمن قذف امرأته ثم طلقها ثلاثا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا أبانت منه بعد القذف بطلاق أو غيره فلا حد عليه ولا لعان وهو قول الثوري وقال الأوزاعي والليث والشافعي يلاعن وقال الحسن بن صالح إذا قذفها وهي حامل ثم ولدت ولدا قبل أن يلاعنها فماتت لزمه الولد وضرب الحد وإن لاعن الزوج ولم تلتعن المرأة حتى تموت ضرب الحد وتوارثا وإن طلقها وهي حامل وقد قذفها فوضعت حملها قبل أن يلاعنها لم يلاعن وضرب الحد قال أبو بكر قد بينا امتناع وجوب اللعان بعد البينونة ثم لا يخلو إذا لم يجب اللعان من أن لا يجب الحد على ما قال أصحابنا أو أن يجب الحد على ما قال الحسن بن صالح وغير جائز إيجاب الحد إذا لم يكن من الزوج إكذاب لنفسه وأينا سقط اللعان عنه من طريق الحكم وصار بمنزلتها لو صدقته على القذف لما سقط اللعان من جهة الحكم لا بإكذاب من الزوج لنفسه لم يجب الحد فإن قيل لو قذفها وهي أجنبية ثم تزوجها لم تنتقل إلى اللعان كذلك إذا قذفها وهي زوجته ثم بانت لم يبطل اللعان قيل حال النكاح قد يجب فيها اللعان وقد يجب فيه الحد ألا ترى أنه لو أكذب نفسه وجب الحد في حال النكاح وغير حال النكاح لا يجب فيه اللعان بحال واختلف أهل العلم في الرجل ينفي حمل امرأته فقال أبو حنيفة إذا قال ليس هذا الحمل مني لم يكن قاذفا لها فإن ولدت بعد يوم لم يلاعن حتى ينفيه بعد الولادة وهو قول زفر وقال أبو يوسف ومحمد إن جاءت به بعد هذا

 

القول لأقل من ستة أشهر لاعن وقد روي عن أبي يوسف أن يلاعنها قبل الولادة وقال مالك والشافعي يلاعن بالحمل وذكر عنه الربيع أنه يلاعن حتى تلد وإنما يوجبه أبو حنيفة اللعان بنفي الحمل لأن الحمل غير متيقن وجائز أن يكون ريحا أو داء وإذا كان كذلك لم يجز أن نجعله قذفا لأن القذف لا يثبت بالإحتمال ألا نرى أن التعريض المحتمل للقذف ولغيره لا يجوز إيجاب اللعان ولا الحد به فلما كان محتملا أن يكون ما نفاه ولدا واحتمل غيره لم يجز أن يوجب اللعان به قبل الوضع ثم إذا وضعت لأقل من ستة أشهر تيقنا أنه كان حملا في وقت النفي لم يجب اللعان أيضا لأنه يوجب أن يكون القذف معلقا على شرط والقذف لا يجوز أن يعلق على شرط ألا ترى أنه لو قال لها إذا ولدت فأنت زانية لم يكن قاذفا لها بالولادة واحتج من لاعن بالحمل بما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - لاعن بالحمل وإنما أصل هذا الحديث ما رواه عيسى بن يونس وجرير جميعا عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن رجلا قال أرأيتم إن وجد رجلا مع امرأته رجلا فإن هو قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت عن غيظ فأنزلت آية اللعان فابتلي به فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فلاعن امرأته فلم يذكر في هذا الحديث الحمل ولا أنه لاعن بالحمل وروى ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس أن رجلا جاء وقال وجدت مع امرأتي رجلا ثم لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وقال إن جاءت به كذا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي قال أنبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم - البينة أو حد في ظهرك وذكر الحديث إلى قوله أبصروها فإن جاءت به كذا فهو لشريك بن سحماء وكذلك رواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس فذكر في هذه الأخبار أنه قذفها وأبو حنيفة يوجب اللعان بالقذف وإن كانت حاملا وإنما لا يوجبه إذا نفى الحمل من غير قذف فإن قيل قال الله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن وقد ترد الجارية بعيب الحمل إذا قال النساء هي حبلى وقال النبي صلى الله عليه وسلم - في دية شبه العمد منها أربعون خلفة في بطونها أولادها قيل له أما نفقة الحامل فلا تجب لأجل الحمل وإنما وجبت للعدة فما لم تنقض عدتها فنفقتها واجبة ألا ترى أن غير الحامل نفقتها واجبة وإنما ذكر الحمل

 

لأن وضعه تنقضي به العدة وتنقطع به النفقة وأما الرد بالعيب فإنه جائز كونه مع الشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة والحد لا يجوز إثباته بالشبهة فلذلك اختلفا وكذلك من يوجب في الدية أربعين خلقة في بطونها أولادها فإنه يوجبها على غالب الظن ومثله لا يجوز إيجاب الحد به وهذا كما يحكم بظاهر وجود الدم أنه حيضة ولا يجوز القطع به حتى يتم ثلاثة أيام وكذلك من كان ظاهر أمرها الحبل لا تكون رؤيتها الدم حيضا فإن تبين بعد أنها لم تكن حاملا كان ذلك الدم حيضا وقوله ص - في قصة هلال بن أمية إن جاءت به على صفة كيت وكيت فهو لشريك بن سحماء فإنه فيما أضافه إلى هلال محمول على حقيقة إثبات النسب منه وهذا يدل على أنه لم ينف الولد منه بلعانه إياها في حال حملها وقوله فهو لشريك بن سحماء لا يجوز أن يكون مراده إلحاق النسب به وإنما أراد أنه من مائه في غالب الرأي لأن الزاني لا يلحق به النسب لقوله ص - الولد للفراش وللعاهر الحجر فإن قيل في حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في امرأة هلال بن أمية حين لاعن بينهما أن لا يدعي ولدها لأب قيل له هذا إنما ذكره عباد بن منصور عن عكرمة وهو ضعيف واه لا يشك أهل العلم بالحديث أن في حديث عباد بن منصور هذا أشياء ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم - مدرجة فيه ولم يذكر ذلك غير عباد بن منصور ويدل على أنه غير جائز نفي النسب ولا إثبات للقذف بالشبهة حديث أبي هريرة قال إن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال إن امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته فقال له هل لك من إبل قال نعم قال ما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال نعم قال فأنى ترى ذلك جاءها قال عرق نزعها قال فلعل هذا عرق نزعه فلم يرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم - نفيه عنه لبعد شبهه منه ويدل أيضا على أنه لا يجوز نفي النسب بالشبهة

فصل وقال أصحابنا إذا نفى نسب ولد زوجته فعليه اللعان وقال الشافعي لا يجب اللعان حتى يقول إنها جاءت به من الزنا قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امراته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وانتفى من ولدها ففرق رسول الله ص

- بينهما وألحق الولد بالمرأة فأخبر أنه لاعن بينهما لنفيه الولد فثبت أن نفي ولدها قذف يوجب اللعان

 

أربعة

شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها

قال أصحابنا شهادتهم جائزة ويقام الحد على المرأة وقال مالك والشافعي يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي نحو قولهما عن الحسن والشعبي وروي عن ابن عباس إن الزوج يلاعن ويحد الثلاثة قال أبو بكر قال الله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا جميعا أجنبيين وقال والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة فإذا قذف الأجنبي امرأة وجاء بأربعة أحدهم الزوج اقتضى الظاهر جواز شهادتهم وسقوط الحد عن القاذف وإيجابه عليها وأيضا لا خلاف أن شهادة الزوج جائزة على امرأته في سائر الحقوق وفي القصاص وفي سائر الحدود من السرقة والقذف والشرب فكذلك يجب أن تكون في الزنا فإن قيل الزوج يجب عليه اللعان إذا قذف امرأته فلا يجوز أن يكون شاهدا قيل له إذا جاء مجيء الشهود مع ثلاثة غيره فليس بقذف ولا لعان عليه وإنما يجب اللعان عليه إذا قذفها ثم لم يأت بأربعة شهداء كالأجنبي إذا قذف وجب عليه الحد إلا أن يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا ولو جاء مع ثلاثة فشهدوا بالزنا لم يكن قاذفا وكان شاهدا فكذلك الزوج

في

إباء أحد الزوجين اللعان

قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد أيهما نكل عن اللعان حبس حتى يلاعن وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي أيهما نكل حد إن نكل الرجل حد للقذف وإن نكلت هي حدت للزنا وروى معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن في الرجل يلاعن وتأبى المرأة قال تحبس وعن مكحول والضحاك والشعبي إذا لاعن وأبت أن تلاعن رجمت قال أبو بكر قال الله تعالى واللاتي يأتين بالفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وقال ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ائتني بأربعة شهداء وإلا

فحد في ظهرك ورد النبي صلى الله عليه وسلم - ماعزا والغامدية كل واحد منهما حتى أقر أربع مرات بالزنا ثم رجمهما فثبت أنه لا يجوز إيجاب الحد عليها بترك اللعان لأنه ليس ببينة ولا إقرار وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى

 

ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس فنفى وجوب القتل إلا بما ذكر والنكول عن اللعان خارج عن ذلك فلا يجب رجمها وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن لأن أحدا لم يفرق بينهما فإن قيل امرئ مسلم إنما يتناول الرجل دون المرأة قيل له ليس كذلك لأنه لا خلاف أن المرأة مرادة بذلك وإن هذا الحكم عام فيهما جميعا وأيضا فإن ذلك للجنس كقوله إن امرؤ هلك ليس له ولد وقوله يوم يفر المرء من أخيه وأيضا لا خلاف أن الدم لا يستحق بالنكول في سائر الدعاوى وكذلك سائر الحدود فكان في اللعان أولى أن لا يستحق فإن قيل لما قال تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وهو يعني حد الزنا ثم قال ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله فعرفه بالألف واللام علمنا أن المراد هو العذاب المذكور في قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين قيل له ليست هذه قصة واحدة ولا حكما واحدا حتى يلزمه فيه ما قلت لأن أول السورة إنما هي في بيان حكم الزانيين ثم حكم القاذف وقد كان ذلك حكما ثابتا في قاذف الزوجات والأجنبيات جاريا على عمومه إلى أن نسخ عن قاذف الزوجات باللعان وليس في ذكره العذاب وهو يريد به حد الزنا في موضع ثم ذكر العذاب بالألف واللام في غيره ما يوجبه أن العذاب المذكور في لعان الزوجين هو المذكور في الزانيين إذ ليس يختص العذاب بالحد دون غيره وقد قال الله تعالى إلا أن يسجن أو عذاب أليم ولم يرد به الحد وقال لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ولم يرد الحد وقال ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ولم يرد به الحد وقال عبيد بن الأبرص ... والمرء ما عاش في تكذيب ... طول الحياة له تعذيب ...

وقال النبي صلى الله عليه وسلم - السفر قطعة من العذاب فإذا كان اسم العذاب لا يختص بنوع من الإيلام دون غير ومعلوم أنه لم يرد به جميع سائر ضروب العذاب عليه لم يخل اللفظ من أحد معنيين إما أن يريد به الجنس فيكون على أدنى ما يسمى عذابا أي ضرب منه كان أو مجملا مفتقرا إلى البيان إذ غير جائز أن يكون المراد معهودا لأن المعهود هو ما تقدم ذكره في الخطاب فيرجع الكلام إليه إذ كان معناه متقررا عند المخاطبين وأن المراد عوده إليه فلما لم يكن في ذكر قذف الزوج وإيجاب اللعان ما يوجب استحقاق الحد على المرأة لم يجز أن يكون هو المراد بالعذاب وإذا كان ذلك كذلك وكانت الأيمان قد تكون حقا للمدعي

 

حتى يحبس من أجل النكول عنها وهي القسامة متى نكلوا عن الأيمان فيها حبسوا كذلك حبس الناكل عن اللعان أولى من إيجاب الحد عليه لأنه ليس في الأصول إيجاب الحد بالنكول وفيها إيجاب الحبس به وأيضا فإن النكول ينقسم إلى أحد معنيين إما بدل لما استحلف عليه وإما قائم مقام الإقرار وبدل الحدود لا يصح وما قام مقام الغير لا يجوز إيجاب الحد به كالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي وشهادة النساء مع الرجال وأيضا فإن النكول لما لم يكن صريح الإقرار لم يجز إثبات الحد به كالتعريض وكاللفظ المحتمل للزنا ولغيره فلا يجب به الحد على المقر ولا على القاذف فإن قيل في حديث ابن عباس وغيره في قصة هلال بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما لاعن بينهما وعظ المرأة وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكذلك الرجل ومعلوم أنه أراد بعذاب الدنيا حد الزنا أو القذف قيل له هذا غلط لأنه لا يخلو من أن يكون مراده بعذاب الدنيا الحبس أو الحد إذا أقر فإن كان المراد الحبس فهو عند النكول وإن أراد الحد فهو عند إقرارها بما يوجب الحد وإكذاب الزوج لنفسه فلا دلالة له فيه على أن النكول يوجب الحد دون الحبس فإن قيل إنما يجب عليها الحد بالنكول وأيمان الزوج وكذلك يجب عليه بنكوله وأيمان المرأة قيل له النكول والأيمان لا يجوز أن يستحق به الحد ألا ترى أن من ادعى على رجل قذفا أنه لا يستحلف ولا يستحق المدعي الحد بنكول المدعى عليه ولا بيمينه وكذلك سائر الحدود ولا يستحلف فيها ولا يحكم فيها بالنكول ولا يرد اليمين

باب تصادق الزوجين أن الولد ليس منه

قال

أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي لا ينفى الولد منه إلا باللعان وقال أصحابنا تصديقها إياه بأن ولدها من الزنا يبطل اللعان فلا ينتفي النسب منه أبدا وقال مالك والليث إذا تصادق الزوجان على أنها ولدته وأنه ليس منه لم يلزمه الولد وتحد المرأة وذكر ابن القاسم عن مالك قال لو شهد أربعة على امرأة انها زنت منذ أربعة أشهر وهي حامل وقد غاب زوجها منذ أربعة أشهر فأخرها الإمام حتى وضعت ثم رجمها فقدم زوجها بعد ما رجمت فانتفى من ولده وقال قد كنت استبرأتها فإنه يلتعن وينتفي به الولد عن نفسه ولا ينفيه ههنا إلا اللعان قال أبو بكر قال النبي صلى الله عليه وسلم -

الولد للفراش وللعاهر الحجر وظاهره يقتضي أن لا ينتفي أبدا عن صاحب

الفراش غير أنه لما وردت السنة في إلحاق

 

الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان واستعمل ذلك فقهاء الأمصار سلمنا بذلك وما عدا ذلك مما لم ترد به سنة فهو لازم للزوج بظاهر قوله الولد للفراش وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى قال حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب عن رباح قال زوجني أهل أمة لهم رومية فوقعت عليها فولدت لي غلاما أسود مثلي فسميته عبدالله ثم طبن لها غلام من أهلي رومي يقال له يوحنه فراطنها بلسانه فولدت غلاما كأنه وزغة من الوزغات فقلت لها ما هذا فقالت هذا ليوحنه فرفعنا إلى عثمان قال فسألهما فاعترفا فقال لهما أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إن رسول الله ص

- قضى إن الولد للفراش فجلدها وجلده وكانا مملوكين

باب

الفرقة باللعان

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم وقال مالك وزفر بن الهذيل والليث إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق بينهما الحاكم وعن الثوري والأوزاعي لا تقع الفرقة بلعان الزوج وحده وقال عثمان البتي لا أرى ملاعنة الزوج امرأته تنقص شيئا وأحب إلي أن يطلق وقال الشافعي إذا أكمل الزوج الشهادة والإلتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا التعنت أو لم تلتعن قال أبو بكر أما قول عثمان البتي في أنه لا يفرق بينهما فإنه قول تفرد به ولا نعلم أحدا قال به غيره وكذلك قول الشافعي في إيقاعه الفرقة بلعان الزوج خارج عن أقاويل سائر الفقهاء وليس له فيه سلف والدليل على أن فرقة اللعان لا تقع إلا بتفريق الحاكم ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف

يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فلما فرغنا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا

فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين وفي هذا الخبر دلالة على أن اللعان لم يوجب الفرقة لقوله كذبت عليها إن أمسكتها وذلك لأن

 

فيه إخبارا منه بأنه ممسك لها بعد اللعان على ما كان عليه من النكاح إذ لو كانت الفرقة قد وقعت قبل ذلك لاستحال قوله كذبت عليها إن أمسكتها وهو غير ممسك لها فلما أخبر بعد اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم -

إنه ممسك لها ولم ينكره النبي ص

- دل ذلك على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان إذ غير جائز أن يقار النبي صلى الله عليه وسلم - أحدا على الكذب ولا على استباحة نكاح قد بطل فثبت أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان ويدل عليه أيضا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان قال حدثنا ايحيى بن عبدالله بن بكير قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب أن ابن شهاب كتب يذكر عن سهل بن سعد أنه أخبره أن عويمرا قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت عند أهلي رجلا أأقتله قال ائت بامرأتك فإنه قد نزل فيكما فجاء بها فلاعنها ثم قال إني قد افتريت عليها إن لم أفارقها فأخبر في هذا الحديث إنه لم يكن فارقها باللعان وأمره النبي صلى الله عليه وسلم - ولما طلقها ثلاثا بعد اللعان ولم ينكره ص - دل ذلك على أن الطلاق قد وقع موقعه وعلى قول الشافعي إنها قد بانت منه بلعان الزوج ولا يلحقها طلاقه بعد البينونة فقد خالف الخبر من هذا الوجه أيضا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبدالله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر أعني قصة عويمر قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وكان ما صنع عند النبي ص

- قال سهل حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا فأخبر

في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم - أنفذ طلاق العجلاني بعد اللعان ويدل عليه أيضا قول ابن شهاب فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولو كانت الفرقة واقعة باللعان لاستحال التفريق بعدها ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد ووهب بن بيان وغيرهما قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد قال مسدد قال شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وأنا ابن خمس عشرة سنة ففرق رسول الله ص

- بينهما حين تلاعنا فقال الرجل كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فأخبر في هذا الحديث ايضا أن النبي صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما بعد اللعان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عمر رجل قذف امرأته قال فرق رسول

 

الله ص - بين أخوي بني العجلان فقال والله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب يرددها ثلاث مرات فأبيا ففرق بينهما فنص في هذا الحديث أيضا على أنه فرق بينهما بعد اللعان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينهما وألحق الولد بالمرأة وهذا أيضا فيه نص على أن التفريق كان بفعل

رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأيضا لو كانت الفرقة واقعة بلعان الزوج لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما وقع بها من التحريم وتعلق بها من الأحكام فلما لم يخبر عليه السلام بوقوع الفرقة بلعان الزوج ثبت أنها لم تقع وأيضا قول الشافعي خلاف الآية لأن الله تعالى قال والذين يرمون أزواجهم ثم قال فشهادة أحدهم ثم قال ويدرؤ عنها العذاب وهو يعني الزوجة فلو وقعت الفرقة بلعان الزوج للاعنت وهي أجنبية وذلك خلاف ظاهر الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين وأيضا لا خلاف أن الزوج إذا قذف امرأته بغير ولد بعد البينونة أو قذفها ثم أبانها أنه لا يلاعن فلما لم يجز أن يلاعن وهو أجنبي كذلك لا يجوز أن يلاعن وهي أجنبية لأن اللعان في هذه الحال إنما هو لقطع الفراش ولا فراش بعد البينونة فامتنع لعانها وهي غير زوجة فإن قيل في الأخبار التي فيها ذكر تفريق النبي صلى الله عليه وسلم -

بين المتلاعنين إنما معناه إن الفرقة وقعت باللعان فأخبر النبي ص

- أنها لا تحل له بقوله لا سبيل عليها قيل له هذا صرف الكلام عن حقيقته ومعناه لأن قوله لا تحل لك لا سبيل لك عليها إن لم تقع به فرقة فليس بتفريق من النبي صلى الله عليه وسلم -

بينهما وإنما هو إخبار بالحكم والمخبر بالحكم لا يكون مفرقا بينهما فإن

قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا وذلك إخبار منه بوقوع الفرقة لأن النكاح لو كان باقيا إلى أن يفرق لكانا مجتمعين قيل له هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم - وإنما روي عن عمر وعلي قال يفرق بينهما ولا يجتمعان فإنما مراده أنهما إذا فرق بينهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن فينبغي أن تثبت الفرقة حتى يحكم بأنهما لا يجتمعان ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم - كان معناه ما وصفنا وأيضا يضم إليه ما قدمنا من الأخبار الدالة على بقاء النكاح بعد اللعان وأن الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم فإذا جمعنا بينهما وبين الخبر تضمن أن يكون معناه المتلاعنان لا يجتمعان بعد التفريق ويدل على ما ذكرنا أن اللعان شهادة لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم فأشبه

 

الشهادة التي لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم فواجب على هذا أن لا تقع موجبة للفرقة إلا بحكم الحاكم فإن قيل الأيمان على الدعاوي لا يثبت بها حكم إلا عند الحاكم ومتى استحلف الحاكم رجلا برئ من الخصومة ولا يحتاج إلى استئناف حكم آخر في براءته منها وهذا يوجب انتقاض اعتلالك بما ذكرت قيل له هذا لا يلزم على ما ذكرنا وذلك لأنا قلنا اللعان شهادة تتعلق صحتها بالحاكم كالشهادات على الحقوق وليست الأيمان على الحقوق شهادات بذلك على هذا أن اللعان لا يصح إلا بلفظ الشهادات كالشهادات على الحقوق وليس كذلك الإستحلاف على الدعاوى وأيضا فإن اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ببينته فلما لم يجز أن يستحق المدعي ما ادعاه إلا بحكم الحاكم وجب حكمه في استحقاق المرأة نفسها باللعان وأما الإستحلاف على الحقوق فإنه لا يستحق به شيء وإنما تقطع الخصومة في الحال ويبقى المدعى عليه على ما كان عليه من براءة الذمة فكانت فرقة اللعان بالشهادات على الحقوق أشبه منها بالإستحلاف عليها وأيضا لما كان اللعان سببا للفرقة متعلقا بحكم الحاكم أشبه تأجيل العنين في كونه سببا للفرقة في تعلقه بحكم الحاكم فلما لم تقع الفرقة بعد التأجيل بمضي المدة دون تفريق الحاكم وجب مثله في فرقة اللعان لما وصفنا وأيضا لما لم يكن اللعان كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها وجب أن لا تقع به الفرقة كسائر الألفاظ التي ليست كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها فإن قيل الإيلاء ليس بكناية عن الطلاق ولا صريح وقد أوقعت به الفرقة عند مضي المدة قيل له إن الإيلاء يصح أن يكون كناية عن الطلاق إلا أنه أضعف من سائر الكنايات فلا تقع الفرقة فيه بنفس الإيلاء إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو ترك الجماع في المدة ألا ترى أن قوله والله لا أقربك قد يدل على التحريم إذ كان التحريم يمنع القرب وأما اللعان فليس يصح أن يكون دالا على التحريم بحال لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه فلا يوجب ذلك تحريما ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها بالزنا لم يوجب ذلك تحريما وإن كان كاذبا والمرأة صادقة فذلك أبعد فثبت بذلك أنه لا دلالة فيه على التحريم قال فلذلك لم يجز وقوع الفرقة دون إحداث تفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم وأيضا أنه لما لم يصح ابتداء اللعان إلا بحكم الحاكم كان كذلك ما تعلق به من الفرقة ولما صح ابتداء الإيلاء من غير حاكم لم يحتج في وقوع الفرقة إلى حكم الحاكم فإن قيل لما اتفقنا على أنهما لو تراضيا

 

على البقاء في النكاح لم يخليا وذلك وفرق بينهما دل ذلك على أن اللعان قد أوجب الفرقة فواجب أن تقع الفرقة فيه بنفس اللعان دون سبب آخر غيره قيل له هذا منتقض على أصل الشافعي لأنه يزعم أن ارتداد المرأة لا يوجب الفرقة إلا بحدوث سبب آخر وهو مضي ثلاث حيض فإذا مضت ثلاثة حيض وقعت الفرقة ولو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا وذلك ولم توجب الردة بنفسها الفرقة دون حدوث معنى آخر وعندنا لو تزوجت امرأة زوجا غير كفء وطالب الأولياء بالفرقة لم يعمل تراضى الزوجين في تبقية النكاح ولم يوجب ذلك وقوع الفرقة بخصومة الأولياء حتى يفرق الحاكم فهذا الإستدلال فاسد على أصل الجميع وأيضا فإنك لم ترده إلى أصل وإنما حصلت على دعوى عارية من البرهان وأيضا جائز عندنا البقاء على النكاح بعد اللعان لأنه لو أكذب نفسه قبل الفرقة لجلد الحد ولم يفرق بينهما فإن قيل هو مثل الطلاق الثلاث والرضاع ونحوهما من الأسباب الموجبة للفرقة بأنفسها لا يحتاج في صحة وقوعها إلى حكم الحاكم واللعان ليس بسبب موجب للفرقة بنفسه لأنه لو كان كذلك وجب أن تقع به الفرقة إذا تلاعنا عند غير الحاكم وأيضا ليس كل سبب يتعلق به فسخ يوجبه بنفسه من الأسباب ما يوجب ذلك بنفسه ومنها مالا يوجبه إلا بحدوث معنى آخر ألا ترى أن بيع نصيب من الدار يوجب الشفعة للشريك ولا ينتقل إليه بنفس الطلب والخصومة دون أن يحكم بها الحاكم وكذلك الرد بالعيب بعد القبض وخيار الصغير إذا بلغ ونحو ذلك هذه كلها أسباب يتعلق بها فسخ العقود ثم لا يقع الفسخ بوجودها حسب دون حكم الحاكم به فهو على من يوجب الفرقة باللعان دون تفريق الحاكم وأما عثمان البتي فإنه ذهب في قوله إن اللعان لا يوجب الفرقة بحال لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ولو تلاعنا في بيتهما لم يوجب فرقة فكذلك عند الحاكم ولأن اللعان في الأزواج قائم مقام الحد على قاذف الأجنبيات ولو حد الزوج في قذفه إياها بأن أكذب نفسه أو كان عبدا لم يوجب ذلك فرقة وكذلك إذا لاعن وذهب في تفريق النبي صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين أن ذلك إنما كان في قصة العجلاني وكان طلقها ثلاثا بعد اللعان فلذلك فرق بينهما وروى ابن شهاب أن سهل بن سعد قال فطلقها العجلاني ثلاث تطليقات بعد فراغهما من اللعان فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحديث ابن عمر أيضا إنما هو في قصة العجلاني قال أبو بكر في

 

حديث سهل بن سعد أنه

قال

فحضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني قصة العجلاني فمضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا فأخبر سهل وهو راوي هذه القصة أن السنة مضت بالتفريق وإن لم يطلق الزوج وفي حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما قال أبو بكر وهلال لم يطلق امرأته فثبت أن التفريق بينهما بعد اللعان واجب وأيضا في حديث ابن عمر وغيره في قصة العجلاني أن النبي صلى الله عليه وسلم -

فرق بينهما وجائز أن يكون النبي ص

- فرق بينهما ثم طلقها هو ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفيه أنه قال لا سبيل لك عليها

باب نكاح الملاعن للملاعنة

قال أبو حنيفة ومحمد إذا أكذب الملاعن نفسه وجلد الحد أو جلد حد القذف في غير ذلك وصارت المرأة بحال لا يجب بينهما وبين زوجها إذا قذفها لعان فله أن يتزوجها وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي وسعيد بن جبير وقال أبو يوسف والشافعي لا يجتمعان أبدا وروي عن علي وعمر وابن مسعود مثل ذلك وهذا محمول عندنا على أنهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن وروي عن سعيد بن جبير أن فرقة اللعان لا تبينها منه وأنه إذا أكذب نفسه في العدة ردت إليه امرأته وهو قول شاذ لم يقل به أحد غيره وقد مضت السنة ببطلانه حين فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين والفرقة لا تكون إلا مع البينونة ويحتج للقول الأول بعموم الآي المبيحة لعقود المناكحات نحو قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله فانكحوا الأيامى منكم ومن جهة النظر أنا قد بينا أن هذه الفرقة متعلقة بحكم الحاكم وكل فرقة تعلقت بحكم الحاكم فإنها لا توجب تحريما مؤبدا والدليل على ذلك أن سائر الفرق التي تتعلق بحكم الحاكم لا يوجب تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين وخيار الصغيرين وفرقة الإيلاء عند مخالفنا وكذلك سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم في الأصول هذه سبيلها فإن قيل سائر الفرق التي ذكرت لا يمنع التزويج في الحال وإن تعلقت بحكم الحاكم وهذه الفرقة تحظر تزويجها في الحال عند الجميع فكما جاز أن يفارق سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم من هذا الوجه جاز أن يخالفها في إيجابها التحريم مؤبدا قبل له من الفرق المتعلقة بحكم الحاكم ما يمنع التزويج في الحال ولا توجب مع ذلك تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين

 

إذا لم تكن نفي من طلاقها إلا واحدة قد أوجبت تحريما حاظرا لعقد النكاح في الحال ولم توجب مع ذلك تحريما مؤبدا وكذلك الزوج الذمي إذا أبى الإسلام وقد أسلمت امرأته فقرق الحاكم بينهما منع ذلك من نكاحها بعد الفرقة ولا توجب تحريما مؤبدا فلم يجب من حيث حظرنا تزويجها بعد الفرقة أن توجب به تحريما مؤبدا وأيضا لو كان اللعان يوجب تحريما مؤبدا لوجب أن يوجبه إذا تلاعنا عند غير الحاكم لأنا وجدنا سائر الأسباب الموجبة للتحريم المؤبد فإنها توجبه بوجودها غير مفتقرة فيه إلى حاكم مثل عقد النكاح الموجب لتحريم الأم والوطء الموجب للتحريم والرضاع والنسب كل هذه الأسباب لما تعلق بها تحريم مؤبد لم تفتقر إلى كونها عند الحاكم فلما لم يتعلق تحريم اللعان إلا بحكم الحاكم وهو أن يتلاعنا بأمره بحضرته ثبت أنه لا يوجب تحريما مؤبدا وأيضا لو أكذب نفسه قبل الفرقة بعد اللعان لجلد الحد ولم يفرق بينهما وأبو يوسف لا يخالفنا في ذلك لزوال حال التلاعن وبطلان حكمه بالحد الواقع به وجب مثله بعد الفرقة لزوال المعنى الذي من أجله وجبت الفرقة وهو حكم اللعان فإن قيل لو كان كذلك لوجب أنه إذا أكذب نفسه بعد الفرقة وجلد الحد أن يعود النكاح وتبطل الفرقة لزوال المعنى الموجب لها كما لا يفرق بينهما إذا أكذب نفسه بعد اللعان قبل الفرقة قيل له لا يجب ذلك لأنا إنما جعلنا زوال حكم اللعان علة لارتفاع التحريم الذي تعلق به لا لبقاء النكاح ولا لعود النكاح فعلى أي وجه بطل لم يعد إلا بعقد مستقبل إلا أن الفرقة قد تعلق بها تحريم غير البينونة وذلك التحريم إنما يرتفع بارتفاع حكم اللعان كما أن الطلاق الثلاث توجب البينونة وتوجب أيضا مع ذلك تحريما لا يزول إلا بزوج ثان يدخل بها فإذا دخل بها الزوج الثاني ارتفع التحريم الذي أوجبه الطلاق الثلاث ولم يعد نكاح الزوج الأول إلا بعد فراق الزوج الثاني وانقضاء العدة وإيقاع عقد مستقبل ودليل آخر وهو أن التحريم الواقع بالفرقة لما كان متعلقا بحكم اللعان وجب أن يرتفع بزوال حكمه والدليل على ارتفاع حكم اللعان إذا أكذب نفسه وجلد الحد أنه معلوم ان اللعان حد على ما بينا فيما سلف بمنزلة الجلد في قاذف الأجنبيات وممتنع أن يجتمع عليه حدان في قذف واحد فإيقاع الجلد لذلك القذف مخرج للعان من أن يكون حدا ومزيل لحكمه في إيجاب التحريم لزوال السبب الموجب له فإن قيل فهذا الذي ذكرت يبطل حكم اللعان لامتناع

 

اجتماع الحدين عليه بقذف واحد فواجب إذا جلد الزوج حدا في قذفه لغيرها أن لا يبطل حكم اللعان فيما بينهما فلا يتزوج بها قيل له إذا صار محدودا في قذفه فقد خرج من أن يكون من أهل اللعان ألا ترى أنه لو قذف امرأة له أخرى لم يلاعن وكان عليه الحد عندنا فالعلة التي ذكرنا في إكذابه نفسه فيما لاعن عليه امرأته وإن كانت غير موجودة في هذه فجائز قياسها عليها بمعنى آخر وهو خروجه من أن يكون من أهل اللعان فإن احتجوا بما روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين قال الزهري فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وبما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبدالله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذه القصة قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فأنفذه رسول الله ص

- وكان ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم -

قال سهل حضرت هذا عند رسول الله ص

- فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وبحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا سبيل لك عليها فإنها لو كانت تحل له بحال لبين كما بين الله تعالى حكم المطلقة ثلاثا في إباحتها بعد زوج غيره قيل له أما حديث الزهري الأول فإنه قول الزهري وقوله مضت السنة ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - سنها ولا أنه حكم بها وأما قول سهل بن سعد فمضت السنة من بعد في المتلاعنين أنهما لا يجتمعان أبدا ليس فيه أيضا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم -

مضت بذلك والسنة قد تكون من النبي ص

- وقد تكون من غيره فلا حجة في هذا وأيضا فإنه قال في المتلاعنين وهذا يصفه حكم يتعلق به وهو بقاؤهما على حكم التلاعن وكونهما من أهل اللعان فمتى زالت الصفة بخروجهما من أن يكونا من أهل اللعان زال الحكم كقوله تعالى ما على المحسنين من سبيل وقوله لا ينال عهدي الظالمين ونحو ذلك من الأحكام المعلقة بالصفات ومتى زالت الصفة زال الحكم فإن قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا قيل له ما نعلم أحدا روى ذلك بهذا اللفظ وإنما روي ما ذكرنا في حديث سهل بن سعد وهو أصل الحديث فإن صح هذا اللفظ فإنما أخذه الراوي من حديث سهل وظن أن هذه العبارة مبينة عما في حديث سهل ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يفد نفي النكاح بعد زوال حكم اللعان على النحو الذي بينا وأما قوله لا سبيل لك عليها فإنه يفيد تحريم النكاح وإنما هو إخبار بوقوع

 

الفرقة لأنه لا يصح إطلاق القول بأه لا سبيل لأحد على الأجنبيات ولا يفيد ذلك تحريم العقد فإن قيل قوله لا سبيل لك عليها ينفي جواز العقد إذ كان جوازه يوجب أن يكون له عليها سبيل قيل له ليس كذلك لأنا قد نقول لا سبيل لك على الأجنبية ولا نريد به أنه لا يجوز له تزويجها فيصير لك عليها سبيل بالتزويج وإنما نريد أنه لا يملك بضعها في الحال فإذا تزوجها فإنما صار له عليها سبيل برضاها وعقدها ألا ترى أن قوله ما على المحسنين من سبيل لم يمنع أن يصير عليهم سبيل في العقود المقتضية لإثبات الحقوق والسبيل عليه برضاه فكذلك قوله لا سبيل لك عليها إنما أفاد أنه لا سبيل لك عليها إلا برضاها

فصل قال أبو بكر واتفق أهل العلم أن الولد قد ينفى من الزوج باللعان وقد ذكرنا حديث ابن عمر وابن عباس في إلحاق الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وحكي عن بعض من شذ أنه للزوج ولا ينتفي نسبه باللعان واحتج بقوله ص

- الولد للفراش والذي قال الولد للفراش هو الذي حكم بقطع النسب من الزوج باللعان وليست الأخبار المروية في ذلك بدون ما روي في أن الولد للفراش فثبت أن معنى قوله الولد للفراش أنه لم ينتف باللعان وأيضا فلما بطل ما كان أهل الجاهلية عليه من استلحاق النسب بالزنا كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة بن خالد قال حدثني يونس بن يزيد قال قال محمد بن مسلم بن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها وجها إن أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع الرجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها ونكاح

 

رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتقطه ودعاه ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله النبي محمدا ص -

هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم فمعنى قوله ص

- الولد للفراش أن الأنساب قد كانت تلحق بالنطف في الجاهلية بغير فراش فألحقها النبي صلى الله عليه وسلم -

بالفراش وكذلك ما روي في قصة زمعة حين قال النبي ص

- الولد للفراش وللعاهر الحجر فلم يلحقه بالزاني وقال هو للفراش إخبارا منه أنه لا ولد للزاني ورده إلى عبد إذ كان ابن أمة أبيه ثم قال لسودة احتجبي منه إذ كان سببها بالمدعى له لأنه في ظاهره من ماء أخي سعد وهذا يدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ولو كان قضى بالنسب لما أمرها بالإحتجاب بل كان أمرها بصلته ونهاها عن الإحتجاب عنه كما نهى عائشة عن الإحتجاب عن عمها من الرضاعة وهو أفلح أخو أبي القعيس ويدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ما رواه سفيان الثوري وجرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبدالله بن الزبير قال كانت لزمعة جارية تبطنها وكانت تظن برجل آخر فمات زمعة وهي حبلى فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي يظن بها فذكرته سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أما الميراث له وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس لك بأخ فصرح في هذا الخبر بنفي نسبه من زمعة وإعطاء الميراث بإقرار عبد أنه أخوه وقد روي هذا الحديث على غير هذا الوجه وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن منصور ومسدد بن مسرهد قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة فقال سعد أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه وقال عبد بن زمعة أخي ابن أمة أبي ولد على فراش أبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - شبها بينا بعتبة فقال الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة زاد مسدد فقال هو أخوك يا عبد قال أبو بكر الصحيح ما رواه سعيد بن منصور والزيادة التي زادها مسدد ما نعلم أحدا وافقه عليها وقد روي في بعض الالفاظ أنه قال هو لك يا عبد ولا يدل ذلك على أنه أثبت النسب لأنه جائز أن يريد به إثبات اليد له إذ كان من يستحق يدا في شيء جاز أن يضاف إليه فيقال هو له وقد قال عبدالله بن رواحة

 

لليهود حين خرص عليهم تمر خيبر إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي ولم يرد به الملك ومعلوم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يرد بقوله هو لك يا عبد إثبات الملك فادعى خصمنا أنه أراد إثبات النسب وذلك لا يوجب إضافته إليه في الحقيقة على هذا الوجه لأن قوله هو لك إضافة الملك والأخ ليس بملك فإذ لم يرد به الحقيقة فليس حمله على إثبات النسب بأولى من حمله على إثبات اليد ويحتمل لو صحت الرواية أنه قال هو أخوك أن يريد به أخوة الدين وأنه ليس بعبد لإقراره بأنه حر ويحتمل أن يكون أصل الحديث ما ذكر بعض الرواة أنه قال هو لك وظن الراوي أن معناه أنه أخوه في النسب فحمله على المعنى عنده في خبر سفيان وجرير الذي يرويه عبدالله بن الزبير أنه قال ليس لك بأخ وهذا لا احتمال فيه فوجب حمل خبر الزهري الذي روينا على الوجوه التي ذكرنا قال أبو بكر وقوله الولد للفراش قد اقتضى معنيين أحدهما إثبات النسب لصاحب الفراش والثاني أن من لا فراش له فلا نسب له لأن قوله الولد اسم للجنس وكذلك قوله الفراش للجنس لدخول الألف واللام عليه فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر فكأنه قال لا ولد إلا للفراش وفيما حكم الله تعالى به من آية اللعان دلالة على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما لأنهما لو كانا كفرا لوجب أن يكون أحد الزوجين مرتدا لأنه إن كان الزوج كاذبا في قذفها فواجب أن يكون كافرا وإن كان صادقا فواجب أن تكون المرأة كافرة بزناها وكان يجب أن تبين منه امرأته قبل اللعان فلما حكم الله تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونتها منه قبل اللعان ثبت أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودل على بطلان مذهب الخوارج في قولهم إن ذلك كفر وتدل الآية أيضا على أن القاذف مستحق للعن من الله تعالى إذا كان في قذفه كاذبا وأن الزنا يستحق به الغضب من الله لولا ذلك لما جاز أن يأمرهما الله بذلك إذ غير جائز أن يأمرا بأن يدعوا على أنفسهما بما لا يستحقانه ألا ترى أنه لا يجوز أن يدعو على نفسه بأن يظلمه الله ويعاقبه بما لا يستحقه وقوله تعالى إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم نزلت في الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها فأخبر الله أن ذلك كذب والإفك هو الكذب ونال النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وجماعة من المسلمين غم شديد وأذى وحزن فصبروا على ذلك فكان ذلك خيرا لهم ولم يكن صبرهم واغتمامهم بذلك شرا لهم بل كان خيرا لهم لما نالوا به من الثواب ولما لحقهم أيضا من

 

السرور ببيان الله براءة عائشة وطهارتها ولما عرفوا من الحكم في القاذف وقوله تعالى لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم يعني والله أعلم عقاب ما اكتسب من الإثم على قدر ما اكتسبه وقوله تعالى والذي تولى كبره روي أنه عبدالله بن أبي بن سلول وكان منافقا وكبره هو عظمه وإن عظم ما كان فيه لأنهم كانوا يجتمعون عنده وبرأيه وأمره كانوا يشيعون ذلك ويظهرونه وكان هو يقصد بذلك أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وأذى أبي بكر والطعن عليهما قوله تعالى لولا

إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين هو أمر المؤمنين بأن يظنوا خيرا بمن كان ظاهره العدالة وبراءة الساحة وأن لا يقضوا عليهم بالظن وذلك لأن الذين قذفوا عائشة لم يخبروا عن معاينة وإنما قذفوها تظننا وحسبانا لما رأوها متخلفة عن الجيش قد ركبت جمل صفوان بن المعطل يقوده وهذا يدل على أن الواجب لمن كان ظاهره العدالة أن يظن به خيرا ولا يقوم مستبشرا وهو يوجب أن يكون أمور المسلمين في عقودهم وأفعالهم وسائر تصرفهم محمولة على الصحة والجواز وأنه غير جائز حملها على الفساد وعلى ما لا يجوز فعله بالظن والحسبان ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد مع امرأة أجنبية رجلا فاعترفا بالتزويج أنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما وزعم مالك بن أنس أنه يحدهما إن لم يقيما بينة على النكاح ومن ذلك أيضا ما قال أصحابنا فيمن باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين أنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بحسن الظن بالمؤمنين وحمل أمورهم على ما يجوز فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما كذلك إذا باعه سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم إنا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف فنحمل أمرهما على أنهما تعاقدا عقدا جائزا ولا نحمله على الفساد وما لا يجوز وهذا يدل أيضا على صحة قول أبي حنيفة في أن المسلمين عدول مالم تظهر منهم ريبة لأنا إذا كنا مأمورين بحسن الظن بالمسلمين وتكذيب من قذفهم على جهة الظن والتخمين بما يسقط العدالة فقد أمرنا بموالاتهم والحكم لهم بالعدالة بظاهر حالهم وذلك يوجب التزكية وقبول الشهادة ما لم تظهر منهم ريبة توجب التوقف عنها أو ردها وقال تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله ظن

المؤمنون والمؤمنات بأنفسهن خيرا فإنه يحتمل معنيين أحدهما أن يظن بعضهم ببعض خيرا كقوله فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم والمعنى

 

فليسلم بعضكم على بعض وكقوله لا تقتلوا أنفسكم يعني لا يقتل بعضكم بعضا والثاني أنه جعل المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه قد جرى على جميعهم كما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبدالله أحمد بن دوست قال حدثنا جعفر بن حميد قال حدثنا الوليد بن أبي ثور قال حدثنا عبدالملك بن عمير عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم كمثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسهر والحمى وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال حدثنا محمد بن عبدالملك بن زنجويه قال حدثنا عبدالله بن ناصح قال حدثنا أبو مسلم عبدالله بن سعيد عن مالك بن مغول عن أبي بردة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - المؤمنون للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضا قوله تعالى لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون قد أبانت هذه الآية عن معنيين أحدهما أن الحد واجب على القاذف مالم يأت بأربعة شهداء والثاني أنه لا يقبل في إثبات الزنا أقل من أربعة شهداء وقوله فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون قال أبو بكر قد حوى ذلك معنيين أحدهما أنهم متى لم يقيموا أربعة من الشهداء فهم محكومون بكذبهم عند الله في إيجاب الحد عليهم فيكون معناه فأولئك في حكم الله هم الكاذبون فيقتضي ذلك الأمر بالحكم بكذبهم فإن كان جائزا أن يكونوا صادقين في المغيب عند الله وذلك جائز سائغ كما قد تعبدنا بأن نحكم لمن ظهر منه عمل الخيرات وتجنب السيئات بالعدالة وإن كان جائزا أن يكون فاسقا في المغيب عند الله تعالى والوجه الثاني أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها وفي قذفتها فأخبر بقوله فأولئك عند الله هم الكاذبون بمغيب خبرهم وأنه كذب في الحقيقة لم يرجعوا فيه إلى صحة فمن جور صدق هؤلاء فهو راد لخبر الله قوله تعالى إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم قرئ تلقونه بالتشديد قال مجاهد يرويه بعضهم عن بعض ليشيعه وعن عائشة تلقونه ومن ولق الكذب وهو الإستمرار عليه ومنه ولق فلان في السير إذا استمر عليه فذمهم تعالى على الإقدام على القول بما لا علم لهم به وذلك قوله تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وهو نحو قوله ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فأخبر أن ذلك

 

وإن كان يقينا في ظنهم وحسبانهم فهو عظيم الإثم عنده ليرتدعوا عن مثله عند علمهم بموقع المأثم فيه ثم قال ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم تعليما لنا بما نقوله عند سماع مثله فيمن كان ظاهر حاله العدالة وبراءة الساحة قوله تعالى سبحانك هذا بهتان عظيم أي تنزيها لك من أن نغضبك بسماع مثل هذا القول في تصديق قائله وهو كذب وبهتان في ظاهر الحكم وقوله تعالى يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا فإنه تعالى يعظنا ويزجرنا بهذه الزواجر وعقاب الدنيا بالحد مع ما نستحق من عقاب الآخرة لئلا نعود إلى مثل هذا الفعل أبدا إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين لرسوله قوله تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أبان الله بهذه الآية وجوب حسن الإعتقاد في المؤمنين ومحبة الخير والصلاح لهم فأخبر فيها بوعيد من أحب إظهار الفاحشة والقذف والقول القبيح للمؤمنين وجعل ذلك من الكبائر التي يستحق عليها العقاب وذلك يدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف الجوارح والقول عما يضر بهم وروى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المؤمن من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وقال ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال حدثنا سهل بن عثمان قال حدثنا زياد بن عبدالله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا هدبة قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير قوله تعالى ولا

يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى روي عن ابن عباس وعائشة أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويتيمين كانا في حجره ينفق عليهما أحدهما مسطح بن أثاثة وكان ممن خاض في أمر عائشة فلما نزلت براءتها حلف أبو بكر أن لا ينفعهما بنفع أبدا فلما نزلت هذه الآية عاد له وقال بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي والله لا أنزعها عنهما أبدا وكان مسطح ابن خالة أبي بكر مسكينا ومهاجرا من مكة إلى المدينة من البدريين وفي هذا دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إنه ينبغي

 

له أن يأتي الذي هو خير وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ومن الناس من يقول إنه يأتي الذي هو خير وذلك كفارته وقد روي أيضا في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم - ويحتج من يقول ذلك بظاهر هذه الآية وإن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة وليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة لأن الله قد بين إيجاب الكفارة في قوله ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته وقوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وذلك عموم فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره وقال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وقد علمنا أن الحنث كان خيرا من تركه وأمره الله تعالى بضرب لا يبلغ منها ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته فإن معناه تكفير الذنب لا الكفارة المذكورة في الكتاب وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله فأمره النبي صلى الله عليه وسلم - بالحنث والتوبة وأخبر أن ذلك يكفر ذنبه الذي اقترفه بالحلف قوله تعالى الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك قالوا الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال وروي عن ابن عباس أيضا انه قال الخبيثات من السيآت للخبيثين من الرجال وهو قريب من الأول وهو نحو قوله قل كل يعمل على شاكلته وقيل الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال على نحو قوله الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين وأن ذلك منسوخ بما ثبت في موضعه

باب

الاستئذان

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها روي عن ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم وقتادة قالوا الإستيناس الاستئذان فيكون معناه حتى تستأنسوا بالإذن وروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذا الحرف حتى تستأذنوا وقال غلط الكاتب وروى القاسم بن نافع عن مجاهد حتى تستأنسوا قال هو التنحنح والتنخع وفي نسق التلاوة ما دل

 

على إنه أراد الاستئذان وهو قوله وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم الاستيناس قد يكون للحديث كقوله تعالى ولا مستأنسين لحديث وكا روي عن عمر في حديثه الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

انفرد في مشربة له حين هجر نساءه فاستأذنت عليه فقال الإذن قد سمع كلامك

ثم أذن له فذكر أشياء وفيه قال فقلت استأنس يا رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال نعم وإنما أراد به الاستيناس للحديث وذلك كان بعد الدخول والاستيناس المذكور في قوله حتى تستأنسوا لا يجوز أن يكون المراد به الحديث لأنه لا يصل إلى الحديث إلا بعد الإذن وإنما المراد الاستئذان للدخول وإنما سمي الاستئذان استيناسا لأنهم إذا استأذنوا أو سلموا أنس أهل البيوت بذلك ولو دخلوا عليهم بغير إذن لاستوحشوا وشق عليهم وأمر مع الاستئذان بالسلام إذ هو من سنة المسلمين التي أمروا بها ولأن السلام أمان منه لهم وهو تحية أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغنة حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يوسف بن يعقوب قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا الحارث بن عبدالرحمن بن أبي رباب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لما خلق الله آدم فنفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله بإذن الله فقال له ربه رحمك ربك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة وملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم فقال سلام عليكم ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن إسحاق بن راطية قال حدثنا إبراهيم بن سعيد قال حدثنا يحيى بن نصر بن حاجب قال حدثنا هلال بن حماد عن ذادان عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حق المسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه وينصح له بالغيب ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي قال حدثنا أبو غسان النهدي قال حدثنا زهير قال حدثنا الأعمش عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا محمد بن معلى قال حدثنا زياد بن خيثمة عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال

 

إن سركم أن يخرج الغل من صدوركم فافشوا السلام بينكم

باب

في عدد الاستئذان وكيفيته

روى دهيم بن قران عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن عثمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الاستئذان ثلاث فالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون وروى يونس بن عبيد عن الوليد بن مسلم عن جندب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبدة قال أخبرنا سفيان عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعا فقلنا له ما أفزعك قال أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال ما منعك أن تأتيني قلت قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قال لتأتين على هذا بالبينة قال فقال أبو سعيد لا يقوم معك إلا أصغر القوم قال فقام أبو سعيد معه فشهد له وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى إني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - شديد وفي بعضها ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر إنما لم يقبل عمر خبره حتى استفاض عنده لأن أمر الاستئذان مما بالناس إليه حاجة عامة فاستنكر أن تكون سنة الاستئذان ثلاثا مع عموم الحاجة إليها ثم لا ينقلها إلا الأفراد وهذا أصل في أن ما بالناس إليه حاجة عامة لا يقبل فيه إلا خبر الاستفاضة وحدنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد قال وقف رجل على باب النبي صلى الله عليه وسلم - يستأذن فقام مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم - هكذا عنك أو هكذا فإنما جعل الاستئذان من النظر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن بشار قال حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبدالله بن صفوان أخبره عن كلدة أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم -

بأعلى مكة فدخلت ولم أسلم فقال ارجع فقل السلام عليكم وذاك بعدما أسلم

صفوان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو بكر

 

ابن أبي شيبة قال حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم -

وهو في بيت فقال ألج فقال النبي ص

- لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقال له قل السلام عليكم أأدخل فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن فضل الحراني في آخرين قالوا حدثنا بقية قال حدثنا محمد بن عبدالرحمن عن عبدالله بن بسر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قوم لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم وذلك أن الدور لم تكن يومئذ عليها ستور قال أبو بكر ظاهر قوله لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا يقتضي جواز الدخول بعد الآستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن ولذلك قال مجاهد الإستئناس التنحنح والتنخع فكأنه إنما أراد أن يعلمهم بدخوله وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول بغير إذن إلا أنه معلوم أنه قد أريد به الإذن في الدخول فحذفه لعلم المخاطبين بالمراد وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن حبيب وهشام عن محمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال رسول الرجل إلى الرجل إذنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حسين بن معاذ قال حدثنا عبدالأعلى قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إذا دعي أحدكم مع الطعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن فدل هذا الخبر على معنيين أحدهما أن الإذن محذوف من قوله حتى تستأنسوا وهو مراد به والثاني أن الدعاء إذن إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذان ثان وهو يدل أيضا على أن من قد جرت العادة بإباحة الدخول أنه غير محتاج إلى الإستئذان فإن قيل قد روى أبو نعيم عن عمر بن زر عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول والله إني كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع إني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل فمر بي عمر ففعلت مثل ذلك فمر ولم يفعل فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي ثم قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال الحق بي ومضى واتبعته فدخل واستأذنت فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال من أين هذا قالوا أهدى

 

لك فلان أو فلانة قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال الحق أهل الصفة فادعهم لي قال وأهل الصفة أضياف أهل الإسلام لا يلوون على أهل ولا مال إذا أتته صدقة بعث بها إليهم لم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أرجو أن أصيب من هذا شربة أتقوى بها فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا جاؤا فأمرني فكنت أنا أعطيهم فما عسى أن يبلغ مني هذا اللبن فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا حتى استأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت فقال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال خذ فأعطهم فأخذت القدح فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فأعطيه آخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلي فتبسم وقال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال بقيت أنا وأنت قلت صدقت يا رسول الله قال فاقعد واشرب فشربت فما ذال يقول اشرب فأشرب حتى قلت والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وشرب الفضل قال فقد استأذن أهل الصفة وقد جاؤا مع الرسول ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وهذا مخالف لحديث أبي هريرة عن النبي ص

- أن رسول الرجل إلى الرجل إذنه قيل له ليسا مختلفين لأن قوله ص - إباحة للدخول مع الرسول وليس فيه كراهية الإستئذان بل هو مخير حينئذ وإذا لم يكن مع الرسول وجب حينئذ الإستئذان والذي يدل على أن الإذن مشروط في قوله حتى تستأنسوا قوله في نسق التلاوة فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم فحظر الدخول إلا بالإذن فدل على أن الإذن مشروط في إباحة الدخول في الآية الأولى وأيضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخبار التي قدمناها إنما جعل الإستئذان من أجل النظر فدل على أنه لا يجوز النظر في دار أحد إلا بإذنه وقد روي في ذلك ضروب من التغليظ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا حماد عن عبيدالله بن أبي بكر عن أنس بن مالك أن رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمشقص أو بمشاقص قال فكأني أنظر إلى رسول الله يختله ليطعنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن قال حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير عن الوليد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا دخل البصر

 

فلا إذن وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه قال حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه قال أبو بكر والفقهاء على خلاف ظاهره لأنهم يقولون أنه ضامن من إذا فعل ذلك وهذا من أحاديث أبي هريرة التي ترد لمخالفتها الأصول مثل ما روي أو ولد الزنا شر الثثة وأن ولد الزنا لا يدخل الجنة ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ومن غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ هذه كلها أخبار شاذة قد اتفق الفقهاء على خلاف ظواهرها وزعم الشافعي أن من اطلع في دار غيره ففقأ عينه وهو هدر وذهب إلى ظاهر هذا الخبر ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامنا وكان عليه القصاص إن كان عامدا والأرش إن كان مخطئا ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الإطلاع الدخول وظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الإتفاق فإن صح الحديث فمعناه عندنا فيمن اطلع في دار قوم ناظرا إلى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت عنه في حال الممانعة فهذا هدر وكذلك من دخل دار قوم أو أراد دخولها فمانعوه فذهبت عينه أو شيء من أعضائه فهو هدر ولا يختلف فيه حكم الداخل والمطلع فيها من غير دخول فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم تقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته بظاهر قوله تعالى العين بالعين إلى قوله والجروح قصاص قوله تعالى فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم قد تضمن ذلك معنيين أحدهما أنه لا ندخل بيوتا غيرنا إلا بإذنه والثاني إنه إذا أذن لنا جاز الدخول واقتضى ذلك جواز قبول الإذن ممن أذن صبيا كان أو امرأة أو عبدا أو ذميا إذ لم تفرق الآية بين شيء من ذلك وهذا أصل في قبول أخبار المعاملات من هؤلاء وأنه لا تعتبر فيها العدالة ولا تستوفي فيها صفات الشهادة ولذلك قبلوا أخبار هؤلاء في الهدايا والوكالات ونحوهما

باب

في الإستئذان على المحارم

روى شعب عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد قال سأل رجل حذيفة أأستأذن على أختي قال إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوءك وروي عن ابن عيينة عن عمرو عن عطاء قال سألت ابن عباس أأستأذن على أختي قال نعم قال قلت إنها معي في البيت وأنا أنفق عليها

 

قال استأذن عليها وروى سفيان عن مخارق عن طارق قال قال رجل لابن مسعود أأستأذن على أمي قال نعم وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم - قال أأستأذن على أمي قال نعم أتحب أن تراها عريانة وقال عمرو عن عطاء سألت ابن عباس أأستأذن على أختي وأنا أنفق عليها قال نعم أتحب أن تراها عريانة إن الله يقول يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم فلم يؤمر هؤلاء بالإستئذان إلا في العورات الثلاث ثم قال وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ولم يفرق بين من كان منه أجنبيا أو ذا رحم محرم إلا أن أمر ذوي المحارم أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوهما من الأعضاء وقوله تعالى وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم بعد قوله فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم يدل على أن للرجل أن ينهى من لا يجوز له دخول داره عن الوقوف على باب داره أو القعود عليه لقوله تعالى وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ويمتنع أن يكون المراد بذلك حظر الدخول إلا بعد الإذن لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرحا به في الآية فواجب أن يكون لقوله وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا فائدة مجددة وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره فواجب عليه التنحي عنه لئلا يتأذى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجهم وفيما ينصرف عليه أموره في داره مما لا يجب أن يطلع عليه غيره قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم 6 قال محمد بن الحنفية هي بيوت الخانات التي تكون في الطرق وبيوت الأسواق وعن الضحاك وقال الحسن وإبراهيم النخعي كانوا يأتون حوانيت السوق لا يستأذنون وقال مجاهد كانت بيوتا يضعون فيها أمتعتهم فأمروا أن يدخلوها بغير إذن وروي عنه أيضا أنه قال هي البيوت التي تنزلها السفر وروي عن أبي عبيد المحاربي قال رأيت عليا رضي الله عنه أصابته السماء وهو في السوق فاستظل بخيمة فارسي فجعل الفارسي يدفعه عن خيمته وعلي يقول إنما أستظل من المطر فجعل الفارسي يدفعه ثم أخبر الفارسي أنه علي فضرب بصدره وقال عكرمة بيوتا غير مسكونة هي البيوت الخربة لكم فيها حاجة وقال ابن جريج عن عطاء فيها متاع لكم الخلاء والبول وجائز أن يكون المراد جميع ذلك إذ كان الإستئذان في البيوت المسكونة لئلا يهجم على مالا يجب من العورة ولأن العادة قد جرت في مثله

 

بإطلاق الدخول فصار المعتاد المعارف كالمنطوق به والدليل على أن معنى إطلاق ذلك لجريان العادة في الإذن أن أصحابها لو منعوا الناس من دخول هذه البيوت كان لهم ذلك ولم يكن لأحد أن يدخلها بغير إذن ونظير ذلك فيا جرت العادة بإباحته وقام ذلك مقام الإذن فيه ما يطرحه الناس من النوى وقمامات البيوت والخرق في الطرق أن لكل أحد أن يأخذ ذلك وينتفع به وهو أيضا يدل على صحة اعتبار أصحابنا هذا المعنى في سائر ما يكون في معناه مما قد جرت العادة به وتعارفوه أنه بمنزلة النطق كنحو قولهم فيما يلحقونه برأس المال من طعام الرقيق وكسوتهم وفي حمولة المتاع أنه يلحقه برأس المال ويبيعه مرابحة فيقول قام علي بكذا وما لم تجر العادة به لا يلحقه برأس المال فقامت العادة في ذلك مقام النطق وفي نحوه قول محمد فيمن أسلم إلى خياط أو قصار ثوبا ليخيطه ويقصره ولم يشرط له أجرا أن الأجر قد وجب له إذا كان قد نصب نفسه لذلك وقامت العادة في مثله مقام النطق في أنه فعله على وجه الإجارة وقد روى سفيان عن عبدالله بن دينار قال كان ابن عمر يستأذن في حوانيت السوق قذكر ذلك لعكرمة فقال ومن يطيق ما كان ابن عمر يطيق وليس في فعله ذلك دلالة على أنه رأى دخولها بغير إذن محظورا ولكنه احتاط لنفسه وذلك مباح لكل أحد

باب

ما يجب من غض البصر عن المحرمات

قال الله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم قال أبو بكر معقول من ظاهره أنه أمر بغض البصر عما حرم علينا النظر إليه فحذف ذكر ذلك اكتفاء بعلم المخاطبين بالمراد وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن أبي الطفيل عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا علي إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو وفر منها فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ابن آدم لك أول نظرة وإياك والثانية وروى أبو زرعة عن جرير أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري قال أبو بكر إنما أراد ص

- بقوله لك النظرة الأولى إذا لم تكن عن قصد فأما إذا كانت عن قصد فهي والثانية سواء وهو على ما سأل عنه جرير من نظرة الفجاءة وهو مثل قوله إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا وقوله وقل للمؤمنات

 

يغضضن من أبصارهن هو على معنى ما نهي الرجال عنه من النظر إلى ما حرم عليه النظر إليه وقوله تعالى ويحفظوا فروجهم وقوله ويحفظن فروجهن فإنه روي عن أبي العالية أنه قال كل آية في القرآن يحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن من الزنا إلا التي في النور يحفظوا فروجهم ويحفظن فرجهن أن لا ينظر إليها أحد قال ابو بكر هذا تخصيص بلا دلالة والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم عليه من الزنا واللمس والنظر وكذلك سائر الآي المذكورة في هذا الموضع في حفظ الفروج هي على جميع ذلك ما لم تقم الدلالة على أن المراد بعض ذلك دون بعض وعسى أن يكون أبو العالية ذهب في إيجاب التخصيص في النظر لما تقدم من الأمر بغض البصر وما ذكره لا يوجب ذلك لأنه لا يمتنع أن يكون مأمورا بغض البصر وحفظ الفرج من النظر ومن الزنا وغيره من الأمور المحظورة وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فلا محالة إن اللمس والوطء مرادان بالآية إذ هما أغلظ من النظر فلو نص الله على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء واللمس كما أن قوله فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما قد اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب قوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء في قوله إلا ما ظهر منها قال ما كان في الوجه والكف الخضاب والكحل وعن ابن عمر مثله وكذلك عن أنس وروي عن ابن عباس أيضا أنها الكف والوجه والخاتم وقالت عائشة الزينة الظاهرة القلب والفتخة وقال أبو عبيدة الفتخة الخاتم وقال الحسن وجهها وما ظهر من ثيابها وقال سعيد بن المسيب وجهها مما ظهر منها وروى أبو الأحوص عن عبدالله قال الزينة زينتان زينة باطنة لا يراها إلا الزوج الإكليل والسوار والخاتم وأما الظاهرة فالثياب وقال إبراهيم الزينة الظاهرة الثياب قال أبو بكر قوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنما أراد به الأجنبيين دون الزوج وذوي المحارم لأنه قد بين في نسق التلاوة حكم ذوي المحارم في ذلك وقال أصحابنا المراد الوجه والكفان لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف فإذ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين ويدل على أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة أيضا أنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين فلو كانا عورة لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة وإذا كان

 

ذلك جاز للأجنبي أن ينظر من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة فإن كان يشتهيها إذا نظر إليها جاز أن ينظر لعذر مثل أن يريد تزويجها أو الشهادة عليها أو حاكم يريد أن يسمع إقرارها ويدل على أنه لا يجوز له النظر إلى الوجه لشهوة قوله ص -

لعلي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة وسأل جرير رسول

الله ص - عن نظرة الفجاءة فقال اصرف بصرك ولم يفرق بين الوجه وغيره فدل على انه أراد النظرة بشهوة وإنما قال لك الأولى لأنها ضرورة وليس لك الآخرة لأنها اختيار وإنما أباحوا النظر إلى الوجه والكفين وإن خاف أن يشتهي لما ذكرنا من الأعذار للآثار الواردة في ذلك منها ما روى أبو هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -

انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا يعني الصغر وروى جابر عن النبي ص

- إذا خطب أحدكم فقدر على أن يرى منها ما يعجبه ويدعوه إليها فليفعل وروى موسى بن عبدالله بن يزيد عن أبي حميد وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم -

قال قال رسول الله ص

- إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وروى سليمان بن أبي حثمة عن محمد بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

مثله وروى عاصم الأحول عن بكير بن عبدالله عن المغيرة بن شعبة قال خطبنا

امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم - نظرت إليها فقلت لا فقال انظر فإنه لأجدر أن يؤدم بينكما فهذا كله يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفيها بشهوة إذا أراد أن يتزوجها ويدل عليه أيضا قوله لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن ويدل على أن النظر إلى وجهها بشهوة محظور قوله ص - العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه وقول ابن مسعود في أن ما ظهر منها هو الثياب لا معنى له لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها فعلمنا أن المراد موضع الزينة كما قال في نسق التلاوة بعد هذا ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن والمراد موضع الزينة فتأويلها على الثياب لا معنى له إذ كان ما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها قوله تعالى وليضربن بخمرهن على جيوبهن روت صفية بنت شيبة عن عائشة أنها قالت نعم النساء نساء الأنصار لم يكن

 

يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين وأن يسئلن عنه لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز مناطقهن فشققنه فاختمرن به قال أبو بكر قد قيل إنه أراد حيب الدروع لأن النساء كن يلبسن الدروع ولها جيب مثل جيب الدراعة فتكون المرأة مكشوفة الصدر والنحر إذا لبستها فأمرهن الله بستر ذلك الموضع بقوله وليضربن بخمرهن على جيوبهن وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها قوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن الآية قال أبو بكر ظاهره يقتضي إباحة إبداء الزينة للزوج ولمن ذكر معه من الآباء وغيرهم ومعلوم أن المراد موضع الزينة وهو الوجه واليد والذراع لأن فيها السوار والقلب والعضد وهو موضع الدملج والنحر والصدر موضع القلادة والساق موضع الخلخال فاقتضى ذلك إباحة النظر للمذكورين في الآية إلى هذه المواضع وهي مواضع الزينة الباطنة لأنه خص في أول الآية إباحة الزينة الظاهرة للأجنبيين وأباح للزوج وذوي المحارم النظر إلى الزينة الباطنة وروي عن ابن مسعود والزبير القرط والقلادة والسوار والخلخال وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم أو أبناء بعولتهن قال ينظر إلى ما فوق الذراع من الأذن والرأس قال أبو بكر لا معنى لتخصيص الأذن والرأس بذلك إذ لم يخصص الله شيئا من مواضع الزينة دون شيء وقد سوى في ذلك بين الزوج وبين من ذكر معه فاقتضى عمومه إباحة النظر إلى مواضع الزينة لهؤلاء المذكورين كما اقتضى إباحتها للزوج ولما ذكر الله تعالى مع الآباء ذوي المحارم الذين يحرم عليهم نكاحهن تحريما مؤبدا دل ذلك على أن من كان في التحريم بمثابتهم فحكمه حكمهم مثل زواج الإبنة وأم المرأة والمحرمات من الرضاع ونحوهن وروي عن سعيد بن جبير أنه سئل عن الرجل ينظر إلى شعر أجنبية فكرهه وقال ليس في الآية قال أبو بكر أنه وإن لم يكن في الآية فهو في معنى ما ذكر فيها من الوجه الذي ذكرنا وهذا الذي ذكر من تحريم النظر في هذه الآية إلا ما خص منه إنما هو مقصور على الحرائر دون الإماء وذلك لأن الإماء لسائر الأجنبيين بمنزلة الحرائر لذوي محارمهن فيما يحل النظر إليه فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثديها كما يجوز لذوي المحرم النظر إلى ذات محرمه لأنه لا خلاف أن للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وروي أن عمر كان يضرب الإماء ويقول اكشفن رؤسكن ولا تتشبهن بالحرائر

 

فدل على أنهن بمنزلة ذوات المحارم ولا خلاف أيضا أنه يجوز للأمة أن تسافر بغير محرم فكان سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر حين جاز لهم السفر بهن ألا ترى إلى قوله ص - لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج فلما جاز للأمة أن تسافر بغير محرم علمنا أنها بمنزلة الحرة لذوي محرمها فيما يستباح النظر إليه منها وقوله لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج دال على اختصاص ذي المحرم باستباحة النظر منها إلى كل ما لا يحل للأجنبي وهو ما وصفنا بديا وروى منذر الثوري أن محمد بن الحنفية كان يمشط أمه وروى أبو البختري أن الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمشط وعن ابن الزبير مثله في ذات محرم منه وروي عن إبراهيم أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وأخته وخالته وعمته وكره الساقين قال أبو بكر لا فرق بينهما في مقتضى الآية وروى هشام عن الحسن في المرأة تضع خمارها عند أخيها قال والله مالها ذلك وروى سفيان عن ليث عن طاوس أنه كره أن ينظر إلى شعر ابنته وأخته وروى جرير عن مغيرة عن الشعبي أنه كره أن يسدد الرجل النظر إلى شعر ابنته وأخته قال أبو بكر وهذا عندنا محمول على الحال التي يخاف فيها أن تشتهى لأنه لو حمل على الحال التي يأمن فيها الشهوة لكان خلاف الآية والسنة ولكان ذو محرمها والأجنبيون سواء والآية أيضا مخصوصة في نظر الرجال دون النساء لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر من الرجل وهو السرة فما فوقها وما تحت الركبة والمحظور عليهن من بعضهن لبعض ما تحت السرة إلى الركبة وقوله تعالى أو نسائهن روي أنه أراد نساء المؤمنات وقوله أو ما ملكت أيمانهن تأوله ابن عباس وأم سلمة وعائشة أن للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته قالت عائشة وإلى شعر غير مولاته روي أنها كانت تمتشط والعبد ينظر إليها وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب أن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو مذهب أصحابنا إلا أن يكون ذا محرم وتأولوا قوله أو ما ملكت أيمانهن على الإماء لأن العبد والحر في التحريم سواء فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها فإن ذلك تحريم عارض كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعر أختها وكمن عنده أربع

 

نسوة سائر النساء محرمات عليه في الحال ولا يجوز له أن يستبيح النظر إلى شعورهن فلما لم يكن تحريمها على عبدها في الحال تحريما مؤبدا كان العبد بمنزلة سائر الأجنبيين وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم والعبد ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن تسافر بها وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي فإن قيل هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع قيل له ليس كذلك لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله أو نسائهن وأراد بهن الحرائر المسلمات فجاز أن يظن ظان أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى ما يجوز للحرة النظر إليه منها فأبان تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء وإنما خص نساءهن بالذكر في هذا الموضع لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال بقوله ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن إلى أخر ما ذكر فكان جائزا أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كن ذوات محارم أو غير ذوات محارم ثم عطف على ذلك الإماء بقوله أو ما ملكت أيمانهن لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله أو نسائهن يقتضي الحرائر دون الإماء كما كان قوله وأنكحوا الأيامى منكم على الحرائر دون المماليك وقوله شهيدين من رجالكم الأحرار لإضافتهم إلينا كذلك قوله أو نسائهن على الحرائر ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر وقوله تعالى أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد قالوا الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء وقال عكرمة هو العنين وقال مجاهد وطاوس وعطاء والحسن هو الأبله وقال بعضهم هو الأحمق الذي لا أرب له في النساء وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة قالت فدخل رسول الله ص

- ذات يوم وهو ينعت امرأة فقال لا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكن فحجبوه وروى هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

دخل عليها وعنده مخنث فأقبل على أخي أم سلمة فقال يا عبد الله لو فتح

الله لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان

 

فقال لا أرى هذا يعرف ما ههنا لا يدخل عليكم فأباح النبي صلى الله عليه وسلم -

دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة فلم علم أنه يعرف أحوال

النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه وقوله تعالى أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء

قال

مجاهد هم الذين لا يدرون ما هن من الصغر وقال قتادة الذين لم يبلغوا الحلم منكم قال أبو بكر قول مجاهد أظهر لأن معنى أنهم لم يظهروا على عورات النساء إنهم لا يميزون بين عورات النساء والرجال لصغرهم وقلة معرفتهم بذلك وقد أمر الله تعالى الطفل الذي قد عرف عورات النساء بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم وأراد به الذي عرف ذلك واطلع على عورات النساء والذي لا يؤمر بالاستئذان أصغر من ذلك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع فلم يأمر بالتفرقة قبل العشر وأمر بها في العشر لأنه قد عرف ذلك في الأكثر الأعم ولا يعرفه قبل ذلك في الأغلب وقوله تعالى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن روى أبو الأحوص عن عبدالله قال هو الخلخال وكذلك قال مجاهد إنما نهيت أن تضرب برجلها ليسمع صوت الخلخال وذلك قوله ليعلم ما يخفين من زينتهن قال أبو بكر قد عقل من معنى اللفظ النهي عن إبداء الزينة وإظهارها لورود النص في النهي عن سماع صوتها إذ كان إظهار الزينة أولى بالنهي مما يعلم به الزينة فإذا لم يجز بأخفى الوجهين لم يجز بأظهرهما وهذا يدل على صحة القول بالقياس على المعاني التي قد علق الأحكام بها وقد تكون تلك المعاني تارة جلية بدلالة فحوى الخطاب عليها وتارة خفية يحتاج إلى الإستدلال عليها بأصول أخر سواها وفيه دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك وهو يدل أيضا على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذ كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة

باب الترغيب في النكاح

قال الله عز و جل وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم الآية قال

 

أبو بكر ظاهره يقتضي الإيجاب إلا أنه قد قامت الدلالة من إجماع السلف وفقهاء الأمصار على أنه لم يرد بها الإيجاب وإنما هو استحباب ولو كان ذلك واجبا لورد النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم -

ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة إليه فلما وجدنا عصر النبي ص

- وسائر الأعصار بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء فلم ينكروا ترك تزويجهم ثبت أنه لم يرد الإيجاب ويدل على أنه لم يرد الإيجاب أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه ولا تزويجها بغير أمرها وأيضا مما يدل على أنه على الندب اتفاق الجميع على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى فدل على أنه مندوب في الجميع ولكن دلالة الاية واضحة في وقوع العقد الموقوف إذ لم يخصص بذلك الأولياء دون غيرهم وكل أحد من الناس مندوب إلى تزويج الأيامى المحتاجين إلى النكاح فإن تقدم من المعقود عليهم أمر فهو نافذ وكذلك إن كانوا ممن يجوز عقدهم عليهم مثل المجنون والصغير فهو نافذ أيضا وإن لم يكن لهم ولاية ولا أمر فعقدهم موقوف على إجازة من يملك ذلك العقد فقد اقتضت الآية جواز النكاح على إجازة من يملكها فإن قيل هذا يدل على أن عقد النكاح إنما يليه الأولياء دون النساء وإن عقودهن على أنفسهن غير جائزة قيل له كذلك لأن الآية لم تخص الأولياء بهذا الأمر دون غيرهم وعمومه يقتضي ترغيب سائر الناس في العقد على الأيامى ألا ترى أن اسم الأيامى ينتظم الرجال والنساء وهو في الرجال لم يرد به الأولياء دون غيرهم كذلك في النساء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أخبار كثيرة في الترغيب في النكاح منها ما رواه ابن عجلان عن المقبري عن

أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف وروى إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وقال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وعن شداد بن أوس أنه قال لأهله زوجوني فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن لا ألقى الله أعزب وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خلاد عن سفيان عن عبدالرحمن بن زياد عن عبدالله بن يزيد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر

قال حدثنا

 

سعيد بن منصور قال حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عبيد بن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح قال إبراهيم بن ميسرة ولا أقول لك إلا ما قال عمر لأبي الزوائد ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور فإن قيل قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم عمومه يقتضي تزويج الأب ابنته البكر الكبيرة ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج البنت الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها بغير رضاها لعموم الآية قيل له معلوم أن قوله وأنكحوا الأيامى منكم لا يختص بالنساء دون الرجال لأن الرجل يقال له أيم والمرأة يقال لها أيمة وهو اسم للمرأة التي لا زوج لها والرجل الذي لا امرأة له قال الشاعر ... فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم ...

وقال آخر ... ذريني على أيم منكم وناكح ...

وقال عمر بن الخطاب ما رأيت مثل من يجلس أيما بعد هذه الآية وأنكحوا الأيامى منكم التمسوا الغنا في الباه فلما كان هذا الاسم شاملا للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء أيضا وأيضا قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم - باستئمار البكر بقوله البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر وذلك على الوجوب فلا يجوز تزويجها إلا بإذنها وأيضا فإن حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها وإنما أراد به البكر لأن البكر هي التي يكون سكوتها رضا وحديث ابن عباس في فتاة بكر زوجها أبوها بغير أمرها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال النبي ص

- أجيزي ما صنع أبوك وقد بينا هذه المسألة فيما سلف قوله تعالى والصالحين من عبادكم وإمائكم فيه دلالة على أن للمولى أن يزوج عبده وأمته بغير رضاهما وأيضا لا خلاف أنه غير جائز للعبد والأمة أن يتزوجا بغير إذن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر فثبت أن العبد والأمة لا يملكان ذلك فوجب أن يملك المولى منهما ذلك كسائر العقود التي لا يملكانها ويملكها المولى عليهما وقوله تعالى إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله خبر والمخبر الله تعالى ولا محالة على ما يخبر به فلا يخلو ذلك من أحد وجهين إما أن يكون خاصا في بعض المذكورين دون بعض إذ قد وجدنا من

 

يتزوج ولا يستغني بالمال وإما أن يكون المراد بالغنى العفاف فإن كان المراد خاصا فهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون أو يكون عاما فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والإستغناء به عن تعديه إلى المحظور فلا دلالة فيه إذا على أن العبد يملك وقد بينا مسألة ملك العبد في سورة النحل

باب

المكاتبة

قال الله تعالى والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا روي عن عطاء قال ما أراه إلا واجبا وهو قول عمرو بن دينار وروي عن عمر أنه أمر أنسا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى فرفع عليه الدرة وضربه وقال فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وحلف عليه ليكاتبنه وقال الضحاك إن كان للمملوك مال فعزيمة على مولاه أن يكاتبه وروى الحجاج عن عطاء قال إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب إنما هو تعليم وكذلك قوله الشعبي قال أبو بكر هذا ترغيب عند عامة أهل العلم وليس بإيجاب وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وما روي عن عمر في قصة سيرين يدل على ذلك أيضا لأنها لو كانت واجبة لحكم بها عمر عليه ولم يكن يحتاج أن يحلف على أنس لمكاتبته ولم يكن أنس أيضا يمتنع من شيء واجب عليه فإن قيل لو لم يكن يراها واجبة لما رفع عليه الدرة ولم يضربه قيل لأن عمر رضي الله عنه كان كالوالد المشفق للرعية فكان يأمرهم بما لهم فيه الحظ في الدين وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة ويدل على أنها ليست على الوجوب أنه موكول إلى غالب ظن المولى أن فيهم خيرا فلما كان المرجع فيه للمولى لم يلزمه الإجبار عليه وقوله إن علمتم فيهم خيرا روى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم - فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا إن علمتم لهم حرفة ولا تدعوهم كلا على الناس وذكر ابن جريج عن عطاء إن علمتم فيهم خيرا قال ما نراه إلا المال ثم تلا قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا قال الخير المال فيما نرى قال وبلغني عن ابن عباس يعني بالخير المال وروى ابن سيرين عن عبيدة إن علمتم فيهم خيرا قال إذا صلى وعن إبراهيم وفاء وصدقا وقال مجاهد مالا وقال الحسن صلاحا في الدين قال أبو بكر الأظهر أنه أراد الصلاح فينتظم ذلك الوفاء والصدق وأداء الأمانة لأن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في

 

الدين ولو أراد المال لقال إن علمتم لهم خيرا لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال وأيضا فإن العبد لا مال له فلا يجوز أن يتأول عليه وما روي عن عبيدة إذا صلى فلا معنى له لأنه جائز مكاتبة اليهودي والنصراني بالآية وإن لم تكن لهم صلاة وقوله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم اختلف أهل العلم في المكاتب هل يستحق على مولاه أن يضع عنه شيئا من كتابته فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري إن وضع عنه شيئا فهو حسن مندوب إليه وإن لم يفعل لم يجبر عليه وقال الشافعي هو على الوجوب وروي عن ابن سيرين في قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال كان يعجبهم أن تدعو له طائفة من مكاتبته قال أبو بكر ظاهر قوله كان يعجبهم أنه أراد به الصحابة وكذلك قول إبراهيم كانوا يكرهون وكانوا يقولون الظاهر من قول التابعي إذا قال ذلك أنه أراد به الصحابة فقول ابن سيرين يدل على أن ذلك كان عند الصحابة على الندب لا على الإيجاب لأنه لا يجوز أن يقال في الإيجاب كان يعجبهم وروى يونس عن الحسن وإبراهيم وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال حث عليه مولاه وغيره وروى مسلم بن أبي مريم عن غلام عثمان بن عفان قال كاتبني عثمان ولم يحط عني شيئا قال أبو بكر ويحتمل أن يريد بقوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ما ذكره في آية الصدقات من قوله وفي الرقاب وقد روى أن رجلا قال للنبي ص - علمني عملا يدخلني الجنة قال أعتق النسمة وفك الرقبة قال أليسا واحدا قال عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها وهذا يدل على أن قوله وفي الرقاب قد اقتضى إعطاء المكاتب فاحتمل أن يكون قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم دفع الصدقات الواجبات وأفاد بذلك جواز دفع الصدقة إلى المكاتب وإن كان مولاه غنيا ويدل عليه أنه أمر بإعطائه من مال الله وما أطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب وهذا يدل على أنه أراد مالا هو ملك لمن أمر بإيتائه وإن سبيله الصدقة وذلك الصدقات الواجبة في الأموال ويدل عليه قوله من مال الله الذي آتاكم وهو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح وعلى قول من يوجب حط بعض الكتابة ينبغي أن يسقط بعد عقد الكتابة وذلك خلاف موجب الآية من وجوه أحدها أنه إذا سقط لم يحصل مالا لله قد آتاه المولى

 

والثاني أن ما أتاه فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه وما سقط عقيب العقد لا يمكنه التصرف فيه ولم يحصل له عليه بل لا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه وأيضا لو كان الإيتاء واجبا لكان وجوبه متعلقا بالعقد فيكون العقد هو الموجب له وهو المسقط وذلك مستحيل لأنه إذا كان العقد يوجبه وهو بعينه مسقط استحال وجوبه لتنافي الإيجاب والإسقاط فإن قيل ليس يمتنع ذلك في الأصول لأن الرجل إذا زوج أمته من عبده يجب عليه المهر بالعقد ثم يسقط في الثاني قيل له ليس كذلك لأنه ليس الموجب له هو المسقط له إذا كان الذي يوجبه هو العقد والذي يسقطه هو حصول ملكه للمولى في الثاني فالموجب له غير المسقط وكذلك من اشترى أباه فعتق عليه فالموجب للملك هو الشرى والموجب للعتاق حصول الملك مع النسب ولم يكن الموجب له هو المسقط وقد حكى عن الشافعي أن الكتابة ليست بواجبة وأن يضع عنه بعد الكتابة واجب أقل ما يقع عليه اسم شيء ولو مات المولى قبل أن يضع عنه وضع الحاكم عنه أقل ما يقع عليه اسم شيء قال أبو بكر فلو كان الحط واجبا لما احتاج أن يضع عنه بل يسقط القدر المستحق كمن له على إنسان دين ثم صار للمدين عليه مثله أنه يصير قصاصا ولو كان كذلك لحصلت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحط مجهول فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء وذلك غير جائز وجملة ذلك أن الإيتاء لو كان فرضا لسقط ثم لا يخلو من أن يكون ذلك القدر معلوما أو مجهولا فإن كان معلوما فالواجب أن تكون الكتابة بما بقي فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف درهم والكتابة أربعة آلاف درهم وذلك فاسد من وجهين أحدهما أنه لا يصح الإشهاد على الكتابة بأربعة آلاف درهم ومع ذلك فلا معنى لذكر شيء لا يثبت وأيضا فإنه يعتق بأقل مما شرط وهذا فاسد لأن أداء جميعها مشروط فلا يعتق بأداء بعضها وأيضا فإن الشافعي قال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فالواجب إذا أن لا يسقط شيء ولو كان الإيتاء مستحقا لسقط وإن كان الإيتاء مجهولا فالواجب أن يسقط ذلك القدر فتبقى الكتابة على مال مجهول فإن قيل روى عطاء السائب عن أبي عبدالرحمن أنه كاتب غلاما له فترك له ربع مكاتبته وقال إن عليا كان يأمرنا بذلك ويقول هو قول الله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم وروي عن مجاهد أنه قال تعطيه ربعا من جميع مكاتبته تعجله من مالك قيل له هذا يدل على أنهم لم يروا ذلك

 

واجبا وأنه على وجه الندب لأنه لو كان واجبا عندهم لسقط بعد عقد الكتابة هذا القدر إذ كان المكاتب مستحقا له ولم يكن المولى يحتاج إلى أن يعطيه شيئا فإن قيل قد يجوز أن يجب عليه مال الكتابة مؤجلا ويستحق هو على المولى أن يعطيه من ماله مقدار الربع فلا يصير قصاصا بل يستحق على المولى تعجيله فيكون مال الكتابة إلى أجله كمن له على رجل دين مؤجل فيصير للمدين على الطالب دين حال فلا يصير قصاصا له قيل له إن الله تعالى لم يفرق بين الكتابة الحالة والمؤجلة وكذلك من روى عنه من السلف الحط لم يفرقوا بين الحالة والمؤجلة ولم يفرق أيضا بين أن يحل مال الكتابة المؤجل وبين أن لا يحل فيما ذكروا من الحط والإيتاء فعلمنا أنه لم يرد به الإيجاب إذ لم يجعله قصاصا إذا كانت حالة أو كانت مؤجلة فحلت وأوجب الإيتاء في الحالين والإيتاء هو الإعطاء وما يصير قصاصا لا يطلق فيه الإعطاء ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما روى يونس والليث عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت جاءتني بريرة فقالت يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي فعلت فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال لا يمنعك منها ابتاعي واعتقي فإنما الولاء لمن اعتق وذكر الحديث وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحوه فلما لم تكن قضت من كتابتها شيئا وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها كلها وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم - النكير عليها ولم يقل أنها تستحق أن يحط عنها بعض كتابتها أو أن يعطيها المولى شيئا من ماله ثبت أن الحط من الكتابة على الندب لا على الإيجاب لأنه لو كان واجبا لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم - ولقال لها ولم تدفعي إليهم مالا يجب لهم عليها ويدل عليه أيضا ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أن جويرية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقالت إني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أولا بن عم له فكاتبته فجئت

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أستعينه على كتابتي فقال فهل لك في خير من ذلك فقالت وما هو يا رسول الله فقال أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت نعم قد فعلت ففي هذا الحديث أنه بذل لجويرية أداء جميع كتابتها عنها إلى مولاها ولو كان الحط واجبا لكان الذي يقصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بالأداء

 

عنها باقي كتابتها وقد روى عن عمر وعثمان والزبير ومن قدمنا قولهم من السلف أنهم لم يكونوا يرون الحط واجبا ولا يروى عن نظرائهم خلافه وما روي عن علي فيه فقد بينا أنه يدل على أنه رآه ندبا لا إيجابا ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر

قال

حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني عبدالصمد قال حدثنا همام قال حدثنا عباس الجريري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه بقدره وفي ذلك دلالة على أنه غير مستحق والله أعلم

باب الكتابة الحالة

قال الله تعالى قكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا فاقتضى ذلك جوازها حالة ومؤجلة لإطلاقه ذلك من غير شرط الأجل والاسم يتناولها في حال التعجيل والتأجيل كالبيع والإجارة وسائر العقود فواجب جوازها حالة لعموم اللفظ وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد تجوز الكتابة الحالة فإن إداها حين طلبها المولى منه وإلا رد في الرق وقال ابن القاسم عن مالك في رجل قال كاتبوا عبدي على ألف ولم يضرب لها أجلا أنها تنجم على المكاتب على قدر ما يرى من كتابة مثله وقدر قوته قال فالكتابة عند الناس منجمة ولا تكون حالة إن أبى ذلك السيد وقال الليث إنما جعل التنجيم على المكاتب رفقا بالمكاتب ولم يجعل ذلك رفقا بالسيد وقال المزني عن الشافعي لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين قال أبو بكر قد ذكرنا دلالة الآية على جوازها حالة وأيضا لما كان مال الكتابة بدلا عن الرقبة كان بمنزلة أثمان الأعيان المبيعة فتجوز عاجلة وآجلة وأيضا لا يختلفون في جواز العتق على مال حال فوجب أن تكون الكتابة مثله لأنه يدل على العتق في الحالين إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل فوجب أن لا يختلف حكمهما في جوازهما على بدل عاجل فإن قيل العبد لا يملك فيحتاج بعد الكتابة إلى مدة يمكنه الكسب فيها فوجب أن لا تجوز إلا مؤجلة إذ كانت تقتضي الأداء ومتى امتنع الأداء لم تصح الكتابة قيل له هذا غلط لأن عقد الكتابة يوجب ثبوت المال في ذمته للمولى ويصير بها المكاتب في يد نفسه ويملك اكتسابه وتصرفه وهو بمنزلة سائر الديون الثابتة في الذمم التي يجوز العقد

 

عليها ولو كانت هذه علة صحيحة لوجب أن لا يجوز العتق على مال حال لأنه لم يكن مالكا لشيء قبل العقد وإن جاز ذلك لأنه يملك في المستقبل بعد العتق فكذلك المكاتب يملك إكسابه بعقد الكتابة ولوجب أيضا أن لا يجوز شرى الفقير لابنه بثمن حال لأنه لا يملك شيئا وأن يعتق عليه إذا ملكه فلا يقدر على الأداء فإن قلت إنه يملك أن يستقرض قلنا في المكاتب مثله

باب

الكتابة من غير ذكر الحرية

قال

أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك بن أنس إذا كاتبه على ألف درهم ولم يقل إن أديت فأنت حر فهو جائز ويعتق بالأداء وقال المزني عن الشافعي إذا كاتبه على مائة دينار إلى عشر سنين كذا كذا نجما فهو جائز ولا يعتق حتى يقول في الكتابة إذا أديت هذا فأنت حر ويقول بعد ذلك إن قولي قد كاتبتك كان معقودا على أنك إذا أديت فأنت حر قال أبو بكر قوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا يقتضي جوازها من غير شرط الحرية ويتضمن الحرية لأن الله تعالى لم يقل فكاتبوهم على شرط الحرية فدل على أن اللفظ يتضمنها كلفظ الخلع في تضمنه للطلاق ولفظ البيع فيما يتضمن من التمليك والإجارة فيما يقتضيه من تمليك المنافع والنكاح في اقتضائه تمليك منافع البضع ويدل عليه أيضا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواقي فهو رقيق فأجاز الكتابة مطلقة على هذا الوجه من غير شرط حرية فيها وإذا صحت الكتابة مطلقة من غير شرط حرية وجب أن يعتق بالأداء لأن صحة الكتابة تقتضي وقوع العتق بالأداء

باب المكاتب متى يعتق

قال أبو بكر حكى أبو جعفر الطحاوي عن بعض أهل العلم أنه حكى عن ابن عباس أن المكاتب يعتق بعقد الكتابة وتكون الكتابة دينا عليه قال أبو جعفر لم نجد لذلك إسنادا ولم يقل به أحد نعلمه قال وقد روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال يؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي عليه دية عبد ورواه أيضا يحيى ابن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس وقال ابن عمر وزيد ين ثابث وعائشة وأم سلمة

 

وإحدى الروايتين عن عمر أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وروي عن عمر أنه إذا أدى النصف فهو غريم ولا رق عليه وقال ابن مسعود إذا أدى ثلثا أو ربعا فهو غريم وهو قول شريح وروى إبراهيم عن عبدالله أنه إذا أدى قيمة رقبته فهو غريم قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا أبو بدر قال حدثنا سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم ومن جهة النظر أن الأداء لما كان مشروطا في العتق وجب أن لا يعتق إلا بأداء الجميع كالعتق المعلق على شرط لا يقع إلا بوجود كمال الشرط ألا ترى أنه إذا قال إذا كلمت فلانا وفلانا فأنت حر أن العتق لا يقع إلا بكلامهما ويدل عليه أنه لما كان مال الكتابة بدلا من العتق لم يخل ذلك من أحد وجهين إما أن يوقع العتق بنفس العقد وذلك خلاف السنة والنظر على ما بينا أو أن يوقعه بعد الأداء فيكون بمنزلة البياعات التي لا يستحق تسليمها إلا بأداء جميع الثمن فثبت حين لم يقع بالعقد أنه لا يقع إلا بأداء الجميع واختلفوا في المكاتب إذا مات وترك وفاء فقال علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن الزبير تؤدى كتابته بعد موته ويعتق وهو قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن أبي ليلى وابن شبرمة وعثمان البتي والثوري والحسن ابن صالح وقالوا إن فضل شيء فهو ميراث لورثته فإن لم يترك وفاء وترك ولدا وافى كتابته سعوا فيما على أبيهم من النجوم وقال مالك والليث إن ترك ولدا قد دخلوا في كتابته سعوا فيها على النجوم وعتق المكاتب وولده وإن لم يترك من دخل في كتابته فقد مات عبدا لا تؤدى كتابته من ماله وجميع ماله للمولى وقال الشافعي إذا مات وقد بقي عليه درهم فقد مات عبدا لا يلحقه عتق بعد ذلك وروي عن ابن عمر أن جميع ماله لسيده ولا تؤدى منه كتابته قال أبو بكر لا تخلوا الكتابة من أن تكون في معنى الأيمان المعقودة على شروط يبطلها موت المولى أو العبد أيهما كان مثل أن يقول إن دخلت الدار فأنت حر ثم يموت المولى أو العبد فيبطل اليمين ولا يعتق بالشرط أو أن تكون في معنى عقود البياعات التي لا تبطلها الشروط فلما كان موت المولى لا يبطل الكتابة ويعتق بالأداء إلى الورثة وجب أن لا يبطله موت العبد أيضا ما دام الأداء ممكنا وهو أن يترك وفاء فتؤدى كتابته من ماله ويحكم بعتقه قبل الموت بلا فصل فإن قيل لا يصح

 

عتق الميت وقد علمنا أنه مات عبدا لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم قيل له إذا مات وترك وفاء فحكمه موقوف مراعى فإن أديت كتابته حكمنا بأنه كان حرا قبل الموت بلا فصل كما أن الميت لا يصح منه إيقاع عتق بعد الموت ثم إذا مات المولى فأدى المكاتب الكتابة حكمنا بعتق موقع من جهة الميت ويكون الولاء له وليس يمتنع في الأصول نظائر ذلك من كون الشيء مراعى على معنى متى وجد حكم بوقوعه بحال متقدمة مثل من جرح رجلا فيكون حكم جراحته مراعى فلو مات الجارح ثم مات المجروح من الجراحة حكمنا بأنه كان قاتلا يوم الجراحة مع استحالة وقوع القتل منه بعد موته وكما أن رجلا لو حفر بئرا في طريق المسلمين ثم مات فوقعت فيها دابة لحقه ضمانها وصار بمنزلة جنايته قبل الموت من بعض الوجوه فلو كان ترك عبدا فأعتقه الوارث ثم وقعت فيها دابة ضمن الوارث قيمة العبد وحكمنا في باب الضمان بأن الجناية كانت موجودة يوم الموت ولو أن رجلا مات وترك حملا فوضعته لأقل من سنتين بيوم ورثه وإن كان معلوما أنه كان نطفة وقت موته ولم يكن ولدا ثم قد حكمنا له بحكم الولد حين وضعته ولو أن رجلا مات وترك ابنين وألف درهم وعليه دين ألف درهم أنهما لا يرثانه فإن مات أحد الابنين عن ابن ثم أبرأ الغريم من الدين أخذ ابن الميت منها حصته ميراثا عن أبيه ومعلوم أن الابن لم يكن مالكا له يوم الموت ولكنه جعل في حكم المالك لتقدم سببه كذلك المكاتب يحكم بعتقه عند الأداء قبل الموت بلا فصل ألا ترى أن المقتول خطأ لا تجب ديته إلا بعد الموت وهو لا يملك بعد الموت شيئا فجعلت الدية في حكم ما هو مالكه في باب كونها ميراثا لورثته وأنه يقضي منها دينه وتنفذ منها وصاياه قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا روى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال كان عبدالله بن أبي يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا فأنزل الله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء الآية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ومن يكرههن الآية قال لهن غفور رحيم قال أبو بكر أخبر تعالى أن المكرهة على الزنا مغفور لها ما فعلته على وجه الأكراه كما بين تعالى في آية أخرى أن الإكراه على الكفر يزيل حكمه إذا أظهره المكره عليه بلسانه وإنما قال إن أردن تحصنا لو أرادت الزنا ولم ترد التحصن ثم فعلته على ما ظهر من الإكراه وهي مريدة له كانت آثمة بهذه الإرادة وكان حكم الإكراه زائلا عنها في

 

الباطن وإن كان ثابتا في الظاهر وكذلك من أكره على الكفر وهو يأباه في الظاهر إلا أنه فعله مريدا له لا على وجه الأكراه كان كافرا وكذلك قال أصحابنا فيمن أكره على أن يقول الله ثالث ثلاثة على أن يشتم النبي صلى الله عليه وسلم -

فخطر بباله أن يقوله على وجه الحكاية عن الكفار أو أن يعتقد شتم محمد آخر

غير النبي صلى الله عليه وسلم - فلم يصرف قصده ونيته إلى ذلك واعتقد أن يقوله على الوجه الذي أكره عليه كان كافرا قوله تعالى الله نور السموات والأرض روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين وعن أنس هادى أهل السموات والأرض وعن ابن عباس أيضا وأبي العالية والحسن منور السموات والأرض بنجومها وشمسها وقمرها وقوله تعالى مثل نوره قال أبي بن كعب والضحاك الضمير عائد على المؤمن في قوله نوره بمعنى مثل النور الذي في قلبه بهداية الله تعالى وقال ابن عباس عائد على اسم الله بمعنى مثل نور الله الذي هدى به المؤمن وعن ابن عباس أيضا مثل نوره وهو طاعته وقال ابن عباس وابن جريج المشكاة الكوة التي لا منفذ لها وقيل إن المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وهو مثل الكوة وعن أبي بن كعب قال هو مثل ضربه الله تعالى لقلب المؤمن فالمشكاة صدره والمصباح القرآن والزجاجة قلبه قال فهو بين أربع خلال إن أعطى شكر وإن ابتلي صبر وإن حكم عدل وإن قال صدق وقال نور على نور فهو ينقلب على خمسة أنوار فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة وقيل نور على نور أي نور الهدى إلى توحيده على نور الهدى بالقرآن الذي أتى به من عنده وقال زيد بن أسلم نور على نور يضيء بعضه بعضا قوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها الآية قيل إن معناه إن المصابيح المقدم ذكرها في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو وقيل توقد في بيوت أذن الله أن ترفع وقال ابن عباس هذه البيوت هي المساجد وكذلك قال الحسن ومجاهد وقال مجاهد أن ترفع أن تعظم بذكره لأنها مواضع الصلوات والذكر وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى فقال إنها لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ في بيوت أذن الله أن ترفع قال أبو بكر يجوز أن يكون المراد الأمرين جميعا من رفعها بالبناء ومن تعظيمها جميعا لأنها مبنية لذكر الله والصلاة وهذا

 

يدل على أنه يجب تنزيهها من العقود فيها لأمور الدنيا مثل البيع والشراء وعمل الصناعات ولغو الحديث الذي لا فائدة فيه والسفه وما جرى مجرى ذلك وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وبيعكم وشراكم وإقامة حدودكم وجمروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر وقوله تعالى يسبح له فيها بالغدو والآصال قال ابن عباس والضحاك يصلى له فيها بالغداة والعشي وقال ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة وقوله تعالى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله روي عن الحسن في هذه الآية والله لقد كانوا يتبايعون في الأسواق فإذا حضر حق من حقوق الله بدأوا بحق الله حتى يقضوه ثم عادوا إلى تجارتهم وعن عطاء قال شهود الصلاة المكتوبة وقال مجاهد عن ذكر الله قال عن مواقيت الصلاة ورأى ابن مسعود أقواما يتجرون فلما حضرت الصلاة قاموا إليها قال هذا من الذين قال الله تعالى فيهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وقوله تعالى ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض فإن التسبيح هو التنزيه لله تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات فجميع ما خلقه الله منزه له من جهة الدلالة عليه والعقلاء المطيعون ينزهونه من جهة الاعتقاد والوصف له بما يليق به وتنزيهه عما لا يجوز عليه وقوله تعالى كل قد علم صلاته وتسبيحه يعني صلاة من يصلي منهم فالله يعلمها وقال مجاهد الصلاة للإنسان والتسبيح لكل شيء وقوله تعالى وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء قيل إن من الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء والثانية للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء والثالثة لتبيين الجنس إذ كان جنس تلك الجبال جنس البرد وقوله تعالى والله خلق كل دابة من ماء قيل إن أصل الخلق من ماء ثم قلب إلى النار فخلق منه الجن ثم إلى الريح فخلقت الملائكة منها ثم إلى الطين فخلق آدم منه وذكر الذي يمشي على رجلين والذي يمشي على أربع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين فترك ذكره لأن العبرة تكفي بذكر الأربع

باب

لزوم الإجابة لمن دعي إلى الحاكم

قال الله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وهذا يدل على أن من ادعى على غيره حقا ودعاه إلى الحاكم فعليه إجابته والمصير معه إليه لأن قوله

 

تعالى وإذا دعوا إلى الله معناه إلى حكم الله ويدل على أن من أتى الحاكم فادعى على غيره حقا أن على الحاكم أن يعد به ويحضره ويحول بينه وبين تصرفه وإشغاله وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا عبدالله بن شبيب قال حدثنا أبو بكر ابن شيبة قال حدثنا فليح قال حدثني محمد بن جعفر عن يحبى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن الأغر الجهني قال جئت أستعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -

على رجل لي عليه شطر تمر فقال رسول الله ص

- لأبي بكر اذهب معه فخذله حقه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا رجاء الحافظ قال حدثنا شاهين قال حدثنا روح بن عطاء عن أبيه عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح قال حدثنا يحيى عن أبي الأشهب عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من دعي إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد ابن بشر أخو خطاب قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا حاتم عن عبدالله بن محمد بن سجل عن أبيه عن أبي حدرد قال كان ليهودي على أربعة دراهم فاستعدى على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها فقال أعطه حقه قلت والذي بعثك بالحق نبيا ما أصبحت أقدر عليها قال أعطه حقه فأعدت عليه فقال أعطه حقه فخرجت معه السوق فكانت على رأسي عمامة وعلى بردة متزر بها فاتزرت بالعمامة وقال اشتر البرد فاشتراه بأربعة دراهم فهذه الأخبار مواطئة لما دلت عليه الآية وقوله تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا تأكيد لما تقدم ذكره من وجوب الإجابة إلى الحكم إذا دعوا إليه وجعل ذلك من صفات المؤمنين ودل على أن من دعي إلى ذلك فعليه الإجابة بالقول بديا بأن يقول سمعنا وأطعنا ثم يصير معه إلى الحاكم وقوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة روي عن مجاهد قال هذه طاعة معروفة منكم بالقول لا بالاعتقاد بخير عن كذبهم فيما أقسموا عليه وقيل إن المعنى طاعة وقول معروف أمثل من هذا القسم وقوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض فيه الدلالة على صحة نبوة النبي -

لأنه قصر ذلك على قوم بأعيانهم بقوله الذين آمنوا

 

منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض فوجد مخبره على ما أخبر به فيهم وفيه الدلالة على صحة إمامة الخلفاء الأربعة لأن الله استخلفهم في الأرض ومكن لهم كما جاء الوعد ولا يدخل فيهم معاوية لأنه لم يكن مؤمنا في ذلك الوقت

باب

استئذان المماليك والصبيان

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم الاية وروي ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر وسفيان عن أبي حصين عن أبي عبدالرحمن ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قالا هو في النساء خاصة وفي الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار قال أبو بكر أنكر بعضهم هذا التأويل قال لأن النساء لا يطلق فيهن الذين إذا انفردن وإنما يقال اللاتي كما قال تعالى واللائي يئسن من المحيض قال أبو بكر هذا يجوز إذا عبر بلفظ المماليك كما أن النساء إذا عبر عنهن بالأشخاص وكذلك جائز أن تذكر الإناث إذا عبرت عنهن بلفظ المماليك دون النساء ودون الإماء لأن التذكير والتأنيث يتبعان اللفظ كما تقول ثلاث ملاحف فإذا عبرت بالأزر ذكرت فقلت ثلاثة أزر فالظاهر أن المراد الذكور والإناث من المماليك وليس العبيد لأن العبيد مأمورين بالاستئذان في كل وقت ما يوجب الاقتصار بالأمر في العورات الثلاث على الإماء دونهم إذ كانوا مأمورين به حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن السرح والصباح بن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه قال أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال سمعته يقول لم يأمر بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمر وعن عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا يا ابن عباس كيف ترى هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات الآية إلى قوله عليم حكيم قال ابن عباس إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستر ولا حجاب فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل على الرجل وأهله فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات فجاءهم

 

الله بالستور والخير فلم أر أحد يعمل بذلك بعد قال أبو بكر وفي بعض ألفاظ حديث ابن عباس هذا وهو حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو فلما أتى الله بالخير واتخذوا الستور والحجاب رأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به فأخبر ابن عباس أن الأمر بالاستئذان في هذه الآية كان متعلقا بسبب فلما زال السبب زال الحكم وهذا يدل على أنه لم ير الآية منسوخة وإن مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم وقال الشعبي أيضا إنها ليست بمنسوخة وهذا نحو ما فرض الله تعالى من الميراث بالموالاة بقوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكانوا يتوارثون بذلك فلما أوجب التوارث بالنسب جعل ذوي الأنساب أولى من مولى الموالاة ومتى فقد النسب عاد ميراث المعاقدة والولاء وقال جابر بن زيد في قوله ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم أبناءهم الذين عقلوا ولم يبلغوا الحلم من الغلمان والجواري يستأذنون على آبائهم قبل صلاة الفجر وحين يقيلون ويخلون وبعد صلاة العشاء وهي العتمة فإذا بلغوا الحلم استأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم إخوانهم إذا كانوا رجالا ونساء لا يدخلون على آبائهم الا بإذن ساعة يدخلون أي ساعة كانت وروي ابن جريج عن مجاهد ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قال عبيدكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات قال من أحراركم وروي عن عطاء مثله وأنكر بعضهم هذا التأويل لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته فكيف يجمع إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين قال فالأظهر أن يكون المراد العبيد الصغار والإماء وصغارنا الذين لم يبلغوا الحلم وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم وقال سعيد ابن جبير والشعبي هذا مما تهاون به الناس وما نسخت وقال أبو قلابة ليس بواجب وهو كقوله تعالىوأشهدوا إذا تبايعتم وقال القاسم بن محمد يستأذن عند كل عورة ثم هو طواف بعدها يعني أنه يستأذن عند أوقات الخلوة والتفضل في الثياب وطرحها وهو طواف بعدها لأنها أوقات الستر ولا يستطيع الخادم والغلام والصبي الامتناع من الدخول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - في الهرة أنها من الطوافين عليكم والطوافات يعني أنه لا يستطاع الامتناع منها وروي أن رجلا قال لعمر استأذن على أمي قال نعم وكذلك قال ابن عباس وابن مسعود

 

فصل قوله تعالى والذين لم يبلغوا الحلم منكم يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم قبل ذلك لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - من جهات كثيرة رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها وأما حديث ابن عمر أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجز وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه فإنه مضطرب لأن الخندق كان في سنة خمس وأحد في سنة ثلاث فكيف يكون بينهما سنة ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويجاز غير البالغ لقوته على القتال وطاقته لحمل السلاح كما أجاز رافع بن خديج ورد سمرة بن جندب فلما قيل له إنه يصرعه أمرهما فتصارعا فصرعه سمرة فأجازه ولم يسأله عن سنه وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يسأل ابن عمر عن مبلغ سنه في الأول ولا في الثاني وإنما اعتبر حاله في

قوته وضعفه فاعتبار السن لأن النبي صلى الله عليه وسلم - أجازه في وقت ورده في وقت ساقط وقد اتفق الفقهاء على ان الاحتلام بلوغ واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها وفي الجارية سبع عشرة سنة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي في الغلام والجارية خمس عشرة سنة وذهبوا فيه إلى حديث ابن عمر وقد بينا أنه لا دلالة فيه على أنها حد البلوغ ويدل عليه أنه لم يسأله عن الاحتلام ولا عن السن ولما ثبت بما وصفنا أن الخمس عشرة ليست ببلوغ وظاهر قوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أيضا أن تكون الخمس عشرة بلوغا على الحد الذي بينا صار طريق إثبات حد البلوغ بعد ذلك الاجتهاد لأنه حد بين الصغر والكبر الذين قد عرفنا طريقهما وهو واسطة بينهما فكان طريقه الاجتهاد وليس يتوجه على القائل بما وصفنا سؤال كالمجتهد في تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لا توقيف في مقاديرها ومهور الأمثال ونحوها فإن قيل فلا بد من أن يكون اعتباره لهذا المقدار دون غيره لضرب من الترجيح على غيره يوجب تغليب ذلك في رأيه دون ما عداه من المقادير قيل له قد علمنا أن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان طريقه العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة وقد بينا

 

أن الزيادة على المعتاد من الخمس عشرة جائزة كالنقصان عنه فجعل أبو حنيفة الزيادة على المعتاد كالنقصان عنه وهي ثلاث سنين كما أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما جعل المعتاد من حيض النساء ستا أو سبعا بقوله لحمنة بنت جحش تحيضين في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر اقتضى ذلك أن يكون العادة ستا ونصفا لأنه جعل السابع مشكوكا فيه بقوله ستا أو سبعا ثم قد ثبت عندنا أن النقصان عن المعتاد ثلاث ونصف لإن أقل الحيض عندنا ثلاث وأكثره عشرة فكانت الزيادة على المعتاد بإزاء النقصان منه وجب أن يكون كذلك اعتبار الزيادة على المعتاد فيما وصفنا وقد حكي عن أبي حنيفة تسع عشرة سنة للغلام وهو محمول على استكمال ثماني عشرة والدخول في التاسع عشرة واختلف في الإثبات هل يكون بلوغا فلم يجعله أصحابنا بلوغا والشافعي يجعله بلوغا وظاهر قوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أن يكون الإثبات بلوغا ذا لم يحتلم كما نفى كون خمس عشرة بلوغا وكذلك قوله ص - وعن الصبي حتى يحتلم وهذا خبر منقول من طريق الاستفاضة قد استعمله السلف والخلف في رفع حكم القلم عن المجنون والنائم والصبي واحتج من جعله بلوغا بحديث عبدالملك بن عمير عن عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل من أنبت من بني قريظة واستحيى من لم ينبت قال فنظروا إلي فلم أكن أنبت فاستبقاني وهذا حديث لا يجوز إثبات الشرع بمثله إذ كان عطية هذا مجهولا لا يعرف إلا من هذا الخبر لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلا بالإحتلام ومع ذلك فهو مختلف الألفاظ ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه المواسي وفي بعضها من أخضر أزره ومعلوم أن لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه ولا يكون قد جرت عليه المواسي إلا وهو رجل كبير فجعل الإنبات وجرى المواسي عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا في السن وهي ثماني عشرة وأكثر وروي عن عقبة بن عامر وأبي بصرة الغفاري أنهما قسما في الغنيمة لمن نبت وهذا لا دلالة فيه على أنهما رأيا الإنبات بلوغا لإن القسمة جائزة للصبيان على وجه الرضخ وقد روي عن قوم من السلف شيء في اعتبار طول الإنسان ولم يأخذ به أحد من الفقهاء وروى محمد بن سيرين عن أنس قال أتى أبو بكر بغلام قد سرق فأمره فشبر فنقص أنملة فخلى عنه وروى قتادة عن خلاس عن علي قال إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه وإذا استعانه رجل بغير إذن أهله لم يبلغ خمسة أشبار

 

فهو ضامن وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة أن ابن الزبير أتى بوصيف لعمر بن أبي ربيعة قد سرق فقطعه ثم حدث أن عمر كتب إليه في غلام من أهل العراق فكتب إليه أن أشبره فشبره فنقص أنملة فسمى نميلة قال أبو بكر وهذه أقاويل شاذة بأسانيد ضعيفة تبعد أن تكون من أقاويل السلف إذ الطول والقصر لا يدلان على بلوغ ولا نفيه لأنه قد يكون قصيرا وله عشرون سنة وقد يكون طويلا ولم يبلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم وقوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم / يدل على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح وإن لم يكن من أهل التكليف على جهة التعليم كما أمرهم الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات وقد روى عن عبدالملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إذا بلغ الغلام سبع سنين فمروه بالصلاة وإذا بلغ عشرا فاضربوه عليها وروى

عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وفرقوا بينهم في المضاجع وعن ابن مسعود قال حافظوا على أبنائكم في الصلاة وروى نافع عن ابن عمر قال يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال كان علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا فيقال له يصلون الصلاة لغير وقتها فيقول هذا خير من أن يتناهوا عنها وروى هشام بن عروة إنه كان يأمر بنيه بالصلاة إذا عقلوها وبالصوم إذا طاقوه وروى أبو إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم قال أبو بكر إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه وكذلك يجنب شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يؤمر بذلك في الصغر وخلى وسائر شهواته وما يؤثره ويختاره يصعب عليه بعد البلوغ الإقلاع عنه وقال الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا روي في التفسير أدبوهم وعلموهم وكما ينهى عن اعتقاد الكفر والشرك وإظهاره وإن لم يكن مكلفا كذلك حكم الشرائع وقوله تعالى وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم الآية يعني أن الأطفال إذا بلغوا الحلم فعليهم الاستئذان في سائر الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم وهم المذكورون في قوله تعالىلا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها وفيه

 

دلالة على أن الاحتلام بلوغ وقوله ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض يعني بعد هذه العورات الثلاث جائز للإماء والذين لم يبلغوا الحلم أن يدخلوا بغير استئذان إذ كانت الأوقات الثلاث هي حال التكشف والخلوة وما بعدها حال الستر والتأهب لدخول هؤلاء الذين يشق عليهم الاستئذان في كل وقت لكثرة دخولهم وخروجهم وهو معنى طوافون عليكم بعضكم على بعض

في

اسم صلاة العشاء

قوله تعالى ومن بعد صلاة العشاء روي عن عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تغلبكم الأعراب على اسم صلاتكم فإن الله تعالى قال ومن بعد صلاة العشاء وإن الأعراب يسمونها العتمة وإنما العتمة عتمة الإبل للحلاب وقوله تعالى والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الآية قال ابن مسعود ومجاهد والقواعد اللاتي لا يرجون نكاحا هن اللاتي لا يردنه وثيابهن جلابيبهن وقال إبراهيم وابن جبير الرداء وقال الحسن الجلباب والمنطق وعن جابر بن زيد يضعن الخمار والرداء قال أبو بكر لا خلاف في أن شعر العجوز عورة لا يجوز للإجنبي النظر إليه كشعر الشابة وأنها إن صلت مكشوفة الرأس كانت كالشابة في فساد صلاتها فغير جائز أن يكون المراد وضع الخمار بحضرة الأجنبي فإن قيل إنما أباح الله تعالى لها بهذه الآية أن تضع خمارها في الخلوة بحيث لا يراها أحد قيل له فإذا لا معنى لتخصيص القواعد بذلك إذ كان للشابة أن تفعل ذلك في خلوة وفي ذلك دليل على أنه إنما أباح للعجوز وضع ردائها بين يدي الرجال بعد أن تكون مغطاة الرأس وأباح لها بذلك كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهي وقال تعالى وأن يستعففن خير لهن فأباح له وضع الجلباب وأخبر أن الاستعفاف بأن لا تضع ثيابها أيضا بين يدي الرجال خير لها وقوله تعالى ليس على الأعمى حرج الآية قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله وسبب نزوله فحدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال حدثنا جعفر بن محمد ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج قال لما نزلت ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال المسلمون إن الله تعالى قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل

 

وإن الطعام من أفضل أموالنا ولا يحل لأحد أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى ليس على الأعمى حرج الآية فهذا أحد التأويلات وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال كان رجال زمنى وعميان وعرجان وأولو حاجة يستتبعهم رجال إلى بيوتهم فإن لم يجدوا لهم طعاما ذهبوا إلى بيوت آبائهم ومن معهم فكره المستتبعون ذلك فنزلت لا جناح عليكم الآية وأحل لهم الطعام حيث وجدوه من ذلك فهذا تأويل ثان وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن مهدي عن ابن المبارك عن معمر قال قلت للزهري ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا ههنا فقال أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم في بيوتهم ودفعوا إليهم المفاتيح وقالوا قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب فنزلت هذه الآية رخصة لهم فهذا تأويل ثالث وروي فيه تأويل رابع وهو ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن مقسم قال كانوا يمتنعون أن يأكلوا مع الأعمى والمريض والأعرج لأنه لا ينال ما ينال الصحيح فنزلت هذه الآية وقد أنكر بعض أهل العلم هذا التأويل لأنه لم يقل ليس عليكم حرج في مؤاكلة الأعمى وإنما أزال الحرج عن الأعمى ومن ذكر معه في الأكل فهذا في الأعمى إذا أكل من مال غيره على أحد الوجوه المذكورة عن السلف وإن كان تأويل مقسم محتملا على بعد في الكلام وتأويل ابن عباس ظاهره لأن قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم 6 ولم يكن هذا تجارة وامتنعوا من الأكل فأنزل الله إباحة ذلك وأما تأويل مجاهد فهو سائغ من وجهين أحدهما أنه قد كانت العادة عندهم بذل الطعام لأقربائهم ومن معهم فكان جريان العادة به كالنطق به فأباح الله للأعمى ومن ذكر معه إذا استتبعوا أن يأكلوا من بيوت من اتبعوهم وبيوت آبائهم والثاني أن ذلك فيمن كان به ضرورة إلى الطعام وقد كانت الضيافة واجبة في ذلك الزمان لأمثالهم فكان ذلك القدر مستحقا من مالهم لهؤلاء فلذلك أبيح لهم أن يأكلوا منه مقدار الحاجة بغير إذن وقال قتادة إن أكلت من بيت صديقك بغير إذنه فلا بأس لقوله أو صديقكم وروي أن أعرابيا دخل على الحسن فرأى سفرة معلقة فأخذها وجعل يأكل منها فبكى

 

الحسن فقيل له ما يبكيك فقال ذكرت بما صنع هذا إخوانا لي مضوا يعني أنهم كانوا ينبسطون في مثل ذلك ولا يستأذنون وهذا أيضا على ما كانت العادة قد جرت به منهم في مثله وقوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم يعني والله أعلم من البيوت التي هم سكانها وهم عيال غيرهم فيها مثل أهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله فيأكل من بيته ونسبها إليهم لأنهم سكانها وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباحة للرجل أن يأكل من مال نفسه إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره وقال الله أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقرباء ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم وفقد التمانع في أمثاله ولم يذكر الأكل في بيوت الأولاد لأن قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم قد أفاده لأن مال الرجل منسوب إلى أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم - أنت ومالك لأبيك وقال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم فاكتفى بذكر بيوت أنفسكم عن ذكر بيوت الأولاد إذ كانت منسوبة إلى الآباء وقوله تعالى أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أو ما ملكتم مفاتحه قال هو الرجل يؤكل الرجل بصنعته يرخص له أن يأكل من ذلك الطعام والثمر ويشرب من ذلك اللبن وعن عكرمة في قوله أو ما ملكتم مفاتحه قال إذا ملك المفتاح فهو جائز ولا بأس أن يطعم الشيء اليسير وروى سعيد عن قتادة في قوله ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج قال كان الرجل لا يضيف أحدا ولا يأكل من بيت غيره تأثما من ذلك وكان أول من رخص الله له في ذلك ثم رخص للناس عامة فقال ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أو ما ملكتم مفاتحه مما عندك يا ابن آدم أو صديقكم ولو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالا قال أبو بكر وهذا أيضا مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها من غير استئذانها إياه لأنه متعارف أنهم لا يمنعون من مثله كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما ويتصدقان باليسير مما في أيديهما فيجوز بغير إذن المولى وقوله أوصديقكم

 

روى الأعمش عن نافع عن ابن عمر قال لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم وروى عبدالله الرصافي عن محمد بن علي قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يرى أحدهم أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه وروى إسحاق بن كثير قال حدثنا الرصافي قال كنا عند أبي جعفر يوما فقال هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه فيأخذ ماله قلنا لا قال ما أنتم بإخوان قال أبو بكر قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها من غير إذنهم فلا يكون ماله محرزا منهم فإن قيل فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه قيل له من أراد سرقة ماله لا يكون صديقا له وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وبقوله ص - لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه قال أبو بكر ليس في ذلك ما يوجب نسخه لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها وقوله لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم في سائر الناس غيرهم وكذلك قوله ص - لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا روى سعيد عن قتادة قال كان هذا الحي من كنانة بني خزيمة يرى أحدهم أنه محرم عليه أن لا يأكل وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا وروى الوليد بن مسلم قال حدثنا وحشي بن حرب عن أبيه عن جده وحشي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالوا إنا نأكل ولا نشبع قال فلعلكم تفترقون قالوا نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه وقال ابن عباس جميعا أو أشتاتا المعنى يأكل مع الفقير في بيته وقال ابو صالح كان إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا إلا معه وقيل إن الرجل كان يخاف إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام قال أبو بكر هذا تأويل محتمل وقد دل على هذا المعنى قوله ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعا ونحوه قوله فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فكان الورق لهم جميعا والطعام بينهم فاستجازوا أكله فكذلك قوله ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا يجوز أن يكون

 

مراده أن يأكلوا جميعا طعاما بينهم وهي المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار وقوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية روى معمر عن الحسن فسلموا على أنفسكم يسلم بعضكم على بعض كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وروى معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقال نافع عن ابن عمر أنه كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا كان فيه أحد قال السلام عليكم وإذا دخل المسجد قال بسم الله السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال الزهري فسلموا على أنفسكم إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه كان يأمر بذلك حدثنا أن الملائكة ترد عليه قال أبو بكر لما كان اللفظ محتملا لسائر الوجوه تأوله السلف عليها وجب أن يكون الجميع مرادا بعموم اللفظ وقوله تعالى تحية من عند الله مباركة طيبة يعني إن السلام تحية من الله لأن الله أمر به وهي مباركة طيبة لأنه دعاء بالسلام فيبقى أثره ومنفعته وفيه الدلالة على أن قوله وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها قد أريد به السلام وقوله تعالى وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه قال الحسن وسعيد بن جبير في الجهاد وقال عطاء في كل أمر جامع وقال مكحول في الجمعة والقتال وقال الزهري الجمعة وقال قتادة كل أمر هو طاعة لله قال أبو بكر هو في جميع ذلك لعموم اللفظ وقال سعيد عن قتادة إذا كانوا معه على أمر جامع الآية قال كان الله أنزل قبل ذلك في سورة براءة عفا الله عنك لم أذنت لهم فرخص له في هذه السورة فأذن لمن شئت منهم فنسخت هذه الآية التي في سورة براءة وقد قيل إنه لا معنى للإستئذان للمحدث في الجمعة لأنه لا وجه لمقامه ولا يجوز للإمام منعه فلا معنى للإستئذان فيه وإنما هو فيما يحتاج الإمام فيه إلى معونتهم في القتال أو الرأي وقوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا روي عن ابن عباس قال يعني احذروا إذا أسخطتموه دعاءه عليكم فإن دعاءه مجاب ليس كدعاء غيره وقال مجاهد وقتادة ادعوه بالخضوع والتعظيم نحو يا رسول الله يا نبي الله ولا تقولوا يا محمد كما يقول بعضكم لبعض قال أبو بكر هو على الأمرين جميعا لاحتمال اللفظ لهما وقوله تعالى قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا يعني به المنافقين الذين كانوا

 

ينصرفون عن أمر جامع من غير استئذان يلوذ بعضهم ببعض ويستتر به لئلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم - منصرفا قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم معناه فليحذر الذين يخالفون أمره ودخل عليه حرف الجر لجواز ذلك في اللغة كقوله فبما نقضهم ميثاقهم معناه فبما نقضهم ميثاقهم والهاء في أمره يحتمل أن يكون ضميرا للنبي ص - ويحتمل أن يكون ضميرا لله تعالى والأظهر أنها لله لأنه يليه وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها وفيه دلالة على أن أوامر الله على الوجوب لأنه ألزم للوم والعقاب يخالفه الأمر وذلك يكون على وجهين أحدهما أن لا يقبله فيخالفه بالرد له والثاني أن لا يفعل المأمور به وإن كان مقرا بوجوبه عليه ومعتقدا للزومه فهو على الأمرين جميعا ومن قصره على أحد الوجهين دون الآخر خصه بغير دلالة ومن الناس من يحتج به في أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم -

على الوجوب وذلك أنه جعل الضمير في أمره للنبي ص

- وفعله يسمى أمره كما قال تعالى وما أمر فرعون برشيد يعني أفعاله وأقواله وهذا ليس كذلك عندنا لأن اسم الله تعالى فيه بعد اسم النبي صلى الله عليه وسلم -

في قوله قد

يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا وهو الذي تليه الكناية فينبغي أن يكون راجعا إليه دون غيره آخر سورة النور

ومن

سورة الفرقان

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله عز و جل وأنزلنا من السماء ماء طهورا الطهور على وجه المبالغة في الوصف له بالطهارة وتطهير غيره فهو طاهر مطهر كما يقال رجل ضروب وقتول أي يضرب ويقتل وهو مبالغة في الوصف له بذلك والوضوء يسمى طهورا لأنه طهر من الحدث المانع من الصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يقبل الله صلاة بغير طهور أي بما يطهر وقال النبي ص

- جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فسماه طهورا من حيث استباح به الصلاة وقام مقام الماء فيه وقد اختلف في حكم الماء على ثلاثة أنحاء أحدها إذا خالط الماء غيره من الأشياء الطاهرة والثاني إذا خالطته نجاسة والثالث الماء المستعمل فقال أصحابنا إذا لم تخالطه نجاسة ولم يغلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء لأجل الغلبة ولم يستعمل لطهارة البدن فالوضوء به جائز فإن غلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء مثل المرق وماء الباقلاء والخل ونحوه فإن الوضوء به غير جائز وما طبخ بالماء ليكون أنقى له نحو الأشنان والصابون فالوضوء به

 

جائز إلا أن يكون مثل السويق المخلوط فلا يجزي وكذلك إن وقع فيه زعفران أو شيء مما يصبغ بصبغه وغير لونه فالوضوء به جائز لأجل غلبة الماء وقال مالك لا يتوضأ بالماء الذي يبل فيه الخبز وقال الحسن بن صالح إذا توضأ بزردج أو نشاسبتح أو بخل أجزأه وكذلك كل شيء غير لونه وقال الشافعي إذا بل فيه خبزا وغير ذلك مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق حتى يضاف إلى ما خالطه وخرج منه فلا يجوز التطهر به وكذلك الماء الذي غلب عليه الزعفران أو الأشنان وكثير من أصحابه يشرط فيه أن يكون بعض الغسل بغير الماء قال أبو بكر الأصل فيه قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق إلى قوله فلم تجدوا ماء فيه الدلالة من وجهين على قولنا أحدهما أن قوله فاغسلوا عموم في سائر المائعات بجواز إطلاق اسم الغسل فيها والثاني قوله تعالى فلم تجدوا ماء ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا فيه ماء وإن خالطه غيره وإنما أباح الله تعالى التيمم عند عدم كل جزء من ماء لأن قوله ماء اسم منكر يتناول كل جزء منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن

خالطه غيره لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك فيه وأباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطهما شيء من لعابهما وأيضا لا خلاف في جواز الوضوء بماء المد والسيل مع تغير لونه بمخالطة الطين له وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات ومن أجل مخالطة ذلك له يرى متغيرا إلى السواد تارة وإلى الحمرة والصفرة أخرى فصار ذلك أصلا في جميع ما خالطه الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء فإن قيل إذا كان الماء المنفرد عن غيره لو استعمله للطهارة ولم يكفه ثم اختلط به غيره فكفاه بالذي خالطه نحو ماء الورد والزعفران فقد حصل بعض وضوئه بما لا تجوز الطهارة به مما لو أفرده لم يطهر فلا فرق بين اختلاطه بالماء وبين إفراده بالغسل قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن ما خالطه من هذه الأشياء الطاهرة التي يجوز استعماله لغير الطهارة إذا كان قليلا سقط حكمه وكان الحكم لما غلب ألا ترى أن اللبن الذي خالطه ماء يسير لا يزول عنه اسم اللبن وأن من شرب من حب قد وقعت فيه قطرة من خمر لا يقال له شارب خمر ولم يجب عليه الحد لأن ذلك الجزء قد صار مستهلكا فيه فسقط حكمه كذلك الماء إذا كان هو الغالب والجزء الذي خالطه إذا كان يسيرا سقط حكمه ومن جهة أخرى أنه إن كانت العلة ما ذكرت فينبغي أن يجوز

 

إذا كان الماء الذي استعمله لو انفرد عما خالطه كان كافيا لطهارته إذ لا فرق بين انفراد الماء في الاستعمال وبين اختلاطه بما لا يوجب تنجيسه فإذا كان لو استعمل الماء منفردا عما خالطه من اللبن وماء الورد ونحوه وكان طهورا وجب أن يكون ذلك حكمه إذا خالطه غيره لأن مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون مستعملا للماء المفروض به الطهارة فهذا الذي ذكرته يدل على بطلان قولك وهدم أصلك وأيضا فينبغي أن تجيزه إذ أكثر غسل أعضائه بذلك الماء لأنه قد استعمل من الماء في أعضاء الوضوء ما لو انفرد نفسه كان كافيا فإن قيل قال الله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا فجعل الماء المنزل من السماء طهورا فإذا خالطه غيره فليس هو المنزل من السماء بعينه فلا يكون طهورا قيل له مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون الماء هو المنزل من السماء ألا ترى أن اختلاف الطين بماء السيل لم يخرجه من أن يكون الماء الذي فيه هو المنزل بعينه وإن لم يكن وقت نزوله من السماء مخالطا للطين وكذلك ماء البحر لم ينزل من السماء على هذه الهيئة والوضوء به جائز لأن الغالب عليه هو الماء المنزل من السماء فهو إذا مع اختلاط غيره به متطهر بالماء الذي أنزله الله من السماء وسماه طهورا فإن قيل فيجب على هذا جواز الوضوء بالماء الذي خالطته نجاسة يسيرة لأنه لم يخرج بمخالطة النجاسة إياه من أن يكون هذا الماء هو المنزل من السماء قيل له الماء المخالط للنجاسة هو باق بحاله لم يصر نجس العين فلو لم يكن هناك إلا مخالطة غيره له لما منعنا الوضوء به ولكنا منعنا الطهارة به مع كونه ماء منزلا من السماء من قبل أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة واستعمال النجاسة محظور فإنما منعنا استعمال النجاسة وليس بمحظور علينا استعمال الأشياء الطاهرة وإن خالطت الماء فإذا حصل معه استعمال الماء للطهارة جاز كمن توضأ بماء القراح ثم مسح وجهه بماء الورد أو بماء الزعفران فلا يبطل ذلك طهارته وقد أجاز الشافعي الوضوء بما ألقي فيه كافور وعنبر وهو يوجد منه ريحه وبما خالطه ورد يسير وإن وقع مثله من النجاسة في أقل من قلتين لم يجز استعماله فليس قياس النجاسة قياس الأشياء الطاهرة إذا خالطت الماء فإن قيل يلزمك أن تجيز الوضوء بالماء الذي يخالطه ما يغلب عليه شيء من الأشياء الطاهرة إذا كان الماء لو انفرد كفاء لوضوئه لأنه لو انفرد جاز ولأنه هو المنزل من السماء في حال المخالطة وإن غلب عليه غيره حتى سلبه إطلاق اسم الماء قيل له لا يجب ذلك من قبل أن

 

غلبة غيره عليه ينقله إلى حكمه ويسقط حكم القليل معه بدلالة أن قطرة من خمر لو وقعت في حق ماء فشرب منه إنسان لم يقل إنه شارب خمر ولا يجب عليه الحد ولو أن خمرا صب فيها ماء فمزجت به فكان الخمر هو الغالب لإطلاق الناس عليه أنه شارب خمر وكان حكمه في وجوب الحد عليه حكم شاربها صرفا غير ممزوجة وأما ماء الورد وماء الزعفران وعصارة الريحان والشجر فلم يمنع الوضوء به من أجل مخالطة غيره ولكن لأنه ليس بالماء المفروض به الطهارة ولا يتناوله الاسم إلا بتقييد كما سمى الله تعالى المني ماء بقوله ألم نخلقكم من ماء مهين وقال والله خلق كل دابة من ماء وليس هو من الماء المفروض به الطهارة في شيء وأما مذهب الحسن بن صالح في إجازته الوضوء بالخل ونحوه فإنه يلزمه إجازته بالمرق وبعصير العنب لو خالطه شيء يسير من ماء ولو جاز ذلك لجاز الوضوء بسائر المائعات من الأدهان وغيرها وهذا خلاف الإجماع ولو جاز ذلك لجاز التيمم بالدقيق والأشنان قياسا على التراب

فصل وأما الماء الذي خالطته نجاسة فإن مذهب أصحابنا فيه إن كل ما تيقنا فيه جزء من النجاسة أو غلب في الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والماء الراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر وليس هذا كلاما في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله ولذلك قالوا لا يجوز استعمال الماء الذي في الناحية التي فيها النجاسة وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في الماء الذي حلته نجاسة فروي عن حذيفة أنه سئل عن غدير يطرح فيه الميتة والحيض فقال توضؤا فإن الماء لا يخبث وقال ابن عباس في الجنب يدخل الحمام إن الماء لا يجنب وقال أبو هريرة رواية في الماء ترده السباع والكلاب فقال الماء لا يتنجس وقال ابن المسيب أنزل الله الماء طهورا لا ينجسه شيء وقال الحسن والزهري في البول في الماء لا ينجس ما لم يغيره بريح أو لون أو طعم وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى الماء لا ينجسه شيء وكذلك روي عن القاسم وسالم وأبي العالية وهو قول ربيعة وقال أبو هريرة روايةلا يخبث

 

أربعين دلوا شيء وهو قول سعيد بن جبير في رواية وقال عبدالله بن عمر إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء وروي عن ابن عباس أنه قال الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غربا وهو قول محمد بن كعب القرظي وقال مسروق والنخعي وابن سيرين إذا كان الماء كرا لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير رواية الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال مجاهد إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء وقال عبيد بن عمير لو أن قطرة من مسكر قطرت في قربة من الماء لحرم ذلك الماء على أهله وقال مالك والأوزاعي لا يفسد الماء بالنجاسة إلا أن يتغير طعمه أو ريحه وقد ذكر عن مالك مسائل في موت الدجاجة في البئر أنها تنزف إلا أن تغلبهم ويعيد الصلاة من توضأ به ما دام في الوقت وهذا عنده استحباب وكذلك يقول أصحابه أن كل موضع يقول فيه مالك أنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب وقال في الحوض إذا اغتسل فيه جنب أفسده وهذا ايضا عنده استحباب ترك استعماله وإن توضأ به أجزأه وكره الليث للجنب أن يغتسل في البئر وقال الحسن بن صالح لا بأس أن يغتسل الجنب في الماء الراكد الكثير القائم في النهر والسبخة وكره الوضوء بالماء بالفلاة إذا كان أقل من قدر الكر وروي نحوه عن علقمة وابن سيرين والكر عندهم ثلاثة آلاف رطل ومائتا رطل وقال الشافعي إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه وإن كان أقل يتنجس بوقوع النجاسة اليسيرة والذي يحتج به لقول أصحابنا قوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث والنجاسات لا محالة من الخبائث وقال إنما حرم عليكم الميتة والدم وقال في الخمر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ومر النبي صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما كان لا يستبرئ من البول والآخر كان يمشي بالنميمة فحرم الله هذه الأشياء تحريما مبهما ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما تيقنا فيه جزءا من النجاسة ويكون جهة الحظر من طريق النجاسة أولى من جهة الإباحة من طريق الماء المباح في الأصل لأنه متى اجتمع في شيء جهة الحظر وجهة الإباحة فجهة الحظر أولى ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما فيها مائة جزء وللآخر جزء واحد إن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فإن قيل لم غلبت جهة الحظر في النجاسة على جهة الإيجاب في استعمال الماء الذي قد حلته نجاسة إذا لم تجد

 

ماء غيره ومعلوم أن استعماله في هذه الحال واجب إذا لزمه فرض أداء الصلاة وإنما اجتمع ههنا جهة الحظر وجهة الإيجاب قيل له قولك أنه قد اجتمع فيه جهة الحظر وجهة الإيجاب خطأ لأنه إنما يجب استعمال الماء الذي لا نجاسة فيه فأما ما فيه نجاسة فلم يلزمه استعماله فإن قيل إنما يلزمه اجتناب النجاسة إذا كانت متجردة بنفسها فأما إذا كانت مخالطة للماء فليس عليه اجتنابها قيل له عموم ما ذكرنا من الآي والسنن قاض بلزوم اجتنابها في حالة الإنفراد والإختلاط ومن ادعى تخصيص شيء منه لم يجز له ذلك إلا بدلالة وأيضا فإذا كان واجدا لماء غيره لم تخالطه نجاسة فليس بواجب عليه استعمال الماء الذي فيه النجاسة وأكثر ما فيه عند مخالفنا جواز استعماله على وجه الإباحة وما ذكرناه من لزوم اجتناب النجاسة يوجب الحظر والإباحة والحظر متى اجتمعا فالحكم للحظر على ما بينا وإذا صح ذلك وكان واجدا لماء غيره وجب أن يكون ذلك حكمه إذا لم يجد غيره لوجهين أحدهما لزوم استعمال الآي الحاظرة لاستعمال النجاسات فثبت بذلك أن الحظر قد تناولها في حال اختلاطها به كهو في حال انفرادها والثاني أن أحدا لم يفرق بين حال وجود ماء غيره وبينه إذا لم يجد غيره فإذا صح لنا ذلك في حال وجود ماء غيره كانت الحال الأخرى مثله لاتفاق الجميع على امتناع الفصل بينهما ووجه آخر يوجب أن يكون لزوم اجتناب النجاسة أولى من وجوب استعمال الماء الذي هي فيه لعموم قوله فاغسلوا إذا لم يجد ماء غيره وهو أن تحريم استعمال النجاسة متعلق بعينها ألا ترى أنه ما من نجاسة إلا وعلينا اجتنابها وترك استعمالها إذا كانت منفردة والماء الذي لا نجد غيره لم يتعين فيه لزوم الاستعمال ألا ترى أنه لو أعطاه إنسان ماء غيره أو غصبه فتوضأ به كانت طهارته صحيحة فلما لم يتعين فرض طهارته بذلك وتعين على حظر استعمال النجاسة صار للزوم اجتناب النجاسة مزية على وجوب استعمال الماء الذي لا يجد غيره إذا كانت فيه النجاسة فوجب أن يكون العموم الموجب لاجتنابها أولى وأيضا لا نعلم خلافا بين الفقهاء في سائر المائعات إذا خالطه اليسير من النجاسة كاللبن والأدهان والخل ونحوه أن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير وأنه محظور عليه أكل ذلك وشربه والدلالة من هذا الأصل على ما ذكرناه من وجهين أحدهما لزوم اجتناب النجاسات بالعموم الذي قدمنا في حالي المخالطة والانفراد والآخر أن حكم الحظر وهو النجاسات كان أغلب من حكم الإباحة وهو الذي خالطه من الأشياء

 

الطاهرة ولا فرق في ذلك بين أن يكون الذي خالطه من ذلك ماء أو غيره إذ كان عموم الآي والسنن شاملة له وإذ كان المعنى وجود النجاسة فيه حظر استعماله ويدل على صحة قولنا من جهة السنة قوله ص - لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة وفي لفظ آخر ولا يغتسل فيه من جنابة ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير طعمه ولا لونه ولا رائحته ومنع النبي صلى الله عليه وسلم - منه فإن قيل إنما منع البول القليل لأنه لو أبيح لكل أحد لكثر حتى يتغير طعمه أو لونه أو رائحته فيفسد قيل له ظاهر نهيه يقتضي أن يكون القليل منهيا عنه لنفسه لا لغيره وفي حمله على أنه ليس بمنهي عنه لنفسه وإنما منع لئلا يفسد لغيره إثبات معنى غير مذكور في اللفظ ولا دلالة عليه وإسقاط حكم المذكور في نفسه وعلى أنه متى حمل على ذلك زالت فائدته وسقط حكمه لعلمنا بأن ما غير من النجاسات طعم الماء أو لونه أو رائحته محظورا استعماله بغير هذا الخبر من النصوص والإجماع فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكمه رأسا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة فمنع البائل

الإغتسال فيه بعد البول قبل أن يصير إلى حال التغير ويدل عليه قوله ص - إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة أصابته من موضع الإستنجاء ومعلوم أن مثلها إذا حلت الماء لم يغيره ولولا أنها تفسده لما كان للأمر بالإحتياط منها معنى وحكم النبي صلى الله عليه وسلم - بنجاسة ولوغ الكلاب بقوله طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا وهو لا يغيره فإن قيل قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى فلم تجدوا ماء وقوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا يدل من وجهين على جواز استعماله وإن كانت فيه نجاسة أحدهما عموم قوله تعالى حتى تغتسلوا أن ذلك يقتضي جوازه بماء حلته النجاسة وبما لم تحله والوجه الآخر قوله تعالى فلم تجدوا ماء ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا ماء إذا كانت فيه نجاسة يسيرة لم تغيره وهذا يعارض ما استدللتم به من عموم الآي والأخبار في حظر استعماله ماء خالطته نجاسة قيل له لو تعارض العمومان لكان ما ذكرنا أولى من تضمنه من الحظر والإباحة والحظر متى اجتمعا كان الحكم للحظر وعلى أن ما ذكرنا من حظر استعمال النجاسة قاض على ما ذكرت من العموم فوجب أن يكون الغسل مأمورا بماء لا نجاسة فيه ألا ترى أنه إذا غيرته كان محظورا وعموم إيجاب الحظر مستعمل فيه

 

دون عموم الأمر بالغسل وكما قضى حظره لاستعمال النجاسات على قوله لبنا سائغا للشاربين فإن كان ما حله منها يسيرا كذلك واجب أن يقضى على قوله تعالى فاغسلوا وقوله فلم تجدوا ماء واحتج من أباح ذلك بقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا وقوله وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وقوله ص - هو الطهور ماؤه والحل ميتته وصفه إياه بالتطهير يقتضي تطهير ما لاقاه فيقال له معنى قوله طهورا يعتوره معنيان أحدهما رفع الحدث وإباحة الصلاة به والآخر إزالة الأنجاس فأما نجاسة موجودة فيه لم تزلها عن نفسه فكيف يكون مطهرا لها وعلى هذا القول ينبغي أن يكون معنى قوله طهورا أنه يجعل النجاسة غير نجاسة وهذا محال لأن ما حله من أجزاء الدم والخمر وسائر الخبائث لا يخرج من أن يكون أنجاسا كما أنها إذا ظهرت فيه لم يخرج من أن يكون أعيانها نجسة ولم يكن لمجاورة الماء إياها حكم في تطهيرها فإن قيل إذا كان الماء غالبا فلم يظهر فيه فالحكم للماء كما لو وقعت فيه قطرة من لبن أو غيره من المائعات لم يزل عنه حكم الماء لوجود الغلبة ولأن تلك الأجزاء مغمورة مستهلكة فحكم النجاسة إذا حلت الماء حكم سائر المائعات إذا خالطته قيل له هذا خطأ لأن المائعات كلها لا يختلف حكما فيما تخالطها من الأشياء الطاهرة وإن الحكم للغالب منها دون المستهلكات المغمورة مما خالطها وقد اتفقنا على أن مخالطة النجاسة اليسيرة لسائر المائعات غير الماء تفسدها ولم يكن للغلبة معها حكم بل كان الحكم لها دون الغالب عليها من غيرها فكذلك الماء فإن كان الماء إنما يكون مطهرا للنجاسة لمجاورته لها فواجب أن يطهرها بالمجاورة وإن لم يكن غامرا لها وإن كان إنما يصير مطهرا لها من أجل غموره لها وغلبته عليها فقد يكون سائر المائعات إذا خالطتها نجاسة غامرة لها وغالبة عليها وكان الحكم مع ذلك للنجاسة دون ما غمرها ويدل على صحة قولنا ما اتفقوا عليه من تحريم استعماله عند ظهور النجاسة فيه فالمعنى أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة وأيضا العلم بوجود النجاسة فيه كمشاهدتنا لها كما أن علمنا بوجودها في سائر المائعات كمشاهدتنا لها بظهورها وكالنجاسة في الثوب والبدن العلم بوجودها كمشاهدتها واحتج من خالف في ذلك بحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم - سئل عن بئر بضاعة وهي تطرح فيه عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب فقال إن الماء طهور لا ينجسه شيء وبحديث أبي بصرة عن جابر وأبي سعيد الخدري قالا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في سفر فانتهينا إلى غدير فيه

 

جيفة فكففنا وكف الناس حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم -

فأخبرناه فقال استقوا فإن الماء لا ينجسه شيء فاستقينا وارتوينا وبما روي

عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الماء طهور لا ينجسه شيء والجواب عن ذلك أنه قد حكي عن الواقدي أن بئر بضاعة كانت طريقا للماء إلى البساتين فهذا يدل على أنه كان جاريا حاملا لما يقع فيه من الأنجاس وينفله وجائز أن يكون سئل عنها بعد ما نظفت من الأخباث فأخبر بطهارتها بعد ا لنزح وأما قصة الغدير فجائز أن تكون الجيفة كانت في جانب منه فأباح ص - الوضوء من الجانب الآخر وهذا يدل على صحة قول أصحابنا في اعتبار الغدير وأما حديث ابن عباس فإن أصله ما رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم -

ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له إني كنت جنبا فقال رسول الله ص

- إن الماء لا يجنب والمراد أن إدخال الجنب يده فيه لا ينجسه فجائز أن يكون الراوي سمع ذلك فنقل المعنى عنده اللفظ ويدل على أن معناه ما وصفنا أن من مذهب ابن عباس الحكم بتنجيس الماء بوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره وقد روى عطاء وابن سيرين أن زنجيا مات في بئر زمزم فأمر ابن عباس بنزحها وروى حماد عن إبراهيم عن ابن عباس قال إنما ينجس الحوض أن تقع فيه فتغتسل وأنت جنب فأما إذا أخذت بيدك تغتسل فلا بأس ولو صح أيضا هذا اللفظ احتمل أن يكون في قصة بئر بضاعة فحذف ذكر السبب ونقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم - وأيضا فإن قوله الماء طهور لا ينجسه شيء لا دلالة فيه على جواز استعماله وإنما كلامنا في جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه فليس يجوز الاعتراض به على موضع الخلاف لأنا نقول إن الماء طهور لا ينجسه شيء ومع ذلك لا يجوز استعماله إذا حلته نجاسة ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم - إن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فاستعملوه حتى تحتج به لقولك فإن قيل هذا الذي ذكرت يؤدي إلى إبطال فائدته قيل له قد سقط استدلالك بالظاهر إذا وصرت إلى أن تستدل بغيره وهو أن حمله على غير مذهبك تخلية من الفائدة ونحن نبين أن فيه ضروبا من الفوائد غير ما ادعيت من جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه فنقول إنه أفاد الماء لا ينجس بمجاورته للنجاسة ولا يصير في حكم أعيان النجاسات واستفدنا به أن الثوب والبدن إذا أصابتهما نجاسة فأزيلت بموالاة صب الماء عليها أن الباقي من الماء الذي في الثوب ليس هو في حكم الماء الذي جاوره عين النجاسة فيلحقه حكمها لأنه إنما جاور ما ليس

 

بنجس في نفسه وإنما يلحقه حكم النجاسة بمجاورته لها ولولا قوله ص - لكان جائزا أن يظن ظان أن الماء المجاور للنجاسة قد صار في حكم عين النجاسة فينجس ما جاوره فلا يختلف حينئذ حكم الماء الثاني والثالث إلى العاشر وأكثر من ذلك في كون جميعه نجاسا فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم - هذا الظن وأفاد أن الماء الذي لحقه حكم النجاسة من جهة المجاورة لا يكون في معنى أعيان النجاسات وأفادنا أيضا أن البئر إذا ماتت يه فأرة فأخرجت أن حكم النجاسة إنما لحق ما جاور الفأرة دون ما جاور هذا الماء وإن الفأرة تجعله بمنزلة أعيان النجاسات فلذلك حكمنا بتطهير بعض ما بها فإن قيل لو كان الأمر على ما ذكرت لم يكن لقوله ص - الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه معنى لأن الماء المجاور للنجاسة ليس نجس في نفسه مع ظهور النجاسة فيه قيل له هذا أيضا معنى صحيح غير ما ادعيت واستفدنا به فائدة أخرى غير ما استفدناه بالخبر الذي اقتصر فيه على قوله الماء طهور لا ينجسه شيء عاريا من ذكر الاستثناء وذلك لأنه إخبار عن حال غلبة النجاسة وسقوط حكم الماء معها فيصير الجميع في حكم أعيان النجاسات وأفاد بذلك أن الحكم للغالب كما تقول في الماء إذا مازجه اللبن أو الخل أن الحكم للأغلب منهما وقد تكلمنا في هذه المسألة وفي مسئلة القلتين في مواضع فأغنى عن إعادته ههنا

فصل وأما الماء المستعمل فإن أصحابنا والشافعي لا يجيزون الوضوء به على اختلاف منهم في الماء المستعمل ما هو وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به على كراهة من مالك له والدليل على صحة القول الأول ما روى أبو عوانة عن داود بن عبدالله الأودي عن حميد بن عبدالرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

قال نهانا رسول الله ص

- أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة و تغتسل المرأة بفضل وضوء الرجل وليفترقا وفضل الطهور يتناول شيئين ما يسيل من أعضاء المغتسل والآخر ما يبقى في الإناء بعد الغسل وعمومه ينتظمهما فاقتضى ذلك النهي عن الوضوء بالماء المستعمل لأنه فضل طهور وأيضا قوله ص - لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة وروى بكير بن عبدالله بن الأشج عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال يا بني عبدالمطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس وعن عمر أنه

قال لأسلم حين أكل من تمر الصدقة أرأيت

 

لو توضأ إنسان بماء أكنت شاربه فدل تشبيه الصدقة حين حرمها عليهم بغسالة أيدي الناس أن غسالة أيدي الناس لا يجوز استعمالها ومن جهة النظر أن الماء إذا أزيل به الحدث مشبه للماء الذي أزيل به النجاسة من حيث استباح الصلاة بهما فلما لم تجز الطهارة بالماء الذي أزيل به النجاسة كذلك ما أزيل به الحدث ومن جهة أخرى وهي أن الاستعمال قد أكسبه إضافة سلبه بها إطلاق الاسم فصار بمنزلة الماء الذي امتنع فيه إطلاق اسم الماء بمخالطة غيره له والمستعمل أولى بذلك من جهة ما تعلق به من الحكم في زوال الحدث أوحصول قربة فإن قيل فلو استعمله للتبرد لم يمنع ذلك جواز استعماله للطهارة كذلك إذا استعمله للطهارة قيل له استعماله للتبرد لم يمنع إطلاق الاسم فيه إذ لم يتعلق به حكم فهو كاستعماله في غسل ثوب طاهر واحتج من أجاز ذلك بقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا وقوله وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به قال فذلك يقتضي جواز الوضوء به من وجهين أحدهما أنه لما لم يكن نجسا ولم تجاوره نجاسة وجب بقاؤه على الحال الأولى والثاني أن قوله طهورا يقتضي جواز التطهير به مرة بعد أخرى فيقال له إن بقاءه على الحالة الأولى بعد الطهارة هو موضع الخلاف وما ذكرت من العموم فإنما هو فيما لم يستعمل فيبقى على إطلاقه فأما ما يتناوله الاسم مقيدا فلم يتناوله العموم وأما قولك أن كونه طهورا يقتضي جواز الطهارة به مرة بعد أخرى فليس كذلك لأن ذلك إنما يذكر على جهة المبالغة في الوصف له بالطهارة أو التطهير ولا دلالة فيه على التكرار كما يقال رجل ضروب بالسيف ويراد المبالغة في الوصف بالضرب وليس المقتضى فيه تكرار الفعل ويقال رجل أكول إذا كان يأكل كثيرا وإن كان أكله في مجلس واحد ولا يراد به تكرار الأكل وقد بينا ذلك في مواضع أيضا وقوله تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا يجوز أن يريد به الماء الذي خلق منه أصل الحيوان في قوله وجعلنا من الماء كل شيء حي وقوله والله خلق كل دابة من ماء ويجوز أن يريد به النطفة التي خلق منها ولد آدم وقوله فجعله نسبا وصهرا قال طاوس الرضاعة من الصهر وقال الضحاك رواية النسب الرضاع والصهر الختونة وقال الفراء النسب الذي لا يحل نكاحه والصهر النسب الذي يحل نكاحه كبنات العم وقيل إن النسب ما رجع إلى ولادة قريبة والصهر خلطة تشبه القرابة وقال الضحاك النسب

 

سبعة أصناف ذكروا في قوله حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله وبنات الأخت والصهر خمسة أصناف ذكروا في قوله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم إلى قوله وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم قال أبو بكر والتعارف في الأصهار أنهم كل ذي رحم محرم من نساء من أضيف إليه ذلك ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى الأصهار فلان إنه لكل ذي رحم محرم لنساء فلان وهو المتعارف من مفهوم كلام الناس قال والأختان أزواج البنات وكل ذات محرم من المضاف إليه الختن وكل ذي رحم محرم من الأزواج أيضا وقد يستعمل الصهر في موضع الختن فيسمون الختن صهرا قال الشاعر ... سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن زميت ...

فأقام الصهر مقام الختن وهو محمول على المتعارف من ذلك قوله تعالى وهو

الذي جعل الليل والنهار خلفة الآية روى شمر بن عطية عن ابن سلمة قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين فاتتني الصلاة فقال أبدل ما فاتك من ليلك في نهارك فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وروى يونس عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد وعبدالله بن عتبة أنهما أخبرا عن عبدالرحمن بن عبدالقاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من نام عن جزئه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل وقال الحسن جعل الليل والنهار خلفة جعل أحدهما خلفة للآخر إن فات من النهار شيء أدركه بالليل وكذلك لو فات من الليل قال أبو بكر هذا في نحو قوله وأقم الصلاة لذكري وقوله ص - من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وقد روي عن مجاهد في قوله خلفة أحدهما أسود والآخر أبيض وقيل يذهب أحدهما ويجيء الآخر وقوله تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد هونا قال بالوقار والسكينة وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال سدادا وعن الحسن أيضا يمشون على الأرض هونا حلماء لا يجهلون على أحاد وإن جهل عليهم حلموا قد براهم الخوف كأنهم القداح هذا نهارهم ينتشرون به في الناس والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما قال هذا ليلهم إذا دخل يراوحون بين أطرافهم فهم بينهم وبين ربهم وعن ابن عباس يمشون على الأرض هونا قال بالتواضع لا يتكبرون وقوله

 

تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا قال من أنفق درهما في معصية الله فهو مسرف ولم يقتروا البخل منع حق الله وكان بين ذلك قواما قال القصد والإنفاق في طاعة الله عز و جل وقال ابن سيرين السرف إنفاقه في غير حق وقوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية روى الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال جاء رجل فقال يا رسول الله أي الذنب أكبر قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك قال فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله أثاما قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور عن أبي حنيفة الزور الغنا وعن ابن عباس في قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال يشتري المغنية وعن عبدالله بن مسعود مثله وعن مجاهد قال ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال الغناء وكل لعب ولهو وروى ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان وصوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان وروى عبيدالله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إن الله حرم علي الخمر والكوبة والغناء قال محمد بن الحنفية أيضا في قوله لا يشهدون الزور أن لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا قال أبو بكر يحتمل أن يريد به الغنا على ما تأولوه عليه ويحتمل أيضا القول بما لا علم للقائل به وهو على الأمرين لعموم اللفظ قوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما قال سعيد بن جبير ومجاهد إذا أوذوا مروا كراما صفحوا وروى أبو مخزوم عن سنان إذا مروا باللغة مروا كراما قال إذا مروا بالرفث كنوا وقال الحسن اللغو كله المعاصي قال السدي هي مكية قال أبو بكر يعني أنه قبل الأمر بقتال المشركين وقوله تعالى إن عذابها كان غراما قيل لازما ملحا دائما ومنه الغريم لملازمته والحاجة وأنه لمغرم بالنساء أي ملازم لهن لا يصبر عنهن وقال الأعشى ... إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي ...

وقال بشر بن أبي حازم

 

يوم النساء ويوم الجفا ... ركانا عذابا وكان غراما ...

قال لنا أبو عمر غلام ثعلب أصل الغرم اللزوم في اللغة وذكر نحوا مما قدمنا ويسمى الدين غرما ومغرما لأنه يقتضي اللزوم والمطالبة فيقال للطالب الغريم لأن له اللزوم وللمطلوب غريم لأنه يثبت عليه اللزوم وعلى هذا قوله ص - لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه يعني دينه الذي هو مرهون به وزعم الشافعي أن الغرم الهلاك قال أبو عمر وهذا خطأ في اللغة وروي عن الحسن أنه قال ليس غريم إلا مفارقا غريمه غير جهنم فإنها لا تفارق غريمها قوله تعالى قرة أعين قال الحسن قرة الأعين في الدنيا وهو أن يرى العبد من زوجته ومن أخيه طاعة الله تعالى وقال والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولده أو والده أو ولد ولده أو أخاه حميما مطيعا لله تعالى وعن سلمة بن كهيل أقربهم عينا أن يطيعوك وروى أبو أسامة عن الأحوص بن حكيم عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من رزق إيمانا وحسن خلق فذاك إمام المتقين وقال مجاهد والحسن واجعلنا للمتقين إماما نأتم بمن قبلنا حتى يأتم بنا من بعدنا وقوله تعالى قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم قال مجاهد ما يصنع بكم ربي وهو لا يحتاج إليكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته لتنتفعوا أنتم بذلك آخر سورة الفرقان

ومن سورة الشعراء

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى واجعل لي لسان صدق في الآخرين قال الثناء الحسن فاليهود تقر بنبوته وكذلك النصارى وأكثر الأمم وقيل اجعل من ولدي من يقوم بالحق ويدعو إليه وهو محمد ص - والمؤمنون به وقوله تعالى إلا من أتى الله بقلب سليم قيل إنما سأل سلامة القلب لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد إذ الفساد بالجوارح لا يكون إلا عن قصد فاسد بالقلب فإن اجتمع مع ذاك جهل فقد عدم السلامة من وجهين وروى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إني لأعلم مضغة إذا صلحت صلح البدن كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب وقوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين إلى قوله وإنه لفي زبر الأولين أخبر عن القرآن بأنه تنزيل رب العالمين ثم أخبر أنه في زبر الأولين ومعلوم أنه لم يكن في زبر الأولين بهذه اللغة فهذا مما يحتج به في أن نقله

 

إلى لغة أخرى لا يخرجه من أن يكون قرآنا لإطلاق اللفظ بأنه في زبر الأولين مع كونه فيها بغير اللغة العربية وقوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون روى سفيان عن سلمة بن كهيل عن مجاهد في قوله والشعراء يتبعهم الغاوون قال عصاة الجن وروى خصيف عن مجاهد والشعراء يتبعهم الغاوون قال الشاعران يتهاجيان فيكون لهذا أتباع ولهذا أتباع من الغواة فذم الله الشعراء الذين صفتهم ما ذكر وهم الذين في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون وشبهه بالهائم على وجهه في كل واد يعن له لما يغلب عليه من الهوى غير مفكر في صحة ما يقول ولا فساده ولا في عاقبة أمره وقال ابن عباس وقتادة في كل واد يهيمون في كل لغوة يخوضون يمدحون ويذمون يعنون الأباطيل وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا ومعناه الشعر المذموم الذي ذم الله قائله في هذه الآية لأنه قد استثنى المؤمنين منهم بقوله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لحسان اهجهم ومعك روح القدس وذلك موافق لقوله وانتصروا من بعد ما ظلموا كقوله تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وقوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وروى أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن من الشعر لحكمة آخر سورة الشعر

ومن سورة القصص

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج من الناس من يحتج بذلك في جواز عقد النكاح على منافع الحر وليس فيه دلالة على ما ذكروا لأنه شرط منافعه لشعيب عليه السلام ولم يشرط لها مهرا فهو بمنزلة من تزوج امرأة بغير مهر مسمى وشرط لوليها منافع الزوج مدة معلومة فهذا إنما يدل على جواز عقد من غير تسمية مهر وشرطه للمولى ذلك يدل على أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد وجائز أن يكون قد كان النكاح جائزا في تلك الشريعة بغير بدل تستحقه المرأة فإن كان كذلك فهذا منسوخ بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم -

ويدل على أنه قد كان جائزا في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة ويحتج به

في جواز الزيادة في العقود لقوله تعالى فإن

 

أتممت عشرا فمن عندك قال ابن عباس قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما قوله تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه الآية قال مجاهد كان ناس من أهل الكتاب أسلموا فآذاهم المشركون فصفحوا عنهم يقولون سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين قال أبو بكر هذا سلام متاركة وليس بتحية وهو نحو قوله وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقوله واهجرني مليا وقال إبراهيم سلام عليك سأستغفر لك ربي ومن الناس من يظن أن هذا يجوز على جواز ابتداء الكافر بالسلام وليس كذلك لما وصفنا من أن السلام ينصرف على معنيين أحدهما المسالمة التي هي المتاركة والثاني التحية التي هي دعاء بالسلامة والأمن نحو تسليم المسلمين بعضهم على بعض وقوله ص - للمؤمن على المؤمن ست أحدهما أن يسلم عليه إذا لقيه وقوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقوله تحيتهم فيها سلام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الكفار لا تبدؤهم بالسلام وأنه إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم قوله فوكزه موسى فقضى عليه وقال تعالى وقتلت نفسا فأخبر أنه قتله بوكزه ثم قال رب إني ظلمت نفسي فقال بعضهم هذا يدل على أن القتل باللطمة عمد لولا ذلك لم يقل إني ظلمت نفسي على الإطلاق وهذا خطأ لأنه يجوز أن يقول ظلمت نفسي بإقدامي على الوكز من غير توقيف ولا دلالة فيه على أن القتل عمد إذ الظلم لا يختص بالقتل دون الظلم وكان صغيرة وقوله تعالى فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله يستدل به بعضهم على أن للزوج أن يسافر بامرأته وينقلها إلى بلد آخر ويفرق بينها وبين أبويها ولا دلالة فيه عندي على ذلك لأنه جائز أن يكون فعل برضاها آخر سورة القصص

ومن

سورة العنكبوت

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا روى أبو عبيدة عن عبدالله قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الصلوات لوقتهن قلت ثم مه قال الجهاد في سبيل الله قلت ثم مه قال بر الوالدين وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر والآية والخبر يدلان معا على انه لا

يجوز للرجل أن يقتل أباه وإن كان مشركا ونهى النبي صلى الله عليه وسلم - حنظلة بن أبي عامر عن قتل أبيه وكان مشركا ويدل على أنه

 

لا يقتص للولد من الوالد قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر روى ابن مسعود وابن عباس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وقال ابن مسعود الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها قال أبو بكر يعني القيام بموجبات الصلاة من الإقبال عليها بالقلب والجوارح وإنما قيل تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها تشتمل على أفعال وأذكار لا يتخللها غيرها من أمور الدنيا وليس شيء من الفروض بهذه المنزلة فهي تنهى عن المنكر وتدعو إلى المعروف بمعنى أن ذلك مقتضاها وموجبها لمن قام بحقها وعن الحسن قال من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم -

قيل له إن فلانا يصلي بالليل ويسرق بالنهار فقال لعل صلاته تنهاه وروي عن

النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة وروي عن بعض السلف قال لم تكن الصلاة قرة عينه ولكنه كان إذا دخل الصلاة يرى فيها ما تقر عينه قوله تعالى ولذكر الله أكبر قال ابن عباس وابن مسعود وسلمان ومجاهد ذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته وروي عن سلمان أيضا وأم الدرداء وقتادة ذكر العبد لربه أفضل من جميع عمله وقال السدي ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة وقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن قال قتادة هي منسوخة بقوله وقاتلوا المشركين ولا مجادلة أشد من السيف قال أبو بكر يعني أن ذلك كان قبل الأمر بالقتال وقوله تعالى إلا الذين ظلموا منهم يعني والله أعلم إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم وهو نحو قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم وقال مجاهد إلا الذين ظلموا منهم بمنع الجزية وقيل إلا الذين ظلموا منهم بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم آخر سورة العنكبوت

ومن

سورة الروم

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله روي عن ابن عباس ومجاهد في قوله وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس هو الرجل يهب الشيء يريد أن يثاب أفضل منه فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه فيه ولا إثم عليه وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله وعن سعيد بن جبير قال هو الرجل يعطي

 

ليثاب عليه وروى عبدالوهاب عن خالد عن عكرمة وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس قال الربا ربوان فربا حلال وربا حرام فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس به ما هو أفضل منه وروى زكريا عن الشعبي وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس قال كان الرجل يسافر مع الرجل فيخف له ويخدمه فيجعل له من ربح ماله ليجزيه بذلك وروى عبدالعزيز بن أبي رواد عن الضحاك وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس قال هو الربا الحلال يهدي ليثاب أفضل منه فذلك لا له ولا عليه ليس فيه أجر وليس عليه فيه إثم وروى منصور عن إبراهيم ولا تمنن تستكثر قال لا تعط لتزداد قال أبو بكر يجوز أن يكون ذلك خاصا للنبي ص - لأنه كان في أعلى مراتب مكارم الأخلاق كما حرم عليه الصدقة وقد روي عن الحسن في قوله تعالى ولا تمنن تستكثر لا تستكثر عملك فتمن به على ربك وقوله تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يعني أنه خلقكم ضعفاء حملا في بطون الأمهات ثم أطفالا لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضرا ثم جعلكم أقوياء ثم أعطاكم من الاستطاعة والعقل والدراية للتصرف في اختلاف المنافع ودفع المضار ثم جعلكم ضعفاء في حال الشيخوخة كقوله تعالى ومن نعمره ننكسه في الخلق وقوله ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا فيبقى مسلوب القوى والفهم كالصبي بل حاله دون حال الصبي لأن الصبي في زيادة من القوى والفهم من حين البلوغ وكمال حال الإنسانية وهذا يزداد على البقاء ضعفا وجهلا ولذلك سماه الله تعالى أرذل العمر وجعل الشيب قرينا للضعف بقوله ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة وهو كقوله تعالى حاكيا عن نبيه زكريا عليه السلام رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا آخر سورة الروم

ومن

سورة لقمان

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى حملته أمه وهنا على وهن قال الضحاك ضعفا على ضعف يعني ضعف الولد على ضعف الأم وقيل بل المعنى فيه شدة الجهد وفصاله في عامين يعني في انقضاء عامين وفي آية أخرى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فحصل بمجموع الآيتين أن أقل مدة

 

الحمل ستة أشهر وبه استدل ابن عباس على مدة أقل الحمل واتفق أهل العلم عليه وقوله تعالى يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك يعني والله أعلم اصبر على ما أصابك من الناس في الأمر بالمعروف وظاهره يقتضي وجوب الصبر وإن خاف على النفس إلا أن الله تعالى قد أباح إعطاء التقية في حال الخوف في آي غيرها قد بيناها وقد اقتضت الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى ولا تصعر خدك للناس قال ابن عباس ومجاهد معناه لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا وقال إبراهيم هو التشدق ومعناه يرجع إلى الأول لأن المتشدق في الكلام متكبر وقيل إن أصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤسها حتى يلوي وجوهها وأعناقها فيشبه بها الرجل الذي يلوي عنقه عن الناس قال الشاعر ... وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما ...

قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه إلى قوله وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا أبان تعالى بذلك أن أمره بالإحسان إلى الوالدين عام في الوالدين المسلمين والكفار لقوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وأكده بقوله وصاحبهما في الدنيا معروفا وفي ذلك دليل على أنه لا يستحق القود على أبيه وأنه لا يحد له إذا قذفه ولا يحبس له بدين عليه وأن عليه نفقتهما إذا احتاجا إليه إذ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف وفعل ضده ينافي مصاحبتهما بالمعروف ولذلك قال اصحابنا إن الأب لا يحبس بدين ابنه وروي عن أبي يوسف أنه يحبسه إذا كان متمردا وقوله تعالى واتبع سبيل من أناب إلي يدل على صحة إجماع المسلمين لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم وهو مثل قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله تعالى ولا تمش في الأرض مرحا المرح البطر وإعجاب المرء بنفسه وازدراء الناس والإستهانة بهم فنهى الله عنه إذ لا يفعل ذلك إلا جاهل بنفسه وأحواله وابتداء أمره ومنتهاه قال الحسن أنى لابن آدم الكبر وقد خرج من سبيل البول مرتين وقوله تعالى إن الله لا يحب كل مختال فخور قال مجاهد هو المتكبر والفخور الذي يفتخر بنعم الله تعالى على الناس استصغارا لهم وذلك مذموم لأنه إنما يستحق عليه الشكر لله على نعمه لا التوصل بها إلى معاصيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

حين ذكر نعم الله أنه سيد ولد آدم ولا

 

فخر فأخبر أنه إنما ذكرها شكرا لا افتخارا على نحو قوله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث قوله تعالى واقصد في مشيك قال يزيد بن أبي حبيب هو السرعة قال أبو بكر يجوز أن يكون تأوله على ذلك لأن المختال في مشيته لا يسرع فيها فسرعة المشي تنافي الخيلاء والتكبر وقوله تعالى واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير فيه أمر بخفض الصوت لأنه أقرب إلى التواضع كقوله تعالى إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ورفع الصوت على وجه ابتهار الناس وإظهار الإستخفاف بهم مذموم فأبان عن قبح هذا الفعل وأنه لا فضيلة فيه لأن الحمير ترفع أصواتها وهو أنكر الأصوات قال مجاهد في قوله أنكر الأصوات أقبحها كما يقال هذا وجه منكر فذكر الله تعالى ذلك وأدب العباد تزهيدا لهم في رفع الصوت وقوله تعالى إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام مفهوم هذا الخطاب الإخبار بما يعلمه هو دون خلقه وأن أحدا لا يعلمه إلا بإعلامه إياه وفي ذلك دليل على أن حقيقة وجود الحمل غير معلومة عندنا وإن كانت قد يغلب على الظن وجوده وهذا يوجب أن يكون نافي حمل امرأته من نفسه غير قاذف لها وقد بينا ذلك فيما سلف قوله تعالى واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا يدل على أن أحدا لا يستحق عند الله فضيلة بشرف أبيه ولا بنسبه لأنه لم يخصص أحدا بذلك دون أحد وبذلك ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في قوله من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه وقال يا بني عبدالمطلب لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم فأقول إني لا أغني عنكم من الله شيئا وقوله لا يجزي والد عن ولده معناه لا يغني يقال جزيت عنك إذا أغنيت عنك آخر سورة لقمان

ومن سورة السجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل في قوله تتجافى جنوبهم عن المضاجع قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم - في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله

 

عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب من الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ جزاء بما كانوا يعملون ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه فقال أكفف عليك هذا قلت يا رسول الله إنما لمؤاخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبدالرزاق عن معمر قال تلا قتادة فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين قال قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وروى أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله قال للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم تلا فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وروي عن مجاهد وعطاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع قالا العشاء الآخرة وقال الحسن تتجافى جنوبهم عن المضاجع كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء وقال الضحاك في قوله يدعون ربهم خوفا وطمعا إنهم يذكرون الله بالدعاء والتعظيم وقال قتادة خوفا من عذاب الله وطمعا في رحمة الله مما رزقناهم ينفقون في طاعة الله آخر سورة السجدة

ومن

سورة الأحزاب

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه روي عن ابن عباس رواية إنه كان رجل من قريش يدعى ذا القلبين من دهائه وعن مجاهد وقتادة مثله وعن ابن عباس أيضا كان المنافقون يقولون لمحمد ص - قلبان فأكذبهم الله تعالى وقال الحسن كان رجل يقول لي نفس تأمرني ونفس تنهاني فأنزل الله فيه هذا وروي عن مجاهد أيضا أن رجلا من بني فهر قال في جوفي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد فكذبه الله عز و جل وذكر أبو جعفر الطحاوي أنه لم يرو في تفسيرها غير ما ذكرنا قال وحكى

 

الشافعي عن بعض أهل التفسير ممن لم يسمه في احتجاجه على محمد في نفي أن يكون الولد من رجلين أنه أريد بها ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام قال أبو بكر اللفظ غير محتمل لما ذكر لأن القلب لا يعبر به عن الأب لا مجازا ولا حقيقة ولا ذلك اسم له في الشريعة فتأويل الآية على هذا المعنى خطأ من وجوه وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جارية مجحا فقال لمن هذه الجارية فقالوا لفلان فقال أيطؤها قالوا نعم قال لقد هممت أن ألعنه لعنة رجل يدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له أم كيف يسترقه وقد غذاه في سمعه وبصره فقوله قد غذاه في سمعه وبصره يدل على أن الولد يكون من ماء رجلين وقد روي عن علي وعمر إثبات نسب الولد من رجلين ولا يعرف عن غيرهما من الصحابة خلافه وقوله تعالى وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم قال أبو بكر كانوا يظاهرون من نسائهم فيقولون أنت علي كظهر أمي فأخبر الله تعالى أنها لا تصير بمنزلة أمه في التحريم وجعل هذا القول منكرا من القول وزورا بقوله تعالى وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وألزمه بذلك تحريما ترفعه الكفارة وأبطل ما أوجبه المظاهر من جعله إياها كالأم لأن تحريمها تحريما مؤبدا وقوله تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم قيل إنه نزل في زيد بن حارثة وكان النبي صلى الله عليه وسلم - قد تبناه فكان يقال له زيد بن محمد وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وغيرهما قال أبو بكر هذا يوجب نسخ السنة بالقرآن لأن الحكم الأول كان ثابتا بغير القرآن ونسخه بالقرآن وقوله تعالى ذلك قولكم بأفواهكم يعني أنه لا حكم له وإنما هو قول لا معنى له ولا حقيقة وقوله تعالى ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم فيه إباحة إطلاق اسم الأخوة وحظر إطلاق اسم الأبوة من غير جهة النسب ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لعبده هو أخي لم يعتق إذا قال لم أرد به الأخوة من النسب لأن ذلك يطلق في الدين ولو قال هو ابني عتق لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم إنه غير أبيه فالجنة عليه حرام وقوله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به روى ابن أبي نجيح عن مجاهد وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به قال قيل هذا النهي في هذا أو في غيره ولكن ما تعمدت قلوبكم والعمد ما آثرته بعد البيان في النهي في هذا أو في غيره وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق

 

قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به قال قتادة لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه ليس عليك بأس وسمع عمر بن الخطاب رجلا وهو يقول اللهم اغفر لي خطاياي فقال استغفر الله في العمد فأما الخطأ فقد تجوز عنك قال يقول ما أخاف عليكم الخطأ ولكني أخاف عليكم العمد وما أخاف عليكم المقاتلة ولكني أخاف عليكم التكاثر وما أخاف عليكم أن تزدروا أعمالكم ولكني أخاف عليكم أن تستكثروها وقوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم قال أخبرني أبو سلمة عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلي وإن ترك مالا فهو لورثته وقيل في معنى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أنه أحق بأن يختار ما دعا إليه من غيره ومما تدعوه إليه أنفسهم وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم - أحق أن يحكم في الإنسان بما لا يحكم به في نفسه لوجوب طاعته لأنها مقرونة بطاعة الله تعالى قال أبو بكر الخبر الذي قدمنا لا ينافي ما عقبناه به من المعنى ولا يوجب الاقتصار بمعناه على قضاء الدين المذكور فيه وذلك لأنه جائز أن يكون مراده إنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم في أن يختاروا ما أدعوهم إليه دون ما تدعوهم أنفسهم إليه وأولى بهم في الحكم عليهم ولزومهم اتباعه وطاعته ثم أخبر بعد ذلك بقضاء ديونهم وقوله تعالى وأزواجه أمهاتهم قيل فيه وجهان أحدهما أنهم كأمهاتهم في وجوب الإجلال والتعظيم والثاني تحريم نكاحهن وليس المراد أنهن كالأمهات في كل شيء لأنه لو كان كذلك لما جاز لأحد من الناس أن يتزوج بناتهن لأنهن يكن أخوات للناس وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم - بناته ولو كن أمهات في الحقيقة ورثن المؤمنين وقد روي في حرف عبدالله وهو أب لهم ولو صح ذلك كان معناه أنه كالأب لهم في الإشفاق عليهم وتحري مصالحهم كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم وقوله تعالى إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا روي عن محمد بن الحنفية أنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني وعن الحسن أن تصلوا أرحامكم وقال عطاء هو المؤمن والكافر بينهما قرابة إعطاؤه له

 

أيام حياته ووصيته له وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا قال إلا أن يكون لك ذو قرابة ليس على دينك فتوصي له بشيء هو وليك في النسب وليس وليك في الدين وقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة من الناس من يحتج به في وجوب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم - ولزوم التأسي به فيها ومخالفو هذه الفرقة يحتجون به أيضا في نفي إيجاب أفعاله فأما الأولون فإنهم ذهبوا إلى أن التأسي به هو الإقتداء به وذلك عموم في القول والفعل جميعا فلما قال تعالى لمن كان يرجو الله واليوم الآخر دل على أنه واجب إذ جعله شرطا للإيمان كقوله تعالى واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ونحوه من الألفاظ المقرونة إلى الإيمان فيدل على الوجوب واحتج الآخرون بأن قوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة يقتضي ظاهره الندب دون الإيجاب لقوله تعالى لكم مثل قول القائل لك أن تصلي ولك أن تتصدق لا دلالة فيه على الوجوب بل يدل ظاهره على أن له فعله وتركه وإنما كان يدل على الإيجاب لو قال عليكم التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر والصحيح أنه لا دلالة فيه على الوجوب بل دلالته على الندب أظهر منها على الإيجاب لما ذكرنا ومع ذلك ورد بصيغة الأمر لما دل على الوجوب في أفعاله ص - لأن التأسي به هو أن نفعل مثل ما فعل ومتى خالفناه في اعتقاد الفعل أو في معناه لم يكن ذلك تأسيا به ألا ترى أنه إذا فعله على الندب وفعلناه على الوجوب كنا غير متأسين به وإذا فعل ص - فعلا لم يجز لنا أن نفعله على اعتقاد الوجوب فيه حتى نعلم أنه فعله على ذلك فإذا علمنا أنه فعله على الوجوب لزمنا فعله على ذلك الوجه لا من جهة هذه الآية إذ ليس فيها دلالة على الوجوب لكن من جهة ما أمرنا الله تعالى باتباعه في غير هذه الآية وقوله تعالى ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله قيل إنه وعدهم أنهم إذا لقوا المشركين ظفروا بهم واستعلوا عليهم كقوله تعالى ليظهره على الدين كله وقال قتادة الذي وعدهم في قوله أ م حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية وقوله تعالى وما زادهم إلا إيمانا وتسليما إخبار عن صفتهم في حال المحنة وأنهم ازدادوا عندها يقينا وبصيرة وذلك صفة أهل البصائر في الإيمان بالله وقوله تعالى فمنهم من قضى نحبه قيل إن النحب النذر أي قضى نذره

 

الذي نذره فيما عاهد الله عليه وقال الحسن قضى نحبه مات على ما عاهد الله عليه ويقال إن النحب الموت والنحب المد في السير يوما وليلة وقال مجاهد قضى نحبه عهده قال أبو بكر لما كان النحب قد يجوز أن يكون المراد به العهد والنذر وقد مدحهم الله على الوفاء به بعينه دل ذلك على أن من نذر قربة فعليه الوفاء به بعينه دون كفارة اليمين وقوله تعالى وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم قيل في الصياصي أنها الحصون التي كانوا يمتنعون بها وأصل الصيصة قرن البقرة وبها تمتنع وتسمى بها شوكة الديك لأنه بها يمتنع فسميت الحصون صياصي على هذا المعنى وروي أن المراد بها بنو قريظة كانوا نقضوا العهد وعاونوا الأحزاب وقال الحسن هم بنو النضير وسائر الرواة على أنهم بنو قريظة وظاهر الآية يدل عليه لأنه قال تعالى فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ولم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم -

بني النضير ولا أسرهم وإنما أجلاهم عن بلادهم وقوله تعالى وأورثكم

أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها يعني به أرض بني قريظة وعلى تأويل من تأوله على بني النضير فالمراد أرض بني النضير وقوله تعالى وأرضا لم تطؤها قال الحسن أرض فارس والروم وقال قتادة مكة وقال يزيد بن رومان خيبر قال أبو بكر من الناس من يحتج به في أن الأرضين العنوية التي يظهر عليها الإمام يملكها الغانمون ولا يجوز للإمام أن يقر أهلها عليها على أنها ملك لهم لقوله وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وظاهره يقتضي إيجاب الملك لهم ولادلالة فيه على ما ذكروا لأن ظاهره قوله وأورثكم لا يختص بإيجاب الملك دون الظهور والغلبة وثبوت اليد ومتى وجد أحد هذه الأشياء فقد صح معنى اللفظ قال الله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ولم يرد بذلك الملك وأيضا فلو صح أن المراد الملك كان ذلك في أرض بني قريظة في قوله وأورثكم أرضهم وأما قوله وأرضا لم تطؤها فإنه يقتضي أرضا واحدة لا جميع الأرضين فإن كان المراد خيبر فقد ملكها المسلمون وإن كان المراد أرض فارس والروم لقد ملك المسلمون بعض أرض فارس والروم فقد وجد مقتضى الآية ولا دلالة فيه على أن سبيلهم أن يملكوا جميعها إذ كان قوله وأرضا لم تطؤها لم يتناول إلا أرضا واحدة فلا دلالة فيه على قول المخالف وقوله تعالى

 

يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية حدثنا عبدالله بن محمد المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت لما نزلت وإن كنتن تردن الله ورسوله دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم - فبدأ بي فقال يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت قد علم الله تعالى إن أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقه قالت فقرأ علي يا أيها النبي قل لأزواجك الآية فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وروى غير الجرجاني عن عبدالرزاق قال معمر فأخبرني أيوب أن عائشة قالت يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني أختارك قال إنما بعثت معلما ولم أبعث متعنتا قال أبو بكر اختلف الناس في معنى تخيير الآية فقال قائلون وهم الحسن وقتادة إنما خيرهن بين الدنيا والآخرة لأنه قال إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها إلى قوله وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة وقال آخرون بل كان تخييرا للطلاق على شريطة أنهن إذا اخترن الدنيا وزينتها كن مختارات للطلاق لأنه تعالى قال إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا فجعل اختيارهن للدنيا اختيارا للطلاق ويستدلون عليه أيضا بما روى مسروق عن عائشة أنها سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أفكان طلاقا وفي بعض الأخبار فاخترناه فلم يعده طلاقا قالوا ولم يثبت أن

النبي صلى الله عليه وسلم - خيرهن إلا الخيار المأمور به في الآية ويدل عليه ما قدمناه من حديث عروة عن عائشة أنها لما نزلت الآية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم - إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت قد علم الله أن أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقه ثم تلا عليها الآية قالت إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة فقالوا هذا الخبر أيضا قد حوى الدلالة من وجوه على أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة وبين اختيارهن الطلاق أو البقاء على النكاح لأنه قال لها لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ومعلوم أن الاستئمار لا يقع في اختيار الدنيا على الآخرة فثبت أن الاستئمار إنما أريد به في الفرقة أو الطلاق أو النكاح وقولها إن أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقه وقولها إني أريد الله ورسوله فهذه الوجوه كلها تدل على أن الآية قد اقتضت التخيير بين الطلاق والنكاح واحتج من قال لم يكن تخيير طلاق بقوله تعالى إن كنتن

 

تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا فإنما أمر الله نبيه ص - أن يطلقهن إذا اخترن الدنيا ولم يوجب ذلك وقوع طلاق باختيارهن كما يقول القائل لامرأته إن اخترت كذا طلقتك يريد به استئناف إيقاع بعد اختيارها لما ذكره قال أبو بكر قد اقتضت الآية لا محالة تخييرهن بين الفراق وبين النبي صلى الله عليه وسلم - لأن قوله وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة قد دل على إضمار اختيارهن فراق النبي صلى الله عليه وسلم -

في قوله إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها إذ كان النسق الآخر من

الاختيار هو اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - والدار الآخرة فثبت أن الاختيار الآخر إنما هو اختيار فراقه ويدل عليه قوله فتعالين أمتعكن والمتعة إنما هي بعد اختيارهن للطلاق وقوله وأسرحكن إنما المراد إخراجهن من بيوتهن بعد الطلاق كما قال تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن إلى قوله سراحا جميلا فذكر المتعة بعد الطلاق وأراد بالتسريح إخراجها من بيته وقد اختلف السلف فيمن خير امرأته فقال علي رضي الله عنه إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وذلك في رواية زادان عنه وروى أبو جعفر عن علي أنها إذا اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وقال عمرو وعبدالله رضي الله عنهما في الخيار وأمرك بيدك إن اختارت نفسها فواحدة رجعية وإن اختارت زوجها فلا شيء وقال زيد بن ثابت في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فثلاث وقال في أمرك بيدك إن اختارت نفسها فواحدة رجعية واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة إذا أراد الزوج الطلاق ولا يكون ثلاثا وإن نوى وقالوا في أمرك بيدك مثل ذلك إلا أن ينوي ثلاثا فيكون ثلاثا وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة يملك بها الرجعة وقال مالك في الخيار إنه ثلاث إذا اختارت نفسها وإن طلقت نفسها واحدة لم يقع شيء وقال في أمرك بيدك إذا قالت أردت واحدة فهي واحدة يملك الرجعة ولا يصدق في الخيار أنه أراد واحدة ولو قال اختاري تطليقة فطلقت نفسها فهي واحدة رجعية وقال الليث في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فهي بائنة وقال الشافعي في اختاري وأمرك بيدك ليس بطلاق إلا أن

 

يريد الزوج ولو أراد طلاقها فقالت قد اخترت نفسي فإن أرادت طلاقا فهو طلاق وإن لم ترده فليس بطلاق قال أبو بكر التخيير في نفسه ليس بطلاق لا صريح ولا كناية ولذلك قال أصحابنا إنه لا يكون ثلاثا وإن أرادهن ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم - خير نساءه فاخترنه فلم يكن ذلك طلاقا ولأن الخيار لا يختص بالطلاق دون غيره فلا دلالة فيه عليه وليس هو عندكم كقوله اعتدي أن يكون طلاقا إذا نوى لأن العدة من موجب الطلاق فالطلاق مدلول عليه باللفظ وإنما جعلوا الخيار طلاقا إذا اختارت نفسها بالاتفاق وبأنه معلوم أن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم - نساءه لما كان بين الفراق والبقاء على النكاح إنهن لو اخترن أنفسهن لوقعت الفرقة لولا ذلك لم يكن للتخيير معنى وتشبيها له أيضا بسائر الخيارات التي تحدث في النكاح كخيار امرأة العنين والمجبوب فيقع به الطلاق إذا اختارت الفرقة ومن أجل ذلك لم يجعلوه ثلاثا لأن الخيارات الحادثة في الأصول لا تقع بها ثلاث

فصل قال أبو بكر ومن الناس من يحتج بهذه الآية في إيجاب الخيار وفي التفريق لامرأة العاجز عن النفقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

لما خير بين الدنيا والآخرة فاختار الفقر والآخرة أمر الله بتخير نسائه

فقال تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية قال أبو بكر لا دلالة فيها على ما ذكروا وذلك لأن الله علق اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - لفراقهن بإرادتهن الحياة الدنيا وزينتها ومعلوم أن من أراد من نسائنا الحياة الدنيا وزينتها لم يوجب ذلك تفريقا بينها وبين زوجها فلما كان السبب الذي من أجله أوجب الله التخيير المذكور في الآية غير موجب للتخيير في نساء غيره فلا دلالة فيه على التفريق بين امرأة العاجز عن النفقة وبينه وأيضا فإن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - للآخرة دون الدنيا وإيثاره للفقر دون الغنى لم يوجب أن يكون عاجزا عن نفقة نسائه لأن الفقير قد يقدر على نفقة نسائه مع كونه فقيرا ولم يدع أحد من الناس ولا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان عاجزا عن نفقة نسائه بل كان يدخر لنسائه قوت سنة فالمستدل بهذه الآية

على ما ذكر مغفل لحكمها قوله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين قيل في تضعيف عذابهن وجهان أحدهما أنه لما كانت نعم الله عليهن أكثر منها على غيرهن بكونهن أزواجا للنبي ص -

ونزول الوحي في بيوتهن وتشريفهن بذلك كان

 

كفرانها منهن أعظم وأجدر بعظم العقاب لأن النعمة كلما عظمت كان كفرانها أعظم فيما يستحق به من العقاب إذ كان استحقاق العقاب على حسب كفران النعمة ألا ترى أن من لطم أباه استحق من العقوبة أكثر مما يستحقه من لطم أجنبيا لعظم نعمة أبيه عليه وكفرانه لها بلطمته ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في نسق التلاوة واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة فدل على أن تضعيف العذاب عليهن بالمعصية لأجل عظم النعمة عليهن بتلاوة آيات الله في بيوتهن ومن أجل ذلك عظمت طاعاتهن أيضا بقوله ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين لأن الطاعة في استحقاق الثواب بها بإزاء المعصية في استحقاق العقاب بها والوجه الآخر أن في إتيانهن المعاصي أذى للنبي ص -

لما يلحق من العار والغم ومعلوم أن من آذى النبي ص

- فهو أعظم جرما ممن آذى غيره وقال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ثم قال والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ولما عظم الله تعالى طاعات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

وأوجب بها الأجر مرتين دل بذلك على أن أجر العامل العالم أفضل وثوابه

أعظم من العامل غير العالم وقوله تعالى واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة قد دل على ذلك قوله تعالى فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض قيل فيه أن لا تلين القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن من أهل الريبة وفيه الدلالة على أن ذلك حكم سائر النساء في نهيهن عن إلانة القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن ويستدل به على رغبتهن فيهم والدلالة على أن الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث يسمعها الرجال وفيه الدلالة على أن المرأة منهية عن الأذان وكذلك قال أصحابنا وقال الله تعالى في آية أخرى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فإذا كانت منهية عن إسماع صوت خلخالها فكلامها إذا كانت شابة تخشى من قبلها الفتنة أولى بالنهي عنه وقوله تعالى وقرن في بيوتكن روى هشام عن محمد بن سيرين قال قيل لسودة بنت زمعة ألا تخرجين كما تخرج أخوتك قالت والله لقد حججت واعتمرت ثم أمرني الله أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج فما خرجت حتى أخرجوا جنازتها وقيل إن معنى وقرن في بيوتكن كن أهل وقار وهدوء وسكينة يقال وقر فلان في منزله يقر وقورا إذا هدأ فيه واطمأن به وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم

 

البيوت منهيات عن الخروج وقوله تعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى قال كانت المرأة تتمشى بين أيدي القوم فذلك تبرج الجاهلية وقال سعيد عن قتادة ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى يعني إذا خرجتن من بيوتكن قال كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهاهن الله عن ذلك وقيل هو إظهار المحاسن للرجال وقيل في الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام والجاهلية الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أولئك فهذه الأمور كلها مما أدب الله تعالى به نساء النبي صلى الله عليه وسلم -

صيانة لهن وسائر نساء المؤمنين مرادات بها وقوله تعالى إنما

يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت روي عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين وقال عكرمة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

خاصة ومن قال بذلك يحتج بأن ابتداء الآية ونسقها في ذكر أزواج النبي ص

- ألا ترى إلى قوله واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وقال بعضهم في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - وفي ازواجه لاحتمال اللفظ للجميع وقوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فيه الدلالة على أن أوامر الله وأوامر رسوله على الوجوب لأنه قد نفى بالآية أن تكون لنا الخيرة في ترك أوامر الله وأوامر الرسول ص - ولو لم يكن على الوجوب لكنا مخيرين بين الترك والفعل وقد نفت الآية التخيير وقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله في نسق ذكر الأوامر يدل على ذلك أيضا وأن تارك الأمر عاص لله تعالى ولرسوله ص -

فقد انتظمت الآية الدلالة على وجوب أوامر الله وأوامر الرسول ص

- من وجهين أحدهما أنها نفت التخيير معهما والثاني أن تارك الأمر عاص لله ورسوله وقوله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه الآية روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد قال قال لي علي بن الحسين ما كان الحسين يقول في قوله تعالى وتخفي في نفسك ما الله مبديه قال قلت كان يقول إنها كانت تعجبه وأنه قال لزيد اتق الله وأمسك عليك زوجك قال لا ولكن الله أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه فلما جاءه زيد يشكو منها قال له اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وقيل إن زيدا قد كان يخاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

ودام الشر بينهما حتى ظن النبي ص

- أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها فأضمر النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه إن طلقها زيد تزوجها وهي زينب بنت جحش وكانت بنت عمة النبي ص

 

فأراد أن يضمها إليه صلة لرحمها وإشفاقا عليها فعاتبه الله على إضمار ذلك وإخفائه وقوله لزيد اتق الله أمسك عليك زوجك وأراد أن يكون باطنه وظاهره عند الناس سواء كما قال في قصة عبدالله بن سعد حين قيل له هلا أومأت إلينا بقتله فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين وأيضا فإن ذلك لم يكن مما يجب إخفاؤه لأنه مباح جائز والله تعالى عالم به وهو أحق بأن يخشى من الناس وقد أباحه الله تعالى فالناس أولى بأن لا يخشوا في إظهاره وإعلانه وهذه القصة نزلت في زيد بن حارثة وكان ممن أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم النبي صلى الله عليه وسلم - عليه بالعتق ولذلك قيل للمعتق مولى نعمه وقوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم الآية قد حوت هذه الآية أحكاما أحدها الإبانة عن علة الحكم في إباحة ذلك للنبي ص - وإن ذلك قد اقتضى إباحته للمؤمنين فدل على إثبات القياس في الأحكام واعتبار المعاني في إيجابها والثاني أن النبوة من جهة التبني لا تمنع جواز النكاح والثالث أن الأمة مساوية للنبي ص -

في الحكم إلا ما خصه الله تعالى به لأنه أخبر أنه أحل ذلك للنبي ص

- ليكون المؤمنون مساوين له قوله عز و جل هو الذي يصلي عليكم وملائكته فإن الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدعاء قال الأعشى ... عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا ...

وروى معمر عن الحسن في قوله تعالى هو

الذي يصلي عليكم وملائكته قال إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام هل يصلي ربك فكان ذلك كبر في صدره فسأله فأوحى الله إليه أن أخبرهم أني أصلي وإن صلاتي رحمتي سبقت غضبي فإن قيل من أصلكم إنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان وقد جاء في القرآن اشتمال لفظ الصلاة على معنى الرحمة والدعاء جميعا قيل له هذا يجوز عندنا في الألفاظ المجملة والصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان فلا يمتنع إرادة المعاني المختلفة فيما كان هذا سبيله قال قتادة في قوله وسبحوه بكرة وأصيلا صلاة الضحى وصلاة العصر وقوله تعالى وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا سمى النبي صلى الله عليه وسلم -

سراجا منيرا تشبيها له بالسراج الذي به يستنار الأشياء في الظلمة لأنه

بعث ص - وقد طبقت على الأرض ظلمة الشرك فكان كالسراج الذي يظهر في الظلمة وكما سمى القرآن نورا وهدى وروحا وسمى جبريل عليه السلام روحا لأن

 

الروح بها يحيى الحيوان وذلك كله مجاز واستعارة وتشبيه وقوله تعالى تحيتهم يوم يلقونه سلام قال قتادة تحية أهل الجنة السلام قال أبو بكر هو مثل قوله دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام

باب

الطلاق قبل النكاح

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا قال أبو بكر قد تنازع أهل العلم في دلالة هذه الاية في صحة إيقاع طلاق المرأة بشرط التزويج وهو أن يقول إن تزوجت امرأة فهي طالق فقال قائلون قد اقتضت الآية إلغاء هذا القول وإسقاط حكمه إذ كانت موجبة لصحة الطلاق بعد النكاح وهذا القائل مطلق قبل النكاح وقال آخرون دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح ومن قال لأجنبية إذا تزوجتك فأنت طالق فهو مطلق بعد النكاح فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه وهذا القول هو الصحيح وذلك لأنه لا يخلو العاقد لهذا القول من أن يكون مطلقا في حال العقد أو في حال الإضافة ووجود الشرط فلما اتفق الجميع على أن من قال لامرأته إذا بنت مني وصرت أجنبية فأنت طالق أنه موقع للطلاق في حال الإضافة لا في حال القول وأنه بمنزلة من أبان امرأته ثم قال لها أنت طالق فسقط حكم لفظه ولم يعتبر حال العقد مع وجود النكاح فيها صح أن الاعتبار بحال الإضافة دون حال العقد فإن القائل للأجنبية إذا تزوجتك فأنت طالق موقع للطلاق بعد الملك وقد اقتضت الآية إيقاع الطلاق لمن طلق بعد الملك وقد اختلف الفقهاء في ذلك على ضروب من الأقاويل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو قال كل مملوك أملكه فهو حر إن من تزوج تطلق ومن ملك من المماليك يعتق ولم يفرقوا بين من عم أو خص وقال ابن أبي ليلى إذا عم لم يقع وإن سمى شيئا بعينه أو جماعة إلى أجل وقع وكذلك قول مالك وذكر عن مالك أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجلا يعلم أنه لا يبلغه فقال إن تزوجت امرأة إلى كذا وكذا سنة لم يلزمه شيء ثم قال مالك ولو قال كل عبد أشتريه فهو حر فلا شيء عليه وقال الثوري إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لزمه ما قال وهو

 

قول عثمان البتي وقال الأوزاعي فمن قال لامرأته كل جارية أتسرى بها عليك فهي حرة فتسرى عليها جارية فإنها تعتق وقال الحسن بن صالح إذا قال كل مملوك أملكه فهو حر فليس بشيء ولو قال أشتريه أو أرثه أو نحو ذلك عتق إذا ملك بذلك الوجه لأنه خص ولو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فليس بشيء ولو قال من بني فلان أو من أهل الكوفة أو آل كذا لزمه قال الحسن لا نعلم أحدا منذ وضعت الكوفة أفتى بغير هذا وقال الليث فيما خص أنه يلزمه في الطلاق والعتق وقال الشافعي لا يلزمه من ذلك شيء لا إذا خص ولا إذا عم وقد اختلف السلف أيضا في ذلك روي عن ياسين الزيات عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن عمر بن الخطاب قال في رجل قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال هو كما قال وروى مالك عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأته قبل أن يتزوجها فقال القاسم إن رجلا خطب امرأة فقال هي علي كظهر أمي إن تزوجتها فأمره عمر بن الخطاب أن يتزوجها ولا يقربها حتى يكفر كفارة الظهار وروى الثوري عن محمد بن قيس عن إبراهيم عن الأسود أنه قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها ناسيا فأتى ابن مسعود فذكر ذلك له فألزمه الطلاق وهو قول النخعي والشعبي ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز وقال الشعبي إذا سمى امرأة بعينها أو قال إن تزوجت من بني فلان فهو كما قال وإذا قال كل امرأة أتزوجها فليس بشيء وقال سعيد بن المسيب إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فليس بشيء وقال القاسم بن سالم وعمر بن عبدالعزيز هو جائز عليه وروي عن ابن عباس في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق إنه ليس بشيء وروي عن عائشة وجابر في آخرين من التابعين قالوا لا طلاق قبل نكاح ولا دلالة في هذا اللفظ على مخالفة قول أصحابنا لأن عندنا أن من قال إن تزوجت امرأة فهي طالق أنه مطلق بعد النكاح وما قدمنا من دلالة الآية على صحة قولنا كاف في الاحتجاج على المخالف وتصحيح المقالة ويدل عليه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود اقتضى ظاهره إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه فلما كان هذا القائل عاقدا على نفسه إيقاع طلاق بعد النكاح وجب أن يلزمه حكمه ويدل عليه قوله ص - المسلمون عند شروطهم أوجب ذلك أن كل من شرط على نفسه شرطا ألزم حكمه عند وجود شرطه ويدله عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على أن النذر لا يصح إلا في ملك وإن من قال إن رزقني الله ألف درهم فلله علي

 

أن أتصدق بمائة منها أنه ناذر في ملكه من حيث أضافه إليه وإن لم يكن مالكا في الحال فكذلك الطلاق والعتق إذا أضافهما إلى الملك كان مطلقا ومعتقا في الملك ويدل عليه أن من قال لجاريته إن ولدت ولدا فهو حر فحملت بعد ذلك وولدت أنه يعتق وإن لم يكن مالكا في حال القول لأن الولد مضاف إلى الأم التي هو مالكها كذلك إذا أضاف العتق إلى الملك فهو معتق في الملك وإن لم يكن له ملك موجود في الحال وأيضا قد اتفق الجميع على أنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها مع بقاء النكاح أنها تطلق ويكون يمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال أنت طالق ولو أبانها ثم دخلها كان بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال أنت طالق فلا تطلق فدل ذلك على أن الحالف يصير كالمتكلم بالجواب في ذلك الوقت فوجب أن يكون القائل كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج بمنزلة من تزوج ثم قال لها أنت طالق فإن قيل لو كان هذه صحيحا لوجب أنه لو حلف ثم جن فوجد شرط اليمين أن لا يحنث لأنه بمنزلة المتكلم بالجواب في ذلك الوقت قيل له لا يجب ذلك لأن المجنون لا قول له وقوله وسكوته بمنزلة فلما لم يصح قوله لم يصح إيقاعه ابتداء ولما كان قوله قبل الجنون صحيحا لزمه حكمه في حال الجنون ومع ذلك فإن المجنون قد يصح طلاق امرأته وعتق عبده لأنه لو كان مجنونا أو عنينا لفرق بينه وبينها وكان طلاقا ولو ورث أباه عتق عليه كالنائم لا يصح منه ابتداء الإيقاع ويلزمه حكمه بسبب يوجبه مثل أن يكون قد وكل بعتق عبده أو طلاق امرأته فطلق وهو نائم فإن قيل قد روي عن علي ومعاذ بن جبل وجابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا طلاق قبل نكاح قيل له أسانيدها مضطربة لا يصح من جهة النقل ولو صح من جهة النقل لم يدل على موضع الخلاف لأن من ذكرنا مطلق بعد النكاح وأيضا فإنه نفى بذلك إيقاع طلاق قبل النكاح ولم ينف العقد فلما كان قوله لا طلاق قبل نكاح حقيقته نفي الإيقاع والعقد على الطلاق ليس بطلاق لم يتناوله اللفظ من وجهين أحدهما أن إطلاق ذلك في العقد مجاز لا حقيقة لأن من عقد يمينا على طلاق لإيقاع أنه قد طلق مالم يقع وحكم اللفظ حمله على الحقيقة حتى تقوم دلالة المجاز والثاني أنهم لم يختلفوا أنه مستعمل في الحقيقة فغير جائز أن يراد به المجاز لأن لفظا واحدا لا يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز وقد روي عن الزهري في قوله ص - لا طلاق قبل نكاح إنما هو أن يذكر للرجل المرأة فيقال له تزوجها فيقول هي طالق البتة فهذا ليس

 

بشيء فأما من قال إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة فإنما طلقها حين تزوجها وكذلك في الحرية وقد قيل فيه إنه إن أراد العقد فهو الرجل يقول لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق ثم يتزوجها فتدخل الدار فلا تطلق وإن كان الدخول في حال النكاح قال أبو بكر لا فرق بين من خص أو عم لأنه إن كان إذا خص فهو مطلق في الملك وكذلك حكمه إذا عم وإن كان إذا عم غير مطلق في ملك فكذلك في حال الخصوص فإن قيل إذا عم فقد حرم جميع النساء عل نفسه كالمظاهر لما حرم امرأته تحريما مبهما لم يثبت حكمه قيل له هذا غلط من وجوه أحدها إن المظاهر إنما قصد تحريم امرأة بعينها ومن أصل المخالف أنه إذا عين وخص وقع طلاقه وإنما لا يوقعه إذا عم فواجب على أصله أن لا يقع طلاقه وإن خص كما لم تحرم المظاهر منها تحريما مبهما وأيضا فإن الله تعالى لم يبطل حكم ظهاره وتحريمه بل حرمها عليه بهذا القول وأثبت عليه حكم ظهاره وأيضا إن الحالف بطلاق من يتزوج من النساء غير محرم للنساء على نفسه لأنه لم يوجب بذلك تحريم النكاح وإنما أوجب طلاقا بعد صحة النكاح ووقع استباحة البضع وايضا فإنه إذا قال كل امرأة تزوجها فهي طالق متى ألزمناه ما عقد عليه من الطلاق لم يكن تحريم المرأة مبهما بل إنما تطلق واحدة ويجوز له أن يتزوجها ثانيا ولا يقع شيء فهذه الوجوه كلها تنبئ عن إغفال هذا السائل في سؤاله ذلك وأنه لا تعلق له بالمسألة قال أبو بكر ومن الناس من يقول إذا قال إن تزوجتها فهي طالق وإن اشتريته فهو حر انه لا يقع إلا أن يقول إذا صح نكاحي لك فأنت طالق بعد ذلك وإذا ملكتك بالشرى فأنت حر وذهب إلى أنه إذا جعل النكاح والشرى شرطا للطلاق والعتاق فسبيل ذلك البضع وملك الرقبة أن يقعا بعد العقد وهذه هي حال إيقاع الطلاق والعتق فيرد الملك والطلاق والعتاق معا فلا يقعان لأن الطلاق والعتاق لا يقعان إلا في ملك مستقر قبل ذلك قال أبو بكر وهذا لا معنى له لأن القائل إذا تزوجتك فأنت طالق وإذا اشتريتك فأنت حر معلوم من فحوى كلامه أنه أراد به إيقاع الطلاق بعد صحة النكاح وإيقاع العتاق بعد صحة الملك فيكون بمنزلة القائل إذا ملكتك بالنكاح أو ملكتك بالشرى فلما كان الملك بالنكاح والشرى في مضمون اللفظ صار ذلك كالنطق به فإن قيل لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون القائل إن اشتريت عبدا فامرأتي طالق فاشترى عبدا لغيره أن لا تطلق امرأته لأن في مضمون لفظه الملك كأنه قال إن ملكت بالشرى قيل له لا يجب ذلك لأن اللفظ

 

إنما الملك يتضمن فيما يوقع طلاقه أو عتقه فأما في غيرهما فهو محمول على حكم اللفظ من غير تضمين له بوقوع ملك ولا غيره وقوله تعالى من قبل أن تمسوهن قد بينا في سورة البقرة أن الخلوة مرادة بالمسيس وإن نفي العدة متعلق بنفي الخلوة والجماع جميعا وفيما قدمنا ما يغني عن الإعادة وقوله تعالى فمتعوهن إن كان من لم يسم لها مهرا فهو على الوجوب كقوله تعالى أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن وإن كان المراد المدخول بها فهو ندب غير واجب وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى فما لكم عليهن من عدة تعتدونها الآية قال التي نكحت ولم يبين لها ولم يفرض لها فليس لها صداق وليس عدة وقال قتادة عن سعيد هي منسوخة بقوله في البقرة فنصف ما فرضتم وقوله تعالى وسرحوهن بعد ذكر الطلاق قبل الدخول يشبه أن يكون المراد به إخراجها من بيته أو من حباله لأنه مذكور بعد الطلاق فالأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق ولكنه بيان أنه لا سبيل له عليها وأن عليه تخليتها من يده وحباله وبالله التوفيق

باب

ما أحل الله تعالى لرسوله من النساء

قال الله تعالى يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن الآية قال أبو بكر قد انتظمت الآية ضروب النكاح الذي أباحه الله تعالى لنبيه ص - فمنها قوله اللاتي آتيت أجورهن يعني من تزوج منهن بمهر مسمى وأعطاهن ومنها ما ملكت اليمين بقوله وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك مثل ريحانة وصفية وجويرية ثم أعتقهما وتزوجهما وذلك مما أفاء الله عليه من الغنيمة وذكر تعالى بعد ذلك ما أحل له من أقاربه فقال وبنات عمك وبنات عماتك ثم ذكر ما أحل له من النساء بغير مهر فقال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وأخبر أنه مخصوص بذلك دون أمته وأنه وأمته سواء فيمن تقدم ذكرهن وقوله تعالى اللاتي هاجرن معك قال أبو يوسف لا دلالة فيه على أن اللاتي لم يهاجرن كن محرمات عليه وهذا يدل على أنه لم يكن يرى أن المخصوص بالذكر يدل على أن ما عداه بخلافه وروى داود بن أبي هند عن محمد بن أبي موسى عن زياد عن أبي بن كعب قال قلت له أرأيت لو هلك نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أكان له أن ينكح قال وما

 

يمنعه أحل الله له ضروبا من النساء فكان يتزوج منهن ما شاء ثم تلا يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية وهذا يدل على أن تخصيص الله تعالى للمذكورات بالإباحة لم يوجب عليه حظر من سواهن عند أبي بن كعب لأنه أخبر أنهن لو هلكن لكان له أن يتزوج غيرهن وقد روي عن أم هانئ خلاف ذلك روى إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانئ قالت خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فاعتذرت إليه بعذر فأنزل الله إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله اللاتي هاجرن معك قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت مع الطلقاء فإن صح هذا الحديث فإن مذهب أم هانئ أن تخصيصه للمهاجرات منهن قد أوجب حظر من لم تهاجر ويحتمل أن تكون قد علمت حظرهن بغير دلالة الآية وإن الآية إنما فيها إباحة من هاجرت منهن ولم تعرض لمن لم تهاجر بحظر ولا إباحة إلا أنها قد علمت من جهة أخرى حظرهن قوله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي الآية فيها نص على إباحة عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي ص - واختلف أهل العلم في عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح يصح النكاح بلفظ الهبة ولها ما سمي لها وإن لم يسم شيئا فلها مهر مثلها وذكر ابن القاسم عن مالك قال الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم - وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح وإنما وهبها له ليحصنها أو ليكفيها فلا أرى بذلك بأسا وقال الشافعي لا يصح النكاح بلفظ الهبة وقد تنازع أهل العلم حكم هذه الآية فقال قائلون كان عقد النكاح بلفظ الهبة مخصوصا به النبي صلى الله عليه وسلم -

لقوله تعالى في نسق التلاوة خالصة لك من دون المؤمنين وقال آخرون بل كان

النبي صلى الله عليه وسلم - وأمته في عقد النكاح بلفظ الهبة سواء وإنما خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم - كانت في جواز استباحة البضع بغير بدل وقد روي نحو ذلك عن مجاهد وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وهذ هو الصحيح لدلالة الآية والأصول عليه فأما دلالة الآية على ذلك فمن وجوه أحدها قوله وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين فلما أخبر في هذه الآية إن ذلك كان خالصا له دون المؤمنين مع إضافة لفظ الهبة إلى المرأة دل ذلك على أن ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم - من ذلك إنما هو استباحة البضع بغير بدل لأنه لو كان المراد اللفظ لما شاركه فيه غيره لأن ما كان مخصوصا به وخالصا له فغير جائز أن تقع بينه وبين

 

غيره فيه شركة حتى يساويه فيه إذ كانت مساواتهما في الشركة تزيل معنى الخلوص والتخصيص فلما أضاف لفظ الهبة إلى المرأة فقال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي فأجاز العقد منها بلفظ الهبة علمنا أن التخصيص لم يقع في اللفظ وإنما كان في المهر فإن قيل قد شاركه في جواز تمليك البضع بغير بدل ولم يمنع ذلك خلوصها له فكذلك في لفظ العقد قيل له هذا غلط لأن الله أخبر أنها خالصة له وإنما جعل الخلوص فيما هو له وإسقاط المراة المهر في العقد ليس هو لها ولكنه عليها فلم يخرجه ذلك من أن يكون ما جعل له خالصا لم تشركه فيه المرأة ولا غيره والوجه الثاني من دلالة الآية قوله تعالى إن أراد النبي أن يستنكحها فسمى العقد بلفظ الهبة نكاحها فوجب أن يجوز لكل أحد لقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وأيضا لما جاز هذا العقد للنبي ص - وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به وجب أن يجوز لنا فعل مثله إلا أن تقوم الدلالة على أنه كان مخصوصا باللفظ دون أمته وقد حصل له معنى الخلوص المذكور في الآية من جهة إسقاط المهر فوجب أن يكون ذلك مقصورا عليه وما عداه فغير محمول على حكمه إلا أن تقوم الدلالة على أنه مخصوص به ومما يدل على أن خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم - كانت في الصداق ما حدثنا عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت ألا تستحي أن تعرض نفسها بغير صداق فانزل الله تعالى ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء إلى قوله فلا جناح عليك قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم - إني أرى ربك يسارع في هواك ويدل على جوازه بلفظ الهبة ما حدثنا عن محمد بن علي بن زيد الصائغ قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن قال حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله جئت لأهب نفسي لك فنظر إليها فصعد البصر وصوبه ثم طأطأ رأسه فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله إن لم تك لك بها حاجة فزوجنيها وذكر الحديث إلى قوله فقال معي سورة كذا وسورة كذا فقال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك والهبة من ألفاظ التمليك فوجب أن يجوز بها عقد النكاح ولأنه إذا ثبت بلفظ التمليك بالسنة ثبت بلفظ الهبة إذ لم

 

يفرق أحد بينهما فإن قيل قد روي أنه قال قد زوجتك بما معك من القرآن قيل له يجوز أن يكون ذكر مرة التزويج ثم ذكر لفظ التمليك ليبين أنهما سواء في جواز عقد النكاح بهما وأيضا لما أشبه عقد النكاح عقود التمليكات في إطلاقه من غير ذكر الوقت وكان التوقيت يفسده وجب أن يجوز بلفظ التمليك والهبة كجواز سائر الأشياء المملوكة وهذا أصل في جواز سائر ألفاظ التمليك ولا يجوز بلفظ الإباحة لأن لذلك أصلا آخر يمنع جوازه وهو المتعة التي حرمها النبي صلى الله عليه وسلم - ومعنى المتعة إباحة التمتع بها فكل ما كان من ألفاظ الإباحة لم ينعقد به عقد النكاح قياسا على المتعة وكل ما كان من ألفاظ التمليك ينعقد به النكاح قياسا على سائر عقود التمليكات لشبهه بها من الوجوه التي ذكرنا وقد اختلف في المرأة التي وهبت نفسها للنبي ص - فروي عن ابن عباس رواية وعكرمة أنها ميمونة بنت الحارث وقال علي بن الحسن هي أم شريك الدوسية وعن الشعبي أنها امرأة من الأنصار وقيل إنها زينب بنت خزيمة الأنصارية قوله تعالى قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم قال قتادة فرض أن لا ينكح امرأة إلا بولي وشاهدين وصداق ولا ينكح الرجل إلا أربعا وقال مجاهد وسعيد بن جبير أربع قال أبو بكر وقوله وما ملكت أيمانهم يعني ما أباح لهم بملك اليمين كما أباحه للنبي ص -

وقوله لكيلا يكون عليك حرج يرجع والله أعلم إلى قوله إنا أحللنا لك

أزواجك وما ذكر بعده فيما أباحه للنبي ص - لئلا يضيق عليه لأن الحرج الضيق فأخبر تعالى بتوسعته على النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أباحه له وعلى المؤمنين فيما أطلقه لهم قوله تعالى ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن منصور عن أبي رزين في قوله ترجي من تشاء منهن المرجات ميمونة وسودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وكانت عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب سواء في القسم وكان النبي صلى الله عليه وسلم - يساوي بينهن وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى ترجي من تشاء منهن قال كان ذلك حين أنزل الله أن يخيرهن قال الزهري وما علمنا رسول الله أرجى منهن أحدا ولقد آواهن كلهن حتى مات ص -

قال معمر وقال قتادة جعله الله في حل أن يدع من شاء منهن ويؤوي إليه من

شاء يعني قسما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - قسم قال

 

معمر وأخبرنا من سمع الحسن يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم -

إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله ص

- أو يدعها ففي ذلك نزلت ترجي من تشاء منهن قال أبو بكر وروى زكريا عن الشعبي ترجي من تشاء منهن قال نساء كن وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فأرجى بعضهن ودخل ببعض منهن أم شريك لم تتزوج بعده وقال مجاهد ترجي من تشاء منهن قال ترجيهن من غير طلاق ولا تأتيهن وروى عاصم الأحول عن معاذة العدوية عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يستأذننا في يوم إحدانا بعد ما أنزل ترجي من تشاء منهن فقالت لها معاذة فما كنت تقولين لرسول الله صلى الله عليه وسلم -

إذا استأذن قالت كنت أقول إن كان ذلك إلي لم أوثر على نفسي أحدا قال أبو

بكر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقسم بين نسائه ولم يذكر فيه تخصيص واحدة منهن بإخراجها من القسم حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد الخطمي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقسم فيعدل ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك قال أبو داود يعني القلب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا عبدالرحمن يعني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قالت عائشة ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندها وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يا رسول الله يومي لعائشة فقبل ذلك رسول الله ص

- منها قالت نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا وروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم - استأذن نساءه في مرضه أن يكون عند عائشة فأذن له وهذا يدل على أنه قد كان يقسم لجميعهن وهو أصح من حديث أبي رزين الذي ذكر فيه أنه أرجى جماعة من نسائه ثم لم يقسم لهن وظاهر الآية يقتضي تخير النبي صلى الله عليه وسلم - في إرجاء من شاء منهن وإيواء من شاء فليس يمتنع أن يختار إيواء الجميع إلا سودة فإنها رضيت بأن تجعل يومها لعائشة قوله تعالى ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك يعني والله أعلم في إيواء من أرجى منهن أباح له بذلك أن يعتزل من شاء منهن ويؤوي من شاء وأن يوؤي منهن من شاء بعد الاعتزال وقوله تعالى

 

ذلك أدنى أن تقر أعينهن يعني والله أعلم إذا علمن بعد الإرجاء أن لك أن تؤوي وترد إلى القسم وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم - وأنه كان مخيرا في القسم لمن شاء منهن وترك من شاء منهن قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج روى ليث عن مجاهد قال يعني من بعدما سمي لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وعن مجاهد أيضا في قوله إلا ما ملكت يمينك قال لا بأس أن تتسرى اليهودية والنصرانية وروى سعيد عن قتادة لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج قال لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وهو قول الحسن وروي غير ذلك وهو ما روى إسرائيل عن السدي عن عبدالله بن شداد لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج قال ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل قال وكان ينكح ما شاء بعد ما نزلت هذه الآية قال فنزلت هذه الآية وعنده تسع نسوة ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث قال أبو بكر ظاهر الآية يفيد تحريم سائر النساء على النبي صلى الله عليه وسلم -

سوى من كن تحته وقت نزولها وقد روى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن

عائشة قالت ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى حل له النساء قال أبو بكر وهذا يوجب أن تكون الآية منسوخة وليس في القرآن ما يوجب نسخها فهي إذا منسوخة بالسنة ويحتج به في جواز نسخ القرآن بالسنة فإن قيل قوله لا يحل لك النساء من بعد خبر والخبر لا يجوز النسخ في مخبره قيل له إنه وإن كان في صورة الخبر فهو نهي يجوز ورود النسخ عليه وهو بمنزلة ما لو قال لا تتزوج بعدهن النساء فيجوز نسخه قوله تعالى ولو أعجبك حسنهن يدل على جواز النظر إلى وجه المرأة الأجنبية إذ لا يعجبه حسنها إلا وقد نظر إليها

باب

ذكر حجاب النساء

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أبي عثمان واسمه الجعد بن دينار عن أنس قال لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم -

زينب أهدت إليه أم سليم حيسا في تور من حجارة فقال النبي ص

- اذهب فادع من

 

لقيت من المسلمين فدعوت له من لقيت فجعلوا يدخلون فيأكلون ويخرجون فوضع النبي صلى الله عليه وسلم - يده على الطعام فدعا فيه وقال فيه ما شاء الله أن يقول ولم أدع أحدا لقيته إلا دعوته فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه إلى قوله وقلوبهن وروى بشر بن المفضل عن حميد الطويل عن أنس ذكر حديث بناء النبي صلى الله عليه وسلم - بزينب ووليمته فلما طعم القوم وكان مما يفعل إذا أصبح ليلة بنائه دنا من حجر أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلمن عليه ودعا لهن ودعون له فلما انصرف وأنا معه إلى بيته بصر برجلين قد جرى بينهما الحديث من ناحية البيت فانصرف عن بيته فلما رأى الرجلان انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن بيته وثبا خارجين فأخبر أنهما قد خرجا فرجع حتى دخل بيته فأرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب وروى حماد بن زيد عن أسلم العلوي عن أنس قال لما نزلت آية الحجاب جئت لأدخل كما كنت أدخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وراءك يا أنس قال أبو بكر فانتظمت الآية أحكاما منها النهي عن دخول بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا بإذن وإنهم إذا أذن لهم لا يقعدون انتظارا لبلوغ الطعام ونضجه وإذا أكلوا لا يقعدون للحديث وروي عن مجاهد غير ناظرين إناه قال متحينين حين نضجه ولا مستأنسين لحديث بعد أن يأكلوا وقال الضحاك غير ناظرين إناه قال نضجه قوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب قد تضمن حظر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - وبين به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب قوله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله يعني بما بين في هذه الآية من إيجاب الإستئذان وترك الإطالة للحديث عنده والحجاب بينهم وبين نسائه وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم - وأزواجه فالمعنى عام فيه وفي غيره إذ كنا مأمورين باتباعه والإقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته وقد روى معمر عن قتادة أن رجلا قال لو قبض النبي صلى الله عليه وسلم -

لتزوجت عائشة فأنزل الله تعالى وما

كان لكم أن تؤذوا رسول الله قال أبو بكر ما ذكره قتادة هو أحد ما انتظمته الآية وروى عيسى بن يونس عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة أنه قال لامرأته إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمع الله بيننا فيها فلا تزوجي بعدي فإن

 

المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم الله على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

أن يتزوجن بعده وروى حميد الطويل عن أنس قال سألت أم حبيبة زوج النبي ص

- المرأة منا يكون لها زوجان فتموت فتدخل الجنة هي وزوجها لأيهما تكون قال يا أم حبيبة لأحسنهما خلقا كان معها في الدنيا فتكون زوجته في الجنة يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة قوله تعالى لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن الآية قال قتادة رخص لهؤلاء أن لا يجتنبن منهم قال أبو بكر ذوي المحارم منهن وذكر نساءهن والمعنى والله أعلم الحرائر ولا ما ملكت أيمانهن يعني الإماء لأن العبد والحر لا يختلفان فيما يباح لهم من النظر إلى النساء قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدعاء وقد تقدم ذكره وروي عن أبي العالية إن الله وملائكته يصلون على النبي قال صلاة الله عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة عليه بالدعاء قال أبو بكر يعني والله أعلم إخبار الله الملائكة برحمته لنبيه ص - وتمام نعمه عليه فهو معنى قوله صلاته عند الملائكة وروي عن الحسن هو الذي يلي عليكم وملائكته إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام هل يصلي ربك فكان ذلك كبر في صدره فأوحى الله إليه أن أخبرهم أني أصلي وإن صلاتي إن رحمتي سبقت غضبي وقوله يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه قد تضمن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - وظاهره يقتضي الوجوب وهو فرض عندنا فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدى فرضه وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم - متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه وزعم الشافعي أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم -

فرض في الصلاة وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم فيما نعلمه وهو

خلاف الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لفرضها في الصلاة منها حديث ابن مسعود حين علمه التشهد فقال إذا فعلت هذا أو قلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وقوله ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

إذا رفع الرجل رأسه من آخر سجدة وقعد فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته

وحديث معاوية بن الحكم السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم -

وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح مختصر الطحاوي

=============================================================

ج18. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

وقوله وسلموا تسليما يحتج به أصحاب الشافعي في إيجاب فرض السلام في آخر الصلاة ولا دلالة فيه على ما ذكروا لأنه لم يذكر الصلاة فهو على نحو ما ذكرنا في الصلاة عليه ويحتجون به أيضا في فرض التشهد لأن فيه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم -

ولا دلالة فيه على ما ذهبوا إليه إذ لم يذكر السلام على النبي ص

- ويحتمل أن يريد به تأكيد الفرض في الصلاة عليه بتسليمهم لأمر الله إياهم بها كقوله ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال أبو بكر قد ذكر الله تعالى في كتابه اسمه وذكر نبيه ص - فأفرد نفسه بالذكر ولم يجمع الاسمين تحت كناية واحدة نحو قوله والله ورسوله أحق أن يرضوه ولم يقل ترضوهما لأن اسم الله واسم غيره لا يجتمعان في كناية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه خطب بين يديه رجل فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

قم فبئس خطيب القوم أنت لقوله ومن يعصهما فإن قيل فقد قال الله تعالى إن

الله وملائكته يصلون على النبي فجمع اسمه واسم ملائكته في الضمير قيل له إنما أنكرنا جمعهما في كناية يكون اسما لهما نحو الهاء التي هي كناية عن الاسم فأما الفعل الذي ليس باسم ولاكناية عنه وإنما فيه الضمير فلا يمتنع ذلك فيه وقد قيل أيضا في هذا الموضع أن قوله يصلون ضمير الملائكة دون اسم الله تعالى وصلاة الله على النبي مفهومة من الآية من جهة المعنى كقوله انفضوا إليها رد الكناية إلى التجارة دون اللهو لأنه مفهوم من جهة المعنى وكذلك قوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله المذكور في ضمير النفقة هو الفضة والذهب مفهوم من جهة المعنى قوله تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله يعني يؤذون أولياء الله ورسوله وذلك لأن الله لا يجوز أن يلحقه الأذى فأطلق ذلك مجازا لأن المعنى مفهوم عند المخاطبين كما قال واسئل القرية والمعنى أهل القرية وقوله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا قد قيل إنه أراد من أضمر ذكره في الآية الأولى من أولياء الله فأظهر ذكرهم بعد الضمير وبين أنهم المرادون بالضمير وأخبر عن احتمالهم البهتان والاسم اللذين بهما يستحقون ما ذكر في الآية الأولى من اللعن والعذاب قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن روي عن عبدالله قال الجلباب الرداء وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد يتجلببن ليعلم أنهن حرائر ولا يعرض لهن فاسق وروى محمد بن سيرين عن عبيدة يدنين

 

عليهن من جلابيبهن قال تقنع عبيدة وأخرج إحدى عينيه وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن قال كن إماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا يخرجن فيتعرض بهن السفهاء فيؤذونهن وكانت المرأة الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة فيتعرضون لها فيؤذونها فأمر الله المؤمنات أن يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين وقال ابن عباس ومجاهد تغطي الحرة إذا خرجت جبينها ورأسها خلاف حال الإماء وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أبي خيثم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت لما نزلت هذه الاية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء من الأنصار كان على رؤسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على ان المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها لأن قوله تعالى ونساء المؤمنين ظاهره أنه أراد الحرائر وكذا روي في التفسير لئلا يكن مثل الإماء اللاتي هن غير مأمورات بستر الرأس والوجه فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء وقد روي عن عمر أنه كان يضرب الإماء ويقول اكشفن رؤسكن ولا تشبهن بالحرائر قوله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة الآية حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة أن ناسا من المنافقين أرادوا أن يظهروا نفاقهم فنزلت لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم أي لنحرشنك وقال ابن عباس لنغرينك بهم لنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا بالنفي عنها قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على أن الإرجاف بالمؤمنين والإشاعة بما يغمهم ويؤذيهم يستحق به التعزير والنفي إذا أصر عليه ولم ينته عنه وكان قوم من المنافقين وآخرون ممن لا بصيرة لهم في الدين وهم الذين في قلوبهم مرض وهو ضعف اليقين يرجفون باجتماع الكفار والمشركين وتعاضدهم ومسيرهم إلى المؤمنين فيعظمون شأن الكفار بذلك عندهم ويخوفونهم فأنزل الله تعالى فيهم وأخبر تعالى باستحقاقهم النفي والقتل إذا لم ينتهوا عن ذلك فأخبر تعالى أن ذلك سنة الله وهو الطريقة المأمور بلزومها واتباعها وقوله تعالى ولن

 

تجد لسنة الله تبديلا يعني والله أعلم أن احدا لا يقدر على تغيير سنة الله وإبطالها آخر سورة الأحزاب

ومن

سورة سبأ

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى اعملوا آل داود شكرا روي عن عطاء بن يسار قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - على المنبر اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ثم قال ثلاث ومن أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود العدل في الغضب والرضا والقصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية قوله تعالى يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل يدل على أن عمل التصاوير كان مباحا وهو محظور في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم - لما روي عنه أنه قال لا يدخل الملائكة بيتا فيه صورة وقال من صور صورة كلف يوم القيامة أن يحييها وإلا فالنار وقال لعن الله المصورين وقد قيل فيه إن المراد من شبه الله تعالى بخلقه آخر سورة سبأ

ومن سورة فاطر

بسم الله الرحمن الرحيم

روى عكرمة قال ذكر عند ابن عباس بقطع الصلاة الكلب والحمار فقرأ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فما الذي يقطع هذا وروى سالم عن سعيد بن جبير الكلم الطيب يرفعه العمل الصالح قوله تعالى ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها الحلية ههنا اللؤلؤ وما يتحلى به مما يخرج من البحر واختلف الفقهاء في المرأة تحلف أن لا تلبس حليا فقال أبو حنيفة اللؤلؤ وحده ليس بحلي إلا أن يكون معه ذهب لقوله تعالى ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع وهذا في الذهب دون اللؤلؤ إذ لا توقد عليه وقوله حلية تلبسونها إنما سماه حلية في حال اللبس وهو لا يلبس وحده في العادة إنما يلبس مع الذهب ومع ذلك فإن إطلاق لفظ الحلية عليه في القرآن لا يوجب حمل اليمين عليه والدليل عليه قوله تأكلون لحما طريا وأراد به السمك ولو حلف أن لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث وكذلك قوله وجعل الشمس سراجا ومن حلف لا يقعد في سراج وقعد في الشمس لا يحنث قوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فيه الإبانة عن فضيلة العلم وأن به يتوصل إلى خشية الله وتقواه لأن من

 

عرف توحيد الله وعدله بدلائله أوصله ذلك إلى خشية الله وتقواه إذ كان من لا يعرف الله ولا يعرف عدله وما قصد له بخلقه لا يخشى عقابه ولا يتقيه وقوله في آية أخرى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية إلى قوله ذلك لمن خشي ربه خبر إن خير البرية من خشي ربه وأخبر في الآية أن العلماء بالله هم الذين يخشونه فحصل بمجموع الآيتين أن أهل العلم بالله هم خير البرية وإن كانوا على طبقات في ذلك ثم وصف أهل العلم بالله الموصوفين بالخشية منه فقال إن الذين يتلون كتاب الله واقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور فكان ذلك في صفة الخاشعين لله العاملين بعلمهم وقد ذكر في آية أخرى المعرض عن موجب علمه فقال واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه إلى آخر القصة فهذه صفة العالم غير العامل والأول صفة العالم المتقي لله وأخبر عن الأولين بأنهم واثقون بوعد الله وثوابه على أعمالهم بقوله تعالى يرجون تجارة لن تبور قوله تعالى الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن روى بعض السلف قال من شأن المؤمن الحزن في الدنيا ألا تراهم حين يدخلون الجنة يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الدنيا سجن المؤمن قيل لبعض النساك ما بال أكثر النساك محتاجين إلى ما في يد غيرهم قال لأن الدنيا سجن المؤمن وهل يأكل المسجون إلا من يد المطلق قوله تعالى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب روي عن الحسن والضحاك قالا ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر وقال الشعبي لا ينقص من عمره لا ينقضي ما ينقص منه وقتا بعد وقت وساعة بعد ساعة والعمر هو مدة الأجل التي كتبها الله لخلقه فهو عالم بما ينقص منها بمضي الأوقات والأزمان قوله تعالى أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير روي عن ابن عباس ومسروق أن العمر الذي ذكر الله به أربعون سنة وعن ابن عباس رواية وعن علي ستون سنة وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر قال أخبرني رجل من غفار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال لقد أعذر الله عبدا أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة لقد أعذر

 

الله إليه حدثنا عبدالله قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن أبي خيثم عن مجاهد عن ابن عباس قال العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم ستون سنة وبإسناده عن مجاهد مثله من قوله تعالى وجاءكم النذير روي عن بعض أهل التفسير أن النذير محمد ص -

وروي أنه الشيب قال أبو بكر ويجوز أن يكون المراد النبي ص

- وسائر ما أقام الله من الدلائل على توحيده وتصديق رسله ووعده ووعيده وما يحدث في الإنسان من حين بلوغه إلى آخر عمره من التغير والإنتقال من حال إلى حال من غير صنع له فيه ولا اختيار منه له فيكون حدثا شابا ثم كهلا ثم شيخا وما ينقلب فيه فيما بين ذلك من مرض وصحة وفقر وغناء وفرح وحزن ثم ما يراه في غيره وفي سائر الاشياء من حوادث الدهر التي لا صنع للمخلوقين فيها وكل ذلك داع له إلى الله ونذير له إليه كما قال تعالى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء فأخبر أن في جميع ما خلق دلالة عليه ورادا للعباد إليه آخر سورة فاطر

ومن

سورة يس

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبدالله بن عمر في قوله والشمس تجري لمستقر لها قال الشمس تطلع فيراها بنو آدم حتى إذا كان يوم غربت فتحبس ما شاء الله ثم يقال أطلعي من حيث غربت فهو يوم لا ينفع نفسا إيمانها الآية قال معمر وبلغني عن أبي موسى الأشعري أنه قال إذا كانت الليلة التي تطلع فيها الشمس من حيث تغرب قام المتهجدون لصلاتهم فصلوا حتى يملوا ثم يعودون إلى مضاجعهم يفعلون ذلك ثلاث مرات والليل كما هو والنجوم واقفة لا تسري حتى يخرج الرجل إلى أخيه ويخرج الناس بعضهم إلى بعض قال ابو بكر فكان معنى قوله لمستقر لها على هذا التأويل وقوفها عن السير في تلك الليلة إلى أن تطلع من مغربها قال معمر وبلغني أن بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر قيل له وما الآيات قال زعم قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم -

بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض

وخويصة أحدكم وأمر العامة قيل له هل بلغك أي الآيات أول قال

 

طلوع الشمس من مغربها وقد بلغني أن رجالا يقولون الدجال وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله وروى قتادة لمستقر لها قال لوقت واحد لها لا تعدوه قال أبو بكر يعني أنها استقرت على سير واحد وعلى مقدار واحد لا تختلف وقيل لمستقر لها لا بعد منازلها في الغروب قوله تعالى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر قال ذاك ليلة الهلال قال أبو بكر يعني والله أعلم أنها لا تدركه فتستره بشعاعها حتى تمنع رؤيته لأنهما مسخران مقسوران على ما رتبهما الله عليه لا يمكن واحدا منهما أن يتغير عن ذلك وقال أبو صالح لا يدرك أحدهما ضوء الآخر وقيل لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانها وقيل لا تدركه في سرعة السير وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر قال وبلغني أن عكرمة قال لكل واحد منهما سلطان للقمر سلطان الليل وللشمس النهار فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل ولا الليل سابق النهار يقول لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون نهارا فإن قيل هذا يدل على أن ابتداء الشهر نهار لا ليل لأنه قال ولا الليل سابق النهار فإذا لم يسبق الليل النهار واستحال اجتماعهما معا وجب أن يكون النهار سابقا لليل فيكون ابتداء الشهور من النهار لا من الليل قيل له ليس تأويل الآية ما ذهبت إليه وإنما معناها أحد الوجوه التي تقدم ذكرها عن السلف ولم يقل أحد منهم أن معناها أن ابتداء الشهور من النهار فهذا تأويل ساقط بالإجماع وأيضا فلما كانت الشهور التي تتعلق بها أحكام الشرع هي شهور الأهلة والهلال أول ما يظهر فإنما يظهر ليلا ولا يظهر ابتداء النهار وجب أن يكون ابتداؤها من الليل ولا خلاف بين أهل العلم أن أول ليلة من شهر رمضان هي من رمضان وأن أول ليلة من شوال هي من شوال فثبت بذلك أن ابتداء الشهور من الليل ألا ترى أنهم يبتدؤن بصلاة تراويح في أول ليلة منه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت فيه الشياطين وجميع ذلك يدل على

أن ابتداء الشهور من أول الليل وقد قال أصحابنا

 

فيمن قال لله علي اعتكاف شهر أنه يبتدئ به من الليل لأن ابتداء الشهور من الليل قوله تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون روي عن الضحاك وقتادة أنه أراد سفينة نوح قال أبو بكر فنسب الذرية إلى المخاطبين لأنه من جنسهم كأنه قال ذرية الناس وقوله تعالى وخلقنا لهم من مثله ما يركبون قال ابن عباس السفن بعد سفينة نوح وروي عن ابن عباس رواية أخرى وعن مجاهد أن الإبل سفن البر قوله تعالى ومن نعمره ننكسه في الخلق قال قتادة نصيره إلى حال الهرم التي تشبه حال الصبي في غروب العلم وضعف القوى وقال غيره نصيره بعد القوة إلى الضعف وبعد زيادة الجسم إلى النقصان وبعد الجدة والطراوة إلى البلى قال أبو بكر ومثله قوله تعالى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وسماه أرذل العمر لأنه لا يرجى له بعده عود من النقصان إلى الزيادة ومن الجهل إلى العلم كما يرجى مصير الصبي من الضعف إلى القوة ومن الجهل إلى العلم ونظيره قوله تعالى ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة قوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر في قوله وما علمناه الشعر وما ينبغي له قال بلغني أن عائشة سئلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر فقالت لا إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة ... ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ...

قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم -

يقول يأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر ليس هكذا يا رسول الله قال

إني لست بشاعر ولا ينبغي لي قال أبو بكر لم يعط الله نبيه ص - العلم بإنشاء الشعر لم يكن قد علمه الشعر لأنه الذي يعطي فطنة ذلك من يشاء من عباده وإنما لم يعط ذلك لئلا تدخل به الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن أنه قوي على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر وإذا كان التأويل أنه لم يعطه الفطنة لقول الشعر لم يمتنع على ذلك أن ينشد شعرا لغيره إلا أنه لم يثبت من وجه صحيح أنه تمثل بشعر لغيره وإن كان قد روي أنه قال ... هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت ...

وقد روي أن القائل لذلك بعض الصحابة وأيضا فإن من أنشد شعرا لغيره أو قال بيتا أو بيتين لم يسم شاعرا أو لا يطلق عليه أنه قد علم الشعر أو قد تعلمه ألا ترى أن من

 

لا يحسن الرمي قد يصيب في بعض الأوقات برميته ولا يستحق بذلك أن يسمى راميا ولا أنه تعلم الرمي فكذلك من أنشد شعرا لغيره وأنشأ بيتا ونحوه لم يسم شاعرا قوله تعالى قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فيه من أوضح الدليل على أن من قدر على الابتداء كان أقدر على الإعادة إذ كان ظاهر الأمر أن إعادة الشيء أيسر من ابتدائه فمن قدر على الإنشاء ابتداء فهو على الإعادة أقدر فيما يجوز عليه البقاء وفيه الدلالة على وجوب القياس والاعتبار لأنه ألزمهم قياس النشأة الثانية على الأولى وربما احتج بعضهم بقوله تعالى قال من يحيي العظام وهي رميم على أن العظم فيه حياة فيجعله حكم الموت بموت الأصل ويكون ميتة وليس كذلك لأنه إنما سماه حيا مجازا إذ كان عضوا يحيى الأرض بعد موتها ومعلوم أنه لا حياة فيها آخر سورة يس

ومن

سورة والصافات

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر إلى قوله وفديناه بذبح عظيم قال أبو بكر ظاهره يدل على أنه كان مأمورا بذبحه فجائز أن يكون الأمر إنما تضمن معالجة الذبح لا ذبحا يوجب الموت وجائز أن يكون الأمر حصل على شريطة التخلية والتمكن منه وعلى أن لا يفديه بشيء وأنه إن فدى منه بشيء كان قائما مقامه والدليل على أن ظاهره قد اقتضى الأمر قوله افعل ما تؤمر وقوله وفديناه بذبح عظيم فلو لم يكن ظاهره قد اقتضى الأمر بالذبح لما قال افعل ما تؤمر ولم يكن الذبح فداء عن ذبح متوقع وروي أن إبراهيم عليه السلام كان نذر إن رزقه الله ولدا ذكرا أن يجعله ذبيحا لله فأمر بالوفاء به وروي أن الله تعالى ابتدأ بالأمر بالذبح على نحو ما قدمنا وجائز أن يكون الأمر ورد بذبح ابنه وذبح فوصل الله أوداجه قبل خروج الروح وكانت الفدية لبقاء حياته قال أبو بكر وعلى أي وجه تصرف تأويل الآية قد تضمن الأمر بذبح الولد إيجاب شاة في العاقبة فلما صار موجب هذا اللفظ إيجاب شاة في المتعقب في شريعة إبراهيم عليه السلام وقد أمر الله باتباعه بقوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وقال أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وجب على من نذر ذبح ولده شاة وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في ذلك

 

فروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يقول هو ينحر ابنه قال كبش كما فدى إبراهيم إسحاق وروى سفيان عن منصور عن الحكم عن علي في رجل نذر أن ينحر ابنه قال يهدي بدنة أو ديته شك الرواي وعن مسروق مثل قول ابن عباس وروى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال يحج ويهدي بدنة وروى داود بن أبي هند عن عامر في رجل حلف أن ينحر ابنه قال قال بعضهم مائة من الإبل وقال بعضهم كبش كما فدى إسحاق قال أبو بكر قال أبو حنيفة ومحمد عليه ذبح شاة وقال أبو يوسف لا شيء عليه وقال أبو حنيفة لو نذر ذبح عبده لم يكن عليه شيء وقال محمد عليه ذبح شاة وظاهر الآية يدل على قول أبي حنيفة في ذبح الولد لأن هذا اللفظ قد صار عبارة عن إيجاب شاة في شريعة إبراهيم عليه السلام فوجب بقاء حكمه ما لم يثبت نسخه وذهب أبو يوسف إلى حديث أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم وروى الحسن عن

عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين قال أبو بكر لا يلزم القائلين بالقول الأول وذلك لأن قوله علي ذبح ولدي لما صار عبارة عن إيجاب ذبح شاة صار بمنزلة ما لو قال علي ذبح شاة ولم يكن ذلك معصية وإنما لم يوجب أبو حنيفة على الناذر ذبح عبده شيئا لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة فكان نذر معصية وقد قالوا جميعا فيمن قال لله علي أن أقتل ولدي أنه لا شيء عليه لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة وقد روى يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال كنت عند ابن عباس فجاءته امرأة فقالت إني نذرت أن انحر ابني قال لا تنحري ابنك وكفري عن يمينك فقال رجل عند ابن عباس إنه لا وفاء لنذر في معصية فقال ابن عباس مه قال الله تعالى في الظهار ما سمعت وأوجب فيه ما ذكره قال أبو بكر وليس ذلك بمخالف لما قدمنا من قول ابن عباس في إيجابه كبشا لأنه جائز أن يكون من مذهبه إيجابهما جميعا إذا أراد بالنذر اليمين كما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال لله علي أن أصوم غدا فلم يفعل وأراد اليمين أن عليه كفارة اليمين والقضاء جميعا وقد اختلف في الذبيح من ولدي إبراهيم عليهم السلام فروي عن علي وابن مسعود وكعب والحسن وقتادة أنه إسحاق وعن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي أنه إسماعيل وروي عن النبي

 

ص - القولان جميعا ومن قال هو إسماعيل يحتج بقوله عقيب ذكر الذبح وبشرناه بإسحاق نبيا فلما كانت البشارة بعد الذبح دل على أنه إسماعيل واحتج الآخرون بأنه ليس ببشارة بولادته وإنما هي بشارة بنبوته لأنه قال وبشرناه بإسحاق نبيا قوله تعالى فساهم فكان من المدحضين احتج به بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض وذلك إغفال منه وذلك لأنه عليه السلام ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت عليه وفي أخذ ماله فدل على أنه خاص فيه عليه السلام دون غيره قوله تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال ابن عباس بل يزيدون قيل إن معنى أو ههنا الإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين وقيل هو على شك المخاطبين إذ كان الله تعالى لا يجوز عليه الشك آخر سورة والصافات

ومن

سورة ص

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى يسبحن بالعشي والإشراق روي عن معمر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وروى القاسم عن زيد بن أرقم قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى وروى شريك عن زيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث أوصاني بصلاة الضحى والوتر قبل النوم وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ونهاني عن نقر كنقر الديك والتفات كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب وروى عطية عن أبي سعيد الخدري قال كان النبي صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها وروي عن عائشة وأم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم -

صلى الضحى وعن ابن عمر أن النبي ص

- لم يصلها وقال ابن عمر هي من أحب ما أحدث الناس إلي وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى فقال إنها لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال قوله تعالى إنا سخرنا الجبال معه قيل إنه سخرها معه فكانت تسير معه وجعل ذلك تسبيحا

 

منها لله تعالى لأن التسبيح لله هو تنزيهه عما لا يليق به فلما كان سيرها دلالة على تنزيه الله جعل ذلك تسبيحا منها له قوله تعالى وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب قال جزأ داود الدهر أربعة أيام يوما لنسائه ويوما لقضائه ويوما يخلو فيه لعبادة ربه ويوما لبني إسرائيل يسألونه وذكر الحديث قال أبو بكر وهذا يدل على أن القاضي لا يلزمه الجلوس للقضاء في كل يوم وأنه جائز له الاقتصار على يوم من أربعة أيام ويدل على أنه لا يجب على الزوج الكون عند امرأته في كل يوم وأنه جائز له أن يقسم لها يوما من أربعة أيام وقال أبو عبيدة المحراب صدر المجلس ومنه محراب المسجد وقيل إن المحراب الغرفة وقوله تعالى إذ تسوروا المحراب يدل على ذلك والخصم اسم يقع على الواحد وعلى الجماعة وإنما فزع منهم داود لأنهم دخلوا عليه في موضع صلاته على صورة الآدميين بغير إذن فقالوا لاتخف خصمان بغى بعضنا على بعض ومعناه أرأيت إن جاءك خصمان فقالا بغى بعضنا على بعض وإنما كان فيه هذا الضمير لأنه معلوم أنهما كانا من الملائكة ولم يكن من بعضهم بغي على بعض والملائكة لا يجوز عليهم الكذب فعلمنا أنهما كلماه بالمعاريض التي تخرجهما من الكذب مع تقريب المعنى بالمثل الذي ضرباه وقولهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة هو على معنى ما قدمنا من ضمير أرأيت إن كان له تسع وتسعون نعجة وأراد بالنعاج النساء وقد قيل إن داود كان له تسع وتسعون امرأة وأن أوريا بن حنان لم تكن له امرأة وقد خطب امرأة فخطبها داود مع علمه بأن أوريا خطبها وتزوجها وكان فيه شيآن مما سبيل الأنبياء التنزه عنه أحدهما خطبته على خطبة غيره والثاني إظهار الحرص على التزويج مع كثرة من عنده من النساء ولم يكن عنده أن ذلك معصية فعاتبه الله تعالى عليها وكانت صغيرة وفطن حين خاطبه الملكان بأن الأولى كان به أن لا يخطب المرأة التي خطبها غيره وقوله ولي نعجة واحدة يعني خطبت امرأة واحدة قد كان التراضي منا وقع بتزويجها وما روي في أخبار القصاص من أنه نظر إلى المرأة فرآها متجردة فهويها وقدم زوجها للقتل فإنه وجه لا يجوز على الأنبياء لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العلم بأنها معاص إذ لا يدرون لعلها كبيرة تقطعهم عن ولاية الله

 

تعالى ويدل على صحة التأويل الأول أنه قال وعزني في الخطاب فدل ذلك على أن الكلام إنما كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزويج الآخر وقوله تعالى فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط يدل على أن للخصم أن يخاطب الحاكم بمثله وقوله تعالى لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه من غير أن يسئل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمثل على ما بينا وأن داود قد كان عرف ذلك من فحوى كلامه لولا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسئله فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به وقوله تعالى وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم علىبعض وهو يعني الشركاء يدل على أن العادة في أكثر الشركاء الظلم والبغي ويدل عليه أيضا قوله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم قوله تعالى وظن داود أنما فتناه يدل على أنه عليه السلام لم يقصد المعصية بديا وإن كلام الملكين أوقع له الظن بأنه قد أتى معصية وإن الله تعالى قد شدد عليه المحنة بها لأن الفتنة في هذا الموضع تشديد التعبد والمحنة فحيئنذ علم أن ما أتاه كان معصية واستغفر منها وقوله تعالى وخر راكعا وأناب روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

سجد في ص وليست من العزائم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ص

- قال في سجدة ص سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا وروى الزهري عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر سجد في ص وروى عثمان وابن عمر مثله وقال مجاهد قلت لابن عباس من أين أخذت سجدة ص قال فتلا علي أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتد ه فكان داود سجد فيها فلذلك سجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم -

وروى مسروق عن ابن مسعود أنه كان لا يسجد فيها ويقول هي توبة نبي وقول

ابن عباس في رواية سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم - فعلها اقتداء بداود لقوله فبهداهم اقتده يدل على أنه رأى فعلها واجبا لأن الأمر على الوجوب وهو خلاف رواية عكرمة عنه أنها ليست من عزائم السجود ولما سجد النبي صلى الله عليه وسلم - فيها كما سجد في غيرها من مواضع السجود دل على أنه لا فرق بينها وبين سائر مواضع السجود وأما قول عبدالله أنها ليس بسجدة لأنها توبة نبي فإن كثيرا من مواضع السجود إنما هو حكايات عن قوم مدحوا بالسجود نحو قوله تعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون وهو موضع السجود للناس بالاتفاق وقوله تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى

 

عليهم يخرون للأذقان سجدا ونحوها من الآي التي فيها حكاية سجود قوم فكانت مواضع السجود وقوله وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون يقتضي لزوم فعله عند سماع القرآن فلو خلينا والظاهر أوجبناه في سائر القرآن فمتى اختلفنا في موضع منه فإن الظاهر يقتضي وجوب فعله إلا أن تقوم الدلالة على غيره وأجاز أصحابنا الركوع عن سجود التلاوة وذكر محمد بن الحسن أنه قد روي في تأويل قوله تعالى وخر راكعا أن معناه خر ساجدا فعبر بالركوع عن السجود فجاز أن ينوب عنه إذ صار عبارة عنه قوله تعالى وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب روى أشعث عن الحسن قال العلم بالقضاء وعن شريح قال الشهود والأيمان وعن أبي حصين عن أبي عبدالرحمن السلمي قال فصل الخطاب قال الخصوم قال أبو بكر الفصل بين الخصوم بالحق وهذا يدل على أن فصل القضاء واجب على الحاكم إذا خوصم إليه وأنه غير جائز له إهمال الحكم وهو يبطل قول من يقول إن الناكل عن اليمين يحبس حتى يقرأ ويحلف لأن فيه إهمال الحكم وترك الفصل وروى الشعبي عن زياد أن فصل الخطاب أما بعد وليس زياد ممن يعتد به في الأقاويل ولكنه قد روى وعسى أن يكون ذهب إلى أنه فصل بين الدعاء في صدر الكتاب وبين الخطاب المقصود به الكتاب قوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد بن سلمة عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى الآية وقرأ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا إلى قوله فلا تخشوا الناس واخشون وروى سليمان بن حرب عن حماد بن أبي سلمة عن حميد قال لما استقضى إياس بن معاوية أتاه الحسن فبكى إياس فقال له الحسن ما يبكيك يا أبا وائلة قال بلغني أن القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار ورجل مال به الهوى فهو في النار ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة قال الحسن إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما فأثنى على سليمان ولم يذم داود ثم قال

 

الحسن إن الله أخذ على الحكام ثلاثا وذكر نحو الحديث الأول قال أبو بكر قد بين في حديث أبي بريدة معنى ما ذكر في الحديث الذي رواه إياس بن معاوية أن القاضي إذا أخطأ فهو في النار وهو ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود السجستاني قال حدثنا محمد بن حسان السمني قال حدثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار فأخبر أن الذي في النار من المخطئين هو الذي تقدم على القضاء بجهل قوله تعالى إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد إلى قوله بالسوق والأعناق قال مجاهد صفوان الفرس رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر وذاك من عادة الخيل والجياد السراع من الخيل يقال فرس جواد إذا جاء بالركض قوله تعالى إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي يحتمل وجهين أحدهما إني أحببت حب الخير الذي ينال بهذا الخيل فشغلت به عن ذكر ربي وهو الصلاة التي كان يفعلها في ذلك الوقت ويحتمل إني أحببت حب الخير وهو يريد به الخيل نفسها فسماها خيرا لما ينال بها من الخير بالجهاد في سبيل الله وقتال أعدائه ويكون قوله عن ذكر ربي معناه أن ذلك من ذكري لربي وقيامي بحقه في اتخاذ هذا الخيل قوله تعالى حتى توارت بالحجاب روي عن ابن مسعود حتى توارت الشمس بالحجاب قال أبو بكر وهو كقول لبيد ... حتى إذا لقيت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها ...

وكقول حاتم ... أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ...

فأضمر النفس في قوله حشرجت وقال غير ابن مسعود حتى توارت الخيل بالحجاب وقوله تعالى ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق روي عن ابن عباس أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبالها وهذا كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني قال أخبرنا محمد بن المهاجر قال حدثني عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأعجازها أو قال أكفالها وقلدوها ولا

 

تقلدوها الأوتار فجائز أن يكون سليمان إنما مسح أعرافها وعراقيبها على نحو ما ندب إليه نبينا ص - وقد روي عن الحسن أنه كشف عراقيبها وضرب أعناقها وقال لا تشغليني عن عبادة ربي مرة أخرى والتأويل الأول أصح والثاني جائز ومن تأوله على الوجه الثاني يستدل به على إباحة لحوم الخيل إذ لم يكن ليتلفها بلا نفع وليس كذلك لأنه جائز أن يكون محرم الأكل وتعبد الله بإتلافه ويكون المنفعة في تنفيذ الأمر دون غيره ألا ترى أنه كان جائز أن يميته الله تعالى ويمنع الناس من الانتفاع بأكله فكان جائزا أن يتعبد بإتلافه ويحظر الانتفاع بأكله بعده وقوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث روي عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس إن شفيته تقولين لي أنت شفيته فأخبرت بذلك أيوب فقال إن شفاني الله ضربتك مائة سوط فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة قال عطاء وهي للناس عامة وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فأخذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فضرب به امرأته وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر فقال لها قولي لزوجك يقول كذا وكذا فقالت له قل كذا وكذا فحلف حينئذ أن يضربها فضربها تحلة ليمينه وتخفيفا على امرأته قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن من حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه ضربة واحدة أنه يبر في يمينه إذا أصابه جميعها لقوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث والضغث هو ملء الكف من الخشب أو السياط أو الشماريخ ونحو ذلك فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك فقد بر في يمينه لقوله ولا تحنث وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا ضربه ضربة واحدة بعد أن يصيبه كل واحدة منه فقد بر في يمينه وقال مالك والليث لا يبر وهذا القول خلاف الكتاب لأن الله تعالى قد أخبر أن فاعل ذلك لا يحنث وقد روي عن مجاهد أنه قال هي لأيوب خاصة وقال عطاء للناس عامة قال أبو بكر دلالة الآية ظاهرة على صحة القول الأول من وجهين أحدهما أن فاعل ذلك يسمى ضاربا لما شرط من العدد وذلك يقتضي البر في يمينه والثاني أنه لا يحنث لقوله ولا تحنث وزعم بعض من يحتج لمذهب مالك أن ذلك لأيوب خاصة لأنه قال فاضرب به ولا

 

تحنث فلما أسقط عنه الحنث كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة فأداها أو بمنزلة من لم يحلف على شيء وهذا حجاج ظاهر السقوط لا يحتج بمثله من يعقل ذلك لتناقضه واستحالته ومخالفته لظاهر الكتاب وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه إذا فعل ذلك لم يحنث واليمين تتضمن شيئين حنثا أو برا فإذا أخبر الله أنه لا يحنث فقد أخبر بوجود البر إذ ليس بينهما واسطة فتناقضه واستحالته من جهة أن قوله هذا يوجب أن كل من بر في يمينه بأن يفعل المحلوف عليه كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة على قضيته لسقوط الحنث ولو كان لأيوب خاصة وكان عبادة تعبد بها دون غيره كان الله أن يسقط عنه الحنث ولا يلزمه شيئا وإن لم يضربها بالضغث فلا معنى على قوله لضربها بالضغث إذ لم يحصل به بر في اليمين وزعم هذا القائل أن لله تعالى أن يتعبد بما شاء في الأوقات وفيما تعبدنا به ضرب الزاني قال ولو ضربه ضربة واحدة بشماريخ لم يكن حدا قال أبو بكر أما ضرب الزاني بشماريخ فلا يجوز إذا كان صحيحا سليما وقد يجوز إذا كان عليلا يخاف عليه لأنه لو أفرد كل ضربة لم يجز إذا كان صحيحا ولو جمع أسواطا فضربه بها وأصابه كل أحد منها وأعيد عليه ما وقع عليه من الأسواط وإن كانت مجتمعة فلا فرق بين حال الجمع والتفريق وأما في المرض فجائز أن يقتصر من الضرب على شماريخ أو درة أو نحو ذلك فيجوز أن يجمعه أيضا فيضربه به ضربة وقد روي في ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال استفتوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم - فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم -

وقالوا ما رأينا أحدا به من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت

عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا له شماريخ مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ورواه بكير بن عبدالله بن الأشج عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد وقال فيه فخذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ففعلوا وهو سعيد بن سعد بن عبادة وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم -

وأبو أمامة بن سهل بن حنيف هذا ولد في حياة رسول الله ص

 

فصل وفي هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا لولا ذلك لم يكن أيوب ليحلف عليه ويضربها ولما أمره الله تعالى بضربها بعد حلفه والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزا بقوله واللاتي تخافون نشوزهن إلى قوله واضربوهن وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديبا لغير نشوز وقوله تعالى الرجال قوامون على النساء فما روي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب لأنه روي أن رجلا لطم امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأراد أهلها القصاص فأنزل الله الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم وفي الآية دليل على أن للرجل أن يحلف ولا يستثني لأن أيوب حلف ولم يستثن ونظيره من سنة النبي صلى الله عليه وسلم - قوله في قصة الأشعريين حين استحملوه فقال والله لا أحملكم ولم يستثن ثم حملهم وقال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وفيها دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ثم فعل المحلوف عليه أن عليه الكفارة لأنه لو لم تجب كفارة لترك أيوب ما حلف عليه ولم يحتج إلى أن يضربها بالضغث وهو خلاف قول من قال لا كفارة عليه إذا فعل ما هو خير وقد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وذلك كفارته وفيها دليل على أن التعزير يجاوز به الحد لأن في الخبر أنه حلف أن يضربها مائة فأمره الله تعالى بالوفاء به إلا أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين وفيها دليل على أن اليمين إذا كانت مطلقة فهي على المهلة وليست على الفور لأنه معلوم أن أيوب لم يضرب امرأته في فور صحته ويدل على أن من حلف على ضرب عبده أنه لا يبر إلا أن يضربه بيده لقوله وخذ بيدك ضغثا إلا أن أصحابنا قالوا فيمن لا يتولى الضرب بيده إن أمر غيره بضربه لا يحنث للعرف وفيها دليل على أن الإستثناء لا يصح إلا أن يكون متصلا باليمين لأنه لو صح الإستثناء متراخيا عنها لأمر بالإستثناء ولم يؤمر بالضرب وفيها دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر آخر سورة ص

 

ومن

سورة الزمر

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ثم راجعة إلى صلة الكلام كأنه قال خلقكم من نفس واحدة ثم أخبر أنه جعل منها زوجها لأنه لا يصح رجوعها إلى المخلوقين من الأولاد على معنى الترتيب لأن الوالدين قبل الولد وهو مثل قوله ثم الله شهيد على ما يفعلون وقوله ثم آتينا موسى الكتاب تماما ونحو ذلك آخر سورة الزمر

ومن

سورة المؤمن

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى يا هامان ابن لي صرحا روى سفيان عن منصور عن إبراهيم في قوله يا هامان ابن لي صرحا قال بني بالآجر وكانوا يكرهون أن يبنو بالآجر ويجعلونه في قبورهم وقوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم روى الثوري عن الأعمش ومنصور عن سبيع الكندي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ ادعوني أستجب لكم الآية وقوله تعالى النار يعرضون عليها هذه الآية تدل على عذاب القبر لقوله تعالى ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فدل على أن المراد النار يعرضون عليها غدوا وعشيا قبل القيامة آخر سورة المؤمن

ومن

سورة حم السجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا فيه بيان أن ذلك أحسن قول ودل بذلك على لزوم فرض الدعاء إلى الله إذ لا جائز أن يكون النفل أحسن من الفرض فلو لم يكن الدعاء إلى الله فرضا وقد جعله من أحسن قول اقتضى ذلك أن يكون النفل أحسن من الفرض وذلك ممتنع وقوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا الآية قيل إن الملائكة تتنزل عليهم عند الموت فيقولون لا تخف مما أنت قادم عليه فيذهب الله خوفه ولا تحزن على الدنيا ولا على أهلها فيذهب الله خوفه وأبشر بالجنة وروي ذلك عن زيد بن أسلم وقال غيره إنما يقولون له ذلك في القيام عند الخروج من القبر فيرى تلك الأهوال

 

فيقول له الملائكة لا تخف ولا تحزن فإنما يراد بهذا غيرك ويقولون له نحن أولياؤك في الحياة الدنيا فلا يفارقونه تأنيسا له إلى أن يدخل الجنة وقال أبو العالية إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا قال أخلصوا له الدين والعمل والدعوة قوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم قال بعض أهل العلم ذكر الله العدو فأخبر بالحيلة فيه حتى تزول عداوته ويصير كأنه ولي فقال تعالى ادفع بالتي هي أحسن الآية قال وأنت ربما لقيت بعض من ينطوي لك على عداوة وضغن فتبدأه بالسلام أو تبسم في وجهه فيلين لك قلبه ويسلم لك صدره قال ثم ذكر الله الحاسد فعلم أن لا حيلة عندنا فيه ولا في استملاك سخيمته واستخراج ضغينته فقال تعالى قل أعوذ برب الفلق إلى قوله ومن شر حاسد إذا حسد فأمر بالتعوذ منه حين علم أن لا حيلة عندنا في رضاه قوله تعالى واسجدوا لله الذي خلقهن الآية قال أبو بكر اختلف في موضع السجود من هذه السورة فروي عن ابن عباس ومسروق وقتادة أنه عند قوله وهم لا يسأمون وروي عن أصحاب عبدالله والحسن وأبي عبدالرحمن أنه عند قوله إن كنتم إياه تعبدون قال أبو بكر الأولى أنها عند آخر الآيتين لأنه تمام الكلام ومن جهة أخرى أن السلف لما اختلفوا كان فعله بالآخر منهما أولى لاتفاق الجميع على جواز فعلها بأخراهما واختلافهم في جوازها بأولاهما قوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا الآية يدل على أنه لو جعله أعجميا كان أعجميا فكان يكون قرآنا أعجميا وأنه إنما كان عربيا لأن الله أنزله بلغة العرب وهذا يدل على أن نقله إلى لغة العجم لا يخرجه ذلك من أن يكون قرآنا آخر سورة حم السجدة

ومن

سورة حم عسق

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب فيه الدلالة على بطلان الإستئجار على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لإخباره تعالى بأن من يريد حرث الدنيا فلا حظ له في الآخرة فيخرج ذلك من أن يكون قربة فلا يقع موقع الجواز وقوله تعالى قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي معناه إلا أن تودوني لقرابتي منكم قالوا كل

 

قريش كانت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم - قرابة وقال علي بن الحسن وسعيد بن جبير إلا أن تودوا قرابتي وقال الحسن إلا المودة في القربى أي إلا التقرب إلى الله والتودد بالعمل الصالح وقوله تعالى والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم يدل على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة ويدل على أنا مأمورون بها قوله تعالى والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون روي عن إبراهيم النخعي في معنى الآية قال كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق وقال السدي هم ينتصرون معناه ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا عليهم قال أبو بكر قد ندبنا الله في مواضع من كتابه إلى العفو عن حقوقنا قبل الناس فمنه قوله وأن تعفوا أقرب للتقوى وقوله تعالى في شأن القصاص فمن تصدق به فهو كفارة له وقوله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وأحكام هذه الآي ثابتة غير منسوخة وقوله والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الإستجابة لله تعالى وإقامة الصلاة وهو محمول على ما ذكره إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ الفساق عليهم فهذا فيمن تعدى وبغى وأصر على ذلك والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا وقد قال عقيب هذه الآية ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ومقتضى ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به وقد عقبه بقوله ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور فهو محمول على الغفران عن غير المصر فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قوله تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل قال فبما يكون بين الناس من القصاص فأما لو ظلمك رجل لم يحل لك أن تظلمه آخر سورة حم عسق

ومن

سورة الزخرف

بسم الله الرحمن الرحيم

في

التسمية عند الركوب

قوله تعالى لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه حدثنا عبدالله

 

ابن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن علي بن ربيعة أنه شهد عليا كرم الله وجهه حين ركب فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ثم قال حمدا لله ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له مم تضحك يا أمير المؤمنين قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم - فعل مثل الذي فعلت وقال مثل الذي قلت ثم ضحك فقيل له مم تضحك يا نبي الله قال العبد أو قال عجب للعبد إذا قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان إذا ركب قال بسم الله ثم قال هذا منك وفضلك علينا الحمد لله ربنا ثم يقول سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - على ذروة سنام كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فقولوا كما أمركم الله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وروي عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن أبي معمر أن ابن مسعود قال إذا ركب الدابة فلم يذكر اسم الله عليه ردفه الشيطان فقال له تغن فإن لم يحسن قال له تمن

فصل

في إباحة لبس الحلي للنساء

قال أبو العالية ومجاهد رخص للنساء في الذهب ثم قرأ أو من ينشأ في الحلية وروى نافع عن سعيد عن أبي هند عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لبس الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها وروى شريك عن العباس

بن زريح عن البهي عن عائشة قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول وهو يمص الدم عن شجة بوجه أسامة ويمجه لو كان أسامة جارية لحليناه لو كان أسامة جارية لكسوناه لتنفقه وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - رأى امرأتين عليهما أسورة من ذهب فقال أتحبان أن يسوركما الله بأسورة من نار قالتا لا قال فأديا حق هذا وقالت عائشة لا بأس بلبس الحلي إذا أعطى زكاته وكاتب عمر إلى أبي موسى أن مر من قبلك من نساء المؤمنين أن يصدقن من الحلي وروى أبو حنيفة عن عمرو بن دينار أن عائشة حلت أخواتها الذهب وأن ابن

 

عمر حلى بناته الذهب وقد روى خصيف عن مجاهد عن عائشة قالت لما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب قلنا يا رسول الله أو نربط المسك بشيء من الذهب قال أفلا تربطونه بالفضة ثم تلطخونه بشيء من زعفران فيكون مثل الذهب وروى جرير عن مطرف عن أبي هريرة قال كنت قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم - فأتته امرأة فقالت يا رسول الله سواران من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم - سواران من نار فقالت قرطان من ذهب قال قرطان من نار قالت طوق من ذهب قال طوق من نار قالت يا رسول الله إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها صلفت عنده فقال ما يمنعكن أن تجعلن قرطين من فضة تصفرينه بعنبر أو زعفران فإذا هو كالذهب قال أبو بكر الأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة أظهر وأشهر من أخبار الحذر ودلالة الآية ظاهرة في إباحته للنساء وقد استفاض لبس الحلي للنساء منذ لدن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن ومثل ذلك لا يعترض عليه بأخبار الآحاد قوله تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون يعني أن الكفار قالوا لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ولا الملائكة وإنا إنما عبدناهم لأن الله قد شاء منا ذلك فأكذبهم الله في قيلهم هذا وأخبر أنهم يخرصون ويكذبون بهذا القول في أن الله تعالى لم يشأ كفرهم ونظيره قوله سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذي من قبلهم أخبر فيه أنهم مكذبون لله ولرسوله بقولهم لو شاء الله ما أشركنا وأبان به أن الله قد شاء أن لا يشركوا وهذا كله يبطل مذهب الجبر الجهمية قوله تعالى بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة إلى قوله قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم فيه الدلالة على إبطال التقليد لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول ص - قوله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ينتظم معنيين أحدهما أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة والثاني أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع وقوله تعالى وإنه لعلم للساعة حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى وإنه لعلم للساعة قال نزول عيسى بن مريم عليه السلام علم الساعة

 

وناس يقولون القرآن علم للساعة آخر سورة الزخرف

ومن

سورة الجاثية

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله قال نسخها قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه حدثنا عبدالله بن محمد قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله أفرأيت من اتخذ إلهه هواه قال لا يهوى شيئا إلا ركبه لا يخاف الله قال أبو بكر وقد روي في بعض الأخبار أن الهوى إله يعبد وتلا قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه يعني يطيعه كطاعة الإله وعن سعيد بن جبير قال كانوا يعبدون العزى وهو حجر أبيض حينا من الدهر فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر وقال الحسن اتخذ إلهه هواه يعني لا يعرف إلهه بحجة عقله وإنما يعرفه بهواه قوله تعالى وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر قيل هو على التقديم والتأخير أي نحيا ونموت من غير رجوع وقيل نموت ويحيا أولادنا كما يقال ما مات من خلف ابنا مثل فلان وقوله وما يهلكنا إلا الدهر فإنه حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله وما يهلكنا إلا الدهر قال قال ذلك مشركو قريش قالوا ما يهلكنا إلا الدهر يقولون إلا العمر قال أبو بكر هذا قول زنادقة قريش الذين كانوا ينكرون الصانع الحكيم وإن الزمان ومضي الأوقات هو الذي يحدث هذه الحوادث والدهر اسم يقع على زمان العمر كما قال قتادة يقال فلان يصوم الدهر يعنون عمره كله ولذلك قال أصحابنا إن من حلف لا يكلم فلانا الدهر أنه على عمره كله وكان ذلك عندهم بمنزلة قوله والله لا أكلمك الأبد وأما قوله لا أكلمك دهرا فإن ذلك عند أبي يوسف ومحمد على ستة أشهر ولم يعرف أبو حنيفة معنى دهرا فلم يجب فيه بشيء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - حديث في بعض ألفاظه لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فتأوله أهل العلم على أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون الحوادث المجحفة والبلايا النازلة والمصائب المتلفة إلى الدهر فيقولون فعل الدهر بنا وصنع بنا ويسبون الدهر كما

 

قد جرت عادة كثير من الناس بأن يقولوا اساء بنا الدهر ونحو ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا فاعل هذه الأمور فإن الله هو فاعلها ومحدثها وأصل هذا الحديث ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار قال ابن السرح عن ابن المسيب مكان سعيد فقوله وأنا الدهر منصوب بأنه ظرف للفعل كقوله تعالى أنا أبدأ بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وكقول القائل أنا اليوم بيدي الأمر أفعل كذا وكذا ولو كان مرفوعا كان الدهر اسما لله تعالى وليس كذلك لأن أحدا من المسلمين لا يسمي الله بهذا الاسم وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن الله يقول لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما فهذان هما أصل الحديث في ذلك والمعنى ما ذكرنا وإنما غلط بعض الرواة فنقل المعنى عنده فقال لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر وأما قوله في الحديث الأول يؤذيني ابن آدم يسب الدهر فإن الله تعالى لا يلحقه الأذى ولا المنافع والمضار وإنما هو مجاز معناه يؤذي أوليائي لأنهم يعلمون أن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي ينسبها الجهال إلى الدهر فيتأذون بذلك كما يتأذون بسماع سائر ضروب الجهل والكفر وهو كقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله ومعناه يؤذون أولياء الله آخر سورة حم الجاثية

ومن

سورة الأحقاف

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا روي أن عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فقال له علي قال الله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال وفصاله في عامين وروي أن عثمان سأل الناس عن ذلك فقال له ابن عباس مثل ذلك وأن عثمان رجع إلى قول علي وابن عباس وروي عن ابن عباس أن كل ما زاد في الحمل نقص من الرضاع فإذا كان الحمل تسعة أشهر فالرضاع واحد وعشرون شهرا وعلى هذا القياس جميع ذلك وروي عن ابن عباس أن الرضاع حولان في جميع الناس ولم يفرقوا بين من زاد

 

حمله أو نقص وهو مخالف للقول الأول وقال مجاهد في قوله وما تغيض الأرحام وما تزداد ما نقص عن تسعة أشهر أو زاد عليها قوله تعالى حتى إذا بلغ أشده روي عن ابن عباس وقتادة أشده ثلاث وثلاثون سنة وقال الشعبي هو بلوغ الحلم وقال الحسن أشده قيام الحجة عليه وقوله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها روى الزهري عن ابن عباس قال قال عمر فقلت يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا وقال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر في قوله أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا قال إن عمر بن الخطاب قال لو شئت أن أذهب طيباتي في حياتي لأمرت بجدي سمين يطبخ باللبن وقال معمر قال قتادة قال عمر لو شئت أن أكون أطيبكم طعاما وألينكم ثيابا لفعلت ولكني أستبقي طيباتي وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال قدم على عمر بن الخطاب ناس من أهل العراق فقرب إليهم طعامه فرآهم كأنهم يتعذرون في الأكل فقال يا أهل العراق لو شئت أن يدهمق لي كما يدهمق لكم لفعلت ولكن نستبقي من دنيانا لآخرتنا أما سمعتم الله يقول أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا قال أبو بكر هذا محمول على أنه رأى ذلك أفضل لا على أنه لا يجوز غيره لأن الله قد أباح ذلك فلا يكون أكله فاعلا محظورا قال الله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق آخر سورة الأحقاف

ومن

سورة محمد ص

-

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان وهو نظير قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض قال ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم

 

أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى فإما منا بعد وإما فداء فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار إن شاؤا قتلوهم وإن شاؤا استعبدوهم وإن شاؤا فادوهم شك أبو عبيد في وإن شاؤا استعبدوهم وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو مهدي وحجاج كلاهما عن سفيان قال سمعت السدي يقول في قوله فإما منا بعد وإما فداء قال هي منسوخة نسخها قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم قال أبو بكر أما قوله فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب وقوله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض وقوله فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه ص - بالإثخان بالقتل وحظر عليه الأسر إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم وكان ذلك في وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الإستبقاء فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام أما قوله فإما منا بعد وإما فداء ظاهره يقتضي أخذ شيئين إما من وإما فداء وذلك ينفي جواز القتل وقد اختلف السلف في ذلك حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير وقال من عليه أو فاده وحدثنا جعفر قال حدثنا جعفر قال حدثنا أبو عبيد قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا أشعث قال سألت عطاء عن قتل الأسير فقال من عليه أو فاده قال وسألت الحسن قال يصنع به ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأسارى بدر يمن عليه أو يفادي به وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء اصطخر ليقتله فأبى أن يقتله وتلا قوله فإما منا بعد وإما فداء وروي أيضا عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير وقد روينا عن السدي ان قوله فإما منا بعد وإما فداء منسوخ بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وروي مثله عن ابن جريج حدثنا جعفر قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال هي منسوخة وقال قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا قال أبو بكر اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قتله الأسير منها قتله عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعد ما أسر وقتل

 

بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بالقتل وسبى الذرية ومن على الزبير بن باطا من بينهم وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة وشرط على ابن أبي الحقيق أن لا يكتم شيئا فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة وعبدالله بن سعد بن أبي سرح وآخرين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم وروي عن صالح بن كيسان عن محمد بن عبدالرحمن عن أبيه عبدالرحمن بن عوف أنه سمع أبا بكر الصديق يقول وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا وعن أبي موسى انه قتل دهقان السوس بعد ما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله فهذه آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه واتفق فقهاء الأمصار على ذلك وإنما اختلفوا في فدائه فقال أصحابنا جميعا لا يفادى الأسير بالمال ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا وقال أبو حنيفة لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ولا يردون حربا أبدا وقال أبو يوسف ومحمد لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين وهو قول الثوري والأوزاعي وقال الأوزاعي لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون وقال المزني عن الشافعي للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادى بهم فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله فإما منا بعد وإما فداء وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين وبأن النبي صلى الله عليه وسلم - فدى أسارى بدر بالمال ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال أسرت ثقيف رجلين من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - واسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

رجلا من بني عامر بن صعصعة فمر به على النبي ص

- وهو موثق فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال علام أحبس قال بجريرة حلفائك فقال الأسير إني مسلم فقال النبي ص

- لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فناداه أيضا فأقبل فقال إني جائع فأطعمني فقال النبي ص

- هذه حاجتك ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم -

فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما وروى ابن علية عن أيوب عن أبي

قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم - فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل ولم يذكر

 

إسلام الأسير وذكره في الحديث الأول ولا خلاف أنه لا يفادى الآن على هذا الوجه لأن المسلم لا يرد أهل الحرب وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -

شرط في صلح الحديبية لقريش أن من جاء منهم مسلما رده عليهم ثم نسخ ذلك

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن الإقامة بين أظهر المشركين وقال أنا بريء من كل مسلم مع مشرك وقال من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذمةة وأما ما في الآية من ذكر المن أو الفداء وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج وقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة براءة بعد سورة محمد ص - فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها قوله تعالى حتى تضع الحرب أوزارها قال الحسن حتى يعبد الله ولا يشرك به غيره وقال سعيد بن جبير خروج عيسى بن مريم عليه السلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويلقى الذئب الشاة فلايعرض لها ولا تكون عداوة بين اثنين وقال الفراء آثامها وشركها حتى لا يكون إلا مسلم أو مسالم قال أبو بكر فكان معنى الآية على هذا التأويل إيجاب القتال إلى أن لا يبقى من يقاتل وقوله تعالى فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم روي عن مجاهد لا تضعفوا عن القتال وتدعوا إلى الصلح وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم قال لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها وأنتم الأعلون قال أنتم أولى بالله منهم قال أبو بكر فيه الدلالة على امتناع جواز طلب الصلح من المشركين وهو بيان لما أكد فرضه من قتال مشركي العرب حتى يسلموا وقتال أهل الكتاب ومشركي العجم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية والصلح على غير إعطاء الجزية خارج عن مقتضى الآيات الموجبة لما وصفنا فأكد النهي عن الصلح بالنص عليه في هذه الآية وفيه الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يدخل مكة صلحا وإنما فتحها عنوة لأن الله قد نهاه عن الصلح في هذه

الآية وأخبر أن

 

المسلمين هم الأعلون الغالبون ومتى دخلها صلحا برضاهم فهم متساوون إذ كان حكم ما يقع بتراضي الفريقين فهما متساويان فيه ليس أحدهما بأولى بأن يكون غالبا على صاحبه من الآخر وقوله تعالى ولا تبطلوا أعمالكم يحتج به في أن كل من دخل في قربة لا يجوز له الخروج منها قبل إتمامها لما فيه من إبطال عمله نحو الصلاة والصوم والحج وغيره آخر سورة محمد ص -

ومن

سورة الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله عز و جل إنا فتحنا لك فتحا مبينا روي أنه أراد فتح مكة وقال قتادة قضينا لك قضاء مبينا والأظهر أنه فتح مكة بالغلبة والقهر لأن القضاء لا يتناوله الإطلاق وإذا كان المراد فتح مكة فإنه يدل على أنه فتحها عنوة إذ كان الصلح لا يطلق عليه اسم الفتح وإن كان قد يعبر مقيدا لأن من قال فتح بلد كذا عقل به الغلبة والقهر دون الصلح ويدل عليه قوله في نسق التلاوة وينصرك الله نصرا عزيزا وفيه الدلالة على أن المراد فتح مكة وأنه دخلها عنوة ويدل عليه قوله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح لم يختلفوا أن المراد فتح مكة ويدل عليه قوله تعالى إنا فتحنا لك وقوله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين وذكره ذلك في سياق القصة يدل على ذلك لأن المعنى سكون النفس إلى الإيمان بالبصائر التي بها قاتلوا عن دين الله حتى فتحوا مكة وقوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد روي أن المراد فارس والروم وروي أنهم بنو حنيفة فهو دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لأن أبا بكر الصديق دعاهم إلى قتال بني حنيفة ودعاهم عمر إلى قتال فارس والروم وقد ألزمهم الله اتباع طاعة من يدعوهم إليه بقوله تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما فأوعدهم الله على التخلف عمن دعاهم إلى قتال هؤلاء فدل على صحة إمامتهما إذ كان المتولي عن طاعتهما مستحقا للعقاب فإن قيل قد روى قتادة أنهم هوازن وثقيف يوم حنين قيل له لا يجوز أن يكون الداعي لهم النبي صلى الله عليه وسلم -

لأنه قال فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ويدل على أن

المراد بالدعاة لهم غير النبي صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أنه لم يدع

 

هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم -

إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقوله تعالى لقد

رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان بالحديبية وصدق بصائرهم فهم قوم بأعيانهم قال ابن عباس كانوا ألفين وخمس مائة وقال جابر ألفا وخمس مائة فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء الله إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان وقد أكد ذلك بقوله فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه وقوله تعالى فأنزل السكينة عليهم يعني الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وقوله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم الآية روي عن ابن عباس أنها نزلت في قصة الحديبية وذلك أن المشركين قد كانوا بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أسرى فخلى سبيلهم وروي أنها نزلت في فتح مكة حين دخلها النبي صلى الله عليه وسلم - عنوة فإن كانت نزلت في فتح مكة فدلالتها ظاهرة على أنها فتحت عنوة لقوله تعالى من بعد أن أظفركم عليهم ومصالحتهم لا ظفر فيها للمسلمين فاقتضى ذلك أن يكون فتحها عنوة وقوله تعالى والهدي معكوفا أن يبلغ محله يحتج به من يجيز ذبح هدي الإحصار في غير الحرم لإخباره بكونه محبوسا عن بلوغ محله ولو كان قد بلغ الحرم وذبح فيه لما كان محبوسا عن بلوغ المحل وليس هذا كما ظنوا لأنه قد كان ممنوعا بديا عن بلوغ المحل ثم لما وقع الصلح زال المنع فبلغ محله وذبح في الحرم وذلك لأنه إذا حصل المنع في أدنى وقت فجائز أن يقال قد منع كما قال تعالى قالوا يا أبانا منع منا الكيل وإنما منع في وقت وأطلق في وقت آخر وفي الآية دلالة على أن المحل هو الحرم لأنه قال والهدي معكوفا أن يبلغ محله فلو كان محله غير الحرم لما كان معكوفا عن بلوغه فوجب أن يكون المحل في قوله ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله هو الحرم

باب

رمي حصون المشركين وفيهم أطفال المسلمين وأسراهم

قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري لا بأس برمي حصون المشركين

 

وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين وكذلك إن تترس الكفار بأطفال المسلمين رمي المشركون وإن اصابوا أحدا من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة وقال الثوري فيه الكفارة ولا دية فيه وقال مالك لا تحرق سفينة الكفار إذا كان فيها اسارى من المسلمين لقوله تعالى لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إنما صرف النبي صلى الله عليه وسلم - عنهم لما كان فيهم من المسلمين ولو تزيل الكفار عن المسلمين لعذب الكفار وقال الأوزاعي إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين لم يرموا لقوله ولولا رجال مؤمنون الآية قال ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين ويرمى الحصن بالمنجنيق وإن كان فيه أسارى مسلمون فإن أصاب أحدا من المسلمين فهو خطأ وإن جاؤا يتترسون بهم رمي وقصد العدو وهو قول الليث بن سعد وقال الشافعي لا بأس بأن يرمى الحصن وفيه أسارى أو أطفال ومن أصيب فلا شيء فيه ولو تترسوا ففيه قولان أحدهما يرمون والآخر لا يرمون إلا أن يكونوا ملتحمين فيضرب المشرك ويتوقى المسلم جهده فإن أصاب في هذه الحال مسلما فإن علمه مسلما فالدية مع الرقبة وإن لم يعلمه مسلما فالرقبة وحدها قال أبو بكر نقل أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نهيه ص -

عن قتل النساء والولدان وقد علم ص

- أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمد بالقتل فدل على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رميهم إذ كان القصد فيه المشركين دونهم وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم -

عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال هم منهم

وبعث النبي صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد فقال أغر على هؤلاء يا بني صباحا وحرق وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزونهم فإن أذنوا للصلاة أمسكوا عنهم وإن لم يسمعوا أذانا أغاروا وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلو من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شن الغارة عليهم ورميهم بالنشاب وغيره وإن خيف عليه إصابة المسلم فإن قيل إنما جاء ذلك لأن ذراري المشركين منهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -

في حديث الصعب بن جثامة قيل له لا يجوز أن يكون مراده ص

- في ذراريهم أنهم منهم في الكفر لأن الصغار لا يجوز أن يكونوا

 

كفارا في الحقيقة ولا يستحقون القتل ولا العقوبة لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة وأما احتجاج من يحتج بقوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية في منع رمي الكفار لأجل من فيهم من المسلمين فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف وذلك لأن أكثر ما فيها أن الله كف المسلمين عنهم لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم وذلك إنما تدل إباحة ترك رميهم والإقدام عليهم فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين لأنه جائز أن يبيح الكف عنهم لأجل المسلمين وجائز أيضا إباحة الإقدام على وجه التخيير فإذا لا دلالة فيها على حظر الإقدام فإن قيل في فحوى الآية ما يدل على الحظر وهو قوله لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم قيل له قد اختلف أهل التأويل في معنى المعرة ههنا فروي عن ابن إسحاق أنه غرم الدية وقال غيره الكفارة وقال غيرهما الغم باتفاق قتل المسلم على يده لأن المؤمن يغم لذلك وإن لم يقصده وقال آخرون العيب وحكي عن بعضهم أنه قال المعرة الإثم وهذا باطل لأنه تعالى قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منا لقوله تعالى لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه ولم يضع الله عليه دليلا قال الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم فعلمنا أنه لم يرد المأثم ويحتمل أن يكون ذلك كان خاصا في أهل مكة لحرمة الحرم ألا ترى أن المستحق للقتل إذ لجأ إليها لم يقتل عندنا وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحرم لم يقتل وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه فمنع المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم ويحتمل أن يريد ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذ لم يقتلوا فمنعنا قتلهم لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم وقوله لو تزيلوا على هذا التأويل لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولدوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترسوا بالمسلمين لأن القصد في الحالين رمي المشركين دونهم ومن أصيب منهم فلا دية فيه ولا كفارة كما أن من أصيب برمي حصون الكفار من

 

المسلمين الذين في الحصن لم يكن فيه دية ولا كفارة ولا أنه قد أبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة فصاروا في الحكم بمنزلة من أبيح قتله فلا يجب شيء وليست المعرة المذكورة دية ولا كفارة إذ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره والأظهر منه ما يصيبه من الغم والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك وقول من تأوله على العيب محتمل أيضا لأن الإنسان قد يعاب في العادة باتفاق قتل الخطأ على يده وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة قوله تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية قيل إنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم - أن يكتب صلح الحديبية أمر علي بن ابي طالب رضي الله عنه فكتبه وأملى عليه بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فأبت قريش أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله وقالوا نكتب باسمك اللهم ومحمد بن عبدالله ومنعوه دخول مكة فكانت أنفتهم من الإقرار بذلك من حمية الجاهلية وقوله تعالى وألزمهم كلمة التقوى روي عن ابن عباس قال لا إله إلا الله وعن قتادة مثله وقال مجاهد كلمة الإخلاص وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله وألزمهم كلمة التقوى قال

بسم الله الرحمن الرحيم قوله

تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين قال أبو بكر المقصد إخبارهم بأنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين متقربين بالإحرام فلما ذكر معه الحلق والتقصير دل على أنهما قربة في الإحرام وأن الإحلال بهما يقع لولا ذلك ما كان للذكر ههنا وجه وروى جابر وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة وهذا أيضا يدل على أنهما قربة ونسك عند

الإحلال من الإحرام آخر سورة الفتح

ومن سورة الحجرات

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله عز و جل لا تقدموا بين يدي الله ورسوله حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله إن ناسا كانوا يقولون لولا أنزل في كذا قال معمر وكان الحسن يقول هم قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي -

فأمرهم أن يعيدوا الذبح قال أبو بكر وروي عن مسروق أنه دخل على عائشة

فأمرت الجارية أن تسقيه فقال إني صائم وهو

 

اليوم الذي يشك فيه فقالت قد نهي عن هذا وتلت يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله في صيام ولا غيره قال أبو بكر اعتبرت عموم الآية في النهي عن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم -

في قول أو فعل وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى لا تعجلوا بالأمر والنهي

دونه قال أبو بكر يحتج بهذه الآية في امتناع جواز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم - في تقديم الفروض على أوقاتها وتأخيرها عنها في تركها وقد يحتج بها من يوجب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم - لأن في ترك ما فعله تقدما بين يديه كما أن في ترك أمره تقدما بين يديه وليس ذلك كما ظنوا لأن التقدم بين يديه إنما هو فيما أراد منا فعله ففعله غيره فأما مالم يثبت أنه مراد منه فليس في تركه تقديم بين يديه ويحتج به نفاة القياس أيضا ويدل ذلك على جهل المحتج به لأن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه وقد قامت دلالة الكتاب والسنة والإجماع على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع فليس فيه إذا تقدم بين يديه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي فيه أمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم -

وتوقيره وهو نظير قوله تعالى لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وروي

أنها نزلت في قوم كانوا إذ سئل النبي صلى الله عليه وسلم - عن شيء قالوا فيه قبل النبي صلى الله عليه وسلم - وأيضا لما كان في رفع الصوت على الإنسان في كلامه ضرب من ترك المهابة والجرأة نهى الله عنه إذ كنا مأمورين لتعظيمه وتوقيره وتهييبه وقوله تعالى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض زيادة على رفع الصوت وذلك أنه نهى عن أن تكون مخاطبتنا له كمخاطبة بعضنا لبعض بل على ضرب من التعظيم تخالف به مخاطبات الناس فيما بينهم وهو كقوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا وقوله إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون وروي أنها نزلت في قوم من بني تميم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم -

فنادوه من خارج الحجرة وقالوا اخرج إلينا يا محمد فذمهم الله تعالى بذلك

وهذه الآيات وإن كانت نازلة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم - وإيجاب الفرق بينه وبين الأمة فيه فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سن وصلاح ونحو ذلك إذ تعظيمه بهذا الضرب من التعظيم في ترك الجهر دفع الصوت عليه وترك عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله وفي النهي عن ندائه من وراء الباب والمخاطبة له بلفظ الأمر لأن الله قد ذم هؤلاء القوم بندائهم إياه من وراء الحجرة وبمخاطبته بلفظ الأمر في قولهم اخرج إلينا حدثنا عبدالله بن محمد

 

قال

حدثنا الحسن الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري أن ثابت بن قيس قال يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت لما نزلت هذه الآية لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي نهانا الله ان نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت ونهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد ونهانا الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة فعاش حميدا وقتل

شهيدا يوم مسيلمة الكذاب

باب حكم خبر الفاسق

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة الآية حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم -

الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق فأتاهم الوليد فخرجوا يتلقونه ففرق ورجع

إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال ارتدوا فبعث النبي صلى الله عليه وسلم -

خالد بن الوليد فلما دنا منهم بعث عيونا ليلا فإذا هم يؤذنون ويصلون

فأتاهم خالد فلم ير منهم إلا طاعة وخيرا فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فأخبره قال وقال معمر فتلا قتادة لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال فأنتم أسخف رأيا وأطيش أحلاما فاتهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله وروي عن الحسن قال والله لئن كانت نزلت في رجل يعني قوله إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء قال أبو بكر مقتضى الآية إيجاب التثبت في خبر الفاسق والنهي عن الإقدام على قبوله والعمل به إلا بعد التبين والعلم بصحة مخبره وذلك لأن قراءة هذه الاية على وجهين فتثبتوا من التثبت وفتبينوا كلتاهما يقتضي النهي عن قبول خبره إلا بعد العلم بصحته لأن قوله فتثبتوا فيه أمر بالتثبت لئلا يصيب بجهالة فاقتضى ذلك النهي عن الإقدام إلا بعد العلم لئلا يصيب قوما بجهالة وأما قوله فتبينوا فإن التبين هو العلم فاقتضى أن لا يقدم بخبره إلا بعد العلم فاقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقا إذ كان كل شهادة خبرا وكذلك سائر أخباره فلذلك قلنا شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق وكذلك أخباره في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وكل ما كان من أمر الدين يتعلق به من إثبات شرع أو حكم أو إثبات حق على

إنسان واتفق أهل العلم على جواز قبول خبر

 

الفاسق في أشياء فمنها أمور المعاملات يقبل فيها خبر الفاسق وذلك نحو الهدية إذا

قال

إن فلانا أهدى إليك هذا يجوز له قبوله وقبضه ونحو قوله وكلني فلان ببيع عبده هذا فيجوز شراؤه منه ونحو الإذن في الدخول إذا قال له قائل ادخل لا تعتبر فيه العدالة وكذلك جميع أخبار المعاملات ويقبل في جميع ذلك خبر الصبي والعبد والذمي وقبل النبي صلى الله عليه وسلم -

خبر بريرة فيما أهدت إلى النبي ص

- وكان يتصدق عليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم - هي لها صدقة ولنا هدية فقبل قولها في أنه تصدق به عليها وأن ملك المتصدق قد زال إليها ويقبل قول الفاسق وشهادته من وجه آخر وهو من كان فسقه من جهة الدين باعتقاد مذهب وهم أهل الأهواء فساق وشهادتهم مقبولة وعلى ذلك جرى أمر السلف في قبول أخبار أهل الأهواء في رواية الأحاديث وشهادتهم ولم يكن فسقهم من جهة التدين مانعا من قبول شهادتهم وتقبل أيضا شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وقد بيناه فيما سلف من هذا الكتاب فهذه الوجوه الثلاثة يقبل فيها خبر الفاسق وهو مستثنى من جملة قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا لدلائل قد قامت عليه فثبت أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق أو إثبات أحكام الدين والفسق التي ليست من جهة الدين والإعتقاد وفي هذه الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم إذ لو كان يوجب العلم بحال لما احتيج فيه إلى التثبت ومن الناس من يحتج به في جواز قبول خبر الواحد العدل ويجعل تخصيصه الفاسق بالتثبت في خبره دليلا على أن التثبت في خبر العدل غير جائز وهذا غلط لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه

باب قتال أهل البغي

قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الحسن أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي فأنزل الله فيهم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما قال معمر قال قتادة وكان رجلان بينهما حق تدارء فيه فقال أحدهما لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته وقال الآخر بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي وروي عن سعيد بن جبير والشعبي قالا كان قتالهم بالعصي والنعال وقال مجاهد هم الأوس والخزرج كان بينهم قتال

 

بالعصا قال أبو بكر قد اقتضى ظاهر الآية الأمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وهو عموم في سائر ضروب القتال فإن فاءت إلى الحق بالقتال بالعصي والنعال لم يتجاوز به إلى غيره وإن لم تفئ بذلك قوتلت بالسيف على ما تضمنه ظاهر الآية وغير جائز لأحد الاقتصار على القتال بالعصي دون السلاح مع الإقامة على البغي وترك الرجوع إلى الحق وذلك أحد ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان فأمر بإزالة المنكر باليد ولم يفرق بين السلاح وما دونه فظاهره يقتضي وجوب إزالته بأي شيء أمكن وذهب قوم من الحشو إلى أن قتال أهل البغي إنما يكون بالعصي والنعال وما دون السلاح وأنهم لا يقاتلون بالسيف واحتجوا بما روينا من سبب نزول الآية وقتال القوم الذين تقاتلوا بالعصي والنعال وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا لأن القوم تقاتلوا بما دون السلاح فأمر الله تعالى بقتال الباغي منهما ولم يخصص قتالنا إياه بما دون السلاح وكذلك نقول متى ظهر لنا قتال من فئة على وجه البغي قابلناه بالسلاح وبما دونه حتى ترجع إلى الحق وليس في نزول الآية على حال قتال الباغي لنا بغير سلاح ما يوجب أن يكون الأمر بقتالنا إياهم مقصورا على ما دون السلاح مع اقتضاء عموم اللفظ للقتال بسلاح وغيره ألا ترى أنه لو قال من قاتلكم بالعصي فقاتلوه بالسلاح لم يتناقص القول به فكذلك أمره إيانا بقتالهم إذ كان عمومه يقتضي القتال بسلاح وغيره وجب أن يجري على عمومه وأيضا قاتل علي بن ابي طالب رضي الله عنه الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم وكان محقا في قتاله لهم لم يحالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته وأتباعها وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لعمار تقتلك الفئة الباغية وهذا خبر مقبول من طريق التواتر حتى أن معاوية لم يقدر على جحده لما قال له عبدالله بن عمر فقال إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام وهو علم من أعلام النبوة لأنه خبر عن غيب لا يعلم إلا من جهة علام الغيوب وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في إيجاب قتال الخوارج وقتلهم أخبار كثيرة متواترة منها حديث أنس وأبي

سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال سيكون في أمتي اختلاف وفرقة قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم

 

من الرمية لا يرجعون حتى يرتد على فوقه هم شر الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قتلهم كان أولى بالله منهم قالوا يا رسول الله ما سيماهم قال التحليق وروى الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال سمعت عليا يقول إذا حدثتكم بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فلأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم

فيما بيننا فإن الحرب خدعة وإن سمعته ص - يقول يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإن لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر من قتلهم يوم القيامة ولم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في وجوب قتال الفئة الباغية بالسيف إذا لم يردعها غيره ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنها لقتلوهم وسبوا ذراريهم ونساءهم واصطلموهم فإن قيل قد جلس عن علي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر قيل له لم يقعدوا عنه لأنهم لم يروا قتال الفئة الباغية وجائز أن يكون قعودهم عنه لأنهم رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك ألا ترى أنهم قد قعدوا عن قتال الخوارج لا على أنهم لم يروا قتالهم واجبا لكنه لما وجدوا من كفاهم قتل الخوارج استغنوا عن مباشرة قتالهم فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ستكون فتنة القائم فيها خير من الماشي والقاعد فيها خير من القائم قيل له إنما أراد به الفتنة التي يقتتل الناس فيها على طلب الدنيا وعلى جهة العصبية والحمية من غير قتال مع إمام تجب طاعته فأما إذا ثبت أن إحدى الفئتين باغية والأخرى عادلة مع الإمام فإن قتال الباغية واجب مع الإمام ومع من قاتلهم محتسبا في قتالهم فإن قالوا قال النبي صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد قتلته وهو قد قال لا إله إلا الله إنما يردد ذلك مرارا فوجب أن لا يقاتل من قال لا إله إلا الله ولا يقتل قيل له لأنهم كانوا يقاتلون وهم مشركون حتى يقولوا لا إله إلا الله كما قال ص - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فكانوا إذا أعطوا كلمة التوحيد أجابوا إلى ما دعوا إليه من خلع الأصنام واعتقاد التوحيد ونظير ذلك أن يرجع البغاة إلى الحق فيزول عنهم القتال لأنهم إنما يقاتلون على إقامتهم على قتال أهل العدل فمتى كفوا عن القتال ترك قتالهم كما

 

يقاتل المشركون على إظهار الإسلام فمتى أظهروه زال عنهم ألا ترى أن قطاع الطريق والمحاربين يقاتلون ويقتلون مع قولهم لا إله إلا الله

باب

ما يبدأ به أهل البغي

قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما قال أبو بكر أمرا عند ظهور القتال منهم بالإصلاح بينهم وهو أن يدعوا إلى الصلاح والحق وما يوجبه الكتاب والسنة والرجوع عن البغي وقوله تعالى فإن بغت إحداهما على الأخرى يعني والله أعلم إن رجعت إحداهما إلى الحق وأرادت الصلاح وأدامت الأخرى على بغيها وامتنعت من الرجوع فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر تعالى بالدعاء إلى الحق قبل القتال ثم إن أبت الرجوع قوتلت وكذا فعل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بدأ بدعاء الفئة الباغية إلى الحق واحتج عليهم فلما أبوا القبول قاتلهم وفي هذه الآية دلالة على أن اعتقاد مذاهب أهل البغي لا يوجب قتالهم ما لم يقاتلوا لأنه قال فإن بغت إحداهما على الآخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإنما أمر بقتالهم إذا بغوا على غيرهم بالقتال وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج وذلك لأنهم حين اعتزلوا عسكره بعث إليهم عبدالله بن عباس فدعاهم فلما أبوا الرجوع ذهب إليهم فحاجهم فرجعت منهم طائفة وأقامت طائفة على أمرها فلما دخلوا الكوفة خطب فحكمت الخوارج من نواحي المسجد وقالت لا حكم إلا لله فقال علي رضي الله عنه كلمة حق يراد بها باطل أما إن لهم ثلاثا أن لا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه وأن لا نمنعهم حقهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا

باب

الأمر فيما يؤخذ من أموال البغاة

قال أبو بكر اختلف أهل العلم في ذلك فقال محمد في الأصل لا يكون غنيمة ويستعان بكراعهم وسلاحهم على حربهم فإذا وضعت الحرب أوزارها رد المال عليهم ويرد الكراع أيضا عليهم إذا لم يبق من البغاة أحد وما استهلك فلا شيء فيه وذكر إبراهيم بن الجراح عن أبي يوسف قال ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع أو سلاح فهو فيء يقسم ويخمس وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه وقال مالك ما استهلكه الخوارج

 

من دم أو مال ثم تابوا لم يؤخذوا به وما كان قائما بعينه رد وهو قول الأوزاعي والشافعي وقال الحسن بن صالح إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا وأخذ ما معهم فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس إلا أن يكون شيء يعلم أنهم سرقوه من الناس قال أبو بكر واختلفت الرواية عن علي كرم الله وجهه في ذلك فروى فطر بن خليفة عن منذر بن يعلى عن محمد بن الحنفية قال قسم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم الجمل فياهم بين أصحابه ما قوتل به من الكراع والسلاح فاحتج من جعله غنيمة بهذا الحديث وهذا ليس فيه دلالة على أنه غنيمة لأنه جائز أن يكون قسم ما حصل في يده من كراع أو سلاح ليقاتلوا به قبل أن تضع الحرب أوزارها ولم يملكهم ذلك على ما قال محمد في الأصل وقد

روى

عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن عبدالله بن الدولي عن ابن عباس أن الخوارج نقموا على علي رضي الله عنه أنه لم يسب ولم يغنم فحاجهم بأن قال لهم أفتسبون أمكم عائشة ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فلئن فعلتم لقد كفرتم وروى أبو معاوية عن الصلت بن بهرام عن أبي وائل قال سألته أخمس علي رضي الله عنه أموال أهل الجمل قال لا وقال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - متوافرون وأجمعوا أن كل دم أريق على وجه التأويل أو مال استهلك على وجه التأويل فلا ضمان فيه ويدل على أنه لا تغنم أموالهم التي ليست معهم مما تركوه في ديارهم لا تغنم وإن قتلوا كذلك ما معهم منها ألا ترى أن أهل الحرب لا يختلف فيما يغنم من أموالهم ما منعهم وما تركوه منها في ديارهم إن ما حصل في أيدينا منها مغنوم وأنه لا خلاف أنه لا تسبى ذراريهم ونساؤهم ولا تملك رقابهم فكذلك لا تغنم أموالهم فإن قيل مشركو العرب لا تملك رقابهم وتغنم أموالهم قيل لأنهم يقتلون إذا أسروا إن لم يسلموا وتسبى ذراريهم ونساؤهم فلذلك غنمت أموالهم والخوارج إذا لم تبق لهم منعة لا يقتل أسراهم ولا تسبى ذراريهم بحال فكذلك لا تغنم أموالهم

باب الحكم في أسرى أهل البغي وجرحاهم

روى كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة قال الله ورسوله أعلم قال لا يجهز على جرحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها وروى عطاء بن السائب عن أبي البختري وعامر قالا لما ظهر علي رضي الله عنه على أهل الجمل قال لا تتبعوا مدبرا ولا تذففوا على جريح وروى

 

شريك عن السدي عن عبد خير قال قال علي رضي الله عنه يوم الجمل لا تقتلوا أسيرا ولا تجهزوا على جريح ومن ألقى السلاح فهو آمن قال أبو بكر هذا حكم علي رضي الله عنه في البغاة ولا نعلم له مخالفا من السلف وقال أصحابنا إذا لم تبق لأهل البغي فئة فإنه لا يجهز على جريح ولا يقتل أسير ولا يتبع مدبر فإذا كانت لهم فئة فإنه يقتل الأسير إن رأى ذلك الإمام ويجهز على الجريح ويتبع المدبر وقول علي رضي الله عنه محمول على أنه لم تبق لهم فئة لأن هذا القول إنما كان منه في أهل الجمل ولم تبق لهم فئة بعد الهزيمة والدليل عليه أنه أسر ابن بثرى والحرب قائمة فقتله يوم الجمل فدل ذلك على أن مراده في الأخبار الأول إذا لم تبق لهم فئة

باب

في قضايا البغاة

قال أبو يوسف في البرمكي لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه قال أبو بكر وكذلك قال محمد وقال لو أن الخوارج ولوا قاضيا منهم فحكم ثم رفع إلى حاكم أهل العدل لم يمضه إلا أن يوافق رأيه فيستأنف القضاء فيه قال ولو ولوا قاضيا من أهل العدل بقضية أنفذها من رفعت إليه كما يمضى قضاء أهل العدل وقال مالك فيما حكم به أهل البغي تكشف أحكامهم فما كان منها مستقيما أمضي وقال الشافعي إذا غلب الخوارج على مدينة فأخذوا صدقات أهلها وأقاموا عليهم الحدود لم تعد عليهم ولا يرد من قضاء قاضيهم إلا ما يرد من قضاء قاضي غيرهم وإن كان غير مأمون برأيه على استحلال دم أو مال لم ينفذ حكمه ولم يقبل كتابه قال أبو بكر إذا قاتلوا وظهر بغيهم على أهل العدل فقد وجب قتلهم وقتالهم فغير جائز قبول شهادة من هذه سبيله لأن إظهار البغي وقتالهم لأهل العدل هو فسق من جهة الفعل وظهور الفسق من جهة الفعل يمنع قبول الشهادة كشارب الخمر والزاني والسارق فإن قيل فأنت تقبل شهادتهم فهلا أمضيت أحكامهم قيل له قد قال محمد بن الحسن إنهم إنما تقبل شهادتهم مالم يقاتلوا ولم يخرجوا على أهل العدل فأما إذا قاتلوا فإني لا أقبل شهادتهم فقد سوى بين القضاء وبين الشهادة ولم يذكر في ذلك خلافا بين أصحابنا وهذا سديد والعلة فيه ما ذكرنا فإن قيل فقد قالوا إن الخوارج إذا ظهروا وأخذوا صدقات المواشي والثمار إنه لا يعاد على أربابها فجعلوا أخذهم بمنزلة أخذ أهل العدل قيل له إن الزكاة لا تسقط عنهم بأخذ هؤلاء لأنهم قالوا إن على أرباب

 

الأموال إعادتها فيما بينهم وبين الله تعالى وإنما أسقطوا به حق الإمام في الأخذ لأن حق الإمام إنما يثبت في الأخذ لأجل حمايته أهل العدل فإذا لم يحمهم من البغاة لم يثبت حقه في الأخذ وكان ما أخذه البغاة بمنزلة أخذه في باب سقوط حقه في الأخذ ألا ترى أن أصحابنا قالوا لو مر رجل من أهل العدل على عاشر أهل البغي بمال فعشره أنه لا يحتسب له الإمام بذلك ويأخذ منه العشر إذا مر به على عاشر أهل العدل فعلمت أن المعنى في سقوط حق الإمام في الأخذ لا عل معنى أنهم جعلوا حكمهم كأحكام أهل العدل وإنما أجازوا قضاء قاضي البغاة إذا كان القاضي من أهل العدل من قبل أن الذي يحتاج إليه في صحة نفاذ القضاء هو أن يكون القاضي عدلا في نفسه ويمكنه تنفيذ قضائه وحمل الناس عليه بيد قوية سواء كان المولى له عدلا أو باغيا ألا ترى أنه لو لم يكن ببلد سلطان فاتفق أهله على أن ولوا رجلا منهم القضاء كان جائزا وكانت أحكامه نافذة عليهم فكذلك الذي ولاه البغاة القضاء إذا كان هو في نفسه عدلا نفذت أحكامه ويحتج من يجيز مجاوزة الحد بالتعزير بقوله تعالى فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر بقتالهم إلى أن يرجعوا إلى الحق فدل على أن التعزير يجب إلى أن يعلم إقلاعه عنه وتوبته إذ كان التعزير للزجر والردع وليس له مقدار معلوم في العادة كما أن قتال البغاة لما كان الردع وجب فعله أن يرتدعوا وينزجروا قال أبو بكر إنما اقتصر من لم يبلغ بالتعزير الحد على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين وقوله تعالى إنما

المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم يعني أنهم إخوة في الدين كقوله تعالى فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وفي ذلك دليل على جواز إطلاق لفظ الأخوة بين المؤمنين من جهة الدين وقوله تعالى فأصلحوا بين أخويكم يدل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم نهى الله بهذه الآية عن عيب من لا يستحق أن يعاب على وجه الإحتقار له لأن ذلك هو معنى السخرية وأخبر أنه وإن كان أرفع حالا منه في الدنيا فنسي أن يكون المسخور منه خيرا عند الله وقوله تعالى ولا تلمزوا أنفسكم وروي عن ابن عباس وقتادة لا يطعن بعضكم على بعض قال أبو بكر هو كقوله ولا تقتلوا أنفسكم لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخاه قاتل نفسه وكقوله فسلموا على

 

أنفسكم يعني يسلم بعضكم على بعض واللمز العيب يقال لمزه إذا عابه وطعن عيه قال الله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات قال زياد الأعجم ... إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن تغيبت الهامز اللمزه ... ما كنت أخشى وإن كان الزمان به ... حيف على الناس ان يغتابني عنزه ...

وإنما نهى بذلك عن عيب من لا يستحق وليس بمعيب فإن من كان معيبا فاجرا فعيبه بما فيه جائز وروي أنه لما مات الحجاج قال الحسن اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإنه أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله يرحل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له لا قائل الصلاة أيها الرجل ثم قال الحسن هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط وقوله تعالى ولا تنابزوا بالألقاب روى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن أن أبا ذر كان عند النبي صلى الله عليه وسلم -

وكان بينه وبين رجل منازعة فقال له أبو ذر يا ابن اليهودية فقال النبي ص

- أما ترى ما ههنا ما شيء أحمر ولا أسود وما أنت أفضل منه إلا بالتقوى قال ونزلت هذه الآية ولا تنابزوا بالألقاب وقال قتادة في قوله تعالى ولا تنابزوا بالألقاب قال لا تقل لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الحسن قال كان اليهودي والنصراني يسلم فقال له يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب عن داود عن عامر قال حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان قال قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فجعل رسول الله ص

- يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فأنزلت هذه الآية ولا تنابزوا بالألقاب وهذا يدل على أن اللقب المكروه هو ما يكرهه صاحبه ويفيد ما للموصوف به لأنه بمنزلة السباب والشتيمة فأما الأسماء والأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة لم يتناولها النهي لأنها بمنزلة أسماء الأشخاص والأسماء المشتقة من أفعال وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن يزيد بن خيثم عن محمد بن كعب قال حدثني محمد بن خيثم المحاربي عن

 

عمار بن ياسر قال كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - أقام بها شهرا وصالح فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ووادعهم فقال لي علي رضي الله عنه هل لك أن تأتي هؤلاء من بني مدلج يعملون في عير لهم ننظر كيف يعملون فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فما أنبهنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعلي يا أبا تراب لما عليه من التراب فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال ألا أخبركم بأشقى رجلين قلنا من هما يا رسول الله قال أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يده على رأسه حتى تبل منه هذه ووضع يده على لحيته وقال سهل بن سعد ما كان اسم أحب إلى علي رضي الله عنه أن يدعى به من أبي تراب فمثل هذا لا يكره إذ ليس فيه ذم ولا يكرهه صاحبه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا إبراهيم بن مهدي قال حدثنا شريك عن عاصم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يا ذا الأذنين وقد غير النبي ص

- اسماء قوم فسمى العاص عبدالله وسمى شهابا هشاما وسمى حربا سلما وفي جميع ذلك دليل على أن المنهي من الألقاب ما ذكرنا دون غيره وقد روي أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا يعني الصغر قال أبو بكر فلم يكن ذلك غيبة لأنه لم يرد به ذم المذكور ولا غيبته وقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم اقتضت الآية النهي عن بعض الظن لا عن جميعه لأن قوله كثيرا من الظن يقتضي البعض وعقبه بقوله إن بعض الظن إثم فدل على أنه لم ينه عن جميعه وقال في آية أخرى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا فالظن على أربعة أضرب محظور ومأمور به ومندوب إليه ومباح فإن الظن المحظور فهو سوء الظن بالله تعالى حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى ومحمد بن حبان التمار قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاث يقول لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز و جل وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي قال حدثنا سويد بن نصر قال حدثنا ابن المبارك عن هشام بن الغازي عن حبان بن أبي

 

النصر قال سمعت وائلة بن الأسقع يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول الله أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن واسع عن شتير يعني ابن نهار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال حسن الظن من العبادة وهو مرفوع في حديث نصر بن علي غير مرفوع في حديث موسى بن إسماعيل فحسن الظن بالله فرض وسوء الظن به محظور منهي عنه وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور مزجور عنه وهو من الظن المحظور المنهي عنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -

معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته وقمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان

مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم - أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم - على رسلكما إنها صفية بنت حيي قالا سبحان الله يا رسول الله قال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال سوءا وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عبدالرحمن قال حدثنا وهيب قال حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث فهذا من الظن المحظور وهو ظنه بالمسلم سوءا من غير سبب يوجبه وكل ظن فيما له سبيل إلى معرفته مما تعبد بعلمه فهو محظور لأنه لما كان متعبدا تعبد بعلمه ونصب له الدليل عليه فلم يتبع الدليل وحصل على الظن كان تاركا للمأمور به وأما ما لم ينصب له عليه دليل يوصله إلى العلم به وقد تعبد بتنفيذ الحكم فيه فالإقتصار على غالب الظن وإجراء الحكم عليه واجب وذلك نحو ما تعبدنا به من قبول شهادة العدول وتحري القبلة وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف فهذه وما كان من نظائرها قد تعبدنا فيها بتنفيذ أحكام غالب الظن وأما الظن المباح فالشاك في الصلاة أمره النبي صلى الله عليه وسلم - بالتحري والعمل على ما يغلب في ظنه فلو غلب ظنه كان مباحا وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزا ونحوه ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لعائشة إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية وإنك لم تكوني حزتيه ولا قبضتيه وإنما هو مال الوارث وإنما هو أخواك وأختاك قال فقلت إنما هي أسماء فقال ألقي في روعي أن

 

ذا بطن خارجة جارية فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا هشام بن عمار عن عبدالرحمن بن سعد عن عبدالله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا ظننتم فلا تحققوا فهذا من الظن الذي يعرض بقلب الإنسان في أخيه مما يوجب الريبة فلا ينبغي أن يحققه وأما الظن المندوب إليه فهو حسن الظن بالأخ المسلم هو مندوب إليه مثاب عليه فإن قيل إذا كان سوء الظن محظورا فواجب أن يكون حسن الظن واجبا قيل له لا يجب ذلك لأن بينهما واسطة وهو أن لا يظن به شيئا فإذا أحسن الظن به فقد فعل مندوبا إليه قوله تعالى ولا تجسسوا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود عن القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب قال أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان تقطر لحيته خمرا فقال عبدالله إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به وعن مجاهد لا تجسسوا خذوا بما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله فنهى الله في هذه الآيات عن سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة والستر ودل به على أنه يجب تكذيب من قذفه بالظن وقال تعالى لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين فإذا وجب تكذيب القاذف والأمر بحسن الظن فقد اقتضى ذلك النهي عن تحقيق المظنون وعن إظهاره ونهى عن التجسس بل أمر بالستر على أهل المعاصي مالم يظهره منهم إصرار حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال حدثنا الفريابي عن إسرائيل عن الوليد قال أبو داود ونسبه لنا زهير بن حرب عن حسين بن محمد عن إسرائيل في هذا الحديث قال الوليد بن أبي هشام عن زيد بن زائد عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر لكم وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسلم بن ابراهيم قال حدثنا عبدالمبارك عن إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من رأى عورة فسترها كان كمن أحيى موءودة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن عقيل

 

عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه فإن الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة وجميع ما أمرنا الله به من ذلك يؤدي إلى صلاح ذات البين وفي صلاح ذات البين صلاح أمر الدنيا والدين قال الله تعالى فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة وقوله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا العنبي قال حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا سفيان عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة قالت قلت للنبي ص - حسبك من صفية كيت وكيت قال غير مسدد نعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا آخر فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن ابن علي قال حدثنا عبدالرزاق عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أن عبدالرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول جاء الأسلمي إلى نبي الله ص - فشهد على نفسه أربع مرات أنه أصاب امرأة حراما وذكر الحديث إلى قوله فما تريد بهذا القول قال أريد أن تطهرني فأمر به فرجم فسمع نبي الله ص - رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال أين فلان وفلان فقال نحن ذان يا رسول الله قال انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار فقالا يا نبي الله من يأكل من هذا قال فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله

 

قال حدثنا يزيد بن مرة سنة ثلاث عشر ومائتين قال حدثنا ابن عون أن ناسا أتوا ابن سيرين فقالوا إنا ننال منك فاجعلنا في حل فقال لا أحل لكم ما حرم الله عليكم وروى الربيع بن صبيح أن رجلا قال للحسن يا أبا سعيد إني أرى أمرا أكرهه قال وما ذاك يا ابن أخي قال أرى أقواما يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقط كلامك ثم يحكونك ويعيبونك فقال يا ابن أخي لا يكبرن هذا عليك أخبرك بما هو أعجب قال وما ذاك يا عم قال أطمعت نفسي في جوار الرحمن وحلول الجنان والنجاة من النيران ومرافقة الأنبياء ولم أطمع نفسي في السلامة من الناس أنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم فإذا لم يسلم خالقهم فالمخلوق أجدر أن لا يسلم حدثنا عبدالباقي بن قانع قال أخبرنا الحارث ابن أبي أسامة قال حدثنا داود بن المجبر قال حدثنا عنبسة بن عبدالرحمن قال حدثني خالد بن يزيد اليمامي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته وقوله تعالى

أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه تأكيد لتقبيح الغيبة والزجر عنه من وجوه أحدهما أن لحم الإنسان محرم الأكل فكذلك الغيبة والثاني النفوس تعاف أكل لحم الإنسان من جهة الطبع فلتكن الغيبة عندكم بمنزلته في الكراهة ولزوم اجتنابه من جهة موجب العقل إذا كانت دواعي العقل أحق بالاتباع من دواعي الطبع ولم يقتصره على ذكر الإنسان الميت حتى جعله أخاه وهذا أبلغ ما يكون في التقبيح والزجر فهذا كله إنما هو في المسلم الذي ظاهره العدالة ولم يظهر منه ما يوجب تفسيقه كما يجب علينا تكذيب قاذفه بذلك فإن كان المقذوف بذلك مهتوكا فاسقا فإن ذكر ما فيه من الأفعال القبيحة غير محظور كما لا يجب على سامعه النكير على قائله ووصفه بما يكرهه على ضربين أحدهما ذكر أفعاله القبيحة والآخر وصف خلقته وإن كان مشينا على جهة الاحتقار له وتصغيره لا على جهة ذمه بها ولا عيب صانعها على نحو ما روينا عن الحسن في وصفه الحجاج بقبح الخلقة وقد يجوز وصف قوم في الجملة ببعض ما إذا وصف به إنسان بعينه كان غيبة محظورة ثم لا يكون غيبة إذا وصف به الجملة على وجه التعريف كما روى أبو حازم عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن تزوجت امرأة قال هل نظرت إليها فإن في أعين الأنصار شيئا فإنه لم يكن غيبة وجعل وصف عائشة الرجل بالقصر في الحديث الذي قدمنا غيبة لأن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم - وعلى وجه

 

التعريف لا على جهة العيب وهو كما روي عنه أنه قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما عراض الوجوه صغار العيون فطس الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة فلم يكن ذلك غيبة وإنما كان تعريفا لهم صفة القوم قوله تعالى إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا روي عن مجاهد وقتادة الشعوب النسب الأبعد والقبائل الأقرب فيقال بني فلان وفلان وقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم بدأ بذكر الخلق من ذكر وأنثى وهما آدم وحواء ثم جعلهم شعوبا يعني متشعبين متفرقين في الأنساب كالأمم المتفرقة نحو العرب وفارس والروم والهند ونحوهم ثم جعلهم قبائل وهم أخص من الشعوب نحو قبائل العرب وبيوتات العجم ليتعارفوا بالنسبة كما خالف بين خلقهم وصورهم ليعرف بعضهم بعضا ودل بذلك على أنه لا فضل لبعضهم على بعض من جهة النسب إذ كانوا جميعا من أب وأم واحدة ولأن الفضل لا يستحق بعمل غيره فبين الله تعالى ذلك لنا لئلايفخر بعضنا على بعض بالنسب وأكد ذلك بقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم فأبان أن الفضيلة والرفعة إنما تستحق بتقوى الله وطاعته وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في خطبته أنه قال إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وقال ابن عباس وعطاء إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أعظمكم بيتا آخر سورة الحجرات

ومن سورة ق

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله فهم في أمر مريج قال من ترك الحق مرج عليه رأيه والتبس عليه دينه وقوله تعالى وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب روى جرير بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وروي عن ابن عباس وقتادة أن المراد صلاة الفجر وصلاة العصر وقوله تعالى ومن الليل فسبحه قال مجاهد

 

صلاة الليل قال أبو بكر يجوز أن يريد صلاة المغرب والعتمة وقوله تعالى وأدبار السجود قال علي وعمر والحسن بن علي وابن عباس والحسن البصري ومجاهد والنخعي والشعبي وأدبار السجود ركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم ركعتان قبل الفجر وعن ابن عباس مثله وعن مجاهد عن ابن عباس وأدبار السجود إذا وضعت جبهتك على الأرض أن تسبح ثلاثا قال أبو بكر اتفق من ذكرنا قوله بديا أن قوله وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب أراد به الصلاة وكذلك ومن الليل فسبحه هو صلاة الليل وهي العتمة والمغرب فوجب أن يكون قوله وأدبار السجود هو الصلاة لأن فيه ضمير فسبحه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

التسبيح في دبر كل صلاة ولم يذكر أنه تفسير الآية وروى محمد بن سيرين عن

كثير بن أفلح عن زيد بن ثابت قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين فأتى رجل من الأنصار في المنام فقال أمركم محمد ص - أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدوا ثلاثا وثلاثين وتكبروا أربعا وثلاثين فلو جعلتموها خمسا وعشرين خمسا وعشرين فاجعلوا فيها التهليل فذكر ذلك للنبي ص - فقال افعلوا وروى سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم قال كيف ذاك قالوا صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال فقال أنا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون به من بعدكم لا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون الله في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون الله عشرا وتكبرون عشرا وروى نحوه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

إلا أنه قال تسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمد ثلاثا وثلاثين

وتكبر أربعا وثلاثين كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وقال وتكبر أربعا وثلاثين وروى أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول في آخر صلاته عند انصرافه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين قال أبو بكر فإن حمل معنى الآية على الوجوب كان قوله وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس على صلاة الفجر وقبل الغروب على صلاة الظهر والعصر وكذلك روي عن الحسن ومن الليل فسبحه صلاة العتمة والمغرب فتكون الآية منتظمة للصلوات الخمس وعبر عن الصلاة بالتسبيح لأن التسبيح تنزيه لله عما لا يليق

 

به والصلاة تشتمل على قراءة القرآن وأذكار هي تنزيه لله تعالى آخر سورة ق

ومن

سورة الذاريات

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون قال ابن عباس وإبراهيم والضحاك الهجوع النوم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانوا أقل ليلة تمر عليهم إلا صلوا فيها وقال قتادة عن الحسن لا ينامون فيها إلا قليلا وقال مطرف بن عبدالله أقل ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها إما من أولها وإما من أوسطها وقال مجاهد كانوا لا ينامون كل الليل وروى قتادة عن أنس قال كانوا ينتفلون بين المغرب والعشاء وروى أبو حيوة عن الحسن قال كانوا يطيلون الصلاة بالليل وإذا سجدوا استغفروا وروى عن قتادة قال كانوا لا ينامون عن العتمة ينتظرونها لوقتها كأنه جعل هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم لصلاة العتمة قال أبو بكر قد كانت صلاة الليل فرضا فنسخ فرضها بما نزل في سورة المزمل ورغب فيها في هذه السورة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أخبار في فضلها والترغيب فيها وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله فيها بخير الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه وذلك في كل ليلة وقال أبو مسلم قلت لأبي ذر أي صلاة الليل أفضل قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال نصف الليل وقليل فاعله وروى عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن

عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويصلي ثلث الليل وينام سدس الليل وروي عن الحسن كانوا قليلا من الليل ما يهجعون قال ما يرقدون وبالأسحار هم يستغفرون قال مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار وقوله تعالى وفي أموالهم حق قال أبو بكر اختلف السلف في تأويله فقال ابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد هو حق سوى الزكاة واجب في المال وقال ابن عباس من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق وقال ابن سيرين وفي أموالهم حق معلوم قال الصدقة حق معلوم وروى حجاج عن الحكم عن ابن عباس قال نسخت الزكاة كل صدقة والحجاج عن أبي جعفر مثله واختلف الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في ذلك فروي عنه ما يحتج به كل واحد من الفريقين فروى طلحة بن عبيد الله

قصة الرجل الذي

 

سأل النبي صلى الله عليه وسلم -

عما عليه فذكر الصلاة والزكاة والصيام فقال هل على شيء غير هذا قال لا

وروى عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك فيه وروى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت الحق الذي يجب عليك فهذه الأخبار يحتج بها من تأول حقا معلوما على الزكاة وأنه لا حق على صاحب المال غيرها واحتج ابن سيرين بأن الزكاة حق معلوم وسائر الحقوق التي يوجبها مخالفوه ليست بمعلومة واحتج من أوجب فيه حقا سوى الزكاة بما روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أفي المال حق سوى الزكاة فتلاليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الآية فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله وآتى المال على حبه ويحتجون أيضا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها في عسرها ويسرها إلإ برز لها بقاع قرقر تطأه بأخفافها وذكر البقر والغنم فقال أعرابي يا أبا هريرة وما حقها قال تمنح الغزيرة وتعطى الكريمة وتحمل على الظهر وتسقى اللبن وفي حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قالوا يا رسول الله وما حقها قال إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله وروى الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني مقبلا قال هم الأخسرون ورب الكعبة فقلت يا رسول الله من هم قال هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا حثا عن يمينه وعن شماله وبين يديه ما من رجل يموت ويترك إبلا لم يؤد زكاتها إلا جاءته يوم القيامة تنطحه بقرونها وتطأه بأخفافها كلما بعدت أخراها أعيدت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس قال أبو بكر هذه الأخبار كلها مستعملة وفي المال حق سوى الزكاة باتفاق المسلمين منه ما يلزم من النفقة على والديه إذا كانا فقيرين وعلى ذوي أرحامه وما يلزم من إطعام المضطر وحمل المنقطع به وما جرى مجرى ذلك من الحقوق اللازمة عند ما يعرض من هذه الآحوال وقوله تعالىللسائل والمحروم قال ابن عباس رواية عائشة وابن المسيب ومجاهد رواية عطاء وأبو العالية والنخعي وعكرمة المحروم المحارف وقال الحسن المحروم الذي يطلب فلا يرزق وقال ابن عباس رواية ومجاهد المحروم الذي ليس له في الإسلام سهم وفي لفظ آخر الذي ليس له في الغنيمة شيء وقال عكرمة الذي لا ينمو

 

له مال وقال الزهري وقتادة المحروم المسكين المتعفف وقال عمر بن عبدالعزيز المحروم الكلب قال أبو بكر من تأوله على الكلب فإنه لا يجوز أن يكون المراد عنده بحق معلوم الزكاة لأن إطعام الكلب لا يجزى من الزكاة فينبغي أن يكون المراد عنده حقا غير الزكاة فيكون في إطعام الكلب قربة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إن في كل ذي كبد حرى أجرا وإن رجلا سقى كلبا فغفر الله له والأظهر في قوله حق معلوم أنه الزكاة لأن الزكاة واجبة لا محالة وهي حق معلوم فوجب أن يكون مرادا بالآية إذ جائز أن ينطوي تحتها ويكون اللفظ عبارة عنها ثم جائز أن يكون جميع ما تأول السلف عليه المحروم مرادا بالآية في جواز إعطائه الزكاة وهو يدل على أن الزكاة إذا وضعت في صنف واحد أجزأ لأنه اقتصر على السائل والمحروم دون الأصناف المذكورة في آية الصدقات وفرق الله تعالى في الآية بين السائل والمحروم لأن الفقير قد يحرم نفسه بتركه المسألة وقد يحرمه الناس بترك إعطائه فإذا لم يسأل فقد حرم نفسه بترك المسألة فسمي محروما من هذا الوجه لأنه يصير محروما من وجهين من قبل نفسه ومن قبل الناس وقد روي عن الشعبي أنه قال أعياني أن أعلم ما المحروم آخر سورة الذاريات

ومن سورة الطور

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى وسبح بحمد ربك حين تقوم قال ابن مسعود وأبو الأحوص ومجاهد حين تقوم من كل مكان سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وروى علي بن هاشم قال سئل الأعمش أكان إبراهيم يستحب إذا قام من مجلسه أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك قال ما كان يستحب أن يجعل ذلك سنة وقال الضحاك عن عمر يعني به افتتاح الصلاة قال أبو بكر يعني به قوله سبحانك الله وبحمدك وتبارك اسمك إلى آخره وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول ذلك بعد التكبير وقال أبو الجوزاء حين تقوم من منامك قال أبو بكر يجوز أن يكون عموما في جميع ما روي من هذه التأويلات قوله تعالى وإدبار النجوم روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنه ركعتا الفجر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار في ركعتي الفجر منها حديث سعد بن هشام عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها

 

وروى عبيد بن عمير عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أسرع إلى شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر ولا إلى غنيمة وروى أيوب

عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الركعتان قبل صلاة الفجر واجبتان على كل مسلم وروي عنه أنه قال لا تدعوهما فإن فيهما الرغائب وقال لا تدعوهما وإن طرقتكم الخيل آخر سورة الطور

ومن

سورة النجم

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى وما ينطق عن الهوى يحتج به من لا يجيز أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم - في الحوادث من جهة اجتهاد الرأي بقوله إن هو إلا وحي يوحى وليس كما ظنوا لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي جاز أن ينسب موجبه وما أدى إليه أنه عن وحي وقوله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى روي عن ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع قالوا رأى جبريل في صورته التي خلقه الله عليها مرتين وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه بقلبه وهذا يرجع إلى معنى العلم وعن ابن مسعود والضحاك سدرة المنتهى في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج إلى السماء وقيل سميت سدرة المنتهى لأنه يتنهي إليها أرواح الشهداء وقال الحسن جنة المأوى هي التي يصير إليها أهل الجنة وفي هذه الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد صعد إلى السماء وإلى الجنة بقوله تعالى رآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وقوله تعالى إلا اللمم قال ابن عباس رواية لم أر أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه وروي عن ابن مسعود وأبي هريرة أنه النظرة والغمزة والقبلة والمباشرة فإذا مس الختان الختان فهو الزنا ووجب الغسل وعن أبي هريرة أيضا أن اللمم النكاح وعنه أيضا أن اللمة من الزنا ثم يتوب فلا يعود وقال ابن عباس رواية اللمم ما بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة وقال ابن عباس أيضا رواية هو الذي يلم بالمرأة وقال عطاء اللمم ما دون الجماع وقال مجاهد أن تصيب الذنب ثم تتوب وروى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم - يقول اللهم إن تغفر تغفر جما وأي عبد لك لا الما ويقال إن اللمم هو الهم بالخطيئة من جهة حديث النفس بها من غير عزم عليها وقيل إن اللمم

 

مقاربة الشيء من غير دخول فيه يقال ألم بالشيء إلماما إذا قاربه وقيل إن اللمم الصغير من الذنوب لقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله تعالى لا تزر وازرة وزر أخرى هو كقوله ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكقوله ولا تكسب كل نفس إلا عليها وقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى في معنى ذلك ويحتج به في امتناع جواز تصرف الأنسان على غيره في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ وقوله تعالى وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى قال أبوبكر لما كان قوله الذكر والإنثى اسم للجنس استوعب الجميع وهذا يدل على انه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى وإن الخنثى وإن اشتبه علينا أمره لا يخلو من أحدهما وقد قال محمد بن الحسن إن الخنثى المشكل إنما يكون ما دام صغيرا فإذا بلغ فلا بد من أن تظهر فيه علامة ذكر أو أنثى وهذه الآية تدل على صحة قوله آخر سورة النجم

ومن

سورة القمر

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -

لأن الله لا يقلب العادات بمثله إلا ليجعله دلالة على صحة نبوة النبي ص

- وروى انشقاق القمر عشرة من الصحابة منهم عبدالله بن مسعود وابن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم في آخرين كرهت ذكر أسانيدها للإطالة فإن قيل معناها سينشق في المستقبل عند قيام الساعة لأنه لو كان قد انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم - لما خفي على أهل الآفاق قيل له هذا فاسد من وجهين أحدهما أنه خلاف ظاهر اللفظ وحقيقته والآخر انه قد تواتر الخبر به عن الصحابة ولم يدفعه منهم أحد وأما قوله إنه لو كان ذلك قد وقع لما خفي على أهل الآفاق فإنه جائز أن يستره الله عنهم بغيم أو يشغلهم عن رؤيته ببعض الأمور لضرب من التدبير ولئلا يدعيه بعض المتنبئين في الآفاق لنفسه فأظهره للحاضرين عند دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - إياهم واحتجاجه عليهم قوله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم الآية تدل على جواز المهايأة على الماء لأنهم جعلوا شرب الماء يوما للناقة ويوما لهم ويدل أيضا على أن المهايأة قسمة المنافع لأن الله تعالى قد سمى ذلك قسمة وإنما هي مهايأة على الماء لا قسمة الأصل واحتج محمد بن الحسن بذلك في جواز المهايأة على الماء على هذا الوجه وهذا يدل من قوله على

 

أنه كان يرى شرائع من كان قبلنا من الأنبياء ثابتة مالم يثبت نسخها آخر سورة القمر

ومن

سورة الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى والحب ذو العصف والريحان روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أن العصف التبي وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك الريحان الورق وعن ابن عباس أيضا أن الريحان الحب وقال الحسن هو الريحان الذي يشم قال أبو بكر لا يمتنع أن يكون جميع ذلك مرادا لوقوع الاسم عليه والظاهر من الريحان أنه المشموم ولما عطف الريحان على الحب ذي العصف والعصف هو ساقه دل على أن الريحان ما يخرج من الأرض وله رائحة مستلذة قبل أن يصير له ساق وذلك نحو الضيمران والنمام والآس الذي يخرج ورقه ريحانا قبل أن يصير ذا ساق لأن العطف يقتضي ظاهره أن المعطوف غير المعطوف عليه وقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان مراده من أحدهما لأنه إنما يخرج من الملح دون العذب وهو كقوله يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وإنما أرسل من الإنس وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك المرجان صغار اللؤلؤ وقيل المرجان المختلط من الجواهر من مرجت أي خلطت وقيل إنه ضرب من الجواهر كالقضبان يخرج من البحر وقيل إنما قال يخرج منهما لأن العذب والملح يلتقيان فيكون العذب لقاحا للملح كما يقال يخرج الولد من الذكر والأنثى وإنما تلده الأنثى وقال ابن عباس إذا جاء القطر من السماء تفتحت الأصداف فكان من ذلك اللؤلؤ وقوله تعالى فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان روى أنها تحمر وتذوب كالدهن روى أن سماء الدنيا من حديد فإذا كان يوم القيامة صارت من الخضرة إلى الاحمرار من حر جهنم كالحديد إذا أحمي بالنار وقوله تعالى فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان قيل فيه لا يسأل سؤال استفهام لكن سؤال تقرير وتوقيف وقيل فيه لا يسأل في أول أحوال حضورهم يوم القيامة لما يلحقهم من الدهش والذهول ثم يسألون في وقت آخر وقوله تعالى قيها فاكهة ونخل ورمان يحتج به لأبي حنيفة في أن الرطب والرمان ليس من الفاكهة لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره هذا هو ظاهر الكلام ومفهومه إلا أن تقوم الدلالة على أنه انفرد بالذكر وإن كان من جنسه لضرب من التعظيم وغيره كقوله

 

تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال آخر سورة الرحمن

ومن

سورة الواقعة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون روي عن سلمان أنه قال لا يمس القرآن إلا المطهرون فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال فقال لأخته أعطوني الكتاب الذي كنتم تقرأون فقالت إنك رجس وإنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأه وذكر الحديث وعن سعد إنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف وعن ابن عمر مثله وكره الحسن والنخعي مس المصحف إلى غير وضوء وروي عن حماد أن المراد القرآن الذي في اللوح المحفوظ يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة وقال أبو العالية في قوله لا يمسه إلا المطهرون قال هو في كتاب مكنون ليس أنتم من أصحاب الذنوب وقال سعيد بن جبير وابن عباس المطهرون الملائكة وقال قتادة لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي والنجس والمنافق قال أبو بكر إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله والمطهرون الملائكة وإن حمل على النهي وإن كان في صورة الخبر كان عموما فينا وهذا أولى لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم ولا يمس القرآن إلا طاهر فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية إذ فيها احتمال له آخر سورة الواقعة

ومن سورة الحديد

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح الآية روي عن الشعبي قال فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية وفيه أنزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله أفتح هو قال نعم عظيم وقال سعيد عن قتادة هو فتح مكة قال أبو بكر أبان عن فضيلة الإنفاق قبل الفتح على ما بعده لعظم عناء النفقة فيه وكثرة الانتفاع به ولأن الإنفاق في ذلك الوقت كان أشد على النفس لقلة المسلمين وكثرة الكفار مع شدة المحنة والبلاء وللسبق إلى الطاعة

 

ألا ترى إلى قوله الذين اتبعوه في ساعة العسرة وقوله والسابقون الأولون فهذه الوجوه كلها تقتضي تفضيلها وقوله تعالى فطال عليهم الأمد الآية يدل على أن كثرة المعاصي ومساكنتها وألفها تقسي القلب وتبعد من التوبة وهو نحو قوله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقوله تعالى والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم روى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن كل مؤمن شهيد لهذه الآية وجعل قوله والشهداء صفة لمن تقدم ذكره من المؤمنين وهو قول عبدالله ومجاهد وقال ابن عباس ومسروق وأبو الضحى والضحاك هو ابتداء كلام وخبره لهم أجرهم ونورهم وقوله تعالى وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها الآية قال أبو بكر أخبر عما ابتدعوه من القرب والرهبانية ثم ذمهم على ترك رعايتها بقوله فما رعوها حق رعايتها والابتداع قد يكون بالقول وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه وقد يكون بالفعل بالدخول فيه وعمومه يتضمن الأمرين فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها وإتمامها فوجب على ذلك أن من دخل في صلاة أو صوم أو حج أو غيرها من القرب فعليه إتمامها إلا وهي واجبة عليه فيجب عليه القضاء إذا أفسدها وروي عن أبي أمامة الباهلي قال كان ناس من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعابهم الله بتركها فقال ورهبانية ابتدعوها الآية آخر سورة الحديد

ومن سورة المجادلة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله عز و جل قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى قوله وإن الله لعفو غفور روى سفيان عن خالد عن أبي قلابة قال كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاء والظهار فلما جاء الإسلام جعل الله في الظهار ما جعل فيه وجعل في الإيلاء ما جعل فيه وقال عكرمة كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآية وأما المجادلة التي كانت في المرأة فإن عبدالله بن محمد حدثنا قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أبي إسحاق في قوله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها في امرأة يقال لها خويلة وقال عكرمة بنت ثعلبة زوجها أوس بن

 

الصامت قالت إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أراك إلا قد حرمت عليه وهو يومئذ يغسل رأسه فقالت انظر جعلني الله فداك يا نبي الله قال ما أراك إلا قد حرمت عليه فأعادت ذلك مرارا فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى قوله ثم يعودون لما قالوا قال قتادة حرمها ثم يريد أن يعود لها فيطأها فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا قال أبو بكر قوله ص - ما أراك إلا قد حرمت عليه يحتمل أن يريد به تحريم الطلاق على ما كان عليه حكم الظهار ويحتمل أن يريد به تحريم الظهار والأولى أن يكون المراد بجميع الطلاق لأن حكم الظهار مأخوذ من الآية والآية نزلت بعد هذا القول فثبت أن مراده تحريم الطلاق ورفع النكاح وهذا يوجب أن يكون هذا الحكم قد كان ثابتا في الشريعة قبل نزول آية الظهار وإن كان قبل ذلك من حكم أهل الجاهلية فإن قيل إن كان النبي صلى الله عليه وسلم - قد حكم فيها بالطلاق بقوله ما أراك إلا قد حرمت فكيف حكم فيها بعينها بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه وإنما النسخ يوجب الحكم في المستقبل بخلاف الأول في الماضي قيل له لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم - بالطلاق وإنما علق القول فيه فقال ما أراك إلا قد حرمت فلم يقطع بالتحريم وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه قبل ذلك أنه سينسخ هذا الحكم وينقله من الطلاق إلى تحريم الظهار الآن فجوز النبي صلى الله عليه وسلم - أن ينزل الله الآية فلم يثبت الحكم فيه فلما نزلت الآية حكم فيها بموجبها وقوله تعالى وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا يعني والله أعلم في تشبيهها بظهر الأم لأن الإستمتاع بالأم محرم تحريما مؤبدا وهي لا تحرم عليه بهذا القول تحريما مؤبدا فكان ذلك منكرا من القول وزورا وقوله تعالى الذين يظاهرون منكم من نسائهم وذلك خطاب للمؤمنين يدل على أن الظهار مخصوص به المؤمنون دون أهل الذمة فإن قيل فقد قال الله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ولم يخصص المذكورين في الثانية قيل له المذكورون في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى فوجب أن يكون خاصا في المسلمين دون غيرهم وأما قوله ثم يعودون لما قالوا فقد اختلف الناس فيه فروى معمر عن طاوس عن أبيه ثم يعودون لما قالوا قال الوطء فإذا حنث فعليه الكفارة وهذا تأويل مخالف للآية لأنه قال فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا وقد روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال إذا تكلم بالظهار لزمه وروي عن ابن عباس

 

أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي لم تحل له حتى يكفر وروي عن ابن شهاب وقتادة إذا أراد جماعها لم يقربها حتى يكفر وقد اختلف فقهاء الأمصار في معنى العود فقال أصحابنا والليث بن سعد الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة ومعنى العود عندهم استباحة وطئها فلا يفعله إلا بكفارة يقدمها وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف لو وطئها ثم ماتت لم يكن عليه كفارة وقال الثوري إذا ظاهره بها لم تحل له إلا بعد الكفارة وإن طلقها ثم تزوجها لم يطأها حتى يكفر وهذا موافق لقول أصحابنا وقال ابن وهب عن مالك إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها فقد وجبت عليه الكفارة فإن طلقها بعد الظهار ولم يجمع على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة الظهار وذكر ابن القاسم عنه أنه إذا ظاهر منه ثم وطئها ثم ماتت فلا بد من الكفارة لأنه وطئ بعد الظهار وقال أشهب عن مالك إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها وطلب الكفارة فماتت امرأته فعليه الكفارة وقال الحسن إذا أجمع رأي المظاهر على أن يجامع امرأته فقد لزمته الكفارة وإن أراد تركها بعد ذلك لأن العود هو الإجماع على مجامعتها وقال عثمان البتي فيمن ظاهر من امرأته ثم طلقها قبل أن يطأها قال أرى عليه الكفارة راجعها أو لم يراجعها وإن ماتت لم يصل إلى ميراثها حتى يكفر وقال الشافعي إن أمكنه أن يطلقها بعد الظهار فلم يطلق فقد وجبت الكفارة ماتت أو عاشت وحكي عن بعض من لا يعد خلافا أن العود أن يعيد القول مرتين قال أبو بكر روت عائشة وأبو العالية أن آية الظهار نزلت في شأن خولة حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بعتق رقبة فقال لا أجد فقال صم شهرين متتابعين قال لو لم آكل في اليوم ثلاث مرات كاد أن يغشى على بصري فأمره بالإطعام وهذا يدل على بطلان قول من اعتبر العزم على إمساكها ووطئها لأنه لم يسئله عن ذلك وبطلان قول من اعتبر إرادة الجماع لأنه لم يسئله وبطلان قول من اعتبر الطلاق لأنه لم يقل هل طلقتها وبطلان قول من اعتبر إعادة القول لأنه لم يسئله هل أعدت القول مرتين فثبت قول أصحابنا وهو أن لفظ الظهار يوجب تحريما ترفعه الكفارة ومعنى قوله تعالى ثم يعودون لما قالوا يحتمل وجهين أحدهما ذكر الحال الذي خرج عليه الخطاب وهو أنه قد كان من عادتهم في الجاهلية الظهار فقال الذين يظاهرون منكم من نسائهم قبل هذه الحال ثم يعودون لما قالوا والمعنى ويعودون

 

بعد الإسلام إلى ذلك كما قال تعالى فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد ومعناه والله شهيد فيكون نفس القول عود إلى العادة التي كانت لهم في ذلك كما قال حتى عاد كالعرجون القديم والمعنى حتى صار كذلك وكما قال أمية بن أبي الصلت ... هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ...

معناه صارا كذلك لأنهما في الثدي لم يكونا كذلك وكما قال لبيد ... وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ...

ويحور يرجع وإنما معناه ههنا يصير رمادا كذلك ثم يعودون لما قالوا إنهم يصيرون إلى حال الظهار الذي كان يكون مثله منهم في الجاهلية والوجه الآخر أنه معلوم أن حكم الله في الظهار إيجاب تحريم الوطء موقتا بالكفارة فإذا كان الظهار مخصوصا بتحريم الوطء دون غيره ولا تأثير له في رفع النكاح وجب أن يكون العود هو العود إلى استباحة ما حرمه بالظهار فيكون معناه يعودون للمقول فيه كقوله عليه السلام العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه وإنما هو عائد في الموهوب وكقولنا اللهم أنت رجاؤنا أي من رجونا وقال تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين يعني الموقن به وقال الشاعر ... أخبر من لاقيت إن قد وفيتم ... ولو شئت قال المنبأون أساؤا ... وإني لراجيكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء ...

يعني مرجوا وكذلك قوله ثم يعودون لما قالوا معناه لما حرموا فيستبيحونه فعليهم الكفارة قبل الاستباحة ويبطل قول من اعتبر البقاء على النكاح من وجهين أحدهما أن الظهار لا يوجب تحريم العقد والإمساك فيكون العود إمساكها على النكاح لأن العود لا محالة قد اقتضى عودا إلى حكم معنى قد تقدم إيجابه فلا يجوز أن يكون للإمساك على النكاح فيه تأثير والثاني إنه قال ثم يعودون وثم يقتضي التراخي ومن جعل العود البقاء على النكاح فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخ وذلك خلاف مقتضى الآية وأما من جعل العود العزيمة على الوطء فلا معنى لقوله أيضا لأن موجب القول هو تحريم الوطء لا تحريم العزيمة والعزيمة على المحظور وإن كانت محظورة فإنما تعلق حكمها بالوطء فالعزيمة على الإنفراد لا حكم لها وأيضا لا حظ للعزيمة في سائر الأصول ولا

 

تتعلق بها الأحكام ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة فلا اعتبار بها وقال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الله عفا لأمتي عما حدثت أنفسها مالم يتكلموا به أو يعملوا به فإن قيل هلا كان العود إعادة القول مرتين لأن اللفظ يصلح أن يكون عبارة عنه كما قال الله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ومعناه لفعلوا مثل ما نهوا عنه قيل له هذا خطأ من وجهين أحدهما أن إجماع السلف والخلف جميعا قد انعقد بأن هذا ليس بمراد فقائله خارج عن نطاق الإجماع والثاني أنه يجعل قوله ثم يعودون لما قالوا تكرارا للقول واللفظ مرتين والله تعالى لم يقل ثم يكررون القول مرتين ففيه إثبات معنى لا يقتضيه اللفظ ولا يجوز أن يكون عبارة عنه وإن حملته على أنه عائد لمثل القول ففيه إضمار لمثل ذلك القول وذلك لا يجوز إلا بدلالة فالقائل بذلك خارج عن الإجماع ومخالف لحكم الآية ومقتضاها فإن قيل وأنت إذا حملته على تحريم الوطء وأن تقديم الكفارة لاستباحة الوطء فقد زلت عن الظاهر قيل له إذا كان الظهار قد أوجب تحريم الوطء فالذي يستبيحه منه هو الذي حرمه بالقول فجاز أن يكون ذلك عودا لما قال إذ هو مستبيح لذلك الوطء الذي حرمه بعينه وكان عودا لما قال من إيجاب التحريم ومن جهة أخرى أن الوطء إذا كان مستحقا بعقد النكاح وحكم الوطء الثاني كالأول في أنه مستحق بسبب واحد ثم حرمه بالظهار جاز أن يكون الإقدام على استباحته عودا لما حرم فكان هذا المعنى مطابقا للفظ فإن قيل إن كانت الإستباحة هي الموجبة للكفارة فليس يخلو ذلك من أن يكون العزيمة على الإستباحة وعلى الإقدام على الوطء أو إيقاع الوطء فإن كان المراد الأول فهذا يلزمك إيجاب الكفارة بنفس العزيمة قبل الوطء كما قال مالك والحسن بن صالح وإن كان المراد إيقاع الوطء فواجب أن لا تلزمه الكفارة إلا بعد الوطء وهذا خلاف الآية وليس هو قولك أيضا قيل له المعنى في ذلك هو ما قد بينا من الإقدام على استباحة الوطء فقيل له إذا أردت الوطء وعدت لإستباحة ما حرمته فلا تطأ حتى تكفر لا أن الكفارة واجبة ولكنها شرط في رفع التحريم كقوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم يعني فقدم الإستعاذة قبل القراءة وقوله إذا قمتم إلىالصلاة فاغسلوا والمعنى إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فقدموا الغسل وكقوله إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة وكقوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن

 

لعدتهن والمعنى إذا أردتم ذلك قال أبو بكر قد ثبت بما قدمنا أن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء ولا يرتفع إلا بالكفارة فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط موقتا بأداء الكفارة وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه فإن وطىء سقط الظهار والكفارة وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله من قبل أن يتماسا فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط فإنه متى فات الوقت وعدم الشرط لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أن رجلا ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي ص

- فقال له استغفر الله ولا تعد حتى تكفر فصار التحريم الذي بعد الوطء واجبا بالسنة وقد اختلف السلف فيمن وطئ ما الذي يجب عليه من الكفارة بعده فقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وابن المسيب ليس عليه إلا كفارة واحدة وكذلك قول مجاهد وطاوس وابن سيرين في آخرين وقد روي عن عمرو بن العاص وقبيصة بن ذؤيب والزهري وقتادة عليه كفارتان قال وروي عن ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله ظاهرت من امرأتي فجامعتها قبل أن أكفر فقال استغفر الله ولا تعد حتى تكفر فلم يوجب عليه كفارتين بعد الوطء واختلف الفقهاء في توقيت الظهار فقال أصحابنا والثوري والشافعي إذا قال أنت علي كظهر أمي اليوم بطل الظهار بمضي اليوم وقال ابن أبي ليلى ومالك والحسن بن صالح هو مظاهر أبدا قال أبو بكر تحريم الظهار لا يقع إلا موقتا بأداء الكفارة فإذا وقته المظاهر وجب توقيته لأنه لو كان مما لا يتوقت لما انحل ذلك التحريم بالتكفير كالطلاق فأشبه الظهار اليمين التي يحلها الحنث فوجب توقيته كما يتوقت اليمين وليس كالطلاق لأنه لا يحله شيء فإن قيل تحريم الطلاق الثلاث يقع مؤقتا بالزوج الثاني ولا يتوقت بتوقيت الزوج إذا قال أنت طالق اليوم قيل له إن الطلاق لا يتوقت بالزوج الثاني وإنما يستفيد الزوج الأول بالزوج الثاني إذا تزوجها بعد ثلاث تطليقات مستقبلات والثلاث الأول واقعة على ما كانت وإنما استفاد طلاقا غيرها فليس في الطلاق توقيت بحال والظهار موقت لا محالة بالتكفير فجاز توقيته بالشرط واختلفوا في الظهار هل يدخل

 

عليه إيلاء فقال أصحابنا والحسن بن صالح والثوري في إحدى الروايتين والأوزاعي لا يدخل الإيلاء على المظاهر وإن طال تركه إياها وروى ابن وهب عن مالك لا يدخل على حر إيلاء في ظهار إلا أن يكون مضارا لا يريد أن يفيء من ظهاره وأما العبد فلا يدخل على ظهاره إيلاء وقال ابن القاسم عنه يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا ومما يعلم به ضراره أن يقدر على الكفارة فلا يكفر فإنه إذا علم ذلك وقف مثل المولى فإما كفر وإما طلقت عليه امرأته وروي عن الثوري أن الإيلاء يدخل على الظهار قال أبو بكر ليس الظهار كناية عن الطلاق ولا صريحا فلا يجوز إثبات الطلاق به إلا بتوقيف وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من أدخل على أمرنا ما ليس منه فهو رد ومن أدخل الإيلاء على المظاهر فقد أدخل عليه ما ليس منه وأيضا نص الله على حكم المولى بالفيء أو عزيمة الطلاق ونص على حكم المظاهر بإيجاب كفارة قبل المسيس فحكم كل واحد منهما منصوص عليه فغير جائز حمل أحدهما على الآخر إذ من حكم المنصوصات أن لا يقاس بعضها على بعض وإن كل واحد منها مجرى على بابه ومحمول على معناه دون غيره وأيضا فإن معنى الإيلاء وقوع الحنث ووجوب الكفارة بالوطء في المدة ولا تتعلق كفارة الظهار بالوطء فليس هو إذا في معنى الإيلاء ولا في حكمه وأيضا فإن المولى سواء قصد الضرار أو لم يقصد لا يختلف حكمه وقد اتفقنا أنه متى لم يقصد الضرار بالظهار لم يلزمه حكم الإيلاء بمضي المدة فوجب أن لا يلزمه وإن قصد الضرار فإن قيل لم يعتبر ذلك في الإيلاء لأن نفس الإيلاء ينبئ عن قصد الضرار إذ هو حلف على الإمتناع من الوطء في المدة قيل له الظهار قصد إلى الضرار من حيث حرم وطأها إلا بكفارة يقدمها عليه فلا فرق بينهما فيما يقتضيانه من المضارة واختلف السلف ومن بعدهم فقهاء الأمصار في الظهار من الأمة فروى عبدالكريم عن مجاهد عن ابن عباس قال من شاء باهلته أنه ليس من أمة ظهار وهذا قول إبراهيم والشعبي وابن المسيب وهو قول أصحابنا والشافعي وروي عن ابن جبير والنخعي وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار قالوا هو ظهار وهو قول مالك والثوري والأوزاعي والليث والحسن بن صالح وقالوا يكون مظاهرا من أمته كما هو من زوجته وقال الحسن إن كان يطأها فهو مظاهر وإن كان لا يطأها فليس بظهار قال أبو بكر قال الله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم وهذا اللفظ ينصرف من الظهار إلى الحرائر دون الإماء والدليل

 

عليه قوله تعالى أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن فكان المفهوم من قوله أو نسائهن الحرائر لولا ذلك ما صح عطف قوله أو ما ملكت أيمانهن عليه لأن الشيء لا يعطف على نفسه وقال تعالى وأمهات نسائكم فكان على الزوجات دون ملك اليمين فلما كان حكم الظهار مأخذوا من الآية وكان مقتضاها مقصورا على الزوجات دون ملك اليمين لم يجز إيجابه في ملك اليمين إذ لا مدخل للقياس في إثبات ظهار في غير ما ورد فيه ووجه آخر ما بينا فيما سلف أنهم قد كانوا يطلقون بلفظ الظهار فأبدل الله تعالى به تحريما ترفعه الكفارة فلما لم يصح طلاق الأمة لم يصح الظهار منها ووجه آخر وهو أن الظهار يوجب تحريما من جهة القول يوجب الكفارة والأمة لا يصح تحريمها من جهة القول فأشبه سائر المملوكات من الطعام والشراب متى حرمها بالقول لم تحرم ألا ترى أنه لو حرم على نفسه طعاما أو شرابا لم يحرم ذلك عليه وإنما يلزمه إذا أكل أو شرب كفارة يمين فكذلك ملك اليمين وجب أن لا يصح الظهار منها إذ لا يصح تحريمها من جهة القول

في

الظهار بغير الأم

واختلفوا فيمن قال لامرأته أنت علي كظهر أختي أو ذات محرم منه فقال أصحابنا هو مظاهر وإن قال كظهر فلانة وليست بمحرم منه لم يكن مظاهرا وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعي وقال مالك وعثمان البتي يصح الظهار بالمحرم والأجنبية وللشافعي قولان أحدهما أن الظهار لا يصح إلا بالأم والآخر أنه يصح بذوات المحارم قال أبو بكر لما صح الظهار بالأم وكانت ذوات المحارم كالأم في التحريم وجب أن يصح الظهار بهن إذ لا فرق بينهن في جهة التحريم ألا ترى أن الظهار بالأم من الرضاعة صحيح مع عدم النسب لوجود التحريم فكذلك سائر ذوات المحارم وروي نحو قول أصحابنا عن جابر بن زيد والحسن وإبراهيم وعطاء وقال الشعبي إن الله تعالى لم ينس أن يذكر البنات والأخوات والعمات إنما الظهار من الأم وأيضا لما قال تعالى والذين يظاهرون من نسائهم اقتضى ظاهره الظهار بكل ذات محرم إذ لم يخصص الأم دون غيرها ومن قصرها على الأم فقد خص بلا دليل فإن قيل لما قال تعالى ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم دل علىأنه أراد الظهار بالأم قيل له إنما ذكر الأمهات لأنهن مما اشتمل عليهن حده الآية وذلك لا ينفي أن يكون قوله والذين يظاهرون من نسائهم

 

عموما في سائر من أوقع التشبيه بظهرها من سائر ذوات المحارم وأيضا فإن ذلك يدل على صحة الظهار من سائر ذوات المحارم لأنه قد نبه على المعنى الذي من أجله ألزمه حكم الظهار وهو قوله ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا فأخبر أنه ألزمهم هذا الحكم لأنهن لسن بأمهاتهم وإن قولهم هذا منكر من القول وزور فاقتضى ذلك إيجاب هذا الحكم في الظهار بسائر ذوات المحارم لأنه إذا ظاهر بأجنبية فليست هي أخته ولاذات محرم منه وهذا القول منكر من القول وزورا لأنه يملك بضع امرأته وهي مباحة له وذوات المحارم محرمات عليه تحريما مؤبدا فإن قيل يلزمك على هذا إيجاب الظهار بالأجنبية لعموم الآية ولدلالة فحواها على جواز الظهار بسائر ذوات المحارم إذ لم تفرق الآية بين شيء منهن ولأن تشبهها بالأجنية منكر من القول وزور قيل له لا يجب ذلك لأن الأجنبية لما كانت قد تحل له بحال لم يكن قوله أنت علي كظهر الأجنبية مفيدا للتحريم في سائر الأوقات لجواز أن يملك بضع الأجنبية فتكون مثلها وفي حكمها وأيضا لا خلاف أن التحريم بالأمتعة وسائر الأموال لا يصح بأن يقول أنت علي كمتاع فلان أو ولا كمال فلان لأن ذلك قد يملكه بحال فيستبيحه واختلفوا في الظهار بغير الظهر فقال أصحابنا إذا قال أنت علي كيد أمي او كرأسها أو ذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا وإن قال كبطنها أو كفخذها ونحو ذلك كان مظاهرا لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر وقال ابن القاسم قياس قول مالك أن يكون مظاهرا بكل شيء من الأم وقال الثوري والشافعي إذا قال أنت علي كرأس أمي أو كيدها فهو مظاهر لأن التلذذ بذلك منها محرم قال أبو بكر نص الله تعالى على حكم الظهار وهو أن يقول أنت علي كظهر أمي والظهر مما لا يستبيح النظر إليه فوجب أن يكون سائر ما لا يستبيح النظر إليه في حكمه وما يجوز له أن يستبيح النظر إليه فليس فيه دلالة على تحريم الزوجة بتشبيهها به إذ ليس تحريمها من الأم مطلقا فوجب أن لا يصح الظهار به إذ كان الظهار يوجب تحريما وأيضا لما جاز له استباحة النظر إلى هذه الأعضاء أشبه سائر الأشياء التي يجوز أن يستبيح النظر إليها مثل الأموال والأملاك واختلفوا فيما يحرمه الظهار فقال الحسن للمظاهر أن يجامع فيما دون الفرج وقال عطاء يجوز أن يقبل أو يباشر لأنه قال من قبل أن يتماسا وقال الزهري وقتادة

 

من قبل أن يتماسا الوقاع نفسه وقال أصحابنا لا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها لشهوة حتى يكفر وقال مالك مثل ذلك وقال لا ينظر إلى شعرها ولا صدرها حتى يكفر لأن ذلك لا يدعوه إلى خير وقال الثوري يأتيها فيما دون الفرج وإنما نهي عن الجماع وقال الأوزاعي يحل له فوق الإزار كالحائض وقال الشافعي يمنع القبلة والتلذذ احتياطا قال أبو بكر لما قال تعالى من قبل أن يتماسا كان ذلك عموما في حظر جميع ضروب المسيس من لمس بيد أو غيرها وأيضا لما قال والذين يظاهرون من نسائهم فألزمه حكم التحريم لتشبيهه بظهرها وجب أن يكون ذلك التحريم عاما في المباشرة والجماع كما أن مباشرة ظهر الأم ومسه محرم عليه وأيضا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم -

فأخبره قال فاعتزلها حتى تكفر ورواه معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن

ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وقال لا تقربها حتى تكفر وذلك يمنع المسيس والقبلة

في

ظهار المرأة من زوجها

قال أصحابنا لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو قول مالك والثوري والليث والشافعي وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن علي بن صالح عن الحسن بن زياد أنها إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أمي أو كظهر أخي كانت مظاهرة من زوجها قال علي فسئلت محمد بن الحسن فقال ليس عليها شيء فأتيت أبا يوسف فذكرت له قوليهما فقال هذان شيخا الفقه أخطأ هو تحريم عليها كفارة يمين كقولها أنت علي حرام وقال الأوزاعي هي يمين تكفرها وقال الحسن بن صالح تعتق رقبة وتكفر بكفارة الظهار فإن لم تفعل وكفرت يمينا رجونا أن يجزيها وروى مغيرة عن إبراهيم قال خطب مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة فقالت هو عليها كظهر أبيها إن تزوجته فلما ولي الإمارة أرسل إليها فأرسلت تسئل والفقهاء يومئذ بالمدينة كثير فأفتوها أن تعتق رقبة وتتزوجه وقال إبراهيم لو كانت عنده يعني عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عتق رقبة ولكنها كانت تملك نفسها حين قالت ما قالت وروي عن الأوزاعي أنها إذا قالت إن تزوجته فهو علي كظهر أبي كانت مظاهرة ولو قالت وهي تحت زوج كان عليها كفارة يمين قال أبو بكر لا يجوز أن

 

تكون عليها كفارة يمين لأن الرجل لا تلزمه بذلك كفارة يمين وهو الأصل فكيف يلزمها ذلك كما أن قول الرجل أنت طالق لا يكون غير طالق كذلك ظهارها لا يلزمها به شيء ولا يصح منها ظهار بهذا القول لأن الظهار يوجب تحريما بالقول وهي لا تملك ذلك كما لا تملك الطلاق إذ كان موضوعا لتحريم يقع بالقول واختلفوا فيمن قال أنت علي كظهر أبي فقال أصحابنا والأوزاعي والشافعي ليس بشيء وقال مالك هو مظاهر قال أبو بكر إنما حكم الله تعالى بالظهار فيمن شبهها بظهر الأم ومن جرى مجراها من ذوات المحارم التي لا يجوز له أن يستبيح النظر إلى ظهرها بحال وهو يجوز له النظر إلى ظهر أبيه والأب والأجنبي في ذلك سواء ولو قال أنت علي كظهر الأجنبي لم يكن شيئا فكذلك ظهر الأب واختلفوا فيمن ظاهر مرارا فقال أصحابنا والشافعي عليه لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار فتكون عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة وإن ظاهر ثم كفر ثم ظاهر فعليه الكفارة أيضا وقال الأوزاعي عليه كفارة واحدة وإن كان في مقاعد شتى قال أبو بكر الأصل أن الظهار لما كان سببا لتحريم ترفعه الكفارة إن تجب بكل ظهار كفارة إلا أنهم قالوا إذا أراد التكرار في مجلس واحد فعليه كفارة واحدة لاحتمال اللفظ لما أراد من التكرار فإن قيل قوله والذين يظاهرون من نسائهم يقتضي إيجاب كفارة واحدة وإن ظاهر مرارا لأن اللفظ لا يختص بالمرة الواحدة دون المرار الكثير قيل له لما كانت الكفارة في رفع التحريم متعلقة بحرمة اللفظ أشبه اليمين فمتى حلف مرارا لزمته لكل يمين كفارة إذا حنث ولم يكن قوله فكفارته إطعام عشرة مساكين موجبا للاقتصار بالأيمان الكثيرة على كفارة واحدة واختلفوا في المظاهر هل يجبر على التكفير فقال أصحابنا لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر وذكر الطحاوي عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين قال سألت الحسن وابن سيرين عن رجل ظاهر من امرأته فلم يكفر تهاونا قال تستعدي عليه قال وسألت أبا حنيفة فقال تستعدي عليه وقال مالك عليها أن تمنعه نفسها ويحول الإمام بينه وبينها وقول الشافعي يدل على أنه يحكم عليه بالتكفير قال أبو بكر قال أصحابنا يجبر على جماع المرأة فإن أبى ضربته رواه هشام وهذا يدل على أنه يجبر على التكفير ليوفيها حقها من الجماع واختلفوا في الرقبة الكافرة عن الظهار فقال

 

عطاء ومجاهد وإبراهيم وإحدى الروايتين عن الحسن يجزي الكافر وهو قول أصحابنا والثوري والحسن بن صالح وروي عن الحسن أنه لا يجزي في شيء من الكفارات إلا الرقبة المؤمنة وهو قول مالك والشافعي قال أبو بكر ظاهر قوله فتحرير رقبة يقتضي جواز الكافرة وكذلك قوله ص - للمظاهر أعتق رقبة ولم يشترط الإيمان ولا يجوز قياسها على كفارة القتل لامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعض ولأن في إيجاب زيادة في النص وذلك عندنا يوجب النسخ واختلفوا في جواز الصوم مع وجود رقبة للخدمة فقال أصحابنا إذا كانت عنده رقبة للخدمة ولا شيء له غيرها أو كان عنده دراهم ثمن رقبة ليس له غيرها لم يجزه الصوم وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وقال الليث والشافعي من له خادم لا يملك غيره فله أن يصوم قال الله فتحرير رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فأوجب الرقبة بديا على واجدها ونقله إلى الصوم عند عدمها فلما كان هذا واجدا لها لم يجزه غيره فإن قيل هو بمنزلة من معه ماء يخاف على نفسه العطش فيجوز له التيمم قيل له لأنه مأمور في هذه الحال باستبقاء الماء وهو محظور عليه استعماله وليس بمحظور عليه عند الجميع عتق هذه الرقبة فعلمنا أنه واجد واختلفوا في عتق أم الولد والمدبر والمكاتب ونحوهم في الكفارة فقال أصحابنا لا يجوز عتق أم الولد والمدبر والمكاتب إذا كان قد أدى شيئا عن الكتابة ولا المدبر فإن لم يكن أدى شيئا أجزأه وإن اشترى أباه ينوي به عن كفارته جاز وكذلك كل ذي رحم محرم ولو قال كل عبد أشتريه فهو حر ثم اشترى عبدا ينويه عن كفارته لم يجزه وقال زفر لا يجزي المكاتب وإن لم يكن أدى شيئا وقال مالك لا يجزى المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد ولا معتق إلى سنين عن الكفارة ولا الولد والوالد وقال الأوزاعي لا يجزى المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد وقال عثمان البتي يجزي المدبر وأم الولد في كفارة الظهار واليمين وقال الليث يجزي أن يشتري أباه فيعتقه بالكفارة التي عليه وقال الشافعي لا يجزي من إذا اشتراه عتق عليه ويجزي المدبر ولا يجزي المكاتب وإن لم يؤدي شيئا ويجزي المعتق إلى سنين ولا تجزي أم الولد قال أبو بكر أما أم الولد والمدبر فإنهما لا يجزيان من قبل أنهما قد استحقا العتق من غير جهة الكفارة ألا ترى أن ما ثبت لهما من حق العتاق يمنع بيعهما ولا يصح فسخ ذلك عنهما فمتى أعتقهما فإنما عجل عتقا مستحقا وليس كذلك من قال له المولى أنت حر

 

بعد شهر أو سنة لأنه لم يثبت له حق بهذا القول يمنع بيعه ألا ترى أنه يجوز له أن يبيعه وأما المكاتب فإنه وإن لم يجز بيعه فإن الكتابة يلحقها الفسخ وإنما لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع الآبق والعبد المرهون والمستأجر فلا يمنع ذلك جواز عتقه عن الكفار فإذا أعتق المكاتب قبل أن يؤدي شيئا فقد أسقط المال فصار كمن أعتق عبدا غير مكاتب وإن كان قد أدى شيئا لم يجز من قبل أن الأداء لا ينفسخ بعتقه فقد حصل له عن عتقه بدل فلا يجزي عن الكفارة وأما إذا اشترى أباه فإنه يجزي إذا نوى لأن قبوله للشرى بمنزلة قوله أنت حر والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ومعلوم أن معناه يعتقه بشرائه إياه فجعل شراه بمنزلة قوله أنت حر فأجزأ بمنزلة من قال لعبده أنت حر واختلفوا في مقدار الطعام فقال أصحابنا والثوري لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر أو شعير وقال مالك مد بمد هشام وهو مدان إلا ثلثا بمد النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك من الحنطة وأما الشعير فإن كان طعام أهل بلده فهو مثل الحنطة وكذلك التمر وإن لم يكونا طعام أهل البلد أطعمهم من كل واحد منهما وسطا من شبع الشعير والتمر وقال الشافعي لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات حنطة أو شعير أو أرز أو تمر أو أقط وذلك بمد النبي صلى الله عليه وسلم - ولا يعتبر مدا حدث بعده حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن سليمان الأنباري قالا حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال كنت امرأ أصيب من النساء وذكر قصة ظهاره من امرأته وإنه جامع امرأته وسأل النبي صلى الله عليه وسلم - فقال حرر رقبة فقلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين وما لنا طعام قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فإن قيل روى إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار أن خولة بنت مالك بن ثعلبة ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فقال النبي صلى الله عليه وسلم - مريه فليذهب إلى فلان فإن عنده شطر وسق فليأخذه صدقة عليه ثم يتصدق به على ستين مسكينا وروى عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبدالله بن حنظلة عن يوسف بن عبدالله بن

 

سلام عن خولة أن زوجها ظاهر منها فذكرت للنبي ص - فأمره أن يتصدق بخمسة عشر صاعا على ستين مسكينا قيل له قد روينا حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وأنه أمره بأن يطعم وسقا من تمر ستين مسكينا وهذا أولى لأنه زائد على خبرك وأيضا فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - أعانه بهذا القدر ولا دلالة فيه على أن ذلك جميع الكفارة وقد بين ذلك في حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن يزيد بن زيدان زوج خولة ظاهر منها وذكر الحديث فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعا وهذا يدل على أنه أعانه ببعض الكفارة وقد روي ذلك أيضا في حديث يوسف بن عبدالله بن سلام رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبدالله عن يوسف بن عبدالله بن سلام قال حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعان زوجها حين ظاهر منها بعذق من تمر وأعانته هي بعذق آخر وذلك ستون صاعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - تصدق به واختلفوا في المظاهر هل يجامع قبل أن يطعم فقال أصحابنا ومالك والشافعي لا يجامع حتى يطعم إذا كان فرضه الطعام روى زيد بن أبي الزرقاء عن الثوري أنه إذا أراد أن يطأها قبل أن يطعم لم يكن آثما وروى المعافى والأشجعي عن الثوري أنه لا يقربها حتى يطعم قال النبي صلى الله عليه وسلم - للمظاهر بعد ما ذكر عجزه عن الصيام ثم لا يقربها حتى يكفر وأيضا لما اتفق الجميع على أن الجماع محظور عليه قبل عتق الرقبة وجب بقاء حظره إذا عجز إذ جائز أن يجد الرقبة قبل الإطعام فيكون الوطء واقعا قبل العتق

باب

كيف يحيى أهل الكتاب

قال الله تعالى وإذ جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله روى سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي فسلم عليهم فردوا عليه قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم - هل تدرون ما قال قالوا سلم يا نبي الله قال قال سام عليكم أي تسامون دينكم وقال نبي الله ص - إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليكم أي عليك ما قلت وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسين قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا لقيم المشركين في الطريق فلا تبدؤهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه قال أبو بكر قد روي في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنهم يريدون بقولهم السام إنكم تسامون دينكم وروي أنهم

 

يريدون به الموت لأن السام اسم من أسماء الموت قال أبو بكر ذكر هشام عن محمد عن أبي حنيفة قال نرى أن نرد على المشرك السلام ولا نرى أن نبدأه وقال محمد وهو قول العامة من فقهائنا وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال صحبنا عبدالله في سفر ومعنا أناس من الدهاقين قال فأخذوا طريقا غير طريقنا فسلم عليهم فقلت لعبدالله أليس هذا تكره قال إنه حق الصحبة قال أبو بكر ظاهره يدل على أن عبدالله بدأهم بالسلام لأن الرد لا يكره عند أحد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - إذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم قال أبو بكر وإنما كره الابتداء لأن السلام من تحية أهل الجنة فكره أن يبدأ به الكافر إذ ليس من أهلها ولا يكره الرد على وجه المكافأة قال الله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحسن بن المثنى قال حدثنا عثمان قال حدثنا عبدالواحد قال حدثنا سليمان الأعمش قال قلت لإبراهيم اختلف إلي طبيب نصراني أسلم عليه قال نعم إذا كانت لك إليه حاجة فسلم عليه وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا قال قتادة كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم - فقيل لهم تفسحوا وقال ابن عباس هو مجلس القتال قال قتادة وإذا قيل انشزوا قال إذا دعيتم إلى خير وقيل انشزوا أي ارتفعوا في المجلس ولهذا ذكر أهل العلم لأنهم أحق بالرفعة وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يرفع مجلس أهل العلم على غيرهم ليبين للناس فضلهم ومنزلتهم عنده وكذلك يجب أن يفعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم -

وقال تعالى يرفع

الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فرتب أولي الأحلام والنهى في أعلى المراتب إذ جعلهم في المرتبة التي تلي النبوة وقوله تعالى إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة روى ليث عن مجاهد قال قال علي إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان عندي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - تصدقت بدرهم وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال إن المسلمين أكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - المسائل حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما نزلت إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة كف كثير من المسلمين عن المسئلة فأنزل الله أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات

 

الآية فوسع لهم قال أبو بكر قد دلت الآية على أحكام ثلاثة أحدها تقديم الصدقة أمام مناجاتهم للنبي ص - لمن يجد والثاني الرخصة في المناجاة لمن لا يجد الصدقة بقوله فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم فهذا يدل على أن المسئلة كانت مباحة لمن لم يجد الصدقة والثالث وجوب الصدقة أمام المسئلة بقوله أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن مجاهد في قوله إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة الآية قال علي رضي الله عنه ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وما كانت إلا ساعة وقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله قال أبو بكر المحادة أن يكون كل واحد منهما في حد وحيز غير حد صاحبه وحيزه فظاهره يقتضي أن يكون المراد أهل الحرب لأنهم في حد غير حدنا فهو يدل على كراهة مناكحة أهل الحرب وإن كانوا من أهل الكتاب لأن المناكحة توجب المودة قال الله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة آخر سورة المجادلة

ومن

سورة الحشر

بسم ا لله الرحمن الرحيم

قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر قال مجاهد وقتادة أول الحشر جلاء بني النضير من اليهود فمنهم من خرج إلى خيبر ومنهم من خرج إلى الشام وقال الزهري قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام وعلىأن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة والحلقة السلاح قال أبو بكر قد انتظم ذلك معنيين أحدهما مصالحة أهل الحرب على الجلاء عن ديارهم من غير سبي ولا استرقاق ولا دخول في الذمة ولا أخذ جزية وهذا الحكم منسوخ عندنا إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم على الإسلام أو أداء الجزية وذلك لأن الله قد أمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية قال الله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فغير جائز إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم وإدخالهم في الذمة أو الإسلام أن يجلوهم ولكنه لو عجز

 

المسلمون عن مقاومتهم في إدخالهم في الإسلام أو الذمة جاز لهم مصالحتهم على الجلاء عن بلادهم والمعنى الثاني جواز مصالحة أهل الحرب على مجهول من المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم - صالحهم على أراضيهم وعلى الحلقة وترك لهم ما أقلت الإبل وذلك مجهول وقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار فيه أمر بالاعتبار والقياس في أحكام الحوادث ضرب من الاعتبار فوجب استعماله بظاهر الآية وقوله تعالى ما قطعتم من لينة قال ابن عباس وقتادة كل نخلة لينة سوى العجوة وقال مجاهد وعمرو بن ميمون كل نخلة لينة وقيل اللينة كرام النخل وروى ابن جريج عن مجاهد ما قطعتم من لينة النخلة نهي بعض المهاجرين عن قطع النخل وقال إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى وبتحليل من قطعها من الإثم قال أبو بكر صوب الله الذين قطعوا والذين أبوا وكانوا فعلوا ذلك من طريق الاجتهاد وهذا يدل على أن كل مجتهد مصيب وقد روي عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن أغر على ابني صباحا وحرق وروى قتادة عن أنس قال لما قاتل أبو بكر أهل الردة قتل وسبي وحرق وروى عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال لما تحصن بنو النضير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - بقطع نخلهم وتحريقه فقالوا يا أبا القاسم ما كنت ترضى بالفساد فأنزل الله ما قطعتم من لينة الآية وروى عثمان بن عطاء عن أبيه قال لما وجه أبو بكر الجيش إلى الشام كان فيما أوصاهم به ولا تقطع شجرة مثمرة قال أبو بكر تأوله محمد بن الحسن على أنهم قد علموا أن الله سيغنمهم إياها وتصير للمسلمين بوعد النبي صلى الله عليه وسلم - لهم بفتح الشام فأراد عليهم أن تبقى للمسلمين وأما جيش المسلمين إذا غزوا أرض الحرب وأرادوا الخروج فإن الأولى أن يحرقوا شجرهم وزروعهم وديارهم وكذلك قال أصحابنا في مواشيهم إذا لم يمكنهم إخراجها ذبحت ثم أحرقت وأما ما رجوا أن يصير فيأ للمسلمين فإنهم إن تركوه ليصير للمسلمين جاز وإن أحرقوه غيظا للمشركين جاز استدلالا بالآية وبما فعله النبي صلى الله عليه وسلم - في أموال بني النضير وقوله تعالى وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل الآية الفيء الرجوع ومنه الفيء في الإيلاء في قوله فإن فاؤا وأفاءه عليه إذا رده عليه والفيء في مثل هذا الموضع ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك فالغنيمة فيء والجزية فيء والخراج فيء لأن جميع ذلك مما ملكه الله المسلمين من أموال أهل الشرك والغنيمة وإن كانت فيأ فإنها تختص بمعنى لا يشاركها فيه

 

سائر وجوه الفيء لأنها ما أخذ من أموال أهل الحرب عنوة بالقتال فمنها ما يجري فيه سهام الغانمين بعد إخراج الخمس لله عز و جل وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال كانت أموال بني النضير فيأ مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم - خاصة وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله قال أبو بكر فهذا من الفيء الذي جعل الأمر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لأحد فيه حق إلا من جعله له النبي صلى الله عليه وسلم -

فكان النبي ص

- ينفق منها على أهله ويجعل الباقي في الكراع والسلاح وذلك لما بينه الله في كتابه وهو أن المسلمين لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ولم يأخذوه عنوة وإنما أخذوه صلحا وكذلك كان حكم فدك وقرى عرينة فيما ذكره الزهري وقد كان للنبي ص -

من الغنيمة الصفي وهو ما كان يصطفيه من جملة الغنيمة قيل أن يقسم المال

وكان له أيضا سهم من الخمس فكان للنبي ص - من الفيء هذه الحقوق يصرفها في نفقة عياله والباقي في نوائب المسلمين ولم يكن لأحد فيها حق إلا من يختار هو ص - أن يعطيه وفي هذه الآية دلالة على أن كل مال من أموال أهل الشرك لم يغلب عليه المسلمون عنوة وإنما أخذ صلحا أنه لا يوضع في بيت مال المسلمين ويصرف على الوجوه التي يصرف فيها الخراج والجزية لأنه بمنزلة ما صار للنبي ص - من أموال بني النضير حين لم يوجف المسلمون عليه وقوله تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول الآية قال أبو بكر بين الله حكم مالم يوجف عليه المسلمون من الفيء فجعله للنبي ص - على ما قدمنا من بيانه ثم ذكر حكم الفيء الذي أوجف المسلمون عليه فجعله لهؤلاء الأصناف وهم الأصناف الخمس المذكورون في غيرها وظاهره يقتضي أن لا يكون للغانمين شيء منه إلا من كان منهم من هذه الأصناف وقال قتادة كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف ثم نسخ بقوله واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه قال أبو بكر لما فتح عمر رضي الله عنه العراق سأله قوم من الصحابة قسمته بين الغانمين منهم الزبير وبلال وغيرهما فقال إن قسمتها بينهم بقي آخر الناس لا شيء لهم واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله والذين جاؤا من بعدهم وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها عليها ويضع عليها الخراج ففعل ذلك ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية وهذا

 

يدل على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها مضمومة إلى آية الغنيمة في الأرضين المفتتحة فإن رأى قسمتها أصلح للمسلمين وأرد عليهم قسم وإن رأى إقرار أهلها عليها وأخذ الخراج منهم فيها فعل لأنه لو لم تكن هذه الآية ثابتة الحكم في جواز أخذ الخراج منها حتى يستوي الآخر والأول فيها لذكروه له وأخبروه بنسخها فلما لم يحاجوه بالنسخ دل على ثبوت حكمها عندهم وصحة دلالتها لديهم على ما استدل به عليه فيكون تقدير الآيتين بمجموعهما واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه في الأموال سوى الأرضين وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك وما أفاء الله على رسوله من الأرضين فلله وللرسول إن اختار تركها على ملك أهلها ويكون ذكر الرسول ههنا لتفويض الأمر عليه في صرفه إلى من رأى فاستدل عمر رضي الله عنه من الآية بقوله كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وقوله والذين جاؤوا من بعدهم وقال لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء وقد جعل لهم فيها الحق بقوله والذين جاؤا من بعدهم فلما استقر عنده حكم دلالة الآية وموافقة كل الصحابة على إقرار أهلها عليها ووضع الخراج بعث عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان فمسحا الأرضين ووضعا الخراج على الأوضاع المعلومة ووضعا الجزية على الرقاب وجعلاهم ثلاث طبقات اثني عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين ثم لم يتعقب فعله هذا أحد ممن جاء بعده من الأئمة بالفسخ فصار ذلك اتفاقا واختلف أهل العلم في أحكام الأرضين المفتتحة عنوة فقال أصحابنا والثوري إذا افتتحها الإمام عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمها وأهلها وأموالهم بين الغانمين بعد إخراج الخمس وإن شاء أقر أهلها عليها وجعل عليها وعليهم الخراج ويكون ملكا لهم ويجوز بيعهم وشراؤهم لها وقال مالك ما باع أهل الصلح من أرضهم فهو جائز وما افتتتح عنوة فإنه لا يشترى منهم أحد لأن أهل الصلح من أسلم منهم كان أحق بأرضه وماله وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم أحرز له إسلامه نفسه وأرضه للمسلمين لأن بلادهم قد صارت فيأ للمسلمين وقال الشافعي ما كان عنوة فخمسها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعلها وقفا عليهم ومن لم يطب نفسا فهو أحق بماله قال أبو بكر لا تخلوا الأرض المفتتحة عنوة من أن تكون للغانمين لا يجوز للإمام صرفها عنهم بحال إلا بطيبة من أنفسهم أو أن

 

يكون الإمام مخيرا بين إقرار أهلها على أملاكهم فيها ووضع الخراج عليها وعلى رقاب أهلها على ما فعله عمر رضي الله عنه في أرض السواد فلما اتفق الجميع من الصحابة على تصويب عمر فيما فعله في أرض السواد بعد خلاف من بعضهم عليه على إسقاط حق الغانمين عن رقابها دل ذلك على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين ولا رقاب أهلها إلا بأن يختار الإمام ذلك لهم لأن ذلك لو كان ملكا لهم لما عدل عنهم بها إلى غيرهم ولنازعوه في احتجاجه بالآية في قوله كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وقوله والذين جاؤا من بعدهم فلما سلم له الجميع رأيه عند احتجاجه بالآية دل على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين إلا باختيار الإمام ذلك لهم وأيضا لا يختلفون أن للإمام أن يقتل الأسرى من المشركين ولا يستبقيهم ولو كان ملك الغانمين قد ثبت فيهم لما كان له إتلافه عليهم كما لا يتلف عليهم سائر أموالهم فلما كان له أن يقتل الأسرى وله أن يستبقيهم فيقسمهم بينهم ثبت أن الملك لا يحصل للغانمين بإحراز الغنيمة في الرقاب والأرضين إلا أن يجعلها الإمام لهم ويدل على ذلك أيضا ما روى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم - خيبر نصفين نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما فلو كان الجميع ملكا للغانمين لما جعل نصفه لنوائبه وحاجته وقد فتحها عنوة ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة ومن على أهلها فأقرهم على أملاكهم فقد حصل بدلالة الآية وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين أو تركها ملكا لأهلها ووضع الخراج عليها ويدل عليه حديث سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها ودينارها ومنعت مصر أردبها ودينارها وعدتم كما بدأتم شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه فأخبر ص - عن منع الناس لهذه الحقوق الواجبة لله تعالى في الأرضين وإنهم يعودون إلى حال أهل الجاهلية في منعها وذلك يدل على صحة قول عمر رضي الله عنه في السواد وإن ما وضعه هو من حقوق الله تعالى التي يجب أداؤها فإن قيل ليس فيما ذكرت من فعل عمر في السواد إجماع لأن حبيب بن أبي ثابت وغيره قد رووا عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال دخلنا على علي رضي الله عنه بالرحبة فقال لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم قيل له الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه أشار على عمر

 

رضي الله عنه بترك قسمة السواد وإقرار أهله عليه ومع ذلك فإنه لا يجوز أن يصح عن علي ما ذكرت لأنه لا يخلوا من خاطبهم علي بذلك من أن يكونوا هم الذين فتحوا السواد فاستحقوا ملكه وقسمته بينهم من غير خيار للإمام فيه أو أن يكون المخاطبون به غير الذين فتحوه أو خاطب به الجيش وهم أخلاط منهم من شهد فتح السواد ومنهم من لم يشهده وغير جائز أن يكون الخطاب لمن لم يشهد فتحه لأن أحدا لا يقول ان الغنيمة تصرف إلى غير الغانمين ويخرج منها الغانمون وأن يكونوا أخلاطا فيهم من شهد الفتح واستحق الغنيمة وفيهم من لم يشهده وهذا مثل الأول لأن من لم يشهد الفتح لا يجوز أن يسهم له وتقسم الغنيمة بينه وبين الذين شهدوه أو أن يكون خاطب به من شهد الفتح دون غيره فإن كان كذلك وكانوا هم المستحقين له دون غيرهم من غير خيار للإمام فيه فغير جائز أن يجعل حقهم لغيرهم لأن بعضهم يضرب وجوه بعض إذ كان أتقى لله من أن يترك حقا يجب عليه القيام به إلى غيره لما وصفت وعلى أنه لم يخصص بهذا الخطاب الذين فتحوه دون غيرهم وفي ذلك دليل على فساد هذه الرواية وقد اختلف الناس بعد ثبوت هذا الأصل الذي ذكرنا وصحة الرواية عن عمر في كافة الصحابة عل ترك قسمة السواد وإقرار أهله عليه فقال قائلون أقرهم على أملاكهم وترك أموالهم في أيديهم ولم يسترقهم وهو الذي ذكرناه من مذهب أصحابنا وقال آخرون إنما أقرهم على أرضهم على أنهم وأرضهم فيء للمسلمين وأنهم غير ملاك لها وقال آخرون أقرهم على أنهم أحرار والأرضون موقوفة على مصالح المسلمين قال أبو بكر ولم يختلفوا أن من أسلم من أهل السواد كان حرا وأنه ليس لأحد أن يسترقه وقد روي عن علي رضي الله عنه أن دهقانا أسلم على عهده فقال له إن أقمت في أرضك رفعنا الجزية عن رأسك وأخذناها من أرضك وإن تحولت عنها فنحن أحق بها وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه في دهقانة نهر الملك حين أسلمت فلو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بالإسلام فإن قيل فقد قالا إن تحولت عنها فنحن أحق بها قيل له إنما أراد بذلك أنك إن عجزت عن عمارتها عمرناها نحن وزرعناها لئلا تبطل الحقوق التي قد وجبت للمسلمين في رقابها وهو الخراج وكذلك يفعل الإمام عندنا بأراضي العاجزين عن عمارتها ولما ثبت بما وصفنا أن من أسلم من أهل السواد فهو حر ثبت أن أراضيهم على إملاكهم كما كانت رقابهم مبقاة على أصل الحرية ومن حيث جاز للإمام عند مخالفينا أن يقطع حق

 

الغانمين عن رقابها ويجعلها موقوفة على المسلمين بصرف خراجها إليهم جاز إقرارها على أملاك أهلها ويصرف خراجها إلى المسلمين إذ لا حق للمسلمين في نفي ملك ملاكها عنها بعد أن لا يحصل للمسلمين ملكها وإنما حقهم في الحالين في خراجها لا في رقابها بأن يتملكوها وذكر يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح قال سمعنا أن الغنيمة ما غلب عليه المسلمون حتى يأخذوه عنوة بالقتال وأن الفيء ما صولحوا عليه قال الحسن فأما سوادنا هذا فإنا سمعنا أنه كان في أيدي النبط فظهر عليهم أهل فارس فكانوا يؤدون إليهم الخراج فلما ظهر المسلمون على أهل فارس تركوا السواد ومن لم يقاتلهم من الدهاقين على حالهم ووضعوا الجزية على رؤوس الرجال ومسحوا ما كان في أيديهم من الأرضين ووضعوا عليهم الخراج وقبضوا على كل أرض ليست في يد أحد فكانت صوافي للإمام قال أبو بكر كأنه ذهب إلى أن النبط لما كانوا أحرارا في مملكة أهل فارس فكانت أملاكهم ثابتة في أراضيهم ثم ظهر المسلمون على أهل فارس وهم الذين قاتلوا المسلمين ولم يقاتلهم النبط كانت أراضيهم ورقابهم على ما كانت عليه في أيام الفرس لأنهم لم يقاتلوا المسلمين فكانت أرضوهم ورقابهم في معنى ما صولح عليه وأنهم إنما كانوا يملكون أراضيهم ورقابهم لو قاتلوهم وهذا وجه كان يحتمله الحال لولا أن محاجة عمر لأصحابه الذين سألوه قسمة السواد كانت من غير هذا الوجه وإنما احتج بدلالة الكتاب دون ما ذكره الحسن فإن قيل إنما دفع عمر السواد إلى أهله بطيبة من نفوس الغانمين على وجه الإجارة والأجرة تسمى خراجا قال النبي صلى الله عليه وسلم - الخراج بالضمان ومراده أجرة العبد المشترى إذا رد بالعيب قال أبو بكر هذا غلط من وجوه أحدها أن عمر لم يستطب نفوس القوم في وضع الخراج وترك القسمة وإنما شاور الصحابة وحاج من طلب القسمة بما أوضح به قوله ولو كان قد استطاب نفوسهم لنقل كما نقل ما كان بينه وبينهم من المراجعة والمحاجة فإن قيل قد نقل ذلك وذكر ما رواه إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال كنا ربع الناس فأعطانا عمر ربع السواد فأخذناه ثلاث سنين ثم وفد جرير إلى عمر بعد ذلك فقال عمر والله لولا أني قاسم مسؤل لكنتم على ما قسم لكم فأرى أن تردوه على المسلمين ففعل فأجازه عمر ثمانين دينارا فأتته امرأة فقالت يا أمير المؤمنين إن قومي صالحوك على أمر ولست أرضى حتى تملأ كفي ذهبا وتحملني على جمل ذلول وتعطيني قطيفة حمراء قال ففعل قال أبو بكر ليس فيه دليل على

 

أنه كان ملكهم رقاب الأرضين وجائز أن يكون أعطاهم ربع الخراج ثم رأى بعد ذلك أن يقتصر بهم على أعطياتهم دون الخراج ليكونوا أسوة لسائر الناس وكيف يكون ذلك باستطابة منه لنفوسهم وقد أخبر عمر أنه رأى رده على المسلمين وأظهر أنه لا يسعه غيره لما كان عنده أنه صلح للمسلمين وأما أمر المرأة فإنه أعطاها من بيت المال لأنه قد كان جائزا له أن يفعله من أخذ ما كان في أيديهم من السواد وأما قوله إن الخراج أجرة ففاسد من وجوه أحدها أنه لا خلاف أن الإجارات لا تجوز إلا على مدة معلومة إذا وقعت على المدة وأيضا فإن أهلها لم يخلوا من أن يكونوا عبيدا أو أحرارا فإن كانوا عبيدا فإن إجارة المولى من عبده لا تجوز وإن كانوا أحرارا فكيف جاز أن تترك رقابهم على أصل الحرية ولا تترك أراضيهم على أملاكهم وأيضا لو كانوا عبيدا لم يجز أخذ الجزية من رقابهم لأنه لا خلاف أن العبيد لا جزية عليهم وأيضا لا خلاف أن إجارة النخل والشجر غير جائزة وقد أخذ عمر الخراج من النخل والشجر فدل على أنه ليس بأجرة وقد اختلف الفقهاء في شرى أرض الخراج واستئجارها فقال أصحابنا لا بأس بذلك وهو قول الأوزاعي وقال مالك أكره استئجار أرض الخراج وكره شريك شرى أرض الخراج وقال لا تجعل في عنقك صغارا وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن سليمان بن بكار قال سأل رجل المعافى بن عمران عن الزرع في أرض الخراج فنهاه عن ذلك فقال له قائل فإنك تزرع أنت فيها فقال يا ابن أخي ليس في الشر قدوة وقال الشافعي لا بأس بأن يكتري المسلم ارض خراج كما يكتري دوابهم قال والحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج ولا لمشرك أن يدخل المسجد الحرام إنما هو خراج الجزية قال أبو بكر روي عن عبدالله بن مسعود أنه اشترى أرض خراج وروي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا قال عبدالله وبراذان ما براذان وبالمدينة ما بالمدينة وذلك أنه كانت له ضيعة لبراذان وراذان من أرض الخراج وروي أن الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم اشتروا من أرض السواد فهذا يدل على معنيين أحدهما أنها أملاك لأهلها والثاني أنه غير مكره للمسلم شراها وروي عن علي وعمر رضي الله عنهما فيمن أسلم من أهل الخراج أنه إن أقام على أرضه أخذ منه الخراج وروي عن ابن عباس أنه كره شرى أرض أهل الذمة وقال لا تجعل ما جعل الله في عنق هذا الكافر في عنقك وقال ابن عمر مثل ذلك

 

وقال لا تجعل في عنقك الصغار قال أبو بكر وخراج الأرض ليس بصغار لأنا لا نعلم خلافا بين السلف أن الذمي إذا كانت له أرض خراج فأسلم أنه يؤخذ الخراج من أرضه ويسقط عن رأسه فلو كان صغارا لسقط بالإسلام وقول النبي صلى الله عليه وسلم - منعت العراق قفيزها ودرهمها يدل على أنه واجب على المؤمنين لأنه أخبر عما يمنع المسلمون من حق الله في المستقبل ألا ترى أنه قال وعدتم كما بدأتم والصغار لا يجب على المسلمين وإنما يجب على الكفار للمسلمين وقوله تعالى والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم يعني والله أعلم أن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول وللذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يعني الأنصار وقد كان إسلام المهاجرين قبل إسلام الأنصار ولكنه أراد الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل هجرة المهاجرين وقوله تعالى ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا قال الحسن يعني أنهم لا يحسدون المهاجرين على فضل آتاهم الله تعالى وقيل لا يجدون في أنفسهم ضيقا لما ينفقونه عليهم وقوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة الخصاصة الحاجة فأثنى عليهم بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم وإن كانوا هم محتاجين إليه فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن رجلا قال له معي دينار فقال أنفقه على نفسك فقال معي دينار آخر فقال أنفقه على عيالك فقال معي دينار آخر قال تصدق به وأن رجلا جاء ببيضة من ذهب فقال يا رسول الله تصدق بهذه فإني ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فجاءه من الشق الآخر فأعرض عنه إلى أن أعاد القول فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورماه بها فلو أصابته لعقرته ثم قال يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى وإن رجلا دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم - يخطب والرجل بحال بذاذة فحث النبي صلى الله عليه وسلم -

على الصدقة فطرح قوم ثيابا ودراهم فأعطاه ثوبين ثم حثهم على الصدقة فطرح

الرجل أحد ثوبيه فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم - ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس ثم الصدقة بالفضل قيل له إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ألا ترى أنه قال يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه

 

الصفة بل كانوا كما قال الله تعالى والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك والإمساك ممن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار وقد روى محارب بن دثار عن ابن عمر قال أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - رأس شاة فقال إن فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا به فبعث إليه فلم يزل يبعث به واحدا إلى آخر حتى تداولها تسعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت ومن يوق شح نفسه الآية وروى الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال جاء رجل إلى عبدالله فقال يا أبا عبدالرحمن قد خفت أن تصيبني هذه الآية ومن يوق شح نفسه فوالله ما أقدر على أن أعطي شيئا أطيق منعه فقال عبدالله هذا البخل وبئس الشيء البخل ولكن الشح أن تأخذ مال أخيك بغير حق وروي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى ومن يوق شح نفسه قال إدخال الحرام ومنع الزكاة آخر سورة الحشر

ومن سورة الممتحنة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة روي أنها نزلت في حاطب بن ابي بلتعة حين كتب إلى كفار قريش يتنصح لهم فيه فأطلع الله نبيه على ذلك فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم - فقال أنت كتبت هذا الكتاب قال نعم قال وما حملك على ذلك قال أما والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكني كنت امرأ غريبا في قريش وكان لي بمكة مال وبنون فأردت أن أدفع بذلك عنهم فقال عمر ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم - مهلا يا ابن الخطاب أنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني غافر لكم حدثنا بذلك عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء عن عروة بن الزبير بمعنى ما قدمنا قال أبو بكر ظاهر ما فعله حاطب لا يوجب الردة وذلك لأنه ظن أن ذلك جائز له ليدفع به عن ولده وماله كما يدفع عن نفسه بمثله عند التقية ويستبيح إظهار كلمة الكفر ومثل هذا الظن إذا صدر عنه الكتاب الذي كتبه فإنه لا يوجب الإكفار ولو كان ذلك يوجب الإكفار لاستبابه النبي صلى الله عليه وسلم -

فلما لم يستتبه وصدقه على ما قال علم أنه ما كان مرتدا

 

وإنما قال عمر ائذن لي فأضرب عنقه لأنه ظن أنه فعله عن غير تأويل فإن قيل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه إنما منع عمر من قتله لأنه شهد بدرا وقال ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فجعل العلة المانعة من قتله كونه من أهل بدر وقيل له ليس كما ظننت لأن كونه من أهل بدر لا يمنع أن يكون كافرا مستحقا للنار إذا كفر وإنما معناه ما يدريك لعل الله قد علم أن أهل بدر وإن أذنبوا لا يموتون إلا على التوبة ومن علم الله منه وجود التوبة إذا أمهله فغير جائز أن يأمر بقتله أو يفعل ما يقتطعه به عن التوبة فيجوز أن يكون مراده أن أهل بدر وإن أذنبوا فإن مصيرهم إلى التوبة والإنابة وفي هذه الآية دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه لأن الله نهى المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله وكذلك قال أصحابنا إنه لو قال لرجل لأقتلن ولدك أو لتكفرن إنه لا يسعه إظهار الكفر ومن الناس من يقول فيمن له على رجل مال فقال لا أقر لك حتى تحط عني بعضه فحط عنه بعضه أنه لا يصح الحط عنه وجعل خوفه على ذهاب ماله بمنزلة الإكراه على الحط وهو فيما أظن مذهب ابن أبي ليلى وما ذكرناه يدل على صحة قولنا ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح التقية أن الله فرض الهجرة على المؤمنين ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم فقال قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم الآية وقال قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وقوله تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه الآية وقوله والذين معه قيل فيه الأنبياء وقيل الذين آمنوا معه فأمر الله الناس بالتأسي بهم في إظهار معاداة الكفار وقطع الموالاة بيننا وبينهم بقوله إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا فهذا حكم قد تعبد المؤمنون به وقوله إلا قول إبراهيم لأبيه يعني في أن لا يتأسوا به في الدعاء للأب الكافر وإنما فعل إبراهيم ذلك لأنه أظهر له الإيمان ووعده إظهاره فأخبر الله تعالى أنه منافق فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه فأمر الله تعالى بالتأسي بإبراهيم في كل أموره إلا في الاستغفار للأب الكافر وقوله تعالى ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا قال قتادة يعني بإظهارهم علينا فيروا أنهم على حق

 

وقال ابن عباس لا تسلطهم علينا فيفتنوننا

باب

صلة الرحم المشرك

قال الله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين الآية روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم - عن أم لها مشركة جاءتني أأصلها قال نعم صليها قال أبو بكر وقوله أن تبروهم وتقسطوا إليهم عموم في جواز دفع الصدقات إلى أهل الذمة إذ ليس هم من أهل قتالنا فيه النهي عن الصدقة على أهل الحرب لقوله إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وقد روي فيه غير ذلك حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم قال نسخها قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات الآية روى الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال كان مما شرط سهيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته علينا فرد أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن يرجعها فأنزل الله فيهن إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات الآية قال عروة

فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن بهذه الآية يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك قالت فمن أقر بهذه الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد بايعتك كلاما يكلمها به والله ما مست يده يد امرأة من أهل المبايعة وروى عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن عمر بن الخطاب قال لقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم - أهل مكة يوم الحديبية وجعل لهم أن من لحق بالكفار من المسلمين لم يردوه ومن لحق بالمسلمين من الكفار يردونه وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كان في الصلح يوم الحديبية أن من أسلم من أهل مكة فهو رد إليهم ونزلت سورة الممتحنة بعد الصلح فكان من أسلم من نسائهم تسأل ما أخرجك فإن كانت خرجت هربا من زوجها ورغبة عنه ردت وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت وردت على زوجها ما أنفق قال أبو بكر لا يخلو

 

الصلح من أن يكون كان خاصا في الرجال دون النساء على الوجه الذي ذكر من رد من جاء منهم مسلما إليهم أو أن يكون وقع بديا عاما ثم نسخ عن النساء وهذا أظهر الوجهين وذلك جائز عندنا وإن لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم -

أحدا من النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكن من الفعل وإن لم يقع

الفعل وقوله يا أيها الذين آمنوا خطاب للمؤمنين والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم - إذا هاجرن إليه لأنه هو الذي يتولى امتحانهن دون المؤمنين وقد أريد به سائر المؤمنين عند غيبة النبي صلى الله عليه وسلم - عن حضرتهم وقوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات المراد به العلم الظاهر لا حقيقة اليقين لأن ذلك لا سبيل لنا إليه وهو مثل قول أخوة يوسف إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا يعنون العلم الظاهر لأنه لم يكن سرق في الحقيقة ألا ترى إلى قوله وما كنا للغيب حافظين وإنما حكموا عليه بالسرقة من جهة الظاهر لما وجدوا الصواع في رحله وهو مثل شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة قد تعبدنا الله بالحكم بها من طريق الظاهر وحمل شهادتهما على الصحة وكذلك قبول أخبار الآحاد عن النبي صلى الله عليه وسلم - من هذا الطريق وقد ألزمنا الله بهذه الآية قبول قول من أظهر لنا الإيمان والحكم بصحة ما أخبر به عن نفسه فيما بيننا وبينه وهذا أصل في تصديق كل من أخبر عما لا يطلع عليه غيره من حاله مثل المرأة إذا أخبرت عن حيضها وطهرها وحبلها ومثل الرجل يقول لامرأته أنت طالق إذا حضت أو قال إذا طهرت فيكون قولها مقبولا فيه وقال عطاء بن أبي رباح وتلا هذه الاية إذا جاءكم المؤمنات فقال عطاء ما علمنا إيمانهن إلا بما ظهر من قولهن وقال قتادة امتحانهن ما خرجن إلا للدين والرغبة في الإسلام وحب الله تعالى ورسوله

باب

وقوع الفرقة باختلاف الدارين

قال الله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن الآية قال أبو بكر في هذه الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين واختلاف الدارين أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب والآخر من أهل دار الإسلام وذلك لأن المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب فقد اختلفت بهما الداران وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله فلا ترجعوهن إلى الكفار

 

ولو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد ويدل عليه أيضا قوله لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وقوله وآتوهم ما أنفقوا يدل عليه أيضا لأنه أمر برد مهرها على الزوج ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله ويدل عليه قوله ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولو كان النكاح الأول باقيا لما جاز لها أن تتزوج ويدل عليه قوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر والعصمة المنع فنهانا أن نمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي واختلف أهل العلم في الحربية تخرج إلينا مسلمة فقال أبو حنيفة في الحربية تخرج إلينا مسلمة ولها زوج كافر في دار الحرب قد وقعت الفرقة فيما بينهم ولا عدة عليها وقال أبو يوسف ومحمد عليها العدة وإن أسلم الزوج لم تحل له إلا بنكاح مستقبل وهو قول الثوري وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فقد وقعت الفرقة ولا فرق عند الشافعي بين دار الحرب وبين دار الإسلام لا حكم للدار عنده قال أبو بكر روى قتادة عن سعيد بن المسيب عن علي قال إذا أسلمت اليهودية والنصرانية قبل زوجها فهو أحق بها ما داموا في دار الهجرة وروى الشيباني عن السفاح بن مطر عن داود بن كردوس قال كان رجل من بني تغلب نصراني عنده امرأة من بني تميم نصرانية فأسلمت المرأة وأبى الزوج أن يسلم ففرق عمر بينهما وروى ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد في النصراني تسلم امرأته قالوا إن أسلم معها فهي امرأته وإن لم يسلم فرق بينهما وروى قتادة عن مجاهد قال إذا أسلم وهي في عدتها فهي امرأته وإن لم يسلم فرق بينهما وروى حجاج عن عطاء مثله وعن الحسن وابن المسيب مثله وقال إبراهيم إن أبى أن يسلم فرق بينهما وروى عباد بن العوام عن خالد بن عكرمة عن ابن عباس قال إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها فهي أملك لنفسها قال أبو بكر حصل اختلاف السلف في ذلك على ثلاثة أنحاء فقال علي رضي الله عنه هو أحق بها ما داموا في دار الهجرة وهذا معناه عندنا إذا كانا في دار واحدة ومتى اختلفت بهما الدار فصار أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام بانت وقال عمر رضي الله عنه إذا أسلمت وأبى الزوج الإسلام فرق بينهما وهذا أيضا على أنهما في دار الإسلام وقال آخرون ممن ذكرنا قوله هي امرأته ما دامت في العدة فإذا انقضت العدة وقعت الفرقة وقال ابن عباس تقع الفرقة بإسلامها واتفق فقهاء الأمصار على أنها لا تبين

 

منه بإسلامها إذا كانا في دار واحدة واختلفوا في وقت وقوع الفرقة إذا اسلمت ولم يسلم الزوج فقال أصحابنا إن كانا ذميين لم تقع الفرقة حتى يعرض الإسلام عليه فإن أسلم وإلا فرق بينهما وهو معنى ما روي عن علي وعمر وقالوا إن كانا حربيين في دار الحرب فأسلمت فهي امرأته ما لم تحض ثلاث حيض فإذا حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم فرق بينهما ويجوز أن يكون من روي عنه من السلف اعتبار الحيض إنما أرادوا به الحربيين في دار الحرب وقال أصحابنا إذا أسلم أحد الحربيين وخرج إلينا ايهما كان وبقي الآخر في دار الحرب فقد وقعت الفرقة باختلاف الدارين وقد ذكرنا وجوه دلائل الآية على صحة هذا القول ومن الدليل على ذلك قوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال أبو سعيد الخدري نزلت في سبايا أوطاس كان لهن أزواج في الشرك وأباحهن لهم بالسبي وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال كل ذات زوج فإتيانها زنا إلا ما سبيت وقال النبي صلى الله عليه وسلم - في السبايا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة واتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الإستبراء وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها فلا يخلو وقوع الفرقة من أن يتعلق بإسلامها أو باختلاف الدارين على الحد الذي بينا أو بحدوث الملك عليها وقد اتفق الجميع على أن إسلامها لا يوجب الفرقة في الحال وثبت أيضا أن حدوث الملك لا يرفع النكاح بدلالة أن الأمة التي لها زوج إذا بيعت لم تقع الفرقة وكذلك إذا مات رجل عن أمة لها زوج لم يكن انتقال الملك إلى الوارث رافعا للنكاح فلم يبق وجه لإيقاع الفرقة إلا اختلاف الدارين فإن قيل اختلاف الدارين لا يوجب الفرقة لأن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان لم يبطل نكاح امرأته وكذلك لو دخل حربي إلينا بأمان لم تقع الفرقة بينه وبين زوجته وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ثم خرج أحدهما إلى دار الإسلام لم تقع الفرقة فعلمنا أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيجاب الفرقة قيل له ليس معنى اختلاف الدارين ما ذهبت إليه وإنما معناه أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام إما بالإسلام أو بالذمة والآخر من أهل دار الحرب فيكون حربيا كافرا فأما إذا كانا مسلمين فهما من أهل دار واحدة وإن كان أحدهما مقيما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام فإن احتج المخالف لنا بما روى يونس عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس

 

قال رد النبي صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد ست سنين وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها بمكة مشركا ثم ردها عليه بالنكاح الأول وهذا يدل على أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيقاع الفرقة فيقال لا يصح الاحتجاج به للمخالف من وجوه أحدها أنه قال ردها بعد ست سنين بالنكاح الأول لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا ترد إليه بالعقد الأول بعد انقضاء ثلاث حيض ومعلوم أنه ليس في العادة أنها لا تحيض ثلاث في ست سنين فسقط احتجاج المخالف به من هذا الوجه ووجه آخر وهو ما روى خالد عن عكرمة عن ابن عباس في اليهودية تسلم قبل زوجها أنها أملك لنفسها فكان من مذهبه أن الفرقة قد وقعت بإسلامها وغير جائز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم - فيما قد رواه عنه والوجه الثالث أن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على ابن العاص بنكاح ثان فهذا يعارض حديث داود بن الحصين وهو مع ذلك أولى لأن حديث ابن عباس إن صح فإنما هو إخبار عن كونها زوجة له بعدما أسلم ولم يعلم حدوث عقد ثان وفي حديث عمرو بن شعيب الإخبار عن حدوث عقد ثان بعد إسلامه فهو أولى لأن الأول إخبار عن ظاهر الحال والثاني إخبار عن معنى حادث قد علمه وهذ مثل ما نقوله في رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم وحديث يزيد بن الأصم أنه تزوجها وهو حلال فقلنا حديث ابن عباس أولى لأنه أخبر عن حال حادثة وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول وحديث زوج بريرة أنه كان حرا حين أعتقت ورواية من روى أنه كان عبدا فكان الأول أولى لإخباره عن حال حادثة علمها وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول ولم يعلم حدوث حال أخرى

فصل وإنما قال أبو حنيفة في المهاجرة إنه لا عدة عليها من الزوج الحربي لقوله تعالى ولا جناح عليكم أن تنكحوهن فاباح نكاحها من غير ذكر عدة وقال في نسق التلاوة ولا تمسكوا بعصم الكوافر والعصمة المنع فحظر الامتناع من نكاحها لأجل زوجها الحربي والكوافر يجوز أن يتناول الرجال وظاهره في هذا الموضع الرجال لأنه في ذكر المهاجرات وأيضا أباح النبي صلى الله عليه وسلم -

وطء المسبية بعد الاستبراء ليس بعدة لأن النبي ص

- قال عدة الأمة حيضتان والمعنى فيها وقوع الفرقة باختلاف الدارين وقوله تعالى واسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا قال معمر عن الزهري يعني رد الصداق واسئلوا أهل

 

الحرب مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم وليسئلوا هم أيضا مهر من صارت إلينا مسلمة منهم وقال الزهري فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله وأما المشركون فأبوا أن يقروا فأنزل الله وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا فأمر المسلمون أن يردوا الصداق إذا ذهبت امرأة من المسلمين ولها زوج مسلم أن يرد إليه المسلمون صداق امرأته إن كان في أيديهم مما يردون وأن يردوا إلى المشركين وروى خصيف عن مجاهد في قوله تعالى واسئلوا ما أنفقتم من الغنيمة أن يعوض منها وروى زكريا بن ابي زائدة عن الشعبي قال كانت زينب امرأة عبدالله بن مسعود ممن ذكر الله في القرآن واسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا خرجت إلى المؤمنين وروى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار قال ليس بينكم وبينهم عهد فعاقبتم وأصبتم غنيمة فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا قالوا عوضوا زوجها مثل الذي ذهب منه وروى سعيد عن قتادة مثله وزاد يعطى من جميع الغنيمة ثم يقسمون غنيمتهم وقال ابن إسحاق عن الزهري قال إن فات أحدكم أهله إلى الكفار ولم يأت من الكفار من تأخذون منه مثل ما أخذ منكم فعوضوهم من فيء إن أصبتموه وجائز أن تكون هذه الرواية عن الزهري غير مخالفة لما قدمنا من أنهم يعوضون من صداق إن وجب عليهم رده إلى الكفار وإنه إنما يجب رده من صداق وجب للكفار إذا كان هناك صداق قد وجب رده عليهم وإذا لم يكن صداق رد عليهم من الغنيمة وهذه الأحكام في رد المهر وأخذه من الكفار تعويض الزوج من الغنيمة أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب منسوخ عند جماعة أهل العلم غير ثابت الحكم إلا شيئا روي عن عطاء فإن عبدالرزاق روى عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت لو أن امرأة من أهل الشرك جاءت المسلمين فأسلمت أيعوض زوجها منها شيئا لقوله تعالى في الممتحنة وآتوهم ما أنفقوا قال إنما كان ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم - وبين أهل عهده قلت فجاءت امرأة الآن من أهل عهد قال نعم يعاض فهذا مذهب عطاء في ذلك وهو خلاف الإجماع فإن قيل ليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخ هذه الأحكام فمن أين وجب نسخها قيل له يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وبقول

 

النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله تعالى ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن قال ابن عباس لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وقيل إنه قد دخل فيه قذف أهل الإحصان والكذب على الناس وقذفهم بالباطل وما ليس فيهم وسائر ضروب الكذب وظاهر الآية يقتضي جميع ذلك وقوله تعالى ولا يعصينك في معروف روى معمر عن ثابت عن أنس قال أخذ النبي صلى الله عليه وسلم - على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله إن نساء أسعدننا في الجاهلية فنساعدهن في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا إسعاد في الإسلام ولا شغار في الإسلام ولا جلب في الإسلام ولا جنب في الإسلام ومن انتهب فليس منا وروي عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولا يعصينك في معروف قال النوح وروى هشام عن حفصة عن أم عطية قالت أخذ علينا في البيعة أن لا ننوح وهو قوله تعالى ولا يعصينك في معروف وروى عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال نهيت عن صوتين أحمقين صوت لعب ولهو ومزامير شيطان عند نغمة وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان قال أبو بكر هو عموم في جميع طاعة الله لأنها كلها معروف وترك النوح أحد ما أريد بالآية وقد علم الله أن نبيه لا يأمر إلا بمعروف إلا أنه شرط في النهي عن عصيانه إذا أمرهن بالمعروف لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين إذا لم تكن طاعة الله تعالى إذ كان الله تعالى قد شرط في طاعة أفضل البشر فعل المعروف وهو في معنى قوله ص - لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

من أطاع مخلوقا في معصية الخالق سلط الله عليه ذلك المخلوق وفي لفظ آخر

عاد حامده من الناس ذاما وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم - بالمخاطبة في قوله تعالى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك لأن بيعة من أسلم كان مخصوصا بها النبي صلى الله عليه وسلم -

وعم المؤمنين بذكر الممتحنة في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم

المؤمنات مهاجرات لأنه لم يكن يختص بها النبي صلى الله عليه وسلم - دون غيره ألا ترى إ نا نمتحن المهاجرة الآن والله أعلم بالصواب آخر سورة الممتحنة

ومن

سورة الصف

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن

 

تقولوا مالا تفعلون قال ابو بكر يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة وأوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلا ما لا يفعل وقد ذم الله فاعل ذلك وهذا فيما لم يكن معصية فأما المعصية فإن إيجابها في القول لا يلزمه الوفاء بها وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين وإنما يلزم ذلك فيما عقده على نفسه مما يتقرب به إلى الله عز و جل مثل النذور وفي حقوق الآدميين العقود التي يتعاقدونها وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان فأما قول القائل إني سأفعل كذا فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله تعالى وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به ولا جائز له أن يعدوا في ضميره أن لا يفي به لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف الوعد فيه وهو يدل على أن من قال إن فعلت كذا فأنا أحج او أهدي أو أصوم فإن ذلك بمنزلة الإيجاب بالنذر لأن ترك فعله يؤديه إلى أن يكون قائلا ما لم يفعل وروي عن ابن عباس ومجاهد أنها نزلت في قوم قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه وقال قتادة نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا وقال الحسن نزلت في المنافقين وسماهم بالإيمان لإظهارهم له وقوله تعالى ليظهره على الدين كله من دلائل النبوة لأنه أخبر بذلك والمسلمون في ضعف وقلة وحال خوف مستذلون مقهورون فكان مخبره على ما أخبر به لأن الأديان التي كانت في ذلك الزمان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة وعباد الأصنام من السند وغيرهم فلم تبق من أهل هذه الأديان أمة إلا وقد ظهر عليهم المسلمون فقهروهم وغلبوهم على جميع بلادهم أو بعضها وشردوهم إلى أقاصي بلادهم فهذا هو مصداق هذه الآية التي وعد الله تعالى رسوله فيها إظهاره على جميع الأديان وقد علمنا أن الغيب لا يعلمه إلا الله عز و جل ولا يوحي به إلا إلى رسله فهذه دلالة واضحة على صحة نبوة محمد ص - فإن قيل كيف يكون ذلك إظهارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم -

على جميع الأديان وإنما حدث بعد موته قيل له إنما وعد الله رسوله ص

- أن يظهر دينه على سائر الأديان لأنه قال هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله يعني دين

 

الحق وعلى أنه لو أراد رسوله لكان مستقيما لأنه إذا أظهر دينه ومن آمن به على سائر الأديان فجائز أن يقال قد أظهر نبيه ص - كما أن جيشا لو فتحوا بلدا عنوة جاز أن يقال إن الخليفة فتحه وإن لم يشهد القتال إذ كان بأمره وتجهيزه للجيش فعلوا وقوله تعالى هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم إلى قوله وفتح قريب وهذا أيضا من دلائل النبوة لوعده من أمر بالنصر والفتح وقد وجد ذلك لمن آمن منهم والله الموفق آخر سورة الصف

ومن سورة الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم قيل إنما سموا أميين لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون الكتابة وأراد الأكثر الأعم وإن كان فيهم القليل ممن يكتب ويقرأ وقال النبي صلى الله عليه وسلم - الشهر هكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب وقال تعالى رسولا منهم لأنه كان أميا وقال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وقيل إنما سمي من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم لأن الكتابة إنما تكون بالإستفادة والتعلم دون الحال التي يجري عليها المولود وأما وجه الحكمة في جعل النبوة في أمي إنه ليوافق ما تقدمت به البشارة في كتب الأنبياء السالفة ولأنه أبعد من توهم الإستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة فهذان وجهان من الدلالة في كونه أميا على صحة النبوة ومع أن حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم وذلك إلى مساواته لو كان ذلك ممكنا فيه فدل عجزهم عما أتى به على مساواته لهم في هذا الوجه على أنه من قبل الله عز و جل وقوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها الآية وروي أنه أراد اليهود الذين أمروا بتعلم التوراة والعمل بها فتعلموها ثم لم يعملوا بها فشبههم الله بالحمار الذي يحمل الكتب وهي الأسفار إذ لم ينتفعوا بما حملوه كما لا ينتفع الحمار بالكتب التي حملها وهو نحو قوله إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وقوله واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها إلى قوله كمثل الكلب وقوله تعالى قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس إلى قوله والله عليم بالظالمين روي أن اليهود زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس فأنزل الله هذه الآية

 

وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم - أنهم إن تمنوه ماتوا فقامت الحجة عليهم بها من وجهين أحدهما أنهم لو كانوا صادقين فيما ادعوه من المنزلة عند الله لتمنوا الموت لأن دخول الجنة مع الموت خير من البقاء في الدنيا والثاني إنه أخبر أنهم لا يتمنونه فوجد مخبره على ما أخبر به فهذا واضح من دلائل النبوة وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله الآية قال أبو بكر يفعل في يوم الجمعة جماعة صلوات كما يفعل في سائر الأفعال ولم يبين في الآية أنها هي واتفق المسلمون على أن المراد الصلاة التي إذا فعلها مع الإمام جمعة لم يلزمه فعل الظهر معها وهي ركعتان بعد الزوال على شرائط الجمعة واتفق الجميع أيضا على أن المراد بهذا النداء هو الأذان ولم يبين في الآية كيفيته وبينه الرسول ص -

في حديث عبدالله بن زائد الذي رأى في المنام الأذان ورآه عمر أيضا كما

رآه ابن زيد وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم - أبا محذورة وذكر فيه الترجيع وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى وإذا ناديتم إلى الصلاة وروي عن ابن عمر والحسن في قوله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة قال إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة وروى الزهري عن السائب بن زيد قال ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا مؤذن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر ثم يقيم إذا نزل ثم أبو بكر كذلك ثم عمر كذلك فلما كان عثمان وفشا الناس وكثروا زاد النداء الثالث وقد روي عن جماعة من السلف إنكار الأذان الأول قبل خروج الإمام روى وكيع قال حدثنا هشام بن الغار قال سألت نافعا عن الأذان الأول يوم الجمعة قال قال ابن عمر بدعة وكل بدعة ضلالة وإن رآه الناس حسنا وروى منصور عن الحسن قال النداء يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإمام والذي قبل محدث وروى عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال إنما كان أذان يوم الجمعة فيما مضى واحدا ثم الإقامة وأما الأذان الأول الذي يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه على المنبر فهو باطل أول من أحدثه الحجاج وأما أصحابنا فإنهم إنما ذكروا أذانا واحدا إذا قعد الإمام على المنبر فإذا نزل أقام على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأما وقت الجمعة فإنه بعد الزوال وروى أنس وجابر وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة قال صلى بنا عبدالله بن مسعود وأصحابه الجمعة ضحى ثم قال إنما فعلت ذلك مخافة الحر عليكم

 

وروي عن عمر وعلي أنهما رضي الله عنهما صلياها بعد الزوال ولما قال عبدالله إني قدمت مخافة الحر عليكم علمنا أنه فعلها على غير الوجه المعتاد المتعارف بينهم ومعلوم أن فعل الفروض قبل أوقاتها لا يجوز لحر ولا لبرد إذا لم يوجد أسبابها ويحتمل أن يكون فعلها في أول وقت الظهر الذي هو أقرب أوقات الظهر إلى الضحى فسماه الراوي ضحى لقربه منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -

وهو يتسحر تعال إلى الغداء المبارك فسماه غداء لقربه من الغداء وكما قال

حذيفة تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان نهارا والمعنى قريب من النهار ولما اختلف الفقهاء في الذي يلزم من الفرض بدخول الوقت فقال قائلون فرض الوقت الجمعة والظهر بدل منها وقال آخرون فرض الوقت الظهر والجمعة بدل منه استحال أن يفعل البدل إلا في وقت يصح فيه فعل المبدل عنه وهو الظهر ولما ثبت أن وقتها بعد الزوال ثبت أن وقت النداء لها بعد الزوال كسائر الصلوات وقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله قرأ عمر وابن مسعود وأبي وابن الزبير فامضوا إلى ذكر الله قال عبدالله لو قرأت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي قال أبو بكر يجوز أن يكون أراد التفسير لا نص القراءة كما قال ابن مسعود للأعجمي الذي كان يلقنه إن شجرة الزقوم طعام الأثيم فكان يقول طعام اليتيم فلما أعياه قال له طعام الفاجر وإنما أراد إفهامه المعنى وقال الحسن ليس يريد به العدو وإنما السعي بقلبك ونيتك وقال عطاء السعي الذهاب وقال عكرمة السعي العمل قال أبو عبيدة فاسعوا أجيبوا وليس من العدو قال أبو بكر الأولى أن يكون المراد بالسعي ههنا إخلاص النية والعمل وقد ذكر الله السعي في مواضع من كتابه ولم يكن مراده سرعة المشي منها قوله ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وإذا تولى سعى في الأرض وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإنما أراد العمل وروى العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ولم يفرق بين الجمعة وغيرها واتفق فقهاء الأمصار على أنه يمشي إلى الجمعة على هينته

فصل واتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة بموضع لا يجوز فعلها في غيره لأنهم مجمعون على أن الجمعة لا تجوز في البوادي ومناهل الأعراب فقال أصحابنا هي مخصوصة بالأمصار ولا تصح في السواد وهو قول الثوري وعبيدالله بن الحسن

 

وقال مالك تصح الجمعة في كل قرية فيها بيوت متصلة وأسواق متصلة يقدمون رجلا يخطب ويصلي بهم الجمعة إن لم يكن لهم إمام وقال الأوزاعي لا جمعة إلا في مسجد جماعة مع الإمام وقال الشافعي إذا كانت قرية مجتمعة البناء والمنازل وكان أهلها لا يظعنون عنها إلا ظعن حاجة وهم أربعون رجلا حرا بالغا غير مغلوب على عقله وجبت عليهم الجمعة

قال

أبو بكر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع وروي عن علي مثله وأيضا لو كانت الجمعة جائزة في القرى لورد النقل به متواترا كوروده في فعلها في الأمصار لعموم الحاجة إليه وأيضا لما اتفقوا على امتناع جوازها في البوادي لأنها ليست بمصر وجب مثله في السواد وروي انه قيل للحسن إن الحجاج أقام الجمعة بالأهواز فقال لعن الله الحجاج يترك الجمعة في الأمصار ويقيمها في حلاقيم البلاد فإن قيل روي عن ابن عمر أن الجمعة تجب على من أواه الليل وإن أنس بن مالك كان بألطف فربما جمع وربما لم يجمع وقيل من الطف إلى البصرة أقل من أربع فراسخ وأقل من مسيرة نصف يوم قيل له إنما هذا كلام فيما حكمه حكم المصر فرأى ابن عمر أن ما قرب من المصر فحكمه حكمه وتجب على أهله الجمعة وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يرون الجمعة إلا في الأمصار أو ما حكمه حكم الأمصار والجمعة ركعتان نقلتها الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قولا وعملا وقال عمر صلاة السفر ركعتان وصلاة الفجر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ص - وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة

باب وجوب خطبة الجمعة

قال الله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فاقتضى ذلك وجوب السعي إلى الذكر ودل على أن هناك ذكرا واجبا يجب السعي إليه وقال ابن المسيب فاسعوا إلى ذكر الله موعظة الإمام وقال عمر في الحديث الذي قدمنا إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة فالمهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي دجاجة ثم الذي يليه كالمهدي بيضة ويدل على أن المراد بالذكر ههنا هو الخطبة أن الخطبة هي التي

 

تلي النداء وقد أمر بالسعي إليه فدل على أن المراد الخطبة وقد روي عن جماعة من السلف أنه إذا لم يخطب صلى أربعا منهم الحسن وابن سيرين وطاوس وابن جبير وغيرهم وهو قول فقهاء الأمصار واختلف أهل العلم فيمن لم يدرك الخطبة وأدرك الصلاة أو بعضها فروي عن عطاء بن أبي رباح في الرجل تفوته الخطبة يوم الجمعة إنه يصلي الظهر أربعا وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء وطاوس قالوا من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا وقال ابن عون ذكر لمحمد بن سيرين قول أهل مكة إذا لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا قال ليس هذا بشيء قال أبو بكر ولا خلاف بين فقهاء الأمصار والسلف ما خلا عطاء ومن ذكرنا قوله إن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ولم يخالفهم عطاء وغيره أنه لو شهد الخطبة فذهب يتوضأ ثم جاء فأدرك مع الإمام ركعة أنه يصلي ركعتين فلما لم يمنعه فوات الركعة من فعل الجمعة كانت الخطبة أولى وأحرى بذلك وروى الأوزاعي عن عطاء أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها ثلاثا وهذا يدل على أنه فاتته الخطبة وركعة منها وروي عن عبدالله بن مسعود وابن عمر وأنس والحسن وابن المسيب والنخعي والشعبي إذا أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرةقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى ومن فاتته الركعتان يصلي أربعا واختلف السلف وفقهاء الأمصار فيمن أدرك الإمام في التشهد فروى أبو وائل عن عبدالله بن مسعود قال من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة وروى ابن جريج عن عبدالكريم عن معاذ بن جبل قال إذا دخل في صلاة الجمعة قبل التسليم وهو جالس فقد أدرك الجمعة وروي عن الحسن وإبراهيم والشعبي قالوا من لم يدرك الركوع يوم الجمعة صلى أربعا وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا أدركهم في التشهد صلى ركعتين وقال زفر ومحمد يصلي أربعا وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن محمد بن سماعة عن محمد أنه قال يصلي أربعا يقعد في الثنتين الأوليين قدر التشهد فإن لم يقعد قدر التشهد أمرته أن يصلي الظهر أربعا وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي يصلي أربعا إلا أن مالكا قال إذا قام يكبر تكبيرة أخرى وقال الثوري إذا أدرك الإمام جالسا لم يسلم صلى أربعا ينوي الظهر وأحب إلي أن يستفتح الصلاة وقال عبدالعزيز بن أبي سلمة إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد قعد بغير تكبير فإذا سلم الإمام قام فكبر ودخل في الصلاة نفسه

 

وإن قعد مع الإمام بتكبير سلم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبر للظهر وقال الليث إذا أدرك ركعة مع الإمام يوم الجمعة وعنده أن الإمام قد خطب فإنما يصل إليها ركعة أخرى ثم يسلم فإن أخبره الناس أن الإمام لم يخطب وأنه صلى أربعا صلى ركعتين وسجد سجدتي السهو قال أبو بكر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا وجب على مدرك الإمام في تشهد الجمعة اتباعه فيه والقعود معه ولما كان مدركا لهذا الجزء من الصلاة وجب عليه قضاء الفائت منها بظاهر قوله ص - وما فاتكم فاقضوا والفائت منها هي الجمعة فوجب أن يقضى ركعتين وأيضا لما كان مدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام إذا كان مسافرا وكان بمنزلة مدركه في التحريمة وجب مثله في الجمعة إذ الدخول في كل واحدة من الصلاتين بغير الفرض فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى وفي بعض الأخبار وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا قيل له أصل الحديث من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فقال الزهري وهو راوي الحديث ما أرى الجمعة إلا من الصلاة فذكر الجمعة إنما هو من كلام الزهري والحديث إنما يدور على الزهري مرة يرويه عن سعيد بن المسيب ومرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقد قال حين روى الحديث في صلاة مطلقة أرى الجمعة من الصلاة فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم - نص في الجمعة لما قال ما أرى الجمعة إلا من الصلاة وعلى أن قوله من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك لا دلالة فيه أنه إذا لم يدرك ركعة صلى أربعا كذلك قوله من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى وأما ما روي وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا فإنه لم يثبت أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم -

وجائز أن يكون من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث ولو صح عن النبي ص

- كان معناه وإن أدركهم جلوسا وقد سلم الإمام ولم يختلف الفقهاء أن وجوب الجمعة مخصوص بالأحرار البالغين المقيمين دون النساء والعبيد والمسافرين والعاجزين وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أربعة لا جمعة عليهم العبد والمرأة والمريض والمسافر وأما الأعمى فإن أبا حنيفة قال لا جمعة عليه وجعله بمنزلة المقعد لأنه لا يقدر على الحضور بنفسه إلا بغيره وقال أبو يوسف ومحمد عليه الجمعة وفرقا بينه وبين المقعد لأن الأعمى بمنزلة من لا يهتدي الطريق فإذا هدي سعى بنفسه والمقعد لا يمكنه السعي بنفسه ويحتاج إلى من يحمله وفرق أبو حنيفة بين الأعمى وبين من لا يعرف الطريق لأن الذي لا يعرف وهو بصير إذا أرشد اهتدى بنفسه والأعمى لا يهتدي بنفسه ولا يعرفه

 

بالإرشاد والدلالة ويحتج لأبي يوسف ومحمد بحديث أبي رزين عن أبي هريرة أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال إني ضرير شاسع الدار وليس لي قائد يلازمني أفلي رخصة أن لا آتي

المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا وفي خبر حصين بن عبدالرحمن عن عبدالله بن شداد عن ابن أم مكتوم نحوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أتسمع الإقامة قال نعم قال فأتها واختلفوا في عدد من تصح به الجمعة من المأمومين أبو حنيفة وزفر ومحمد والليث ثلاثة سوى الإمام وروي عن أبي يوسف اثنان سوى الإمام وبه قال الثوري وقال الحسن بن صالح إن لم يحضر الإمام إلا رجل واحد فخطب عليه وصلى به أجزأهما واما مالك فلم يجد فيه شيئا واعتبر الشافعي أربعين رجلا قال أبو بكر روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة فقدم عير فنفر الناس إليه وبقي معه اثنا عشر رجلا فأنزل الله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يترك الجمعة منذ قدم المدينة ولم يذكر رجوع القوم فوجب أن يكون قد صلى باثني عشر رجلا ونقل أهل السير أن أول جمعة كانت بالمدينة صلاها مصعب بن عمير بأمر النبي صلى الله عليه وسلم - باثني عشر رجلا وذلك قبل الهجرة فبطل بذلك اعتبار الأربعين وأيضا الثلاثة جمع صحيح فهي كالأربعين لاتفاقهما في كونهما جمعا صحيحا وما دون الثلاثة مختلف في كونه جمعا صحيحا فوجب الاقتصار على الثلاثة وإسقاط اعتبار ما زاد وقوله تعالى وذروا البيع قال أبو بكر اختلف السلف في وقت النهي عن البيع فروي عن مسروق والضحاك ومسلم بن يسار أن البيع يحرم بزوال الشمس وقال مجاهد والزهري يحرم بالنداء وقد قيل إن اعتبار الوقت في ذلك أولى إذ كان عليهم الحضور عند دخول الوقت فلا يسقط ذلك عنهم تأخير النداء ولما لم يكن للنداء قبل الزوال معنى دل ذلك على أن النداء الذي بعد الزوال إنما هو بعد ما قد وجب إتيان الصلاة واختلفوا في جواز البيع عند نداء الصلاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والشافعي البيع يقع مع النهي وقال مالك البيع باطل قال أبو بكر قال الله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وظاهره يقتضي وقوع الملك للمشتري في سائر الأوقات لوقوعه عن تراض فإن قيل قال الله تعالى وذروا البيع قيل له نستعملها فنقول يقع محظورا عليه عقد البيع في ذلك الوقت لقوله وذروا البيع ويقع الملك بحكم

 

الآية الأخرى والخبر الذي رويناه وأيضا لما لم يتعلق النهي بمعنى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنى في غيره وهو الإشتغال عن الصلاة وجب أن لا يمنع وقوعه وصحته كالبيع في آخر وقت صلاة يخاف فوتها إن اشتغل به وهو منهي عنه ولا يمنع ذلك صحته لأن النهي تعلق باشتغاله عن الصلاة وأيضا هو مثل تلقي الجلب وبيع حاضر لباد والبيع في الأرض المغصوبة ونحوها كونه منهيا عنه لا يمنع وقوعه وقد روى عبدالعزيز الدراوروي عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم من يبيع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا رد الله عليك وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى أن يباع في المسجد وأن يشترى فيه وأن تنشد فيه ضالة أو تنشد فيه الأشعار ونهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وروى عبدالرزاق قال حدثنا محمد بن مسلم عن عبدربه بن عبيدالله عن مكحول عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم وسل سيوفكم وبيعكم وشراكم وإقامة حدودكم وخصومتكم وجمروها يوم جمعكم واجعلوا مطاهركم على أبوابها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن البيع في المسجد ولو باع فيه جاز لأن النهي تعلق بمعنى في غير العقد

باب

السفر يوم الجمعة

قال أصحابنا لا بأس به قبل الزوال وبعده إذا كان يخرج من مصره قبل خروج وقت الظهر حكاه محمد في السير بلا خلاف وقال مالك لا أحب له أن يخرج بعد طلوع الفجر وليس بحرام وبعد الزوال لا ينبغي أن يسافر حتى يصلي الجمعة وكان الأوزاعي والليث والشافعي يكرهون السفر يوم الجمعة حتى يصلي وروى حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وجه ابن رواحة وجعفرا وزيد بن حارثة فتخلف ابن رواحة فقال رسول الله ص

- ما خلفك قال الجمعة يا رسول الله أجمع ثم أروح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها قال فراح منطلقا وروى سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال لا تحبس الجمعة عن سفر ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه وروى يحيى بن سعيد عن نافع أن ابنا لعبدالله بن عمر كان بالعقيق على رأس أميال من المدينة

 

فأتى ابن عمر غداة الجمعة فأخبر بشكواه فانطلق إليه وترك الجمعة وقال عبيدالله بن عمر خرج سالم من مكة يوم الجمعة وروي عن عطاء والقاسم بن محمد أنهما كرها أن يخرج يوم الجمعة في صدر النهار وعن الحسن وابن سيرين قالا لا بأس بالسفر يوم الجمعة مالم تحضر الجمعة وروى إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن النخعي قال إذا أراد الرجل السفر يوم الخميس فليسافر غدوة إلى أن يرتفع النهار فإن أقام إلى العشي فلا يخرج حتى يصلي الجمعة وروي عن عطاء عن عائشة قالت إذا أدركتك ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تجمع فهذا مذهب عائشة وإبراهيم قال الله تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها فأباح السفر في سائر الأوقات ولم يخصصه بوقت دون وقت فإن قيل هذا واضح في ليلة الجمعة ويوم الجمعة قبل الزوال وإباحة السفر فيهما والواجب أن يكون منهيا عنه بعد الزوال لأنه قد صار من أهل الخطاب بحضورها لقوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع قيل له لا خلاف أن الخطاب بذلك لم يتوجه إلى المسافرين وفرض الصلاة عندنا يتعلق بآخر الوقت فإذا خرج وصار مسافرا في آخر الوقت علمنا أنه لم يكن من أهل الخطاب بفعل الجمعة وقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله قال الحسن والضحاك هو إذن ورخصة قال أبو بكر لما ذكر بعد الحظر كان الظاهر أنه إباحة وإطلاق من حظر كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وقيل وابتغوا من فضل الله بعمل الطاعة والدعاء لله وقيل وابتغوا من فضل الله بالتصرف في التجارة ونحوها وهو إباحة أيضا وهو أظهر الوجهين لأنه قد حظر البيع في صدر الآية كما أمر بالسعي إلى الجمعة قال أبو بكر ظاهر قوله وابتغوا من فضل الله إباحة للبيع الذي حظر بديا وقال الله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فكان المعنى يبتغون من فضل الله بالتجارة والتصرف ويدل على أنه إنما أراد ذلك أنه قد عقبه بذكر الله فقال واذكروا الله كثيرا وفي هذه الآية دلالة على إباحة السفر بعد صلاة الجمعة لأنه قال فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها روي عن جابر بن عبدالله والحسن قالا رأوا عير طعام قدمت المدينة وقد أصابتهم مجاعة وقال جابر اللهو المزامير وقال مجاهد الطبل قل ما عند الله من الثواب على سماع الخطبة وحضور الموعظة خير من اللهو ومن التجارة

 

قوله تعالى وتركوك قائما يدل على أن الخطبة قائما روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا سأل علقمة أكان النبي صلى الله عليه وسلم -

يخطب قائما أو قاعدا فقال ألست تقرأ القرآن وتركوك قائما وروى حصين عن

سالم عن جابر قال قدمت عير من الشام يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم - يخطب فانصرف الناس ينظرون وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في اثني عشر رجلا فنزلت الآية وتركوك قائما وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن

جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يخطب فجاءت عير فخرج الناس إليها حتى بقي اثني عشر رجلا فنزلت هذه الآية قال أبو بكر اختلف ابن فضيل وابن إدريس في الحديث الأول عن حصين فذكر ابن فضيل أنه قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم -

وذكر ابن إدريس أنه قال كان النبي ص

- يخطب ويحتمل أن يريد بقوله نصلي أنهم قد حضروا للصلاة منتظرين لها لأن من ينتظر الصلاة فهو في الصلاة وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله تعالى انفضوا إليها وتركوك قائما قال إن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم -

يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها فخرجوا إليها والنبي ص

- قائم كما هو قال الله تعالى وتركوك قائما قال النبي صلى الله عليه وسلم - لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم نارا آخر سورة الجمعة

ومن سورة المنافقين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله إلى قوله اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله قال أبو بكر هذا يدل على أن قوله أشهد يمين لأن القوم قالوا نشهد فجعله الله يمينا بقوله اتخذوا أيمانهم جنة وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي أشهد وأقسم وأعزم وأحلف كلها أيمان وقال زفر إذا قال أقسم لأفعلن فهو يمين ولو قال أشهد لأفعلن لم يكن يمينا وقال مالك إن أراد بقوله أقسم أي أقسم بالله فهو يمين وإلا فلا شيء وكذلك أحلف قال ولو قال أعزم لم يكن يمينا إلا أن يقول أعزم بالله ولو قال علي نذر أو قال نذر لله فهو على ما نوى وإن لم تكن له نية فكفارته كفارة يمين وقال الشافعي أقسم ليس بيمين وأقسم بالله يمين إن أرادها وإن أراد الموعد فليست بيمين وأشهد بالله إن نوى اليمين فيمين وإن لم ينو يمينا فليست

 

بيمين وأعزم بالله إن أراد يمينا فهو يمين وذكر الربيع عن الشافعي إذا قال أقسم أو أشهد أو أعزم ولم يقل بالله فهو كقوله والله وإن قال أحلف بالله فلا شيء عليه إلا أن ينوي اليمين قال أبو بكر لا يختلفون أن أشهد بالله يمين فكذلك أشهد من وجهين أحدهما أن الله حكى عن المنافقين أنهم قالوا نشهد إنك لرسول الله ثم جعل هذا الإطلاق يمينا من غير أن يقرنه باسم الله وقال تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فعبر عن اليمين بالشهادة على الإطلاق والثاني أنه لما أخرج ذلك مخرج القسم وجب أن لا يختلف حكمه في حذف اسم الله تعالى وفي إظهاره وقد ذكر الله تعالى القسم في كتابه فأظهر تارة الاسم وحذفه أخرى والمفهوم باللفظ في الحالين واحد بقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم وقال في موضع آخر إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين فحذفه تارة اكتفاء بعلم المخاطبين بإضماره وأظهره أخرى وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس إن أبا بكر عبر عند النبي صلى الله عليه وسلم -

رؤيا فقال النبي ص

- أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال أبو بكر أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا تقسم وروي أنه قال والله لتخبرني فجعل النبي ص

- قوله أقسمت عليك يمينا فمن الناس من يكره القسم لقوله لا تقسم ومنهم من لا يرى به بأسا وأنه إنما قال لا تقسم لأن عبارة الرؤيا ظن قد يقع فيها الخطأ وهذا يدل أيضا على أنه ليس على من أقسم عليه غيره أن يبر قسمه لأنه ص -

لم يخبره لما أقسم عليه ليخبره ويدل أيضا على أن من علم تأويل رؤيا فليس

عليه الإخبار به لأنه ص - لم يخبر بتأويل هذه الرؤيا وروى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال كان أبو بكر قد استعمل عمر على الشام فلقد رأيتني وأنا أشد الإبل بأقتابها فلما أراد أن يرتحل قال له الناس تدع عمر ينطلق إلى الشام والله إن عمر ليكفيك الشام وهو ههنا قال أقسمت عليك لما أقمت وروي عن ابن عباس أنه قال للعباس فيما خاصم فيه عليا من أشياء تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بإيثاره أقسمت عليك لما سلمته لعلي وقد روى البراء قال أمرنا رسول الله ص

- بإبرار القسم وهذا يدل على إباحة القسم وأنه يمين وهذا على وجه الندب لأنه ص - لم يبر قسم أبي بكر لما قال أقسمت عليك وعن ابن مسعود وابن عباس وعلقمة وإبراهيم وأبي العالية والحسن القسم يمين وقال الحسن وأبو العالية أقسمت وأقسمت بالله سواء

 

باب من فرط في زكاة ماله

قال

الله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت الآية روى عبدالرزاق قال حدثنا سفيان عن أبي حباب عن أبي الضحى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من كان له مال تجب فيه الزكاة ومال يبلغه بيت الله ثم لم يحج ولم يزك سأل الرجعة وتلا قوله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم الاية وقد روي ذلك موقوفا على ابن عباس إلا أن دلالة الآية ظاهرة على حصول التفريط بالموت لأنه لو لم يكن مفرطا ووجب أداؤها من ماله بعد موته فكانت قد تحولت إلى المال فلزم الورثة إخراجها فلما سأل الرجعة علمنا أن الأداء فائت وأنه لا يتحول إلى المال ولا يؤخذ من تركته بعد موته إلا أن يتبرع به الورثة آخر سورة المنافقين

ومن سورة الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن قال أبو بكر يحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوها أحدها اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ماخوطب به النبي صلى الله عليه وسلم - خطاب لهم إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به إلا ما خص به دونهم فخصه بالذكر ثم عدل بالخطاب إلى الجماعة إذ كان خطابه خطابا للجماعة والثاني أن تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء والثالث على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع كقوله تعالى إلى فرعون وملائه وقوله تعالى فطلقوهن لعدتهن قال أبو بكر روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته في الحيض فذكر ذلك عمر للنبي ص - فقال مره فليراجعها وليمسكها حتى تطهر من حيضتها ثم تحيض حيضةأخرى فإذا طهرت فليفارقها قبل أن يجامعها أو يمسكها فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء رواه نافع عن ابن عمر وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يقول قرأ النبي صلى الله عليه وسلم - فطلقوهن في قبل عدتهن قال طاهرا من غير جماع وروى وكيع عن سفيان عن محمد بن عبدالرحمن مولى أبي طلحة عن سالم عن ابن عمر أنه طلق امرأته في الحيض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال مره فليراجعها ثم يطلقها وهي حامل أو غير حامل وفي لفظ آخر فليطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها قال أبو بكر بين النبي صلى الله عليه وسلم -

مراد الله في قوله

 

تعالى فطلقوهن لعدتهن وإن وقت الطلاق المأمور به أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها وبين أيضا أن السنة في الإيقاع من وجه آخر وهو أن يفصل بين التطليقتين بحيضة بقوله يراجعها ثم يدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء فدل ذلك على أن الجمع بين التطليقتين في طهر واحد ليس من السنة وما نعلم أحدا أباح طلاقها في الطهر بعد الجماع إلا شيئا رواه وكيع عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال إذا طلقها وهي طاهر فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها وهذا القول خلاف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وخلاف إجماع الأمة إلا أنه قد روي عنه ما يدل على أنه أراد الحامل وهو ما رواه يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال إذا طلقها حاملا فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها فيشبه أن يكون هذا أصل الحديث وأغفل بعض الرواة ذكر الحامل وقوله تعالى فطلقوهن لعدتهن منتظم للواحدة وللثلاث مفرقة في الأطهار لأن إدخال اللام يقتضي ذلك كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل قد انتظم فعلها مكررا عند الدلوك فدل ذلك على معنيين أحدهما إباحة الثلاث مفرقة في الأطهار وإبطال قول من قال إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة ليس من السنة وهو مذهب مالك والأوزاعي والحسن بن صالح والليث والثاني تفريقها في الأطهار وحظر جمعها في طهر واحد لأن قوله لعدتهن يقتضي ذلك لا فعل الجميع في طهر واحد كقوله تعالى لدلوك الشمس لم يقتض فعل صلاتين في وقت واحد وإنما اقتضى فعل الصلاة مكررة في الأوقات وقول أصحابنا إن طلاق السنة من وجهين أحدهما في الوقت وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها والآخر من جهة العدد وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة والوقت مشروط لمن يطلق في العدة لأن من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض لقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فاباح طلاقها في كل حال من طهر أو حيض وقد بينا بطلان قول من قال إن جمع الثلاث في طهر واحد من السنة ومن منع إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة في سورة البقرة فإن قيل لما جاز طلاق الحامل بعد الجماع كذلك الحائل يجوز طلاقها في الطهر بعد الجماع قيل له لا حظ للنظر مع الأثر واتفاق السلف ومع ذلك فإن الفرق بينهما واضح وهو أنه إذا طهرت

 

من حيضتها ثم جامعها لا ندري لعلها قد حملت من الوطء وعسى أن لا يريد طلاقها إن كانت حاملا فيلحقه الندم وإذا لم يجامعها بعد الطهر فإن وجد الحيض علم براءة الرحم فيطلقها وهو على بصيرة من طلاقها قوله تعالى وأحصوا العدة يعني والله أعلم العدة التي أوجبها الله بقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وبقوله واللائي يئسن من المحيض إلى قوله واللائي يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن لأن جميع ذلك عدد للمطلقات على حسب اختلاف الأحوال المذكورة لهن فيكون إحصاؤها لمعان أحدها لما يريد من رجعة وإمساك أو تسريح وفراق والثاني مراعاة حالها في بقائها على الحال التي طلقت عليها من غير حدوث حال يوجب انتقال عدتها إليها والثالث لكي إذا بانت يشهد على فراقها ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليها ولئلا يخرجها من بيتها قبل انقضائها وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن أبا حنيفة وأصحابه يقولون إن طلاق السنة واحدة وإن من طلاق السنة أيضا إذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها عند كل طهر تطليقة فذكروا أن الأول هو السنة والثاني أيضا سنة فكيف يكون شيء وخلافه سنة ولو جاز ذلك لجاز أن يكون حراما حلالا ولو قال إن الثاني رخصة كان أشبه قال أبو بكر وهذا كلام من لا تعلق له بمعرفة أصول العبادات ولا يجوز وروده منها مما لا يجوز ولا يمنع أحد من أهل العلم جواز ورود العبادات بمثله إذ جائز أن يكون السنة في الطلاق أن يخير بن إيقاع الواحدة في طهر والاقتصار عليها وبين أن يطلق بعدها في الطهر الثاني والثالث وجميع ذلك مندوب إليه ويكون مع ذلك أحد الوجهين أحسن من الآخر كما قال تعالى والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ثم قال وأن يستعففن خير لهن وخير الله الحانث في يمينه بين أحد أشياء ثلاثة وأيها فعل كان فرضه وقوله ولو جاز ذلك لجاز أن يكون حلالا حراما يوجب نفي التخيير في شيء من السنن والفروض كما امتنع أن يكون شيء واحد حراما حلالا وعوار هذا القول وفساده أظهر من أن يحتاج إلى الإطناب في الرد على قائله وروي نحو قولنا بعينه عن ابن مسعود وجماعة من التابعين وقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن فيه نهي للزوج عن إخراجها ونهي لها من الخروج وفيه دليل على وجوب السكنى لها ما دامت في العدة لأن بيوتهن التي نهى الله عن إخراجها منها هي

 

البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق فأمر بتبقيتها في بيتها ونسبها إليها بالسكنى كما قال وقرن في بيوتكن وإنما البيوت كانت للنبي ص - ولهذه الآية قال أصحابنا لا يجوز له أن يسافر بها حتى يشهد على رجعتها ومنعوها من السفر في العدة قال أبو بكر ولا خلاف نعلمه بين أهل العلم في أن على الزوج إسكانها ونفقتها في الطلاق الرجعي وأنه غير جائز له إخراجها من بيتها وقوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة روي عن ابن عمر قال خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة وقال ابن عباس إلا أن تبذوا على أهله فإذا فعلت ذلك حل لهم أن يخرجوها وقال الضحاك الفاحشة المبينة عصيان الزوج وقال الحسن وزيد بن أسلم أن تزني فتخرج للحد وقال قتادة إلا أن تنشز فإذا فعلت حل إخراجها قال أبو بكر هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ وجائز أن يكون جميعها مرادا فيكون خروجها فاحشة وإذا زنت أخرجت للحد وإذا بذت على أهله أخرجت أيضا وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس بالإنتقال حين بذت على أحمائها فأما عصيان الزوج والنشوز فإن كان في البذاء وسوء الخلق اللذين يتعذر المقام معها فيه فجائز أن يكون مرادا وإن كانت إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها وما ذكرنا من التأويل المراد يدل على جواز انتقالها للعذر لأنه تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا قوله تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه يدل على أنه إذا طلق لغير السنة وقع طلاقه وكان ظالما لنفسه بتعديه حدود الله لأنه ذكر ذلك عقيب طلاق العدة فأبان أن من طلق لغير العدة فطلاقه واقع لأنه لو لم يقع طلاقه لم يكن ظالما لنفسه ويدل على أنه أراد وقوع طلاقه مع ظلمه لنفسه قوله تعالى عقيبه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني أن يحدث له ندم فلا ينفعه لأنه قد طلق ثلاثا وهو يدل أيضا على بطلان قول الشافعي في أن إيقاع الثلاث في كلمة واحدة من السنة لأن الله جعله ظالما لنفسه حين طلق ثلاثا وترك اعتبار ما عسى أن يلحقه من الندم بإبانتها وحكم النبي صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر بطلاقه إياها في الحيض وأمره بمراجعتها لأن الطلاق الأول كان خطأ فأمره بالرجعة ليقطع أسباب الخطأ ويبتدئه على السنة وزعم قوم أن الطلاق في حال الحيض لا يقع وقد بينا بطلان هذا القول في سورة البقرة من جهة الكتاب والسنة وسؤال يونس بن جبير لابن عمر عن الطلاق في الحيض وذكره لأمر النبي صلى الله عليه وسلم - إياه بالمراجعة قال قلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجز

 

==================*********************************=====================

 

ج19. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

واستمحق فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرنا أبو الزبير أنه سمع عبدالرحمن بن أيمن مولى عروة يسئل ابن عمر وأبو الزبير يسمع فقال كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا قال طلق عبدالله بن عمر امرأته وحي حائض على عهد رسول الله ص -

فسأل عمر رسول الله ص

- فقال إن عبدالله بن عمر طلق امرأته وهي حائض فقال عبدالله فردها علي ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن فقال المحتج فأخبر أنه ردها عليه ولم يرها شيئا وذلك يدل على أن الطلاق لم يقع فيقال له ليس فيما ذكرت دليل على أنه لم يحكم بالطلاق بل دلالته ظاهرة على وقوعه لأنه قال وردها علي وهو يعني الرجعة وقوله ولم يرها شيئا يعني أنه لم يبنها منه وقد روى حديث ابن عمر عنه عن أنس بن سيرين وابن جبير وزيد بن أسلم ومنصور عن أبي وائل كلهم يقول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم

أمره أن يراجعها حتى تطهر وقوله تعالى فإذا

بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف يعني به مقاربة بلوغ الأجل لا حقيقة لأنه لا رجعة بعد بلوغ الأجل الذي هو انقضاء العدة ولم يذكر الله تعالى طلاق المدخول بها ابتداء إلا مقرونا بذكر الرجعة بقوله لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني أن يبدو له فيراجعها وقوله فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف قال في سورة البقرة فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف

باب

الإشهاد على الرجعة أو الفرقة

قال الله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم فأمر بالإشهاد على الرجعة والفرقة أيتهما اختار الزوج وقد روي عن عمران بن حصين وطاوس وإبراهيم وأبي قلابة أنه إذا رجع ولم يشهد فالرجعة صحيحة ويشهد بعد ذلك قال أبو بكر لما جعل له الإمساك او الفراق ثم عقبه بذكر الإشهاد كان معلوما وقوع الرجعة إذا رجع وجواز الإشهاد بعدها إذ لم يجعل الإشهاد شرطا في الرجعة ولم يختلف الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في الآية إنما هو تركها حتى تنقضي عدتها وأن الفرقة تصح وإن لم يقع الإشهاد عليها ويشهد بعد ذلك وقد ذكر الإشهاد عقيب الفرقة ثم لم يكن شرطا في صحتها كذلك الرجعة وأيضا لما كانت الفرقة حقا

 

له وجازت بغير إشهاد إذ لا يحتاج فيها إلى رضا غيره وكانت الرجعة أيضا حقا له وجب أن تجوز بغير إشهاد وأيضا لما أمر الله بالإشهاد على الإمساك أو الفرقة احتياطا لهما ونفيا للتهمة عنهما إذا علم الطلاق ولم يعلم الرجعة أو لم يعلم الطلاق والفراق فلا يؤمن التجاحد بينهما ولم يكن معنى الاحتياط فيهما مقصورا على الإشهاد في حال الرجعة أو الفرقة بل يكون الاحتياط باقيا وإن أشهد بعدهما وجب أن لا يختلف حكمهما إذا أشهد بعد الرجعة بساعة أو ساعتين ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في صحة وقوع الرجعة بغير شهود إلا شيئا يروى عن عطاء فإن سفيان روى عن ابن جريج عن عطاء قال الطلاق والنكاح والرجعة بالبينة وهذا محمول على أنه مأمور بالإشهاد على ذلك احتياطا من التجاحد لا على أن الرجعة لا تصح بغير شهود ألا ترى أنه ذكر الطلاق معها ولا يشك أحد في وقوع الطلاق بغير بينة وقد روى شعبة عن مطر الوراق عن عطاء والحكم قالا إذا غشيها في العدة فغشيانه رجعة وقوله تعالى وأقيموا الشهادة لله فيه أمر بإقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها لأن الشهادة هنا اسم للجنس وإن كان مذكورا بعد الأمر بإشهاد ذوي عدل على الرجعة لأن ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه فانتظم ذلك معنيين أحدهما الأمر بإقامة الشهادة والآخر أن إقامة الشهادة حق لله تعالى وأفاد بذلك تأكيده والقيام به

باب

عدة الآيسة والصغيرة

قال الله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن قال أبو بكر قد اقتضت الآية إثبات الإياس لمن ذكرت في الآية من النساء بلا ارتياب وقوله تعالى إن ارتبتم غير جائز أن يكون المراد به الارتياب في الإياس لأنه قد أثبت حكم من ثبت إياسها في أول الآية فوجب أن يكون الارتياب غير غير الإياس واختلف أهل العلم في الريبة المذكورة في الآية فروى مطرف عن عمرو بن سالم قال قال أبي بن كعب يا رسول الله إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن فأخبر في هذا الحديث أن سبب نزول الآية كان ارتيابهم في عدد من ذكر من

 

الصغار والكبار وأولات الأحمال وأن ذكر الارتياب في الاية إنما هو على وجه ذكر السبب الذي نزل عليه الحكم فكان بمعنى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واختلف السلف ومن بعدهم من فقهاء الأمصار في التي يرتفع حيضها فروى ابن المسيب عن عمر رضي الله عنه قال أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعت حيضتها فإنه ينتظر بها تسعة أشهر فإن استبان بها حمل فذاك وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر بثلاثة أشهر ثم حلت وعن ابن عباس في التي ارتفع حيضها سنة قال تلك الريبة وروى معمر عن قتادة عن عكرمة في التي تحيض في كل سنة مرة قال هذه ريبة عدتها ثلاثة أشهر وروى سفيان عن عمرو عن طاوس مثله وروي عن علي وعثمان وزيد بن ثابت أن عدتها ثلاث حيض وروى مالك عن يحيى بن سعد عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال وكان عند جده حبان امرأتان هاشمية وأنصارية فطلق الأنصارية وهي ترضع فمرت به سنة ثم هلك ولم تحض فقالت أنا أرثه ولم أحض فاختصما إلى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بذلك يعني علي بن أبي طالب وروى ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب بهذه القصة قال وبقيت تسعة أشهر لا تحيض وذكر القصة فشاور عثمان عليا وزيدا فقالا ترثه لأنها ليست من القواعد اللائي قد يئسن من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يحضن وهي عنده على حيضتها ما كانت من قليل أو كثير وهذا يدل من قولهما أن قوله تعالى إن ارتبتم ليس على ارتياب المرأة ولكنه على ارتياب الشاكين في حكم عددهن وأنها لا تكون آيسة حتى تكون من القواعد اللاتي لا يرجى حيضهن وروي عن ابن مسعود مثل ذلك واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أصحابنا في التي يرتفع حيضها لا بأس منه في المستأنف إن عدتها الحيض حتى تدخل في السن التي لا تحيض أهلها من النساء فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر وهو قول الثوري والليث والشافعي قال مالك تنتظر تسعة أشهر فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض فإن مضت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر وقال ابن القاسم عن مالك إذا حاضت المطلقة ثم ارتابت فإنما تعتد بالتسعة الأشهر من يوم رفعت حيضتها لا من يوم طلقت قال مالك في قوله تعالى إن ارتبتم معناه إن لم تدروا ما تصنعون

 

في أمرها وقال الأوزاعي في رجل طلق امرأته وهي شابة فارتفعت حيضتها فلم تر شيئا ثلاثة أشهر فإنها تعتد سنة قال أبو بكر أوجب الله بهذه الآية عدة الآيسة ثلاثة أشهر واقتضى ظاهر اللفظ أن تكون هذه العدة لمن قد ثبت إياسها من الحيض من غير ارتياب كما كان قوله واللائي لم يحضن لمن ثبت أنها لم تحض وكقوله وأولات الأحمال أجلهن لمن قد ثبت حملها فكذلك قوله واللائي يئسن لمن قد ثبت إياسها وتيقن ذلك منها دون من يشك في إياسها ثم لا يخلو قوله إن ارتبتم من أحد وجوه ثلاثة إما أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة وليست بآيسة أو الارتياب في أنها حامل أو غير حامل أو ارتياب المخاطبين في عدة الآيسة والصغيرة وغير جائز أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة أو غير آيسة لأنه تعالى قد أثبت من جعل الشهور عدتها أنها آيسة والمشكوك فيها لا تكون آيسة لاستحالة مجامعة اليأس للرجاء إذ هما ضدان لا يجوز اجتماعهما حتى تكون آيسة من المحيض مرجوا ذلك منها فبطل أن يكون المعنى الارتياب في اليأس ومن جهة أخرى اتفاق الجميع على أن المسنة التي قد تيقن إياسها من الحيض مرادة بالآية والارتياب المذكور راجع إلى جميع المخاطبين وهو في التي قد تيقن إياسها ارتياب المخاطبين في العدة فوجب أن يكون في المشكوك في إياسها مثله لعموم اللفظ في الجميع وأيضا فإذا كانت عادتها وهي شابة أنها تحيض في كل سنة مرة فهذه غير مرتاب في إياسها بل قد تيقن أنها من ذوات الحيض فكيف يجوز أن تكون عدتها سنة مع العلم بأنها غير آيسة وأنها من ذوات الحيض وتراخي ما بين الحيضتين من المدة لا يخرجها من أن تكون من ذوات الحيض فالموجب عليها عدة الشهور مخالف للكتاب لأن الله تعالى جعل عدة ذوات الإقراء الحيض بقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولم يفرق بين من طالت مدة حيضتها أو قصرت ولا يجوز أيضا أن يكون المراد الارتياب في الإياس من الحمل لأن اليأس من الحيض هو الإياس من الحبل وقد دللنا على بطلان قول من رد الارتياب إلى الحيض فلم يبق إلا الوجه الثالث وهو ارتياب المخاطبين على ما روي عن أبي بن كعب حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم حين شك في عدة الآيسة والصغيرة وأيضا لو كان المراد الارتياب في الإياس لكان توجيه الخطاب إليهن أولى من توجيهه إلى الرجال لأن الحيض إنما يتوصل إلى معرفته من جهتها ولذلك كانت مصدقة فيه فكان يقول إن ارتبتن أو ارتبن

 

فلما خاطب الرجال بذلك دونهن علم أنه أراد ارتياب المخاطبين في العدة وقوله تعالى واللائي لم يحضن يعني واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر لأنه كلام لا يستقل بنفسه فلا بد له من ضمير وضميره ما تقدم ذكره مظهرا وهو العدة بالشهور

باب

عدة الحامل

قال الله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن قال أبو بكر لم يختلف السلف والخلف بعدهم أن عدة المطلقة الحامل أن تضع حملها واختلف السلف في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عباس تعتد الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين وقال عمر وابن مسعود وابن عمر وأبو مسعود البدري وأبو هريرة عدتها الحمل فإذا وضعت حلت للأزواج وهو قول فقهاء الأمصار قال أبو بكر روى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال من شاء لاعنته ما نزلت وأولات الأحمال أجلهن إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها قال أبو بكر قد تضمن قول ابن مسعود هذا معنيين أحدهما إثبات تاريخ نزول الآية وأنها نزلت بعد ذكر الشهور للمتوفى عنها زوجها والثاني أن الآية مكتفية بنفسها في إفادة الحكم على عمومها غير مضمنة بما قبلها من ذكر المطلقة فوجب اعتبار الحمل في الجميع من المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن وأن لا يجعل الحكم مقصورا على المطلقات لأنه تخصيص عموم بلا دلالة ويدل على أن المتوفى عنها زوجها داخلة في الآية مرادة بها اتفاق الجميع على أن مضي شهور المتوفى عنها زوجها لا يوجب انقضاء عدتها دون وضع الحمل فدل على أنها مرادة بها فوجب اعتبار الحمل فيها دون غيره ولو جاز اعتبار الشهور لأنها مذكورة في آية أخرى لجاز اعتبار الحيض مع الحمل في المطلقة لأنها مذكورة في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وفي سقوط اعتبار الحيض مع الحمل دليل على سقوط اعتبار الشهور مع الحمل وقد روى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبي السنابل بن بعكك أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين فتشوفت للنكاح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن تفعل فقد خلا أجلها وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال اختلف ابن عباس وأبو هريرة في ذلك فأرسل ابن عباس كريبا إلى أم سلمة فقالت إن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن

 

سبيعة أنها وضعت بعد موت زوجها بشهرين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجي وجعل أصحابنا عدة امرأة الصغير من الوفاة الحمل إذا مات عنها زوجها وهي حامل لقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ولم يفرق بين امرأة الصغير والكبير ولا بين من يلحقه بالنسب أو لا يلحقه

باب السكنى للمطلقة

قال

الله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم الآية قال أبو بكر اتفق الجميع من فقهاء الأمصار وأهل العراق ومالك والشافعي على وجوب السكنى للمبتوتة وقال ابن أبي ليلى لا سكنى للمبتوتة إنما هي للرجعية قال أبو بكر قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن قد انتظم الرجعية والمبتوتة والدليل على ذلك أن من بقي من طلاقها واحدة فعليه أن يطلقها للعدة إذا أراد طلاقها بالآية وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها ولم يفرق بين التطليقة الأولى وبين الثالثة فإذا كان قوله فطلقوهن لعدتهن قد تضمن البائن ثم قال أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم وجب ذلك للجميع من البائن والرجعي فإن قيل لما قال تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وقال فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف دل ذلك على أنه أراد الرجعي قيل له هذا أحد ما انتظمته الآية ولا دلالة فيه على أن أول الخطاب في الرجعي دون البائن وهو مثل قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهو عموم في البائن والرجعي ثم قوله وبعولتهن أحق بردهن إنما هو حكم خاص في الرجعي ولم يمنع أن يكون قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء عاما في الجميع واحتج ابن أبي ليلى بحديث فاطمة بنت قيس وسنتكلم فيه عند ذكر نفقة المبتوتة إن شاء الله تعالى واختلف فقهاء الأمصار في نفقة المبتوتة فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح لكل مطلقة السكنى والنفقة ما دامت في العدة حاملا كانت أو غير حامل وروي مثله عن عمر وابن مسعود وقال ابن أبي ليلى لا سكنى للمبتوتة ولا نفقة وروي عنه أن لها السكنى ولا نفقة لها وقال عثمان البتي لكل مطلقة السكنى والنفقة وإن كانت غير حامل وكان يرى أنها تنتقل إن شاءت وقال مالك للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا وروي عنه أن عليه نفقة الحامل المبتوتة إن

 

كان موسرا وإن كان معسرا فلا نفقة لها عليه وقال الأوزاعي والليث والشافعي للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا قال الله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وقد تضمنت هذه الآية الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من ثلاثة أوجه أحدها أن السكنى لما كانت حقا في مال وقد أوجبها الله لها بنص الكتاب إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذ كانت السكنى حقا في مال وهي بعض النفقة والثاني قوله ولا تضاروهن والمضارة تقع في النفقة كهي في السكنى والثالث قوله لتضيقوا عليهن والتضييق قد يكون في النفقة أيضا فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها وقوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن قد انتظم المبتوتة والرجعية ثم لا تخلو هذه النفقة من أن يكون وجوبها لأجل الحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته فلما اتفق الجميع على أن النفقة واجبة للرجعية بالآية لا للحمل بل لأنها محبوسة عليه في بيته وجب أن تستحق المبتوتة النفقة لهذه العلة إذ قد علم ضمير الآية في علية استحقاق النفقة للرجعية فصار كقوله فأنفقوا عليهن لعلة أنها محبوسة عليه في بيته لأن الضمير الذي تقوم الدلالة عليه بمنزلة المنطوق به ومن جهة أخرى وهي أن نفقة الحامل لا تخلو من أن تكون مستحقة للحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته فلو كانت مستحقة للحمل لوجب أن الحمل لو كان له مال أن ينفق عليها من ماله كما أن نفقة الصغير في مال نفسه فلما اتفق الجميع على أن الحمل إذا كان له مال كانت نفقة أمه على الزوج لا في مال الحمل دل على أن وجوب النفقة متعلق بكونها محبوسة في بيته وأيضا كان يجب أن تكون في الطلاق الرجعي نفقة الحامل في مال الحمل إذا كان له مال كما أن نفقته بعد الولادة من ماله فلما اتفق الجميع على أن نفقتها في الطلاق الرجعي لم تجب في مال الحمل وجب مثله في البائن وكان يجب أن تكون نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها في نصيب الحمل من الميراث فإن قيل فما فائدة تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة قيل له قد دخلت فيه المطلقة الرجعية ولم يمنع نفي النفقة لغير الحامل فكذلك في المبتوتة وإنما ذكر الحمل لأن مدته قد تطول وتقصر فأراد إعلامنا وجوب النفقة مع طول مدة الحمل التي هي في العدة أطول من مدة الحيض ومن جهة النظر أن الناشزة إذا خرجت من بيت زوجها لا تستحق النفقة مع بقاء الزوجية لعدم تسليم نفسها

 

في بيت الزوج ومتى عادت إلى بيته استحقت النفقة فثبت أن المعنى الذي تستحق به النفقة هو تسليم نفسها في بيت الزوج فلما اتفقنا ومن أوجب السكنى على وجوب السكنى وصارت بها مسلمة لنفسها في بيت زوجها وجب أن تستحق النفقة وأيضا لما اتفق الجميع على أن المطلقة الرجعية تستحق النفقة في العدة وجب أن تستحقها المبتوتة والمعنى فيها أنها معتدة من طلاق وإن شئت قلت أنها محبوسة عليه بحكم عقد صحيح وإن شئت قلت إنها مستحقة للسكنى فأي هذه المعاني اعتللت به صح القياس عليها ومن جهة السنة ما روى حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن الشعبي أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها طلاقا بائنا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم

فقال لا نفقة لك ولا سكنى قال فأخبرت بذلك النخعي فقال قال عمر بن الخطاب

وأخبر بذلك فقال لسنا بتاركي آية في كتاب الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لعلها أوهمت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول لها السكنى والنفقة وروى سفيان عن سلمة عن الشعبي عن فاطمة عن النبي

صلى الله عليه وسلم أنه لم يجعل لها حين طلقها زوجها ثلاثا سكنى ولا نفقة فذكرت ذلك لإبراهيم فقال قد رفع ذلك إلى عمر فقال لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة لها السكنى والنفقة فقد نص هذان الخبران على إيجاب النفقة والسكنى وفي الأول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول لها السكنى والنفقة ولو لم يقل ذلك كان قوله لا ندع كتاب ربنا وسنة

نبينا يقضي أن يكون ذلك نصا من النبي صلى الله عليه وسلم في إيجابهما واحتج المبطلون للسكنى والنفقة ومن نفى النفقة دون السكنى بحديث فاطمة بنت قيس هذا وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعريها من نكير السلف أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس في الحديث الأول الذي قدمناه وروى القاسم بن محمد أن مروان ذكر لعائشة حديث فاطمة بنت قيس فقال لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة بنت قيس وقالت في بعضه ما لفاطمة خير في أن تذكر هذا الحديث يعني قولها لا سكنى لك ولا نفقة وقال ابن المسيب تلك امرأة فتنت الناس استطالت على أحمائها بلسانها فأمرت بالانتقال وقال أبو سلمة أنكر الناس عليها ما كانت تحدث به وروى الأعرج عن أبي سلمة أن فاطمة كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لها اعتدي في بيت ابن أم مكتوم قال وكان محمد بن أسامة يقول كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئا رماها بما كان في يده فلم يكن ينكر عليها هذا النكير إلا وقد علم بطلان ما روته وروى

 

عمار بن رزيق عن أبي إسحاق قال كنت عند الأسود بن يزيد في المسجد فقال الشعبي حدثتني فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لا سكنى لك ولا نفقة قال فرماه الأسود بحصا ثم قال ويلك اتخذت بمثل هذا قد رفع إلى عمر فقال لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا تدري لعلها كذبت قال الله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن وروى الزهري قال أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن فاطمة بنت قيس أفتت بنت أخيها وقد طلقها زوجها بالانتقال من بيت زوجها فانكر ذلك مروان فأرسل إلى فاطمة يسئلها عن ذلك فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بذلك فأنكر ذلك مروان وقال قال الله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن قالت فاطمة إنما هذا في الرجعي لقوله تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف فقال مروان لم أسمع بهذا الحديث من أحد قبلك وسآخذ بالعصمة التي وجدت الناس عليها فقد ظهر من هؤلاء السلف النكير على فاطمة في روايتها لهذا الحديث ومعلوم أنهم كانوا لا ينكرون روايات الأفراد بالنظر والمقايسة فلو أنهم قد علموا خلافه من السنة ومن ظاهر الكتاب لما أنكروه عليها وقد استفاض خير فاطمة في الصحابة فلم يعمل به منهم أحد إلا شيئا روي عن ابن عباس رواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول في المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها لا نفقة لهما وتعتدان حيث شاءتا فهذا الذي ذكرنا في رد خبر فاطمة بنت قيس من جهة ظهور النكير من السلف عليها وفي روايتها ومعارضة حديث عمر إياه يلزم الفريقين من نفاة السكنى والنفقة وممن نفى النفقة وأثبت السكنى وهو لمن نفى النفقة دون السكنى ألزم لأنهم قد تركوا حديثها في نفي السكنى لعلة أوجبت ذلك فتلك العلة بعينها هي الموجبة لترك حديثها في نفي النفقة فإن قيل إنما لم يقبل حديثها في نفي السكنى لمخالفته لظاهر الكتاب وهو قوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم قيل له قد احتجت هي في أن ذلك في المطلقة الرجعية ومع ذلك فإن جاز عليها الوهم والغلط في روايتها حدثنا مخالفا للكتاب فكذلك سبيلها في النفقة وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبها فيما روته من نفي السكنى والنفقة وذلك لأنه قد روي أنها استطالت بلسانها على أحمائها فأمروها بالانتقال وكانت سبب النقلة وقال الله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وقد روي عن ابن عباس في تأويله

 

إن تستطيل على أهله فيخرجوها فلما كان سبب النقلة من جهتها كانت بمنزلة الناشزة فسقطت نفقتها وسكناها جميعا فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى وهذا يدل على صحة أصلنا الذي قدمنا في أن استحقاق النفقة متعلق باستحقاق السكنى فإن قيل ليست النفقة كالسكنى لأن السكنى حق الله تعالى لا يجوز تراضيهما على إسقاطها والنفقة حق لها لو رضيت بإسقاطها لسقطت قيل له لا فرق بينهما من الوجه الذي وجب قياسها عليها وذلك لأن السكنى فيها معنيان أحدهما حق لله تعالى وهو كونها في بيت الزوج والآخر حق لها وهو ما يلزم في المال من أجرة البيت إن لم يكن له ولو رضيت بأن تعطي هي الأجرة وتسقطها عن الزوج جاز فمن حيث هي حق في المال قد استويا واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وشريح وأبو العالية والشعبي وإبراهيم نفقتها من جميع المال وقال ابن عباس وجابر وابن الزبير والحسن وابن المسيب وعطاء لا نفقة لها في مال الزوج بل هي على نفسها واختلف فقهاء الأمصار أيضا في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد لا سكنى لها ولا نفقة في مال الميت حاملا كانت أو غير حامل وقال ابن أبي ليلى نفقتها في مال الزوج بمنزلة الدين على الميت إذا كانت حاملا وقال مالك نفقتها على نفسها وإن كانت حاملا ولها السكنى إن كانت الدار للزوج وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بسكناها حتى ينقضي عدتها وإن كانت في بيت بكراء فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج هذه رواية ابن وهب وقال ابن القاسم عن مالك لا نفقة لها في مال الزوج الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت وإن كان عليه دين فهي أحق بالسكنى من الغرماء وتباع للغرماء ويشترط السكنى على المشتري وقال الأشجعي عن الثوري إذا كانت حاملا أنفق عليها من جميع المال حتى تضع فإذا وضعت أنفق على الصبي من نصيبه وروى المعافى عنه أن نفقتها من حصتها وقال الأوزاعي في المرأة يموت زوجها وهي حامل فلا نفقة لها وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال حتى تضع وقال الليث في أم الولد إذا كانت حاملا منه فإنه ينفق عليها من جميع المال فإن ولدت كان ذلك في حظ ولدها وإن لم تلد كان ذلك دينا يتبع به وقال الحسن بن صالح للمتوفى عنها زوجها بالنفقة من جميع المال وقال الشافعي في المتوفى عنها زوجها قولين أحدهما لها السكنى والنفقة والآخر لا سكنى لها ولا نفقة قال أبو بكر قد اتفق الجميع على أن لا نفقة للمتوفى

 

عنها زوجها غير الحامل ولا سكنى فوجب أن تكون الحامل مثلها لاتفاق الجميع على أن هذه النفقة غير مستحقة للحمل ألا ترى أن أحدا منهم لم يوجبها في نصيب الحمل من الميراث وإنما قالوا فيه قولين قائل يجعل نفقتها من نصيبها وقائل يجعل النفقة من جميع مال الميت ولم يوجبها أحد في حصة الحمل فلما تجب النفقة لأجل الحمل ولم يجز أن تكون مستحقة لأجل كونها في العدة لأنها لو وجبت للعدة لوجبت لغير الحامل فلم يبق وجه تستحق به النفقة وأيضا لما لم تستحق السكنى في مال الزوج بدلائل قد قامت عليه لم تستحق النفقة وأيضا فإن النفقة إذا وجبت فإنما تجب حالا فحالا فلما مات الزوج انتقل ميراثه إلى الورثة وليس للزوج مال في هذه الحال وإنما هو مال الوارث فلا يجوز إيجابها عليهم فإن قيل تصير بمنزلة الدين قيل له الدين الذي يثبت في ميراث المتوفى إنما يثبت بأحد وجهين إما أن يكون ثابتا على الميت في حياته أو يتعلق وجوبه بسبب كان من الميت قبل موته مثل الجنايات وحفر البئر إذا وقع فيها إنسان بعد موته والنفقة خارجة عن الوجهين فلا يجوز إيجابها في ماله لعدم السبب الذي به تعلق وجوب النفقة وعدم ماله بزواله إلى الورثة ألا ترى أن النكاح قد بطل بالموت وإن ملك الميت قد زال إلى الورثة فلم يبق لإيجاب النفقة وجه ألا ترى أن غير الحامل لا نفقة لها بهذه العلة فإن قيل قال الله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن وهو عموم في المتوفى عنها زوجها والمطلقة كما كان قوله وأولات الأحمال أجهلن أن يضعن حملهن عموما في الصنفين قيل له هذا غلط من قبل أن قوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم خطاب للأزواج وكذلك قوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن خطاب لهم وقد زال عنهم الخطاب بالموت ولا جائز أن يكون ذلك خطابا لغير الأزواج فلم تقتض الآية إيجاب نفقة المتوفى عنها زوجها بحال وقوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن قد انتظم الدلالة على أحكام منها أنها إذا رضيت بأن ترضعه بأجر مثلها لم يكن للأب أن يسترضع غيرها لأمر الله إياه بإعطاء الأجر إذا أرضعت ويدل على أن الأم أولى بحضانة الولد من كل أحد ويدل على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل ولا تستحق بالعقد لأنه أوجبها بعد الرضاع بقوله فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقد دل على أن لبن المرأة وإن كان عينا فقد أجري مجرى المنافع التي تستحق بعقود الإجارات ولذلك لم يجز أصحابنا بيع لبن المرأة

 

كما لا يجوز عقد البيع على المنافع وفارق لبن المرأة بذلك لبن سائر الحيوان ألا ترى أنه لا يجوز استئجار شاة لرضاع صبي لأن الأعيان لا تستحق بعقود الإجارات كاستئجار النخل والشجر وقوله تعالى وأتمروا بينكم بمعروف يعني والله أعلم لا تشترط المرأة على الزوج فيما تطلبه من الأجرة ولا يقصر الزوج لها عن المقدار المستحق وقوله تعالى وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى قيل إنه إذا طلبت المرأة أكثر من أجر مثلها ورضيت غيرها بأن تأخذه بأجر مثلها فلزوج أن يسترضع الأجنبية ويكون ذلك في بيت الأم لأنها أحق بإمساكه والسكون عنده قوله تعالى لينفق ذو سعة من سعته يدل على أن النفقة تفرض عليه على قدر إمكانه وسعته وأن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر وقوله تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله قيل معناه من ضيق عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله يعني والله أعلم أنه لا يكلف نفقة الموسر في هذه الحال بل على قدر إمكانه ينفق وقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها فيه بيان أن الله لا يكلف أحدا مالا يطيق وهذا وإن كان قد علم بالعقل إذ كان تكليف مالا يطاق قبحا وسفها فإن الله ذكره في الكتاب تأكيدا لحكمه في العقل وقد تضمن معنى آخر من جهة الحكم وهو الإخبار بأنه إذا لم يقدر على النفقة لم يكلفه الله الإنفاق في هذه الحال وإذا لم يكلف الإنفاق في هذه الحال لم يجز التفريق بينه وبين امرأته لعجزه عن نفقتها وفي ذلك دليل على بطلان قول من فرق بين العاجز عن نفقة امرأته وبينها فإن قيل فقد آتاه الطلاق فعليه أن يطلق قيل له قد بين به أنه لم يكلفه النفقة في هذه الحال فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجلها لأن فيه إيجابه التفريق بشيء لم يجب وأيضا فإنه أخبر أنه لم يكلفه من الإنفاق إلا ما آتاه والطلاق ليس من الإنفاق فلم يدخل في اللفظ وأيضا إنما أراد أنه لا يكلفه مالا يطيق ولم يرد أنه يكلفه كل ما يطيق لأن ذلك مفهوم من خطاب الآية وقوله تعالى سيجعل الله بعد عسر يسرا يدل على أنه لا يفرق بينهما من أجل عجزه عن النفقة لأن العسر يرجى له اليسر آخر سورة الطلاق

ومن

سورة التحريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك روي في سبب نزول الآية

 

وجوه أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب ويأكل عند زينب فتواطأت عائشة وحفصة على أن تقولا له نجد منك ريح المغافير قال بل شربت عندها عسلا ولن أعود له فنزلت يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك وقيل إنه شرب عند حفصة وقيل عند سودة وأنه حرم العسل وفي بعض الروايات والله لا أذوقه وقيل إنه أصاب مارية القبطية في بيت حفصة فعلمت به فجزعت منه فقال لها ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها قالت بلى فحرمها وقال لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه وأنزل عليه يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية رواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب بذلك قال أبو بكر وجائز أن يكون الأمران جميعا قد كانا من تحريم مارية وتحريم العسل إلا أن الأظهر أنه حرم مارية وإن الآية فيها نزلت لأنه قال تبتغي مرضات أزواجك وليس في ترك شرب العسل رضا أزواجه وفي ترك قرب مارية رضاهن فروي في العسل أنه حرمه وروي أنه حلف أن لا يشربه وأما مارية فكان الحسن يقول حرمها وروى الشعبي عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى وحرم فقيل له الحرام حلال وأما اليمين فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وقال مجاهد وعطاء حرم جاريته وكذلك روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة وأما قول من قال إنه حرم وحلف أيضا فإن ظاهر الآية لا يدل عليه وإنما فيها التحريم فقط فغير جائز أن يلحق بالآية ما ليس فيها فوجب أن يكون التحريم يمينا لإيجاب الله تعالى فيها كفارة يمين بإطلاق لفظ التحريم ومن الناس من يقول لا فرق بين التحريم واليمين لأن اليمين تحريم للمحلوف عليه والتحريم أيضا يمين وهذا عند أصحابنا يختلف في وجه ويتفق في وجه آخر فالوجه الذي يوافق اليمين فيه التحريم أن الحنث فيهما يوجب كفارة اليمين والوجه الذي يختلفان فيه إنه لو حلف أنه لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه لم يحنث ولو قال قد حرمت هذا الرغيف على نفسي فأكل منه اليسير حنث ولزمته الكفارة لأنهم شبهوا تحريمه الرغيف على نفسه بمنزلة قوله والله لا أكلت من هذا الرغيف شيئا تشبيها بسائر ما حرمه الله من الميتة والدم أنه اقتضى تحريم القليل منه والكثير واختلف السلف في الرجل يحرم امرأته فروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر أن الحرام يمين وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وطاوس

 

وروي عن ابن عباس رواية مثله وروي عنه غير ذلك وعن علي بن ابي طالب وزيد بن ثابت رواية وابن عمر رواية وأبي هريرة وجماعة من التابعين قالوا هي ثلاث وروى خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام بمنزلة الظهار وروى منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال النذر والحرام إذا لم يسم مغلظة فتكون عليه رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وروى ابن جبير عن ابن عباس أيضا إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها أما لكم في رسول الله أسوة حسنة وهذا محمول على أنه إذا لم تكن له نية فهو بمنزلة يمين وأنه إن أراد الظهار كان ظهارا وقال مسروق ما أبالي إياها حرمت أو قصعة من ثريد وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن ما أبالي حرمت امرأتي أو ماء فراتا قال أبو بكر وليس فيه دلالة على أنهم لم يروه يمينا لأنه لا جائز أن يكون قولهما في تحريم الثريد والماء أنه يمين فكأنهما لم يريا ذلك طلاقا وكذلك نقول أنه ليس بطلاق إلا أن ينويه فلم تظهر مخالفة هذين لمن ذكرنا قولهم من الصحابة واتفاقهم على أن هذا القول ليس بلغو وإنه إما أن يكون يمينا أو طلاقا أو ظهارا واختلف فقهاء الأمصار في الحرام فقال أصحابنا إن نوى الطلاق فواحدة بائنة أن لا ينوي ثلاثا وإن لم ينو طلاقا فهو يمين وهو مول وذكر ابن سماعة عن محمد أنه إن نوى ظهارا لم يكن ظهارا لأن الظهار أصله بحرف التشبيه وروى ابن شجاع عن أبي يوسف في اختلاف زفر وأبي يوسف أنه إن نوى ظهارا كان ظهارا وقال ابن أبي ليلى هي ثلاث ولا أسئله عن نيته وقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم الحرام لا يكون يمينا في شيء إلا أن يحرم امرأته فيلزمه الطلاق وهو ثلاث إلا أن ينوي واحدة أو اثنتين فيكون على ما نوى وقال الثوري إن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن نوى يمينا فهي يمين يكفرها وإن لم ينو فرقة ولا يمينا فليس بشيء هي كذبة وقال الأوزاعي هو على ما نوى وإن ينو شيئا فهو يمين وقال عثمان البتي هو بمنزلة الظهار وقال الشافعي ليس بطلاق حتى ينوي فإذا نوى فهو طلاق على ما أراد من عدده وإن أراد تحريمها بلا طلاق فعليه كفارة يمين وليس بمول قال أبو بكر قد جعل أصحابنا التحريم يمينا إذا لم تقارنه نية الطلاق إذا حرم امرأته فيكون بمنزلة قوله لها والله لا أقربك فيكون موليا وأما إذا حرم غير امرأته من المأكول والمشروب وغيرهما فإنه بمنزلة قوله والله

 

لا آكل منه ووالله لا أشرب منه ونحو ذلك لقوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك ثم قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فجعل التحريم يمينا فصارت اليمين في مضمون لفظ التحريم ومقتضاه في حكم الشرع فإذا أطلق كان محمولا على اليمين إلا أن ينوي غيرها فيكون ما نوى فإذا حرم امرأته وأراد الطلاق كان طلاقا لاحتمال اللفظ له وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فإنه متى أراد به الطلاق كان طلاقا والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لركانة حين طلق امرأته البتة بالله ما أردت إلا واحدة فتضمن ذلك معنيين أحدهما أن كل لفظ يحتمل الثلاث ويحتمل غيرها فإنه متى أراد الثلاث كان ثلاثا لولا ذلك لم يستحلفه عليها والثاني أنه لم يلزمه الثلاث بوجود اللفظ وجعل القول قوله لاحتمال فيه فصار ذلك أصلا في أن كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره إنا لا نجعله طلاقا إلا بمقارنة الدلالة لإرادة الطلاق ومما يدل على أن اللفظ المحتمل للطلاق يجوز إيقاع الطلاق به وإن لم يكن طلاقا في نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة اعتدي ثم راجعها فأوقع الطلاق بقوله اعتدي لاحتماله له ولا نعلم أحدا من السلف منع إيقاع الطلاق بلفظ التحريم ومن قال منهم هو يمين فإنما أراد به عندنا إذا لم تكن له نية الطلاق ولم تقارنه دلالة الحال وزعم مالك ان من حرم على نفسه شيئا غير امرأته أنه لا يلزمه بذلك شيء وإن ذلك ليس بيمين وقد ذكرنا ما اقتضى قوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك من كونه يمينا لقوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وأنه لا يجوز إسقاط موجب هذا اللفظ من كون الحرام يمينا برواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يشرب العسل إذ غير جائز الاعتراض على حكم القرآن بخبر الواحد ولأن من روى اليمين يجوز أن يكون إنما عنى به التحريم وحده إذ كان التحريم يمينا ويدل من جهة النظر على أن التحريم يمين أن المحرم للشيء على نفسه قد اقتضى لفظه إيجاب الامتناع عنه كالأشياء المحرمة وذلك في معنى النذر وقول القائل لله علي أن لا أفعل ذلك فلما كان النذر يمينا بالسنة واتفاق الفقهاء وجب أن يكون تحريم الشيء بمنزلة النذر فتجب فيه كفارة يمين إذا حنث كما تجب في النذر وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا روي عن علي في قوله قوا أنفسكم وأهليكم قال علموا أنفسكم وأهليكم الخير وقال الحسن تعلمهم وتأمرهم وتنهاهم قال أبو بكر وهذا يدل على أن علينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين

 

والخير وما لا يستغنى عنه من الآداب وهو مثل قوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم

وأنذر

عشيرتك الأقربين ويدل على أن للأقرب فالأقرب منا مزية في لزومنا تعليمهم وأمرهم بطاعة الله تعالى ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم

كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته ومعلوم ان الراعي كما عليه حفظ من استرعى

وحمايته والتماس مصالحه فكذلك عليه تأديبه وتعليمه وقال صلى الله عليه وسلم فالرجل راع على أهله وهو مسؤل عنهم والأمير راع على رعيته وهو مسؤل عنهم وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال حدثنا محمد بن عبدالله بن حفص قال حدثنا محمد بن موسى السعدي عن عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما نحل والد ولدا خيرا من أدب حسن وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحضرمي قال حدثنا جبارة قال حدثنا محمد بن الفضل عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم حق الولد على والده أن يحسن اسمه ويحسن أدبه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا محمد بن ربيعة قال حدثنا محمد بن الحسن بن عطية قال حدثنا محمد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

إذا بلغ أولادكم سبع سنين فعلموهم الصلاة وإذا بلغوا عشر سنين فاضربوهم

عليها وفرقوا بينهم في المضاجع وقوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم قال الحسن أكثر من كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون فأمر أن يغلظ عليهم في إقامة الحد وقيل جهاد المنافقين بالقول وجهاد الكفار بالحرب قال أبو بكر فيه الدلالة على وجوب الغلظة على الفريقين من الكفار والمنافقين ونهى عن مقارنتهم ومعاشرتهم وروي عن ابن مسعود قال إذا لم تقدروا أن تنكروا على الفاجر فألقوه بوجه مكفهر وقوله تعالى فخانتاهما قال ابن عباس كانتا منافقتين ما زنت امرأة نبي قط وكانت خيانتهما أن امرأة نوح عليه السلام كانت تقول للناس إنه مجنون وكانت امرأة لوط عليه السلام تدل على الضيف آخر سورة التحريم

ومن

سورة نون

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ولا تطع كل حلاف مهين قيل من يحلف بالله كاذبا وسماه مهينا

 

لاستجازته الكذب والحلف عليه والحلاف اسم لمن أكثر الحلف بحق أو باطل وقد نهى الله عن ذلك بقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وقوله تعالى هماز مشاء بنميم يعني وقاعا في الناس عائبا لهم بما ليس فيهم وقوله مشاء بنميم يعني ينقل الكلام من بعض إلى بعض على وجه التضريب بينهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم

لا يدخل الجنة قتات يعني النمام وقوله تعالى عتل

بعد ذلك زنيم قيل في العتل أنه الفظ الغليظ والزنيم الدعي وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسين بن إسحاق التستري قال حدثنا الوليد بن عتبة قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عثمان عن عثمان بن عمير البجلي عن شهر بن حوشب عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم قلت وما الجواظ قال كل جماع قلت وما الجعظري قال الفظ الغليظ قلت وما العتل الزنيم قال رحب الجوف آخر سورة نون

ومن سورة سأل سائل

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى الذين هم على صلاتهم دائمون روى أبو سلمة عن عائشة قالت كان أحب الصلاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ديم عليه وقرأت الذين هم على صلاتهم دائمون وعن ابن مسعود قال دائمون على مواقيتها وعن عمران بن حصين في الآية قال الذي لا يلتفت في صلاته وقوله تعالى للسائل والمحروم روي عن ابن عباس الذي يسئل والمحروم الذي لا يستقيم له تجارة وقال أبو قلابة المحروم من ذهب ماله وقال الحسن بن محمد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فغنمت فجاء آخرون بعد ذلك فنزلت في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم

أن المحروم من حرم وصيته قال أبو بكر قد ذكرنا فيما تقدم معنى المحروم

واختلافهم فيه آخر سورة سأل سائل

ومن سورة المزمل

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا روى زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة انبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم

قالت أما تقرأ هذه السورة يا أيها

 

المزمل قم الليل إلا قليلا قلت بلى قالت فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة فقام النبي - وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله تعالى خاتمتها اثني عشر شهرا ثم أنزل التخفيف في آخر السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة وقال ابن عباس لما نزلت أول المزمل كانوا يقومون نحو قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أولها وآخرها نحو سنة وقوله تعالى ورتل القرآن ترتيلا قال ابن عباس بينه تبيينا وقال طاوس بينه حتى تفهمه وقال مجاهد ورتل القرآن ترتيلا قال وال بعضه على إثر بعض على تؤدة قال أبو بكر لا خلاف بين المسلمين في نسخ فرض قيام الليل وأنه مندوب إليه مرغب فيه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة في الحث عليه والترغيب فيه روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وروي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ثماني ركعات حتى إذا انفجر عمود الصبح أوتر بثلاث ركعات ثم سبح وكبر حتى إذا انفجر الفجر صلى ركعتي الفجر وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم

كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وقوله تعالى إن

ناشئة الليل هي أشد وطأ قال ابن عباس وابن الزبير إذا نشأت قائما فهي ناشئة الليل كله وقال مجاهد الليل كله إذا قام يصلي فهو ناشئة وما كان بعد العشاء فهو ناشئة وعن الحسن مثله وقال في قوله تعالى أشد وطأ وأقوم قيلا قال أجهد للبدن وأثبت في الخير وقال مجاهد وأقوم قيلا قال أثبت قراءة وقوله تعالى واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا قال مجاهد أخلص إليه إخلاصا وقال قتادة أخلص إليه الدعاء والعبادة وقيل الإنقطاع إلى الله وتأميل الخير منه دون غيره ومن الناس من يحتج به في تكبيرة الافتتاح لأنه ذكر في بيان الصلاة فيدل على جواز الافتتاح بسائر أسماء الله تعالى وقوله تعالى سبحا طويلا قال قتادة فراغا طويلا وقوله تعالى هي أشد وطأ قال مجاهد واطأ اللسان القلب مواطأة ووطاء ومن قرأ وطاء قال معناه هي أشد من عمل النهار وقوله تعالى إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه إلى قوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن قال أبو بكر قد انتظمت هذه الآية معاني أحدها أنه نسخ به قيام الليل المفروض كان بديا والثاني دلالتها على لزوم فرض القراءة في الصلاة بقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن والثالث دلالتها على جواز

 

الصلاة بقليل القراءة والرابع أنه من ترك قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها أجزأه وقد بينا ذلك فيما سلف فإن قيل إنما نزل ذلك في صلاة الليل وهي منسوخة قيل له إنما نسخ فرضها ولم ينسخ شرائطها وسائر أحكامها وأيضا فقد أمرنا بالقراءة بعد ذكر التسبيح بقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر منه فإن قيل فإنما أمر بذلك في التطوع فلا يجوز الإستدلال به على وجوبها في الصلاة المكتوبة قيل إذا ثبت وجوبها في التطوع فالفرض مثله لأن أحدا لم يفرق بينهما وأيضا فإن قوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن يقتضي الوجوب لأنه أمر والأمر على الوجوب ولا موضع يلزم قراءة القرآن إلا في الصلاة فوجب أن يكون المراد القراءة في الصلاة فإن قيل إذا كان المراد به بالقراءة في صلاة التطوع والصلاة نفسها ليست بفرض فكيف يدل على فرض القراءة قيل له إن صلاة التطوع وإن لم تكن فرضا فإن عليه إذا صلاها أن لا يصليها إلا بقراءة ومتى دخل فيها صارت القراءة فرضا كما أن عليه استيفاء شرائطها من الطهارة وستر العورة وكما أن الإنسان ليس عليه عقد السلم وسائر عقود البياعات ومتى قصد إلى عقدها فعليه أن لا يعقدها إلا على ما أباحته الشريعة ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وليس عليه عقد السلم ولكنه متى قصد إلى عقده فعليه أن يعقده بهذه الشرائط فإن قيل إنما المراد بقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن الصلاة نفسها فلا دلالة فيه على وجوب القراءة فيها قيل له هذا غلط لأن فيه صرف الكلام عن حقيقة معناه إلى المجاز وهذا لا يجوز إلا بدلالة وعلى أنه لو أسلم لك ما ادعيت كانت دلالته قائمة على فرض القراءة لأنه لم يعبر عن الصلاة بالقراءة إلا وهي من أركانها كما قال تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون قال مجاهد أراد به الصلاة وقال واركعوا مع الراكعين والمراد به الصلاة فعبر عن الصلاة بالركوع لأنه من أركانها آخر سورة المزمل

ومن سورة المدثر

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ولا تمنن تستكثر قال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد وقتادة والضحاك لا تعط عطية لتعطى أكثر منها وقال الحسن والربيع بن أنس لا تمنن حسناتك على الله مستكثرا لها فينقصك ذلك عند الله وقال آخرون لا تمنن بما أعطاك الله من النبوة والقرآن

 

مستكثرا به الأجر من الناس وعن مجاهد أيضا لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعتك قال أبو بكر هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ وجائز أن يكون جميعها مرادا به فالوجه حمله على العموم في سائر وجوه الاحتمال وقوله تعالى وثيابك فطهر يدل على وجوب تطهير الثياب من النجاسات للصلاة وأنه لا تجوز الصلاة في الثوب النجس لأن تطهيرها لا يجب إلا للصلاة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم

أنه رأى عمارا يغسل ثوبه فقال مم تغسل ثوبك فقال من نخامة فقال إنما يغسل

الثوب من الدم والبول والمني وقال عائشة أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل المني من الثوب إذا كان رطبا وزعم بعضهم أن المراد بذلك ما روي عن أبي رزين قال عملك أصلحه وقال إبراهيم وثيابك فطهر من الإثم وقال عكرمة أمره أن لا يلبس ثيابه على عذرة وهذا كله مجاز لا يجوز صرف الكلام إليه إلا بدلالة واحتج هذا الرجل بانه لا يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم

كان يحتاج إلى أن يؤمر بغسل ثيابه من البول وما أشبهه قال أبو بكر وهذ

كلام شديد الاختلال والفساد والتناقض لأن في الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الأوثان بقوله تعالى والرجز فاهجر ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم

كان هاجرا للأوثان قبل النبوة وبعدها وكان مجتنبا للآثام والعذرات في

الحالين فإذا جاز خطابه بترك هذه الأشياء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك تاركا لها فتطهير الثياب لأجل الصلاة مثله وقال الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم

ولا

تدع مع الله إلها آخر والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع مع الله إلها قط فهذا يدل على تناقض قول هذا الرجل وفساده وزعم أنه من أول ما نزل الله من القرآن قبل كل شيء من الشرائع من وضوء أو صلاة أو غيرها وإنما يدل على أنها الطهارة من أوثان الجاهلية وشركها والأعمال الخبيثة وقد نقض بهذا ما ذكره بديا من أنه لم يكن يحتاج إلى أن يؤمر بتطهير الثياب من النجاسة أفتراه ظن أنه كان يحتاج إلى أن يوصى بترك الأوثان فإذا لم يكن يحتاج إلى ذلك لأنه كان تاركا لها وقد جاز أن يخاطب بتركها فكذلك طهارة الثوب وأما قوله إن ذلك من أول ما نزل فما في ذلك ما يمنع أمره بتطهير الثياب لصلاة يفرضها عليه وقد روي عن عائشة ومجاهد وعطاء أن أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك الذي خلق آخر سورة المدثر

 

ومن

سورة القيامة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى بل الإنسان على نفسه بصيرة روي عن ابن عباس أنه قال شاهد على نفسه وقيل معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه بصيرة جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة قوله تعالى ولو ألقى معاذيره قال ابن عباس لو اعتذر وقبل شهادة نفسه عليه أولى من اعتذاره قال أبو بكر لما احتمل اللفظ هذه المعاني وجب حمله عليها إذ لا تنافي في هذا ويدل على أن قوله مقبول على نفسه إذ جعله الله حجة على نفسه وشاهدا عليها ولما عبر عن كونه شاهدا على نفسه بأنه على نفسه بصيرة دل على تأكيد أمر شهادته على نفسه وثبوتها فيوجب ذلك جواز عقوده وإقراره وجميع ما اعترف بلزوم نفسه آخر سورة القيامة

ومن

سورة الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه إلى قوله تعالى وأسيرا عن أبي وائل أنه أمر بأسرى من المشركين فأمر من يطعمهم ثم قرأ ويطعمون الطعام على حبه الآية وقال قتادة كان أسيرهم يومئذ المشرك فأخوك المسلم أحق أن تطعمه وعن الحسن وأسيرا قال كانوا مشركين وقال مجاهد الأسير المسجون وقال ابن جبير وعطاء ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا قال هم أهل القبلة وغيرهم قال أبو بكر الأظهر الأسير المشرك لأن المسلم المسجون لا يسمى أسيرا على الإطلاق وهذه الآية تدل على أن في إطعام الأسير قربة ويقتضي ظاهره جواز إعطائه من سائر الصدقات إلا أن أصحابنا لا يجيزون إعطاءه من الزكاة وصدقات المواشي وما كان أخذه منها إلى الإمام ويجيز أبو حنيفة ومحمد جواز إعطائه من الكفارات ونحوها وأبو يوسف لا يجيز دفع الصدقة الواجبة إلا إلى المسلم وقد بيناه فيما سلف آخر سورة الإنسان

ومن

سورة المرسلات

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا قال الشعبي يعني أنه جعل

 

ظهرها للأحياء وبطنها للأموات والكفات الضمام فأراد أنها تضمهم في الحالين وروى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد ألم نجعل الأرض كفاتا قال تكفت الميت فلا يرى منه شيء وأحياء قال الرجل في بيته لا يرى من عمله شيء قال أبو بكر وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه ودفن شعره وسائر ما يزايله وهذا يدل على أن شعره وشيئا من بدنه لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه لأن الله قد أوجب دفنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله الواصلة وهي التي تصل شعر غيرها بشعرها فمنع الإنتفاع به وهو معنى ما دلت عليه الآية وهذه الآية نظير قوله تعالى ثم أماته فأقبره يعني أنه جعل له قبرا وروي في تأويل الآية غير ذلك وعن ابن مسعود أنه أخذ قملة فدفنها في المسجد في الحصى ثم قال الله تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وعن أبي أمامة مثله وأخذ عبيد بن عمير قملة عن ابن عمر فطرحها في المسجد قال أبو بكر هذا التأويل لا ينفي الأول وعمومه يقتضي الجميع آخر سورة المرسلات

ومن سورة إذا السماء انشقت

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى فلا أقسم بالشفق قال مجاهد الشفق النهار ألا تراه قال الله تعالى والليل وما وسق وقال عمر بن عبدالعزيز الشفق البياض وقال أبو جعفر محمد بن علي الشفق السواد الذي يكون إذا ذهب البياض قال أبو بكر الشفق في الأصل الرقة ومنه ثوب شفق إذا كان رقيقا ومنه الشفقة وهو رقة القلب وإذا كان هذا أصله فهو البياض أولى منه بالحمرة لأن أجزاء الضياء رقيقة في هذه الحال وفي وقت الحمرة أكثف وقوله تعالى وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون يستدل به على وجوب سجدة التلاوة لذمه لتارك السجود عند سماع التلاوة وظاهره يقتضي إيجاب السجود عند سماع سائر القرآن إلا أنا خصصنا منه ما عدا مواضع السجود واستعملناه في مواضع السجود بعموم اللفظ ولأنا لو لم نستعمله على ذلك كنا قد ألغينا حكمه رأسا فإن قيل إنما أراد به الخضوع لأن اسم السجود يقع على الخضوع قيل له هو كذلك إلا أنه خضوع على وصف وهو وضع الجبهة على الأرض كما أن الركوع والقيام والصيام والحج وسائر العبادات خضوع ولا يسمى سجودا لأنه خضوع على صفة إذا خرج عنها لم يسم به آخر سورة إذا السماء انشقت

 

ومن

سورة سبح اسم ربك الأعلى

بسم الله الرحمن الرحيم قوله

تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى روي عن عمر بن عبدالعزيز وأبي العالية قالا أدى زكاة الفطر ثم خرج إلى الصلاة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإخراج صدقة الفطر قبل الخروج إلى المصلى وقال ابن عباس السنة أن تخرج صدقة الفطر قبل الصلاة قال ابو بكر ويستدل بقوله تعالى وذكر اسم ربه فصلى على جواز افتتاح الصلاة بسائر الأذكار لأنه لما ذكر عقيب ذكر اسم الله الصلاة متصلا به إذ كانت الفاء للتعقيب بلا تراخ دل على أن المراد افتتاح الصلاة آخر سورة سبح

ومن سورة البلد

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى فك رقبة روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل علمني عملا يدخلني الجنة قال اعتق النسمة وفك الرقبة قال أليسا سواء يا رسول الله فقال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها قال أبو بكر قد اقتضى ذلك جواز إعطاء المكاتب من الصدقات لأنه معونة في ثمنه وهو نحو قوله في شأن الصدقات وفي الرقاب وقوله تعالى ذي مسغبة ذي مجاعة وقوله تعالى أو مسكينا ذا متربة قال ابن عباس المتربة بقعة التراب أي هو مطروح في التراب لا يواريه عن الأرض شيء وعن ابن عباس أيضا رواية المتربة شدة الحاجة من قولهم ترب الرجل إذا افتقر وقوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا معناه وكان من الذين آمنوا فصارت ثم ههنا بمعنى الواو آخر سورة البلد

ومن سورة الضحى

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر قيل لا تقهره بظلمه وأخذ ماله وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله فغلظ في أمره لتغليظ العقوبة على ظالمه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اتقوا ظلم من لا ناصر له غير الله وقوله تعالى وأما السائل فلا تنهر فيه نهي عن إغلاظ القول له لأن الإنتهار هو الزجر وإغلاظ القول وقد أمر في آية أخرى بحسن

 

القول له وهو قوله تعالى وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا وهذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد أريد به جميع المكلفين آخر السورة

ومن سورة ألم نشرح

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا حدثنا عبدالله بن محمد المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الحسن في قوله تعالى إن مع العسر يسرا قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو مسرور يضحك وهو يقول لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسرا قال أبو بكر يعني أن العسر المذكور بديا هو المثنى به آخرا لأنه معرف بالألف واللام فيرجع إلى المعهود المذكور واليسر الثاني غير الأول لأنه منكور ولو أراد الأول لعرفه بالألف واللام وقوله تعالى فإذا فرغت فانصب قال ابن عباس إذا فرغت من فرضك فانصب إلى ما رغبك تعالى فيه من العمل وقال الحسن فإذا فرغت من جهاد أعدائك فانصب إلى ربك في العبادة وقال قتادة فإذا فرغت من صلاتك فانصب إلى ربك في الدعاء وقال مجاهد فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب إلى عبادة ربك وهذه المعاني كلها محتملة والوجه حمل اللفظ عليها فيكون كلها جميعها مرادا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فإن المراد به جميع المكلفين آخر السورة

ومن

سورة ليلة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر إلى قوله ليلة القدر خير من ألف شهر قيل إنما هي خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وذلك لما يقسم فيها من الخير الكثير الذي لا يكون مثله في ألف شهر فكانت أفضل من ألف شهر لهذا المعنى وإنما وجه تفضيل الأوقات والأماكن بعضها على بعض لما يكون فيها من الخير الجزيل والنفع الكثير واختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم

في ليلة القدر متى تكون واختلف الصحابة فيها فروي عن النبي ص

- أنها ليلة ثلاث وعشرين رواه ابن عباس وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال التمسوها في العشر الأواخر واطلبوها في كل وتر وعن ابن مسعود قال

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

ليلة تسع عشرة من رمضان وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وعن ابن عمر

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر وروي أنه قال في سبع وعشرين حدثنا محمد بن بكر البصري قال أخبرنا أبو داود قال حدثنا حميد بن زنجويه النسائي قال حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال أخبرنا موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال هي في كل رمضان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا حدثنا حماد بن زيد عن عاصم عن زر قال قلت لأبي بن كعب أخبرني عن ليلة القدر يا أبا المنذر فإن صاحبنا يعني عبدالله بن مسعود سئل عنها فقال من يقم الحول يصبها فقال رحم الله أبا عبدالرحمن والله لقد علم أنها في رمضان ولكن كره أن يتكلوا والله إنها في رمضان ليلة سبع وعشرين قال أبو بكر هذه الأخبار كلها جائز أن تكون صحيحة فتكون في سنة في بعض الليالي وفي سنة أخرى في غيرها وفي سنة أخرى في العشر الأواخر من رمضان وفي سنة في العشر الأوسط وفي سنة في العشر الأول وفي سنة في غير رمضان ولم يقل ابن مسعود من يقم الحول يصيبها إلا من طريق التوقيف إذ لا يعلم ذلك إلا بوحي من الله تعالى إلى نبيه فثبت بذلك أن ليلة القدر غير مخصوصة بشهر من السنة وأنها قد تكون في سائر السنة ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لامرأته أنت طالق في ليلة القدر أنها لا تطلق حتى يمضي حول لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك ولم يثبت أنها مخصوصة بوقت فلا يحصل اليقين بوقوع الطلاق بمضي حول آخر السورة

ومن سورة لم يكن الذين كفروا

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فيه أمر بإخلاص العبادة له وهو أن لا يشرك فيها غيره لأن الإخلاص ضد الإشراك وليس له تعلق بالنية لا في وجودها ولا في فقدها فلا يصح الإستدلال به في إيجاب النية لأنه متى اعتقد الإيمان فقد حصل له الإخلاص في العبادة ونفي الإشراك فيها آخر السورة

 

ومن

سورة أرأيت الذي يكذب بالدين

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى الذين هم عن صلاتهم ساهون قال ابن عباس يؤخرونها عن وقتها وكذلك قال مصعب بن سعد عن سعد وروى مالك بن دينار عن الحسن قال يسهون عن ميقاتها حتى يفوت وروى إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال هم المنافقون يؤخرونها عن وقتها يراؤن بصلاتهم إذا صلوا وقال أبو العالية هو الذي لا يدري أعلى شفع انصرف أو على وتر قال أبو بكر يشهد لهذا التأويل ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال لا غرار في الصلاة ولا تسليم ومعناه أنه لا ينصرف منها على غرار وهو

شاك فيها ونظيره ما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليصل ركعة أخرى وإن كان قد تمت صلاته فالركعة والسجدتان له نافلة وروي عن مجاهد ساهون قال لاهون قال أبو بكر كأنه أراد أنهم يسهون للهوهم عنها فإنما استحقوا اللوم لتعرضهم للسهو لقلة فكرهم فيها إذ كانوا مرائين في صلاتهم لأن السهو الذي ليس من فعله لا يستحق العقاب عليه وقوله تعالى يدع اليتيم قال ابن عباس ومجاهد وقتادة يدفعه عن حقه وقوله تعالى ويمنعون الماعون قال علي وابن عباس رواية ابن عمر وابن المسيب الماعون الزكاة وروى الحارث عن علي الماعون منع الفأس والقدر والدلو وكذلك قال ابن مسعود عن ابن عباس رضي الله عنهما رواية أخرى العارية وقال ابن المسيب الماعون المال وقال أبو عبيدة كل ما فيه منفعة فهو الماعون قال أبو بكر يجوز أن يكون جميع ما روي فيه مرادا لأن عارية هذه الآلات قد تكون واجبة في حال الضرورة إليها ومانعها مذموم مستحق للذم وقد يمنعها المانع لغير ضرورة فينبئ ذلك عن لؤم ومجانبة أخلاق المسلمين وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق آخر السورة

ومن سورة الكوثر

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى فصل لربك وانحر قال الحسن صلاة يوم النحر ونحر البدن وقال

 

عطاء ومجاهد صل الصبح بجمع وانحر البدن بمنى قال أبو بكر وهذا التأويل يتضمن معنيين أحدهما إيجاب صلاة الضحى والثاني وجوب الأضحية وقد ذكرناه فيما سلف وروى حماد بن سلمة عن عاصم الجحدري عن أبيه عن علي فصل لربك وانحر قال وضع اليد اليمنى على الساعد الأيسر ثم وضعه على صدره وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس فصل لربك وانحر قال وضع اليمين على الشمال عند النحر في الصلاة وروي عن عطاء أنه رفع اليدين في الصلاة وقال الفراء يقال استقبل القبلة بنحرك فإن قيل يبطل التأويل الأول حديث البراء بن عازب قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى إلى البقيع فبدأ فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وقال إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء فسمى صلاة العيد والنحر سنة فدل على أنه لم يؤمر بهما في الكتاب قيل له ليس كما ظننت لأن ما سنه الله وفرضه لجائز أن نقول هذا سنتنا وهذا فرضنا كما نقول هذا ديننا وإن كان الله فرضه علينا وتأويل من تأوله على حقيقة نحر البدن أولى لأنه حقيقة اللفظ ولأنه لا يعقل بإطلاق اللفظ غيره لأن من قال نحر فلان اليوم عقل منه نحر البدن ولم يعقل منه وضع اليمين على اليسار ويدل على أن المراد الأول اتفاق الجميع على أنه لا يضع يده عند النحر وقد روي عن علي وأبي هريرة وضع اليمين على اليسار أسفل السرة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضع يمينه على شماله في الصلاة من وجوه كثيرة آخر السورة

ومن

سورة الكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى لكم دينكم ولي دين قال أبو بكر هذه الآية وإن كانت خاصة في بعض الكفار دون بعض لأن كثيرا منهم قد أسلموا وقد قال ولا أنتم عابدون ما أعبد فإنها قد دلت على أن الكفر كله ملة واحدة لأن من لم يسلم منهم مع اختلاف مذاهبهم مرادون بالآية ثم جعل دينهم دينا واحدا ودين الإسلام دينا واحدا فدل على أن الكفر مع اختلاف مذاهبه ملة واحدة آخر السورة

 

ومن

سورة إذا جاء نصر الله

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح روي أنه فتح مكة وهذا يدل على أنها فتحت عنوة لأن إطلاق اللفظ يقتضيه ولا ينصرف إلى الصلح إلا بتقييد وقوله تعالى فسبح بحمد ربك واستغفره روى أبو الضحى عن مسروق عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن وروى الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك قالت قلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك قد أحدثتها قال جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخرها آخر السورة

ومن

سورة تبت

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى ما أغنى عنه ماله وما كسب روي عن ابن عباس وما كسب يعني ولده وسماهم ابن عباس الكسب الخبيث وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه وأن ولده من كسبه قال أبو بكر هو كقوله أنت ومالك لأبيك وهو يدل على صحة استيلاد الأب لجارية ابنه وأنه مصدق عليه وتصير أم ولده ويدل على أن الوالد لا يقتل بولده لأنه سماه كسبا له كما لا يقاد لعبده الذي هو كسبه وقوله تعالى سيصلى نارا ذات لهب إحدى الدلالات على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بأنه وامرأته سيموتان على الكفر ولا يسلمان فوجد مخبره على ما أخبر به وقد كان هو وامرأته سمعا بهذه السورة ولذلك قالت امرأته إن محمدا هجانا فلو أنهما قالا قد أسلمنا وأظهرا ذلك وإن لم يعتقداه لكانا قد ردا هذا القول ولكان المشركون يجدون متعلقا ولكن الله علم أنهما لا يسلمان إلا بإظهاره ولا باعتقاده فأخبر بذلك وكان مخبره على ما أخبر به وهذا نظير قوله لو قال إنكما لا تتكلمان اليوم فلم يتكلما مع ارتفاع الموانع وصحة الآلة فيكون ذلك من أظهر الدلالات على صحة نبوته وإنما ذكر الله أبا لهب

 

بكنيته وذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه وكذلك زيد وكل من ذكره في الكتاب فإنما ذكرهم بالإسم دون الكنية لأن أبا لهب كان اسمه عبدالعزى وغير جائز تسميته بهذا الإسم فلذلك عدل عن اسمه إلى كنيته آخر السورة

ومن سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عقبة بن عامر قال بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- يتعوذ بأعوذ برب الفلق وأعوذ برب الناس ويقول يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما قال وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة وروي عن جعفر بن محمد قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم

فرقاه بالمعوذتين وقالت عائشة أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم

- أن أسترقي من العين وروى الشعبي عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

لا رقية إلا من عين أو حمى وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم

- مثله وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبدالله عن زينب امرأة عبدالله عن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك قالت قلت لم تقول هذا والله لقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا رقاني سكنت فقال عبدالله إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاهما كف عنهما إنما يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما وقوله تعالى ومن شر النفاثات في العقد قال أبو صالح النفاثات في العقد السواحر وروى معمر عن قتادة أنه تلا ومن شر النفاثات في العقد قال إياكم وما يخالط السحر من هذه الرقى قال أبو بكر النفاثات في العقد السواحر ينفثن على العليل ويرقونه بكلام فيه كفر وشرك وتعظيم للكواكب ويطعمن العليل الأدوية الضارة والسموم القاتلة ويحتالون في التوصل إلى ذلك ثم يزعمن أن ذلك من رقاهن هذا لمن أردن ضرره

 

وتلفه وأما من يزعمن أنهن يردن نفعه فينفثن عليه ويوهمن أنهن ينفعن بذلك وربما يسقينه بعض الأدوية النافعة فينفق للعليل خفة الوجع فالرقية المنهي عنها هي رقية الجاهلية لما تضمنته من الشرك والكفر وأما الرقية بالقرآن وبذكر الله تعالى فإنها جائزة وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وندب إليها وكذلك قال أصحابنا في التبرك بالرقية بذكر الله وإنما أمر الله تعالى بالإستعاذة من شر النفاثات في العقد لأن من صدق بأنهن ينفعن بذلك كان ذلك ضررا عليه في الدين من حيث يعتقد جواز نفعها وضررها بتلك الرقية ومن جهة أخرى شرهن فيما يحتلن من سقي السموم والأدوية الضارة وقوله تعالى ومن شر حاسد إذا حسد حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى ومن شر حاسد إذا حسد قال يقول من شر عينيه ونفسه قال أبو بكر قد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تسترقي من العين وروى ابن عباس وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال العين حق والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم

- بصحة العين متظاهرة حدثنا ابن قانع قال حدثنا القاسم بن زكريا قال حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا أبو إبراهيم السقاء عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العين حق فلو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين فإذا استغسلتم فاغسلوا قال أبو بكر زعم بعض الناس أن ضرر العين إنما هو من جهة شيء ينفصل من العائن فيتصل بالمعين وهذا هو شر وجهل وإنما العين في الشيء المستحسن عند العائن فيتفق في كثير من الأوقات ضرر يقع بالمعين ويشبه أن يكون الله تعالى إنما يفعل ذلك عند إعجاب الإنسان بما يراه تذكيرا له لئلا يركن إلى الدنيا ولا يعجب بشيء منها وهو نحو ما روي أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسابق بها فسبقها فشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

فقال صلى الله عليه وسلم

- حق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه وكذلك أمر العائن عند إعجابه بما يراه أن يذكر الله وقدرته فيرجع إليه ويتوكل عليه قال الله تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله فأخبر بهلاك جنته عند إعجابه بها بقوله فقال ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا إلى قوله تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله أي لتبقى عليك نعم الله تعالى إلى وقت وفاتك وحدثنا

 

عبدالباقي قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا العباس بن أبي طالب قال حدثنا حجاج قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن ثمامة عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم

من رأى شيئا أعجبه فقال الله الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره

شيء تم بحمد الله والله الموفق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1.وج2.وج3.{كتاب أسباب نزول القرآن : الواحدي}

  ج1. الكتاب أسباب نزول القرآن : الواحدي   بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر ولا تعسر قال الشيخ الامام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي الني...