9 مصاحف

9 مصاحف روابط 9 مصاحف

الأربعاء، 27 مارس 2024

ج10وج11وج12.كتاب : أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

ج10وج11وج12.كتاب : أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص 

بحضرته ورد الحادثة إلى نظائرها ليستبرئ حاله في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ كما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أسلم بن سهل قال حدثنا محمد بن خالد بن عبدالله قال حدثنا أبي عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبي العالية عن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال اقض بينهما يا عقبة قلت يا رسول الله أقضي بينهما وأنت حاضر قال اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة فأباح له النبي صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم -
لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية وهو وقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول لأنا متى وجدنا من النبي صلى الله عليه وسلم -
حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم - كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما فقول القائل إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - وأن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة غير صحيح وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأي لا على الوجه الذي قدمناه فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ولم يسوغ ذلك لأحد والله أعلم
باب
طاعة الرسول ص -
قال الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال تعالى ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فأكد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأبان أن طاعته إطاعة الله وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله وقال الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فأوعد على مخالفة أمر الرسول وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاك فيه خارجا من الإيمان

بقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قيل في الحرج ههنا إنه الشك روي ذلك عن مجاهد وأصل الحرج الضيق وجائز أن يكون المراد التسليم من غير شك في وجوب تسليمه ولا ضيق صدر به بل بانشراح صدر وبصيرة ويقين
وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله ص - فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والإمتناع من التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي ص - قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان
فإن قيل إذا كانت طاعة الرسول ص - طاعة الله تعالى فهلا كان أمر الرسول أمر الله تعالى قيل له إنما كانت طاعته طاعة الله بموافقتها إرادة كل واحد منهما أوامره وأما الأمر فهو قول القائل افعل ولا يجوز أن يكون أمرا وأحد الآمرين كما لا يكون فيه قول واحد من قائلين ولا فعل واحد من فاعلين
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا قيل الثبات الجماعات واحدها ثبة وقيل الثبة عصبة منفردة من عصب فأمرهم الله بأن ينفروا فرقة بعد فرقة في جهة وفرقة في جهة أو ينفروا جميعا من غير تفرق وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة
وقوله تعالى خذوا حذركم معناه خذوا سلاحكم فسمى السلاح حذرا لأنه يتقى به الحذر ويحتمل احذروا عدوكم بأخذ سلاحكم كقوله تعالى وليأخذوا حذرهم واسلحتهم فانتظمت هذه الآية الأمر بأخذ السلاح لقتال العدو على حال افتراق العصب أو اجتماعها بما هو أولى في التدبير والنفور هو الفزع نفر ينفر نفورا إذا فزع ونفر إليه إذا فزع من أمر إليه والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم والنفر جماعة تفزع إلى مثلها والنفير إلى قتال العدو والمنافرة المحاكمة للفزع إليها فيما ينوب من الأمور التي يختلف فيها ويقال إن أصلها أنهم كانوا يسئلون الحاكم أينا أعز نفرا
وقد روي في هذه الآية نسخ روى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى فانفروا ثبات أو انفروا جميعا قال عصبا وفرقا وقال في براءة انفروا خفافا وثقالا الآية وقال إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما الآية قال فنسخ هذه الآيات قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وتمكث

طائفة منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فالماكثون مع النبي ص - هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزوات لعلهم يحذرون ما نزل من قضاء الله في كتابه وحدوده
قوله تعالى الذين يقاتلون في سبيل الله قيل في سبيل الله في طاعة الله لأنها تؤدي إلى ثواب الله في جنته التي أعدها لأوليائه وقيل دين الله الذي شرعه ليؤدي إلى ثوابه ورحمته فيكون تقديره في نصرة دين الله تعالى وقيل في الطاغوت أنه الشيطان قاله الحسن والشعبي وقال أبو العالية هو الكاهن وقيل كل ما عبد من دون الله وقوله تعالى إن كيد الشيطان كان ضعيفا الكيد هو السعي في فساد الحال على جهة الإحتيال والقصد لإيقاع الضرر قال الحسن إنما قال إن كيد الشيطان كان ضعيفا لأنه كان أخبرهم أنهم يستظهرون عليهم فلذلك كان ضعيفا وقيل إنما سماه ضعيفا لضعف نصرته لأوليائه إلى نصرة الله للمؤمنين قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا وهذان الضربان من الاختلاف منفيان عن القرآن وهو إحدى دلالات إعجازه لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت والثالث اختلاف التلاؤم هو أن يكون الجميع متلائما في الحسن كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فقد تضمنت الآية الحض على الإستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به
قوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى هم أهل العلم والفقه وقال السدي الأمراء والولاة
قال أبو بكر يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا
فإن قيل أولو الأمر من يملك الأمر بالولاية على الناس وليست هذه صفة أهل العلم
قيل له إن الله تعالى لم يقل من يملك الأمر بالولاية على الناس وجائز أن يسمي الفقهاء أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها فجائز أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه كما قال في آية أخرى ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم

المنذرين قبول قولهم فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه
وقوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإن الإستنباط هو الإستخراج ومنه استنباط المياه والعيون فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب والإستنابط في الشرع نظير الإستدلال والإستعلام
وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أاحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول ص -
في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته ص - وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه فثبت بذلك أن أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى الإستدلال عليه واستنباطه فقد حوت هذه الآية معاني منها أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه بل مدلول عليه ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والإستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر ثم قال لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال فإن قيل ليس هذا استنباطا في أحكام الحوادث وإنما هو في الأمن والخوف من العدو لقوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها فأمرهم الله بترك العمل بها ورد ذلك إلى الرسول وإلى الأمراء حتى لا يفتوا في أعضاد المسلمين إن كان شيئا يوجب الخوف وإن كان شيئا يوجب الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار فلا دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث قيل له قوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ليس بمقصور على أمر العدو لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما يتعبدون به من أحكام الشرع فيما يباح ويحظر وما يجوز وما لا يجوز ذلك كله من الأمن والخوف فإذا ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار به على ما يتفق من

الأراجيف بالأمن والخوف في أمر العدو بل جائز أن يكون عاما في الجميع وحظر به على العامي أن يقول في شيء من حوادث الأحكام ما فيه حظر أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك وألزمهم رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص وأيضا فلو سلمنا لك أن نزول الآية مقصور على الأمن والخوف من العدو لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولي الأمر واجتهادهم فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار فلا فرق بينه وبين الاجتهاد والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة إذ كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى ويكون المانع من الاجتهاد والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومنعه في المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك وهذا خلف من القول
فإن قيل ليس الاستنباط مقصور على القياس واجتهاد الرأي دون الاستدلال بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا
قيل له الدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا لا يقطع بين أهل اللغة فيه تنازع إذ كان أمرا معقولا في اللفظ فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب وذلك عندنا نحو قوله تعالى ولا تقل لهما أف أنه لا دلالة على النهي عن الضرب والشم والقتل ونحوه وهذا لا يقع في مثله خلاف فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هذا الضرب من دلائل الخطاب فإن هذا لا تنازع فيه ولا يحتاج إلى استنباط وإن أردت بالدليل تخصيص الشيء بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه بخلافه فإن هذا ليس بدليل وقد بيناه في أصول الفقه ولو كان هذا ضربا من الدليل لما غفلته الصحابة ولا استدلت به على أحكام الحوادث ولو فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على سقوط قولك وأيضا لو كان هذا ضربا من الإستدلال لم يمنع ذلك إيجاب الاستنباط فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأي والقياس إذ ليس يوجد في كل حادثة هذا الضرب من الدلالة وقد أمرنا باستنباط سائر ما لا نص فيه فما لم نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل فعلينا استنباط حكمه من طريق القياس والاجتهاد

إذ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة
فإن قيل لما قال الله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله إذ كان القائس يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد
قيل له قولك إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله خطأ لا نقول به وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم الله عليه فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أداه إليه اجتهاده وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول القائلين بالإمامة لأنه لو كان كل شيء من أحكام الدين منصوصا عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الإستنباط وسقط الرد إلى أولي الأمر بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص
وقوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها قال أهل اللغة التحية الملك ومنه قول الشاعر ... أسير به إلى النعمان حتى ... أتيح على تحيته بجند ...
يعني عن ملكه ومعنى قولهم حياك الله أي ملكك الله ويسمى السلام تحية أيضا لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الإسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله قال أبو ذر كنت أول من حيى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بتحية الإسلام فقلت السلام عليك ورحمة الله وقال النابغة ... يحيون بالريحان يوم السباسب ...
يعني أنهم يعطون الريحان ويقال لهم حياكم الله والأصل فيه ما ذكرنا من أنه ملكك الله فإذا حملنا قوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه مالم يثبت منه فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رحم أن له الرجوع فيها مالم يثبت منها فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أو رد لما جيء به
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن

داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه فغذا استرد الواهب فليوقف وليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الرجل أحق بهبته مالم يثبت منها
وروى ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا يحل لرجل يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما صحة الرجوع في الهبة والآخر كراهته وأنه من لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات وذلك لأنه شبه الراجع في الهبة بالكلب يعود في قيئه وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنه شبهه بالكلب إذا عاد في قيئه ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب فما شبه به فهو مثله والثاني أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصح بحال لما شبه الراجع بالكلب العائد في القيء لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صح وجوده وهذا يدل أيضا على صحة الرجوع في الهبة مع استقباح هذا الفعل وكراهته وقد روي الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عن علي وعمر وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم عليهم
وقد روي عن جماعة من السلف أن ذلك في رد السلام منهم جابر بن عبدالله وقال الحسن السلام تطوع ورده فريضة وذكر الآية
ثم اختلف في أنه خاص في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل الكفر فقال عطاء هو في اهل الإسلام خاصة وقال ابن عباس وإبراهيم وقتادة هو عام في الفريقين وقال الحسن تقول للكافر وعليكم ولا تقل ورحمة الله لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال لا تبدؤا اليهود بالسلام فإن بدؤكم فقولوا وعليكم وقال أصحابنا رد السلام فرض على الكفاية إذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ
وأما قوله تعالى بأحسن منها إذا أريد رد السلام فهو الزيادة في الدعاء وذلك إذا قال السلام عليكم يقول هو وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله قال هو وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا روي عن ابن عباس أنها نزلت في

قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين وروي مثله عن قتادة وقال الحسن ومجاهد نزلت في قوم قدموا بالمدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك وقال زيد بن ثابت نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يوم أحد وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم وفي نسق الآية دلالة على خلاف هذا التأويل الأخير وأنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله وقوله تعالى أركسهم قال ابن عباس ردهم وقال قتادة أركسهم أهلكهم وقال غيرهم أركسهم نكسهم قال الكسائي أركسهم وركسهم بمعنى وإنما المعنى ردهم في حكم الكفار من الصغار والذلة وقيل من السبي والقتل لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه قبل من إضمار الكفر قاله الحسن وقال النحويون هذا يحسن مع علم التعريف وهو الألف واللام كما تقول هذه العجوز هي الشابة يعني هي التي كانت شابة ولا يجوز هذه شابة فأبان تعالى للمسلمين بهذه الآية عن أحوال هذه الطائفة من المنافقين إنهم يظهرون لكم الإسلام وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر والردة ونهى المسلمين عن أن يحسنوا بهم الظن وأن يجادلوا عنهم
قوله تعالى ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء يعني هذه الطائفة أخبر بذلك عن ضمائرهم واعتقاداتهم لئلا يحسن المؤمنون بهم الظن وليعتقدوا معاداتهم والبراءة منهم
وقوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله يعني والله أعلم حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة بعد الإسلام وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة وهو كقوله تعالى ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضا وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم اقام مع مشرك قيل ولم يا رسول الله قال لا تراءى نارهما فكانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة
حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يوم فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استننفرتم فانفروا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن الفضل قال حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء

ابن يزيد عن أبي سعيد الخدري أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم -
عن الهجرة فقال ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا فأباح النبي صلى الله عليه وسلم - ترك الهجرة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال حدثنا عامر قال أتى رجل عبدالله بن عمرو فقال أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال سمعت رسول الله ص - يقول المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما
وقوله تعالى فخذوهم واقتلوهم فإنه روي عن ابن عباس فإن تولوا عن الهجرة
قال أبو بكر يعني والله أعلم فإن تولوا عن الإيمان والهجرة لأن قوله تعالى حتى يهاجروا في سبيل الله قد انتظم الإيمان والهجرة جميعا وقوله فإن تولوا راجع إليها ولأن من أسلم حينئذ ولم يهاجر لم يجب قتله في ذلك الوقت فدل على أن المراد فإن تولوا عن الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم
وقوله تعالى إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق قال أبو عبيد يصلون بمعنى ينتسبون إليهم كما قال الأعشى ... إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم ...
وقال زيد الخيل ... اتصلت تنادي يال قيس ... وخصت بالدعاء بني كلاب ...
قال أبو بكر الانتساب يكون بالرحم ويكون بالحلف وبالولاء وجائز أن يدخل فيه أيضا رجل في عهدهم علىحسب ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وبين قريش من الموادعة فدخلت خزاعة في عهد رسول الله ص - ودخلت بنو كنانة في عهد قريش وقيل إن الآية منسوخة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلى قوله تعالى فما جعل الله لكم عليهم سبيلا وفي قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم قال ثم نسخت هذه الآيات براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين إلى قوله ونفضل الآيات لقوم يعلمون

وقال السدي في قوله إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلا الذين يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لهم وقال الحسن هؤلاء بنو مدلج كان بينهم وبين قريش عهد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبين قريش عهد فحرم الله تعالى من بني مدلج ما حرم من قريش قال أبو بكر إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد مالم يشرط ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش وأما قول من قال إن ذلك منسوخ فإنما أراد أن معاهدة المشركين وموادعتهم منسوخة بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهو كما قال لأن الله أعز الإسلام وأهله فأمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فهذا حكم ثابت في مشركي العرب فنسخ به الهدنة والصلح وإقرارهم على الكفر وأمرنا في أهل الكتاب بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فغير جائز للإمام أن يقر أحدا من أهل سائر الأديان على الكفر من غير جزية وأما مشركو العرب فقد كانوا أسلموا في زمن الصحابة ورجع من ارتد منهم إلى الإسلام بعد ما قتل من قتل منهم فهذا وجه صحيح في نسخ معاهدة أهل الكفر على غير جزية والدخول في الذمة على أن تجري عليهم أحكامنا فكان ذلك حكما ثابتا بعد ما أعز الله الإسلام وأظهر أهله على سائر المشركين فاستغنوا بذلك عن العهد والصلح إلا أنه إن احتيج إلى ذلك في وقت لعجز المسلمين عن مقاومتهم او خوف منهم على أنفسهم أو ذراريهم جاز لهم مهادنة العدو ومصالحته من غير جزية يؤدونها إليهم لأن حظر المعاهدة والصلح إنما كان بسبب قوتهم على العدو واستعلائهم عليهم وقد كانت الهدنة جائزة مباحة في أول الإسلام وإنما حظرت لحدوث هذا السبب فمتى زال السبب وعاد الأمر إلى الحال التي كان المسلمون عليها من خوفهم العدو على أنفسهم عاد الحكم الذي كان من جواز الهدنة وهذا نظير ما ذكرنا من نسخ

التوارث بالحلف والمعاقدة بذوي الأرحام فمتى لم يترك وارثا عاد التوارث بالمعاقدة
قوله عز و جل أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم قال الحسن والسدي ضاقت صدورهم على أن يقاتلوكم والحصر الضيق ومنه الحصر في القراءة لأنه ضاقت عليه المذاهب فلم يتوجه لقراءته ومنه المحصور في حبس أو نحوه وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال هلال بن عويمر الأسلمي هو الذي حصر صدره أن يقاتل المسلمين أو يقاتل قومه وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم -
حلف قال أبو بكر ظاهره يدل على أن الذين حصرت صدورهم كانوا قوما مشركين محالفين للنبي ص -
ضاقت صدورهم أن يكونوا مع قومهم على المسلمين لما بينهم وبين النبي ص - من العهد وأن يقاتلوا مع المسلمين ذوي أرحامهم وأنسابهم فأمر الله تعالى المسلمين بالكف عن هؤلاء إذا اعتزلوهم فلم يقاتلوا المسلمين وإن لم يقاتلوا المشركين مع المسلمين ومن الناس من يقول إن هؤلاء كانوا قوما مسلمين كرهوا قتال قومهم من المشركين لما بينهم وبينهم من الرحم وظاهر الآية وما روي في تفسيرها يدل على خلاف ذلك لأن المسلمين لم يقاتلوا المسلمين قط في زمان النبي صلى الله عليه وسلم -
وإن قعدوا عن القتال معهم ولا كانوا قط مأمورين بقتال أمثالهم وقوله تعالى ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم يعني إن قاتلتموهم ظالمين لهم يدل على أنهم لم يكونوا مسلمين وقوله تعالى فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا يقتضي أن يكونوا مشركين إذ ليس ذلك من صفات أهل الإسلام فدل ذلك على أن هؤلاء كانوا قوما مشركين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم - حلف فأمر الله تعالى نبيه أن يكف عنهم إذا اعتزلوا قتال المسلمين والمشركين وأن لا يكلفهم قتال قومهم من أهل الشرك أيضا والتسليط المذكور في الآية له وجهان أحدهما تقوية قلوبهم ليقاتلوكم والثاني إباحة القتال لهم في الدفع عن أنفسهم
قوله تعالى ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم قال مجاهد نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم - فيسلمون ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا وذكر أسباط عن السدي قال نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم - والمشركين فقال ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يظهرون

الإيمان إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر لقوله تعالى كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها والفتنة ههنا الشرك وقوله أركسوا فيها يدل على أنهم قبل ذلك كانوا مظهرين للإسلام فأمر الله تعالى المؤمنين بالكف عن هؤلاء أيضا إذا اعتزلونا وألقوا إلينا السلم وهو الصلح كما أمرنا بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق وعن الذين جاؤنا وقد حصرت صدورهم وكما قال في آية أخرى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وكما قال وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا ثم نسخ ذلك بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم على ما قدمنا من الرواية عن ابن عباس ومن الناس من يقول إن هذه الآيات غير منسوخة وجائز للمسلمين ترك قتال من لا يقاتلهم من الكفار إذ لم يثبت أن حكم هذه الآيات في النهي عن قتال من اعتزلنا وكف عن قتالنا منسوخ وممن حكي عنه أن فرض الجهاد غير ثابت ابن شبرمة وسفيان الثوري وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآيات فيها حظر قتال من كف عن قتالنا من الكفار ولا نعلم أحدا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الإتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا والله الموفق للصواب
باب
قتل الخطأ قال الله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ قال أبو بكر قد اختلف في معنى كان ههنا فقال قتادة معناه ما كان له ذلك في حكم الله وأمره وقال آخرون ما كان له سبب جواز قتله وقال آخرون ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن واختلف أيضا في معنى إلا فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن قد يقتله فإذا وقع ذلك فحكمه كيت وكيت وهو كما قال النابغة ... وقفت فيها أصيلا لا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد ... إلا الأواري لأياما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد ...
وقال آخرون هو استثناء صحيح قد أفاد أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال وهو أن يرى عليه سيما المشركين أو يجده في حيزهم فيظنه مشركا فجائز له قتله وهو خطأ كما

روي عن الزهري عن عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو وكروا عليه بأسيافهم فطفق حذيفة يقول إنه أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال عند ذلك يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم - فزادت حذيفة عنده خيرا
ومن الناس من يقول معناه ولا خطأ لأن قتل المؤمن من غير مباح بحال قتال فغير جائز أن يكون الاستثناء محمولا على حقيقته وهذا ليس بشيء من وجهين أحدهما أن إلا لم توجد بمعنى ولا والثاني ما أنكره من امتناع إباحة قتل الخطأ موجود في حظره لأن الخطأ إن كان لا تصح إباحته لأنه غير معلوم عنده أنه خطأ فكذلك لا يصح حظره ولا النهي عنه
وقال آخرون قد تضمن قوله وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إيجاب العقاب لقاتله لاقتضاء إطلاق النهي لذلك وأفاد بذلك استحقاق المأثم ثم قال إلا خطأ فإنه لا مأثم على فاعله وإنما أدخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم وأخرج منه قاتل الخطأ والاستثناء مستعمل في موضعه على هذا القول غير معدول به عن وجهه وإنما دخل على المأثم المستحق بالقتل وأخرج قاتل الخطأ منه ولم يدخل على فعل القاتل فيكون مبيحا لما حظره بلفظ الجملة
قال أبو بكر وهذا وجه صحيح سائغ وتأويل من تأوله على إباحة قتل الخطأ فيمن يظنه مشركا فإنه معلوم أنه لم يصح له ذلك إلا على الصفة المشروطة إن كان ذلك إباحة وهو أن يكون ذلك خطأ عند القاتل وإذا كان قتل المسلم الذي في حيز العدو قصد بالقتل لا يكون خطأ عند القاتل وإنما عنده أنه قتل عمد مأمور به فغير جائز أن يكون ذلك مراد الآية لأن الإباحة على قول هذا القائل لم يوجد شرطها وهو أن يكون قتل خطأ عند القاتل ألا يرى أنه إذا قال لا تقتله عمدا اقتضى النهي قتلا بهذه الصفة عند القاتل وإذا قال لا تقتله بالسيف فإنما حظر عليه قتلا بهذه الصفة فكذلك قوله إلا خطأ إذا كان قد اقتضى إباحة قتل الخطأ فواجب أن يكون شرط الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ وذلك محال لا يجوز وقوعه لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطئ فيه والحال التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حظر ولا إباحة
وقال أصحابنا القتل على أنحاء أربعة عمد وخطأ وشبه عمد وما ليس بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح مع العلم بحال المقصود به
والخطأ على ضربين أحدهما أن يقصد رمي

مشرك أو طائر فيصيب مسلما والثاني أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد
وشبه العمد ما تعمد ضربه بغير سلاخ من حجر أو عصا وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره إن شاء الله تعالى
وأما ما ليس بعمد ولا شبه عمد ولا خطأ فهو قتل الساهي والنائم لأن العمد ما قصد إليه بعينه والخطأ أيضا الفعل فيه مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد وقتل الساهي غير مقوصد أصلا فليس هو في حيز الخطأ ولا العمد إلا أن حكمه حكم الخطأ في الدية والكفارة
قال أبو بكر وقد ألحق بحكم القتل في الحقيقة لا عمدا ولا غير عمد وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان هذا ليس بقاتل في الحقيقة إذ ليس له فعل في قتله لأن الفعل منا إما أن يكون مباشرة أو متولدا وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل في العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولدا فلم يكن قاتلا في الحقيقة ولذلك قال أصحابنا إنه لا كفارة عليه وكان القياس أن لا تجب عليه الدية ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ولم يذكر في الآية من عليه الدية من القاتل أو العاقلة وقد وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق الفقهاء عليه منها ما روى الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين
وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه كتب على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتولى مولى رجل بغير إذنه وروى مجالد عن الشعبي عن جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرىولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
دية المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها وولدها فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا ميراثها لزوجها وولدها قال وكانت حبلى فألقت جنينا فخاف عاقلة القاتلة أن يضمنهم فقال يا رسول الله لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هذا سجع الجاهلية فقضى في الجنين غرة عبد أو أمة وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين عبدا أو أمة فقال الذي قضي عليه العقل أنؤدي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل

ذلك بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إن هذا لقول الشاعر فيه غرة عبد أو أمة وروى عبدالواحد بن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
جعل في الجنين غرة على عاقلة القاتل وروى الأعمش عن إبراهيم أن رسول الله ص - جعل العقل على العصبة وعن إبراهيم قال اختصم علي والزبير في ولاء موالي صفية إلى عمر فقضى بالميراث للزبير والعقل على علي رضي الله عنه وروي عن علي وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال وعن عمر في قتيل وجد بين وداعة وحي آخر أنه قضى بالدية على العاقلة فقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه فإن قيل قال الله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه وقال لأبي رمثة وابنه أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه والعقول أيضا تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره
قيل له أما قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني إنما الدية عندنا على القاتل وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه بل على وجه المواساة وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك وأمر ببر الوالدين وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البين فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم به وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان ومؤجلة ثلاث سنين فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق وقد كان تحمل الديات مشهورا في العرب قبل الإسلام وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فهذا فعل مستحسن في العقل مقبول في الأخلاق والعادات وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه ولا يجني عليك ولا تجني عليه لا ينفي وجوب الدية على العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير أو يطالب بذنب سواه ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة

مستحسنة في العقول أحدها أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بديا بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء والثاني أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة ولذلك أوجبها أصحابنا على أهل ديوانه دون أقربائه لأنهم أهل نصرته ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذب عن الحريم فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا في حملها كما تساووا ي حماية بعضهم بعضا عند القتال والثالث أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك وهو داع إلى الألفة وصلاح ذات البين ألا ترى أن رجلين لو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة وصلاح ذات البين كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه وحماه عنه انسلت سخيمة قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة
والرابع أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل القاتل إذا جنى ايضا فلم يذهب حمله للجناية عنه ضياعا بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه إذا وقعت منه جناية فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة وإنما يؤتى الملحد المتعلق بمثله من ضيق عطنه وقلة معرفته وإعراضه عن النظر والفكر والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب دية الخطأ في ثلاث سنين قال أصحابنا كل دية وجبت من غير صلح فهي في ثلاث سنين وروى أشعث عن الشعبي والحكم عن إبراهيم قالا أول من فرض العطاء عمر بن الخطاب وفرض فيه الدية كاملة في ثلاث سنين وثلثي الدية في سنتين والنصف في سنتين وما دون ذلك في عامه قال أبو بكر استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه أحد من السلف واتفق فقهاء الأمصار عليه فصار إجماعا لا يسع خلافه واختلف فقهاء الأمصار في العاقلة من هم فقال أبو حنيفة وسائر أصحابنا الدية في قتل الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين من يوم يقضى بها والعاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل الديوان يؤخذ ذلك من أعطياتهم حتى يصيب الرجل منهم من الدية كلها ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم فإن أصابه أكثر من ذلك ضم إليهم أقرب القبائل في النسب من أهل الديوان وإن كان القاتل ليس من أهل الديوان فرضت الدية على عاقلته الأقرب فالأقرب في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي فيؤخذ في كل سنة ثلث الدية عند رأس كل حول ويضم إليهم

أقرب القبائل منهم في النسب حتى يصيب الرجل منهم الدية ثلاثة دراهم أو أربعة قال محمد بن الحسن ويعقل عن الحليف حلفاؤه ولا يعقل عنه قوله وقال عثمان البتي ليس أهل الديوان أولى بها من سائر العاقلة وقال ابن القاسم عن مالك الدية على القبائل على الغنى على قدره ومن دونه على قدره حتى يصيب الرجل من مائة درهم ونصف وحكي عنه أن ذلك يؤخذ من أعطياتهم وقال الثوري تجعل الدية ثلثا في العام الذي أصيب فيه الرجل ولكن تكون عند الأعطية على الرجال وقال الحسن بن صالح العقل على رؤس الرجال في أعطية المقاتلة وقال الليث العقل على القاتل وعلى القوم الذين يأخذون معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شيء وإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إلى ذلك أقرب القبائل إليهم وروى المزني في مختصره عن الشافعي أن العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم من بني جده ثم من بني جد أبيه فإن عجزوا عن البعض حمل الموالي المعتقون الباقي فإن عجزوا عن بعض ولهم عواقل عقلتهم عواقلهم فإن لم يكن لهم ذو نسب ولا مولى من أعلى حمل على الموالي من أسفل ويحمل من كثر ماله نصف دينار ومن كان دونه ربع دينار ولا يزاد على هذا ولا ينقص منه قال أبو بكر حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم يدل على سقوط اعتبار الأقرب فالأقرب وإن القريب والبعيد من الجاني سواء في ذلك وروي عن عمر أنه قال لسلمة بن نعيم حين قتل مسلما وهو يظنه كافرا أن عليك وعلى قومك الدية ولم يفرق بين القريب والبعيد منهم وهذا يدل على تساوي القريب والعبيد ويدل أيضا على التسوية بينهم فيما يلزم كل واحد منهم من غير اعتبار الغني والفقير ويدل على أن القاتل يدخل في العقل مع العاقلة لأنه قال عليك وعلى قومك الدية وكان أهل الجاهلية يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر فيه كذلك ثم جعل عمر الدواوين فجمع بها الناس وجعل أهل كل راية وجند يدا واحدة وجعل عليهم قتال من يليهم من الأعداء فصاروا يتناصرون بالرايات والدواوين وعليها يتعاقلون وإذا لم يكن من أهل الديوان فعلى ا لقبائل لأن التناصر في هذه الحال بالقبائل فالمعنى الذي تعاقلوا به في الجاهلية والإسلام معنى واحد وهو النصر فإذا كانت في الجاهلية النصرة بالروايات والدواوين تعاقلون بها لأنهم في هذه الحال أخص بالنصرة من القبيلة فإذا فقدت الرايات تناصروا

بالقبائل وبها يتعاقلون أيضا
والدليل على أن العقل تابع للنصرة أن النساء لا يدخلن في العقل لعدم النصرة فيهن فدل ذلك على صحة اعتبار النصرة في العقل وأما العقل بالحلف فإن سعد بن إبراهيم روى عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم - حلف الجاهلية وقد كان الحلف عندهم كالقرابة في النصرة والعقل ثم أكده الإسلام وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم وقد كانت ظهرت خيل للنبي ص - على رجل من المشركين فربطه إلى سارية من سواري المسجد فقال علام أحبس فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بجريرة حلفائك فإن قيل فقد نفى النبي ص - حلف الإسلام بقوله لا حلف في الإسلام
قيل له معناه نفي التوارث به مع ذوي الأرحام لأنهم كانوا يورثون الحليف دون ذوي الأرحام فأما حكم الحلف في العقل والنصرة فباق ثابت وكذلك الولاء ثابت يعقل به لم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخبار المتقدمة وإنما ألزم أصحابنا كل واحد ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم لاتفاق الجميع على لزومه هذا القدر وما زاد مختلف فيه لم تقم الدلالة عليه فلم يلزمه ويدخل القاتل معهم في العقل وهو قول أصحابنا ومالك وابن شبرمة والليث والشافعي وقال الحسن بن صالح والأوزاعي لا يدخل فيه وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز أنه يعقل معهم وما روي عن أحد من السلف خلافه ومن جهة النظر أن الدية إنما تلزم القاتل والعاقلة تعقل عنه على جهة المواساة والنصرة فواجب أن لا يلزم العاقلة إلا المتيقن وقد اتفقوا على أن ما عدا حصة الواحد منهم لازم العاقلة واختلفوا في المقدار الذي هو نصيب أحدهم هل تحمله العاقلة فواجب أن لا يكون لازما لعدم الدلالة على لزومه العاقلة ومن جهة أخرى أن العاقلة إنما تعقل عنه فعقله عن نفسه أولى فينبغي أن يدخل معهم وأيضا لو كان غيره هو الجاني لدخل مع سائر العاقلة للتخفيف عنهم فإذا كان هو الجاني فهو أولى بالدخول معهم للتخفيف عنهم لأنهم متساوون في التناصر والمواساة قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والأوزاعي والشافعي يجزي في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما وهو قول عطاء وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم والشعبي لا يجزي إلا من صام وصلى ولم يختلفوا في جوازه في رقبة

الظهار ويدل على صحة القول الأول قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة وهذه رقبة مؤمنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم -
كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه فأثبت له حكم ا لفطرة عند الولادة فوجب جوازه بإطلاق اللفظ ويدل عليه أن قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ منتظم للصبي كما يتناول الكبير فوجب أن يتناوله عموم قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ولم يشرط الله عليها الصيام والصلاة فلا تجوز الزيادة فيه لأن الزيادة في النص توجب النسخ ولو أن عبدا أسلم فأعتقه مولاه عن كفارته قبل حضور وقت الصلاة والصيام كان مجزيا عن الكفارة لحصول اسم الإيمان فكذلك الصبي إذا كان داخلا في إطلاق اسم الإيمان فإن قيل العبد المعتق بعد إسلامه لا يجزي إلا أن يكون قد صام وصلى قيل له لا يختلف المسلمون في إطلاق اسم الإيمان على العبد الذي أسلم قبل حضور وقت الصلاة أو الصوم فمن أين شرطت مع الإيمان فعل الصلاة والصوم والله سبحانه لم يشرطهما ولم زدت في الآية ما ليس فيها وحظرت ما أباحته من غير نص يوجب ذلك وفيه إيجاب نسخ القرآن وأيضا لما كان حكم الصبي حكم الرجل في باب التوارث والصلاة عليه ووجوب الدية على قاتله وجب أن يكون حكمه حكمه في جوازه عن الكفارة إذ كانت رقبة تامة لها حكم الإيمان فإن قيل قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة يقتضي حقيقة رقبة بالغة معتقدة للإيمان لا من لها حكم الإيمان من غير اعتقاد ولا خلاف مع ذلك أيضا أن الرقبة التي هذه صفتها مرادة بالآية فلا يدخل فيها من لا تلحقه هذه السمة إلا على وجه المجاز وهو العقل الذي لا اعتقاد له قيل له لا خلاف بين السلف أن غير البالغ جائز في كفارة الخطأ إذا كان قد صام وصلى ولم يشرط أحد وجود الإيمان منه حقيقة ألا ترى أن من له سبع سنين مأمور بالصلاة على وجه التعليم وليس له اعتقاد صحيح للإيمان فثبت بذلك سقوط اعتبار وجود حقيقة الإيمان الرقبة ولما ثبت ذلك باتفاق السلف علمنا أن الاعتبار فيه بمن لحقته سمة الإيمان على أي وجه سمي والصبي بهذه الصفة إذا كان أحد أبويه مسلما فوجب جوازه عن الكفارة
قوله تعالى إلا أن يصدقوا قال أبو بكر يعني والله أعلم إلا أن يبرئ أولياء القتيل من الدية فسمى الإبراء منها صدقة وفيه دليل على أن من كان له على آخر دين فقال قد تصدقت به عليك أن ذلك براءة صحيحة وأنه لا يحتاج في صحة هذه البراءة إلى

قبول المبرأ منه ولذلك
قال أصحابنا إن البراءة واقعة ما لم يردها المبرأ منه وقال زفر لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة وكذلك الصدقة وجعل بمنزلة هبة الأعيان وظاهر الآية يدل على صحة قول أصحابنا لأنه لم يشرط القبول ولأن الدين حق فيصح إسقاطه كالعفو عن دم العمد والعتق ولا يحتاج إلى قبول وقال أصحابنا إذا رد المبرأ منه البراءة من الدين عاد الدين وقال غيرهم لا يعود وجعلوه كالعتق والعفو عن دم العمد والدليل على صحة قولنا أن البراءة من الدين يلحقها الفسخ ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب برئ فإن هلك الثوب قبل القبض بطلت البراءة وعاد الدين والعتق والعفو عن الدم لا ينفسخان بحال ويدل أيضا على وقوع البراءة من الدين بلفظ التمليك أن الصدقة من ألفاظ التملك وقد حكم بصحة البراءة بها وأنه ليس بمنزلة الأعيان إذا ملكها غيره بلفظ الإبراء فلا يملك مثل أن يقول قد أبرأتك من هذا العبد فلا يملكه وإن قبل البراءة وإذا قال قد تصدقت بمالي عليك من الدين أو قد وهبت لك ما لي عليك صحت البراءة ويدل على ذلك أن من له على غيره دين وهو غني فقال قد تصدقت به عليك برئ منه لأن الله تعالى لم يفرق بين الغني والفقير في ذلك ويدل على أن الأهل يعبر به عن الأولياء والورثة لأن قوله فدية مسلمة إلى أهله معناه إلى ورثته وقال محمد بن الحسن فيمن أوصى لأهل فلان أن القياس أن يكون لزوجاته إلا أني قد تركت القياس وجعلته لكل من كان في عياله قال أبو بكر الأهل اسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله وعلى أتباع الرجل وأشياعه قال الله تعالى إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك فكان ذلك على جميع أهل منزله من أولاده وغيرهم وقال فأنجيناه وأهله أجمعين ويقع على من اتبعه في دينه كقوله ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له ونجيناه وأهله من الكرب العظيم فسمى أتباعه في دينه أهله وقال في ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فاسم الأهل يقع على معان مختلفة وقد يطلق اسم الأهل ويراد به الآل وهو قراباته من قبل الأب كما يقال آل النبي وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهما سواء
باب شبه العمد
قال أبو بكر أصل أبي حنيفة في ذلك أن العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه

مثل الذبح بليطة قصبة أو شقة العصا أو بكل شيء له حد يعمل عمل السلاح أو بحرقه بالنار فهذا كله عنده عمد محض فيه القصاص ولا نعلم في هذه الجملة خلافا بين الفقهاء وقال أبو حنيفة ما سوى ذلك من القتل بالعصا والحجر صغيرا كان أو كبيرا فهو شبه العمد وكذلك التغريق في الماء وفيه الدية مغلظة على العاقلة وعليه الكفارة ولا يكون التغليظ عنده إلا في أسنان الإبل خاصة دون عددها وليس فيما دون النفس شبه عمد بل بأي شيء ضربه فعليه القصاص إذا أمكن وإن لم يكن فعليه أرشه مغلظا إذا كان من الإبل يسقط ما يجب وأصل أبي يوسف ومحمد أن شبه العمد مالا يقتل مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط ولو كرر ذلك حتىصار جملته مما يقتل كان عمدا وفيه القصاص بالسيف وكذلك إذا غرقه بحيث لا يمكنه الخلاف منه وهو قول عثمان البتي إلا أنه يجعل دية شبه العمد في ماله قال ابن شبرمة وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله يبدأ بماله فيؤخذ حتى لا يترك له شيء فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على عاقلته وقال ابن وهب عن مالك إذا ضربه بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدا فهو عمد وفيه القصاص ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما ثم ينصرف عنه وهو حي ثم يموت فتكون فيه القسامة وقال ابن القاسم عن مالك شبه العمد باطل إنما هو عمد أو خطأ وقال الأشجعي عن الثوري شبه العمد أن يضربه بعصا أو بحجر أو بيده فيموت ففيه الدية مغلظة ولا قود فيه والعمد ما كان بسلاح وفيه القود والنفس يكون فيها العمد وشبه العمد والخطأ الجراحة لا يكون فيها إلا خطأ أو عمد وروى الفضل بن دكين عن الثوري قال إذا حدد عودا أو عظما فجرح به بطن حرا فهذا شبه عمد ليس فيه قود قال أبو بكر هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه وقال الأوزاعي في شبه العمد الدية في ماله فإن لم يكن تماما فعلى العاقلة وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت فإن ثنى بالعصا فمات مكانه فهو عمد يقتل به والخطأ على العاقلة وقال الحسن بن صالح إذا ضربه بعصا ثم على فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص وإن على الثانية فلم يمت منها ثم مات بعدها فهو شبه عمد لا قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة والخطأ على العاقلة وقال الليث العمد ما تعمده إنسان فإن ضربه بأصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولي المقتول والخطأ فيه على العاقلة وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى شبه العمد وإنما يكون

خطأ أو عمدا وقال المزني في مختصره عن الشافعي إذا عمد رجل بسيف أو حجر أو سنان رمح أو ما يشق بحده فضرب به أو رمى به الجلد أو اللحم فجرحه جرحا كبيرا أو صغيرا فمات فعليه القود وإن شدخه بحجر أو تابع عليه الخنق ووالى بالسوط عليه حتى مات أو طبق عليه مطبقا بغير طعام ولا شراب أو ضربه بسوط في شدة حر أو برد مما الأغلب أنه يموت منه فمات فعليه القود وإن ضربه بعمود أو بحجر لا يشدخ أو بحد سيف ولم يجرح أو ألقاه في بحر قريب البر وهو يحسن العوم أو ما الأغلب أنه لا يموت مثله فمات فلا قود فيه وفيه الدية مغلظة على العاقلة
والدليل على ثبوت شبه العمد ما روى هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة بن جوشن عن عقبة بن أوس السدوسي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه ص - خطب يوم فتح مكة فقال في خطبته ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها
وروى إبراهيم عن عبيد بن نضلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط فقتلتها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بالدية على عصبة القاتلة وقضى فيما في بطنها بالغرة وروى يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقضى أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها ففي أحد هذين الحديثين أنها ضربتها بعمود فسطاط وفي الآخر أنها ضربتها بحجر
وقد روى أبو عاصم عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب نشد الناس قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في الجنين فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال إنني كنت بين امرأتين لي وأن إحداهما ضربت الأخرىبمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة وأن تقتل مكانها
وروى الحجاج بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر بمثله فذكر أبو عاصم والحجاج عن ابن جريج أنه أمر بقتل المرأة
وروى هذا الحديث هشام بن سليمان المخزومي عن ابن جريج عن ابن دينار وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار بإسناده ولم يذكرا فيه أنه أمر أن تقتل وذكر أبو عاصم والحجاج أنه أمر أن تقتل المرأة فاضطرب حديث ابن عباس في هذه القصة

وروى سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن حمل بن مالك قال كانت له امرأتان فرجمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب قلبها وهي حامل فألقت جنينا فماتت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقضى رسول الله ص - بالدية على عاقلة القاتلة وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة فكان حديث حمل بن مالك في إيجاب القود على المرأة مختلفا متضادا وروي في بعض أخبار ابن عباس في هذه القصة بعينها القصاص ولم يذكره في بعضها قال حمل بن مالك وهو صاحب القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أوجب الدية على عاقلة القاتلة فتضادت الأخبار في قصة حمل بن مالك وسقطت وبقي حديث المغيرة بن شعبة وأبي هريرة في نفي القصاص من غير معارض
وقد روى أبو معاوية عن حجاج عن قتادة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قتيل السوط والعصا شبه العمد وإثبات شبه العمد ضربا من القتل دون الخطأ فيه اتفاق السلف عندنا لا خلاف بينهم فيه وإنما الاختلاف بينهم في كيفية شبه العمد فأما أن يقول مالك لا أعرف إلا خطأ أو عمدا فإن هذا قول خارج عن أقاويل السلف كلهم وروى شريك عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل وليس فيهما قود وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم وهي العصا ثم يقول لا قود علي لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا أقدته فكان هذا عنده من العمد لأن مثله يقتل في الغالب عل ما قال أبو يوسف ومحمد ومما يبين إجماع الصحابة على شبه العمد وأنه قسم ثالث ليس بعمد محض ولا خطأ محض اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أسنان الإبل في الخطأ ثم اختلافهم في أسنان شبه العمد وأنها أغلظ من الخطأ منهم علي وعمر وعبدالله بن مسعود وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وأبو موسى والمغيرة بن شعبة كل هؤلاء أثبت أسنان الإبل في شبه العمد أغلظ منها في الخطأ على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى فثبت بذلك شبه العمد
ولما ثبت شبه العمد بما قدمنا من الآثار واتفاق السلف بعد اختلاف منهم في كيفيته احتجنا أن نعتبر شبه العمد فوجدنا عليا قال شبه العمد بالعصا والحجر العظيم ومعلوم أن شبه العمد اسم شرعي لا سبيل إلى إثباته إلا من جهة التوقيف إذ ليس في اللغة هذا الاسم لضرب من القتل فعلمنا أن عليا لم يسم القتل بالحجر العظيم شبه العمد إلا توقيفا ولم يذكر الحجر العظيم إلا والصغير والكبير متساويان عنده في سقوط القود به ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي

ابن قانع قال حدثنا المعمري قال حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله الرقي قال حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي وخالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها فقد حوى هذا الخبر معاني منها إثباته قتيل خطأ العمد قسما غالب العمد وغير الخطأ وهو شبه العمد ومنها إيجابه الدية في قتيل السوط والعصا من غير فرق بين ما يقتل مثله وبين مالا يقتل مثله وبين من يوالي الضرب حتى يقتله وبين من يقتل بضربة واحدة ومنها أنه جمع بين السوط والعصا والسوط لا يقتل مثله في الغالب والعصا يقتل مثلها في الأكثر فدل على وجوب التسوية بين ما يقتل وبين مالا يقتل
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عقبة بن مكرم قال حدثنا يونس بن بكير قال حدثنا قيس بن الربيع عن أبي حصين عن إبراهيم بن بنت النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن محمد العسكري قال حدثنا محمد بن المثنيى قال حدثنا يوسف بن يعقوب الضبعي قال حدثنا سفيان الثوري وشعبة عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطأ أرش وأيضا لما اتفقوا على أنه لو جرحه بسكين صغيرة لم يختلف حكمها وحكم الكبيرة في وجوب القصاص فوجب أن لا يختلف حكم الصغير والكبير من الحجر والخشب في سقوطه وهذا يدل على أن الحكم في إيجاب القصاص متعلق بالآلة وهي أن تكون سلاحا أو يعمل عمل السلاح فإن قيل على ما روينا من قوله ص -
قتيل خطأ العمد إن العمد لا يكون خطأ ولا الخطأ عمدا وهذا يدل على فساد الحديث
قيل ليس كذلك لأنه سماه خطأ في الحكم عمد في الفعل وذلك معنى صحيح لأنه دل به على التغليظ من حيث هو عمد وعلى سقوط القود من حيث هو في حكم الخطأ
فإن قيل قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله النفس بالنفس وسائر الآي التي فيها إيجاب القصاص يوجبه على القاتل بالحجر العظيم
قيل له لا خلاف أن هذه الآي إنما أوجبت القصاص في العمد وهذا ليس بعمد ومع ذلك فإن الآي وردت في إيجاب القصاص في الأصل والآثار التي

ذكرنا واردة فيما يجب فيه القصاص فكل واحد منهما مستعمل فيما ورد فيه لا يعترض بأحدهما على الآخر وأيضا قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وسمى النبي صلى الله عليه وسلم - شبه العمد قتيل الخطأ فلما أطلق عليه اسم الخطأ وجب أن تكون فيه الدية فإن احتجوا بحديث ابن عباس في قصة المرأتين قتلت إحداهما الأخرى بمسطح فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم - عليها القصاص قيل له قد بينا اضطراب الحديث وما عارضه من رواية حمل بن مالك في إيجاب الدية دون القود ولو ثبت القود أيضا فإن ذلك إنما كان في شيء بعينه ليس بعموم في جميع من قتل بمسطح وجائز أن يكون كان فيه حديد وأصابها الحديد دون الخشب فمن أوجب النبي صلى الله عليه وسلم -
فيه القود فإن احتجوا بما روي أن يهوديا رضخ رأس جارية بالحجارة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بأن يرضح رأسه قيل له جائز أن يكون كان لها مروة وهي التي لها حد يعمل عمل السكين فلذلك أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - قتله وأيضا روى عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن يهوديا قتل جارية من الأنصار على حلي لها وألقاها في نهر ورضخ رأسها بالحجارة فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات ولا خلاف أن الرجم لا يجب على وجه القود وجائز أن يكون اليهودي مستأمنا فقتل الجارية ولحق بأرضه فأخذ وهو حربي لقرب منازلهم من المدينة فقتله على أنه محارب حربي ورجمه كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا الإبل وقتلوا الراعي وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ماتوا ثم نسخ القتل على وجه المثلة
فصل وأما ما دون النفس فإنه ليس فيه شبه العمد من جهة الآلة ويجب فيه القصاص بحجر شجه أو بحديد وفيه شبه العمد من جهة التغليظ إذا تعذر فيه القصاص وإنما لم يثبت فيما دون النفس بشبه العمد لأن الله تعالى قال والجروح قصاص وقال والسن بالسن ولم يفرق بين وقوعها بحديد أو غيره والأثر إنما ورد في إثبات خطأ معمد في القتل وذلك اسم شرعي لا يجوز إثباته إلا من طريق التوقيف ولم يرد فيما دون النفس توقيف في شبه العمد وأثبتوا فيه التغليظ إذا لم يمكن فيه القصاص لأنه بمنزلة شبه العمد حين كان عمدا في الفعل وقد روي عن عمر نضر الله وجهه أنه قضى قتادة المدلجي حين حذف ابنه بالسيف فقتله بمائة من الإبل مغلظة حين كان عمدا سقط فيه القصاص

كذلك فيما دون النفس إذا كان عمدا قد سقط فيه القصاص إيجاب قسطه من الدية مغلظا ومع ذلك فلا نعلم خلافا بين الفقهاء في إيجاب القصاص في الجراحات التي يمكن القصاص فيها بأي شيء جرح قال أبو بكر قد ذكرنا الخطأ وشبه العمد في سورة البقرة والله أعلم
باب
مبلغ الدية من الإبل قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
بمقدار الدية وأنها مائة من الإبل فمنها حديث سهل بن أبي حثمة في القتيل الموجود بخيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم - وداه بمائة من الإبل وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمكة فقال ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون خلفة في بطونها أولادها وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي النفس مائة من الإبل وروى عمرو بن دينار عن طاوس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - دية الخطأ ماله من الإبل وذكر علي بن موسى القمي قال حدثنا يعقوب بن شيبة قال حدثنا قيس بن حفص قال حدثنا الفضل بن سليمان النميري قال حدثنا غالب بن ربيعة بن قيس النميري قال أخبرني قرة بن دعموص النميري قال أتيت أنا وعمي النبي صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله إن لي عند هذا دية أبي فمره أن يعطينيها قال أعطه دية أبيه وكان قتل في الجاهلية قلت يا رسول الله هل لأمي فيها حق قال نعم وكان ديته مائة من الإبل فقد حوى هذا الخبر أحكاما منها أن المسلم والكافر في الدية سواء لأنه أخبر أنه قتل في الجاهلية ومنها أن المرأة ترث من دية زوجها ومنها أن الدية مائة من الإبل ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في ذلك والله أعلم
باب
أسنان الإبل في دية الخطأ قال أبو بكر اختلف السلف في ذلك
فروى علقمة عن الأسود عن عبدالله بن مسعود في دية الخطأ أخماسا وعشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعن عمر بن الخطاب أخماسا أيضا وروى عاصم بن ضمرة وإبراهيم عن علي في دية الخطأ أرباعا خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون أربعة

أسنان مثل أسنان الزكاة وقال عثمان وزيد بن ثابت في الخطأ ثلاثون بنات لبون وثلاثون جذعة وعشرون بنو لبون وعشرون بنات مخاض وروي عنهما مكان الجذاع الحقاق قال أبو بكر واتفق فقهاء الأمصار أصحابنا ومالك والشافعي أن دية الخطأ أخماس إلا أنهم اختلفوا في الأسنان من كل صنف فقال أصحابنا جميعا عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وقال مالك والشافعي عشرون بنات مخاض وعشرون بنو لبون وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن داود بن توبة التمار قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا حجاج بن أرطارة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل الدية في الخطأ أخماسا واتفق الفقهاء على استعمال هذا الخبر في الأخماس يدل على صحته ولم يبين فيه كيفية الأسنان فروى منصور عن إبراهيم عن ابن مسعود في دية الخطأ أخماسا وذكر الأسنان مثل قول أصحابنا فهذا يدل على أن الأخماس التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم - كانت على هذا الوجه لأنه غير جائز أن يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
شيئا ثم يخالفه إلى غيره فإن قيل خشف بن مالك مجهول
قيل له استعمال الفقهاء الخبرة في إثبات الأخماس يدل على صحته واستقامته وأيضا فإن قول من جعل في الخطأ مكان بنو لبون بني مخاض أولى لأن بني لبون بمنزلة بنات مخاض لقوله ص - فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون فيصير بمنزلة من أوجب أربعين بنات مخاض إذا أوجب عشرين بني لبون وعشرين بنات مخاض وأيضا فإن بني لبون فوق بني مخاض ولا يجوز إثبات زيادة ما بين بني لبون وبنات مخاض إلا بتوقيف وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم - الدية مائة من الإبل يقتضي جواز ما يقع عليه الاسم فلا تثبت الزيادة إلا بدلالة ومذهب أصحابنا أقل ما قيل فيه فهو ثابت وما زاد فلم تقم عليه دلالة فلا يثبت وأيضا قد ثبت مثل قول أصحابنا عن عبدالله بن مسعود في كيفية الأسنان ولم يرو عن أحد من الصحابة ممن قال بالأخماس خلافه وقول مالك والشافعي لا يروى عن أحد من الصحابة وإنما يروى عن سليمان بن يسار فكان قول أصحابنا أولى لاتفاق الجميع من فقهاء الأمصار على إثبات الأخماس وثبوت كيفيتها على الوجه الذي يذهب إليه أصحابنا عن عبدالله بن مسعود
فإن قيل إيجاب

بني لبون أولى من بني مخاض لأنها تؤخذ في الزكاة ولا تؤخذ بنو مخاض
قيل له ابن اللبون يؤخذ في الزكاة على وجه البدل وكذلك ابن مخاض يؤخذ عندنا على وجه البدل فلا فرق بينهما وأيضا فإن الديات غير معتبرة بالزكاة ألا ترى أنه يجب عند المخالف أربعون خلفة في شبه العمد ولا يجب مثلها في الزكاة والله أعلم
باب
أسنان الإبل في شبه العمد روي عن عبدالله بن مسعود في شبه العمد أرباعا خمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهي مثل أسنان الإبل في الزكاة
وروي عن علي وأبي موسى والمغيرة بن شعبة في شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنيةإلى بازل عامها كلها خلفة وعن عثمان وزيد بن ثابت ثلاثون بنات لبون وثلاثون حقة وأربعون جذعة خلفة
وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي في شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف دية شبه العمد أرباع على ما روي عن عبدالله بن مسعود وقال محمد دية شبه العمد أثلاث ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة والخلفة هي الحوامل وهو قول سفيان الثوري وروي مثله عن عمر وزيد بن ثابت ومن قدمنا ذكره من السلف
وروى ابن القاسم بن مالك أن الدية المغلظة في الرجل يحذف ابنه بالسيف فيقتله فتكون عليه الدية مغلظة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهي حالة قال والجد إذا قتل ولد ولده على هذا الوجه مثل الأب فإن قطع يد الولد وعاش ففيه نصف الدية مغلظة وقال مالك تغلظ على أهل الورق والذهب أيضا وهو أن ينظر إلى قيمة الثلاثين من الحقة والثلاثين من الجذعة والأربعين من الخلفة فيعرف كم قيمتهن ثم ينظر إلى دية الخطأ أخماسا من سنان عشرين بنت مخاض وعشرين ابن لبون وعشرين بنات لبون وعشرين حقة وعشرين جذعة ثم ينظر كم فضل ما بين دية الخطأ والدية المغلظة فيزاد في الرقة على قدر ذلك قال وهو على قدر الزيادة والنقصان في سائر الأزمان وإن صارت دية التغليظ ضعفي دية الخطأ زيد عليه من الورق بقدر ذلك وقال الثوري في دية شبه العمد من

الورق يزاد عليها بقدر ما بين دية الخطأ إلى دية شبه العمد في أسنان الإبل نحو ما قال مالك وهو قول الحسن بن صالح
قال أبو بكر لما ثبت أن دية الخطأ أخماس بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم - وبما قدمنا من الحجاج ثم اختلفوا في شبه العمد فجعله بعضهم أرباعا وبعضهم أثلاثا كان قول من قال بالأرباع أولى لأن في الأثلاث زيادة تغليظ لم تقم عليها دلالة وقول النبي صلى الله عليه وسلم - الدية مائة من الإبل يوجب جواز الكل والتغليظ بالأرباع متفق عليه والزيادة عليها غير ثابتة فظاهر الخبر ينفيها فلم نثبتها وأيضا فإن في إثبات الخلفات وهي الحوامل إثبات زيادة عدد فلا يجوز لأنها تصير أكثر من مائة لأجل الأولاد
فإن قيل في حديث القاسم بن ربيعة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في قتيل خطأ العمد مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها وقد احتججتم به في إثبات شبه العمد فهلا أثبتم الأسنان
قيل له أثبتنا به شبه العمد لاستعمال الصحابة إياه في إثبات شبه العمد ولو كان ذلك ثابتا لكان مشهورا ولو كان كذلك لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في إثبات شبه العمد وليس يمتنع أن يشتمل خبر على معان فيثبت بعضها ولا يثبت بعض إما لأنه غير ثابت في الأصل أو لأنه منسوخ وأما التغليظ في الورق والذهب فإنه لا يخلو أصل الدية من أن يكون واجبا من الإبل وأن الورق والذهب مأخوذان عنها على أنهما قيمة لها أو أن تكون الدية في الأصل واجبة في أحد الأصناف الثلاثة من الدراهم والدنانير والإبل لا على أن بعضها بدل من بعض فإن كانت الإبل هي الدية وإنما تؤخذ الدراهم والدنانير بدلا منها فلا اعتبار بما ذكره مالك من إيجاب فضل ما بين دية الخطأ إلى الدية المغلظة وإنما الواجب أن يقال أن عليه قيمة الإبل على أسنان التغليظ وكذلك دية الخطأ ينبغي أن تعتبر فيها قيمة الإبل على أسنان الخطأ وأن لا تعتبر الدراهم والدنانير في الديات مقدرا محدودا فلا يقال أن الدية من الدراهم عشرة آلاف ولا اثنا عشر ألفا ولا من الذهب ألف دينار بل ينظر في سائر الأزمان إلى قيمة الإبل فإن كانت ستى آلاف أوجب ذلك من الدراهم بغير زيادة خمسة عشر ألفا أوجب ذلك وكذلك قيمتها من الدنانير فلما قال السلف في الدية أحد قولين إما عشرة آلاف وإما اثنا عشر الفا وقالوا أنها من الدنانير ألف دينار حصل الاتفاق من الجميع على أن الزيادة على هذه المقادير والنقصان منها غير سائغ وفي ذلك

دليل على أن الدراهم والدنانير هي ديات بأنفسها لا بدلا من غيرها وإن كان كذلك لم يجز التغليظ فيها من وجهين أحدهما أن إثبات التغليظ طريقه التوقيف أو الاتفاق ولا توقيف في إثبات التغليظ في الدراهم والدنانير ولا اتفاق والثاني أن التغليظ في الإبل إنما هو من جهة الأسنان لا من جهة زيادة العدد وفي إثبات التغليظ من جهة زيادة الوزن في الورق والذهب خروج عن الأصول ووجه آخر يدل على أن الدراهم والدنانير ليست على وجه القيمة عن الإبل وهو أنه معلوم أن القاضي يقضي على العاقلة إذا كانت من أهل الورق بالورق وإذا كانت من أهل الذهب بالدنانير فلو كانت الإبل هي الواجبة والدراهم والدنانير بدل منها لما جاز أن يقضي القاضي فيها بالدراهم والدنانير على أن تؤديها في ثلاث سنين لأنه دين بدين فلما جاز ذلك دل على أنها ديات بأنفسها ليست أبدالا عن غيرها ويدل على أن التغليظ غير جائز في الدراهم والدنانير أن عمر رضي الله عنه جعل الدية من الذهب ألف دينار ومن الورق ما اختلف عنه فيه فروى عنه أهل المدينة اثنا عشر ألفا وروى عنه أهل العراق عشرة آلاف ولم يفرق في ذلك بين دية شبه العمد والخطأ وذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف من أحد منهم عليه فدل على أن اعتبار التغليظ فيها ساقط ويدل عليه أيضا أن الصحابة قد اختلفت في كيفية التغليظ في أسنان الإبل لما كان التغليظ فيها واجبا ولو كان التغليظ في الورق والذهب واجبا لاختلفوا فيه حسب اختلافهم في الإبل فلما لم يذكر عنهم خلاف في ذلك وإنما روي عنهم في الذهب ألف دينار وفي الدراهم عشرة آلاف أو اثنا عشر الفا من غير زيادة ولا نقصان ثبت بإجماعهم على نفي التغليظ في غير الإبل
فإن قيل على ما ذكرنا من الأصول لو كان من الإبل لكان قضاء القاضي عليهم بالدية من الدراهم يوجب أن يكون دينا بدين إن هذا كما يقولون فيمن تزوج امرأة على عبد وسط أنه إن جاء بالقيمة دراهم قبلت منه ولم يكن ذلك بيع دين بدين
قيل له القاضي عندنا لا يقضي عليه بدراهم إذا تزوجها على عبد ولكنه يقول له إن شئت فأعطها عبدا وسطا وإن شئت قيمته دراهم فليس فيما قلنا بيع دين بدين والدية يقضي بها القاضي على العاقلة دراهم ولا يقبل منهم الإبل إذا قضى بذلك وعلى أنه إنما تعتبر قيمة العبد في وقت ما يعطي قيمته دراهم والإبل لا تعتبر قيمتها إذا أراد القضاء بالدراهم سواء نقصت قيمتها أو زادت
واختلف

السلف وفقهاء الأمصار في المقتول في الحرم والشهر الحرام فقال أبو حنيفة ومحمد وزفر وابن أبي ليلى ومالك القتل في الحرم والشهر الحرام كهو في غيره فيما يجب من الدية والقود وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام والحرم هل تغلظ الدية فيه بلغنا أنه إذا قتل في الحرم أو الشهر الحرام زيد العقل ثلثه ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل وذكر المزني عن الشافعي في مختصره وذكر تغليظ الدية في شبه العمد وقال الدية في هذا على العاقلة وكذلك الجراح وكذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذوي الرحم وروي عن عثمان أنه قضى في دية امرأة قتلت بمكة بدية وثلث وروى إبراهيم عن الأسود أن رجلا أصيب عند البيت فسأل عمر عليا فقال له على ديته من بيت المال فلم ير فيه على أكثر من الدية ولم يخالفه عمر وقال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وهو عام في الحل والحرم ولما كانت الكفارة في الحرم كهي في الحل لا فرق بينهما وإن كان ذلك كله حقا لله تعالى وجب أن تكون الدية كذلك إذ الدية حق لآدمي ولا تعلق لها بالحرم ولا بالشهر الحرام لأن حرمة الحرم والشهر الحرام إنما هي حق لله تعالى فلو كان لحرمة الحرم والأشهر تأثير في إلزام الغرم لكان تأثيره في الكفارة التي هي حق لله تعالى أولى ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل ولم يفرق بين الحل والحرم وقد اختلف التابعون في ذلك فروي عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبدالرحمن وخارجة بن زيد وعبيدالله بن عبدالله وسليمان بن يسار الدية في الحرم كهي في غيره وكذلك الشهر الحرام وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله أن من قتل في الحرم زيد على ذلك ديته مثل ثلثها والله أعلم
باب الدية من غير الإبل
قال أبو حنيفة الدية من الإبل والدراهم والدنانير فمن الدراهم عشرة آلاف درهم ومن الدنانير ألف دينار وأبو حنيفة لا يرى الدية إلا من الإبل والورق والذهب وقال مالك والشافعي من الورق اثنا عشر ألفا ومن الذهب ألف دينار وقال مالك أهل الذهب أهل الشام ومصر وأهل الورق أهل العراق وأهل الإبل أهل البوادي وقال مالك ولا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ومن أهل الذهب إلا الذهب ومن أهل الورق إلا الورق وقال

أبو يوسف ومحمد الدية من الورق عشرة وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الإبل مائة بعير وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الشاء ألفا شاة وعلى أهل الحلل مائتا حلة يمانية ولا يؤخذ من الغنم والبقر في الدية إلا الثني فصاعدا ولا تؤخذ من الحلل إلا اليمانية قيمة كل حلة خمسون درهما فصاعدا وروي عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبيدة السلماني عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل الإبل مائة من الإبل
قال أبو بكر الدية قيمة النفس وقد اتفق الجميع على أن لها مقدارا معلوما لا يزاد عليه ولا ينقص منه وأنها غير موكولة إلى اجتهاد الرأي كقيم المتلفات ومهور المثل ونحوهما وقد اتفق الجميع على إثبات عشرة آلاف واختلفوا فيما زاد فلم يجز إثباته إلا بتوقيف وقد روى هشيم عن يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قوم الإبل في الدية مائة من الإبل قوم كل بعير بمائة وعشرين درهما اثني عشر ألف درهم وقد روي عنه في الدية عشرة آلاف وجائز أن يكون من روى اثني عشر ألفا على أنها وزن ستة فتكون عشرة آلاف وزن سبعة وذكر الحسن في هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق قيمة الإبل لا أنه أصل في الدية وفي غير هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق وروى عكرمة عن أبي هريرة في الدية عشرة آلاف درهم
فإن احتج محتج بما روى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الدية اثنا عشر ألفا وروى ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر قضى في الدية باثني عشر الفا وروى نافع بن جبير عن ابن عباس مثله والشعبي عن الحارث عن علي مثله
قيل له أما حديث عكرمة فإنه يرويه ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيه ابن عباس ويقال إن محمد بن مسلم غلط في وصله وعلى أنه لو ثبت جميع ذلك احتمل أن يريد بها اثني عشر الف درهم وزن ستة وإذا احتمل ذلك لم يجز إثبات الزيادة بالاحتمال ويثبت عشرة آلاف بالاتفاق وأيضا قد اتفق الجميع على أنها من الذهب ألف دينار وقد جعل في الشرع كل عشرة دراهم قيمة لدينار ألا ترى أن الزكاة في عشرين مثقالا وفي مائتي درهم فجعلت مائتا الدرهم نصابا بإزاء العشرين دينارا كذلك ينبغي أن يجعل بإزاء كل دينار من الدية عشرة دراهم
وإنما لم يجعل أبو حنيفة الدية من غير الأصناف

الثلاثة من قبل أن الدية لما كانت قيمة النفس كان القياس أن لا تكون إلا من الدراهم والدنانير كقيم سائر المتلفات إلا أنه لما جعل النبي صلى الله عليه وسلم - قيمتها من الإبل اتبع الأثر فيها ولم يوجبها من غيرها والله أعلم
باب ديات أهل الكفر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي وسفيان الثوري والحسن بن صالح دية الكافر مثل دية المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي سواء وقال مالك بن أنس دية أهل الكتاب على دية المسلم ودية المجوسي ثمان مائة درهم وديات نسائهم على النصف من ذلك وقال الشافعي دية اليهودي والنصراني ثلث الدية ودية المجوسي ثمان مائة والمرأة على النصف
قال أبو بكر الدليل على مساواتهم المسلمين في الديات قوله عز و جل ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا إلى قوله وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله والدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلا من نفس الحر لأن الديات قد كانت متعالمة معروفة بينهم قبل الإسلام وبعده فرجع الكلام إليها في قوله في قتل المؤمن خطأ ثم لما عطف عليه قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله كانت هذه الدية المذكورة بديا إذ لو لم تكن كذلك لما كانت دية لأن الدية اسم لمقدار معلوم من بدل النفس لا يزيد ولا ينقص وقد كانوا قبل ذلك يعرفون مقادير الديات ولم يكونوا يعرفون الفرق بين دية المسلم والكافر فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم وأن يكون قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله راجعا إليها كما عقل من دية المسلم أنها المعتاد المتعارف عندهم ولولا أن ذلك كذلك لكان اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان وليس الأمر كذلك
فإن قيل فقوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله لا يدل على أنها مثل دية المسلم كما أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ولا يخرجها ذلك من أن تكون دية كاملة لها
قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن الله تعالى إنما ذكر الرجل في الآية فقال ومن قتل مؤمنا خطأ ثم قال وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فكما اقتضى فيما ذكره للمسلم كمال الدية كذلك دية المعاهد لتساويهما في اللفظ مع وجود التعارف عندهم في مقدار الدية والوجه الآخر أن دية المرأة لا يطلق عليها اسم الدية

وإنما يتناولها الاسم مقيدا ألا ترى أنه يقال دية المرأة نصف الدية وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو كمالها
فإن قيل قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يحتمل أن يريد به وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق فاكتفى بذكر الإيمان للقتيلين الأولين عن إعادته في القتيل
الثالث قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أنه قد تقدم في أول الخطاب ذكر القتيل المؤمن خطأ وحكمه وذلك عموم يقتضي سائر المؤمنين إلا ما خصه الدليل فغير جائز إعادة ذكر المؤمن بذلك الحكم في سياق الآية مع شمول أول الآية له ولغيره فعلمنا أنه لم يرد المؤمن ممن كان بيننا وبينهم ميثاق والثاني لما يقيده بذكر الإيمان وجب إجراؤه في الجميع من المؤمنين والكفار من قوم بيننا وبينهم ميثاق وغير جائز تخصيصه بالمؤمنين دون الكافرين بغير دلالة والثالث أن إطلاق القول بأنه من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أن قول القائل إن هذا الرجل من أهل الذمة يفيد أنه ذمي مثلهم وظاهر قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يوجب أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أنه لما أراد بيان حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقيده بذكر الإيمان لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه كافر مثلهم والرابع أنه لو كان كما قال هذا القائل لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه فهذه الوجوه كلها تقتضي المساواة وفساد هذا التأويل
ويدل على صحة قول أصحابنا أيضا ما رواه محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزلت فإن جاؤك فاحكم بينهم الآية قال كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم قال فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بينهم في الدية قال أبو بكر لما قال أدوا الدية ثم قال سوى بينهم في الدية دل ذلك على أنه راجع إلى الدية المعبودة المبدوء بذكرها لأنه لو كان رد بني النضير إلى نصفها لقال سوى بينهم في نصف الدية ولم يقل سوى بينهم الدية ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -
في النفس مائة من الإبل وهو عام في الكافر والمسلم وروى مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - ودى العامريين وكانا مشركين دية الحرين المسلمين وروى محمد بن عبدوس قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا أبو بكر قال سمعت نافعا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه ودى ذميا دية مسلم وهذان الخبران يوجبان

مساواة الكافر للمسلم في الدية لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - وداهما بما في الآية في قوله عز و جل وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فدل على أن المراد من الآية دية المسلم وأيضا لما لم يكن مقدار الدية مبينا في الكتاب كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم -
في ذلك واردا مورد الباين وفعله ص - إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب وروى أبو حنيفة عن الهيثم عن أبي الهيثم أن النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا دية المعاهد دية الحر المسلم وروى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال كان أبو بكر وعمر وعثمان يجعلون دية اليهودي والنصراني إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم وروى سعيد بن أبي أيوب قال حدثني يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبدالله بن الحكم أخبره أن رفاعة بن السموءل اليهودي قتل بالشام فجعل عمر ديته ألف دينار وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن مسعود قال دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين وهو قول علقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والشعبي وروى الزهري عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل كافرا من أهل العقد فقضى عليه عثمان بن عفان بدية المسلم فهذه الأخبار وما ذكرنا من أقاويل السلف مع موافقتها لظاهر الآية توجب مساواة الكافر للمسلم في الديات وقد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمان مائة قال سعيد وقضى عثمان في دية المعاهد بأربعة آلاف
قال أبو بكر وقد روي عنهما خلاف ذلك وقد ذكرناه واحتج المخالف بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة عام الفتح قال في خطبته ودية الكافر نصف دية المسلم وبما روى عبدالله بن صالح قال حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - دية المجوس ثمان مائة
قيل له قد علمنا حضور هؤلاء الصحابة الذين ذكرنا عنهم مقدار الدية خطبة النبي صلى الله عليه وسلم -
بمكة فلو كان ذلك ثابتا لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره وأيضا قد روي عنه ص - أنه قال دية المعاهد مثل دية المسلم وأنه ودى العامريين دية الحرين المسلمين وهذا أولى لما فيه من الزيادة ولو تعارض الخبران لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر عن الرسول ص - في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل فيه بين المسلم والكافر أولى فوجب تساويهما في الديات وأما حديث عقبة بن عامر في دية المجوسي فإنه حديث واه لا يحتج بمثله لأن ابن

لهيعة ضعيف لا سيما من رواية عبدالله بن صالح عنه
فإن قيل قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله عطفا على ما ذكر في دية المسلم لا يدل على تساوي الديتين كما لو قال من قتل عبدا فعليه قيمته ومن استهلك ثوبا فعليه قيمته لم يدل على تساوي القيمتين
قيل له الفرق بينهما أن الدية اسم لمقدار من المال بدلا من نفس الحر كانت معلومة المقدار عندهم وهي مائة من الإبل فمتى أطلقت كان من مفهوم اللفظ هذا القدر فإطلاق لفظ الدية قد أنبأ عن هذا المعنى وعطفها على الدية المتقدمة مع تساوي اللفظ فيهما بأنها دية مسلمة قد اقتضى ذلك أيضا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
باب
المسلم يقيم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا قال الله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن قال يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار فلا دية له ولكن عتق رقبة مؤمنة
قال أبو بكر هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا لأنه غير جائز أن يكون مراده في مؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال وأن كون أقربائه كفارا لا يوجب سقوط ديته لأنهم بمنزلة الأموات حيث لا يرثونه وروى عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس فإن كان من قوم عدو لكم الآية قال كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يرجع إلى قومه فيكون فيهم فيصيبه المسلمون خطأ في سرية أو غزاة فيعتق الذي يصيبه رقبة قال أبو بكر إذا اسلم في دار الإسلام لم تسقط ديته برجوعه إلى دار الحرب كسائر المسلمين لأن ما بينه وبين المشركين من القرابة لا تأثير له في إسقاط قيمة دمه كسائر أهل دار الإسلام إذا دخلوا دار الحرب بأمان على القاتل الدية وروي عن ابن عباس وقال قتادة هو المسلم يكون في المشركين فيقتله المؤمن ولا يدري ففيه عتق رقبة وليس فيه دية وهذا على أنه يقتل قبل الهجرة إلى دار الإسلام وروى مغيرة عن إبراهيم فإن كان من قوم عدو لكم قال هو المؤمن يقتل وقومه مشركون ليس بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم -
عهد فعليه تحرير رقبة وإن كان بينهم وبين النبي ص -
عهد أدى ديته إلى قرابته الذين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم - عهد
قال أبو بكر وهذا لا معنى له من قبل أن أقرباءه لا يرثونه لأنهم كفار

وهو مسلم فكيف يأخذون ديته وإن كان قومه أهل حرب وهو من أهل الإسلام فالدية واجبة لبيت المال كمسلم قتل في الإسلام ولا وارث له
وقد اختلف فقهاء الأمصار فيمن قتل في دار الحرب وهو مؤمن قبل أن يهاجر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في الرواية المشهورة ومحمد في الحربي يسلم فيقتله مسلم مستأمن قبل أن يخرج فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ وإن كان مستأمنين دخلا دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فعليه الدية في العمد والخطأ والكفارة في الخطأ خاصة وإن كانا أسيرين فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطأ في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد الدية في العمد والخطأ وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الحربي يسلم في دار الحرب فيقتله رجل مسلم قبل أن يخرج إلينا أن عليه الدية استحسانا ولو وقع في بئر حفرها أو وقع عليه ميزاب عمله لم يضمن شيئا وهذا خلاف المشهور من قوله وخلاف القياس ايضا
وقال مالك إذا أسلم في دار الحرب فقتل قبل أن يخرج إلينا فعلى قاتله الدية والكفارة إن كان خطأ قال وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة إنما كان في صلح النبي صلى الله عليه وسلم -
أهل مكة لأن من لم يهاجر لم يورث لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة قال الله تعالى والذين لم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فلم يكن لمن يهاجر ورثة يستحقون ميراثه فلم تجب الدية ثم نسخ ذلك بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقال الحسن بن صالح من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه وقال الحسن إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام
وقال الشافعي إذا قتل المسلم مسلما في دار الحرب في الغارة أو الحرب وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود وعليه الكفارة وسواء كان المسلم أسيرا أو مستأمنا أو رجلا أسلم هناك وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود
قال أبو بكر لا يخلو قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة من أن يكون المراد به الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا او المسلم الذي له قرابات من أهل الحرب لأن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يحتمل المعنيين جميعا بأن يكون من

أهل دار الحرب وبأن يكون ذا نسب من أهل الحرب فلو خلينا والظاهر لأسقطنا دية من قتل في دار الإسلام من المسلمين إذا كان ذا قرابة من أهل الحرب لاقتضاء الظاهر ذلك فلما اتفق المسلمون على أن كونه ذا قرابة من أهل الحرب لا يسقط حكم دمه في إيجاب الدية أو القود إذا قتل في دار الإسلام دل ذلك على أن المراد من كان مسلما من أهل دار الحرب لم يهاجر إلى دار الإسلام فيكون الواجب على قاتله خطأ الكفارة دون الدية لأن الله تعالى إنما أوجب فيه الكفارة ولم يوجب الدية وغير جائز أن يزاد في النص إلا بنص مثله إذ كانت الزيادة في النص توجب النسخ
فإن قيل هلا أوجبت الدية بقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله قيل له غير جائز أن يكون هذا المؤمن مرادا بالمؤمن المذكور في أول الآية لأن فيها إيجاب الدية والرقبة فيمتنع أن نعطفه عليه ونشرط كونه من أهل دار الحرب ونوجب فيه الرقبة وهو قد أوجبها بديا مع الدية في ابتداء الخطاب وأيضا فإن قوله فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن استيناف كلام يتقدم له ذكر في الخطاب لأنه لا يجوز أن يقال أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه هذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في أول الخطاب
ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبدالله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إلى جثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي ص - فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن علي بن شعيب قال حدثنا ابن عائشة قال حدثنا حماد بن سلمة عن الحجاج عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال لا ذمة له قال ابن عائشة هو الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون فإن اصيب فلا دية له لقوله ص - فقد برئت منه الذمة
وقوله أنا بريء منه يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم ولما أمر لهم بنصف العقل في الحديث الأول كان ذلك على أحد وجهين إما أن يكون الموضع الذي قتل فيه كان مشكوكا في أنه من دار الحرب أو من دار الإسلام أو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
تبرع

به لأنه لو كان جميعه واجبا لما اقتصر على نصفه
وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا شيبان قال حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة قال حدثنا حميد بن هلال قال أتاني أبو العالية وصاحب لي فانطلقنا حتى أتينا بشر بن عاصم الليثي فقال أبو العالية حدث هذين فقال بشر حدثني عقبة بن مالك الليثي وكان من رهطه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - سرية فأغارت على قوم فشذ رجل من القوم واتبعه رجل من السرية ومعه السيف شاهره فقال الشاذ إني مسلم فضربه فقتله فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولا شديدا فقال القاتل يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مرارا تعرف المساءة في وجهه وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات قال أبو بكر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - بإيمان المقتول ولم يوجب على قاتله الدية لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي ظبيان قال حدثنا أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته النبي صلى الله عليه وسلم - فقال من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ وهذا الحديث ايضا يدل على ما قلنا لأنه لم يوجب عليه شيئا
وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا وأما قول مالك إن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم إنما كان حكما لمن أسلم ولم يهاجر وهو منسوخ بقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فإنه دعوى لنسخ حكم ثابت في القرآن بلا دلالة وليس في نسخ التوارث بالهجرة وإثباته بالرحم ما يوجب نسخ هذا الحكم بل هو حكم ثابت بنفسه لا تعلق له بالميراث وعلى أنه في حال ما كان التوارث بالهجرة قد كان من لم يهاجر من القرابات يرث بعضهم بعضا وإنما كانت الهجرة قاطعة للميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر فأما من لم يهاجر فقد كانوا يتوارثون بأسباب أخر فلو كان الأمر على ما قال مالك لوجب أن تكون ديته واجبة لمن لم يهاجر من أقربائه لأنه معلوم أنه

لم يكن ميراث من لم يهاجر مهملا لا مستحق له فلما لم يوجب الله تعالى له دية قبل الهجرة لا للمهاجرين ولا لغيرهم علمنا أنه كان مبقي على حكم الحرب لا قيمة لدمه وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يفيد أنه مالم يهاجر فهو أهل دار الحرب باق على حكمه الأول في أن لا قيمة لدمه وإن كان دمه محظورا إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم وإن لم يكن بينه وبينهم رحم بعد أن يجمعهم في الوطن بلد أو قرية أو صقع فنسبه الله إليهم بعد الإسلام إذ كان من أهل ديارهم ودل بذلك على أن لا قيمة لدمه وأما قول الحسن بن صالح في أن المسلم إذا لحق بدار الحرب فهو مرتد فإنه خلاف الكتاب والإجماع لأن الله تعالى قال والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد إسلامهم وأوجب علينا نصرتهم بقوله وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ولو كان ما قال صحيحا لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان وأن يكونوا بذلك مرتدين وليس هذا قول أحد فإن احتج محتج بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل وعبدان المروزي قالا حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ابق العبد إلى المشركين فقد حل دمه فإن هذا محمول عندنا على أنه قد لحق بهم مرتدا عن الإسلام لأن أباق العبد لا يبيح دمه واللحاق بدار الحرب كدخول التاجر إليها بأمان فلا يبيح دمه وأما قول الشافعي في أن من أصاب مسلما في دار الحارب وهو لا يعلمه مسلما فلا شيء عليه وإن علم إسلامه أقيد به فإنه متناقض من قبل أنه إذا ثبت أن لدمه قيمة لم يختلف حكم العمد والخطأ في وجوب بدله في العمد وديته في الخطأ فإذا لم يجب في الخطأ شيء كذلك حكم العمد فيه ولما ثبت بما قدمنا أنه لا قيمة لدم المقيم في دار الحرب بعد إسلامه قبل الهجرة إلينا وكان مبقي على حكم الحرب وإن كان محظور الدم أجروه أصحابنا مجرى الحربي في إسقاط الضمان عن متلف ماله لأن دمه أعظم حرمة من ماله ولا ضمان على متلف نفسه فماله أحرى أن لا يجب فيه ضمان وأن يكون كمال الحربي من هذا الوجه ولذلك أجاز أبو حنيفة مبايعته على سبيل ما يجوز مبايعته الحربي من بيع الدرهم بالدرهمين في دار الحرب وأما الأسير في دار الحرب فإن أبي حنيفة أجراه مجرى الذي أسلم هناك قبل أن يهاجر وذلك لأن

إقامته هناك لا على وجه الأمان وهو مقهور مغلوب فلما استويا من هذا الوجه استوى حكمهما في سقوط الضمان عن قاتلهما والله أعلم
ذكر
أقسام القتل وأحكامه قال أبو بكر القتل ينقسم إلى أربعة أنحاء واجب ومباح ومحظور وما ليس بواجب ولا محظور ولا مباح فأما الواجب فهو قتل أهل الحرب المحاربين لنا قبل أن يصيروا في أيدينا بالأسر أو بالأمان أو العهد وذلك في الرجال منهم دون النساء اللاتي لا يقاتلن ودون الصغار الذين لا يقاتلون المحاربين إذا خرجوا ممتنعين وقتلوا وصاروا في يد الإمام قبل التوبة وقتل أهل البغي إذا قاتلونا وقتل من غير قصد إنسانا محظور الدم بالقتل فعلينا قتله وقتل الساحر والزاني المحصن رجما وكل قتل وجب على وجه الحد فهذه ضروب القتل الواجب وأما المباح فهو القتل الواجب لولي الدم على وجه القود فهو مخير بين القتل والعفو فالقتل ههنا مباح ليس بواجب وكذلك قتل أهل الحرب إذا صاروا في أيدينا فالإمام مخير بين القتل والاستبقاء وكذلك من دخل دار الحرب وأمكنه القتل والأسر فهو مخير بين أن يقتل وبين أن يأسر وأما المحظور فإنه ينقسم إلى أنحاء منها ما يجب فيه القود هو قتل المسلم عمدا في دار الإسلام العاري من الشبهة فعلى القاتل القود في ذلك ومنها ما تجب فيه الدية دون القود وهو قتل شبه العمد وقتل الأب ابنه وقتل الحربي المستأمن والمعاهد وما يدخله الشبهة فيسقط القود وتجب الدية ومنها ما لا يجب فيه شيء وهو قتل المسلم في دار الحرب قبل أن يهاجر وقتل الأسير في دار الحرب من المسلمين على قول أبي حنيفة وقتل المولى لعبده هذه ضروب من القتل محظورة ولا يجب على القاتل فيها شيء غير التعزير وأما ما ليس بواجب ولا مباح ولا محظور فهو قتل المخطئ والساهي والنائم والمجنون والصبي وقد بينا حكمه فيما سلف قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة قال ابن عباس والشعبي وقتادة والزهري هو الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ فتجب على قاتله الدية والكفارة وهو قول أصحابنا وقال إبراهيم والحسن وجابر بن زيد أراد وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة وكانوا لا يوجبون الكفارة على قاتل الذمي وهو مذهب مالك وقد بينا فيما سلف أن ظاهر

الآية يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية كافرا ذا عهد وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ويدل عليه أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فوصفه بالإيمان لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لنا ويدل عليه أن الكافر المعاهد تجب على قاتله الدية وذلك مأخوذ من الآية فوجب أن يكون المراد الكافر المعاهد والله أعلم
باب
القتل العمد هل فيه كفارة قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة فنص على إيجاب الكفارة في قتل الخطأ وذكر قتل العمد في قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقال النفس بالنفس وخصه بالعمد فلما كان كل واحد من القتيلين مذكورا بعينه ومنصوصا على حكمه لم يجز لنا أن نتعدى ما نص الله تعالى علينا فيهما إذ غير جائز قياس المنصوصات بعضها على بعض وهذا قول أصحابنا جميعا
وقال الشافعي على قاتل العمد الكفارة ومع ذلك ففي إثبات الكفارة في العمد زيادة في حكم النص وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فغير جائر إثبات الكفارات قياسا وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لما نص الله على حكم كل واحد من القتيلين وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد فموجب الكفارة على العامد مدخل في أمره ما ليس منه
فإن قيل لما وجبت الكفارة في الخطأ فهي في العمد أوجب لأنه أغلظ قيل له ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيعتبر عظم المأثم فيها لأن المخطئ غير آثم فاعتبار المأثم فيه ساقط وأيضا قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - سجود السهو على الساهي ولا يجب على العامد وإن كان العمد أغلظ فإن احتجوا بحديث ضمرة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن العريف بن الديلي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار قيل له رواه ابن المبارك وهانئ بن عبدالرحمن بن أخي إبراهيم بن أبي عبلة هذا الحديث عن أبي عبلة فلم يذكر أنه أوجب بالقتل وهؤلاء أثبت من ضمرة بن ربيعة ومع ذلك لو ثبت الحديث على ما رواه ضمرة لم يدل على قول المخالف من وجوه أحدها

أنه تأويل من الراوي في قوله أوجب النار بالقتل لأنه قال يعني بالقتل والثاني أنه لو أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنة فلما لم يشرط لهم الإيمان فيها دل على أنها ليست من كفارة القتل وأيضا فإنما أمرهم بأن يعتقوا عنه ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه عن الكفارة قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة جعل الله من صفة رقبة القتل الإيمان ولا خلاف أنها لا تجزي إلا بهذه الصفة وهذا يدل على أن عتق الرقبة المؤمنة أفضل من الكافرة لأن هذه الصفة قد صارت شرطا في الفرض وكذلك من نذر أن يعتق رقبة مؤمنة لم تجزه الكافرة لأنه أوجبها مقرونة بصفة هي قربة وفي ذلك دليل على أن الصدقة على المسلمين أفضل منها على الكفار الذميين وإن كانت تطوعا وكذلك جعل الله التتابع في صوم كفارة القتل صفة زائدة ولا خلاف أنه لا يجزي إلا بهذه الصفة مع الإمكان وكذلك قال أصحابنا فيمن أوجب صوم شهر متتابع أنه لا يجزيه التفريق لإيجابه إياه بصفة هي قربة فوجبت حين أوجبها كما وجب المنذور من الصوم قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين قال أبو بكر لم ختلف الفقهاء أنه إذا صام بالأهلة أنه لا يعتبر فيه النقصان وأنها إن كانت ناقصة أو تامة أجزأته وقال النبي صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فأمر باعتبار الشهور بالأهلة وأمر عند عدم الرؤية باعتبار الثلاثين وإن ابتدأ صيام الشهرين من بعض الشهر اعتبر الشهر الثاني بالهلال وبقية الشهر الأول بالعدد تمام ثلاثين وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر الأهلة إلا أن يكون ابتداء صومه بالهلال وروي نحوه عن الحسن البصري والأول أصح لأنه قد روي في معنى قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أنها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وبقية من ربيع الآخر فاعتبر الكسر بالأيام على التمام وسائر الشهور بالأهلة وقوله فصيام شهرين متتابعين معلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبي ص

لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وكانت المرأة إذا كان عليها صوم شهرين متتابعين لم يكن في وسعها في العادة أن تصوم شهرين لا حيض فيهما سقط حكم أيام الحيض ولم يقطع حكم التتابع وصارت أيام الحيض بمنزلة الليل الذي لا يقطع التتابع وهو قول الشافعي وروى عن إبراهيم أنها تستقبل وقال أصحابنا إذا مرض في الشهرين فأفطر استقبل وقال مالك يصل ويجزيه وفرقوا بين الحيض والمرض لأنه يمكنه في العادة صيام شهرين متتابعين بلا مرض ولا يمكنها ذلك بلا حيض ووجه آخر وهو أن حدوث المرض لا يوجب الإفطار بفعله والحيض ينافي الصوم لا يفعلها فأشبه الليل ولم يقطع التتابع
قوله تعالى توبة من الله قيل فيه إن معناه اعملوا بما أوجبه الله للتوبة من الله أي ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم وقيل إنه خاص في سبب القتل فأمر بالتوبة منه وقيل معناه توسعة ورحمة من الله كما قال فتاب عليكم وعفا عنكم والمعنى وسع عليكم وسهل عليكم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام الآية روي أن سبب نزول هذه الآية أن سرية النبي صلى الله عليه وسلم -
لقيت رجلا ومعه غنيمات له فقال السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فقتله رجل من القوم فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال لم قتلته وقد أسلم فقال إنما قالها متعوذا من القتل فقال هلا شققت عن قلبه وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته قال ابن عمر وعبدالله بن أبي حدرد القاتل محلم بن جثامة قتل عامر بن الأضبط الأشجعي وروي أن القاتل مات بعد أيام فلما دفن لفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الدم عنده ثم أمر أن يلقى عليه الحجارة وهذه القصة مشهورة لمحلم بن جثامة وقد ذكرنا حديث اسامة بن زيد أنه قتل في سرية رجل قال لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم - قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها تعوذا فقال هلا شققت عن قلبه من لك بلا إله إلا الله وذكرنا أيضا حديث عقبة بن مالك الليثي في هذا المعنى وأن الرجل قال إني مسلم فقتله فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم - وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا

الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيدالله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا تقتله فقلت يا رسول الله قطع يدي قال لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها
وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا ابو النضر هاشم بن القاسم قال حدثنا المسعودي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا شرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند ثغرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرجع منه الرمح وقال أبو عبيدة جعل الله تعالى هذه الكلمة أمنة المسلم وعصمه ماله ودمه وجعل الجزية أمنة الكافر وعصمة ماله ودمه وهو نظير ما روي في آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وفي بعضها وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله رواه عمر وجرير بن عبدالله وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة وقالوا لأبي بكر الصديق حين أراد قتل العرب لما امتنعوا من أداء الزكاة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم فقال أبو بكر إلا بحقها وهذا من حقها فاتفقت الصحابة على صحة هذا الخبر وهو معنى قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا فحكم الله تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين وإن كان في المغيب على خلافه وهذا مما يحتج به في قبول توبة الزنديق متى أظهر الإسلام لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره إذا أظهر الإسلام وهو يوجب أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله أو قال إني مسلم أنه يحكم له بحكم الإسلام لأن قوله تعالى لمن ألقى إليكم السلم إنما معناه لمن استسلم فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام وإذا قرئ السلام فهو إظهار تحية الإسلام وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول في الإسلام وقال النبي صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قتل الرجل الذي أسلمت والذي قال لا إله إلا الله قتلته بعد ما أسلم فحكم له بالإسلام بإظهار هذا القول وقال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير لو أن يهوديا أو نصرانيا قال أنا مسلم لم يكن بهذا القول مسلما لأن كلهم

يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون إن ديننا هو الإيمان وهو الإسلام فليس في هذا دليل على الإسلام منهم وقال محمد ولو أن رجلا من المسلمين حمل على رجل من المشركين ليقتله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كان هذا مسلما وإن رجع عن هذا ضرب عنقه لأن هذا هو الدليل على الإسلام قال أبو بكر لم يجعل اليهودي مسلما بقوله أنا مسلم أو مؤمن لأنهم كذلك يقولون ويقولون الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه فليس في هذا القول دليل على إسلامه وليس اليهودي والنصراني بمنزلة المشركين الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا عبدة أوثان فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إني مسلم وإني مؤمن تركا لما كان عليه ودخولا في الإسلام فكان يقتصر منه على هذا القول لأنه كان لا يسمح به إلا وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم - وآمن به ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وإنما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود لأن اليهود قد كانوا يقولون لا إله إلا الله وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل فيثبتونه ثلاثة فعلمنا أن قول لا إله إلا الله إنما كان علما لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم - وتصديقا له فيما دعاهم إليه ألا ترى إلى قوله تعالى إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -
فمتى أظهر منهم مظهر الإيمان بالنبي ص - فهو مسلم
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يقل إني داخل في الإسلام ولا بريء من اليهودية ولا من النصرانية لم يكن بذلك مسلما وأحسب إني قد رأيت عن محمد مثل هذا لأن الذي ذكره محمد في السير الكبير خلاف ما رواه الحسن بن زياد ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن من هؤلاء من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه رسول إليكم ومنهم من يقول إن محمدا رسول الله لكنه لم يبعث بعد وسيبعث فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على إسلامه حتى يقول إني داخل الإسلام أو يقول إني بريء من اليهودية أو النصرانية فقوله عز و جل ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا

لو خلينا وظاهره لم يدل على ان فاعل ذلك محكوم له بالإسلام لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تنفوا عنه الإسلام ولا تثبتوه ولكن تثبتوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك ألا ترى أنه قال إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهي عن نفي سمة الإيمان عنه وليس في النهي عن نفي سمة الإيمان عنه إثبات الإيمان والحكم به ألا ترى أنا متى شككنا في إيمان رجلا لا نعرف حاله لم يجز لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نتثبت حتى نعلم حاله وكذلك لو أخبرنا مخبر بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يجز لنا أن نكذبه ولا يكون تركنا لتكذيبه تصديقا منا له كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية ليس فيه إثبات إيمان ولا كفر وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين حاله إلا أن الآثار التي قد ذكرنا قد أوجبت له الحكم بالإيمان لقوله ص - أقتلت مسلما وقتلته بعد ما أسلم وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فأثبت لهم حكم الإسلام بإظهار كلمة التوحيد وكذلك قوله في حديث عقبة بن مالك الليثي إن الله تعالى أبى علي أن أقتل مؤمنا فجعله مؤمنا بإظهار هذه الكلمة وروي أن الآية نزلت في مثل ذلك فدل ذلك على أن مراد الآية إثبات الإيمان له في الحكم بإظهار هذه الكلمة وقد كان المنافقون يعصمون دماءهم وأموالهم بإظهار هذه الكلمة مع علم الله تعالى باعتقادهم الكفر وعلم النبي صلى الله عليه وسلم - بنفاق كثير منهم فدل ذلك على أن قوله ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا قد اقتضى الحكم لقائله بالإسلام قوله تعالى تبتغون عرض الحياة الدنيا يعني به الغنيمة وإنما سمى متاع الدنيا عرضا لقلة بقائه على ما روي في الرجل الذي قتل الذي أظهر الإسلام وأخذ ما معه قوله تعالى وإذا ضربتم في سبيل الله يعني به السير فيها وقوله تعالى فتثبتوا قرئ بالتاء والنون وقيل إن الاختيار التبين لأن التثبت إنما هو للتبين والتثبت إنما هو سبب له وقوله تعالى كذلك كنتم من قبل قال الحسن كفارا مثلهم وقال سعيد بن جبير كنتم مستخفين بدينكم بين قومكم كما استخفوا
وقوله تعالى فمن الله عليكم يعني بإسلامكم كقوله تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقيل فمن الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم
قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر الآية يعني به تفضيل

المجاهدين على القاعدين والحض على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل فذكر بديا أنهما غير متساويين ثم بين التفضيل بقوله فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وقد قرئ غير بالرفع والنصب فالرفع على أنها نعت للقاعدين والنصب على الحال ويقال إن الاختيار فيها الرفع لأن الصفة أغلب على غير من معنى الاستثناء وإن كان كلاهما جائز أو الفرق بين غير إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء أنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل نحو جاءني القوم غير زيد وليست كذلك في الصفة لأنك تقول جاءني رجل غير زيد فغير ههنا صفة وفي الأول استثناء وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي
وقوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى يعني والله أعلم المجاهدين والقاعدين من المؤمنين وهذا دليل على ان فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحا إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه
وقوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ذكر ههنا درجات منه وذكر في أول الآية درجة فإنه روي عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرر فضلوا عليهم درجة واحدة والثاني على غير أهل الضرر فضلوا عليهم درجات كثيرة وأجرا عظيما وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففضلوا درجة واحدة والآخر الجهاد بالنفس والمال ففضلوا درجات كثيرة وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين وأراد بالآخر درجات الجنة
فإن قيل هل في الآية دلالة على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل الله من أجل معنى الاستثناء فيها قيل له لا دلالة فيها على التساوي لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضا على الجهاد وحثا عليه فاستثنى أولي الضرر إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا بالمجاهدين قوله عز و جل إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم الآية قيل فيه تقبض أرواحهم عند الموت وقال الحسن تحشرهم إلى النار وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولا

يهاجرون إلى المدينة فبين الله تعالى بما ذكر أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وبتركهم الهجرة وهذا يدل على فرض الهجرة في ذلك الوقت لولا ذلك لما ذمهم على تركها ويدل أيضا على أن الكفار مكلفون بشرائع الإسلام معاقبون على تركها لأن الله قد ذم هؤلاء المنافقين على ترك الهجرة وهذا نظير قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى فذمهم على ترك اتباع سبيل المؤمنين كما ذمهم على ترك الإيمان ودل بذلك على صحة حجة الإجماع لأنه لولا أن ذلك لازم لما ذمهم على تركه ولما قرنه إلى مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وهذا يدل على النهي عن المقام بين أظهر المشركين لقوله تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وهذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أي أرض كانت من أرض الإسلام وروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي إن الآية نزلت في قوم من أهل مكة تخلفوا عن الهجرة وأعطوا المشركين المحبة وقتل قوم منهم ببدر على ظاهر الردة ثم استثنى منهم الذين أقعدهم الضعف بقوله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطعيون حيلة ولا يهتدون سبيلا يعني طريقا إلى المدينة دار الهجرة وقوله تعالى فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم قال الحسن عسى من الله واجبة وقيل إنها بمنزلة الوعد لأنه لا يخبر بذلك عن شك وقيل إنما هذا على شك العباد أي كونوا أنتم على الرجاء والطمع قوله تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة قيل في المراغم أنه أراد متسعا لهجرته لأن الرغم أصله الذل تقول فعلت ذلك على الرغم من فلان أي فعلته على الذل والكره والرغام التراب لأنه يتيسر لمن رامه مع احتقاره وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالتراب إذلالا له فقال تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة أي يجد في الأرض متسعا سهلا كما قال تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور فمراغم وذلول متقاربان في المعنى وقيل في المراغم إنه ما يرغم به من كان يمنعه من الهجرة وأما قوله تعالى وسعة فإنه روي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك أنه السعة في الرزق وروي عن قتادة أنه السعة في إظهار الدين لما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره وقوله عز و جل ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت

فقد وقع أجره على الله فيه إخبار بوجوب أجر من هاجر إلى الله ورسوله وإن لم تتم هجرته وهذا يدل على أن من خرج متوجها لفعل شيء من القرب إن الله يجازيه بقدر نيته وسعيه وإن اقتطع دونه كما أوجب الله أجر من خرج مهاجرا وإن لم تتم هجرته وفيه ما يدل على صحة قول أبي يوسف ومحمد فيمن خرج يريد الحج ثم مات في بعض الطريق وأوصى أن يحج عنه من الموضع الذي مات فيه وكذلك الحاج عن الميت أو عمن ليس عليه فرض الحج بنفسه أنه يحج عنه من حيث مات الذي قصد للحج لأن الله قد كتب له من الخروج والنفقة فلما كان ذلك محتبسا للأول كان الذي وجب أن يقضي عنه ما بقي وفيه الدلالة على أن من قال إن خرجت من دار إلا إلى الصلاة أو إلى الحج فعبدي حر فخرج يريد الصلاة أو الحج ثم لم يصل ولم يحج وتوجه إلى حاجة أخرى أنه لا يحنث في يمينه لأن خروجه بديا كما كان للصلاة أو للحج لمقارنة النية له كما كان خروج من خرج مهاجرا قربة وهجرة لمقارنة النبية واقتطاع الموت له عن الوصول إلى دار الهجرة لم يبطل حكم الخروج على الوجه الذي وجد بديا عليه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه فأخبر أن أحكام الأفعال متعلقة بالنيات فإذا كان خروجه على نية الهجرة كان مهاجرا وإذا كان على نية الغزو كان غازيا واستدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة لورثته وهذه الآية لا تدل على ما قالوا لأن كونها غنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد الحيازة وقال الله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه فمن مات قبل أن يغنم فهو لم يغنم شيئا فلا سهم له وقوله تعالى فقد وقع أجره على الله لا دلالة فيه على وجوب سهمه لأنه لا خلاف أنه لو خرج غازيا من بيته فمات في دار الإسلام قبل أن يدخل دار الحرب أنه لا سهم له وقد وجب أجره على الله كما وجب أجر الذي خرج مهاجرا ومات قبل بلوغه دار هجرته والله أعلم
باب
صلاة السفر قال الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأباح الله تعالى القصر المذكور في هذه الآية بمعنيين

أحدهما السفر وهو الضرب في الأرض والآخر الخوف واختلف السلف في معنى القصر المذكور فيها ما هو فروي عن ابن عباس قال فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيكم ص - وروى يزيد الفقير عن جابر قال صلاة الخوف ركعة ركعة وروى مجاهد أنه قصر العدد من أربع إلى ثنتين وروى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال قال قصرها في الخوف والقتال الصلاة في كل حال راكبا وماشيا فأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - وصلاة الناس في السفر ركعتين فليس بقصر وروي عن ابن عباس رواية أخرى غير ما قدمنا في القصر وهي أنه قال إنما هو قصر حدود الصلاة وأن تكبر وتخفض رأسك وتومي إيماء قال ابو بكر وأولى المعاني وأشبهها بظاهر الآية ما روي عن ابن عباس وطاوس في أنه قصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء وترك القيام إلى الركوب وجائز أن يسمى المشي في الصلاة قصرا إذ كان مثله في غير الخوف يفسدها وما روي عن ابن عباس وجابر في أن صلاة الخوف ركعة فمحمول على أن الذي يصليه المأموم مع الإمام ركعة لأنه يجعل الناس طائفتين فيصلي بها بالتي معه ركعة ثم يمضون إلى تجاه العدو ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بها ركعة ويسلم بتلك فيصير لكل طائفة من المأمومين ركعة ركعة مع الإمام ثم يقضون ركعة ركعة فيكون ما روي عن ابن عباس في أنه قصر في صفة الصلاة غير مخالف لقوله إن صلاة الخوف ركعة لأن الآثار قد تواترت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم - لصلاة الخوف مع اختلافها وكلها موجبة للركعتين وليس في شيء منها أنه صلاها ركعة إلا أنها طائفة ركعة مع الإمام والقضاء لركعة دون الاقتصار على واحدة ولو كانت صلاة الخوف ركعة واحدة لما اختلف حكم النبي صلى الله عليه وسلم - وحكم المأمومين فيها فلما نقل ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى ركعتين علمنا أن أن فرض صلاة الخائف كفرض غيره وأن ما روي من أنه كان للقوم ركعة ركعة على معنى أنها كانت ركعة ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم - وأنهم قضوا ركعة ركعة على ما روي في سائر الأخبار والدليل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في صفة الصلاة أو المشي والاختلاف فيها على النحو الذي قدمنا ذكره دون أعداد ركعاتها وأن مذهب ابن عباس في القصر ما وصفنا دون نقصان عدد الركعات ما روى مجاهد أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال إني وصاحب لي خرجنا في سفر فكنت

أتم وكان صاحبي يقصر فقال ابن عباس أنت الذي تقصر وصاحبك الذي كان يتم فأخبر ابن عباس أن القصر ليس في عدد الركعات وأن الركعتين في السفر ليستا بقصر ويدل على ذلك ما روى سفيان عن زبير اليامي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ص -
وقد دخل في ذلك صلاة الخوف في السفر لأنه ذكر جميع هذه الصلوات وأخبر أنها تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم - فثبت بذلك أن القصر المذكور في الآية هو على ما وصفنا دون أعداد ركعات الصلاة فإن قيل روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب كيف تقصر وقد أمنا وقال الله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم - فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية قيل له ما كان اللفظ محتملا للمعنيين من أعداد ركعات الصلاة ومن صفتها على الوجه الذي بينا لم يمتنع أن يكون قد سبق في وهم عمر ويعلى بن أمية ما ذكر وأن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عن القصر في حال الأمن لا على أنه ذكر للنبي ص -
أن قصر الآية هو في العدد فأجابه بما وصف ولكنه جائز أن يكون قال النبي ص - كيف نقصر وقد أمنا من غير أن ذكر له تأويل الآية لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يقصر في مغازيه ثم قصر في الحج في حال الأمن وزوال القتال فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يعني إن الله قد أسقط عنكم في السفر فرض الركعتين في حال الخوف والأمن جميعا وقد روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صلاة السفر أنها تمام غير قصر فجائز أن يكون ظن بديا أن قصر الخوف هو في عدد الركعات فلما سمعه يقول صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر علم أن قصر الآية إنما هو في صفة الصلاة لا في عدد الركعات وإذا صح بما وصفنا أن المراد بالقصر ما ذكرنا لم تكن في الآية دلالة على فرض المسافر ولا على أنه مخير بين الإتمام والقصر إذ لا ذكر له في الآية
وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الإثنتين فسدت صلاته وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته بمنزلة من صلى الفجر أربعا بتسليمة وهو قول

الثوري وقال حماد بن أبي سليمان إذا صلى أربعا أعاد وقال الحسن بن صالح إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير فإذا طال في سفره وكثر لم يعد قال وإذا افتتح الصلاة على أن يصلي أربعا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين وتشهد ثم بدأ له أن يتم فصلى أربعا أعاد وإن نوى أن يصلي أربعا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزته وقال مالك إذا صلى المسافر أربعا فإنه يعيد ما دام في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه قال ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلى ركعتين بدا له فسلم أنه لا يجزيه ولو صلى المسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه وقال الأوزاعي يصلي المسافر ركعتين فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو وقال الشافعي ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام فإذا أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا
قال أبو بكر قد بينا أنه ليس في الآية حكم القصر في أعداد الركعات ولم يختلف الناس في قصر النبي صلى الله عليه وسلم -
في أسفاره كلها في حال الأمن والخوف فثبت أن فرض المسافر ركعتان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم - وبيانه لمراد الله تعالى قال عمر بن الخطاب سألت النبي صلى الله عليه وسلم - عن القصر في حال الأمن فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وصدقة الله علينا هي إسقاطه عنا فدل ذلك على أن الفرض ركعتان وقوله فاقبلوا صدقته يوجب ذلك لأن الأمر للوجوب فإذا كنا مأمورين بالقصر فالإتمام منهي عنه وقال عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم فأخبر ان الفرض ركعتان وأنه ليس بقصر بل هو تمام كما ذكر صلاة الفجر والجمعة والأضحى والفطر وعزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فصار ذلك بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وذلك ينفي التخيير بين القصر والإتمام وروي عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسافرا صلى ركعتين حتى يرجع وروى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم - فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين وقال لأهل مكة صلوا أربعا فإنا قوم سفر وقال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى وقد قال الله تعالى لقد

كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وروى بقية بن الوليد قال حدثنا أبان بن عبدالله عن خالد بن عثمان عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال صلاة المسافر ركعتان حتى يؤب إلى أهله أو يموت وقال عبدالله بن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين وقال مورق العجلي سئل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر فهذه أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة في فعل الركعتين في السفر لا زيادة عليهما وفي ذلك الدلالة من وجهين على أنهما فرض المسافر أحدهما أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب وفي فعله صلاة السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله كفعله لصلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات والوجه الثاني لو كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبي ص -
أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر وكان بيانه للإتمام في وزن بيانه للقصر فلما ورد البيان إلينا من النبي صلى الله عليه وسلم - في القصر دون الإتمام دل ذلك على أنه مراد الله دون غيره ألا ترى أنه لما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم -
تارة بالإفطار وتارة بالصوم وأيضا لما صلى عثمان بمنى أربعا أنكرت عليه الصحابة ذلك فقال عبدالله بن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم - ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان وقال ابن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر وقال عثمان أنا إنما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من تأهل بللد فهو من أهله فلم يخالفهم عثمان في منع الإتمام وإنما اعتذر بأنه قد تأهل بمكة فصار من أهلها وكذلك قولنا في أهل مكة أنهم لا يقصرون وقال ابن عباس فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعا وقالت عائشة أول ما فرضت الصلاة ركعتان ركعتان ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ما كانت عليه فأخبرت أن فرض المسافر في الأصل ركعتان وفرض المقيم أربع كفرض صلاة الفجر وصلاة الظهر فغير جائز الزيادة عليها كما لا تجوز الزيادة على سائر الصلوات ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن للمسافر ترك الأخريين

لا إلى بدل ومتى فعلهما فإنما يفعلهما على وجه الابتداء فدل على أنهما نفل لأن هذه صورة النفل وهو أن يكون مخيرا بين فعله وتركه وإذا تركه تركه لا إلى بدل
واحتج من خيره بين القصر والإتمام بما روي عن عائشة قالت قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأتم وهذا صحيح ومعناه أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم كقول عمر صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ص -
واحتج أيضا من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام فدل على أنه مخير في الأصل وهذا فاسد لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبنا
واختلفوا أيضا في المسافر يدخل في صلاة المقيم فقال أصحابنا والشافعي والأوزاعي يصلي صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري وقال مالك إذا لم يدرك معه ركعة صلى ركعتين والذي يدل على القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم -
ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وفي بعض الألفاظ وما فاتكم فاقضوا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقضاء الفائت من صلاة الإمام والذي فاته أربع ركعات فعليه قضاؤها وأيضا قد صح له الدخول في آخر صلاته ويلزمه سهوه وانتفى عنه سهو نفسه لأجل إمامه كذلك لزمه حكم صلاته في الإتمام وأيضا لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحال لزمه الإتمام كذلك دخوله مع الإمام ويكون دخوله معه في التشهد كدخوله في أولها كما كانت نية الإقامة في التشهد كهي في أولها والله أعلم
فصل قال أبو بكر وجميع ما قدمنا في قصر الصلاة للمسافر يدل على أن صلاة سائر المسافرين ركعتان في أي شيء كان سفرهم من تجارة أو غيرها وذلك لأن الآثار المروية فيه لم تفرق بين شيء من الأسفار وقد روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا كان يتجر إلى الحرين فقال للنبي ص - كم أصلي فقال ركعتين وعن ابن عباس وابن عمر أنهما خرجا إلى الطائف فقصر الصلاة وروي عن عبدالله بن مسعود قال لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وعن عطاء قال لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله
فإن قيل لم يقصر النبي صلى الله عليه وسلم - إلا في حج أو جهاد قيل له لأنه لم يسافر إلا في حج أو جهاد وليس في ذلك دليل على أن القصر مخصوص بالحج والجهاد وقول عمر صلاة السفر ركعتان على

لسان نبيكم عموم في سائر الأسفار وقول النبي صلى الله عليه وسلم - صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته عام أيضا في سائر الأسفار وكذلك قوله لأهل مكة أتموا فإنا قوم سفر ولم يقل في حج دليل على أن حكم القصر عام في جميع المسافرين ولما كان ذلك حكما متعلقا بالسفر وجب أن لا يختلف حكم الأسفار فيه كالمسح على الخفين ثلاثا ومن يتأول قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على عدد الركعات يحتج بعمومه في جميع الأسفار إذا كان خائفا من العدو ثم إذا ثبت ذلك في صلاة الخوف إذا كان سفره في غير جهة القربة وجب مثله في سائر الأسفار لأن أحدا لم يفرق بينهما وقد بينا أن القصر ليس هو في عدد الركعات والذي ذكرناه في القصر في جميع الأسفار بعد أن يكون السفر ثلاثا هو قول أصحابنا والثوري والأوزاعي وقال مالك إن خرج إلى الصيد وهو معاشه قصر وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر وقال الشافعي إذا سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح السفر قال أبو بكر قد بينا أن ذلك في شأن المضطر في سورة البقرة وقد اختلف في الملاح هل يقصر في السفينة فقال أصحابنا يقصر إذا كان في سفر حتى يصير إلى قريته فيتم وهوقول مالك والشافعي وقال الأوزاعي إذا كان فيها أهله وقراره يقصر إذا أكراها حتى ينتهي إلى أكراها فإذا انتهى أتم الصلاة وقال الحسن بن صالح إذا كانت السفينة بيته وليس له منزل غيرها فهو فيها بمنزلة المقيم يتم
قال أبو بكر كون الملاح مالكا للسفينة لا يخرجه من حكم السفر كالجمال مالك للجمال التي ينتقل بها من موضع إلى موضع فلا يخرجه ذلك من حكم السفر وقد بينا الكلام في مدة السفر في سورة البقرة عند أحكام الصوم وشرط أصحابنا فيه ثلاثة أيام ولياليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح وقال مالك ثمانية وأربعون ميلا فإن لم تكن فيها أميال فمسيرة يوم وليلة للقفل وهو قول الليث وقال الأوزاعي يوم تام وقال الشافعي ستة وأربعون ميلا بالهاشمي وروي عن ابن عمر ثلاثة أيام وروي عن ابن عباس يوم وليلة واختلفوا في المدة التي يتم فيها الصلاة فقال أصحابنا والثوري إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر وقال مالك والليث والشافعي إذا نوى إقامة أربع أتم وقال الأوزاعي إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل قصر وقال الحسن بن صالح إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة مالم

يقم به عشرا أو إن أقام به عشرا أو بغيره أتم الصلاة
قال أبو بكر وروي عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قدم مكة صبحية الرابعة من ذي الحجة فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع وكان يقصر الصلاة فلدل على سقوط اعتبار الأربع وأيضا روى أبو حنيفة عن عمر بن ذر عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر قالا إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها ولم يرو عن أحد من السلف خلاف ذلك فثبتت حجته فإن قيل روى الخراساني عن سعيد بن المسيب قال من أجمع على أربع وهو مسافر أتم الصلاة قيل له روى هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال إذا أقام المسافر خمسة عشر يوما وليلة أتم الصلاة وما كان من دون ذلك فليقصر وإن جعلنا الروايتين متعارضتين سقطتا وصار كأنه لم يرو عنه شيء ولو ثبتت الرواية عنه من غير معارضة لما جاز أن يكون خلافا على ابن عباس وابن عمر وأيضا مدة الإقامة والسفر لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وقد حصل الاتفاق في خمسة عشر يوما وما دونها مختلف فيه فيثبت الخمسة عشر أنها إقامة صحيحة ولم يثبت ما دونها وكذلك السلف قد اتفقوا على الثلاث أنها سفر صحيح يتعلق بها حكم القصر والإفطار واختلفوا فيما دونها فلم يثبت والله أعلم
باب صلاة الخوف
قال الله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية قال أبو بكر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف على ضروب مختلفة واختلف فقهاء الأمصار فيها فقال أبو حنيفة ومحمد تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويسلم وينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدو فيقضون ركعة بغير قراءة وتشهدوا ويسلموا ويذهبوا إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة وقال ابن أبي ليلى إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين فيكبر ويكبرون ويركع ويركعون جميعا معه وسجد الإمام والصف الأول ويقوم الصف الآخر في وجوه العدو فإذا قاموا من السجود

سجد الصف المؤخر فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصف المؤخر 2وتأخر الصف المقدم فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك وإن كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر مستقبل العدو فيكبر ويكبرون جميعا ويركع ويركعون جميعا ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ثم يجيء الآخرون ويصلي بهم الإمام جميعا الركعة الثانية فيركعون جميعا ويسجد الصف الذي معه ثم ينلقبون إلى وجه العدو ويجيء الآخرون فيسجدون معه ويفرغون ثم يسلم الإمام وهم جميعا
قال أبو بكر وروي عن أبي يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات إحداها مثل قول أبي حنيفة ومحمد والأخرى مثل قول ابن أبي ليلى إذا كان العدو في القبلة وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبي حنيفة والثالثة أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلى بإمامين كسائر الصلوات وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة وروي أيضا مثل قول ابن ابي ليلى وقال إن فعلت كذلك جاز وقال مالك يتقدم الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائما وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى ثم يتشهدون ويسلمون ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصل فيقومون مكانهم وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت قال ابن القاسم كان مالك يقول لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم لحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى حديث القاسم وفيه إن الإمام يسلم ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون وقال الشافعي مثل قول مالك إلا أنه قال الإمام لا يسلم حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم وقال الحسن بن صالح مثل قول أبي حنيفة إلا أنه قال الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام وسلم الإمام قضت لأنفسها الركعة التي لم يصلوها مع الإمام ثم تنصرف وتجيء الطائفة الأولى فتقضي بقية صلاتها قال أبو بكر أشد هذه الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد ذلك لأنه تعالى قال وإذا كنت

فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وفي ضمن ذلك أن طائفة منهم بإزاء العدو لأنه قال وليأخذوا أسلحتهم وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى الطائفة التي بإزاء العدو لأنها تحرس هذه المصلية وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم -
بل يكونون جميعا معه وذلك خلاف الآية ثم قال تعالى فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وعلى مذهب مالك يقضون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء وفي هذه الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم وذلك موافق لقولنا
ثم قال ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فدل ذلك على معنيين أحدهما أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل طائفة معه وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة لأنه قال ولتأت طائفة أخرى ونون مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا تأتيه والثاني قوله لم يصلوا فليصلوا معك وذلك يقتضي نفي كل جزء من الصلاة ومخالفنا يقول يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكون على حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة وذلك خلاف الآية بهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبي حنيفة ومحمد وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وللأصول وذلك لأن النبي ص - قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وقال إني امرؤ قد بدنت فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ومن مذهب المخالف أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من صلاته قبل فراغه أن يسجدوا ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فيحصل به مخالفة الإمام في الفعل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الافتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم فهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول فإن قيل جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها قيل له المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر

بالاتفاق فكان لما ذكرنا أصل متفق عليه فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبني قد ردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
روي عن ابن عباس وعائشة أن النبي ص - قال من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته والرجل يركع ويمشي إلى الصف فلا تبطل صلاته وركع أبو بكر حين دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم - قال له زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره باستيناف الصلاة فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير فلم يجز فعله وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي ولما قامت به الدلالة سلمناه لها وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم قال أبو داود كذلك رواه نافع وخالد بن معدان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقال أبو داود وكذلك قول مسروق ويوسف بن مهران عن ابن عباس وكذلك روى يونس عن الحسن عن أبي موسى أنه فعله
وقول ابن عمر فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة على أنهم قضوا على وجه يجوز القضاء وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت
وقد بين ذلك في حديث خصيف عن أبي عبيدة عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى في حرة بني سليم صلاة الخوف قام فاستقبل القبلة وكان العدو في غير القبلة فصف معه صفا وأخذ صف السلاح واستقبلوا العدو فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - والصف الذي معه ثم ركع وركع الصف الذي معه ثم تحول الصف الذين صفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -
فأخذوا السلاح وتحول الآخرون فقاموا مع النبي ص - فركع النبي صلى الله عليه وسلم -
وركعوا وسجد وسجدوا ثم سلم النبي ص - فذهب الذين صلوا معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح وتحول الآخرون وصلوا ركعة فكان للنبي ص -
ركعتان

وللقوم ركعة ركعة فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه وقد روي في حديث عبدالله بن مسعود من رواية ابن فضل عن خصيف عن أبي عبيدة عن عبدالله أن الطائفة الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت عليها والصحيح ما ذكرناه أولا لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول الصلاةوالثانية لم تدرك فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل الأولى ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلي الركعتين في مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد لأن سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما فيها واحتج مالك بحديث رواه عن زيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وذكر فيه أن الطائفة الأولى صلت الركعة الثانية قبل أن يصليها رسول الله ص - وهذا لم يروه أحد إلا يزيد بن رومان وقد خولف فيه فروى شعبة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصف مصاف العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تقض الركعة الثانية إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صلاته وهذا أولى لما قدمناه من دلائل الأصول عليه وقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد بن رومان وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بذات الرقاع وقد روى يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن جابر قال كنا مع رسول الله ص - بذات الرقاع فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين فصلى رسول الله ص - أربعا وكل طائفة ركعتين وهذا يدل على اضطراب حديث يزيد بن رومان وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف على وجوه أخر فاتفق ابن مسعود وابن عمر وجابر وحذيفة وزيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهون العدو ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة وإن أحدا منهم لم يقض بقية صلاته قبل فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وروى صالح بن خوات على ما قد اختلف عنه فيه مما قدمنا ذكره وروى أبو عياش الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف نحو

المذهب الذي حكيناه عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف إذا كان العدو في القبلة وروى أيوب وهشام عن أبي الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس وكذلك عبدالملك عن عطاء عن جابر وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبي موسى من فعله ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك هشام بن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقد روي عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا واختلفت الرواية عنهما فيها
وروي فيها نوع آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا أبو عبدالرحمن المقري قال حدثنا حياة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف فقال ابو هريرة نعم قال مروان متى فقال أبو هريرة عام غزوةنجد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ثم ركع رسول الله ص - ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام رسول الله ص - وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم -
قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ص - ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم -
قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول الله ص - وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة وقد روي عنه ص - نوع آخر من صلاة الخوف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيدالله بن معاذ قال حدثنا أبي قال حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين وبذلك كان يفتي الحسن قال أبو داود وكذلك يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه سليمان

اليشكري عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أبو بكر وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول الله ص - ركعتان ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبي عياش الزرقي الذي ذكرناه وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت به الروايات وذلك لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات فيها وتتنافى بل كانت صلوات في مواضع مختلفة بعسفان في حديث أبي عياش الزرقي وفي حديث جابر ببطن النخل ومنها حديث أبي هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع وصلاها في حرة بني سليم ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى وكذلك حديث أبي عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان فروى تارة نحو حديث أبي عياش وتارة على خلافه واختلاف هذه الآثار تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول وفي حديث جابر وأبي بكرة

أن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى بكل طائفة ركعتين فجائز أن يكون النبي ص - قد كان مقيما حين صلاها كذلك ويكون قولهما أنه سلم في الركعتين المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر لأن الله تعالى قال فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم -
بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله فإن قيل كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة
قيل له جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يومين فيكون مقيما عندنا إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه وذلك منسوخ عندنا وعلى أنه لو كان كذلك لم يكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن
وأما القول الذي روي عن أبي يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم - فيهم وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة
قال أبو بكر فأما تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم -
بالخطاب بها بقوله وإذا كنت فيهم فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره لأن الذي قال وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة هو الذي قال فاتبعوه فإذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم -
قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ألا ترى أن قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم لم يوجب كون النبي صلى الله عليه وسلم -
مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده وكذلك قوله إذا جاءك المؤمنات يبايعنك وكذلك قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله فإن جاؤك فاحكم بينهم فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم -
بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم معه وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم - فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها

من فروض الصلاة لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن فرضا فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفصل فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - جائز بعده كما جاز معه وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم - منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن سمرة في آخرين منهم من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه والله أعلم
باب الاختلاف في صلاة المغرب
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة إلا أن مالكا والشافعي يقولان يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعة أخرى ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة الثانية فيقضون ركعتين وقال الشافعي إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى تتم الطائفة الأولى لأنفسهم وإن شاء كان قائما ويسلم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانية وقال الثوري يقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهم ركعة ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة ويجلسون فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا والإمام قائم لأن قراءة الإمام لهم قراءة وجلسوا ثم قاموا يصلون مع الإمام الركعة الثالثة فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك وجاء الآخرون فصلوا ركعتين وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين الطائفتين في الصلاة فيصلي بكل واحدة ركعة وقد ترك هذا المعنى حين جعل للطائفة الأولى أن يصلي مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه وقال الثوري إنه إذا كان مقيما فصلى بهم الظهر أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين فلم يقسم الصلاة بينهم على أن يصلي كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر وذلك أنه أمر الإمام أن يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية وذلك خلاف الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعي والله أعلم بالصواب

ذكر
اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يصلى في حال القتال فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته وقال مالك والثوري يصلي إيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود وقال الحسن بن صالح إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة وقال الشافعي لا بأس بأن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول بطلت صلاته قال أبو بكر الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى من الليل ثم قال ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ثم قضاهن على الترتيب فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال وقد كانت الصلاة مفروضة في حال الخوف قبل الخندق لأن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بذات الرقاع صلاة الخوف وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة لا تصح معه وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في غير الخوف كان حكمه في الخوف كهو في غيره مثل الحدث والكلام والأكل والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة وإنما أبيح له المشي فيها لأن المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف ولأنهم متفقون على أن المشي لا يفسدها فسلمناه للإجماع وما عداه من الأفعال المنافية للصلاة فهو محمول على أصله وقوله تعالى فلقتم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع الإمام ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو لأن في الآية ضميرا للطائفة التي بإزاء العدو وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام بأخذ السلاح ولم يقل فليأخذوا حذرهم لأن في وجه العدو طائفة غير مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر ثم قال تعالى ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وفي ذلك دليل من وجهين على أن

قوله فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد به الطائفة التي مع الإمام أحدهما أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ولو كانوا مأمورين بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم والوجه الثاني قوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فجمع لهم بين الأمرين من أخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو وهي في الصلاة وذلك أولى بطمع العدو فيهم إذ قد صارت الطائفتان جميعا في الصلاة فدل ذلك على أن قوله وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد به الطائفة الأولى وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم باشتغالها بالصلاة ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم -
الظهر دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم فإذا صلوها حملنا عليهم فصلى النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا والله أعلم ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وعمل ذلك فيها دل على أن العمل اليسير معفو عنه فيها قوله تعالى ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله نبيه ص -
عليه وأمر المسلمين بأخذ الحذر منهم قوله تعالى ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض والوحل والطين وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا في وضع السلاح وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلي بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا وأمر مع ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو قوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما

وقعودا وعلى جنوبكم قال أبو بكر أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يروى أن عبدالله بن مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال ما هذا النكر قالوا أليس الله يقول الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فقال إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع فصل على جنبك وروي عن الحسن الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم هذه رخصة من الله للمريض أن يصلي قاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة لأن الصلاة ذكر الله تعالى وفيها أيضا أذكار مسنونة ومفروضة وأما الذكر الذي في قوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فليس هو الصلاة ولكنه على أحد وجهين أما الذكر بالقلب وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه والذكر الثاني الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس وروي عن ابن عباس قال لم يعذر أحد في ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وقوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين فإنه روي عن الحسن ومجاهد وقتادة فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير قصر وقال السدي وغيره فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان قال أبو بكر من تأول القصر المذكور في قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها جعل قوله تعالى فأقيموا الصلاة أمرا بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف والله أعلم
باب
مواقيت الصلاة قال الله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج وعن ابن عباس ومجاهد وعطية مفروضا وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال موقوتا منجما كلما مضى نجم جاء نجم آخر وعن

زيد بن أسلم مثل ذلك قال أبو بكر قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته لأن قوله تعالى كتابا معناه فرضا وقوله موقوتا معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها وبين على لسان الرسول ص -
تحديدها ومقاديرها فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ذكر مجاهد عن ابن عباس لدلوك الشمس قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر إلى غسق الليل قال بدو الليل لصلاة المغرب وكذلك روي عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها وروى أبو وائل عن عبدالله بن مسعود قال إن دلوكها غروبها وعن أبي عبدالرحمن السلمي نحوه قال أبوبكر لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالها لولا ذلك لما تأوله السلف عليهما والدلوك في اللغة الميل فدلوك الشمس ميلها وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته لأنه قال إلى غسق الليل وإلى غاية ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك ههنا هو الغروب وغسق الليل ههنا هو اجتماع الظلمة لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلاة وهي الظهر والعصر والمغرب فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى وأيديكم إلى المرافق والمرافق داخلة فيها وقوله حتى تغتسلوا والغسل داخل في شرط الإباحة فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات ثم قال وقرآن الفجر وهو صلاة الفجر فتنتظم الآية الصلوات الخمس وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلاة المفروضة فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه وأفرد الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلاة فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى وقرآن

الفجر ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله إلى غسق الليل أقم الصلاة مع غسق الليل كقوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ومعناه مع أموالكم ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبدالله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبي هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وقال الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وقال إبراهيم النخعي غسق الليل العشاء الآخرة وعن أبي جعفر غسق الليل انتصافه وروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات وقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل روى عمرو عن الحسن في قوله تعالى طرفي النهار قال صلاة الفجر والأخرى الظهر والعصر وزلفا من الليل قال المغرب والعشاء فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس وروى يونس عن الحسن أقم الصلاة طرفي النهار قال الفجر والعصر
وروى ليث عن الحكم عن أبي عياض قال قال ابن عباس جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر وعن الحسن مثله وروى أبو رزين عن ابن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال الصلاة المكتوبة وقال وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ووقت الزوال والغروب معلومان وقوله تعالى إلى غسق الليل ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني وقوله حين تمسون إن أراد به المغرب كان معلوما وكذلك تصبحون لأن و قت الصبح معلوم وقوله طرفي النهار لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط

النهار هو وقت الزوال فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف وجائز أن يريد به العصر لأن آخر النهار من طرفه والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا إلا أن الحسن في رواية عمر وقد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر وهو أشبه بمعنى الآية ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا
فهذه الآي دالة على أعداد الصلوات
وقوله تعالى وحافظوا على الصلوات الآية يدل على أنها وتر لأن الشفع لا وسط له وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بخمسين صلاة وأنه لم يزل يسئل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - كذلك لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل وقد بيناه في أصول الفقه ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر وهو قول أبي حنيفة وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض
وقت
الفجر فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ليس الفجر أن يقول هكذا وجمع كفه حتى يكون هكذا ومد أصبعيه السبابتين وروى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر
وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وروى نافع بن جبريل في حديث المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام أمه عند البيت فصلى الفجر في اليوم الأول

حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم فهذا أول وقت الفجر وقد تواترت به الآثار واتفق عليه فقهاء الأمصار وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء وذكر ابن القاسم عن مالك أنه قال وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد الإسفار لا على معنى أنها تكون فائتة إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل طلوع الشمس وقد روى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال وقت الفجر مالم تطلع الشمس وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس وورى أبو هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك فألزم النبي صلى الله عليه وسلم - مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة مثل الحائض تطهر والصبي يبلغ والكافر يسلم فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس
وقت
الظهر وأما أول وقت الظهر فهو من حين تزول الشمس ولا خلاف بين أهل العلم فيه وقال الله تعالى وعشيا وحين تظهرون وقال أقم الصلاة لدلوك الشمس وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبي سعيد وجابر وعبدالله بن عمر وبريدة الأسلمي وأبي هريرة وأبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في ذكر المواقيت حين أمه جبريل وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة
وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء فروي عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات إحداهن أن يصير الظل أقل من قامتين والأخرى وهي رواية الحسن بن زياد أن يصير ظل كل شيء مثله والثالثة أن يصير الظل قامتين وهي رواية الأصل وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح والثوري والشافعي هو أن يصير ظل كل شيء مثله وحكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى

غروب الشمس ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله أقم الصلاة طرفي النهار وذلك يقتضي فعل العصر بعد المثلين لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر لحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر فوجب أن يثبت إلىالمثلين بالظاهر ويحتج فيه من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي ما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي ما بين العصر إلى المغرب على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا قالوا لا قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء ودلالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين أحدهما قوله أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت وقال ص - بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى وفي خبر آخر كما بين هذه وهذه فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى وقد قدر ذلك بنصف السبع فثبت بذلك حين شبه ص - أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين والوجه الآخر من دلالة الخبر المثل الذي ضربه ص - لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة وأنهم غضبوا فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين بل كان يكون المسلمون أكثر عملا لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر فإن قيل إنما

أراد أن وقتي الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء وليسا بمجموعهما أقل عطاء لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين ويدل عليه حديث عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها فإن قيل في حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل قيل له أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين فإن قيل إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس قيل له في حديث ابن مسعود إن جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول فقال قم فصل العصر وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل وهذا يسقط تأويل من تأوله وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبدالله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي حديث أبي قتادة عن النبي ص - التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي ذكرنا منسوخ وأنه كان قبل الهجرة وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول وأن يكون الآخر منهما ثابتا والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضي أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم - حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله وقد ذكر أيضا في حديث ابن مسعود أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة منهم

مالك والليث وشعيب ومعمر وغيرهم ورواه أيوب عن عتبة عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا فحديث ابن مسعود يروى على هذين الوجهين فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شيء مثليه فقال قم فصل العصر وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة
وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل وفيها احتمال لما قالوه ولغيره فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره إذ لا حجة في المحتمل منها حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة وورى أبو واقد الليثي قال حدثنا أبو أروى قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم - العصر بالمدينة ثم أمشي إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس وفي حديث أسامة بن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس وروي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر لم يفئ الفيء بعد
وليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل بقوله ص - أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم على أن ما بعد المثل وقت للظهر لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عند ما يصير ظل كل شيء مثله ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالهجير عند الزوال والفيء قليل في ذلك الوقت فكان منهم من يصلي في الشمس أو بالقرب منها وكذلك قال خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
حر الرمضاء فلم يشكنا ثم قال أبردوا بالظهر فأمرهم أن يصلوها بعد ما يفيء الفيء فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل
وأما ما حكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى في

اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وأبي موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال ما بين هذين وقت وفي حديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم - أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وقد نقل الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
هذه الأوقات عملا وقولا كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب وعقلوا بتوقيفه ص - أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الآخر ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا وكذلك العصر وإن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلي العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها
فإن احتجوا بقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وأن الدلوك هو الزوال وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس لأنه روي في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب
قيل له ظاهره يقتضي إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة فيكون تقدير الآية أقم الصلاة لزوال الشمس وأقمها أيضا إلى غسق الليل وهي صلاة أخرى غير الأولى فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس
وقد وافق الشافعي مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه وذلك أنه يقول من أسلم قبل غروب الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا وكذلك الحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أويجعل العصر فيصليها في وقت الظهر معها فجعل من أجل ذلك الوقت

وقتا لهما في حال العذر والضرورة فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا كما أنها إذا طهرت في آخر وقت
العصر لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر وهذا لا يقوله أحد فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر
وقت العصر
قال أبو بكر أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر على اختلافهم فيه والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر واسطة وقت من غيرهما وما روي عن أبي حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن يصير الظل أقل قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين فهو رواية شاذة وهي أيضا مخالفة للآثار الوارد في أن وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وفي حديث أبي قتادة التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى والصحيح من مذهب أبي حنيفة أحد قولين إما المثلان وإما المثل وإن بخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر
واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس ومن الناس من يقول إن آخر وقتها حين تصفر الشمس ويحتج فيه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم -
عن الصلاة عند غروب الشمس قال أبو بكر والدليل على أن آخر وقتها الغروب قول النبي صلى الله عليه وسلم - من فاته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله وماله فجعل فواتها بالغروب وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وهذا يدل على أن وقتها إلىالغروب فإن احتج محتج بحديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال آخر وقت العصر حين تصفر الشمس
فإن هذا عندنا على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب كما روي في حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل ومراده الوقت المستحب لأنه لا خلاف أن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة وأن مدركه بالإحتلام أو الإسلام

يلزمه فرضها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الرجل ليصلي الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله فقد يكون وقت يلزمه به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير إليه من أن يكون وقتا لها فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم - خيرا له من أهله وماله
وقت
المغرب أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك وقال الله عز و جل أقم الصلاة لدلوك الشمس وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى وزلفا من الليل وهو ما قرب منه من النهار وهو أول أوقاته والله أعلم وقال تعالى فسبحان الله حين تمسون قيل فيه إنه وقت الغروب وفي أخبار المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم -
من طريق ابن عباس وجابر وأبي سعيد وغيرهم أن النبي ص - صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس وقال سلمة بن الأكوع كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا تواترت بالحجاب وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبي بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس وقد روي ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبدالله وعثمان وأبي هريرة
ويحتمل أن يكون خبر أبي بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رؤي النجم لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل ا لغروب ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل

الغروب مع رؤية الشاهد فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد
وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات وقال الشافعي ليس للمغرب إلا وقت واحد ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح آخر وقتها أن يغيب الشفق ثم اختلفوا في الشفق فقال أبو حنيفة الشفق البياض وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليل ومالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي الشفق الحمرة وقال مالك وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر
قال أبو بكر وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو فقال بعضهم هو البياض وقال بعضهم الحمرة فممن قال أنه الحمرة ابن عباس وابن عمر وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس
وحدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال حدثنا أبو عمران موسى بن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا أبو سفيان عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال الشفق الحمرة
قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عن ثور بن يزيد عن مكحول قال كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق فهؤلاء الذين روى عنهم الحمرة وممن روي عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبدالعزيز حدثنا يوسف بن شعيب قال حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعي قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إن أول وقت العشاء مغيب الشفق ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع فذلك أول وقتها قال هشام حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيدالله عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال الشفق البياض
قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول الشفق البياض
فصل وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد ذكرنا من

قال من السلف أنه الغروب واحتمال اللفظ له فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر لأن قوله تعالى إلى غسق الليل غاية وقد روي عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة وفي ذلك ما يقضي ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وأن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي حديث أبي بكرة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة فذكر الحديث وقال فيه وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال الوقت فيما بين هذين وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق وكذلك في حديث جابر فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال وقت المغرب مالم يغب الشفق وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقرأ في صلاة المغرب بأطوال الطول وهي المص وهذا يدل على امتداد الوقت ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ المص قد أخرها عن وقتها فإن قيل روي في حديث ابن عباس وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس قيل له هذا لا يعارض ما ذكرنا لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت فهو أولى لأن فيه استعمال الخبرين ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أنه لا وقت لها غيره كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها

مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا ومما يلزم الشافعي في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذ كان بينهما وقت ليس منهما فإن قيل ليست علة الجمع تجاور الوقتين لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاور الوقتين قيل له لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع وإنما ألزمناه المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب
ذكر
القول في الشفق والاحتجاج له قال أبو بكر لما اختلف الناس في الشفق فقال منهم قائلون هو الحمرة وقال آخرون البياض علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لولا ذلك لما تأولوه عليهما إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى ا لقرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال سئل ثعلب عن الشفق ما هو فقال البياض فقال له السائل الشواهد على الحمرة أكثر فقال ثعلب إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفي فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد قال أبو بكر ويقال إن اصل الشفق الرقة ومنه يقال ثوب شفق ومنه الشفقة وهي رقة القلب وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس وهو في البياض أرق منه في الحمرة ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبي النجم ... حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلي ... بين سماطي شفق مهول ... فهي على الأفق كعين الأحول ...
ومعلوم أنه أراد الحمرة لأنه وصفها عند الغروب ومما يحتج به البياض قوله تعالى فلا أقسم بالشفق قال مجاهد هو النهار ويدل عليه قوله والليل وما وسق فأقسم

بالليل والنهار فهذا يوجب أن يكون الشفق البياض لأن أول النهار هو طلوع بياض الفجر وهذا يدل على أن الباقي من البياض بعد غروب الشمس هو الشفق ومما يستدل به على أن المراد البياض قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك هو اسم يقع على الغروب ثم جعل غسق الليل غايته وروي عن ابن عباس في غسق الليل أنه اجتماع الظلمة وذلك لا يكون إلا مع غيبوبة البياض لأن البياض ما دام باقيا فالظلمة متفرقة في الأفق فثبت بذلك أن وقت المغرب إلى غيبوبة البياض فثبت أن المراد البياض فإن قيل روي عن ابن مسعود وأبي هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس قيل له المشهور عن ابن مسعود أو دلوك الشمس هو غروبها ومحال إذا كان الدلوك عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا لأن الله تعالى قال أقم الصلاة لدلوك الشمس فجعل الدلوك أول الوقت وغسق الليل آخره ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله غاية وإذا كان ذلك كذلك فالراوي عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب الشمس غالط في روايته ومع ذلك فقد روي عن ابن مسعود رواية مشهورة أن دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق وهذه الرواية مستقيمة على ما ثبت عنه من تأويل الآية وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أن دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس وهذا غير بعيد على ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال إلا أنه قد روى عنه مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته وهذا ينفي أن يكون غسق الليل وقت الغروب من قبل أن وقت الغروب لا تكون ظلمة مجتمعة وقد روي عن أبي جعفر في غسق الليل أنه انتصافه وعن إبراهيم غسق الليل العشاء الآخرة وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض وذلك لأنه لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود الليل فحسب فيصير تقدير الآية أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل ولما وجب حمل كل لفظ منه على فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد مالم يفدناه لو قال إلى الليل عاريا من اجتماعها ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق

وربما أخرها حتى يجتمع الناس فأخبر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - في أوائل أوقاتها وأخبر عنها في أواخرها وذكر في أول الوقت العشاء الآخرة اسوداد الأفق ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه بذلك فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض ومن يأبى هذا القول يقول إن قوله حين اسود الأفق لا ينفي بقاء البياض لأنه إنما أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها ولو أراد غيبوبة البياض لقال حين اسودت الآفاق وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق غير موضع البياض مسودة ويحتج القائلون بالبياض أيضا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء الآخرة حين يستوي الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس وهذا اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول حين اسود الأفق ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبدالله قال سأل رجل نبي الله ص - عن وقت الصلاة فقال صل معي فصلى في اليوم الأول العشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق قالوا ومعلوم أنه لم يصلها قبل غيبوبة الحمرة فوجب أن يكون أراد البياض ولا تكون رواية من روى أنه صلاها بعد ما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا من قبل ما غاب الشفق الذي هو الحمرة إذا كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق الحديثان ولا يتضادا ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على نحو ما روي في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى ا لظهر في اليوم الثاني وقت العصر بالأمس ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة الشفق وفي بعض أخبار عبدالله بن عمر إذا غابت الشمس فهو وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق وفي لفظ آخر وقت المغرب مالم يسقط ثور الشفق قالوا فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة ومن يقول البياض يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضي غيبوبة جميعه وهو بالبياض فيدل ذلك على اعتبار البياض دون الحمرة لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا بعد غيبوبة جميعه كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون بعضها ولمن قال بالحمرة أن يقول إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا بل هما شفقتان فيتناول الاسم أولهما غيبوبة كما أن

الفجر الأول والثاني هما فجران وليسا فجرا واحدا فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق ومما يحتج به القائلين بالبياض حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة وظاهر ذلك يقتضي غيبوبة البياض قال أبو بكر وهذا لا يعتمد عليه لأن ذلك يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه قال أبو بكر وحكى ابن قتيبة عن الخليل بن أحمد قال راعيت البياض فرأيته لا يغيب البتة وإنما يستدير حتى يرجع إلى مطلع الفجر قال أبو بكر وهذا غلط والمحنة بيننا وبينهم وقد راعيته في البوادي في ليالي الصيف والجو نقي والسماء مصحية فإذا هو يغيب قبل أن يمضي من الليل ربعه بالتقريب ومن اراد أن يعرف ذلك فليجرب حتى يتبين له غلط هذا القول ومما يستدل به على أن المراد بالشفق البياض أنا وجدنا قبل طلوع الشمس حمرة وبياضا قبلها وكان جميعا من وقت صلاة واحدة إذ كانا جميعا من ضياء الشمس دون ظهور جرمها كذلك يجب أن تكون الحمرة والبياض جميعا بعد غروبها من وقت صلاة واحدة للعلة التي ذكرناها
وقت العشاء الآخرة
وأول وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق على اختلافهم فيه إلى أن يذهب نصف الليل في الوقت المختار وفي رواية أخرى حتى يذهب ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر الثاني وقال الثوري والحسن بن صالح وقت العشاء إذا سقط الشفق إلى ثلث الليل والنصف أبعده قال أبو بكر ويحتمل أن يكونا أرادا الوقت المستحب لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر

وإن من أدرك أو أسلم قبل طلوع الفجر أنه تلزمه العشاء الآخرة وكذلك المرأة إذا طهرت من الحيض قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون الآية هو حث على الجهاد وأمر به ونهي عن الضعف عن طلبهم ولقائهم لأن الابتغاء هو الطلب يقال بغيت وابتغيت إذا طلبت والوهن ضعف القلب والجبن الذي يستشعره الإنسان عند لقاء العدو واستدعاهم إلى نفي ذلك واستشعار الجرأة والإقدام عليهم بقوله إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون فأخبر أنهم يساوونكم فيما يلحق من الألم بالقتال وإنكم تفضلونهم فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون فأنتم أولى بالإقدام والصبر على ألم الجراح منهم إذ ليس لهم هذا الرجاء وهذه الفضيلة قوله تعالى وترجون من الله ما لا يرجون قيل فيه وجهان أحدهما ما وعدكم الله من النصر إذا نصرتم دينه والآخر ثواب الآخرة ونعيم الجنة فدواعي المسلمين على التصبر على القتال واحتمال ألم الجراح أكثر من دواعي الكفار وقيل فيه ترجون من الله مالا يرجون تؤملون من ثواب الله مالا يؤملون روي ذلك عن الحسن وقتادة وابن جريج وقال آخرون وتخافون من الله ما لا يخافون كما قال تعالى مالكم لا ترجون لله وقارا يعني لا تخافون لله عظمة وبعض أهل اللغة يقول لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي وذلك حكم لا يقبل إلا بدلالة قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله الآية فيه إخبار أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد
قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما روي أنه أنزل في رجل سرق درعا فلما خاف أن تظهر عليه رمى بها في دار يهودي فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها وذكر السارق أن اليهودي أخذها فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى قولهم فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق
وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه وهذه الآية وما بعدها من النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا يعلمه حقا
وقوله تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله ربما احتج

به من يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وأن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن النصوص وأنه كقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وليس في الآيتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وذلك لأنا نقول ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله فليس في الآية دلالة على نفي الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم - في الأحكام وقد قيل في قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - دفع عنهم وجائز أن يكون هم بالدفع عنهم ميلا منه إلى المسلمين دون اليهودي إذ لم يكن عنده أنهم غير محقين وإذا كان ظاهر الحال وجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أولى بالتهمة والمسلم أولى ببراءة الساحة فأمره الله تعالى بترك الميل إلى أحد الخصمين والدفع عنه وإن كان مسلما والآخر يهوديا فصار ذلك أصلا في أن الحاكم لا يكون له ميل إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر علىخلافه وهذا يدل أيضا على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده إذ كان جاحدا أن يكون هو الآخذ وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز وكانوا يسترقون السارق فاحتبسه عنده وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يسترقه ولا قال أنه سرق وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقا وقد نهى الله عن الحكم بالظن والهوى بقوله اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله ولا تكن للخائنين خصيما وقوله ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم جائز أن يكون صادف ميلا من النبي صلى الله عليه وسلم - على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره وجائز أن يكون هم بذلك فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبي ص - أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادعى عليه فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
أظهر معاونته لما ظهر من الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم بمثله فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك بمسئلتهم معونة هذا الخائن وقد قيل

أن هذه الطائفة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضا على يقين من أمر الخائن وسرقته ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزا على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره
فإن قيل كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالا إذا كان في الباطن خلافه وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن
قيل له لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلال وإنما الضلال إبراء الخائن من غير حقيقة علم فإنما اجتهدوا أن يضلوه عن هذا المعنى
قوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما فإنه قد قيل في الفرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة قد تكون من غير تعمد والإثم ما كان عن عمد فذكرهما جميعا ليبين حكمهما وأنه سواء كان تعمد أو غير تعمد فإنه إذا رمى به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا إذ غير جائز له رمي غيره بما لا يعلمه منه
قوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة الآية قال أهل اللغة النجوى هو الإسرار فأبان تعالى أنه لا خير في كثير ما يتسارون به إلا أن يكون ذلك أمرا بصدقة أو أمرا بمعروف أو إصلاح بين الناس وكل أعمال البر معروف لاعتراف العقول بها لأن العقول تعترف بالحق من جهة إقرارها به والتزامها له وتنكر الباطل من جهة زجرها عنه وتبريها منه ومن جهة أخرى سمى أعمال البر معروفا وهو أن أهل الفضل والدين يعرفون الخير لملابستهم إياه وعلمهم به ولا يعرفون الشر بمثل معرفتهم بالخير لأنهم لا يلابسونه ولا يعلمون به فسمى أعمال البر معروفا والشر منكرا
حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا عبدالسلام أبو الخليل عن عبيدة الهجيمي قال قال أبو جري جابر بن سليم ركبت قعودي ثم انطلقت إلى مكة فأنخت قعودي بباب المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم - جالس عليه بردان من صوف فيها طرائق حمر فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك السلام قلت إنا معشر أهل البادية فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها فقال أدن ثلاثا فدنوت فقال أعد علي فأعدت عليه فقال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل

دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله قال أبو جري والذهب ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن محمد المسلم الدقاق قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا سعيد بن مسلمة عن جعفر عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت أهله
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحماني والحسين بن إسحاق قالا حدثنا شيبان قال حدثنا عيسى بن شعيب قال حدثنا حفص بن سليمان عن يزيد بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل معروف صدقة وأول أهل الجنة دخولا أهل المعروف صنائع المعروف تقي مصارع السوء وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري يعني عبدالله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق وأما الصدقة فعلى وجوه منها الصدقة بالمال علىالفقراء فرضا تارة ونفلا أخرى ومنها معونة المسلم بالجاه والقول كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال كل معروف صدقة وقال ص - على كل سلامي من ابن آدم صدقة وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم قال رجل ممن كان قبلكم كان إذا خرج من بيته قال اللهم أني قد تصدقت بعرضي على من شتمه فجعل احتماله أذى الناس صدقة بعرضه عليهم
قوله عز و جل أو إصلاح بين الناس هو نظير قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما وقوله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وقال فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وقال تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة
وإنما قيد الكلام بشرط فعله ابتغاء مرضاة الله لئلا يتوهم أن من فعله للترأس على الناس والتأمر عليهم يدخل في هذا الوعد قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الآية فإن مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - مباينته ومعاداته بأن يصير في شق غير الشق الذي هو فيه وكذلك قوله تعالى إن الذين يحادون الله ورسوله هو أن يصير في حد غير حد الرسول وهو يعني مباينته في الاعتقاد والديانة وقال من بعد ما تبين له الهدى تغليظا في الزجر عنه وتقبيحا لحاله وتبيينا للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول ص - وقرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد فدل على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير سبيلهم وقوله نوله ما تولى إخبار عن براءة الله منه وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان واعتضد به ولا يتولى الله نصره ومعونته قوله تعالى ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام التبتيك التقطيع يقال بتكه يبتكه تبتيكا والمراد به في هذا الموضع شق أذن البحيرة روي ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي وقوله ولأمنينهم يعني والله أعلم أنه يمنيهم طول البقاء في الدنيا ونيل نعيمها ولذاتها ليركنوا إلى ذلك ويحرصوا عليه ويؤثروا الدنيا على الآخرة ويأمرهم أن يشقوا آذان الأنعام ويحرموا على أنفسهم وعلى الناس بذلك أكلها وهي البحيرة التي كانت ا لعرب تحرم أكلها وقوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله فإنه روي فيه ثلاثة أوجه أحدها عن ابن عباس رواية إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك والسدي دين الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام ويشهد له قوله تعالى لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم والثاني ما روي عن أنس وابن عباس رواية شهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أنه الخصاء والثالث ما روي عن عبدالله والحسن أنه الوشم وروى قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بإخصاء الدابة وعن طاوس وعروة مثله وروي عن ابن عمر أنه نهى عن الإخصاء وقال ما أنهى إلا في الذكور وقال ابن عباس إخصاء البهيمة مثله ثم قرأ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وروى عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن إخصاء الجمل قوله تعالى واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا هو نظير قوله ثم أوحينا

إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وهذا يوجب أن كل ما ثبت من ملة إبراهيم عليه السلام فعلينا اتباعه فإن قيل فواجب أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم -
هي شريعة إبراهيم عليه السلام قيل له إن ملة إبراهيم داخلة في ملة النبي ص - وفي ملة نبينا ص -
زيادة على ملة إبراهيم فوجب من أجل ذلك اتباع ملة إبراهيم إذ كانت داخلة في ملة النبي صلى الله عليه وسلم - فكان متبع ملة النبي صلى الله عليه وسلم - متبعا لملة إبراهيم وقيل في الحنيف أنه المستقيم فمن سلك طريق الاستقامة فهو على الحنيفية وإنما قيل للمعوج الرجل أحنف تفاؤلا كما قيل للمهلكة مفازة وللديغ سليما وقوله واتخذ الله إبراهيم خليلا فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما الاصطفاء بالمحبة والاختصاص بالأسرار دون من ليس له تلك المنزلة والثاني أنه من الخلة وهي الحاجة فخليل الله المحتاج إليه المنقطع إليه بحوائجه فإذا أريد به الوجه الأول جاز أن يقال إن إبراهيم خليل الله والله تعالى خليل إبراهيم وإذا أريد به الوجه الثاني لم يجز أن يوصف الله بأنه خليل إبراهيم وجاز أن يوصف إبراهيم بأنه خليل الله وقوله تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن قال أبو بكر روي أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق
وقوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء يعني به ما ذكر في أول السورة من قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقد بيناه في مواضعه والله الموفق
باب
مصالحة المرأة وزوجها قال الله تعالى وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا قيل في معنى النشوز أنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة وقوله أو إعراضا يعني لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح فروي علن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها وقال عمر ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم -
فقالت يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت هذه الآية وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وقال هشام

ابن عروة عن أبيه عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى فلا جناح عليهما إلى قوله تعالى والصلح خير وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم - يقسم به لها قال أبو بكر فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحا على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء لأن ذلك أكل مال بالباطل أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه لأنه لا يسقط مع وجوب السبب الموجب له وهو عقد النكاح وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد فإن قيل فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة قيل له لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه أو بعضه أو على الزيادة عليه لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه وقوله تعالى والصلح خير قال بعض أهل العلم يعني خير من الإعراض والنشوز وقال آخرون من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل ويدل على جواز الصلح عن إنكار والصلح من

المجهول وقوله تعالى وأحضرت الأنفس الشح
قال ابن عباس وسعيد بن جبير الشح على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهن وقال الحسن تشح نفس كل واحد من الرجل والمرأة بحقه قبل صاحبه والشح البخل وهو الحرص على منع الخير قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية روي عن أبي عبيدة قال يعني المودة وميل الطباع وكذلك روي عن ابن عباس والحسن وقتادة
وقوله تعالى فلا تميلوا كل الميل يعني والله أعلم إظهاره بالفعل حتى ينصرف عنها إلى غيرها يدل عليه قوله فتذروها كالمعلقة قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة لا أيم ولا ذات زوج وقد روى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط وهذا الخبر يدل أيضا على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أولى لقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فقال تعالى بعد ذكره ما يجب لها من العدل في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته تسلية لكل واحد منهما عن الآخر وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما يجريه منه على أيدي عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه وبالله التوفيق
باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم الآية روى قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله قال هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه عن الآخر وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبدالله بن مهران الدينوري قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا عباد بن كثير بن أبي عبدالله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر قال أبو بكر قوله تعالى كونوا قوامين بالقسط قد

أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل وذلك موجب على كل أحد إنصاف الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصاف المظلوم من ظالمه ومنع الظالم من ظلمه لأن جميع ذلك من القيام بالقسط ثم أكد ذلك بقوله شهداء لله يعني والله أعلم فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب الحق لاستخراج حقه منه وأيضا له إليه وهو مثل قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه بقوله تعالى ولو على أنفسكم لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخصمه فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يقر إذا طالبه صاحب الحق وقوله تعالى أو الوالدين والأقربين فيه أمر بإقامة الشهادة علىالوالدين والأقربين ودل على جواز شهادة الإنسان على والديه وعلى سائر أقربائه لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما وأن ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك لأن ذلك منع لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قال ص -
أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه وهو مثل قوله ص - لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك
وقوله تعالى إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا عليه فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم بمصالح الجميع فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم
وقوله تعالى فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا يعني لا تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء وهو نظير قوله تعالى إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما بفقره وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي لفقد علمه بعدمه
وقوله تعالى وإن تلووا أو تعرضوا فإنه يحتمل ما روي عن ابن عباس أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون

ليه وإعراضه على أحدهما واللي هو الدفع ومنه قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يعني مطله ودفع الطالب عن حقه فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم والشاهد جميعا لاحتمال اللفظ لهما فيفيد ذلك الأمر بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر والكلام وترك إسرار احدهما والخلوة به كما روي عن علي كرم الله وجهه قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن نضيف أحد الخصمين دون الآخر وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله قيل فيه يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء آمنوا بالله وبمحمد وما أتى به من عند الله لأنهم من حيث آمنوا بالمتقدمين من الأنبياء لما كان معهم من الآيات فقد ألزمهم الإيمان بمحمد ص -
لهذه العلة بعينها ومن جهة أخرى أن في كتب الأنبياء المتقدمين البشارة بمحمد ص - فمن حيث آمنوا بهم وصدقوا بما اخبروا به عن الله تعالى وقد أخبروهم نبوة محمد ص -
فعليهم الإيمان به وهم محجوجون بذلك وقيل إنه خطاب للمؤمنين بمحمد ص - وأمر لهم بالمداومة على الإيمان والثبات عليه والله أعلم
باب
استتابة المرتد قال الله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا قال قتادة يعني به أهل الكتابين من اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته ثم ازدادوا كفرا بمخالفة الفرقان ومحمد ص - وقال مجاهد هي في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم وقال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك أهل الإسلام وكانوا يظهرون الإيمان به والكفر به وقد بين الله أمرهم في قوله
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون
قال أبو بكر هذا يدل على أن المرتد متى تاب تقبل توبته وإن توبة الزنديق مقبولة إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار وقبول توبته بعد الكفر مرة بعد

أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان واختلف الفقهاء في استتابة المرتد والزنديق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر في الأصل لا يقتل المرتد حتى يستتاب ومن قتل مرتدا قبل أن يستتاب فلا ضمان عليه وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق الذي يظهر الإيمان قال أبو حنيفة أستتيبه كالمرتد فإن أسلم خليت سبيله وإن أبى قتلته وقال أبو يوسف كذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال أرى إذا أتيت بزنديق آمر بضرب عنقه ولا أستتيبه فإن تاب قبل أن أقتله خليته وذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف قال إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حبسته حتى أعلم توبته وذكر محمد في السير عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إن المرتد يعرض عليه السلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام ولم يحك خلافا
قال أبو جعفر الطحاوي وحدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال قال أبو حنيفة أقتل الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف ولم يحك أبو يوسف خلافه وقال ابن القاسم عن مالك المرتد يعرض عليه الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما يقتل الزنادقة وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه قال مالك يقتل الزنادقة ولا يستتابون فقيل لمالك فكيف يستتاب القدرية قال يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا وإن أقر القدرية بالعلم لم يقتلوا
وروى مالك عن زيد بن أسلم قال قال النبي صلى الله عليه وسلم - من غير دينه فاضربوا عنقه قال مالك هذا فيمن ترك الإسلام ولم يقربه لا فيمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية قال مالك وإذا رجع المرتد إلى الإسلام فلا ضرب عليه وحسن أن يترك المرتد ثلاثة أيام ويعجبني وقال الحسن بن صالح يستتاب المرتد وإن تاب مائة مرة وقال الليث الناس لا يستتيبون من ولد في الإسلام إذا شهد عليه بالردة ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة وقال الشافعي يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق وإن لم يتب قتل وفي الاستتابة ثلاثا قولان أحدهما حديث عمر والآخر أنه لا يؤخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بأناة وهذا ظاهر الخبر قال أبو بكر روى سفيان عن جابر عن الشعبي قال يستتاب المرتد ثلاثا ثم قرأ إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية وروي

عن عمر أنه أمر باستتابته ثلاثا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من بدل دينه فاقتلوه ولم يذكر فيه استتابته إلا أنه يجوز أن يكون محمولا على أنه قد استحق القتل وذلك لا يمنع دعاءه إلى الإسلام والتوبة لقوله تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآيةوقال تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فأمر بالدعاء إلى دين الله تعالى ولم يفرق بين المرتد وبين غيره فظاهره يقتضي دعاء المرتد إلى الإسلام كدعاء سائر الكفار ودعاؤه إلى الإسلام هو الاستتابة وقال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقد تضمن ذلك الدعاء إلى الإيمان ويحتج بذلك أيضا في استتابة الزنديق لاقتضاء عموم اللفظ له وكذلك قوله إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا لم يفرق فيه بين الزنديق وغيره فظاهره يقتضي قبول إسلامه فإن قيل قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف لا دلالة فيه على زوال القتل عنه لأنا نقول هو مغفور له ذنوبه ويجب مع ذلك قتله كما يقتل الزاني المحصن وإن كان تائبا ويقتل قاتل النفس مع التوبة
قيل له قوله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف يقتضي غفران ذنوبه وقبول توبته لو لم تكن مقبولة لما كانت ذنوبه مغفورة وفي ذلك دليل على صحة استتابته وقبولها منه في أحكام الدنيا والآخرة وأيضا فإن قتل الكافر إنما هو مستحق بإقامته على الكفر فإذا انتقل عنه إلى الإيمان فقد زال المعنى الذي من أجله وجب قتله وعاد إلى حظر دمه ألا ترى أن المرتد ظاهرا متى أظهر الإسلام حقن دمه كذلك الزنديق وقد روي عن ابن عباس في المرتد الذي لحق بمكة وكتب إلى قومه سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هل لي من توبة فأنزل الله كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله تعالى إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فكتبوا بها إليه فرجع فأسلم فحكم له بالتوبة بما ظهر من قوله فوجب استعمال ذلك والحكم له بما يظهر منه دون ما في قلبه
وقول من قال إني لا أعرف توبته إذا كفر سرا فإنا لا نؤاخذ باعتبار حقيقة اعتقاده لأن ذلك لا نصل إليه وقد حظر الله علينا الحكم بالظن بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقال إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ومعلوم أنه لم يرد حقيقة العلم بضمائرهن

واعتقادهن وإنما أراد ما ظهر من إيمانهن بالقول وجعل ذلك علما فدل على أنه لا اعتبار بالضمير في أحكام الدنيا وإنما الاعتبار بما يظهر من القول وقال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا وذلك عموم في جميع الكفار وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها متعوذا قال هلا شققت عن قلبه
وروى الثوري عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبدالله فقال ما بيني وبين أحد من العرب أحنة وأني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبدالله فجاء بهم واستتابهم غير ابن النواحة قال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول أبن ما كنت تظهر من الإسلام قال كنت أتقيكم به فأمر به قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا بالسوق فهذا مما يحتج به من لم يقبل توبة الزنديق وذلك لأنه استتاب القوم وقد كانوا مظهرين لكفرهم وأما ابن النواحة فلم يستتبه لأنه أقر أنه كان مسرا للكفر مظهرا للإيمان على وجه التقية وقد كان قتله إياه بحضرة الصحابة لأن في الحديث أنه شاور الصحابة فيهم وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله قال أخذ بالكوفة رجال يؤمنون بمسيلمة الكذاب فكتب فيهم إلى عثمان فكتب عثمان أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن قالها وتبرأ من دين مسيلمة فلا تقتلوه ومن لزم دين مسيلمة فاقتله فقبلها رجال منهم ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا
قوله تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين قيل في معنى قوله أولياء من دون المؤمنين إنهم اتخذوهم أنصارا واعتضادا لتوهمهم أن لهم القوة والمنعة بعداوتهم للمسلمين بالمخالفة جهلا منهم بدين الله وهذا من صفة المنافقين المذكورين في الآية وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار إذ كانوا متى غلبوا كان حكم الكفر هو الغالب وبذلك قال أصحابنا
وقوله أيبتغون عندهم العزة يدل على صحة هذا الاعتبار وأن الاستعانة بالكفار لا تجوز إذ كانوا متى غلبوا كان الغلبة والظهور للكفار وكان حكم الكفر هو الغالب
فإن قيل إذا كانت الآية في شأن المنافقين وهم كفار فكيف يجوز الاستدلال به على المؤمنين قيل له لأنه قد ثبت أن هذا الفعل محظور فلا يختلف

حكمه بعد ذلك أن يكون من المؤمنين أو من غيرهم لأن الله تعالى متى ذم قوما على فعل فذلك الفعل قبيح لا يجوز لأحد من الناس فعله إلا أن تقوم الدلالة عليه وقيل إن أصل العزة هو الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز وقيل قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه ومنه قول القائل عز علي كذا إذا اشتد عليه وعز الشيء إذا قل لأنه يشتد مطلبه وعازه في الأمر إذا شاده فيه وشاة عزوز إذا كانت تحلب بشدة لضيق أحاليلها والعزة القوة منقولة عن الشدة والعزيز القوي المنيع فتضمنت الآية النهي عن اتخاذ الكفار أولياء وأنصارا أو الاعتزاز بهم والالتجاء إليهم للتعزز بهم
وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم الدوري قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثنا عبدالله بن عبدالله الأموي عن الحسن بن الحر عن يعقوب بن عتبة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من اعتز بالعبيد أذله الله تعالى وهذا محمول علىمعنى الآية فيمن اعتز بالكفار والفساق ونحوهم فأما أن يعتز بالمؤمنين فذلك غير مذموم قال الله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقوله تعالى أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا تأكيد للنهي عن الاعتزاز بالكفار وإخبار بأن العزة لله دونهم وذلك منصرف على وجوه أحدها امتناع إطلاق العزة لله عز و جل لأنه لا يعتد بعزة أحد مع عزته لصغرها واحتقارها في صفة عزته والآخر أنه المقوي لمن له القوة من جميع خلقه فجميع العزة له إذ كان عزيزا لنفسه معزا لكل من نسب إليه شيء من العزة والآخر أن الكفار أذلاء في حكم الله فانتفت عنهم صفة العزة وكانت لله ومن جعلها له في الحكم وهم المؤمنون فالكفار وإن حصل لهم ضرب من القوة والمنعة فغير مستحق لإطلاق اسم العزة لهم
قوله تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فيه نهي عن مجالسة من يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال تعالى فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وحتى ههنا تحتمل معنيين أحدهما أنها تصير غاية لحظر القعود معهم حتى إذا تركوا إظهار الكفر والاستهزاء بآيات الله زال الحظر عن مجالستهم والثاني أنهم كانوا إذا رأوا هؤلاء أظهروا الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال لا تقعدوا معهم لئلا يظهروا ذلك ويزدادوا كفرا واستهزاء بمجالستكم لهم والأول أظهر وروي عن الحسن أن ما اقتضته الآية من

إباحة المجالسة إذا خاضوا في حديث غيره منسوخ بقوله فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين قيل إنه يعني مشركي العرب وقيل أراد به المنافقين الذين ذكروا في هذه الآية وقيل بل هي عامة في سائر الظالمين
وقوله إنكم إذا مثلهم قد قيل فيه وجهان أحدهما في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر والثاني إنكم مثلهم في الرضى بحالهم في ظاهر أمركم والرضى بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفر ولكن من قعد معهم ساخطا لتلك الحال منهم لم يكفر وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن من إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها فإن قيل فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه قيل له قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي وترك حضور الجنازة لما معها من النوح وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أولى وإذا كان هناك حق يقوم به ولم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره وكراهته وقال قائلون إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله لأن في مجالستهم تأنيسا لهم ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب أنه لا ينبغي له أن يخرج وقال لقد ابتليت به مرة وروي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نوح فانصرف ابن سيرين فذكر ذلك للحسن فقال إنا كنا متى رأينا باطلا وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره وكذلك حضور الوليمة قد ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم - فلم يجز أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبدالله الغداني قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر مزمارا فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا فقلت لا فرفع أصبعيه من أذنيه وقال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم - فسمع

مثل هذا فصنع مثل هذا وهذا هو اختيار لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره فأما أن يكون واجبا فلا قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا روي عن علي وابن عباس قالا سبيلا في الآخرة وعن السدي ولن يجعل الله لهم عليهم حجة يعني فيما فعلوا بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضه عقد النكاح كما قال تعالى الرجال قوامون على النساء فاقتضى قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقوع الفرقة بردة الزوج وزوال سبيله عليها لأنه ما دام النكاح باقيا فحقوقه ثابتة وسبيله باق عليها
فإن قيل إنما قال على المؤمنين فلا تدخل النساء فيه
قيل له إطلاق لفظ التذكير يشتمل على المؤنث والمذكر كقوله إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقد أراد به الرجال والنساء وكذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ونحوه من الألفاظ ويحتج بظاهره أيضا في الكافر الذمى إذا أسلمت امرأته أنه يفرق بينهما إن لم يسلم وفي الحربي كذلك أيضا فإنه لا يجوز إقرارها تحته أبدا ويحتج به أصحاب الشافعي في إبطال شرى الذمي للعبد المسلم لأنه بالملك يستحق السبيل عليه وليس ذلك كما قالوا لأن الشرى ليس هو المنفي بالآية لأن ا لشرا ليس هو الملك الملك إنما يتعقب الشرى وحينئذ يملك السبيل عليه فإذا ليس في الآية نفي الشرى وإنما فيها نفي السبيل
فإن قيل إذا كان الشرى هو المؤدي إلى حصول السبيل وجب أن يكون منتفيا كما كان السبيل منتفيا قيل له ليس الأمر كذلك لأنه ليس يمتنع أن يكون السبيل عليه منتفيا ويكون الشرى المؤدي إلى حصول السبيل جائزا وإنما أردت نفي الشرى بالآية نفسها فإن ضممت إلى الآية معنى آخر في نفي الشرى فقد عدلت عن الاحتجاج بها وثبت بذلك أن الآية غير مانعة صحة الشرىوأيضا فإنه لا يستحق بصحة الشرى السبيل عليه لأنه ممنوع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع وإخراجه عن ملكه فلم يحصل له ههنا سبيل عليه وقوله تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم قيل فيه وجهان أحدهما يخادعون نبي الله والمؤمنين بما يظهرون من الإيمان لحقن دمائهم ومشاركة المسلمين في غنائمهم والله تعالى يخادعهم بالعقاب على خداعهم فسمى الجزاء

على الفعل باسمه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه والآخر أنهم يعملون عمل المخادع لمالكه بما يظهرون من الإيمان ويبطنون خلافه وهو يعمل عمل المخادع بما أمر به من قبول إيمانهم من علمهم بأن الله عليم بما يبطنون من كفرهم
وقوله تعالى ولا يذكرون الله إلا قليلا قيل فيه إنما سماه قليلا لأنه لغير وجهه فهو قليل في المعنى وإن كثر الفعل منهم وقال قتادة إنما سماه قليلا لأنه على وجه الرياء فهو حقير غير متقبل منهم بل هو وبال عليهم وقيل إنه أراد إلا يسيرا من الذكر نحو ما يظهرونه للناس دون ما أمروا به من ذكر الله في كل حال أمر به المؤمنين في قوله تعالى فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وأخبر أيضا أنهم يقومون إلى الصلاة كسالى مراآة للناس والكسل هو التثاقل عن الشيء للمشقة فيه مع ضعف الدواعي إليه فلما لم يكونوا معتقدين للإيمان لم يكن لهم داع إلى الصلاة إلا مراآة للنا خوفا منهم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين فإن الولي هو الذي يتولى صاحبه بما يجعل له من النصرة والمعونة على أمره والمؤمن ولي الله بما يتولى من إخلاص طاعته والله ولي المؤمنين بما يتولى من جزائهم على طاعته واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدا كان أو غيره ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية وهو نظير قوله لا تتخذوا بطانة من دونكم وقد كره أصحابنا توكيل الذمي في الشرى والبيع ودفع المال إليه مضاربة وهذه الآية دالة على صحة هذا القول
قوله تعالى وأخلصوا دينهم لله يدل على أن كل ما كان من أمر الدين على منهاج القرب فسبيله أن يكون خالصا لله سالما من شوب الرياء أو طلب عرض من الدنيا أو ما يحبطه من المعاصي وهذا يدل على امتناع جواز أخذ شيء من أعراض الدنيا على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة من نحو الصلاة والأذان والحج
قوله عز و جل لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ابن عباس وقتادة إلا أن يدعو على ظالمه وعن مجاهد رواية إلا أن يخبر بظلم ظالمه له وقال الحسن والسدي إلا أن ينتصر من ظالمه وذكر الفرات بن سليمان قال سئل عبدالكريم عن قول الله لا يحب الله الجهر

بالسوء من القول إلا من ظلم قال هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفتري عليه وهو مثل قوله ولمن انتصر بعد ظلمه وروى ابن عيينة عن أبي نجيح عن إبراهيم بن أبي بكر عن مجاهد في قوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ذاك في الضيافة إذا جئت الرجل فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه
قال أبو بكر إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة وجائز أن يكون فيمن لا يجد ما يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه فهذا مذموم يجوز أن يشكى وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يحب ذلك وما لا يحبه فهو الذي لا يريده فعلينا أن نكرهه وننكره وقال إلا من ظلم فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه
وقوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم قال قتادة عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل لله والذي حرم عليهم ما بينه تعالى في قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وقوله وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه
قوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم روي عن قتادة أن لكن ههنا استثناء وقيل أن لا ولكن قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق إلا ويراد بها لكن كقوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومعناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة فأقيمت إلا في هذا الموضع مقام لكن وتنفصل لكن من إلا بأن إلا لإخراج بعض من كل ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك ما جاءني زيد لكن عمرو وحقيقة لكن الاستدراك ولا للتخصيص قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم روي عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت

في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة فغلا الفريقان جميعا في أمره والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار قال فناولته إياها مثل حصا الخذف فجعل يقلبهن بيده ويقول بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في دينهم ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي
قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه أحدها ما روي عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله وهو قوله كن فيكون لا على سبيل ما أجري العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا والثاني أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله والثالث ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه
وأما قوله تعالى وروح منه فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله والنفخ يسمى روحا كقول ذي الرمة ... فقلت له أرفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا ...
أي بنفختك وقيل إنما سماه روحا لأنه يحيى الناس به كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمي القرآن روحا في قوله وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقيل لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له كما يقال بيت الله وسماء الله
قوله يبين الله لكم أن تضلوا قيل فيه إنه بمعنى لئلا تضلوا فحذف لا كما تحذف مع القسم في قولك والله أبرح قاعدا أي لا أبرح قال الشاعر ... تالله يبقى على الأيام ذو حيد ...
معناه لا يبقى وقيل يبين الله لكم كراهة أن تضلوا كقوله واسئل القرية يعني أهل القرية
سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود روي عن ابن عباس ومجاهد ومطرف

والربيع والضحاك والسدي وابن جريج والثوري قالوا العقود في هذا الموضع أراد بها العهود وروى معمر عن قتادة قال هي عقود الجاهلية الحلف وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فقال حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال ابن عيينة إنما آخى بين المهاجرين والأنصار قال أبو بكر قال الله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أولى من الحليف بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فقد كان حلف الإسلا على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا وأما قوله لا حلف في الإسلام فإنه جائز أن يريد به الحلف علىالوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف وقد كان حلف الجاهلية على وجوه منها الحلف في التناصر فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهم صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوي ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه مكروه منهم فجائز أن يكون أراد بقوله لا حلف في الإسلام هذا الضرب من الحلف وكانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام

لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -
باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال النبي صلى الله عليه وسلم - المؤمنون يد على من سواهم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا حلف في الإسلام وأما قوله وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبدالمطلب قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وإني أغدر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسي في المعاش فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك وهو شيء مستحسن في العقول بل واجب فيها قبل ورود الشرع فعلمنا أن قوله لا حلف في الإسلام إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة وقد روي عنه ص - أنه قال حضرت حلف المطيبين وأنا غلام وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه وأما قوله وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة والعقد في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل إذا شددته واليمين على المستقبل تسمى عقدا قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان والحلف يسمىعقدا قال الله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وقال أبو عبيدة في قوله أوفوا بالعقود قال هي العهود والأيمان وروي عن
ج11.==================================================
ج11.. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص


جابر في قوله أوفوا بالعقود قال هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد وزاد زيد بن أسلم من قبله وعقد الشركة وعقد اليمين وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبدالله بن عبيدة قال العقود ستة عقد الأيمان وعقد النكاح وعقدة العهد وعقدة الشرى والبيع وعقدة الحلف قال أبو بكر العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشد ثم نقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها فإنما أريد به إلزام الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظرا مراعى في المستقبل من الأوقات فيسمى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقودا لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به وسمي اليمين على المستقبل عقدا لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك والشركة والمضاربة ونحوها تسمى أيضا عقودا لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شرطه على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها وكذلك كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك ومالا تعلق له بمعنى في المستقبل ينتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماض قد وقع فإنه لا يسمى عقدا ألا ترى أن من طلق امرأته فإنه لا يسمى طلاقه عقدا ولو قال لها إذا دخلت الدار فأنت طالق كان ذلك عقدا ليمين ولو قال والله لقد دخلت الدار أمس لم يكن عاقدا لشيء ولو قال لأدخلنها غدا كان عاقدا ويدلك على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصح في المستقبل لو قال علي أن أدخل الدار أمس كان لغوا من الكلام مستحيلا ولو قال علي أن أدخلها غدا كان إيجابا مفعولا فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك وذلك معدوم في الماضي ألا ترى أن من قال والله لأكلمن زيدا فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه وكذلك لو قال والله لا كلمت زيدا كان مؤكدا به نفي كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفي أو إثبات فسمي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والإستيثاق به ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه

ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي أن ضد العقد هو الحل ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس يعقد لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل
فإن قيل قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وأنت إذا جاء غد هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ
قيل له جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحل ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر وليس في الكوز ماء أن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا لأنه ليس له نقيض من الحل ولو قال إن لم أصعد السماء فعبدي حر حنث بعد انعقاد يمينه لأن لهذا العقد نقيضا من الحل وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول إذ كان صعود السماء معنى متوهما معقولا وكذلك تركه معقول جائز وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا
وقد اشتمل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقوله تعالى وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى أوفوا بالعقود أي بعقود الله فيما حرم وحلل
وعن الحسن قال يعني عقود الدين واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجازات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقود فمتى اختلفنا في جواز عقده أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج بقوله تعالى أوفوا بالعقود لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجازات والبيوع وغييرها ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار لأن الآية لم تفرق بين شيء منها وقوله ص -
والمسلمون عند شروطهم في معنى قول الله تعالى أوفوا بالعقود وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرط الإنسان على نفسه مالم تقم دلالة

تخصصه
فإن قيل هل يجب على كل من عقد على نفسه يمينا أو نذرا أو شرطا لغيره الوفاء بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه قيل له أما النذور فهي على ثلاثة أنحاء منها نذر قربة فيصير واجبا بنذره بعد أن كان فعله قربة غير وجب لقوله تعالى أوفوا بالعقود وقوله تعالى أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وقوله تعالى يوفون بالنذر وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون وقوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فذمهم على ترك الوفاء بالمنذور نفسه وقول النبي صلى الله عليه وسلم -
لعمر بن الخطاب أوف بنذرك حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية وقوله ص - من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء بعينه وقسم آخر وهو ما كان مباحا غير قربة فمتى نذر ه لا يصير واجبا ولا يلزمه فعله فإذا أراد به يمينا فعليه كفارة يمين إذا لم يفعله مثل قوله لله علي أن أكلم زيدا وأدخل هذه الدار وأمشي إلى السوق فهذه أمور مباحة لا تلزم بالنذر لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجبا بالنذر فإن أراد به اليمين كان يمينا وعليه الكفارة إذا حنث والقسم الثالث ما نذر المعصية نحو أن يقول لله علي أن أقتل فلانا أو أشرب الخمر أو أغصب فلانا ماله فهذه أمور هي معاص لله تعالى لا يجوز له الإقدام عليه لأجل النذور وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر وهذا يدل على ما ذكرناه في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات أنها لا تصير واجبة بالنذور كما أن ما كان محظروا لا يصير مباحا ولا واجبا بالنذر وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يمينا وحنث لقوله ص - لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء وأما الأيمان فإنها تعقد على هذه الأمور من قربة أو مباح أو معصية فإذا عقدها على قربة لم تصر واجبة باليمين ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يف به وحنث لزمته الكفارة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعبدالله بن عمر بلغني أنك قلت والله لأصومن الدهر فقال نعم قال فلا تفعل ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال إني أطيق أكثر من ذلك إلى أن ورده إلى أن يصوم يوما ويفطر

يوما فلم يلزمه صوم الدهر باليمين فدل ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه ولذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لأصومن غدا ثم لم يصمه فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين والقسم الآخر من الأيمان هو أن يحلف على مباح أن يفعله فلا يلزمه فعله كما لا يلزمه فعل القربة المحلوف عليها فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك حنث لزمته الكفارة والقسم الثالث أن يحلف على معصية فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنها لقوله ص - من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقال أني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني وقال الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن أثاثة لما كان منه من الخوض في أمر عائشة رضي الله عنها فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الانفاق عليه قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام قيل في الأنعام أنها الإبل والبقر والغنم وقال بعضهم الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة وتتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل ولا تتناولهما منفردة عن الإبل وقد روي عن الحسن القول الأول وقيل إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه أخذ من نعومة الوطء ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة غير محلي الصيد وأنتم حرم ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ثم عطف عليه قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها وقد روي عن ابن عباس أنه قال في جنين البقرة أنها بهيمة الأنعام وهو كذلك لأن البقرة من الأنعام وإنما قال بهيمة الأنعام وإن كانت الأنعام كلها من البهائم لأنه بمنزلة قوله أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي كما تقول نفس الأنسان
ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية وليس كذلك لأنه لم يجهل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الإيمان في قوله

تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم بل الإباحة عامة لجيمع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وكذلك قلنا إن الكفار مستحقون للعقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان
فإن قيل إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به فمن لم يعتقد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا وزعم هذا القول أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبح ذكاة وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا وأما قوله إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه فليس كذلك لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته قوله عز و جل إلا ما يتلى عليكم روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي إلا ما يتلى عليكم يعني قوله حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما حرم في القرآن وقال آخرون إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فكأنه قال على هذا التأويل إلا ما يتلى عليكم في نسق هذا الخطاب قال أبو بكر يحتمل قوله إلا ما يتلى عليكم مما قد حصل تحريمه ما روي عن ابن عباس فإذا أريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملا لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم فيكون قوله أحلت

لكم بهيمة الأنعام عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها وجعل هذه الأباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله حرمت عليكم الميتة والدم ويحتمل أن يريد بقوله إلا ما يتلى عليكم إلا ما يبين حرمته فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني فهذا يوجب إجمال قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام لاستثنائه بعضها فهو مجهول المعنى عندنا فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال ويكون حكمه موقوفا على البيان وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها
فإن قيل قوله تعالى إلا ما يتلى عليكم يقتضي تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلا علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني
قيل له يجوز أن يريد به ما قد تلى علينا ويتلى في الثاني لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها
قوله تعالى غير محلي الصيد وأنتم حرم قال أبو بكر فمن الناس من يحمله على معنى إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فيكون المستثنى بقوله إلا ما يتلى عليكم هو الصيد الذي حرمه على المحرمين وهذا تأويل يؤدي إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني وهو قوله غير محلي الصيد وأنتم حرم ويجعله بمنزلة قوله إلا ما يتلى عليكم وهو تحريم الصيد على المحرم وذلك تعسف في التأويل ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة فهذا تأويل لا وجه له ثم لا يخلو من أن يكون قوله غير محلى الصيد وأنتم حرم مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله إلا ما يتلى عليكم إلا محلي الصيد وأنتم حرم ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام لأنه استثناء من

المحظور إذ كان مثل قوله إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد مما قد بين وسيبين تحريمه في الثاني أو أن يكون معناه أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله روي عن السلف فيه وجوه فروي عن ابن عباس أن الشعائر مناسك الحج وقال مجاهد الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر وقال عطاء فرائض الله التي حدها لعباده وقال الحسن دين الله كله لقوله تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب أي دين الله وقيل إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية والأصل في الشعائر أنها مأخوذه من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس ومنه مشاعر البدن وهي الحواس والمشاعر أيضا هي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات وتقول قد شعرت به أي علمته وقال تعالى لا يشعرون يعني لا يعلمون ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شعيرة وهي العلامة التي يشعر بها الشيء ويعلم فقوله تعالى لا تحلوا شعائر الله قد انتظم جميع معالم دين الله وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما وحظر استحلاله بالقتال فيه وحظر قتل من لجأ إليه ويدل أيضا على وجوب السعي بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما روي عن مجاهد لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم - بهما فثبت أنهما من شعائر الله وقوله عز و جل ولا الشهر الحرام روي عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه قال الله تعالى في سورة البقرة يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وقد بينا أنه منسوخ وذكرنا قول من روي عنه ذلك وأن قوله اقتلوا المشركين نسخه وقال عطاء حكمه ثابت والقتال في الشهر الحرام محظور وقد اختلف في المراد بقوله ولا الشهر الحرام فقال قتادة معناه الأشهر الحرم وقال عكرمة هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وجائز أن يكون المراد بقوله ولا الشهر الحرام هذه الأشهر كلها وجائز أن يكون جميعها في حكم واحد منها وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ إذ

كان جميعها في حكم واحد منها فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع قوله تعالى ولا الهدي ولا القلائد أما الهدي فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبي صلى الله عليه وسلم - المبتكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه المهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة والبيضة هديا وأراد به الصدقة وكذلك قال أصحابنا فيمن قال ثوبي هذا هدى أن عليه أن يتصدق به إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه قال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة وقال تعالى من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وأقله شاة عند جميع الفقهاء فاسم الهدي إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم وقوله ولا الهدي أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم وإحلاله استباحة لغير ما سيق إليه من القربة وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدي إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو أجزاء صيد وظاهره يمنع جواز الأكل من هدى المتعة والقرآن لشمول الأسم له إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه وأما قوله عز و جل ولا القلائد فإن معناه لا تحلو القلائد وقد روى في تأويل القلائد وجوه عن السلف فقال ابن عباس أراد الهدي المقلد قال أبو بكر هذا يدل على أن من الهدي ما يقلد ومنه مالا يقلد والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم فحظر تعالى إحلال الهدي مقلدا وغير مقلد وقال مجاهد كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم فكان ذلك أمنا لهم فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا وروي نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم وقال بعض أهل العلم أراد به قلائد الهدي بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها وروي عن الحسن أنه قال يقلد الهدي بالنعال فإذا لم توجد فالجفاف تقور ثم تجعل في أعناقها ثم يتصدق بها وقيل هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدي قال أبو

بكر قد دلت الآية على أن تقليد الهدي قربة وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك وإن لم يوجبه بالقول فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به وقد دل أيضا على أن قلائد الهدي يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها وقال له تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدي ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه لأن قوله ولا الهدي ولا القلائد قد تضمن ذلك كله وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها وهو قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد فلولا ما تعلق بالهدي والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلقها بالشهر وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الأخبار عما فيها من المنافع وصلاح اناس وقوامهم وروى الحكم عن مجاهد قال لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد نسختها اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - وإن جاؤوك فأحكم بينهم الآية نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله قال أبو بكر يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون به أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدي لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين بعدهم وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى ولا القلائد قال كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا فنزلت لا تحلوا شعائر الله قال أبو بكر يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر الحرم ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام وأما المشركين فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا والمسلمون قد استغنوا عن ذلك فلم يبق له حكم وبقي حكم قلائد الهدي ثابتا وقد حدثنا عبدالله بن

محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام الآية قال منسوخ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد فلادة شعر فلم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسختها قوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية وكان الرجل إذا لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الأذخر أو من لحاء شجر الحرام فمنعت الناس عنه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قال كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال سألت الحسن هل نسخ من المائدة شيء فقال لا وهذا يدل على أن قوله تعالى ولا آمين البيت الحرام إنما أريد به المؤمنون عند الحسن لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقوله أيضا ولا الشهر الحرام حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتا على نحو ما روي عن عطاء قوله تعالى

يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا روي عن ابن عمر أنه قال أريد به الربح في التجارة وهو نحو قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن التجارة في الحج فأنزل الله تعالى ذلك وقد ذكرناه فيما تقدم وقال مجاهد في قوله تعالى يتبغون فضلا من ربهم ورضوانا الأجرة والتجارة قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قال مجاهد وعطاء في آخرين هو تعليم إن شاء صاد وإن شاء لم يصد قال أبو بكر هو إطلاق من حظر بمنزلة قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله لما حظر البيع بقوله وذروا البيع عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قد تضمن إحراما متقدما لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام وهذا يدل على أن قوله ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قد اقتضى كون من فعل ذلك محرما فيدل على أن سوق الهدي وتقليده يوجب الإحرام ويدل قوله ولا آمين البيت الحرام على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام إذ كان قوله وإذا حللتم فاصطادوا قد يضمن أن يكون من أم البيت الحرام فعليه إحرام يحل منه ويحل له الاصطياد بعده وقوله وإذا حللتم فاصطادوا قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله ولا ينفر صيدها ولا خلاف بين السلف والخلف فيه فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعا وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق وإن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع لقوله تعالى وإذا حللتم باصطادوا وهذا قد حل إذ كان هذا الحلق واقعا للإحلال وقوله تعالى ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا قال ابن عباس وقتادة لا يجرمنكم لا يحملنكم وقال أهل اللغة يقال جرمني زيد على بغضك أو حملني عليه وقال الفراء لا يكسبنكم يقال جرمت على أهلي أي كسبت لهم وفلان جريمة أهله أي كاسبهم قال الشاعر ... جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا

ويقال جرم يجرم جرما إذا قطع وقوله تعالى شنآن قوم فرىء بفتح النون وسكونا فمن فتح النون جعله مصدرا من قولك شنئته أشنأه شنآنا والشنآن البغض فكأنه قال ولا يجرمنكم بغض قوم وكذلك روي عن ابن عباس وقتادة قالا عداوة قوم ومن قرأ بسكون النون فمعناه بغيض قوم فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحق إلى الظلم والتعدي لأجل تعدى الكفار بصدهم المسلمين عن المسجد الحرام ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم -
أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى يعتضي ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان تعالى لأن البر هو طاعات الله وقوله تعالى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان نهى عن معاونة غيرنا على معاصي الله تعالى قوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية الميتة ما فارقته الروح بغير تزكية مما شرط علينا الزكاة في إباحته وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح لقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا وقد بينا ذلك في سورة البقرة
والدليل أيضا على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاق المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أحلت لي ميتتان ودمان يعنى بالدمين الكبد والطحال فأباحهما وهما دمان إذ ليسا بمسفوح فدل على إباحة كل ماليس بمسفوح من الدماء فإن قيل لما حصر المباح منه بعدد دل على حظر ما عداه قيل هذا غلط لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في حلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق فدل على أن حصره الدمين بالعدد وتخصيصهما بالذكر لم يقتض حظر جميع ما عداهما من الدماء وأيضا فإنه لما قال أو دما مسفوحا ثم قال والدم كانت الألف واللام للمعهود وهو الدم المخصوص بالصفة وهو أن يكون مسفوحا وقوله ص - أحلت لي ميتتان ودمان إنما ورد مؤكدا لمقتضى قوله عز و جل قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا إذ ليسا بمسفوحين ولو لم يره لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين وقوله تعالى ولحم الخنزير فإنه قد تناول شحمه وعظمه وسائر أجزائه ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم

اللحم يتناوله ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه وأيضا فإن تحريم الخنزير لما كان منهما اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم وأما قوله وما أهل لغير الله به فإن ظاهره يقتضي تحريم ما سمي عليه غير الله لأن الإهلال هو إظهار الذكر والتسمية وأصله استهلال الصبي إذا صاح حين يولد ومنه إهلال المحرم فينتظم ذلك تحريم ما سمي عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله وينتظم أيضا تحريم ما سمي عليه اسم غيرالله أي اسم كان فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح باسم زيد أو عمرو أن يكون غير مذكى وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجبا تحريمها وذلك لأن أحدا لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة ترك التسمية رأسا
قوله تعالى والمنخنقة فإنه روي عن الحسن وقتادة والسدي والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ومن نحوه حديث عباية بن رفاعة عن رافع بن خديح أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ذكوا بكل شيء إلا السن والظفر وهذا عندنا على السن والظفر غير المنزوعين لأني يصير في معنى المخنوق وأما قوله تعالى والموقوذة فإنه روي عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي أنه المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت يقال فيه وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الزكاة وقد روى أبو عامر العقدي عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وروى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبدالله بن المغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال أنها لا تنكأ العدو لا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرمى بالمعراض فأصيب أفآكل قال إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل
حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن احمد قال حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن صيد المعراض فقال ما أصاب بحده فخرق فكل وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن

مقدورا على ذكاته وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدورا على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه وعموم قوله والموقوذة عام في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال حدثنا معاوية بن عمر قال حدثنا زائدة قال حدثنا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال سمعت عمر بن الخطاب يقول يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل وأما قوله تعالى والمتردية فإنه روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال إذا رميت صيدا من على جبل فمات فلا تأكله فإني أخشى أن يكون التردي هو الذي قتله وإذا رميت طيرا فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإن أخشى أن يكون الغرق قتله
قال أبو بكر لما وجد هناك سببا آخر وهو التردي وقد يحدث عنه الموت حظر أكله وكذلك الوقوع في الماء وقد روى نحو ذلك النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا احمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا ابن عرفة قال حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الصيد فقال إذا رميت بسهمك وسميت فكل إن قتل إلا أن تصيبه في الماء فلا ترى أيهما قتله ونظيره ما روي عنه ص -
في صيد الكلب أنه قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل وإن خالطه كلب آخر فلا تأكل فحظر ص - أكله إذا وجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه وكذلك قول عبدالله في الذي يرمي الصيد وهو على الجبل فيتردى أنه لا يؤكل لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تلفه فجعل الحكم للحظر دون الإباحة وكذلك لو اشترك مجوسي ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة
وأما قوله تعالى والنطيحة فإنه روي عن الحسن والضحاك وقتادة والسدي أنها المنطوحة حتى تموت وقال بعضهم هي الناطحة حتى تموت قال أبو بكر هو عليهما جميعا فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها
وأما قوله وما أكل السبع فإن معناه

ما أكل منه السبع حتى يموت فحذف والعرب تسمي ما قتله السبع وأكل منه أكيلة السبع ويسمون الباقي منه أيضا أكيلة السبع قال أبو عبيدة ما أكل السبع مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهي عنه قد أريد به الموت من ذلك وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى ودل بذلك على أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظورا أكلها بعد أن لا يكون من فعل أدمى على وجه التذكية
وأما قوله تعالى إلا ما ذكيتم فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه لأن قوله حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الزكاة وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائدا إلى المذكور من عند قوله والمنخنقة لما روى ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز وحكى عن بعضهم أنه قال الاستثناء عائدا إلى قوله وما أكل السبع دون ما تقدم لأنه يليه وليس هذا بشيء لاتفاق السلف على خلافه ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل وكذلك النطيحة وما ذكر معها فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله والمنخنقة وإنما قوله إلا ما ذكيتم فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله لكن ما ذكيتم كقوله فلولا كانت قرية آمنت فنفعها أيمانها إلا قوم يونس ومعناه لكن قوم يونس وقوله طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ومعناه لكن تذكرة لمن يخشى ونظائره في القرآن كثيرة
وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها فذكر محمد في الأصل في المتردية إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وعن أبي يوسف في الإملاء أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكي قبل الموت وذكر ابن سماعة عن محمد أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده

وأوامره ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود وقال مالك إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت وقال الحسن بن صالح إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت وقال الأوزاعي إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت والمصيودة إذا ذبحت لم تؤكل وقال الليث إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها
قال أبو بكر قوله تعالى إلا ما ذكيتم يقتضي ذكاتها ما دامت حية فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش وأن تبقى قصير المدة أو طويلها وكذلك روي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة إن ذكاتها بالذبح فكذلك المتردية ونحوها والله اعلم
باب
في شرط الذكاة قال أبو بكر قوله تعالى إلا ما ذكيتم اسم شرعي يعتوره معان منها موضع الذكاة وما يقطع منه ومنها الآلة ومنها الدين ومنها التسمية في حال الذكر وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سبب من خارج وما مات حتف أنفه فغير مذكى وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في الطافي في سورة البقرة
فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج وهي أربعة الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فإذا فرى المذكى ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها فإن قصر عن ذلك ففرى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بشر بن الوليد روى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قا إذا قطع أكثر الأوداج أكل وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أي جانب كان وكذلك قال أبو يوسف ومحمد ثم قال أبو يوسف بعد ذلك لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين وقال مالك بن أنس والليث يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئا منها لم يجزه ولم يذكر المريء وقال الثوري لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الشافعي أقل ما يجزى من الذكاة قطع الحلقوم

والمريء وينبغي أن يقطع الودجين وهما العرقان وقد يسلان من البهيمة والإنسان ثم يحييان فإن لم يقطع العرقان وقطع الحلقوم والمريء جاز وإنما قلنا أن موضع الذكاة النحر واللبة لما روى أبو قتادة الحراني عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن الذكاة فقال في اللبة والحلق ولو طعنت في فخذها أجزأ عنك وإنما يعني بقوله ص - لو ظننت في تخيرها أجزأ عنها فيما لا تقدر على مذبحه قال أبو بكر ولم يختلفوا أنه جائز له قطع هذه الأربعة وهذا يدل على أن قطعها مشروط في الذكاة ولولا أنه كذلك لما جاز له قطعها إذ كان فيه زيادة ألم بما ليس هو شرطا في صحة الذكاة فثبت بذلك أن عليه قطع هذه الأربع إلا أن أبا حنيفة قال إذا قطع الأكثر جاز مع تقصيره عن الواجب فيه لأنه قد قطع والأكثر في مثلها يقوم مقام الكل كما أن قطع الأكثر من الأذن والذنب بمنزلة قطع الكل في امتناع جوازه عن الأضحية وأبو يوسف جعل شرط صحة الذكاة الحلقوم والمريء وأحد العرقين ولم يفرق أبو حنيفة بين قطع العرقين وأحد شيئين من الحلقوم والمريء وبين قطع هذين مع أحد العرقين إذ كان قطع الجميع مأمورا به صحة الذكاة
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبدالله عن عكرمة عن ابن عباس زاد ابن عيسى وأبي هريرة قالا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن شريطة الشيطان زاد ابن عيسى في حديثه وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا يفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت وهذا الحديث يدل على أنه عليه قطع الأوداج وروى أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر
وروى إبراهيم عن أبيه عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اذبحوا بكل ما أفرى الأوداج وهراق الدم ما خلا السن والظفر فهذه الأخبار كلها توجب أن يكون فرى الأوداج شرطا في الذكاة والأوداج اسم يقع على الحلقوم والمريء والعرقين اللذين عن جنبيهما
فصل وأما الآلة فإن كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس به والذكاة صحيحة غير أن أصحابنا كرهوا الظفر المنزع والعظم والقرن والسن لما روى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأما غير ذلك فلا بأس به ذكر ذلك في الجامع الصغير وقال أبو يوسف في الإملاء لو أن

رجلا ذبح بليطة ففرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس بذلك وكذلك لو ذبح بعود وكذلك لو نحر بوتد أو بشظاظ أو بمروة لم يكن بذلك بأس فأما العظم والسن والظفر فقد نهي أن يذكى بها وجاءت في ذلك أحاديث وآثار وكذلك القرن عندنا والناب قال ولو أن رجلا ذبح بسنه أو بظفره فهي ميتة لا تؤكل وقال في الأصل إذا ذبح بسن نفسه أو بظفر نفسه فإنه قاتل وليس بذابح وقال مالك بن أنس كل ما بضع من عظم أو غيره ففرى الأوداج فلا بأس به وقال الثوري كل ما فرى الأوداج فهو ذكاة إلا السن والظفر وقال الأوزاعي لا يذبح بصدف البحر وكان الحسن بن صالح يكره الذبح بالقرن والسن والظفر والعظم وقال الليث لا بأس بأن يذبح بكل ما أنهر الدم إلا العظم والسن والظفر واستثنى الشافعي الظفر والسن
قال أبو بكر الظفر والسن المنهي عن الذبيحة بهما إذا كانتا قائمتين في صاحبهما وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في الظفر أنها مدي الحبشة وهم إنما يذبحون بالظفر القائم في موضعه غير المنزوع وقال ابن عباس ذلك الخنق وعن أبي بشر قال سألت عكرمة عن الذبيحة بالمروة قال إذا كانت حديدة لا تترد الأوداج فكل فشرط في ذلك أن لا تترد الأوداج وهو أ لا تفريها ولكنه يقطعها قطعة قطعة والذبح بالظفر والسن غير المنزوع يترد ولا يفرى فلذلك لم تصح الذكاة بهما وأما إذا كانا منزوعين ففريا الأوداج فلا بأس وإنما كره أصحابنا منها ما كان بمنزلة السكين الكلالة ولهذا المعنى كرهوا الذبح بالقرن والعظم
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحاسنوا قال غير مسلم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته فكانت كراهتهم للذبح بسن منزوع أو عظم أو قرن أو نحو ذلك من جهة كلاله لما يلحق البهيمة من الألم الذي لا يحتاج إليه في صحة الذكاة
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم أنه قال قلت يا رسول الله أرأيت أن أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا قال أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله
وفي

حديث نافع عن كعب بن مالك عن أبيه أن جارية سوداء ذكت شاة بمروة فذكر ذلك كعب للنبي ص -
فأمرهم بأكلها وروى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت عن النبي ص - مثله وفي حديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا ما كان من سن أو ظفر فصل وهذا الذي ذكرناه فيما كان من الحيوان مقدورا على ذبحه فيعتبر في ذكاته ما وصفنا من موضع الذكاة ومن الآلة على النحو الذي بينا وأما الذي لا نقدر منه على ذبحه فإن ذكاته إنما تكون بإصابته بما يجرح ويسيل الدم أو بإرسال كلب أو طير فيجرحه دون ما يصدم أو يهشم مما لا حد له يجرحه ولا يختلف في ذلك عندنا حكم ما يكون أصله ممتنعا مثل الصيد وما ليس بممتنع في الأصل من الأنعام ثم يتوحش ويمتنع أو يتردى في موضع لا نقدر فيه على ذكاته وقد اختلف الفقهاء في ذلك في موضعين أحدهما في الصيد إذا أصيب بما لا يجرحه من الآلة فقال أصحابنا ومالك والثوري إذا أصابه بعرض المعراض لم يؤكل إلا أن يدرك ذكاته وقال الثوري وإن رميته بحجر أو بندقة كرهته إلا أن تذكيه ولا فرق عند أصحابنا بين المعراض والحجر والبندقة وقال الأوزاعي في صيد المعراض يؤكل خزق أو لم يخزق قال وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا وقال الحسن بن صالح إذا خزق الحجر فكل والبندقة لا تخزق وقال الشافعي إن خزق المرمي برميه أو قطع بحده أكل وما جرح بثقله فهو وقيذ وفيما نالته الجوارح فقتلته فيه قولان أحدهما أن لا يؤكل حتى يجرح لقوله تعالى من الجوارح مكلبين والآخر أنه حل قال أبو بكر ولم يختلف أصحابنا ومالك والشافعي في الكلب إذا قتل الصيد بصدمته لم يؤكل وأما الموضع الآخر فما ليس بممتنع في الأصل مثل البعير والبقر إذا توحش أو تردى في بئر فقال أصحابنا إذا لم يقدر على ذبحه فإنه يقتل كالصيد ويكون مذكى وهو قول الثوري والشافعي وقال مالك والليث لا يؤكل إلا أن يذبح على شرائط الذكاة وروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والأسود ومسروق مثل قول أصحابنا وقد تقدم ذكر الآثار المؤيدة لقول أصحابنا في الصيد إن شرط ذكاته أن يجرحه بما له حد ومنه ما ذكر في المعراض أنه إن أصاب بحده أكل وإن أصاب بعرضه لم يؤكل فإنه وقيذ لقوله تعالى والموقوذة فكل

مالا يجرح من ذلك فهو وقيذ محرم بظاهر الكتاب والسنة وفي حديث قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبدالله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال إنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين فدل ذلك على أن الجراحة في مثله لا تذكى إذ ليس له حد وإنما الجراحة التي لها حكم في الذكاة هي ما يقع بما له حد ألا ترى أن النبي قال في المعراض إن أصابه بحده فخزق فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ولا يفرق بين ما يجرح ولا يجرح فدل ذلك على اعتبار الآلة وأن سبيلها أن يكون لها حد في صحة الذكاة بها وكذلك قوله في الحذف أنها لا تصيد الصيد يدل على سقوط اعتبار جراحته في صحة الذكاة إذا لم يكن له حد
وأما البعير ونحوه إذا توحش أو تردى في بئر فإن الذي يدل على أنه بمنزلة الصيد في ذكاته ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا سفيان عن عمرو بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج قال ند علينا بعير فرميناه بالنبل ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا ند منها شيء فاصنعوا به ذلك وكلوه وقال سفيان وزاد إسماعيل بن مسلم فرميناه بالنبل حتى رهصناه فهذا يدل على إباحة أكله إذا قتله النبل لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم - من غير شرط ذكاة غيره وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في اللبة والنحر فقال ص -
لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك وهذا على الحال التي لا يقدر فيها على ذبحها إذ لا خلاف أن المقدور على ذبحه لا يكون ذلك ذكاته
ويدل على صحة قولنا من طريق النظر اتفاق الجميع على أن رمي الصيد يكون ذكاة له إذا قتله ثم لا يخلو المعنى الموجب لكون ذلك ذكاة من أحد وجهين إما أن يكون ذلك لجنس الصيد أو لأنه غير مقدور على ذبحه فلما اتفقوا على أن الصيد إذا صار في يده حيا لم تكن ذكاته إلا بالذبح كذكاة ما ليس من جنس الصيد دل ذلك على أن هذا الحكم لم يتعلق بجنسه وإنما تعلق بأنه غير مقدور على ذبحه في حال امتناعه فوجب مثله في غيره إذا صار بهذه الحال لوجود العلة التي من أجلها كان ذلك ذكاة للصيد
واختلف الفقهاء في الصيد يقطع بعضه فقال أصحابنا والثوري

وهو قول إبراهيم ومجاهد إذا قطعه بنصفين أكلا جميعا وإن قطع الثلث مما يلي الرأس أكل فإن قطع الثلث الذي يلحق العجز أكل الثلثان الذي يلي الرأس ولا يؤكل الثلث الذي يلي العجز وقال ابن أبي ليلى والليث إذا قطع منه قطعة فمات الصيد مع الضربة أكلهما جميعا وقال مالك إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل وإن قطع فخذه لم يأكل الفخذ وأكل الباقي وقال الأوزاعي إذا أبان عجزه لم يؤكل من قطع منه ويؤكل سائره وإن قطعه بنصفين أكله كله وقال الشافعي إن قطعه قطعتين أكله وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى وإن قطع يدا أو رجلا أو شيئا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل مالم يبن منه ولم يؤكل ما بان وفيه الحياة ولو مات من القطع الأول أكلهما جميعا قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا عبدالرحمن بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة وهذا إنما يتناول قطع القليل منه من غير موضع الذكاة وذلك لأنه لا خلاف أنه لو ضرب عنق الصيد فأبان رأسه كان الجميع مذكى فثبت بذلك أن المراد ما بان منها من غير موضع الذكاة وذلك إنما يتناول الأقل منه لأنه إذا قطع النصف أو الثلث الذي يلي الرأس فإنه يقطع العروق التي يحتاج إلى قطعها للذكاة وهي الأوداج والحلقوم والمريء فيكون الجميع مذكى وإذا قطع الثلث مما يلي الذنب فإنه لا يصادف قطع العروق التي يحتاج إليها في شرط الذكاة فيكون ما بان منه ميتة لقوله ص - ما بان من البهيمة وهي حية ميتة وذلك لأنه لا محالة إنما يحدث الموت بعد القطع فقد بان ذلك العضو منها وهي حية فهو ميتة وما يلي الرأس كله مذكى كما لو قطع رجلها أو جرحها في غير موضع الذكاة ولم يبن منها شيئا فيكون ذلك ذكاة لها لتعذر قطع موضع الذكاة
فصل وأما الدين فأن يكون الرامي أو المصطاد مسلما أو كتابيا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وأما التسمية فهي أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح أو عند الرمي أو إرسال الجوارح والكلب إذا كان ذاكرا فإن كان ناسيا لم يضره ترك التسمية وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى وأما قوله تعالى وما ذبح على النصب فإنه روي عن مجاهد وقتادة وابن جريج أن النصب أحجار منصوبة كانوا

يعبدونها ويقربون الذبائح لها فنهى الله عن أكل ما ذبح على النصب لأنه مما أهل به لغير الله والفرق بين النصب والصنم أن الصنم يصور وينقش وليس كذلك النصب لأ النصب حجارة منصوبة والوثن كالنصب سواء ويدل على أن الوثن اسم يقع على ما ليس بمصور أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعدي بن حاتم حين جاؤه وفي عنقه صليب ألق هذا الوثن من عنقك فسمى الصليب وثنا فدل ذلك على أن النصب والوثن اسم لما نصب للعبادة وإن لم يكن مصورا ولا منقوشا وهذه ذبائح قد كان أهل الجاهلية يأكلونها فحرمها الله تعالى مع ما حرم من الميتة ولحم الخنزير وما ذكر في الآية مما كان المشركون يستبيحونه وقد قيل إنها المرادة بالاستثناء المذكور في قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلام قيل في الاستقسام وجهان أحدهما طلب علم ما قسم له بالأزلام والثاني إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين والاستقسام بالأزلام أن أهل الجاهلية كانوا إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات أجال القداح وهي الأزلام وهي على ثلاثة أضرب منها ما كتب عليه نهاني ربي ومنها غفل لا كتابة عليه يسمى المنيح فإذا خرج أمرني ربي مضى في الحاجة وإذا خرج نهاني ربي قعد عنها وإذا خرج الغفل أجالها ثانية قال الحسن كانوا يعمدون إلى ثلاثة قداح نحو ما وصفنا وكذلك قال سائر أهل العلم بالتأويل وواحد الأزلام زلم وهي القداح فحظر الله تعالى ذلك وكان من فعل أهل الجاهلية وجعله فسقا بقوله ذلكم فسق وهذا يدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذ كان فيه اتباع ما أخرجته القرعة من غير استحقاق لأن من أعتق عبديه أو عبيدا له عند موته ولم يخرجوا من الثلث فقد علمنا أنهم متساوون في استحقاق الحرية ففي استعمال القرعة إثبات حرية غير مستحقة وحرمان من هو مساو له فيها كما يتبع صاحب الأزلام ما يخرجه الأمر والنهي لا سبب له غيره
فإن قيل قد جازت القرعة في قسمة الغنائم وغيرها وفي إخراج النساء
قيل إنما القرعة فيها لتطييب نفوسهم وبراءة للتهمة من إيثار بعضهم بها ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة وأما الحريةالواقعة على واحد منهم فغير جائز نقلها عنه إلى غيره وفي استعمال القرعة نقل الحرية عمن وقعت عليه وإخراجه منها مع مساواته لغيره فيها قوله عز و جل اليوم يئس الذين كفروا من دينكم قال ابن

عباس والسدي يئسوا أن ترتدوا راجعين إلى دينهم وقد اختلف في اليوم فقال مجاهد هو يوم عرفة عام حجة الوداع فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم عن ابن جريج وقال الحسن ذلك اليوم يعني به اليوم أكملت لكم دينكم وهو زمان النبي صلى الله عليه وسلم -
كله قال ابن عباس نزلت يوم عرفة وكان يوم الجمعة قال أبو بكر اسم اليوم يطلق على الزمان كقوله ومن يولهم يومئذ دبره إنما عنى به وقتا منهما قوله تعالى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الاضطرار هو الضر الذي يصيب الإنسان من جوع أو غيره ولا يمكنه الامتناع منه والمعنى ههنا من إصابة ضر الجوع وهذا يدل على إباحة ذلك عند الخوف على نفسه أو على بعض أعضائه وقد بين ذلك في قوله تعالى في مخمصة قال ابن عباس والسدي وقتادة المخمصة المجاعة فأباح الله عند الضرورة أكل جميع ما نص على تحريمه في الآية ولم يمنع ما عرض من قوله اليوم أكملت لكم دينكم مع ما ذكر معه من عود التخصيص إلى ما تقدم ذكره من المحرمات فالذي تضمنه الخطاب في أول السورة في قوله أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم فيه بيان إباحة الصيد في حال الإحلال وغيرداخل في قوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم بين ما حرم علينا في قوله حرمت عليكم الميتة إلى آخر ما ذكر ثم خص من ذلك حال الضرورة وأبان أنها غير داخلة في التحريم وذلك عام في الصيد في حال الإحرام وفي جميع المحرمات فمتى اضطر إلى شيء منها حل له أكله بمقتضى الآية
وقوله تعالى غير متجانف لإثم قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي غير معتمد عليه فكأنه قال غير معتمد بهواه إثم وذلك بأن يتناول منه بعد زوال الضرورة
وقوله عز و جل يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات اسم يتناول معنيين أحدهما الطيب المستلذ والآخر الحلال وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث والخبيث حرام فإذا الطيب حلال والأصل فيه الاستلذاذ فشبه الحلال به في انتفاء المضرة منهما جميعا وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات يعني الحلال وقال ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث والخبائث هي المحرمات وقال تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهو يحتمل ما حل لكم ويحتمل ما استطبتموه فقوله قل أحل لكم الطيبات جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذتموه مما لا ضرر عليكم في تناوله من

طريق الدين فيرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل قوله تعالى وما علمتم من الجوارح حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا إبراهيم بن عبيد قال حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى عن أبي رافع قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن أقتل الكلاب فقال الناس يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فأنزل الله قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح الآية حدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل وابن عبدوس بن كامل قالا حدثنا عبيدالله بن عمر الجشمي قال حدثنا أبو معشر النواء قال حدثنا عمرو بن بشير قال حدثنا عامر الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن صيد الكلاب لم يدر ما يقول لي حتى نزلت وما علمتم من الجوارح مكلبين قال أبو بكر قد اقتضى ظاهر هذا الحديث الأول أن تكون الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع بها فدل على جواز بيع الكلب والجوراح والانتفاع بها بسائر وجوه الانتفاع إلا ما خصه الدليل وهو الأكل ومن الناس من يجعل في الكلام حذفا فجعله بمنزلة قل أحل لكم الطيبات من صيد ما علمتم من الجوارح ويستدل عليه بحديث عدي بن حاتم الذي ذكرناه حين سأله عن صيد الكلاب فأنزل الله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين وحديث أبي رافع فيه أنه سئل عما أحل من الكلاب اتلي أمروا بقتلها فأنزل الله تعالى الآية وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها جميعا وحقيقة اللفظ تقتضي الكلاب أنفسها لأن قوله وما علمتم يوجب إباحة ما علمنا وإضمار الصيد فيه يحتاج إلى دلالة وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها أيضا وهو قوله فكلوا مما أمسكن عليكم فحمل الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما وقد دلت الآية أيضا على أن شرط إباحة الجوارح أن تكون متعلمة لقوله وما علمتم من الجوارح وقوله تعلمونهن مما علمكم الله وأما الجوارح فإنه قد قيل إنها الكواسب للصيد على أهلها وهي الكلاب وسباع الطير التي يصاد بها غيرها وأحدها جارح ومنه سميت الجارحة لأنه يكسب بها قال الله تعالى ما جرحتم

بالنهار يعني ما كسبتم ومنه أم حسب الذين اجترحوا السيئات وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وقيل في الجوارح أنها ما تجرح بناب أو مخلب قال محمد في الزيادات إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل لأنه لم يجرحه بناب أو مخلب ألا ترى إلى قوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب وإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيفيد الأصناف التي يصطاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم ويفيد مع ذلك في شرط الذكاة وقوع الجراحة بالمقتول من الصيد وأن ذلك شرط ذكاته
ويدل أيضا على أن الجراحة مرادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم -
في المعراض أنه إن خزق بحده فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل ومتى وجدنا للنبي ص - حكما يواطئ معنى ما في القرآن وجب حمل مراد القرآن عليه وأن ذلك مما أراد الله تعالى به
وقوله تعالى مكلبين قد قيل فيه وجهان أحدهما أن المكلب هو صاحب الكلب الذي يعلمه الصيد ويؤدبه وقيل معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب والتكليب هو التضرية يقال كلب كلب إذا ضرى بالناس وليس في قوله مكلبين تخصيص للكلاب دون غيرها من الجوارح إذ كانت التضرية عامة فيهن وكذلك إن أراد تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عموما في سائر الجوارح
وقد اختلف السلف فيما قتلته الجوارح غير الكلاب فروى مروان العمري عن نافع عن علي بن الحسين قال الصقر والبازي من الجوارح مكلبين وروى معمر عن ليث قال سئل مجاهد عن البازي والفهد وما يصاد به من السباع فقال هذه كلها جوارح وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى من الجوارح مكلبين قال الطير والكلاب وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه وما علمتم من الجوارح مكلبين قال الجوارح الكلاب وما تعلم من البزاة والفهود وروى أشعث عن الحسن وما علمتم من الجوارح مكلبين قال الصقر والبازي والفهد بمنزلة الكلب وروى صخر بن جويرية عن نافع قال وجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب قال لا يصلح أكل ما قتلته البزاة وروى ابن جريج عن نافع قال قال عبدالله فأما ما صاد من الطير البزاة وغيرها فما أدركت ذكاته فذكيته فهو لك وإلا فلا تطعمه وروى سلمة بن علقمة عن نافع أن عليا كره ما قتلت

الصقور وروى أبو بشر عن مجاهد أنه كان يكره صيد الطير ويقول مكلبين إنما هي الكلاب
قال أبو بكر فتأول بعضهم قوله مكلبين على الكلاب خاصة وتأوله بعضه على الكلاب وغيرها ومعلوم أن قوله تعالى وما علمتم من الجوارح شامل للطير والكلاب ثم قوله مكلبين محتمل أن يريد ذكره من الجوارح والكلاب منها ويكون قوله مكلبين بمعنى مؤدبين أو مضرين ولا يخصص ذلك بالكلاب دون غيرها فوجب حمله على العموم وأن لا يخصص بالاحتمال ولا نعلم خلافا بين فقهاء الأمصار في إباحة صيد الطير وإن قتل وأنه كصيد الكلب
قال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي ما علمت من كل ذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع فإنه يجوز صيده وظاهر الآية يشهد لهذه المقابلة لأنه أباح صيد الجوارح وهو مشتمل على جميع ما يجري بناب أو مخلب وعلى ما يكسب على أهله بالاصطياد لم يفرق فيه بين الكلب وبين غيره
وقوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين يدل على أن شرط إباحة صيد هذه الجوارح أن تكون معلمة وأنها إذا لم تكن معلمة لم يكن مذكى وذلك لأن الخطاب خرج على سؤال السائلين عما يحمل من الصيد فأطلق لهم إباحة صيد الجوارح المعلمة وذلك شامل لجميع ما شملته الإباحة وانتظمه الإطلاق لأن السؤال وقع عن جميع ما يحل لهم من الصيد فخص الجواب بالأوصاف المذكورة فلا تجوز استباحة شيء منه إلا على الوصف المذكور ثم قال تعالى تعلمونهن مما علمكم الله فروي عن سليمان وسعد أن تعليمه أن يضرى على الصيد ويعود إلى إلف صاحبه حتى يرجع إليه ولا يهرب عنه وكذلك قال ابن عمر وسعيد بن المسيب ولم يشرطوا فيه ترك الأكل وروي عن غيرهما أن ذلك من تعليم الكلب وأن من شرط إباحة صيده أن لا يأكل منه فإن أكل منه لم يؤكل وهو قول ابن عباس وعدي بن حاتم وأبي هريرة وقالوا جميعا في صيد البازي أنه يؤكل منه وإنما تعليمه أن تدعوه فيجيبك
ذكر
اختلاف الفقهاء في ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده ويؤكل صيد البازي وإن أكل وهو قول الثوري وقال مالك والأوزاعي والليث يؤكل وإن أكل الكلب منه وقال الشافعي لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي

مثله في القياس قال أبو بكر اتفق السلف المجيزون لصيد الجوارح من سباع الطير أن صيدها يؤكل وإن أكلت منه منهم سعد وابن عباس وسلمان وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن المسيب وإنما اختلفوا في صيد الكلب فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعدي بن حاتم وأبو هريرة وسعيد بن جبير وإبراهيم لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه وقال سلمان وسعد وابن عمر يؤكل صديه وإن لم يبق منه إلا ثلثه وهو قول الحسن وعبيد بن عمير وإحدى الروايتين عن أبي هريرة وعطاء وسليمان بن يسار وابن شهاب قال أبو بكر معلوم من حال الكلب قبوله للتأديب في ترك الأكل فجائز أن يعلم تركه ويكون تركه للأكل علما للتعليم ودلالة عليه فيكون تركه للأكل من شرائط صحة ذكاته ووجود الأكل مانع من صحة ذكاته وأما البازي فإنه معلوم أنه لا يمكن تعليمه بترك الأكل وأنه لا يقبل التعليم من هذه الجهة فإذ كان الله قد أباح صيد جميع الجوارح على شرط التعليم فغير جائز أن يكون من شرط التعليم للبازي تركه الأكل إذ لا سبيل إلى تعليمه ذلك ولا يجوز أن يكلفه الله تعليم ما لا يصح منه التعلم وقبول التأديب فثبت أن ترك الأكل ليس من شرائط تعلم البازي وجوارح الطير وكان ذلك من شرائط تعلم الكلب لأنه يقبله ويمكن تأديبه به ويشبه أن يكون ما روي عن علي بن أبي طالب وغيره في حظر ما قتله البازي من حيث كان عندهم أن من شرط التعليم ترك الأكل وذلك غير ممكن في الطير فلم يكن معلما فلا يكون ما قتله مذكى إلا أن ذلك يؤدي إلى أن لا تكون لذكر التعليم في الجوارح من الطير فائدة إذ كان صيدها غير مذكى وأن يكون المعلم وغير المعلم فيه سواء وذلك غير جائز لأن الله تعالى قد عمم الجوارح كلها وشرط تعليمها ولم يفرق بين الكلب وبين الطير فوجب استعمال عموم اللفظ فيها كلها فيكون من جوارح الطير ما يكون معلما وكذلك من الكلاب وإن اختلفت وجوه تعليمها فيكون من تعليم الكلاب ونحوها ترك الأكل ومن تعليم جوارح الطير أن يجيبه إذا دعاه ويألفه ولا ينفر عنه حتى يكون التعليم عاما في جميع ما ذكر في الآية ومن الدليل على أن من شرائط ذكاة صيد الكلب ونحوه ترك الأكل قول الله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم ولا يظهر الفرق بين إمساكه على نفسه وبين إمساكه علينا إلا بترك الأكل ولو لم يكن ترك الأكل مشروطا لزالت فائدة قوله فكلوا مما أمسكن عليكم فلما كان ترك الأكل علما لإمساكه

علينا وكان الله إنما أباح لنا أكل صيدها بهذه الشريطة وجب أن يكون ما أمسكه على نفسه محظورا
فإن قيل فقد يأكل البازي منه ويكون مع الكل ممسكا علينا قيل له الإمساك علينا إنما هو مشروط في الكب ونحوه فأما الطير فلم يشرط فيه أن يمسكه علينا لما قدمناه بديا ويدل على أن إمساك الكلب علينا أن لا يأكل منه وأنه متى أكل منه كان ممسكا على نفسه وما روي عن ابن عباس أنه قال إذا أكل منه الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فأخبر أن الإمساك علينا تركه للأكل فإذا كان اسم الإمساك يتناول ما ذكره ولو لم يتناوله لم يتأوله عليه وجب حمل الآية عليه من حيث صار ذلك اسما له وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك أيضا فثبتت حجته من وجهين أحدهما بيان معنى الآية والمراد بها والثاني نص السنة في تحريم ذلك حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثني الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن صيد الكلب المعلم فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عبدالله بن ابي السفر عن الشعبي قال قال عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن المعراض فقال إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ قلت أرسل كلبي قال إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وقال أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر قال لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك فثبت بهذا الخبر مراد الله تعالى بقوله فكلوا مما أمسكن عليكم ونص النبي صلى الله عليه وسلم -
على النهي عن أكل ما أكل منه الكلب فإن قيل قد روى حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ثعلبة الخشني فكل مما أمسك عليك الكلب قال فإن أكل منه قال وإن أكل منه قيل له هذا اللفظ غلط في حديث أبي ثعلبة وذلك لأن حديث أبي ثعلبة قد رواه عنه أبو إدريس الخولاني وأبو أسماء وغيرهم فلم يذكر فيه هذا اللفظ وعلى أنه لو ثبت في حديث أبي ثعلبة كان حديث عدي بن حاتم أولى من وجهين أحدهما من موافقته لظاهر الآية في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم والثاني ما فيه من حظر ما أكل منه الكلب ومتى ورد خبران في أحدهما حظر شيء وفي

الآخر إباحته فخبر الحظر أولاهما بالاستعمال فإن قيل في معنى قوله فكلوا مما أمسكن عليكم أن يحبسه علينا بعد قتله له فهذا هو إمساكه علينا فيقال له هذا غلط لأنه قد صار محبوسا بالقتل فلا يحتاج الكلب إلى أن يحبسه علينا بعد قتله فهذا لا معنى له فإن قيل قتله هو حبسه عليه قيل له هذا أيضا لا معنى له لأنه يصير تقديره الآية على هذا فكلوا مما قتلن عليكم وهذا يسقط فائدة الآية لأن إباحة ما قتلته قد تضمنته الآية قبل ذلك في قوله تعالى وما علمتم من الجوارح وهو يعني صيد ما علمنا من الجوارح جوابا لسؤال من سأل عن المباح منه وعلى أن الإمساك ليس بعبارة عن القتل لأنه قد يمسكه علينا وهو حي غير مقتول فليس إمساكه علينا إذا إلا أن يحبسه حتى يجيء صاحبه ولا يخلو الإمساك علينا من أن يكون حبسه إياه علينا من غير قتل أو حبسه علينا بعد قتله أو تركه للأكل منه بعد قتله ومعلوم أنه لم يرد به حبسه علينا وهو حي غير مقتول لاتفاق الجميع على أن ذلك غير مراد وإن حبسه علينا حيا ليس بشرط في إباحة أكله لأنه لو كان كذلك لكان لا يحل أكل ما قتله ولا يجوز أيضا أن يكون المراد حبسه علينا بعد وإن أكل منه لأن ذلك لا معنى له لأن الله تعالى جعل إمساكه علينا شرطا في الإباحة ولا خلاف أنه لو قتله ثم تركه وانصرف عنه ولم يحبسه علينا أنه يجوز أكله فعلمنا أن ذلك غير مراد فثبت أن المراد تركه الأكل
فإن قيل قوله فكلوا مما أمسكن عليكم يقتضي إباحة ما بقي من الصيد بعد أكله لأنه قد أمسكه علينا إذا لم يأكله وإنما لم يمسك علينا المأكول منه دون ما بقي منه فقد اقتضى ظاهر الآية إباحة أكل الباقي إذ هو ممسك علينا
قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن من روي عنه معنى الإمساك من السلف قالوا فيه قولين أحدهما أن لا يأكل منه وهو قول ابن عباس وقول من قال حبسه علينا بعد القتل ولم يقل أحد منهم إن ترك أكل الباقي منه بعد ما أكل هو إمساك فبطل هذا القول والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فلم يجعله ممسكا علينا ما بقي منه إذا كان قد أكل منه شيئا والثالث أنه يصير في معنى قوله فكلوا مما قتله من غير ذكر إمساك إذ معلوم أن ما قد أكله لا يجوز أن يتناوله الحظر فيؤدي ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر إمساكه علينا وأيضا فإنه إذا أكل منه فقد علمنا أنه إنما اصطاد لنفسه وأمسكه عليها ولم يمسكه علينا باصطياد وتركه أكل بعضه بعد ما أكل

منه ما أكل لا يكسبه في الباقي حكم الإمساك علينا لأنه لا يجوز أن يترك أكل الباقي لأنه قد شبع ولم يحتج إليه لا لأنه أمسكه علينا وفي أكله منه بديا دلالة على أنه لم يمسكه علينا باصطياده وهذا الذي يجب علينا اعتباره في صحة التعليم وهو أن يعلم أنه ينبغي أن يصطاده لنا ويمسكه علينا فإذا أكل منه علمنا أنه لم يبلغ حد التعليم فإن قيل الكلب إنما يصطاد ويمسك لنفسه لا لصاحبه ألا ترى أنه لو كان شبعان حين أرسل لم يصطد وهو إنما يضرى على الصيد بأن يطعم منه فليس إذا في أكله منه نفي التعليم والإمساك علينا ولو اعتبر ما ذكرتم فيه لاحتجنا إلى اعتبار نية الكلب وضميره وذلك مما لا نعلمه ولا نقف عليه بل لا نشك أن نيته وقصده لنفسه قيل له أما قولك أنه يصطاد ويمسك لنفسه فليس كذلك لأنه لو كان كذلك لما ضرب حتى يترك الأكل ولما تعلم ذلك إذا علم فلما كان إذا علم ترك الأكل تعلم ذلك ولم يأكل منه علمنا أنه متى ترك الأكل فهو ممسك له علينا معلم لما شرط الله تعالى من تعليمه فهو حينئذ مصطاد لصاحبه ممسك عليه وقولك إنه لو كان يصطاد لصاحبه لكان يصطاد في حال الشبع فهو يصطاد في حال الشبع لصاحبه ويمسكه عليه إذا أرسله صاحبه وهو إذا كان معلما لم يمتنع من الاصطياد إذا أرسله وأما قولك أنه يضرى على الصيد بانه يطعم منه فإنه إنما يطعمه منه بعد إمساكه على صاحبه وأما ضمير الكلب ونيته فإن الكلب يعلم ما يراد منه بالتعليم فينتهي إليه كما يعرف الفرس ما يراد منه بالزجر ورفع السوط ونحوه والذي يعلم به ذلك من الكلب تركه للأكل ومتى أكل منه فقد علم منه أنه قصد بذلك إمساكه على نفسه دون صاحبه
ومما يدل على ما ذكرنا وأن تعليم الكلب إنما يكون بتركه الأكل أنه معلوم أنه ألوف غير مستوحش فلا يجوز أن يكون تعليمه ليتألف ولا يستوحش فوجب أن يكون بتركه الأكل والبازي من جوارح الطير هو مستوحش في الأصل ولا يجوز أن يكون تعليمه بأن يضرب ليترك الأكل فثبت أن تعليمه بألفه لصاحبه وزوال الوحشة منه بأن يدعوه فيجيبه فيزول بذلك عن طبعه الأول ويكون ذلك علما لتعليمه
وقوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم قيل فيه أن من دخلت للتبعيض ويكون معنى التبعيض فيه أن بعض ما يمسكه عليه مباح دون جميعه وهو الذي يجرحه فيقتله دون ما يقتله بصدمه من غير جراحة وقال بعضهم أن من ههنا زائدة للتأكيد كقوله تعالى يكفر عنكم من سيئاتكم وقال بعض النحويين هذا خطأ

لأنها لا تزاد في الموجب وإنما تزاد في النفي والاستفهام وقوله تعالى يكفر عنكم من سيئاتكم ابتداء الغاية أي يكفر عنكم أعمالكم التي تحبون سترها عليكم من سيئاتكم قال ويجوز أن يكون بمعنى يكفر عنكم من السيئات ما يجوز تكفيره في الحكمة دون مالا يجوز لأنه خطاب عام لسائر المكلفين وقال أبو حنيفة في الكلب إذا أكل من الصيد وقد صاد قبل ذلك صيدا ولم يأكل منه أن جميع ما تقدم حرام لأنه قد تبين حين أكل أنه لم يكن معلما وقد كان الحكم بتعليمه بديا حين ترك الأكل من طريق الاجتهاد وغالب الظن والحكم بنفي التعليم عند الأكل من طريق اليقين ولا حظ للاجتهاد مع اليقين وقد يترك الأكل بديا وهو غير معلم كما يترك سائر السباع فرائسها عند الاصطياد ولا يأكلها ساعة الاصطياد فإنما يحكم إذا كثر منه ترك الأكل التعليم من جهة غالب الظن فإذا أكل منه بعد ذلك حصل اليقين بنفي التعليم فيحرم ما قد اصطاده قبل ذلك وقال أبو يوسف ومحمد إذا ترك الأكل ثلاث مرات فهو معلم فإن أكل بعد ذلك لم يحرم ما تقدم من صيده لأنه جائز أن يكون قد نسي التعليم فلم يحرم ما قد حكم بإباحته بالاحتمال وينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة محمولا على أنه أكل في مدة لا يكاد ينسى يها فإن تطاولت المدة في الاصطياد ثم اصطاد فأكل منه وفي مثل تلك المدة يجوز أن ينسى فإنه ينبغي أن لا يحرم ما تقدم ويكون موضع الخلاف بينه وبين أبي يوسف ومحمد أنهما يعتبران في شرط التعليم ترك الأكل ثلاث مرات وأبو حنيفة لا يحده وإنما يعتبر ما يغلب في الظن من حصول التعليم فإذا غلب في الظن أنه معلم بترك الأكل ثم أرسل مع قرب المدة فأكل منه فهو محكوم بأنه غير معلم فيما ترك أكله وإن تطاولت المدة بإرساله بعد ترك الأكل حتى يظن في مثلها نسيان التعليم لم يحرم ما تقدم وأبو يوسف ومحمد يقولان إذا ترك الأكل ثلاث مرات ثم اصطاده فأكل في مدة قريبة أو بعيدة لم يحرم ما تقدم من صيده فيظهر موضع الخلاف بينهم ههنا قوله تعالى واذكروا اسم الله عليه قال ابن عباس والحسن والسدي يعني على إرسال الجوارح قال أبو بكر قوله واذكروا اسم الله عليه أمر يقتضي الإيجاب ويحتمل أن يرجع إلى الأكل المذكور في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم ويحتمل أن يعود إلى الإرسال لأن قوله وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله قد تضمن إرسال الجوارح المعلمة على الصيد فجائز عود الأمر

بالتسمية إليه ولو احتماله لذلك لما تأوله السلف عليه وإذا كان ذلك كذلك وقد تضمن الأمر بالذكر إيجابه واتفقوا أن الذكر غير واجب على الكل فوجب استعمال حكمه على الإرسال إذ كان مختلفا فيه وإذا كانت التسمية واجبة على الإرسال صارت من شرائط الذكاة كتعليم الجوارح وكون المرسل ممن تصح ذكاته وإسالة دم الصيد بما يجرح وله حد فإذا تركها لم تصح ذكاته كما لا تصح ذكاته مع ترك ما ذكرنا من شرائط الذكاة والذي تقتضيه الآية فساد الذكاة عند ترك التسمية عامدا وذلك لأن الأمر لا يتناول الناسي إذ لا يصح خطابه فلذلك قال أصحابنا إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة إذ هو غير مكلف بها في حال النسيان وسنذكر إيجاب التسمية على الذبيحة عند قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إذا انتهينا إليه إن شاء الله
وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر قال أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عبدالله بن أبي السفر عن الشعبي قال قال عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقلت أرسل كلبي قال إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وقال أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر قال لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك فنهاه عن أكل مالم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية
عليه وقد اختلف الفقهاء في أشياء من أمر الصيد منها الاصطياد بكلب المجوسي فقال أصحابنا ومالك والأوزاعي والشافعي لا بأس بالاصطياد بكلب المجوسي إذا كان معلما وإن كان الذي عمله مجوسيا بعد أن يكون الذي أرسله مسلما وقال الثوري أكره الاصطياد بكلب المجوسي إلا أن يأخذه من تعليم المسلم
قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم يقتضي جواز صديه وإباحة أكله ولم يفرق بين أن يكون مالكه مسلما أو مجوسيا وأيضا فإن الكلب آلة كالسكين يذبح بها والقوس يرمى عنها فواجب أن لا يختلف حكم الكلب لمن كان كسائر الآلات التي يصطاد بها وأيضا فلا اعتبار بالكلب وإنما الاعتبار بالمرسل ألا ترى أن مجوسيا لو اصطاد بكلب مسلم لم يجز أكله وكذلك اصطياد المسلم بكلب المجوسي ينبغي أن يحل أكله
فإن قيل قال الله تعالى يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من

الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ومعلوم أن ذلك خطاب للمؤمنين فواجب أن يكون تعليم المسلم شرطا في الإباحة
قيل له لا يخلو تعليم المجوسي من أن يكون مثل تعليم المسلم المشروط في إباحة الذكاة أو مقصرا عنه فإن كان مثله فلا اعتبار بالمعلم وإنما الاعتبار بحصول التعليم ألا ترى أنه لو ملكه مسلم وهو معلم كتعليم المسلم جاز أكل ما صاده فإذا لا اعتبار بالملك وإنما الاعتبار بالتعليم وإن كان تعليم المجوسي مقصرا عن تعليم المسلم حتى يخل عند الاصطياد ببعض شرائط الذكاة فهذا كلب غير معلم ولا يختلف حينئذ حكم ملك المجوسي والمسلم في حظر ما يصطاده وأما قوله تعلمونهن مما علمكم الله فإنه وإن كان خطابا للمسلمين فالمقصد فيه حصول التعليم للكلب فإذا علمه المجوسي كتعليم المسلم فقد وجد المعنى المشروط فلا اعتبار بعد ذلك بملك المجوسي
واختلفوا في الصيد يدركه حيا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيمن يدرك صيد الكلب أو السهم فيحصل في يده حيا ثم يموت فإنه لا يؤكل وإن لم يقدر على ذبحه حتى مات وقال مالك والشافعي إن لم يقدر على ذبحه حتى مات أكل وإن مات في يده وإن قدر على ذبحه فلم يذبحه لم يؤكل وإن لم يحصل في يده وقال الثوري إن قدر أن يأخذه من الكلب فيذبحه فلم يفعل لم يؤكل وقال الأوزاعي إذا أمكنه أن يذكيه ولم يفعل لم يؤكل وإن لم يمكنه حتى مات بعد ما صار في يده أكل وقال الليث إن أدركه في في الكلب فأخرج سكينة من خفه أو منطقته ليذبحه فمات أكله وإن ذهب ليخرج السكين من خرجه فمات قبل أن يذبحه لم يأكله قال أبو بكر إذا حصل في يده حيا فلا اعتبار بإمكان ذبحه أو تعذره في أن شرط ذكاته الذبح وذلك لأن الكلب إنما حل صيده لامتناع الصيد وتعذر الوصول إليه إلا من هذه الجهة فإذا حصل في يده حيا فقد زال المعنى الذي من أجله أبيح صيده صار بمنزلة سائر البهائم التي يخاف عليها الموت فلا تكون ذكاته إلا بالذبح سواء مات في وقت لا يقدر على ذبحه أو قدر عليه والمعنى فيه كونه حيا
فإن قيل إنما لم تكن ذكاة سائر البهائم إلا بالذبح لأن ذبحها قد كان مقدورا عليه ولو مات حتف أنفها لم يكن ذلك ذكاة وجراحة الكلب والسهم قد كانت تكون ذكاة للصيد لو لم يحصل في يده حتى مات فإذا صار في يده ولم يبق من حياته بمقدار ما يدرك ذكاته فهو مذكى بجراحة الكلب وهو بمنزلة ما لو صار في يده بعد الموت
قيل له هذا على وجهين أحدهما

أن يكون الكلب قد جرحه جراحة لا يعاش من مثلها إلا مثل حياة المذبوح وذلك بأن قد قطع أوداجه أو شق جوفه فأخرج حشوته فإذا كان ذلك كذلك كانت جراحته ذكاة له سواء أمكن بعد ذلك ذبحه أو لم يمكن فهذا الذي تكون جراحة الكلب ذكاة له وأما الوجه الآخر فهو أن يعيش من مثلها إلا أنه اتفق موته بعد وقوعه في يده في وقت لم يكن يقدر على ذبحه فهذا لا يكون مذكى لأن تلك الجراحة قد كانت مراعاة على حدوث الموت قبل حصوله في يده وإمكان ذكاته فإذا صار في يده حيا بطل حكم الجراحة وصار بمنزلة سائر البهائم التي يصيبها جراحات غير مذكية لها مثل المتردية والنطيحة وغيرهما فلا يكون ذكاته إلا بالذبح
واختلفوا في الصيد يغيب عن صاحبه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا توارى عنه الصيد والكلب وهو في طلبه فوجده قد قتله جاز أكله وإن ترك الطلب واشتغل بعمل غيره ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولا والكلب عنده كرهنا أكله وكذلك قالوا في السهم إذا رماه به فغاب عنه وقال مالك إذا أدركه من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جراحة وإن بات عنه لم يأكله وقال الثوري إذا رماه فغاب عنه يوما أو ليلة كرهت أكله وقال الأوزاعي إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا في أكله وقال الشافعي القياس أن لا يأكله إذا غاب عنه
قال أبو بكر روي عن ابن عباس أنه قال كل ما أصميت ودع ما أنميت وفي خبر آخر عنه وما غاب عنك ليلة فلا تأكله والإصماء ما أدركه من ساعته والإنماء ما غاب عنه وروى الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في الصيد إذا غاب عنك مصرعه كرهه وذكر هوام الأرض وأبو رزين هذا ليس بأبي رزين العقيلي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم - وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل
ويدل على أنه إذا تراخى عن طلبه لم يأكله أنه لا خلاف أنه لو لم يغب عنه وأمكنه أن يدرك ذكاته فلم يفعل حتى مات أنه لا يؤكل فإذا لم يترك الطلب وأدركه ميتا فقد علمنا أنه لم يكن يدرك ذكاته فكان قتل الكلب أو السهم له ذكاة له وإذا تراخى عن الطلب فجائز أن يكون لو طلبه في فوره أدرك ذكاته ثم لم يفعل حتى مات فإنه لا يؤكل فإذا لم يترك الطلب وأدرك حياته تيقن أن قتل الكلب ليس بذكاة له فلا يجوز أكله ألا ترى أنه النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لعدي بن حاتم وإن شاركه كلب آخر فلا تأكله فلعله أن يكون الثاني قتله فحظر

الشارع ص - أكله حين جوز أن يكون قتله كلب آخر فكذلك إذا جاز أن يكون مما كان يدرك ذكاته لو طالبه فلم يفعل وجب أن لا يؤكل لتجويز هذا المعنى فيه فإن قيل روى معاوية بن صالح عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الذي يدرك صيده بعد ثلاث يأكله إلا أن ينتن وروي في بعض الألفاظ إذا أدركت بعد ثلاث وسهمك فيه فكله مالم ينتن قيل له قد اتفق الجميع على رفض هذا الخبر وترك استعماله من جوه أحدها أن أحدا من الفقهاء لا يقول أنه إذا وجده بعد ثلاث يأكله والثاني أنه أباح له أكله مالم ينتن ولا اعتبار عند أحد بتغير الرائحة والثالث أن تغير الرائحة لا حكم له في سائر الأشياء وإنما الحكم يتعلق بالذكاة أو فقدها فإن كان الصيد مذكى مع تراخي المدة فلا حكم للرائحة وإن كان غير مذكى فلا حكم أيضا لعدم تغيره وقد روى محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة عن رجل من نهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مر بالروحاء فإذا هو بحمار وحش عقير فيه سهم قد مات فقال رسول الله ص - دعوه حتى يجيء صاحبه فجاء النهدي فقال يا رسول الله هي رميتي فكلوه فأمر أبا بكر أن يقسم بين الرفاق وهم محرمون فمن الناس من يحتج بذلك في إباحة أكله إن تراخى عن طلبه لترك النبي صلى الله عليه وسلم -
مسألته عن ذلك ولو كان ذلك يختلف حكمه لسأله وليس في هذادليل على ما ذكر من قبل أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - شاهد هذا الحمار على حال استدل بها على قرب وقت الجراحة من سيلان الدم وطراوته ومجيء الرامي عقبه فعلم أنه لم يتراخ عن طلبه فلذلك لم يسأله
فإن قيل روى هشيم عن أبي هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله إنا أهل صيد يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين يتبع أثره بعد ما يصبح فيجد سهمه فيه قال إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكله
قيل له هذا يوجب أن يكون لو أصابه بعد ليال كثيرة أن يأكله إذا علم أن سهمه قتله ولا نعلم ذلك قول أحد من أهل العلم لأنه اعتبر العلم بأن سهمه قتله وأيضا فإنه لا يحصل له العلم بأن سهمه قتله بعد ما تراخى عن طلبه وقد شرط ص - حصول العلم بذلك فإذا لم يعلم بذلك فواجب أن لا يأكله وهو لا يعلم إذا تراخى عن طلبه وطالت المدة أن سهمه قتله ويدل على صحة قول أصحابنا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال

حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا محمد بن سليمان عن مشمول عن عمرو بن تميم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول إنا أهل بدو ونصيد بالكلاب المعلمة ونرمي الصيد فما يحل لنا من ذلك وما يحرم علينا قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل مما أمسك عليك أكل أو لم يأكل قتل أو لم يقتل وإذا رميت الصيد فكل مما أصميت ولا تأكل مما أنميت فحظر ما أنمي وهو غاب عنه وهو محمول على ما غاب عنه وتراخى عن طلبه لأنه لا خلاف أنه إذا كان في طلبه فأكل إن قيل فقد أباح في هذا الحديث أكل ما أكل منه الكلب وهو خلاف قولكم قيل له قد عارضه حديث عدي بن حاتم وقد تقدم الكلام فيه قوله تعالى اليوم أحل لكم الطيبات فإنه جائز أن يريد به اليوم الذي نزلت فيه الآية ويجوز أن يريد به اليوم الذي تقدم ذكره في موضعين أحدهما قوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم والآخر قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم قيل أنه يوم عرفة في حجة الوداع وقيل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كله على ما قدمنا من اختلاف السلف فيه والطيبات ههنا يجوز أن يريد بها ما استطبناه واستلذذناه ما عدا ما بين تحريمه في هذه الآيات وفي غيرها فيكون عموما في إباحة جميع المتلذذات إلا ما قام دليل حظره ويحتمل أن يريد بالطيبات ما اباحه لنا من سائر الأشياء التي ذكر إباحتها في غير هذا الموضع وقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم روي عن ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة والسدي أنه ذبائحهم وظاهره يقتضي ذلك لأن ذبائحهم من طعامهم ولو استعملنا اللفظ على عمومه لانتظم جميع طعامهم من الذبائح وغيرها والأظهر أن يكون المراد الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم من الخبز والزيت وسائر الأدهان لا يختلف حكمها بمن يتولاه ولا شبهة في ذلك على أحد سواء كان المتولي لصنعه واتخاذه مجوسيا أو كتابيا ولا خلاف فيه بين المسلمين وما كان منه غير مذكى لا يختلف حكمه في إيجاب حظره بمن تولى إماتته من مسلم أو كتابي أو مجوسي فلما خص الله تعالى طعام أهل الكتاب بالإباحة وجب أن يكون محمولا على ا لذبائح التي يختلف حكمها باختلاف الأديان وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أكل من الشاة المسمومة المشوية التي أهدت إليه اليهودية ولم يسئلها عن ذبيحتها أهي من ذبيحة المسلم أم اليهودي واختلف الفقهاء فيمن انتحل دين أهل الكتاب من العرب فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من كان يهوديا أونصرانيا من العرب والعجم

فذبيحته مذكاة إذا سمى الله عليها وإن سمى النصراني عليها باسم المسيح لم تؤكل ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك وقال مالك ما ذبحوه لكنائسهم أكره أكله وما سمي عليه باسم المسيح لا يؤكل والعرب والعجم فيه سواء وقال الثوري إذا ذبح وأهل به لغير الله كرهته وهو قول إبراهيم وقال الثوري وبلغني عن عطاء أنه قال قد أحل الله ما أهل به لغير الله لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول وقال الأوزاعي إذا سمعته يرسل كلبه باسم المسيح أكل وقال فيما ذبح أهل الكتابين لكنائسهم وأعيادهم كان مكحول لا يرى به بأسا ويقول هذه كانت ذبائحهم قبل نزول القرآن ثم أحلها الله تعالى في كتابه وهو قول الليث بن سعد وقال الربيع عن الشافعي لا خير في ذبائح نصارى العرب من بني تغلب قال ومن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول القرآن فهو خارج من أهل الأوثان وتقبل منه الجزية عربيا كان أو عجميا ومن دخل عليه إسلام ولم يدن بدين أهل الكتاب فلا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف قال أبو بكر وقد روي عن جماعة من السلف القول في أهل الكتاب من العرب لم يفرق أحد منهم فيه بين من دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده ولا نعلم أحدا من السلف أو الخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله لا إكراه في الدين قال كانت المرأة من الأنصار لا يعيش لها ولد فتحلف لأن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار فقالت الأنصار يا رسول الله أبناؤها فأنزل الله لا إكراه في الدين قال سعيد فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام فلم يفرق فيما ذكر بين من دان باليهودية قبل نزول القرآن وبعده
وروى عبادة بن نسي عن غضيف بن الحارث أن عاملا لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناسا من السامرة يقرؤن التوراة ويسبتون السبت ولا يؤمنون بالبعث فما ترى فكتب إليه عمر أنهم طائفة من أهل الكتاب وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب فقال لا تحل ذبائحهم فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر
وروى عطاء بن

السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال في كتابه ومن يتولهم منكم فإنه منهم فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية كانوا منهم ولم يفرق أحد من هؤلاء بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده فهو إجماع منهم
ويدل على بطلان هذه المقالة من التفرقة بين من دان بدين أهل الكتاب قبل نزول القرآن أو بعده قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم وذلك إنما يقع على المستقبل فأخبر تعالى بعد نزول القرآن أن من يتولهم من العرب فهو منهم وذلك يقتضي أن يكون كتابيا لأنهم أهل الكتاب وأن تحل ذبائحهم لقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ومن الناس من يزعم أن أهل الكتاب هم بنو إسرائيل الذين ينتحلون اليهودية والنصرانية دون من سواهم من العرب والعجم الذين دانوا بدينهم ولم يفرقوا في ذلك بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده ويحتجون في ذلك بقوله ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة فأخبر أن الذين آتاهم الكتاب هم بنو إسرائيل وبحديث عبيدة السلماني عن علي أنه قال لا تحل ذبائح نصارى العرب لأنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر
أما الآية فلا دلالة فيها على قولهم لأنه إنما أخبر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب ولم ينف بذلك أن يكون من انتحل دينهم في حكمهم وقد قال ابن عباس تحل ذبائحهم لقوله تعالى لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم وقول علي رضي الله عنه في ذلك وحظر ذبائح نصارى العرب ليس من جهة أنهم من غير بني إسرائيل لكن من قبل أنهم غير متمسكين بأحكام تلك الشريعة لأنه قال إنهم لا يتعلقون من دينهم إلا بشرب الخمر ولم يقل لأنهم ليسوا من بني إسرائيل فقول من قال إن أهل الكتاب لا يكونون إلا من بني إسرائيل وإن دانوا بدينهم قول ساقط مردود وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة عن حذيفة عن عدي بن حاتم قال أتينا النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال لي رسول الله ص - يا عدي بن حاتم أسلم تسلم فقلت له إن لي دينا فقال أنا أعلم بدينك منك قلت أنت أعلم بديني مني قال نعم ألست ركوسيا قال قلت بلى قال ألست ترأس قومك قال قلت بلى قال ألست تأخذ المرباع قال

قلت بلى قال فإن ذلك لا يحل لك في دينك قال فكأني رأيت أن علي بها غضاضة وكأني تواضعت بها وروى عبدالسلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم -
وفي عنقي صليب ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال قلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله عز و جل فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه قال فتلك عبادتهم وفي هذين الخبرين ضروب من الدلالة على ما ذكرنا أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نسبه إلى متخذي الأحبار والرهبان أربابا وهم اليهود والنصارى ولم ينف ذلك عنه من حيث كان عربيا وقال في الحديث الأول ألست ركوسيا وهم صنف من النصارى فلم يخرجه عنهم بأخذهم المرباع وهو ربع الغنيمة وليس ذلك من دين النصارى لأن في دينهم أن الغنائم لا تحل فهذا يدل على أن ترك التمسك بما ينتحله المنتحلون للأديان لا يخرجهم من أن يكونوا من أهل تلك الشريعة وذلك الدين ويدل على أن العرب وبني إسرائيل سواء فيما ينتحلون من دين أهل الكتاب وأنهم غير مختلفي الأحكام ولما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم - عما انتحله من دين النصارى أكان قبل نزول القرآن أو بعده ونسبه إلى فرقة منهم من غير مسألة دل على أنه لا فرق بين من انتحل ذلك قبل نزول القرآن أو بعده والله أعلم
باب
تزوج الكتابيات قال الله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال أبو بكر اختلف في المراد بالمحصنات ههنا فروي عن الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي أنهم العفائف وروي عن عمر ما يدل على أن المعنى عنده ذلك وهو ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت بن بهرام عن شقيق بن سلمة قال تزوج حذيفة بيهودية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه حذيفة أحرام هي فكتب إليه عمر لا ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن قال أبو عبيد يعني العواهر فهذا يدل على أن معنى الإحصان عنده ههنا كان على العفة وقال مطرف عن الشعبي في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها وروى ابن

أبي نجيح عن مجاهد والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال الحرائر قال أبو بكر الاختلاف في نكاح الكتابية على أنحاء مختلفة منها إباحة نكاح الحرائر منهن إذا كن ذميات فهذا لا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئا يروى عن ابن عمر أنه كرهه حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالله بن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب ويكره نكاح نسائهم قال جعفر وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث قال حدثني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال إن الله حرم المشركات على المسلمين ولا أعلم من الشرك شيئا أعظم من أن تقول ربها عيسى بن مريم أو عبد من عبيد الله
قال أبو عبيد وحدثني علي بن معبد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال قلت لابن عمر إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فقرأ علي آية التحليل وآية التحريم قال قلت إني أقرأ ما تقرأ أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فأعاد علي آية التحليل وآية التحريم
قال أبو بكر يعني بآية التحليل والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وبآية التحريم ولا تنحوا المشركات حتى يؤمن فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامها تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميات سوى ابن عمر وجعلوا قوله ولا تنكحوا المشركات خاصا في غير أهل الكتاب حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن حماد قال سألت سعيد بن جبير عن نكاح اليهودية والنصرانية قال لا بأس قال قلت فإن الله تعالى قال ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال أهل الأوثان والمجوس وقد روي عن عمر ما قدمنا ذكره
وروي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية وتزوجها على نسائه وروي عن طلحة بن عبيدالله أنه تزوج يهودية من أهل الشام وتروى إباحة ذلك عن عامة التابعين منهم الحسن وإبراهيم والشعبي في آخرين منهم ولا يخلو قوله

تعالى ولا تنكحوا المشركات من أحد معنيين إما أن يكون إطلاقه مقتضيا لدخول الكتابيات فيه أو مقصورا على عبدة الأوثان غير الكتابيات فإن كان إطلاق اللفظ يتناول الجميع فإن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يخصه ويكون قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات مرتبات عليه لأنه متى أمكننا استعمال الآيتين على معنى ترتيب العام على الخاص وجب استعمالهما ولم يجز لنا نسخ الخاص بالعام إلا بيقين وإن كان قوله ولا تنكحوا المشركات إنما يتناول إطلاقه عبدة الأوثان على ما بيناه في غير هذا الموضع فقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ثابت الحكم إذ ليس في القرآن ما يوجب نسخه فإن قيل قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إنما المراد به اللاتي كن كتابيات فأسلمن كما قال تعالى في آية أخرى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم وقوله تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر والمراد من كان من أهل الكتاب فأسلم كذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المراد به من كان من أهل الكتاب فأسلم
قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى الطائفتين من اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ولا يطلق أحد على المسلمين أنهم أهل الكتاب كمالا يطلق عليهم أنهم يهود أو نصارى والله تعالى حين قال وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله فإنه لم يطلق الاسم عليهم إلا مقيدا بذكر الإيمان عقيبه وكذلك قال من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون فذكر إيمانهم بعد وصفهم أنهم أهل الكتاب ولست واجدا في شيء من القرآن إطلاق أهل الكتاب من غير تقييد إلا وهو يريد به اليهود والنصارى والثاني أنه قد ذكر المؤمنات في قوله والمحصنات من المؤمنات فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات فأسلمن وممن نشأ منهن على الإسلام فغير جائز أن يعطف عليه مؤمنات كن كتابيات فوجب أن يكون قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وأيضا فإن ساغ التأويل الذي ادعاه من خالف في ذلك فغير جائز لنا الانصراف عن الظاهر إلى غيره إلا بدلالة وليس معناه دلالة

توجب صرفه عن الظاهر وأيضا فلو حمل على ذلك لزالت فائدته إذ كانت مؤمنة وقد تقدم في الآية ذكر المؤمنات
وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب وأن المراد به اليهود والنصارى كذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب هو على الكتابيات دون المؤمنات ويحتج للقائلين بتحريمهمن بقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر قيل له إنما ذلك في الحربية إذا خرج زوجها مسلما أو الحربي تخرج امرأته مسلمة ألا ترى إلى قوله واسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا وأيضا فلو كان عموما لخصه قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وقد اختلف في نكاح الكتابيات من وجه آخر فقال ابن عباس لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا وتلا هذه الآية قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله وهم صاغرون قال الحكم حدثت بذلك إبراهيم فأعجبه ولم يفرق في غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات والذميات وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن قال أبو بكر ومما يحتج به لقول ابن عباس قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله والنكاح يوجب المودة بقوله تعالى خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليا وجعل بينكم مودة ورحمة فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورا لأن قوله تعالى يوادون من حاد الله ورسوله إنما يقع على أهل الحرب لأنهم في حد غير حدنا وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة وأصحابنا يكرهون مناكحات أهل الحرب من أهل الكتاب
وقد اختلف السلف في نكاح المرأة من بني تغلب فروي عن علي أنه لا يجوز لأنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وهو قول إبراهيم وجابر بن زيد وقال ابن عباس لا بأس بذلك لأنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم واختلف أيضا في نكاح الأمة الكتابية وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه في سورة النساء ومن تأول قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم على الحرائر جعل الإباحة مقصورة على نكاح الحرائر من الكتابيات ومن تأوله على العفة أباح نكاح الإماء الكتابيات
واختلف في المجوس فقال جل السلف وأكثر الفقهاء ليسوا أهل الكتاب وقال آخرون هم أهل الكتاب والقائلون بذلك شواذ والدليل

على أنهم ليسوا أهل الكتاب قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فأخبر تعالى أن أهل الكتاب طائفتان فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف ألا ترى أن من قال إنما لي على فلان جبتان لم يكن له أن يدعي أكثر منه وقول القائل إنما لقيت اليوم رجلين ينفي أن يكون قد لقي أكثر منهما فإن قيل إنما حكى الله ذلك عن المشركين وجائز أن يكونوا قد غلطوا قيل له إن الله لم يحك هذا القول عن المشركين ولكنه قطع بذلك عذرهم لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين فهذا إنما هو قول الله واحتجاج منه على المشركين في قطع عذرهم بالقرآن وأيضا فإن المجوس لاينتحلون شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه وإنما يقرؤن كتاب زرادشت وكان متنبيا كذابا فليسوا إذا أهل كتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب حديث يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال عمر ما أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب فقال عبدالرحمن بن عوف سمعت رسول اله ص -
يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب ولم يخالفه عبدالرحمن ولا غيره من الصحابة وروى عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب فلو كانوا أهل الكتاب لما قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولقال هم من أهل الكتاب وفي حديث آخر أنه أخذ الجزية من مجوس هجر وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب
فإن قيل إن لم يكونوا أهل كتاب فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم - حكمهم حكم أهل الكتاب بقوله سنوا بهم سنة أهل الكتاب قيل له إنما قال ذلك في الجزية خاصة وقد روي ذلك في غير هذا الخبر وروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام قال فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وقد روي النهي عن صيد المجوس عن علي وعبدالله وجابر بن عبدالله والحسن وسعيد بن المسيب وأبي رافع وعكرمة وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهل كتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كتب إلى صاحب الروم يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب وروي في قوله تعالى الم غلبت الروم أن المسلمين أحبوا غلبة الروم لأنهم أهل كتاب

وأحبت قريش غلبة فارس لأنهم جميعا ليسوا بأهل الكتاب فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه والقصة في ذلك مشهورة وأما من قال إنهم كانوا أهل كتاب ثم ذهب منهم بعد ذلك ويجعلهم من أجل ذلك من أهل الكتاب فإن هذا لا يصح ولا يعلم ثبوته وإن ثبت اوجب أن لا يكونوا من أهل الكتاب لأن الكتاب قد ذهب منهم وهم الآن غير منتحلين لشيء من كتب الله تعالى وقد اختلف في الصابئين هم من أهل الكتاب أم لا فروي عن أبي حنيفة أنهم أهل كتاب وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئون الذين هم عنده من أهل الكتاب قوم ينتحلون دين المسيح ويقرؤن الإنجيل فأما الصابئون الذين يعبدون الكواكب وهم الذين بناحية حران فإنهم ليسوا بأهل كتاب عندهم جميعا
قال أبو بكر الصابئون الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فهيم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في سواد واسط وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة وعبادتها واتخاذها آلهة وهم عبدة الأوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق مملكة الصابئين وكانوا نبطا لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا لأنهم منعوهم من ذلك وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ودخلوا في عمار النصارى في الظاهر وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان فلما ظهر الإسلام دخلوا في جملة النصارى ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان كاتمين لأصل الاعتقاد وهم أكتم الناس لاعتقادهم ولهم أمور وحيل في صبيانهم إذا عقلوا في كتمان دينهم وعنهم أخذت الإسماعيلية كتمان المذهب وإلى مذهبهم انتهت دعوتهم وأصل الجميع اتخاذ الكواكب السبعة آلهة وعبادتها واتخاذها أصناما على أسمائها لا خلاف بينهم في ذلك وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران وبين الذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب في ظني في قول أبي حنيفة في الصابئين أنه شاهد قوما منهم أنهم يظهرون أنهم من النصارى وأنهم يقرؤن الإنجيل وينتحلون دين المسيح تقية لأن كثيرا من الفقهاء لا يرون إقرار معتقدي مقالهم بالجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ومن كان اعتقاده من الصابئين

ما وصفنا فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ليسوا أهل كتاب وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم
باب
الطهارة للصلاة قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية قال أبو بكر ظاهر الآية يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الطهارة وحكم الجزاء أن يتأخر عن الشرط ألا ترى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما يقع الطلاق بعد الدخول وإذا قيل إذا لقيت زيدا فأكرمه أنه موجب للإكرام بعد اللقاء وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة أنه مقتضى اللفظ وحقيقته ولا خلاف بين السلف والخلف أن القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة وأن وجوب الطهارة متعلق بسبب آخر غير قيام فليس إذا هذا اللفظ عموما في إيجاب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة إذ كان الحكم فيه متعلقا بضمير غير مذكور وليس في اللفظ أيضا ما يوجب تكرار وجوب ا لطهارة بعد القيام إلى الصلاة من وجهين أحدهما ما ذكرنا من تعلق الحكم بضمير غير مذكور يحتاج فيه إلى طلب الدلالة عليه من غيره والثاني إذا لا توجب التكرار في لغة العرب ألا ترى أن من قال لرجل إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فدخلها مرة أنه يستحق درهما فإن دخلها مرة أخرى لم يستحق شيئا وكذلك من قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها مرة طلقت فإن دخلتها مرة أخرى لم تطلق فثبت بذلك أنه ليس في الآية دلالة على وجوب تكرار الطهارة لتكرار القيام
بها فإن قيل فلم يتوضأ أحد بالآية إلا مرة واحدة
قيل له قد بينا أن الآية غير مكتفية بنفسها في إيجاب الطهارة دون بيان مراد الضمير بها فقول القائل إنه لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة خطأ لأن الآية في معنى المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد به البيان فهو المراد الذي به تعلق الحكم على وجه الإفراد أو التكرار على حسب ما اقتضاه بيان المراد ولو كان لفظ الآية عموما مقتضيا للحكم فيما ورد غير مفتقر إلى البيان لم يكن أيضا موجبا لتكرار الطهارة عند القيام إليها من جهة اللفظ وإنما كان يوجب التكرار من جهة المعنى الذي علق به وجوب الطهارة وهو الحدث دون القيام إليها
وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا أبو مسلم الكرخي قال حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن علقمة

ابن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال ص - يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر يا رسول الله صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال عمدا فعلته وحدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن يحيى الذهلي قال حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبدالله بن عبدالله بن عمر قال قلت له أرأيت وضوء عبدالله بن عمر لكل صلاة طاهرا أكان أو غير طاهر عمن هو قال حدثتنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبدالله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات
فقد دل الحديث الأول على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة إذ لم يجدد النبي صلى الله عليه وسلم -
لكل صلاة طهارة فثبت بذلك أن فيه ضميرا به يتعلق إيجاب الطهارة وبين في الحديث الثاني أن الضمير هو الحدث لقوله ووضع عنه الوضوء إلا من حدث
ويدل على أن الضمير فيه هو الحدث ما روى سفيان الثوري عن جابر عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبدالله بن علقمة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يكلمنا حتى يأتي أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة فقلنا له في ذلك حين نزلت آية الرخصة يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية فأخبر أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا محمد بن علي بن زيد أن سعيد بن منصور حدثهم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن عبدالله بن أبي مليكة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - خرج من الخلاء فقدم إليه الطعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء قال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة قال أبو بكر سألوه عن الوضوء من الحدث عند الطعام فأخبر أنه أمر بالوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وروى أبو معشر المدني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك وهذا يدل على أن الآية لم تقض إيجاب الوضوء لكل صلاة من وجهين أحدهما أن الآية لو أوجبت ذلك لما قال لأمرت في كل صلاة بوضوء والثاني إخباره بأنه لو أمر به لكان

واجبا بأمره دون الآية وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم قال إذا قمتم من المضجع يعني النوم وقد كان رد السلام محظورا إلا بطهارة وروى قتادة عن الحسن عن حضين أبي ساسان عن المهاجر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ فسلمت عليه فلما فرغ من وضوئه قال ما منعني ان أرد عليك السلام إلا أني كنت على غير وضوء وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى بن منصور قال أخبرني محمد بن ثابت العبدري قال حدثنا نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما قضى حاجته من ابن عباس كان من حديثه يومئذ قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم - في سكة من سكك المدينة وقد خرج من غائط أو بول فخرج عليه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم - ضرب بكفيه على الحائط ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه إلى المرفقين ثم رد على الرجل السلام وقال لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على وضوء أو قال على طهارة فهذا يدل على أن رد السلام كان مشروطا فيه الطهارة وجائز أن يكون ذلك كان خاصا للنبي ص - لأنه لم يرو أنه نهى عن رد السلام إلا على طهارة ويدل على أن ذلك كان على الوجوب أنه تيمم حين خاف فوت الرد لأن رد السلام إنما يكون على الحال فإذا تراخى فات فكان بمنزلة من خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة إن توضأ فيجوز له التيمم وجائز أن يكون قد نسخ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يكون هذا الحكم قد كان باقيا إلى أن قبضه الله تعالى وقد روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يتوضؤن لكل صلاة وهذا محمول على أنهم فعلوه استحبابا وقال سعد إذا توضأت فصل بوضوئك مالم تحدث وقد روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس أن عبيد بن عمير كان يتوضأ لكل صلاة ويتأول قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فأنكر ذلك عليه ابن عباس وقد روي نفي إيجاب الوضوء لكل صلاة من غير حدث عن ابن عمر وأبي موسى وجابر بن عبدالله وعبيدة السلماني وأبي العالية وسعيد بن المسيب وإبراهيم والحسن ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك
باب
فضل تجديد الوضوء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أخبار في فضيلة تجديد الوضوء منها ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن زيد قال حدثنا سعيد قال حدثنا سلام الطويل عن زيد العمى عن

معاوية بن قرة عن ابن عمر قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ مرة مرة وقال هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من توضأ به ضاعف الله له الأجر مرتين ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي وروي عنه ص - أنه قال الوضوء على الوضوء نور على نور وقال ص - لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة فهذا كله يدل على استحباب الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا وعلى هذا يحمل ما روي عن السلف من تجديد الوضوء عند كل صلاة وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح على نعليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - فثبت بما قدمنا أن قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة غير موجب للوضوء لكل صلاة وثبت أنه غير مستعمل على حقيقته وإن فيه ضميرا به يعلق إيجاب الطهارة وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قام دليل مراده
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم وهذا يدل على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للوضوء لأنه إذا وجب من النوم لم يكن القيام إلى الصلاة بعد ذلك موجبا ألا ترى أنه إذا وجب من النوم لم يجب عليه بعد ذلك من حدث آخر وضوء آخر إذا لم يكن توضأ من النوم فلو كان القيام إلى الصلاة موجبا للوضوء لما وجب من النوم عند إرادة القيام إليها كالسببين إذا كان كل واحد منهما موجبا للوضوء ثم وجب من الأول لم يجب من الثاني وهذا يدل على أن من النوم هو الضمير الذي في الآية فكان تقديره إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم ويدل على أن النوم الموجب للوضوء هو النوم المعتاد الذي يجوز أن يقال فيه أنه قام من النوم ومن نام قاعدا أو ساجدا أو راكعا لا يقال إنه قام من النوم وإنما يطلق ذلك في نوم المضطجع ومن قال إن النوم ليس بحدث وإنما وجب به الطهارة لغلبة الحال في وجود الحدث فيه فإن الآية جالة على وجوب الطهارة من الريح وإذا كان المعنى على ما وصفنا فيكون حينئذ في مضمون الآية إيجاب الوضوء من النوم ومن الريح وقد أريد به أيضا إيجاب الوضوء من الغائط والبول وذلك من ضمير الآية لأنه مذكور في قوله أو جاء أحد منكم من الغائط والغائط هو المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه

لقضاء حوائجهم فيه وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسلس البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سلس البول والمذي ودم الاستحاضة فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية وقد اتفق السلف وسائر فقهاء الأمصار على نفي إيجاب الوضوء على من نام قاعدا غير مستند إلى شيء روى عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس ثم استيقظوا فجاءه عمر فقال الصلاة يا رسول الله فخرج وصلى ولم يذكر أنهم توضؤا
وروي عن أنس قال كنا نجيء إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ننتظر الصلاة فمنا من نعس ومنا من نام ولا نعيد وضوء وروى نافع عن ابن عمر قال لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في ذلك في غير هذا الموضع وروى أبو يوسف عن محمد بن عبدالله عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي الصبح ولا يتوضأ فسئل عن ذلك فقال إني لست كأحدكم إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي لو أحدثت لعلمته وهذا الحديث يدل على أن النوم في نفسه ليس بحدث وان إيجاب الوضوء فيه إنما هو لما عسى أن يكون فيه من الحدث الذي لا يشعر به وهو الغالب من حال النائم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال العين وكاءا له فإذا نامت العين استطلق الوكاء فلما كان الأغلب في النوم الذي يستثقل فيه النائم وجود الحدث فيه حكم له بحكم ا لحدث هذا إنما هو في النوم المعتاد الذي يضع النائم جنبه على الأرض ويكون في المضطجع من غير علم منه بما يكون منه فإذا كان جالسا أو على حال من أحوال الصلاة لغير ضرورة مثل القيام والركوع والسجود لم تنتقض طهارته لأن هذه أحوال يكون الإنسان فيها محتفظا وإن كان منه حدث علم به وقد روى يزيد بن عبدالرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله
فصل قال أبو بكر قوله تعالى وإذا قمتم إلى الصلاة لما كان ضميره ما وصفنا من القيام من النوم أو إرادة القيام إليها في حال الحدث فأوجب ذلك تقديم الطهارة من

الأحداث للصلاة وكانت الصلاة اسما للجنس يتناول سائرها من المفروضات والنوافل اقتضى ذلك أن تكون من شرائط صحة الصلاة الطهارة أي صلاة إذ لم تفرق الآية بين شيء منها وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم -
ذلك بقوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يقتضي إيجاب الغسل والغسل اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة وإذا كان هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه فقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم إنما المقصد فيه إمرار الماء على الموضع إذ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها فإذا ليس عليه ذلك الموضع بيده وإنما عليه إمرار الماء حتى يجري على الموضع
وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أوجه فقال مالك بن أنس عليه إمرار الماء وذلك الموضع بيده وإلا لم يكن غسلا وقال آخرون وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء عليه إجراء الماء عليه وليس عليه دلكه بيده وروى هشام عن أبي يوسف أنه إن مسح الموضع بالماء كما يسمح بالدهن أجزأه والدليل على بطلان قول موجبي ذلك الموضع إن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دلك والدليل على ذلك أنه لو كان على بدنه نجاسة فوالى بين صب الماء عليه حتى أزالها سمي بذلك غاسلا وإن لم يدلكه بيده فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدلك لأجل إمرار الماء عليه وقال الله تعالى فاغسلوا فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها فمن شرط فيه دلك الموضع بيده فقد زاد فيه ما ليس منه وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فإنه لما لم يكن هناك شيء يزال بالدلك لم يكن لدلك الموضع وإمساسه بيده فائدة ولا حكم فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أمر الماء عليه من غير دلك وأيضا فليس لذلك الموضع بديه حكم في الطهارة في سائر الأصول فوجب أن لا يتعلق به فيما اختلف فيه فإن قال قائل إذا لم يكن الغسل مأمورا به لإزالة شيء هناك علمنا أنه عبادة فمن حيث شرط فيه إمرار الماء وجب أن يكون دلكه بيده شرطا وإلا فلا معنى لإمرار الماء وإجرائه عليه قيل له قد ثبت في الأصول لإمرار الماء على الموضع حكم في غسل النجاسات ولم يثبت بدلك الموضع حكم بل حكمه ساقط في إزالة الأنجاس لأنه لو كان له حكم لكان اعتبار الدلك فيها أولى فوجب أن يكون كذلك حكمه في طهارة الحدث واما من أجاز مسح هذه الأعضاء المأمور بغسلها فإن قوله مخالف لظاهر الآية فإن الله

تعالى شرط في بعض الأعضاء الغسل وفي بعضها المسح فما أمر بغسله لا يجزي فيه المسح لأن الغسل يقتضي إمرار الماء على الموضوع وإجراءه عليه ومتى لم يفعل ذلك لم يسم غاسلا والمسح لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي مباشرته بالماء دون إمراره عليه فغيرجائز ترك الغسل إلى المسح ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل فمتى مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به
ويدل على ذلك أنه ليس عليه في مسح الرأس في الوضوء لإبلاغ الماء إلى أصول الشعر وإنما عليه مسح الظاهر منه وعليه في غسل الجنابة إبلاغ الماء أصول الشعر فلو كان المسح والغسل واحدا لأجزى في غسل الجنابة مسحه كما يجزي في الوضوء وفي ذلك دليل على أن ما شرط فيه الغسل لا ينوب عنه المسح فإن قيل إذا لم تكن هناك نجاسة تزال بالغسل فالمقصد فيه مباشرة الموضع بالماء فلا فرق بين الغسل والمسح قيل له هذا يدل على صحة ما ذكرنا وذلك لأنه لما لم تكن هناك نجاسة من أجلها يجب الغسل فكان وجوب عبادة ثم فرق الله تعالى في الآية بين الغسل والمسح فعلينا اتباع الأمر على حسب مقتضاه وموجبه وغير جائز لنا ترك الغسل إلى غيره والعبادة علينا في الغسل في الأعضاء المأمور بها كهي علينا في مسح العضو المأمور به فلم يجز استعمال النظر في ترك حكم اللفظ إلى غيره فإن قيل لو بقيت لمعة في ذراعه فمسحها جاز وهذا يدل على جواز مسح الجميع كما جاز مسح البعض
قيل له هذا غلط لأن اللمعة إذا اتصلت صارت في حكم المغسول وأما إذا لم تتصل فلا يجوز الإجماع ففي ذلك دلالة على أن المسح لا ينوب مناب الغسل وقيل له لو لزم منا هذا في الوضوء للزمك في غسل الجنابة مثله والله أعلم
باب
الوضوء بغير نية قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء فارنته النية أو لم تقارنه وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة وهو إمرار الماء على الموضع وليس هو عبارة عن النية فمن شرط فيه النية فهو زائد في النص وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه يوجب نسخ الآية قد أباحت فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية فمن حظر الصلاة ومنعها إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها

وذلك لا يجوز إلا بنص مثله والوجه الآخر أن النص له حكمه ولا يجوز أن يلحق به ما ليس منه كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه فإن قيل فقد شرطت في صحة الصلاة النية مع عدم ذكرها في اللفظ قيل له إنما جاز ذلك فيها من وجهين أحدهما أن الصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان غير موجب للحكم بنفسه إلا ببيان يرد فيه وقد ورد فيه البيان بإيجاب إليه فلذلك أوجبناها وليس كذلك الوضوء لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بين المراد فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النص ولا يجوز ذلك إلا بنص مثله والوجه الآخر اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها فلو كان اسم الصلاة عموما ليس بمجمل لجاز إلحاق النية بها بالاتفاق فهي إذا كانت مجملا أحرى بإثبات النية فيها من جهة الإجماع
ذكر
اختلاف الفقهاء في فرض النية قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل طهارة بماء تجوز بغير نية ولا يجزي التيمم إلا بنية وهو قول الثوري وقال الأوزاعي يجزي الوضوء بغير نية ولم تحفظ عنه في التيمم وقال مالك والليث والشافعي لا يجزي الوضوء ولا الغسل إلا بالنية وكذلك التيمم وقال الحسن بن صالح يجزي الوضوء والتيمم جميعا بغير نية قال أبو جعفر الطحاوي ولم نجد هذا القول في التيمم عن غيره قال أبو بكر قد قدمنا ذكر دلالة الآية على جواز الوضوء بغير نية وقوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا دل على جواز الاغتسال من الجنابة بغير نية كذلك قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم على النحو الذي بينا ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا ومعناه مطهرا فحيثما وجد فواجب أن يكون مطهرا ولو شرطنا فيه النية كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله بها من كونه طهورا لأنه حينئذ لا يكون طهورا إلا بغيره والله تعالى جعله طهورا من غير شرط معنى آخر فيه فإن قيل إيجاب شرط النية فيه لا يخرجه من أن يكون طهورا كما وصفه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء ولم يمنع ذلك إيجاب النية شرطا فيه قيل له إنما سماه طهورا على وجه المجاز تشبيها له بالماء في باب إباحة الصلاة والدليل عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس فعلمنا أنه سماه طهورا استعارة ومجازا ومن

جهة أخرى أن إثبات النية شرطا في التيمم جائز مع قوله التراب طهور المسلم ولا يجوز مثله في الوضوء وذلك لأن قوله فتيمموا يقتضي إيجاب النية إذ كان التيمم هو القصد في اللغة وقوله التراب طهور المسلم وارد من طريق الآحاد فواجب أن يكون الخبر مرتبا على الآية إذ غير جائز ترك حكم الآية بالخبر وتجوز الزيادة في الخبر بالآية وليس ذلك كقوله وأنزلنا من السماء ماء طهورا لأنه غير جائز أن يزاد في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به نسخه ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به فأبان تعالى عن وقوع التطهير بالماء من غير شرط النية فيه
فإن قيل لما كان قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم الآية مقتضيا لفرض الطهارة فمن حيث كان فرضا وجب أن تكون النية شرطا في صحته لاستحالة وقوع الفعل موقع الفرض إلا بالنية وذلك لأن الفرض يحتاج في صحة وقوعه إلى نيتين أحدهما نية التقرب به إلى الله تعالى والأخرى نية الفرض فإذا لم ينوه لم توجد صحة الفرض فلم يجز عن الفرض إذ هو غير فاعل للمأمور به قيل له إنما يجب ما ذكرت في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقاربه فلما جعل الله الطهارة شرطا لصحة الصلاة ولم تكن مفروضة لنفسها لأن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة كالمريض المغمى عليه أياما وكالحائض والنفساء وقال تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقال ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فجعله شرطا في غيره ولم يجعله مأمورا به لنفسه فاحتاج موجب النية شرطا فيه إلى دلالة من غيره ألا ترى أن كثيرا مما هو شرط في الفرض وليس بمفروض بعينه فجائز أن يكون من فعل غيره نحو الوقت الذي هو شرط في صحة أداء الصلاة ولا صنع للمصلي ونحو البلوغ والعقل اللذين هما شرط في صحة التكليف وليسا بفعل المكلف فبان بما وصفنا أن ورود لفظ الأمر بما جعل شرطا في غيره لا يقتضي وقوعه طاعة منه ولا إيجاب النية فيه ألا ترى أن قوله تعالى وثيابك فطهر وإن كان أمرا بتطهير الثوب من النجاسة فإنه لم يوجب كون النية شرطا في تطهيره إذا لم تكن إزالة النجاسة مفروضة لنفسها وإنما هي شرط في غيرها وإنما تقديره لا تصل إلا في ثوب طاهر ولا تصل إلا مستور العورة ويدل على ذلك ايضا أن الشافعي قد وافقنا على أن رجلا لو قعد في المطر ينوي الطهارة

فأصاب جميع أعضائه أنه يجزيه من غير فعل له فيه ولو كان ذلك مفروضا لنفسه لما أجزأه دون أن يفعله هو أو يأمر به غيره لأن هذا حكم المفروض
فإن قيل فالتيمم غير مفروض لنفسه ولا يصح مع ذلك إلا بالنية فليس إيجاب النية مقصورا على ما كان مفروضا لنفسه قيل له هذا غير لازم لأنا لم نخرج هذا القول مخرج الاعتلال فتلزمنا عليه المناقضة وإنما بينا أن لفظ الأمر إذا ورد فيما كان وصفه ما ذكرنا فإنه لا يقتضي إيجاب النية شرطا فيه إلا بدلالة أخرى من غيره فإنما أسقطنا بذلك احتجاج من احتج بظاهر ورود الأمر في إيجاب النية وفي مضمون لفظ التيمم إيجاب النية إذ كان التيمم في اللغة اسما للقصد قال الله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون يعني لا تقصدوا وقال الشاعر ... ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما ...
وقال آخر ... فإن تلي خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيممت مالكا ...
وقال الأعشى ... تيممت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمه ذي شزن ...
يعني قصدته فلما كان في لفظ الآية إيجاب القصد والقصد هو النية لفعل ما أمر به جعلنا النية شرطا ولم يكن في إيجاب النية لحاق زيادة بالآية غير مذكورة فيها وأما الغسل فلا تنطوي تحته النية وفي إيجابها فيه إثبات زيادة فيها ليست منها وذلك غير جائز ووجه آخر في الفصل بين التيمم والوضوء وهو أن التيمم قد يقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء وهو على صفة واحدة في الحالين فاحتيج إلى النية للفصل بين حكميهما لأن النية إنما شرطت لتمييز أحكام الأفعال فلما كان حكم التيمم قد يختلف فيقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء احتيج إلى النية فيه لتمييز ما يقع منه عن الغسل عما يقع منه عن الوضوء وأما الغسل لا يختلف حكمه في نفسه ولا فيما يقع له فاستغنى عن النية فيه والتمييز إذ كان المقصد منه إيقاع الفعل كما قيل لا تصل حتى تغسل النجاسة من بدنك أو ثوبك ولا تصل إلا مستور العورة وليس يقتضي شيء من ذلك إيجاب النية فيه
ويدل على ما ذكرنا من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في تعليمه الأعرابي

الصلاة وقوله لا تتم صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فقوله حتى يضع الطهور مواضعه يقتضي جوازه بغير نية لأن مواضع الطهور معلومة مذكورة في القرآن فصار كقوله حتى يغسل هذه الأعضاء وقوله فيغسل وجهه ويديه يوجب ذلك أيضا إذ لم يشرط فيه النية فظاهره يقتضي جوازه على أي وجه غسله ويدل من جهة أخرى أنه معلوم أن الأعرابي كان جاهلا بأحكام الصلاة والطهارة فلو كانت النية شرطا فيها لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم -
من التوقيف عليها وفي ذلك أوضح دليل على أنها ليست من فروضها ويدل عليه أيضا قوله ص - في غسل الجنابة لأم سلمة إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات على سائر جسدك فإذا أنت قد طهرت ولم يشرط فيه النية وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فأشار إلى الفعل المشاهد دون النية هي ضمير لا تصح الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به وقال إذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال إن تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة ومن جهة النظر أن الوضوء طهارة الماء كغسل النجاسة وأيضا هو سبب يتوصل به إلى صحة أداء الصلاة لا على وجه البدل عن غيره فأشبه غسل النجاسة وستر العورة والوقوف على مكان طاهر ولا يلزم عليه التيمم لأنه بدل عن غيره فإن احتجوا بقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ذلك يقتضي إيجاب النية له لأن ذلك أقل أحوال الإخلاص قيل له ينبغي أن يثبت أن الوضوء عبادة أو أنه من الدين إذ جائز أن يقال إن العبادات هي مقصودة لعينه في التعبد فأما ما أمر به لأجل غيره أو جعل شرطا فيه أو سببا له فليس يتناوله هذا الاسم ولو لزم أن يكون تارك النية في الطهارة غير مخلص لله لوجب مثله في تارك النية في غسل النجاسة وستر العورة فلما لم يجز أن يكون تارك النية فيما وصفنا غير مخلص إذ كان مأمورا به لأجل الصلاة كان كذلك في الطهارة وأيضا فإن كل من اعتقد الإسلام فهو مخلص لله تعالى فيما يفعله من العبادات إذ لم يشرك في النية بين الله وبين غيره لأن ضد الإخلاص هو الإشراك فمتى لم يشرك فهو مخلص بنفس اعتقاد الإيمان في جميع ما يفعله من العبادات ما لم يشرك غيره فيه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم -
الأعمال بالنيات وهذا لا يصح الاحتجاج به في موضع الخلاف من قبل أن حقيقة اللفظ تقتضي كون العمل موقوفا على النية والعمل موجود

مع فقد النية فعلمنا أنه لم يرد به حقيقة اللفظ وإنما أراد معنى مضمرا فيه غير مذكور فالمحتج بعموم الخبر في ذلك مغفل فإن قيل مراده حكم العمل قيل له الحكم غير مذكور فالاحتجاج بعمومه ساقط فإن ترك الاحتجاج بظاهر اللفظ وقال ما لم يجز أن يخلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم - من فائدة وقد علمنا أنه لم يرد نفس العمل وجب أن يكون مراده حكم العمل قيل له يحتمل أن يريد به فضيلة العمل لا حكمه وإذا احتمل الأمرين احتيج إلى دلالة من غيره في إثبات المراد وسقط الاحتجاج به فإن قيل هو على الأمرين قيل له هذا خطأ لأن الضمير المحتمل للمعنيين غير ملفوظ به فيقال عمومه شامل للجميع فأما ما ليس بمذكور وهو ضمير ليس اللفظ عبارة عنه فقول القائل أحمله على العموم خطأ وأيضا فغير جائز إرادة الأمرين لأنه إن أريد به فضيلة العمل صار بمنزلة قوله لا فضيلة للعمل إلا بالنية وذلك يقتضي إثبات حكم العمل حتى يصح نفي فضيلته لأجل عدم النية ومتى أراد به حكم العمل لم يجز أن يريد به الفضيلة والأصل منتف فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد إذ غير جائز أن يكون لفظ واحد لنفي الأصل ونفي الكمال وأيضا غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الآحاد على ما بينا وهذا من أخبار الآحاد
فصل قوله عز و جل وجوهكم قال أبو بكر قد قيل فيه إن حد الوجه من قصاص الشعر إلى أصل الذقن إلى شحمة الأذن حكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن أبي سعيد ا لبردعي ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى وكذلك يقتضي ظاهر الاسم إذ كان إنما سمي وجها لظهوره ولأنه يواجه ا لشيء ويقابل به وهذا الذي ذكرناه من تحديد الوجه هو الذي يواجه انسان ويقابله من غيره فإن قيل فينبغي أن يكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى قيل له لا يجب ذلك لأن الأذنين تستران بالعمامة والقلنسوة ونحوهما كما يستر صدره وإن كان متى ظهر كان مواجها لمن يقابله وهذا الذي ذكرناه من معنى الوجه يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية إذ ليس داخل الأنف والفم من الوجه إذ هما غير مواجهين لمن قابلهما وإذا لم تقتض الآية إيجاب غسلهما وإنما اقتضت غسل ما واجهنا وقابلنا منه فمن قال بإيجاب المضمضة والاستنشاق فهو زائد في حكم الفرض ما ليس منه وهذا غير جائز لأنه يوجب نسخه فإن قيل قول النبي صلى الله عليه وسلم -
بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما وقوله ص - حين توضأ مرة مرة هذا وضوء لا يقبل

الله الصلاة إلا به يوجب فرض المضمضة والإستنشاق قيل له أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم
قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب والوضوء هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله تعالى وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزي غيره فإذا لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يجز أن يراد في حكم الآية وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما لا يجوز الاعتراض به على الآية في إثبات الزيادة لأنه غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الواحد وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال حدثنا ابن جريج عن عطاء قال سئلت عائشة عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بإناء فيه ماء فتوضأ وكفا على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا ثم أعاد ذلك فقال من ضاعف ضاعف الله له ثم أعاد الثالثة فقال هذا وضوؤنا معشر الأنبياء فمن زاد فقد أساء فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق لأنه قصد بيان المفروض منه ولو كان فرضا فيه لفعله
باب غسل اللحية وتخليلها
قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان فاحتمل أن تكون اللحية من الوجه لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه وقد يقال أيضا خرج وجهه إذا خرجت لحيته فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضي ظاهر ذلك وجوب غسلها ويحتمل أن يقال ليست من الوجه وإنما الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه بعد ما كانت البشرة ظاهرة دونه ولمن قال بالقول الأول أن يقول نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه كما أن شعر الرأس من الرأس وقد قال الله تعالى وامسحوا برءوسكم فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه

ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبي حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها فلذلك لم يكن من الوجه وقد ذكر عن السلف اختلاف في غسل اللحية وتخليلها ومسحها فروى إسرائيل عن جابر قال رأيت القاسم ومجاهدا وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم وكذلك روي عن طاوس وروى جرير عن زيد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت عليا رضي الله عنه توضأ وقال يونس رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا ورى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها وكذلك روي عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير فهؤلاء كلهم روي عنهم غسل اللحية ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه وقد كان ابن عمر متقصيا في أمر الطهارة كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه خلل لحيته وروي عن أنس أن النبي ص - خلل لحيته وقال بهذا أمرني ربي وروى عثمان وعمار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه خلل لحيته في الوضوء وروى الحسن عن جابر قال وضأت رسول الله ص - لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط قال أبو بكر وروي أخبار أخر في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ليس فيها ذكر تخليل اللحية منها حديث عبد خير عن علي وحديث عبدالله بن زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم كلهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه والوجه ما واجهك منه وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على وجوب غسلها أو تخليلها لم يجز لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد وجميع ما روي من أخبار التخليل إنما هي أخبار

أحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نص القرآن وأيضا فإن التخليل ليس بغسل فلا يجوز أن يكون موجبا بالآية ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -
التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجبا لما تركه إلى التخليل وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومسحها
فروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال لا يخللها ويجزيه أن يمر بيده على ظاهرها قال فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء وبه قال ابن أبي ليلى قال أبو يوسف وأنا أخلل وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف في نوادره يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلى وذكر ابن شجاع عن الحسن عن زفر في الرجل يتوضأ أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يمر الماء على لحيته فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك وإن كان أقل من ذلك لم يجزه وهو قول أبي حنيفة وبه أخذ الحسن وقال أبو يوسف يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يمس لحيته بشيء من الماء وقال ابن شجاع لما لم يلزمه غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الراس إذ لم يجب غسله فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزي منه الربع كما قالوا في مسح الرأس قال أبو بكر لا تخلو اللحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دل ذلك على أنها ليست من الوجه لأنها لو كانت منه لوجب غسلها ولما سقط غسلها لم يجز إيجاب مسحها لأن فيه إثبات زيادة في الآية كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نص الكتاب وأيضا لوجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة وذلك خلاف الأصول فإن قيل قد يجتمع فرض المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقي العضو قيل له إنما يجب للضرورة والعذر وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل والوجه بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة ويقتضي ما قال أبو يوسف من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعا وإن كان المستحب إمرار الماء عليها قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق قال أبو بكر اليد اسم يقع على هذا العضو إلى المنكب

والدليل على ذلك أن عمارا تيمم إلى المنكب وقال تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إلى المناكب وكان ذلك لعموم قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب وإذا كان الإطلاق يقتضي ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين أحدهما أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها إذ لم تقم الدلالة على سقوطها والثاني أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن ووجود الطهر شرط في الإباحة وقال حتى تنكح زوجا غيره ووجوده شرط فيه وإلى وحتى جميعا للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله ثم أتموا الصيام إلى الليل والليل خارج منه فلما كان هذا هكذا وكان الحدث فيه يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو وجود غسل المرفقين إذ كانت الغاية مشكوكا فيها وأيضا روى جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما وفعله ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان لأن قوله تعالى إلى المرافق لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملا مفتقرا إلى البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب والذي ذكرنا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعا إلا زفر فإنه يقول إن المرافق غير داخلة في الوضوء وكذلك الكعبان على هذا الخلاف
وقوله تعالى وامسحوا برؤسكم قال أبو بكر اختلف الفقهاء في المفروض من مسح الرأس فروي عن أصحابنا فيه روايتان إحداهما ربع الرأس والأخرى مقدار ثلاثة أصابع ويبدأ بمقدم الرأس وقال الحسن بن صالح يبدأ بمؤخر الرأس وقال الأوزاعي والليث يمسح مقدم الرأس وقال مالك الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز وقال الشافعي الفرض مسح بعض رأسه ولم يحد شيئا وقوله تعالى وامسحوا برؤسكم يقتضي مسح بعضه وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني فمتى أمكننا استعالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة نحو من هي مستعملة على معان منها التبعيض ثم قد تدخل في الكلام وتكون

ملغاة وجودها وعدمها سواء ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها قلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام على أنها ملغاة ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت مسحت يدي بالحائط كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه ولو قلت مسحت الحائط كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة فوجب إذا كان ذلك كذلك أن نحمل قوله وامسحوا برؤسكم على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقوله كتبت بالقلم ومررت بزيد فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فنكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته
ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى وامسحوا برؤسكم قال إذا مسح ببعض الرأس أجزأه قال ولو كانت امسحوا رؤسكم كان مسح الرأس كله فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده
فإن قيل لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول مسحت رأسي كله كما لا تقول مسحت ببعض رأسي كله
قيل له قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة فإذا قال مسحت برأسي كله علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها للتبعيض وقد توجد صلة الكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى مالكم من إله غيره ويغفر لكم من ذنوبكم ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة
وقد روي نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف منهم ابن عمر روى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه وعن عائشة مثل ذلك وقال الشعبي أي جانب رأسك مسحت أجزأك وكذلك قال

إبراهيم
ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيدالله بن الحسين الكرخي قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا هشيم قال حدثنا يونس عن ابن سيرين قال أخبرني عمرو بن وهب قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول خصلتان لا أسأل عنهما أحدا بعد ما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنا كنا معه في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته وروى سليمان التيمي عن بكر بن عبدالله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة وحدثنا عبيدالله بن الحسين قال حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال حدثنا كردوس بن أبي عبيدالله قال حدثنا المعلى بن عبدالرحمن قال حدثنا عبدالحميد بن جعفر عن عطاء عن ابن عباس قال توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فمسح رأسه مسحة واحدة بين ناصيته وقرنه فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب والسنة أن المفروض مسح بعض الرأس فإن قيل يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث قيل له إنه لو كان هناك ضرورة لنقلت كما نقل غيره وأما كونه وضوء من لم يحدث فإنه تأويل ساقط لأن في حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث
واحتج من قال بمسح الجميع بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره قال فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبي ص - جميعه ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعديا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال من زاد فقد اعتدى وظلم فيقال له لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاثا فلا يكون الزائد على المفروض معتديا إذا أصاب السنة وكما أن المفروض من المسح على الخفين هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن معتديا وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق والمفروض مسح

الرأس والمسنون مسح الأذنين معه وكما يقول مخالفنا إن المفروض من مسح الرأس هو الأكثر وإن ترك القليل جائز ولو مسح الجميع لم يكن متعديا بل كان مصيبا كذلك نقول إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع وإنما قال أصحابنا إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل وفي رواية لحسن بن زياد الربع فإن وجه تقدير ثلاث اصابع أنه لما ثبت أن المفروض البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسول ص -
فلما روي عن النبي ص - أنه مسح على ناصيته كان فعله ذلك واردا مورد البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها فقدروا الناصية بثلاث أصابع وقد روي عن ابن عباس أنه مسح بين ناصيته وقرنه
فإن قيل فقد روي أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر فينبغي أن يكون ذلك واجبا
قيل له معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يترك المفروض وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنون فلما روي عنه الاقتصار على مقدار الناصية في حال وروي عنه استيعاب الرأس في أخرى استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وما زاد عليها فهو مسنون وأيضا لو كان المفروض أقل من مقدار الناصية لاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم - في حال بيانا للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دل على أنه هو المفروض فإن قيل لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بيانا للمقدار ولم تجز أقل منها فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دل ذلك على أن فعله ذلك غير موجب للاقتصار على مقداره قيل له قد كان ظاهر فعله يقتضي ذلك لولا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله فإن قيل لما كان قوله تعالى وامسحوا برؤسكم مقتضيا مسح بعضه فأي بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر قيل له إذا كان ذلك البعض مجهولا صار مجملا ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال ألا ترى أن قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وقوله وآتوا الزكاة وقوله يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل

الله كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عليه الاسم منها فكذلك قوله تعالى برؤسكم وإن اقتضى البعض فإن ذلك البعض لما كان مجهولا عندنا وجب أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - من فعل فيه فهو بيان مراد الله به ودليل آخر وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدار وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس لأنه من أعضاء الوضوء وهذا يحتج به على مالك والشافعي جميعا لأن مالكا يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار والشافعي يقول كل ما وقع عليه اسم المسح جاز وذلك مجهول القدر وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليل في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية وذلك بأن نقول لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدرا اعتبارا بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار
فإن قيل ما أنكرت أن يكون مقدرا بثلاث شعرات
قيل له هذا محال لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه وأيضا فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدرا بالأصابع وبه وردت السنة وهو مس بالماء وجب أن يكون مسح الرأس مثله وأما وجه رواية من روى الربع فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزي وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجرى على الشخص وهو الربع لأنك تقول رأيت فلانا والذي يليك منه الربع فيطلق عليه الاسم فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضا في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحل به المحرم إذا حلقه ولا يحل عند أصحابنا بأقل منه فلذلك يوجبون به ما إذا حلقه في الإحرام
واختلف الفقهاء في مسح الرأس بأصبع واحدة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يجوز مسحه بأقل من ثلاث أصابع وإن مسحه بإصبع أو إصبعين ومدها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يجز وقال الثوري وزفر والشافعي يجزيه غلا أن زفر يعتبر الربع والأصل في ذلك أنه لا يجزي في

مفروض المسح نقل الماء من موضع إلى موضع وذلك لأن المقصد فيه إمساس الماء الموضع لا إجراؤه عليه فإذا وضع إصبعا فقد حصل ذلك الماء ممسوحا به فغير جائز مسح موضع غيره به وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يجره عليها لم يجزه فلا يحصل معنى الغسل إلا بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع فلذلك لم يكن مستعملا بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو وأما المسح فلو اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جري لجاز فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يجز نقله إلى غيره فإن قيل فلو صب على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجزى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره فهلا أجزته أيضا إذا مسح بإصبع واحدة ونقله إلى غيره قيل له من قبل أن صب الماء غسل وليس بمسح والغسل يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره وأما إذا وضع إصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعا غيره وأيضا فإن الماء الذي يجري عليه بالصب والغسل يتسع للمقدار المفروض كله وما على إصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض وإنما يكفي لمقدار الإصبع فإذا جره إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملا في غيره فلا يجوز له ذلك
باب
غسل الرجلين قال الله تعالى وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين قال أبو بكر قرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير وأرجلكم بالخفض وتأولوها على المسح وقرأ علي وعبدالله بن مسعود وابن عباس في رواية وإبراهيم والضحاك ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب وكانوا يرون غسلها واجبا والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض وقال قوم يجوز مسح البعض ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن المراد الغسل وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعا ونقلتهما الأمة تلقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء وذلك لأن قوله وأرجلكم بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم ويحتمل أن يكون

معطوفا على الرأس فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون معطوفا على المعنى لا على اللفظ لأن الممسوح به مفعول به كقول الشاعر ... معاوية إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا ...
فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس فيراد به المسح ويحتمل عطفه على الغسل ويكون مخفوضا بالمجاورة كقوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون ثم قال وحور عين فخفضهن بالمجاورة وهن معطوفات في المعنى على الولدان لأنهن يطفن ولا يطاف بهن وكما قال الشاعر ... فهل أنت إن ماتت أتانك راكب ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب ...
فخفض خاطبا بالمجاورة وهو معطوف على المرفوع من قوله راكب والقوافي مجرورة ألا ترى إلى قوله ... فنل مثلها في مثلهم أو فلمهم ... على دارمى بين ليلى وغالب ...
فثبت بما وصفنا احتمال كل واحد من القراءتين للمسح والغسل فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثه إما أن يقال إن المراد هما جميعا مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير وغير جائز أن يكونا هما جميعا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ولا جائز أيضا أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع فيظل التخيير بما وصفنا وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير ملوم على ترك المسح
فثبت أن المراد الغسل وأيضا فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد فيه من البيان عن الرسول ص -
من فعل أو قول علمنا أنه مراد الله تعالى وقد ورد البيان عن الرسول ص - بالغسل قولا وفعلا فأما وروده من جهة

الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم - غسل رجليه في الوضوء ولم يختلف الأمة فيه فصار فعله ذلك واردا مورد البيان وفعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فثبت أن ذلك هو مراد الله تعالى بالآية وأما من جهة القول فما روى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبدالله بن عمر وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم - رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم - مرة مرة فغسل رجليه وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به فقوله ويل للأعقاب من النار وعيد لا يجوز أن يستحق إلا بترك الفرض فهذا يوجب استيعاب الرجل بالطهارة ويبطل قول من يجيز الاقتصار على البعض وقوله ص - أسبغوا الوضوء وقوله بعد غسل الرجلين هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به يوجب استيعابهما بالغسل لأن الوضوء اسم للغسل يقتضي إجراء الماء على الموضع والمسح لا يقتضي ذلك وفي الخبر الآخر إخبار أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بغسلهما وأيضا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم - من بيانه إذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد وأيضا فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح لأن في الغسل زيادة فعل وقد اقتضاه الأمر بالغسل فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وهو الغسل لأنه يأتي على المسح والمسح لا ينتظم الغسل وأيضا لما حدد الرجلين بقوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين كما قال وأيديكم إلى المرافق دل على استيعاب الجميع كما دل ذكر الأيدي إلى المرافق على استيعابهما بالغسل
فإن قيل قد روى علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه توضأ ومسح على قدميه ونعليه قيل له لا يجوز قبول أخبار الآحاد فيه من وجهين أحدهما لما فيه من الاعتراض به على موجب الآية من الغسل على ما قد دللنا عليه والثاني أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله لعموم الحاجة إليه وقد روي عن علي أنه قرأ وأرجلكم بالنصب وقال المراد الغسل فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم -
جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال إن مراد الله الغسل وأيضا فإن الحديث الذي روي عن علي في ذلك قال

فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - هذا وضوء من لم يحدث وهو حديث شعبة عن عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن عليا صلى الظهر ثم قعد في الرحبة فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فعل وقال هذا وضوء من لم يحدث ولا خلاف في جواز مسح الرجلين في وضوء من لم يحدث وأيضا لما احتملت الآية الغسل والمسح استعملناها على الوجوب في أن الحالين الغسل في حال ظهور الرجلين والمسح في حال لبس الخفين
فإن قيل لما سقط فرض الرجل في حال التيمم كما سقط الرأس دل على أنها ممسوحة غير مغسولة قيل له فهذا يوجب أن لا يكون الغسل مرادا ولا خلاف أنه إذا غسل فقد فعل المفروض ولم تختلف الأمة أيضا في نقل الغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأيضا فإن غسل البدن كله يسقط في الجنابة إلى التيمم عند عدم الماء وقام التيمم في هذين العضوين مقام غسل سائر الأعضاء كذلك جائز أن يقوم مقام غسل الرجلين وإن لم يجب التيمم فيها
فصل وقد اختلف في الكعبين ما هما فقال جمهور أصحابنا وسائر أهل العلم الناتئان بين مفصل القدم والساق وحكى هشام عن محمد أنه مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم والصحيح هو الأول لأن الله تعالى قال وأرجلكم إلى الكعبين فدل ذلك أن في كل رجل كعبين ولو كان في كل رجل كعب واحد لقال إلى الكعاب كما قال تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما لما كان لكل واحد قلب واحد أضافهما إليهما بلفظ الجميع فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية دل على أن في كل رجل كعبين ويدل عليه أيضا ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه قال حدثنا إسحاق بن راهويه قال حدثنا الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبدالله المحاربي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه وهو يقول يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب فقلت من هذا فقالوا ابن عبدالمطلب قلت فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة قالوا هذا عبد العزى أبو لهب وهذا يدل على أن الكعب هو العظم الناتئ في جانب القدم لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا يضرب ظهر القدم قال وحدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه قال أخبرنا

وكيع
قال حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن القاسم الجدلي قال سمعت النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم أو وجوهكم قال فلقد رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه وهذا يدل على أن الكعب ما وصفنا والله أعلم
ذكر الخلاف في المسح على الخفين
قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها وروي عن مالك والليث أنه لا وقت للمسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له قال مالك والمقيم والمسافر في ذلك سواء وأصحابه يقولون هذا هو الصحيح من مذهبه وروى عنه ابن القاسم أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم وروى ابن القاسم أيضا عن مالك أنه المسح على الخفين قال أبو بكر قد ثبت المسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم - من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ولذلك قال أبو يوسف إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ولم يشك أحد منهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد مسح وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها فروي المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وعمر وعلي وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير موقت سعد بن أبي وقاص وجرير بن عبدالله البجلي وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وروى الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبدالله قال قال رأيت رسول الله ص - توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش قال إبراهيم كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها وجب استعمالها مع حكم الآية وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور

الرجلين فلا فرق بين أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم - قبل نزول المائدة أو بعدها من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الاية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت
فإن احتج المخالف في ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة أصبت السنة وبما روى حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فلا يوقتون قيل له قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبدالله حين أنكر على سعد المسح على الخفين يا بني عمك أفقه منك للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة وسويد بن غفلة عن عمر أنه قال ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه فاحتمل أن يكون قوله ص - لعقبة حين مسح على خفيه جمعة أصبت السنة يعني أنك أصبت السنة في المسح وقوله إنه مسح جمعة إنما عنى به أنه مسح جمعة علىالوجه الذي يجوز عليه المسح كما يقول القائل مسحت شهرا على الخفين وهو يعني على الوجه الذي يجوز فيه المسح لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح وكما تقول صليت الجمعة شهرا بمكة والمعنى في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة وأما قول الحسن أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس إنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعون ثلاثا فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث فإن قيل في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أنه قال المسح على

الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ولو استزدناه لزادنا وفي حديث أبي ابن عمارة أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوما قال ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت وفي حديث آخر قال حتى بلغ سبعا
قيل له أما حديث خزيمة وما قيل فيه ولو استزدناه لزادنا فإنما هو ظن من الراوي والظن لا يغني من الحق شيئا وأما حديث أبي بن عمارة فقد قيل إنه ليس بالقوي وقد اختلف في سنده ولو ثبت كان قوله وما شئت على أنه يمسح بالثلاث ما شاء وغير جائز الاعتراض على إخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتمله للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -
بالتوقيت فإن قيل لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس قيل له لا حظ للنظر مع الأثر فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط وإن كانت غير ثابتة فالاكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق ا لنظر وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره والمسح على الخفين يدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة فلم يجز إثباته بدلا إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت فإن قيل قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل قيل له أما على مذهب أبي حنيفة فهذا السؤال ساقط لأنه لا يوجب المسح على الجبائر وهو عنده مستحب تركه لا يضر وعلى قول أبي يوسف ومحمد أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة فلذلك اختلفا فإن قيل ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه وأن لا يجوز في الحضر لما روي أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت سلوا عليا فإنه كان معه في أسفاره وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر لأن مثله لا يخفى على عائشة
قيل له يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على علي رضي الله عنه وأيضا فإن عائشة أحد من روى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعا وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم
فإن قيل تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله ويل للعراقيب من النار قيل له إنما ذلك في حال ظهور الرجلين
فإن قيل جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار
قيل له لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر

قياسا وإنما أبحناه بالآثار وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر فلا معنى للمقايسة واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر فقال أصحابنا إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث وهو قول الثوري وروي عن مالك مثله وذكر الطحاوي عن مالك والشافعي أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة ودليل أصحابنا عموم قوله ص - يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ فأهويت إلى خفيه لأنزعهما فقال مه فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما وروي عن عمر بن الخطاب قال إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء كما يقال غسل رجليه وكما يقال صلى ركعة وإن لم يتم صلاته وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه
واختلف في المسح على الجوربين فلم يجزه أبو حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين لما أجزنا المسح فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجوربين في وزن ورودها في المسح على الخفين بقينا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه
فإن قيل روى المغيرة بن شعبة وأبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم - مسح على جوربيه ونعليه قل له يحتمل أنهما كانا مجلدين فلا دلالة فيه على موضع الخلاف إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فعل لا نعلم حاله وأيضا يحتمل أن يكون وضوء من لم يحدث كما مسح على رجليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ومن جهة النظر اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة إذ ليس في العادة المشي فيها كذلك الجوربان وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشى فيهما وبمنزلة

الجرموقين ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلدا جاز المسح ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلدا أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف واختلف في المسح على العمامة فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعي لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار وقال الثوري والأوزاعي يمسح على العمامة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى فامسحوا برؤسكم وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به وأيضا فإن الآثار متواترة في مسح الرأس فلو كان المسح على العمامة جائزا لورد النقل به متواترا في وزن وروده في المسح على الخفين فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين أحدهما أن الآية تقتضي مسح الرأس فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم والثاني عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار وأيضا حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ومعلوم أنه مسح برأسه لأن مسح العمامة لا يسمى وضوء ثم نفى جواز الصلاة إلا به وحديث عائشة الذي قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ومسح برأسه ثم قال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا فأخبر أن مسح الرأس بالماء هو المفروض علينا فلا تجزي الصلاة إلا به
وإن احتجوا بما روى بلال والمغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
مسح على الخفين والعمامة وما روى راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول الله ص - سريه فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم -
أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين قيل لهم هذه أخبار مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون ولو استقامت أسانيدها لما جاز الاعتراض بمثلها على الآية وقد بينا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته وفي بعضها على جانب عمامته وفي بعضها وضع يده على عمامته فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة وذلك جائز عندنا ويحتمل ما رواه بلال ما بين في حديث المغيرة وأما حديث ثوبان فمحمول على معنى حديث المغيرة أيضا بأن مسحوا على بعض الرأس وعلى العمامة والله أعلم
باب
الوضوء مرة مرة قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم الآية الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة

واحدة إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل فمن غسل مرة فقد أدى الفرض وبه وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
منها حديث ابن عمر أن النبي ص - توضأ مرة مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا وروى ابن عباس وجابر ان النبي صلى الله عليه وسلم -
توضأ مرة مرة وقال أبو رافع توضأ رسول الله ص - ثلاثا ثلاثا ومرة مرة
قال أبو بكر فما نص الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بيناه وفيه أشياء مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا عبدالله بن الحسن قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا خالد بن علقمة عن عبدالخير قال دخل على الرحبة بعد ما صلى الفجر فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه إيتني بطهور فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبدالخير ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء فأكفاه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا ثم مسح رأسه بيده كلتيهما ثم صب بيديه اليمنى على قدمه اليمنى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم أخذ غرفة بكفه فشرب منه ثم قال من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره وهذا الذي رواه علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم - هو مذهب أصحابنا وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثا وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة ويروى عن الحسن البصري أنه قال من غمس يده في إناء قبل الغسل إهراق الماء وتابعه على ذلك من لا يعتد به ويحكى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء ولا ينكشف في نوم النهار
قال أبو بكر والذي في حديث علي من صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يسقط هذا الاعتبار ويقتضي أن يكون ذلك سنة الوضوء لأن عليا كرم الله وجهه صلى الفجر ثم توضأ ليعلمهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - فغسل يديه قبل إدخالهما في

الإناء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده قال محمد بن الحسن كانوا يستنجون بالأحجار فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلة من عرق أو غيره فتصيبها فأمر بالاحتياط مع تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء
وقد اتفق الفقهاء على الندب ومن ذكرنا قوله آنفا فهو شاذ وظاهر الآية ينفي إيجابه وهو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فاقتضى الظاهر وجوب غسلهما بعد إدخالهما الإناء ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها وذلك لا يجوز إلا بنص مثله أو باتفاق والآية على عمومها فيمن قام من النوم وغيره
وعلى أنه قد روي أن الآية نزلت فيمن قام من النوم وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه وقد روى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف بيده اليمنى فتمضمض واستنشق ثم أخذ أخرى فغسل بها يديه اليمنى ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى وذكر الحديث فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده الإناء قبل أن يغسلها وهذا يدل على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحباب ليس بإيجاب وإن ما في حديث علي وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب وحديث أبي هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يرد به الإيجاب وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء وهو قوله فإنه لا يدري أين باتت يده فأخبر أن كون النجاسة على يده ليس بيقين ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم فهي على أصل طهارتها كمن كان على يقين من الطهارة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - عند الشك أن يبنى على يقين من الطهارة ويلغي الشك فدل ذلك على أن أمره إذا استيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء استحباب ليس بإيجاب وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبدالله كانوا إذا ذكر لهم حديث أبي هريرة في أمر المستيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا إن أبا هريرة كان مهذارا فما يصنع بالمهراس وقال الأشجعي لأبي هريرة فما تصنع بالمهراس فقال أعوذ بالله من شرك

والذي أنكره أصحاب عبدالله من قول أبي هريرة اعتقاده الإيجاب فيه لأنه كان معلوما أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يتوضأ منه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبعده فلم ينكره احد ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه فاستنكر أصحاب عبدالله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب
واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس فقال أصحابنا هما من الرأس تمسحان معه وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ورواه أشهب عن مالك وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد وأنهما تمسحهما بماء جديد وقال الحسن بن صالح يغسل باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه وقال الشافعي يمسحهما بماء جديد وهما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس
والدليل على أنهما من الرأس وتمسحان معه ما حدثنا عبيدالله بن الحسين قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
توضأ فغسل كفيه ثلاثا وطهر وجهه ثلاث وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه وقال الأذنان من الرأس
وأخبرنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال حدثنا عامر بن سنان قال حدثنا زياد بن علاقة عن عبدالحكم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر وروى ابن عباس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله أيضا
أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين أحدهما قوله أنه مسح رأسه وأذنيه وهذا يقتضي أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية والثاني قوله الأذنان من الرأس لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة وكلام النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يخلو من الفائدة فثبت أن المراد الوجه الثاني فإن قيل يجوز أن يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس
قيل له لا يجوز ذلك لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه فثبت أن قوله الأذنان من الرأس إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له ووجه آخر وهو أن من بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة

على غيره فقوله الأذنان من الرأس حقيقته إنهما بعض الرأس فواجب إذا كان كذلك أن تمسحا معه بماء واحد كما يمسح سائر أبعاض الرأس وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا مسح المتوضئ برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من تحت أشفار عينيه فأضاف الأذنين إلى الرأس كما جعل العينين من الوجه
فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال عشر من الفطرة خمس في الرأس فذكر منها المضمضة والاستنشاق ولم يدل ذلك على دخولهما في حكم الرأس كذلك قوله الأذنان من الرأس قيل له لم يقل الفم والأنف من الرأس وإنما قال خمس في الرأس فوصف ما يفعل من الخمس في الرأس ونحن نقول إن هذه الجملة هو الرأس ونقول العينان في الرأس وكذلك الفم والأنف قال الله تعالى لووا رؤسهم والمراد هذه الجملة على أن ما ذكرته هو لنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لما سمى ما تشتمل عليه هذه الجملة رأسا فوجب أن تكون الأذنان من الرأس لاشتمال هذه الجملة عليهما وأن لا يخرج شيء منها إلا بدلالة ولما قال تعالى وامسحوا برؤسكم وكان معلوما أنه لم يرد به الوجه وإن كان في الرأس وإنما أراد ما علا منه مما فوق الأذنين ثم قال ص -
الأذنان من الرأس كان ذلك إخبارا منه بأنهما من الرأس الممسوح فإن قيل روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ لهما ماء جديدا وروت الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وصدغيه ثم مسح أذنيه وهذا يقتضي تجديد الماء لهما قيل له أما قولك أنه أخذ لهما ماء جديدا فلا نعلمه روي من جهة يعتمد عليها ولو صح لم يدل على قولك لأنهما إذا كانتا من الرأس فالماء الجديد الذي أخذ لهما هو الذي أخذه لجميع الرأس ولا فرق بين قول القائل أخذ للأذنين ماء جديدا وبين قوله أخذ للرأس ماء جديدا إذا كانتا من الرأس والماء المأخوذ للرأس هو للأذنين وقول الربيع بنت معوذ مسح برأسه ثم مسح أذنيه لا دلالة فيه على تجديد الماء للأذنين لأن ذكر المسح لا يقتضي تجديد الماء لهما لأن اسم المسح يقع على هذا الفعل مع عدم الماء وهو مثل ما روي أنه مسح رأسه مرتين بماء واحد أقبل بهما وأدبر وقد علمنا أنه أقبل بهما وأدبر ولم يوجد ذلك تجديد الماء كذلك الأذنان إذ غير ممكن مسح الرأس مع الأذنين في وقت واحد كما لا يمكن مسح مقدم الرأس ومؤخره في حال واحدة فلا دلالة في ذكر مسح الأذنين بعد مسح الرأس على تجديد الماء لهما دون الرأس فإن

احتجو بأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره فجعل السمع من الوجه قيل له لم يرد بالوجه في هذا الموضع العضو المسمى بذلك وإنما أراد به أن جملة الإنسان هو الساجد لله لا الوجه وهو كقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه يعني به ذاته وأيضا فإنه ذكر السمع وليس الأذنان هما السمع فلا دلالة فيه على حكم الأذنين وقد قال الشاعر ... إلى هامة قد وقر الضرب سمعها ... وليست كأخرى سمعها لم يوقر ...
فأضاف السمع إلى الهامة ويدل على أنهما تمسحان مع الرأس على وجه التبع أنه ليس في الأصول مسح مسنون إلا على وجه التبع للمفروض منه ألا ترى أن من سنة المسح على الخفين أن يمسح من أطراف الأصابع إلى أصل الساق والمفروض منه بعضه أما على قولنا فمقدار ثلاثة أصابع وعلى قول المخالف مقدار ما يسمى مسحا وقد روي في حديث عبد خير عن علي أنه مسح رأسه مقدمه ومؤخره ثم قال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروى عبدالله بن زيد المازني والمقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ومعلوم أن القفا ليس بموضع مفروض المسح لأن مسح ما تحت الأذنين لا يجزي من المفروض وإنما مسح ذلك الموضع على جهة التبع للمفروض فإن قيل لما لم تكن الأذنان موضع فرض المسح أشبهتا داخل الفم والأنف فيجدد لهما ماء جديدا كالمضمضة والاستنشاق فيكون سنة على حيالها قيل له هذا غلط لأن القفا ليس بموضع لفرض المسح والنبي صلى الله عليه وسلم - قد مسحه مع الرأس على وجه التبع فكذلك الأذنان وأما المضمضة والاستنشاق فكانا سنة على حيالهما من قبل أن داخل الفم والأنف ليسا من الوجه بحال فلم يكونا تابعين له فأخذ لهما ماء جديدا والأذنان والقفا جميعا من الرأس وإن لم يكونا موضع الفرض فصارا تابعين له فإن قيل لو كانت الأذنان من الرأس لحل بحلقهما من الإحرام ولكان حلقهما مسنونا مع الرأس إذا أراد الإحلال من إحرامه قيل له لم يسن حلقهما ولا حل بحلقهما لأن في العادة أن لا شعر عليهما وإنما الحلق مسنون في الرأس في الموضع الذي يكون عليه الشعر في العادة فلما كان وجود الشعر على الأذنين شاذا نادرا أسقط حكمهما في الحلق ولم يسقط في المسح وأيضا

فإنا قلنا إن الأذنين تابعتان للرأس على ما بينا لا على أنهما الأصل ألا ترى أنا لا نجيز المسح عليهما دون الرأس فكيف يلزمنا أن نجعلهما أصلا في الحلق وأما قول الحسن بن صالح في غسل باطن الأذنين ومسح ظاهرهما فلا وجه له لأنه لو كان باطنهما مغسولا لكانتا من الوجه فكان يجب غسلهما ولما وافقنا على أن ظاهرهما ممسوح مع الرأس دل ذلك على أنهما من الرأس ولأنا لم نجد عضوا بعضه من الرأس وبعضه من الوجه وقال أصحابنا لو مسح ما تحت أذنيه من الرأس لم يجزه من الفرض لأن ذلك من القفا وليس هو من مواضع فرض المسح فلا يجزيه ألا ترى أنه لو كان شعره قد بلغ منكبه فمسح ذلك الموضع من شعره لم يجزه عن مسح رأسه
واختلف الفقهاء في تفريق الوضوء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي هو جائز وقال ابن أبي ليلى ومالك والليث إن تطاول أو تشاغل بعمل غيره ابتدأ الوضوء من أوله والدليل على صحة ما قلناه قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق الآية فإذا أتى بالغسل على أي وجه فعله فقد قضى عهدة الآية ولو شرطنا فيه وترك الفريق الموالاة كان فيه إثبات زيادة في النص والزيادة في النص توجب نسخه ويدل عليه أيضا قوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم والحرج الضيق فأخبر تعالى أن المقصد حصول الطهارة ونفي الحرج وفي قول مخالفينا إثبات الحرج مع وقوع الطهارة المذكورة في الآية ويدل عليه قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به الآية فأخبر بوقوع التطهير الماء من غير شرط الموالاة فحيثما وجد كان مطهرا بحكم الظاهر ويدل عليه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا ومعناه مطهرا فحيثما وجد فواجب أن يكون هذا حكمه ولو منعنا الطهارة مع وجود الغسل لأجل التفريق كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله تعالى بها من كونه طهورا ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا محمد بن عبيدالله عن الحسين بن سعد عن أبيه عن علي قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال يا رسول الله إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر فلما أصبحت رأيت بذراعي قدر موضع الظفر لم يصبه الماء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - لو مسحت عليه بيدك أجزاك فأجاز له أن يمسح عليه بعد تراخي الوقت ولم يأمره

باستئناف الطهارة وروى عبدالله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم -
رأى قوما وأعقابهم تلوح فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء ويدل عليه حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه والتفريق لا يخرجه من أن يكون وضعه مواضعه لأن مواضعه هذه الأعضاء المذكورة في القرآن ولم يشرط فيه الموالاة وترك التفريق
ويدل عليه من وجه آخر قوله في لفظ آخر حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه ولم يذكر فيه التتابع فهو على الأمرين من تفريق أو موالاة فإن قيل لما كان قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم أمرا يقتضي الفور وجب ان يكون مفعولا على الفور فإذا لم يفعل استقبل إذ لم يفعل المأمور به قيل له الأمر على الفور لا يمنع صحة فعله على المهلة ألا ترى أن تارك الوضوء رأسا لا تفسد طهارته إذا فعله بعد ذلك على التراخي وكذلك سائر الأوامر التي ليست موقتة فإن تركها في وقت الأمر بها لا يفسدها إذا فعلها ولا يمنع صحتها وعلى أن هذا المعنى لأن يكون دليلا على صحة قولنا أولى وذلك لأن غسل العضو المفعول على الفور قد صح عندنا جميعا وتركه لغسل باقي الأعضاء ينبغي أن لا يغير حكم الأول ولا تلزمه إعادته لأن في إيجاب إعادته إبطاله عن الفور وإيجاب فعله على التراخي فواجب أن يكون مقرا على حكمه في صحة فعله بديا على الفور واحتج أيضا القائلون بذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به قالوا ومعلوم أن فعله كان على وجه المتابعة قيل له هذا دعوى ومن أين لك أنه فعله متتابعا وجائز أن يكون غسل وجهه في وقت ثم غسل يديه بعد ساعات وكذلك سائر أعضائه ليفيد الحاضرين حكم جواز فعله متفرقا وعلى أنه لو تابع لم يدل قوله ذلك على وجوب التتابع لأن قوله هذا وضوء إنما إشارة إلى الغسل لا إلى الزمان فإن قيل لما كان بعضه منوطا ببعض حتى لا يصح لبعضه حكم إلا بجميعه أشبه أفعال الصلاة قيل له هذا منتقض بالحج لأن بعضه منوط ببعض ألا ترى أنه لو لم يقف بعرفة بطل إحرامه وطوافه الذي قدمه ولم يجب من أجل ذلك متابعة أفعاله وأيضا فإنه قد ثبت لغسل بعض الأعضاء حكم دون بعض ألا ترى أنه لو كان بذراعه عذر لسقط فرض طهارته عنه وليس كذلك الصلاة لأن أفعالها كلها منوطة بعضها ببعض فإما أن يسقط جميعها أو يثبت جميعها على

الحال التي يمكن فعلها فمن حيث جاز سقوط بعض أعضاء الطهارة وبقي البعض أشبه الصلاة والزكاة وسائر العبادات إذا اجتمع وجوبها عليه فيجوز تفريقها عليه وأيضا فإن الصلاة إنما لزم فيها الموالاة من غير فصل لأنه يدخل فيها بتحريمة ولا يصح بناء أفعالها إلا على التحريمة التي دخل بها في الصلاة فمتى أبطل التحريمة بكلام أو فعل لم يصح له بناء باقي أفعالها بغير تحريمة والطهارة لا تحتاج إلى تحريمة ألا ترى أنه يصح في أضعافها الكلام وسائر الأفعال ولا يبطلها ذلك وإنما شرط فيه من قال ذلك عدم جفاف العضو قبل إتمام الطهارة وجفاف العضو لا تأثير له في حكم رفع الطهارة ألا ترى أن جفاف جميع الأعضاء لا يؤثر في رفعها كذلك جفاف بعضها وأيضا فلو كان هذا تشبيها صحيحا وقياسا مستقيما لما صح في هذا الموضع إذ غير جائز الزيادة في النص بالقياس فلا مدخل للقياس ههنا وأيضا فإنه لا خلاف أنه لو كان في الشمس ووالى بين الوضوء إلا أنه كان يجف العضو منه قبل أن يغسل الآخر إنه لا يوجب ذلك بطلان الطهارة كذلك إذا جف بتركه إلى أن يغسل الآخر
فصل وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل على أن التسمية على الوضوء ليست بفرض لأنه أباح الصلاة بغسل هذه الأعضاء من غير شرط التسمية وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار وحكي عن بعض أصحاب الحديث أنه رآها فرضا في الوضوء فإن تركها عامدا لم يجزه وإن تركها ناسيا أجزأه ويدل على جوازه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا فعلق صحة الطهارة بالفعل من غير ذكر التسمية شرطا فيه فمن شرطها فهو زائد في حكم هذه الآيات ما ليس منها وناف لما أباحته من جواز الصلاة بوجود الغسل ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ولم يذكر فيه التسمية وقد علم الأعرابي الطهارة في الصلاة في حديث رفاعة بن رافع وقال لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه إلى آخره ولم يذكر التسمية وحديث علي وعثمان وعبدالله بن زيد وغيرهم في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر أحد منهم التسمية فرضا فيه وقالوا هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فلو كانت التسمية فرضا فيه لذكروها ولورد النقل به متواترا في وزن ورود النقل في سائر الأعضاء المفروض طهارتها لعموم الحاجة إليه فإن احتجوا

بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه قيل له لا تجوز الزيادة في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به النسخ فهذا سؤال ساقط من وجهين أحدهما ما ذكرنا والآخر أن أخبار الآحاد غير مقبولة فيما عمت البلوى به وإن صح احتمل أنه يريد به نفي الكمال لا نفي الأصل كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ومن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له ونحو ذلك فإن قيل لما كان الحدث يبطله صار كالصلاة في الحاجة إلى ذكر اسم الله تعالى في ابتدائه قيل له قولك إن الحدث يبطل الصلاة غلط عندنا لأنه جائز بقاء الصلاة مع الحدث إذا سبقه ويتوضأ ويبني وأيضا فليست العلة في حاجة الصلاة إلى الذكر أن الحدث يبطلها وإنما المعنى أن القراءة مفروضة فيها وأيضا نقيسه على غسل النجاسة بمعنى أنه طهارة وأيضا فقد وافقونا على أن تركها ناسيا لا يمنع صحة الطهارة فبطل بذلك قولهم من وجهين أحدهما أن الصلاة يستوي في بطلانها ترك ذكر التحريمة ناسيا أو عامدا والثاني أنها لو كانت فرضا لما أسقطها النسيان إذ كانت شرطا في صحة الطهارة كسائر شرائطها المذكورة
فصل قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل على أن الاستنجاء ليس بفرض وأن الصلاة جائزة مع تركه إذا لم يتعد الموضع وقد اختلف الفقهاء في ذلك فأجاز أصحابنا صلاته وإن كان مسيئا في تركه وقال الشافعي لا يجزيه إذا تركه رأسا وظاهر الآية يدل على صحة القول الأول وروي في التفسير أن معناه إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون وقال في نسق الآية أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فحوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا أحدهما إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء وإباحة الصلاة وموجب الاستنجاء فرضا مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا والوجه الآخر من دلالة الآية قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط إلى آخرها فأوجب التيمم على من جاء من الغائط وذلك كناية عن قضاء الحاجة فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء فدل ذلك على أنه غير فرض ويدل عليه من جهة السنة حديث علي بن يحيى بن خلاد عن

أبيه عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء
ويدل عليه أيضا حديث الحصين الحراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فنفى الحرج عن ترك الاستجمار فدل على أنه ليس بفرض
فإن قيل إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء قيل له هذا خطأ من وجهين أحدهما أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء ومن ادعى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصه بغير دلالة والثاني أنه تسقط فائدته لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم -
إذ كان وضعا للكلام في غير موضعه فإن قيل في حديث سلمان نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن نجتزي بدون ثلاثة أحجار وروت عائشة عن النبي ص - فليستنج بثلاثة أحجار وأمره على الوجوب فيحمل قوله فلا حرج علي مالا يسقط إيجاب الأمر وهو أن يكون إنما نفى الحرج عمن لم يستجمر وترا ويفعله شفعا لا بأن يتركه أصلا أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب قيل له بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نسقط أحدهما بالآخر فنجعل أمره بالاستنجاء ونهيه عن تركه على الندب ونستعمل معه قوله ص - ومن لا فلا حرج في نفي الإيجاب ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه إسقاط أحدهما أصلا لا سيما إذا كان خبرنا موافقا لما تضمنته نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه ويدل على أنه غير فرض وعلى جواز الصلاة مع تركه اتفاق الجميع على جواز صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار ولو كان الاستنجاء فرضا لكان الواجب أن يكون بالماء دون الأحجار كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجودا وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه فإن قيل أنت تجيز فرك المني من الثوب إذا كان يابسا ولم يدل ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيرا فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار قيل له إنما أجزنا ذلك في المني وإن كان نجسا لخفة حكمه في نفسه ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه في

جواز فركه فأما بدن الإنسان فلا يختلف حكم شيء منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جرم قائم في الخف إنه يطهر بالدلك بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يزلها إلا الغسل فيقال لها إنما اختلفنا لاختلاف حال جرم الخف وبدن الإنسان في كون جرم الخف مستخصفا غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه وجرم النجاسة سخيف متخلخل ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسها فإذا حكت لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له فصار اختلاف أحكامها في الحك والفرك والغسل متعلقا إما بنفس النجاسة لخفتها وإما بما تحله النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه أنه يجزي لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها إلى نفسه فإذا أزيل ما على ظاهره لم يبق هناك إلا ما لا حكم له
فصل ويستدل بقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم الآية على بطلان قول القائلين بإيجاب الترتيب في الوضوء وعلى أنه جائز تقديم بعضها على بعض على ما يرى المتوضئ وهو قول أصحابنا ومالك والثوري والليث والأوزاعي وقال الشافعي لا يجزيه غسل الذراعين قبل الوجه ولا غسل الرجلين قبل الذراعين وهذا القول مما خرج به الشافعي عن إجماع السلف والفقهاء وذلك لأنه روي عن علي وعبدالله وأبي هريرة ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي ولا يروى عن أحد من السلف والخلف فيما نعلم مثل قول الشافعي وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل من ثلاثة أوجه على سقوط فرض الترتيب أحدها مقتضى ظاهرها جواز الصلاة بحصول الغسل من غير شرط الترتيب إذ كانت الواو ههنا عند أهل اللغة لا توجب الترتيب قاله المبرد وثعلب جميعا وقالوا إن قول القائل رأيت زيدا وعمرا بمنزلة قوله رأيت الزيدين ورأيتهما وكذلك هو في عادة أهل اللفظ ألا ترى أن من سمع قائلا يقول رأيت زيدا وعمرا لم يعتقد في خبره أنه رأى زيدا قبل عمرو بل يجوز أن يكون رآهما معا وجائز أن يكون رأى عمرا قبل زيد فثبت بذلك أن الواو لا توجب الترتيب وقد أجمعوا جميعا أيضا في رجل لو قال إذا دخلت الدار فامرأتي طالق وعبدي حر وعلي صدقة أنه إذا دخل الدار لزمه

ذلك كله في وقت واحد لا يلزمه أحدها قبل الآخر كذلك وهذا يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم -
لا تقولوا ما شاء الله وشئت ولكن قولوا ما شاء الله ثم شئت فلو كانت الواو توجب الترتيب لجرت مجرى ثم ولما فرق النبي صلى الله عليه وسلم - بينهما وإذا ثبت أنه ليس في الآية إيجاب الترتيب فموجبه في الطهارة مخالف لها وزائد فيها ما ليس منها وذلك يوجب نسخ الآية عندنا لحظره ما أباحته وهم يختلفون أنه ليس في هذه الآية نسخ فثبت جواز فعله غير مرتب والوجه الثاني من دلالة الآية قوله تعالى وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الرجل مغسول معطوفة في المعنى على الأيدي وأن تقديرها فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤسكم فثبت بذلك أن ترتيب اللفظ على هذا النظام غير مراد به ترتيب المعنى والوجه الثالث قوله في نسقها ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وهذا الفصل يدل من وجهين على سقوط الترتيب أحدهما نفيه الحرج وهو الضيق فيما تعبدنا به من الطهارة وفي إيجاب الترتيب إثبات للحرج ونفي التوسعة والثاني قوله ولكن يريد ليطهركم فأخبر أن مراده حصول الطهارة بغسل هذه الأعضاء ووجود ذلك مع عدم الترتيب كهو مع وجوده إذ كان مراد الله تعالى الغسل
فإن قيل على الفصل الأول نحن نسلم لك أن الواو لا توجب الترتيب ولكن الآية قد اقتضت إيجابه من حيث كانت الفاء للتعقيب ولا خلاف بين أهل اللغة فيه فلما قال تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لزم بحكم اللفظ أن يكون الذي يلي حال القيام إليها غسل الوجه لأنه معطوف عليه بالفاء فلزم به تقديم غسله على سائر الأعضاء وإذا لزم الترتيب في غسل الوجه لزم في سائر الأعضاء لأن أحدا لم يفرق بينهما
قيل له هذا غير واجب من وجهين أحدهما أن قوله إذا قمتم إلى الصلاة متفق على أنه ليس المراد به حقيقة اللفظ لأن الحقيقة تقتضي إيجاب الوضوء بعد القيام إلى الصلاة لأنه جعله شرطا فيه فأطلق ذكر القيام وأراد به غيره ففيه ضمير على ما بينا فيما تقدم وما كان هذا سبيله فغير جائز استعماله إلا بقيام الدلالة عليه إذ كان مجازا فإذا لا يصح إيجاب غسل الوجه مرتبا على المذكور في الآية لأجل إدخال الفاء عليه إذ كان المعنى الذي ترتب عليه الغسل موقوفا على الدلالة فهذا وجه يسقط به سؤال هذا السائل والوجه الآخر أن نسلم لهم جواز اعتبار هذا اللفظ فيما يقتضيه من الترتيب فنقول لهم

إذا ثبت أن الواو لا توجب الترتيب صار تقدير الآية إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء فيصير الجميع مرتبا على القيام وليس يختص به الوجه دون سائرها إذ كانت الواو للجمع فيصير كأنه عطف الأعضاء كلها مجموعة بالفاء على حال القيام فلا دلالة فيه على الترتيب بل تقتضي إسقاط الترتيب
ويدل على سقوط الترتيب قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا ومعناه مطهرا فحيثما وجد ينبغي أن يكون مطهرا مستوفيا لهذه الصفة التي وصفه الله بها وموجب الترتيب قد سلبه هذه الصفة إلا مع وجود معنى آخر غيره وهذا غير جائز
ويدل عليه من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة الأعرابي حين علمه الصلاة وقال له إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله وذكر الحديث فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه إذا وضع الوضوء مواضعه أجزأه ومواضع الوضوء الأعضاء المذكورة في الآية فأجاز الصلاة بغسلها من غير ذكر الترتيب فدل على أن غسل هذه الأعضاء يوجب كمال طهارته لوضعه الوضوء مواضعه
فإن قيل إذا لم يرتب فلم يضع الوضوء مواضعه
قيل له هذا غلط لأن مواضع الوضوء معلومة مذكورة في الكتاب فعلى أي وجه حصل الغسل فقد وضع الوضوء مواضعه فيجزيه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم -
بإكمال طهارته إذا فعل ذلك ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز طهارته لو بدأ من المرفق إلى الزند وقال تعالى وأيديكم إلى المرافق فلما لم يجب الترتيب فيما هو مرتب في مقتضى حقيقة اللفظ فما لم يقتض اللفظ ترتيبه أحرى أن يجوز وهذه دلالة ظاهرة لا يحتاج معها إلى ذكر علة يجمعها لأنه قد ثبت بما وصفنا أن المقصد فيه ليس الترتيب إذ لو كان كذلك لكان ما اقتضى اللفظ ترتيبه أولى أن يكون مرتبا وأيضا يجوز أن يقاس عليها بأنهما جميعا من أعضاء الطهارة فلما سقط الترتيب في أحدهما وجب سقوطه في الآخر وأيضا لما لم يجب الترتيب بين الصلاة والزكاة إذ كل واحدة منهما يجوز سقوطها مع ثبوت فرض الأخرى كان كذلك الترتيب في الوضوء لجواز سقوط فرض غسل الرجلين لعلة بهما مع لزوم فرض غسل الوجه وأيضا لما لم يستحل جمع هذه الأعضاء في الغسل وجب أن لا يجب فيها الترتيب كالصلاة والزكاة وقد روي عن عثمان أنه
توضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم غسل رجليه ثم مسح ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - توضأ
فإن احتجوا بما روي

أن النبي صلى الله عليه وسلم -
توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به قيل له ليس في هذا الخبر ذكر الترتيب وإنما هو حديث زيد العمى عن معاوية بن قرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين وذكر الحديث فلم يذكر فيه أنه فعله مرتبا وليس يمتنع أن يكون قد بدأ بالذراعين قبل الوجه أو يمسح الرأس قبله ومن ادعى أنه فعله مرتبا لم يمكنه إثباته إلا برواية
فإن قيل كيف يجوز أن يتأول عليه ترك الترتيب مع قولك إن المستحب فعله مرتبا
قيل له جائز أن يترك المستحب إلى غيره مما هو مباح ومع ذلك فيجوز أن يكون فعله غير مرتب على وجه التعليم كما أنه أخر المغرب في حال على وجه التعليم والمستحب تقديمها في سائر الأوقات
فإن قيل فإن لم يكن فعله مرتبا فواجب أن يكون فعله غير مرتب واجبا لقوله هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به
قيل له لو قبلنا ذلك وقلنا مع ذلك إن اللفظ يقتضي وجوب فعله على ما أشار به إليه من عدم ترتيب الفعل لكنا أجزناه مرتبا بدلالة تسقط سؤالك ولكنا نقول إن قوله هذا وضوء إنما هو إشارة إلى الغسل دون الترتيب فلذلك لم يكن للترتيب فيه مدخل
فإن احتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - صعد الصفا وقال نبدأ بما بدأ الله به وذلك عموم في ترتيب الحكم به واللفظ جميعا قيل له هذا يدل على أن الواو لا توجب الترتيب لأنها لو كانت توجبه لما احتاج إلا تعريفه الحاضرين وهم أهل اللسان ولا دلالة فيه مع ذلك على وجوب الترتيب في الصفا والمروة فكيف به في غيره لأن أكثر ما فيه أنه إخبار عما يريد فعله من التبدئة بالصفا وإخباره عما يريد فعله لا يقتضي وجوبا كما أن فعله لا يقتضي الإيجاب وعلى أنه لو اقتضى الإيجاب لكان حكمه مقصورا على ما أخبر به وفعله دون غيره
فإن قيل قوله ص - نبدأ بما بدأ الله به إخبار بان ما بدأ الله به في اللفظ فهو مبدوء به في المعنى لولا ذلك لم يقل نبدأ بما بدأ الله به إنما أراد التبدئة به في الفعل فتضمن ذلك إخبارا بأن الله قد بدأ به في الحكم من حيث بدأ به في اللفظ قيل له ليس هذا كما ظننت من قبل إنه يجوز أن يقول نبدأ بالفعل فيما بدأ الله به في اللفظ فيكون كلاما صحيحا مفيدا وأيضا لا يمتنع عندنا أن يريد بترتيب اللفظ ترتيب الفعل إلا أنه لا يجوز إيجابه إلا بدلالة ألا ترى أن ثم حقيقتها التراخي وقد ترد وتكون في معنى الواو كقوله تعالى ثم كان

من الذين آمنوا ومعناه وكان من الذين آمنوا وقوله تعالى ثم الله شهيد ومعناه والله شهيد وكما تجيء أو بمعنى الواو كقوله تعالى إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ومعناه إن يكن غنيا وفقيرا فكذلك لا يمتنع أن يريد بالواو الترتيب فتكون مجازا ولا يجوز حملها عليه إلا بدلالة
فإن قيل سئل ابن عباس وقيل له كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول وأتموا الحج والعمرة لله فقال كيف تقرؤن الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين قالوا الوصية قال فبأيهما تبدؤون قالوا بالدين قال فهو ذاك فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك قيل له كيف يحتج بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه وهو قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه فمن جهل هذا لم ينكر منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل أو قول هذا السائل فلو لم يكن في إسقاط قول القائلين بالترتيب إلا قول ابن عباس لكان كافيا مغنيا
فإن قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال ابدؤا بما بدأ الله به وقال تعالى إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فقوله ابدؤا بما بدأ الله به أمر يقتضي التبدئة مما بدأ الله به في اللفظ والحكم وقوله عز و جل فاتبع قرآنه لزوم في عموم اتباعه مرتبا إذا ورد اللفظ كذلك قيل له وأما قوله ابدؤا بما بدأ الله به فإنما ورد في شأن الصفا والمروة فذكر بعضهم القصة على وجهها وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله ص -
ابدؤوا بما بدأ الله به وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي ص - القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك وأيضا فنحن نبدأ بما بدأ الله به وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به وكذلك الجواب في قوله فاتبع قرآنه لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو جمع وغيره وأنت متى أوجبت الترتيب فيما لا يقتضي المراد ترتيبه فلم تتبع قرآنه وترتيب

اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل
فإن قيل إذا كان القرآن اسما للتأليف والحكم جميعا فواجب علينا اتباعه في الأمرين قيل له القرآن اسم للمتلو حكما كان أو خبرا فعلينا اتباعه في تلاوته فأما مراد ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ فإن المرجع فيه إلى مقتضى اللغة وليس في اللغة إيجاب ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ في المأمور به ألا ترى أن كثيرا من القرآن قد نزل بأحكام ثم نزلت بعده أحكام أخر ولم يوجب تقديم تلاوته تقديم فعله على ما نزل بعده وقد علمنا أنه غير جائز تعبير نظم القرآن والسور والآي عما هي عليه وليس يجب ذلك ترتيب الأحكام المذكورة فيها حسب ترتيب التلاوة فبان بذلك سقوط هذا السؤال
فإن قيل قد أثبت الترتيب بالواو في قول الرجل لامرأته أنت طالق وطالق وطالق قبل الدخول بها فأثبتها بالأولى ولم توقع الثانية والثالثة فجعلت الواو مرتبة بحكم اللفظ فكذلك قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يلزمك إيجاب الترتيب في غسل هذه الأعضاء حسب ما في نظام التلاوة من الترتيب قيل له لم نوقع الأولى قبل الثانية في مسألة الطلاق لما ذكرت من كون الواو مقتضية للترتيب وإنما أوقعنا الأولى قبل الثانية لأنه أوقعها غير معلقة بشرط ولا مضافة إلى وقت وحكم الطلاق إذا حصل هكذا أن يقع غير منتظر به حال أخرى فلما وقعت الأولى لأنه قد بدأ بها في اللفظ ثم أوقع الثانية صادفتها الثانية وليست هي بزوجة فلم تلحقها وأما قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم فلم يقع به غسل الوجه قبل اليد ولا اليد قبل المسح لأن غسل بعض هذه الأعضاء لا يغني ولا يتعلق به حكم إلا بغسل الجميع فصار غسل الجميع موجبا معا بحكم اللفظ فلم يقتض اللفظ الترتيب ألا ترى أنه لو علق الطلاق الأول والثاني والثالث بشرط فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار لم يقع منه شيء إلا بالدخول لأنه شرط في كل واحدة ما شرطه في الأخرى من الدخول كما شرط في غسل كل واحد من الأعضاء غسل الأعضاء الأخر ولا يختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق فدخلت الثانية ثم الأولى أنها تطلق ولم يكن قوله هذه وهذه موجبا لتقديم الأولى في الشرط الذي علق به وقوع الطلاق فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه وثم تقتضي الترتيب بلا خلاف قيل له لا يخلو

قائل ذلك من أن يكون متكذبا أو جاهلا وأكثر ظني أن قائله فيه متكذب وقد تعمد ذلك لأن هذا إنما هو حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع وقد روي من طرق كثيرة وليس في شيء منها ما ذكر من الترتيب وعطف الأعضاء بعضها على بعض بثم وإنما أكثر ما فيه يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين وقال في بعضها حتى يضع الطهور مواضعه وذلك يقتضي جواز ترك الترتيب وأما عطفه بثم فما رواه أحد ولا ذكره بإسناد ضعيف ولا قوي وعلى أنه لو روي ذلك في الحديث لم يجز الاعتراض به على القرآن في إثبات الزيادة فيه وإيجاب نسخه فإذ قد ثبت أنه ليس في القرآن إيجاب الترتيب فغير جائز إثباته بخبر الواحد لما وصفنا
باب
الغسل من الجنابة قال الله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا قال أبو بكر الجنابة اسم شرعي يفيد لزوم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلا بعد الاغتسال فمن كان مأمور باجتناب ما ذكرنا من الأمور موقوف الحكم على الاغتسال فهو جنب وذلك إنما يكون بالإنزال على وجه الدفق والشهوة أو الإيلاج في أحد السبيلين من الإنسان ويستوي فيه الفاعل والمفعول به وينفصل حكم الجنابة من حكم الحيض والنفاس وإن كان الحيض والنفاس يحظران ما تحظره الجنابة مما قدمنا بأن الحيض والنفاس يحظران الوطء أيضا ووجود الغسل لا يطهرهما أيضا ما دامت حائضا أو نفساء والغسل يطهر الجنب ولا تحظر عليه الجنابة الوطء وإنما سمي جنبا لما لزم من اجتناب ما وصفنا إلى أن يغتسل فيطهره الغسل والجنب اسم يطلق على الواحد وعلى الجماعة وذلك لأنه مصدر كما قالوا رجل عدل وقوم عدل ورجل زور وقوم زور من الزيارة وتقول منه أجنب الرجل وتجنب واجتنب والمصدر الجنابة والاجتناب فالجنابة المذكورة في هذا الموضع هي البعد والاجتناب لما وصفنا وقال الله تعالى والجار ذي القربى والجار الجنب يعني البعيد منه نسبا فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفنا من الأمور وأصله التباعد عن الشيء وهو مثل الصوم قد صار اسما في الشرع للإمساك عن أشياء معلومة وقد كان أصله في اللغة الإمساك فقط واختص في الشرع بما قد علم وقوعه عليه ونظائره من الأسماء الشرعية المنقولة من اللغة إليها فكان المعقول بها ما استقرت عليه أحكامها

في الشرع فأوجب الله تعالى على من حصلت له هذه السمة الطهارة بقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا وقوله في آية أخرى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وقال وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان روي أنهم أصابتهم جنابة فأنزل الله مطرا فأزالوا به أثر الاحتلام والمفروض من غسل الجنابة إيصال المال بالغسل إلى كل موضع يلحقه حكم التطهير من بدنه لعموم قوله فاطهروا وبين النبي صلى الله عليه وسلم - مسنون الغسل فيما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد بن عبدالملك قال حدثنا محمد بن مسدد قال حدثنا عبدالله بن داود عن الأعمش عن سالم عن كريب قال حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت وضعت للنبي ص - غسلا يغتسل من الجنابة فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثا ثم صب على فرجه بشماله ثم ضرب بيده الأرض فغسلها ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثم صب على رأسه وجسده ثم تنحى ناحية فغسل رجليه فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده وكذلك الغسل من الجنابة عند أصحابنا والوضوء ليس بفرض في الجنابة لقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا وإذا اغتسل فقد تطهر وقضى عهدة الآية وقال تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء فمن شرط في صحته مع وجود الغسل وضوءا فقد زاد في الآية ما ليس فيها وذلك غير جائز لما بينا فيما سلف فإن قيل قال الله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية وذلك عموم في سائر من قام إليها قيل له فالجنب حين غسل سائر جسده فهو غاسل لهذه الأعضاء فقد قضى عهدة الآية لأنه متوضئ مغتسل فهو إن لم يفرد الوضوء قبل الاغتسال فقد أتى بالغسل على وضوء لأنه أعم منه فإن قيل توضأ النبي صلى الله عليه وسلم - قبل الغسل قيل له هذا يدل على أنه مستحب مندوب إليه لأن ظاهر فعله لا يقتضي الإيجاب واختلف الفقهاء في وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والثوري هما فرض فيه وقال مالك والشافعي ليس بفرض فيه وقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا عموم في إيجاب تطهير سائر ما يلحقه حكم التطهير من البدن

فلا يجوز ترك شيء منه
فإن قيل من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمى متطهرا فقد فعل ما أوجبته الآية
قيل له إنما يكون مطهرا لبعض جسده وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ ألا ترى أن قوله تعالى اقتلوا المشركين عموم في سائرهم وإن كان الاسم قد يتناول ثلاثة منهم كذلك ما وصفنا ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم لأن الاسم يتناولهم إذ كان العموم شاملا للجميع فكذلك قوله تعالى فاطهروا عموم في سائر البدن فلا يجوز الاقتصار على بعضه
فإن قيل قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا يقتضي جوازه مع تركها لوقوع اسم المغتسل عليه
قيل له إذا كان قوله فاطهروا يقتضي تطهير داخل الفم والأنف فالواجب علينا استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وغير جائز الاقتصار بهما على أخصهما حكما إذ فيه تخصيص بغير دلالة ألا ترى أن من تمضمض واستنشق يسمى مغتسلا أيضا فليس في ذكره الاغتسال نفي لمقتضى قوله عز و جل وإن كنتم جنبا فاطهروا هذا يدل عليه من جهة السنة حديث الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة وروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار قال علي فمن ثم عاديت شعري
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر وأحمد بن عبدالله بن سابور والعمري قالوا حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال حدثنا يوسف بن أسلط عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثة فريضة وأما قوله تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة ففيه الدلالة من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أن الأنف فيه شعرة وبشرة والفم فيه بشرة فاقتضى الخبر وجوب غسلها وحديث علي أيضا يوجب غسل داخل الأنف لأن فيه شعرا فإن قيل إن العين قد يكون فيها شعر قيل له هو شاذ نادر والأحكام إنما تتعلق بالأعم الأكثر ولا حكم للشاذ النادر فيها وعلى أنا خصصناه بالإجماع ومع ذلك فإن الكلام في وجه دلالة التخصيص خروج عن المسألة والعموم سالم لنا فيما لم تقم دلالة خصوصه فإن قيل إن

ابن عمر كان يدخل الماء عينيه في الجنابة قيل له لم يكن يفعله على وجه الوجوب وقد كان مصعبا على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيها مالا يراه واجبا قد كان يتوضأ لكل صلاة ويفعل أشياء على وجه الاحتياط لا على وجه الوجوب وحديث يوسف بن أسباط الذي ذكرنا فيه نص على إيجابها فرضا فإن قيل ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل الثلاث فرضا وأنت لا تقول به قيل ظاهره يقتضي كون الثلاث فرضا وقد قامت الدلالة على سقوط فرض الاثنين وبقي حكم اللفظ فيما وراءه ويدل عليه من جهة النظر أن المفروض في غسل الجنابة غسل الظاهر والباطن مما يلحقه حكم التطهير بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر لأنها يلحقها حكم التطهير لو أصابتها نجاسة فكذلك يلزمه تطهير داخل الفم والأنف لهذه العلة فإن قيل فيجب على غسل داخل العينين لهذه العلة قيل له لو أصاب داخل عينيه نجاسة لم يلزمه تطهيرها هكذا كان يقول أبو الحسن وأيضا فليس في داخل العينين بشرة وإنما يلزم في الجنابة تطهير البشرة فإن قيل لما كان داخل العينين باطنا ولم يلزم تطهيره وجب أن يكون كذلك حكم داخل الأنف والفم قيل له وكيف صار داخل العينين باطنا فإن أردت به أنه ينطبق عليهما الجفن فذلك موجود في الإبطين لأنهما ينطبق عليهما العضد ولا خلاف في لزوم تطهيرهما في الجنابة ولا يلزمنا إيجاب المضمضة والإستنشاق في الوضوء لأجل إيجابنا لهما في الجنابة وذلك لأن الآية في إيجاب الوضوء إنما اقتضت غسل الوجه والوجه هو ما واجهك فلم يتناول داخل الأنف والفم والآية في غسل الجنابة قد أوجبت تطهير سائر البدن من غير خصوص فاستعملنا الآيتين على ما وردتا والفرق أيضا بينهما من جهة النظر أن الواجب في الوضوء غسل الظاهر دون الباطن بدلالة أنه لا يلزمنا فيه إبلاغ الماء أصول الشعر فلذلك لم يلزم تطهير الفم وداخل الأنف وفي الجنابة عليه غسل الباطن من البشرة بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر وبهذا نجيب عن قوله ص - عشر من الفطرة خمس في الرأس وخمس في البدن فذكر في الرأس المضمضة والإستنشاق فنحمله على أنه مسنون في الطهارة الصغرى ونفرق بينه وبين الجنابة بما ذكرنا والله أعلم تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله باب التيمم

بسم الله الرحمن الرحيم
باب
التيمم قال الله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فتضمنت الآية بيان حكم المريض الذي يخاف ضرر استعمال الماء وحكم المسافر الذي لا يجد الماء إذا كان جنبا أو محدثا لأن قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط فيه بيان حكم الحدث لأن الغائط هو اسم للمنخفض من الأرض وكانوا يقضون الحاجة هناك فجعل ذلك كناية عن الحدث وقوله أو لامستم النساء مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء ولما يستدل عليه إن شاء الله تعالى وقد دل ظاهر قوله وإن كنتم مرضى على إباحة التيمم لسائر المرضى بحق العموم لولا قيام الدلالة على أن المراد بعض المرضى فروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين أنه المجدور ومن يضره الماء ولا خلاف مع ذلك أن المريض الذي لا يضره استعمال الماء لا يباح له التيمم مع وجود الماء وإباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء على ما بينا وذلك لأنه تعالى قال وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فأباح التيمم للمريض من غير شرط عدم الماء وعدم الماء إنما هو مشروط للمسافر دون المريض من قبل أنه لو جعل عدم الماء شرطا في إباحة التيمم للمريض لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المريض لأن العلة المبيحة للتيمم وجواز الصلاة به في المريض والمسافر لو كانت عدم الماء لما كان لذكر المريض مع ذكر عدم الماء فائدة إذ لا تأثير للمريض في إباحة التيمم ولا منعه إذ كان الحكم متعلقا بعدم الماء فإن قيل إذا جاز أن يذكر حال السفر مع عدم الماء وإن كان جواز التيمم متعلقا بعدم الماء دون السفر إذ لو كان واجدا للماء أجزأه التيمم لم يمتنع أن تكون إباحة التيمم للمريض موقوفة على حال عدم الماء قيل له إنما ذكر المسافر لأن الماء إنما يعدم في السفر في الأعم الأكثر فإنما ذكر السفر إبانة عن الحال التي يعدم الماء

فيها في الأعم الأكثر كما قال ص - لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين وليس المقصد فيه أن يأويه الجرين فحسب لأنه لو آواه بيت أو دار كان ذلك كذلك وإنما مراده بلوغ حال الاستحكام وامتناع إسراع الفساد إليه وإيواء الحرز لأن الجرين الذي يأويه حرز وكما قال في خمس وعشرين بنت مخاض ولم يرد به وجود المخاض بأمها وإنما أريد به أنه قد أتى عليها حول وصارت في الثاني لأنها إذا كانت كذلك كان بأمها مخاض في الأعم الأكثر فكان فائدة ذكر المسافر مع شرط عدم الماء ما وصفنا وليس كذلك المريض لأن المريض لا تعلق له بعدم الماء فعلمنا أن مراده ما يلحق من الضرر باستعمال الماء وعموم اللفظ يقتضي جواز التيمم للمريض في كل حال لولا ما روي عن السلف واتفق الفقهاء عليه من أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء لا يبيح له التيمم ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة ومحمد ومن خاف برد الماء إن اغتسل جاز له التيمم لما يخاف من الضرر وقد روي في حديث عمرو بن العاص أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره وقد اتفقوا على جوازه في السفر مع وجود الماء لخوف البرد فوجب أن يكون الحضر مثله لوجود العلة المبيحة له وكما لم يختلف حكم المرض في السفر والحضر كذلك حكم خوف ضرر الماء لأجل البرد وقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط فإن أو ههنا بمعنى الواو تقديره وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط وذلك راجع إلى المريض والمسافر إذا كانا محدثين ولزمهما فرض الصلاة وإنما قلنا إن قوله أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى الواو لأنه لو لم يكن كذلك لكان الجائي من الغائط ثالثا لهما غير المريض والمسافر فلا يكون حينئذ وجوب الطهارة على المريض والمسافر متعلقا بالحدث ومعلوم أن المريض والمسافر لا يلزمهما التيمم إلا أن يكونا محدثين فوجب أن يكون قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى وجاء أحدكم كقوله وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون معناه ويزيدون وكقوله إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ومعناه غنيا وفقيرا وأما قوله تعالى أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فإن السلف قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي هي كناية عن الجماع وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مس امرأته وقال عمر وعبدالله بن مسعود المراد اللمس

باليد وكانا يوجبان الوضوء بمس المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمم فمن تأوله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوضوء من مس المرأة ومن حمله على اللمس باليد أوجب الوضوء من مس المرأة ولم يجز التيمم للجنب واختلف الفقهاء في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي لا وضوء على من مس امرأة لشهوة أو لغير شهوة وقال مالك إن مسها لشهوة تلذذا فعليه الوضوء وكذلك إن مسته تلذذا فعليها الوضوء وقال إن مس شعرها تلذذا فعليه الوضوء وإذا قال لها شعرك طالق طلقت وقال الحسن بن صالح إن قبل لشهوة فعليه الوضوء وإن كان لغير شهوة فلا وضوء عليه وقال الليث إن مسها فوق الثياب تلذذا فعليه الوضوء وقال الشافعي إذا مس جسدها فعليه الوضوء لشهوة أو لغير شهوة والدليل على أن لمسها ليس بحدث على أي وجه كان ما روي عن عائشة من طرق مختلفة بأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ كما روي أنه كان يقبل بعض نسائه وهو صائم وقد روي الأمران جميعا في حديث واحد ولا يجوز حمله على أنه قبل خمارها وثوبها لوجهين أحدهما أنه لا يجوز أن يحمل اللفظ على المجاز بغير دلالة إذ حقيقته أن يكون قد باشر جلدها حيث قبلها وما ذكره الخصم يكون قبلة لخمارها والثاني أنه لا فائدة في نقله وأيضا فإنه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم - من الوحشة وبين أزواجه أن يكون مستورات عنه لا يصيب منها إلا الخمار ومنه حديث عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم - ليلة قالت فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك فلو كان مس المرأة حدثا لما مضى في سجوده لأن المحدث لا يجوز أن يبقى على حال السجود وحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها ومعلوم أن من فعل ذلك لا يخلو من وقوع يده على شيء من بدنها فثبت بذلك أن مس المرأة ليس بحدث وهذه الأخبار حجة على من يجعل اللمس حدثا لشهوة أو لغير شهوة ولا يحتج بها على من اعتبر اللمس لشهوة لأنه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يخبر فيه النبي ص - أنه كان لشهوة ومسه أمامة قد علم يقينا أنه لم يكن لشهوة والذي يحتج به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمس النساء لشهوة والبلوى بذلك أعم منها بالبول والغائط ونحوهما فلو كان حدثا لما أخل النبي صلى الله عليه وسلم -
الأمة من التوقيف عليه لعموم البلوى به

وحاجتهم إلى معرفة حكمه ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض فلو كان منه توقيف لعرفه عامة الصحابة فلما روي عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه دل على أنه لم يكن منه ص -
توقيف لهم عليه وعلم أنه لا وضوء فيه فإن قيل يلزمك مثله لخصمك لأن لو لم يكن فيه وضوء لكان من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف للكافة عليه لأنه لا وضوء فيه لعموم البلوى به قيل له لا يجب ذلك في نفي الوضوء منه كما يجب في إثباته وذلك لأنه معلوم أن الوضوء منه لم يكن واجبا في الأصل فجائز أن يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم - على ما كان معلوما عندهم من نفي وجوب الطهارة ومتى شرع الله تعالى فيه إيجاب الوضوء فغير جائز أن يتركهم بغير توقيف عليه مع علمه بما كانوا عليه من نفي إيجابه لأن ذلك يوجب إقرارهم على خلاف ما تعبدوا به فلما وجدنا قوما من جلة الصحابة لم يعرفوا الوضوء من مس المرأة علمنا أنه لم يكن منه توقيف على ذلك فإن قيل جائز أن لا يكون منه ص - توقيف في حال ذلك اكتفاء بما في ظاهر الكتاب من قوله تعالى أو لامستم النساء وحقيقته هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد قيل له في الآية نص على أحد المعنيين بل فيها احتمال لكل واحد منهما ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوغوا الاجتهاد في طلب المراد بها فليس إذا فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه وأيضا اللمس يحتمل الجماع على ما تأوله علي وابن عباس وأبو موسى ويحتمل اللمس باليد على ما روي عن عمر وابن مسعود فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ أبان ذلك عن مراد الله تعالى ووجه آخر يدل على أن المراد منه الجماع وهو أن اللمس وإن كان حقيقة للمس باليد فإنه لما كان مضافا إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع كذلك هذا ونظيره قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن يعني من قبل أن تجامعوهن وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -
أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة ومتى ورد عن النبي ص - حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنما صدر عن الكتاب كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولا بالآية وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم -
مما ينطوي عليه ظاهر الكتاب وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه مس اليد من وجوه أحدها اتفاق السلف من الصدر الأول أن

المراد أحدهما لأن عليا وابن عباس وأبو موسى لما تأولوه على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد وعمر وابن مسعود لما تأولاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما ومن قال إن المراد هما جميعا فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما وما روي عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعا مرادين بالآية بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود فبين في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضا بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعا بالآية وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا والجماع يوجب الغسل وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه ألا ترى إلى قوله تعالى والسارق والسارقة لما كان لفظ عموم لم يجز أن ينتظم السارقين لا يقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خمسة وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه فإن قيل لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادت الجماع واللمس باليد لأن الواجب فيها التيمم المذكور في الآية قيل له التيمم بدل والأصل هو الطهارة بالماء ومحال إيجاب التيمم إلا وقد وجب قبل ذلك الطهارة بالماء وهو بدل فيها فغير جائز أن يكون اللمس المذكور موجبا للوضوء في إحدى الحالتين وموجبا للغسل في الأخرى وأيضا إن التيمم وإن كان بصورة واحدة فإن حكمه مختلف لأن أحدهما ينوب عن غسل جميع الأعضاء والآخر غسل بعضها فغير جائز أن ينتظمهما لفظ واحد فمتى وجب لأحد المعنيين فكأنه قد نص عليه وذكره بأن قال هو الجماع فلا يدخل فيه اللمس باليد ويدل على انتفاء إرادتهما أن اللمس متى أريد به الجماع كان اللفظ كناية وإذا أريد منه اللمس باليد كان صريحا وكذلك روي عن علي وابن عباس أنهما قالا اللمس هو الجماع ولكنه كني وغير جائز أن يكون لفظ واحد كناية صريحا في حال واحدة ومن جهة أخرى يمتنع ذلك وهو أن الجماع مجاز والحقيقة هو اللمس باليد ولا يجوز أن يكون لفظ واحد حقيقة مجازا في حال واحدة فإن قيل لم لا يكون عموما في اللمس من حيث كان الجماع أيضا مسا ويكون حقيقة فيهما جميعا قيل له يمتنع ذلك من وجوه أحدها أنه قد روي عن علي وابن عباس أنه كناية عن الجماع وهما أعلم باللغة من

هذا القائل فبطل قول القائل أن اللمس صريح فيهما جميعا والآخر ما بينا من امتناع عموم واحد مقتضيا لحكمين مختلفين فيما دخلا فيه ولأن اللمس إذا أريد به مماسة في الجسد فقد حصل نقض الطهارة ووجب التيمم المذكور في الآية بمسه إياها قبل حصول الجماع لاستحالة أن يحصل جماع إلا ويحصل قبله لمس لجسدها فلا يكون الجماع حينئذ موجبا للتيمم المذكور في الآية لوجوبه قبل ذلك بمس جسدها ويدل على أن المراد الجماع دون لمس اليد أن الله تعالى قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أبان به عن حكم الحدث في حال وجود الماء ثم عطف عليه قوله وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فتيمموا صعيدا طيبا فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء فوجب أن يكون قوله أو لامستم النساء على الجنابة لتكون الآية منتظمة لهما مبينة لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه ولو كان المراد اللمس باليد لكان ذكر التيمم مقصورا على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء وحمل الآية على فائدتين أولى من الاقتصار بها على فائدة واحدة وإذا ثبت أن المراد الجماع انتفى اللمس باليد لما بينا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد فإن قيل إذا حمل على اللمس باليد كان مفيدا لكون اللمس حدثا وإذا جعل مقصورا على الجماع لم يفد ذلك فالواجب على قضيتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعا فيفيد كون اللمس حدثا ويفيد أيضا جواز التيمم للجنب فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتفاق السلف على أنهما لم يرادا ولامتناع كون اللفظ مجازا حقيقة أو كناية وصريحا فقد ساويناك في إثبات فائدة مجدد بحمله على اللمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه فما جعلك إثبات فائدة من جهة إباحة التيمم للجنب أولى ممن أثبت فائدته من جهة كون اللمس باليد حدثا قيل له لأن قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة مفيد لحكم الأحداث في حال وجود الماء ونص مع ذلك على حكم الجنابة فالأولى أن يكون ما في نسق الآية من قوله أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله أو لامستم النساء بيانا لحكم الحدث والجنابة في عدم الماء كما كان في أول الآية بيانا لحكمهما في حال وجوده وليس موضع الآية في بيان تفصيل الأحداث وإنما هي في بيان حكمها وأنت متى حملت اللمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها فلذلك كان ما ذكرناه أولى ووجه آخر وهو أن حمله على

الجماع يفيد معنيين أحدهما إباحة التيمم للجنب في حال عوز الماء والآخر أن التقاء الختانين دون الإنزال يوجب الغسل فكان حمله على الجماع أولى من الاقتصار به على فائدة واحدة وهو كون اللمس حدثا ودليل آخر على ما ذكرنا من معنى الآية وهو أنها قد قرئت على وجهين أو لامستم النساء ولمستم فمن قرأ أو لامستم فظاهره الجماع لا غير لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة كقولهم قاتله الله وجازاه وعافاه الله ونحو ذلك وهي أحرف معدودة لا يقاس عليها أغيارها والأصل في المفاعلة أنها بين اثنين كقولهم قاتله وضاربه وسالمه وصالحه ونحو ذلك وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعا ويدل على ذلك أنك لا تقول لامست الرجل ولامست الثوب إذا مسسته بيدك لانفرادك بالفعل فدل على أن قوله أو لامستم بمعنى أو جامعتم النساء فيكون حقيقته الجماع وإذا صح ذلك وكانت قراءة من قرأ أو لمستم يحتمل اللمس ويحتمل اللجماع وجب أن يكون ذلك محمولا على مالا يحتمل إلا معنى واحدا لأن مالا يحتمل إلا معنى واحدا فهو المحكم وما يحتمل معنيين فهو المتشابه وقد أمرنا الله تعالى بحكم المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب الآية فلما جعل المحكم أما للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه وذم متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه فثبت بذلك أن قوله أو لمستم لما كان محتملا للمعنيين كان متشابها وقوله أو لامستم لما كان مقصورا في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكما فوجب أن يكون معنى المتشابه مبينا عليه فإن قيل لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو قراءة من قرأ أو لامستم النساء والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا أحدهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصة فتستعملها فيه دون الجماع ويكون كل واحد من اللفظين مستعملا على مقتضاه من كناية أو صريح إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجاز ولا كناية صريحا في حال واحدة ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة قيل له لا يجوز ذلك لأن السلف من الصدر الأول

المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعا لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفا من الرسول للصحابة عليهما وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتج بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما وحمله كل واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع فثبت بذلك أن القراءتين على أي وجه حصلتا لم تقتضيا بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعا ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها وكان أبو الحسن الكرخي يجيب عن ذلك بجواب آخر وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معا في حال واحدة بل بقيام أحدهما مقام الأخرى ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز إسقاط شيء منه ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصرا على بعض القرآن لاعلى كله وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام أحدهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتهما وإثباتهما في المصحف معا ويدل على أن اللمس ليس بحدث أن ما كان حدثا لا يختلف فيه الرجال والنساء ولو مست امرأة امرأة لم يكن حدثا كذلك مس الرجل إياها وكذلك مس الرجل الرجل ليس بحدث فكذلك مس المرأة ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين أحدهما أنا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء فكل ما كان حدثا من الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأصول ومن جهة أخرى أن العلة في مس المرأة المرأة والرجل الرجل أنه مباشرة من غير جماع فلم يكن حدثا كذلك الرجل والمرأة فإن قيل قد أوجب أبو حنيفة الوضوء على من باشر امرأته وانتشرت آلته وليس بينهما ثوب ولا فرق بين مسها بيده وبين مسها ببدنه قيل له لم يوجب أبو حنيفة ههنا الوضوء بالمباشرة وإنما أوجبه إذ التقى الفرجان من غير إيلاج كذلك رواه محمد عنه وذلك لأن الإنسان لا يكاد يبلغ هذه الحال إلا ويخرج منه شيء وإن لم يشعر به فلما كان الغالب في هذه الحال خروج شيء منه وإن

لم يشعر به أوجب الوضوء له احتياطا فحكم له بحكم الحدث كما أنه لما كان الغالب من حال النوم وجود الحدث فيه حكم له بحكم الحدث فليس إذا في ذلك إيجاب الوضوء من اللمس والله أعلم بالصواب
باب
وجوب التيمم عند عدم الماء قال ا لله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا قال أبو بكر شرط الوجود مختلف فيه والجملة التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجود إمكان استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم وليس عليه أن يغالي فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه وجعل أصحابنا جميعا شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته وأما العلم بكونه في رحله فمختلف فيه أنه من شرط الوجود وسنذكره إن شاء الله واختلف أيضا في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب وإنما قلنا أنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذورا في تركه إلى التيمم كالمريض قال الله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فنفى الحرج عنا وهو الضيق وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه العطش أعظم الضيق وقد نفاه الله تعالى نفيا مطلقا وقال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر من العسر استعمال الماء الذي يؤديه إلى الضرر وتلف النفس ألا ترى أنه لو اضطر إلى شرب الماء وحضرته الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله وروي نحو هذا القول فيمن خاف العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قميته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة إذ لا يحصل بإزائه بدل فكان إضاعة للمال لأن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه فكذلك شرى الماء بثمن غال وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ

ولا يجزيه التيمم من قبل أنه ليس فيه تضييع المال إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء مالا يكفيه لطهارته فقال أصحابنا جميعا يتيمم وليس عليه استعماله وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم وقال مالك والأوزاعي لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم فإن أحدث بعد ذلك وعندما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله وقال الشافعي عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم لا يجزيه غير ذلك قال أبو بكر قال الله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه لأنه أوجبه بهذه الشريطة ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وإن صلاته غير مجزية إلا به فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه فإن قيل قال الله تعالى فلم تجدوا ماء فأباح التيمم عند عدم ماء منكور وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف فلا يجوز التيمم مع وجوده قيل له الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن بالآية لما لزمه التيمم معه لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم وإن استعمل الماء فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله إنما اراد بالطيب الطاهر المباح كقوله تعالي عند عدم الماء الذي تصح به صلاته فإن قيل فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم قيل له لو كان هذا على ما ذكر لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود فجاز له التيمم وأيضا لما لم يجز الجمع بين غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى لكون المسح بدلا من الغسل فلم يجز الجمع بينهما وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضار والتيمم لهذه العلة وأيضا فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل فلم يجز الجمع بين ما يرفع الحدث وبين مالا يرفعه في المسح كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا

من فرضه وأيضا فإن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء وغيرجائز وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض ألا ترى أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه فإن قام مقام مالم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء وذلك مستحيل لأنه لا يتبعض فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئا متيمما في الأعضاء المغسولة وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب وعلى أن الشافعي يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين فيكون تيممه في هذين العضوين قائما مقامهما ومقام العضوين الآخرين فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقيا مع وجوده فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه فإن قيل يلزمك مثله إذا قلت فيما غسل بعض أعضائه لأنه ملزم التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه قيل له لا يلزمنا ذلك لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شيء منه فإن قال فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره قيل له إن طهارته أحد هذين لإجماعهما ولذلك أجزنا له أن يبدأ بأيهما شاء لأنه مشكوك فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشك فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما كما قالوا جميعا فيمن نسي إحدى الصلوات الخمس ولا يدري أيها هي يصلي خمس صلوات حتى يصلي على اليقين وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها كذلك ههنا وأنت تزعم أن المفروض هما جميعا في مسئلتنا وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء كالصوم بدلا من الرقبة لم يجز اجتماع بعض الرقبة والصوم وجب مثله في التيمم والماء فإن قيل الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قيل انقضائها وجب الحيض وكذلك ذات الحيص لو اعتدت بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة

قيل له إذا طرأ عليها ما ذكرت قبل انقضاء العدة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدا به وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة وكذلك التيمم ودليل آخر في المسألة وهو قوله ص - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء والدلالة من هذا قوله مالم يجد الماء فأدخل عليها الألف واللام وذلك لأحد وجهين إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال التراب طهور مالم يجد مياه الدنيا وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضا لأنه ليس ههنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة وذلك لم يوجد في مسئلتنا فجاز تيممه بظاهر الخبر واختلفوا في العلم بكون الماء في رحله هل هو شرط في الوجود أم لا فقال أبو حنيفة ومحمد إذا نسي الماء في رحله وهو مسافر فتيمم وصلى أجزأه ولا يعيد في الوقت ولا بعده وقال مالك ولا يعيد في الوقت ولا يعيد بعده وقال أبو يوسف والشافعي يعيد في الأحوال كلها والأصل فيه قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا والناسي غير واجد لما هو ناس له إذ لا سبيل له إلى الوصول إلى استعماله فهو بمنزلة من لا ماء في رحله ولا بحضرته وقال الله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فاقتضى ذلك سقوط حكم المنسي وأيضا قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم ومعلوم أن هذا الخطاب لم يتوجه إلى الناسي لأن تكليف الناسي لا يصح وإذا لم يكن مأمورا مكلفا بالغسل فهو مأمور بالتيمم لا محالة لأنه لا يجوز سقوطهما جميعا عنه مع الإمكان فثبت جواز تيممه وأيضا لا يختلفون أنه لو كان في مفازة وطلب في الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم علم أنه كان هناك بئر مغطى الرأس لم تجب عليه الإعادة ووجود الماء لا يختلف حكمه بأن يكون مالكه أو في نهر أو في بئر فلما كان جهله بماء البئر مخرجه من حكم الوجود كذلك جهله بالماء الذي في رحله فإن قيل لو نسي الطهارة أو الصلاة لم يسقطها النسيان فكذلك نسيان الماء قيل له ظاهر قوله ص - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يقتضي سقوطه وكذلك نقول والذي ألزمناه عند الذكر هو فرض آخر غير الأول وأما الأول فقد سقط وإنما ألزمنا الناسي فعل الصلاة وألزمناه الطهارة المنسية بدلالة أخرى وإلا فالنسيان يسقط عنه القضاء لولا الدلالة وأيضا فلا تأثير للنسيان بانفراده في سقوط الفرض إلا بانضمام معنى آخر إليه فيصيران عذرا في سقوطه نحو السفر الذي هو حال عدم الماء

فإذا انضم إليه النسيان صار جميعا عذرا في سقوطه وأما نسيان الطهارة والقراءة والصلاة ونحو ذلك فلم ينضم إلى النسيان في ذلك معنى آخر حتى يصير عذرا في سقوط هذه الفرائض ومن جهة أخرى إنا جعلنا النسيان عذرا في الانتقال إلى بدل لا في سقوط أصل الفرض وفي المسائل التي ذكرتها فيها إسقاط الفروض لا نقلها إلى أبدال فلذلك اختلفا فإن قيل الناسي للماء في رحله هو واجد له قيل له ليس الوجود هو كون الماء في رحله دون إمكان الوصول إلى استعماله من غير ضرر يلحقه ألا ترى أن من معه ماء وهو يخاف على نفسه العطش يجوز له التيمم وهو واجد للماء فالناسي أبعد من الوجود لتعذر وصوله إلى استعماله ألا ترى أن من ليس في رحله ماء وهو قائم على شفير نهر إنه واجد للماء وإن لم يكن له مالكا لإمكان الوصول إلى استعماله فعلمنا أن الوجود هو إمكان التوصل إلى استعماله من غير ضرر ألا ترى أن الماء لو كان في رحله ومنعه منه مانع جاز له التيمم فعلمنا أن الوجود شرطه ما ذكرنا دون الملك فإن قيل ما تقول لو كان على ثوبه نجاسة فنسي الماء في رحله ولم يغسله وصلى فيه هل يجزيه قيل له لا نعرفها محفوظة عن أصحابنا وقياس قول أبي حنيفة أنه يجزي وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي فيمن نسي في رحله ثوبا وصلى عريانا أنه يجزيه واختلفوا في تارك الطلب إذا لم يكن بحضرته ماء هل هو غير واجد فقال أصحابنا إذا لم يطمع في الماء ولم يخبره مخبر فليس عليه الطلب ويجزيه التيمم وقال الشافعي عليه الطلب وإن تيمم قبل الطلب لم يجزه وقال أصحابنا إن طمع فيه أو أخبره مخبر بموضعه فإن كان بينه وبينه ميل أو أكثر فليس عليه إتيانه لما يلحقه من المشقة والضرر بتخلفه عن أصحابه وانقطاعه عن أهل رفقته وإن كان أقل من ميل أتاه وهذا إذا لم يخف على نفسه وما معه من لصوص أو سبع ونحوه ولم ينقطع عن أصحابه وإنما قالوا فيمن كانت حاله ما قدمنا أنه يجزيه التيمم وليس عليه الطلب من قبل أنه غير واجد للماء وقال الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا غير واجد فإن قالوا لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب قيل له هذا خطأ لأن الوجود لا يقتضي طلبا قال الله تعالى فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأطلق اسم الوجود على مالم يطلبوه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ويكون واجدا لها وإن لم يطلبها وقال في الرقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ومعناه
===================================================
ج12. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص


ليس في ملكه ولا له قيمتها لا أنه أوجب عليه أن يطلبها فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب فمن ليس بحضرته ماء ولا هو عالم به فهو غير واجد إذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجز لنا أن نزيد فيه فرض الطلب لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية وذلك غير جائز ويدل عليه أيضا قوله ص -
جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال النبي ص - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء وقال لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت فامسسه جلدك ويدل أيضا على أن الوجود لا يقتضي الطلب أنه قد يكون واجدا لما يحصل عنده من شيء من غير طلب منه من ماء أو غيره فيقال هذا واجد للرقبة إذا كانت عنده وإن لم يطلبها فإن قال قائل ما أنكرت أنه جائز أن يقال إنه واجد لما لم يطالبه ولا يقال إنه غير واجد إلا أن يكون قد طلبه قيل له إذا كان الوجود لا يقتضي الطلب وليس ذلك شرطه فنفى الوجود مثله لأنه ضده فما جاز إطلاقه عليه جاز على عدمه ألا ترى أنه يصح أن يقال هو غير واجد لألف دينار وإن لم يتقدم منه طلب ولو ضاع منه مال جاز أن يقال إنه لم يجده وإن لم يكن منه طلب كما يقال هو واجده وإن لم يطلبه فالوجود ونفيه سواء في أن كل واحد منهما لا يتعلق إطلاق الاسم فيه بالطلب وقد قال الله تعالى وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين فأطلق الوجود في النفي كما أطلقه في الإثبات مع عدم الطلب فيهما فإن قيل لو كان مع رفيق له ماء فلم يطلبه لم يصح تيممه حتى يطلبه فيمنعه وهذا يدل على وجوب الطلب ويؤكده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعبدالله بن مسعود ليلة الجن هل معك ماء فطلبه قيل له أما طلبه من رفيقه فقد روي عن أبي حنيفة أن صلاته جائزة وإن لم يطلبه وأما على قول أبي يوسف ومحمد فإنه لا يجزيه حتى يطلبه فيمنعه وهذا عندنا إذا كان طامعا منه في بذله له وأنه إن لم يطمع في ذلك فليس عليه الطلب ونظيره إن يطمع في ماء موجود بالقرب أو يخبره به مخبر فلا يجوز تيممه لأن غالب الظن في مثله يقوم مقام اليقين كما لو غلب في ظنه أنه إن صار إلى النهر وهو بالقرب منه افترسه سبع أو اعترض له قاطع طريق جاز له أن يتيمم وإن غلب على ظنه السلامة لم يجز له التيمم فليس هذا من قول من يوجب الطلب في شيء وأما حديث عبدالله بن مسعود وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم - إياه الماء وأن النبي صلى الله عليه وسلم -
وجه عليا في طلب الماء فإن فعله ص - ليس على الوجوب وهو عندنا مستحب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم -
وأيضا لا يخلو الذي

في المفازة وليس بحضرته ماء ولم يطمع فيه من أن يكون واجدا أو غير واجد فإن كان غير واجد جاز تيممه بقوله ولم تجدوا ماء فتيمموا وبقول النبي صلى الله عليه وسلم - التراب طهور المسلم ما لم يجد ماء فإن قيل إذا كان شرط جواز التيمم عدم الماء فواجب أن لا يجزي حتى يتيقن وجود شرطه كما أنه لما كان شرط جواز الصلاة حضور الوقت لم يجزه فعلها إلا بعد حصول اليقين بدخول الوقت قيل له الفصل بنيهما أن الأصل هو عدم الماء في مثل ذلك الموضع وذلك يقين عنده وإنما لا يعلم هل هو موجود في غيره وهل يكون موجودا إن طلب أم لا فليس عليه أن يزول عن اليقين الأول بما لا يعلمه ويشك فيه ووقت الصلاة أيضا كان غير موجود فغير جائز له فعلها بالشك حتى يتيقن وجوده فيهما سواء في هذا الوجه في باب البناء على اليقين الذي كان الأصل فإن قيل قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا فالغسل أبدا واجب وعليه التوصل إليه كيف أمكن فإذا كان قد يمكنه التوصل إليه بالطلب فذلك فرضه قيل له الذي قال فاغسلوا هو الذي قال فلم تجدوا ماء فتيمموا فوجوب الغسل مضمن بوجود الماء وجواز التيمم مضمن بعدمه وهو عادم له في الحال لا محالة وإنما يزعم المخالف أنه جائز أن يكون واجدا عند الطلب فغير جائز ترك ما حصل من شرط إباحة التيمم لما عسى يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون والذي قاله المخالف كان يلزم لو طمع في الماء وغلب على ظنه وجوده وأخبره به مخبر فأما مع فقد ذلك فقد حصل شرط الآية على الوجه الذي يبيح التيمم فغير جائز لأحد إسقاطه وإيجاب اعتبار معنى غيره وإنما قدر أصحابنا أقل من ميل من قبل لزوم استعماله إذا علم بموضعه وغلب في ظنه ولم يوجبوه ذلك في ميل فصاعدا اجتهادا ولأن الميل هو الحد الذي تقدر به المسافات ولا تقدر بأقل منه في العادة فاعتبروه في ذلك دون ما هو أقل منه كما قلنا في اعتبار أبي يوسف الكثير الفحش أنه شبر في شبر لأنه أقل المقادير التي تقدر بها المساحات ولا تقدر في العادة بأقل منه وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر من الماء على غلوتين أو ثلاث فيتيمم ويصلي ولا يميل إليه وعن سعيد بن المسيب في الراعي يكون بينه وبين الماء ميلان أو ثلاثة وتحضره الصلاة أنه يتيمم ويصلي وقال الحسن وابن سيرين لا يتيمم من رجا أن يقدر على الماء في الوقت واختلف فيمن وجد الماء وخاف ذهاب الوقت إن لم يتيمم فقال أصحابنا والثوري

والأوزاعي والشافعي من وجد الماء من مسافر أو مقيم وهو في مصر وهو في آخر الوقت فخاف إن توضأ أن يفوته الوقت لم يجزه إلا الوضوء وقال مالك يجزيه التيمم إذا خاف فوات الوقت وقال الليث بن سعد إذا خاف فوات الوقت إن توضأ يصلي بتيمم ثم أعاد بالوضوء بعد الوقت والأصل فيه قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فأوجب استعمال الماء في حال وجوده ونقله عنه إلى التراب عند عدمه فغير جائز نقله إليه مع وجوده لأنه خلاف الآية وحين أمره الله تعالى بغسل هذه الأعضاء لم يقيده بشرط بقاء الوقت وإدراك فعل الصلاة فيه فهو مطلق في الوقت وبعده وقال الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فمنعه من فعل الصلاة إذا كان جنبا إلا بعد تقديم الغسل ولم يذكر فيه بقاء الوقت ولا غيره ويدل عليه من جهة السنة قوله ص - لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك فمتى كان واجدا فعليه استعمال الماء سواء خاف فوت الوقت أو لم يخف لعموم قوله فاغسلوا ولقوله ص - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فمتى كان وجدا للماء فليس التراب طهورا له فلا تجزيه صلاته ومن جهة النظر أن فرض الطهارة آكد من فرض الوقت بدلالة أنه لا تجز صلاة بغير طهارة وهي جائزة مع فوات الوقت فإن قيل إذا خاف فوت الوقت صلى بتيمم ليدرك فضيلة الوقت قيل له كيف يكون مدركا لفضيلة الوقت وهو غير مصل لأنه صلى بغير طهارة فإن قيل التيمم طهور قيل له إنما هو طهور مع عدم الماء كما قال الله تعالى وكما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم - وأما مع وجوده فليس بطهور فالواجب عليك أن تدل أو لا على أنه طهور مع وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر حتى تبني عليه بعد ذلك مذهبك في أنه مدرك لفضيلة الوقت فإن قال قائل المسافر إنما أبيح له التيمم ليدرك الوقت لا لأجل عدم الماء قيل له لو كان كذلك لما جاز له التيمم في أول الوقت في حال عدم الماء لأنه غير خائف فوت الوقت وفي اتفاق الجميع على جواز تيممه في أول الوقت دلالة على أن شرط جواز التيمم ليس هو لأجل فوت الوقت فإن قال لو كان شرط التيمم عدم الماء لما جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن يتيمم مع وجود الماء قيل له إنما قلنا بجوازه لأن الوجود هو إمكان استعماله بلا ضرر ولا مشقة لأن الله قد ذكر المريض والمسافر فعدم الماء على الإطلاق شرط وخوف الضرر

باستعماله أيضا شطر وأنت لم تلجأ في اعتبارك الوقت لا إلى آية ولا إلى أثر بل الكتاب والأثر يقضيان بطلان قولك فإن قيل لما جازت الصلاة في حال الخوف مع الاختلاف والمشي إلى غير القبلة وراكبا لأجل إدراك الوقت دل على وجوب اعتبار الوقت في جوازها بالتيمم إذا خاف فوته قيل له إنما أبيحت صلاة الخائف على هذه الوجوه لأجل الخوف لا للوقت ولا لغيره والخوف موجود والدليل على ذلك جواز صلاة الخوف في أول الوقت مع غلبة الظن بانصراف العدو قبل خروج الوقت فدل على أنها إنما أبيحت للخوف لا ليدرك الوقت والتيمم إنما أبيح له لعدم الماء فنظير صلاة الخوف من التيمم أن يكون الماء معدوما فيجوز له التيمم فأما حال وجود الماء فهو يمنزلة زوال الخوف فلا يجوز له فعل الصلاة إلا على هيئتها في حال الأمن وإنما جعل صلاة الخوف بمنزلة الإفطار للمسافر وبمنزلة المسح على الخفين في أنها رخصة مخصوصة بحال لا لخوف فوات الوقت وأيضا فإنه إن فات وقته باشتغاله بالوضوء فإنه يصير إلى وقت آخر لها لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فأخبر أن وقت الذكر مع فواتها وقت لها كما كان الوقت الذي كان قبله وقتا لها فإذا كان وقت الصلاة باقيا مع فواتها عن الوقت الأول لم يجز لنا ترك الطهارة بالماء لخوف فواتها من وقت إلى وقت وقد وافقنا مالك على وجوب الترتيب بين الفائتة وبين صلاة الوقت وأن الفائتة أخص بالوقت من التي هي في وقتها حتى أنه لو بدأ بصلاة الوقت قبلها لم يجزه فلو كان خوف فوت الوقت مبيحا له التيمم لوجب أن يباح له التيمم بعد الفوات أيضا لأن كل وقت يأتي بعد الفوات هو وقت لها لا يسعه تأخيرها عنه فيلزم مالكا أن يجيز لمن فاتته صلاة أن يصليها بتيمم في أي وقت كان لأن اشتغاله بالوضوء يوجب تأخيرها عن الوقت المأمور بفعلها فيه والمنهي عن تأخيرها عنه ولما اتفق الجميع على أنه غير جائز له فعلها بالتيمم مع خوف فوات وقتها الذي هو مأمور بفعلها فيه إذا اشتغل باستعمال الماء صح أن الوقت لا تأثير له في ترك الطهارة بالماء إلى التيمم وأما قول الليث بن سعد أنه يتيمم ويصلي في الوقت ثم يتوضأ ويعيد بعد الوقت فلا معنى له لأنه معلوم أنه لا يعتد بتلك الصلاة فلا معنى لأمره بها وتأخير الفرض الذي عليه تقديمه واختلف فيمن حبس في موضع قذر لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف فقال ابو حنيفة ومحمد زفر

لا يصلي حتى يقدر على الماء إذا كان في المصر وهو قول الثوري والأوزاعي وقال أبو يوسف والشافعي يصلي ويعيد والحجة لأبي حنيفة ومن قال بقوله قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة بغير طهور ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلى بغير طهور فلا يكون ذلك صلاة فلا معنى لأمرنا إياه بأن نفعل ما ليس بصلاة لأجل أن عليه فرض الصلاة وقد قال أبو يوسف إنه يصلي بالإيماء ثم يعيد فلم يعتد به وأمره بالإعادة فلو كانت هذه صلاة لما كان مأمورا بالإعادة ألا ترى أنه من لم يقدر على الركوع والسجود صلى بالإيماء ولا يؤمر بالإعادة فإن قيل قد يأمره إذا كان محبوسا في بيت نظيف أن يتيمم ويعيد ووجوب الإعادة لم يسقط عنه فعلها بالتيمم قيل له قد روى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يتيمم ولا يصلي حتى يخرج فهذا مستمر على هذا الأصل وذكر في الأصل أنه يتيمم ويصلي ويعيد ولم يذكر خلافا وجائز أن يكون هذا قول أبي يوسف وحده فإن كان قولهم جميعا فوجه هذه الرواية على قول أبي حنيفة إن الصلاة بالتيمم قد تكون صلاة صحيحة بحال وهو حال عدم الماء أو خوف الضرورة فلما كان عادما للماء في هذه الحال جاز له التيمم وكان القياس أن يكون كالمسافر إذا كان الماء منه قريبا وخاف السبع أو اللصوص فيجوز له التيمم ولا يعيد فهذا هو القياس إلا أنه ترك القياس وأمره بالإعادة وفرق بين حال السفر والحضر لأن الماء موجود في الحضر وإنما وقع المنع بفعل آدمي وفعل الآدمي في مثله لا يسقط الفرض ألا ترى أنه لو منعه رجل مكرها من فعل الصلاة أصلا أو من فعلها بركوع وسجود وصلى بالإيماء أنه يعيد ولو كان المنع من فعل الله تعالى بإغماء ونحوه سقط عنه الفرض ولو كان مريضا سقط عنه فعل الركوع إلى الإيماء فاختلف حكم المنع إذا كان بفعل الله أو بفعل الآدمي فكذلك حال الحضر لما كانت حال وجود الماء لم يسقط فرض استعماله بمنع الآدمي منه فأمره بالتيمم وإعادتها بالماء وعلى الرواية الأولى لم يأمره بفعلها لأنه لا يعتد بها فلا معنى للأمر بها فإن قيل فأنت تأمر المحرم الذي لا شعر على رأسه وأراد الإحلال أن يمر الموسى على رأسه متشبها بالحالقين وإن لم يحلق فهلا أمرت المحبوس الذي لا يقدر عل الماء والتراب أن يصلي متشبها بالمصلين وإن لم يكن مصليا وكما تأمر الأخرس بتحريك

لسانه بالتلبية استحبابا وإن لم يكن ملبيا قيل له الفصل بينهما أن أفعال المناسك قد ينوب عنه الغير فيها في حال فيصير حكم فعله كفعله فجاز أن ينوب عن الحلق إمرار الموسى على رأسه كما يفعله الغير عنه فيجزي وكذلك تلبية الغير قد تنوب عند أبي حنيفة في حال الإغماء فلذلك استحب له تحريك لسانه بها وإن لم يكن ملبيا إذا كان أخرس وأما الصلاة فلا ينوب عنه فيها غيره ولا يجوز أن يفعل ما ليس بصلاة متشابها بالمصلين فيصير هذا الفعل وتركه سواء لا معنى له فلذلك لم يستحبه فإن احتجوا بما روي في قصة قلادة عائشة حين صلت وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بغير وضوء ولا تيمم قيل له إن آية التيمم لم تكن نزلت وقت ما صلوا ولم يكن التيمم واجبا وأيضا فإنهم لم يؤمروا بالإعادة فينبغي أن يدل على أن لا إعادة على من صلى بغير وضوء ولا تيمم إذا لم يجدهما فلما قال مخالفونا إنه يعيد علمنا أن حكم من ذكر مخالف لأولئك وأيضا فإن أولئك كانوا واجدين للتراب غير واجدين للماء وأنت لا تقول ذلك فيمن كان في مثل حالهم واختلف في جواز التيمم قبل دخول الوقت فقال أصحابنا جائز قبل دخول وقت الصلاة لمن لا يجد الماء ويصلي به الفرض إذا دخل الوقت وقال مالك بن أنس والشافعي لا يجوز إلا بعد دخوله ودليلنا قوله أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء ولم يفرق فيه بين حاله قبل دخول الوقت أو بعده وأيضا قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقد دللنا في أول الكتاب أن معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون ثم عطف عليه التيمم وأباحه في الحال التي أمر فيها بالوضوء لو كان واجدا للماء وأيضا لما قال تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وأمر بتقديم الطهارة لها في غير هذه الآية وكانت الطهارة شيئين الماء عند وجوده والتراب عند عدمه اقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت ليصلي في أوله على شرط الآية ويدل عليه قوله ص - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء وقوله لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ولم يفرق بينه قبل الوقت أو بعده وإنما علق جوازه بعدم الماء لا بالوقت فإن قيل على استدلالنا بقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط أن ذلك معطوف على قوله إذا قمتم إلى الصلاة وهو مضمر فيه فكان تقديره إذا قمتم إلى الصلاة

وجاء أحد منكم من الغائط وذلك يكون بعد دخول الوقت قيل له هذا غلط من قبل أن قوله إذا قمتم معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فهذه جملة مكتفية بنفسها في إيجاب الوضوء للحدث ثم استأنف حكم عادم الماء فقال وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فتيمموا وهذه أيضا جملة مفيدة مستقلة بنفسها غير مفتقرة إلى تضمينها بغيرها وما كان هذا وصفه من الكلام ففي تضمينه بغيره تخصيص له وذلك غير جائز إلا بدلالة فوجب أن يكون شرط المجيء من الغائط في إباحة التيمم مقرا على بابه وأن لا يضمن بغيره وأيضا فإن حكم كل جواب علق بشرط أن يرجع إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم إلا بدلالة والذي يلي ذلك هو شرط المجيء من الغائط وأيضا كما جاز الوضوء قبل الوقت وجب أن يجوز التيمم كذلك لأنه طهارة لم يوجد بعدها حدث فإن قيل المستحاضة لا تصلي بوضوء فعلته قبل الوقت قيل له يجوز ذلك عندنا لأنها لو توضأت قبل الزوال كان لها أن تصلي به إلى خروج وقت الظهر وأما إذا توضأت في وقت الظهر فإنها لا تصلي به في وقت العصر للسيلان الموجود بعد الطهارة والوقت كان رخصة لها في فعل الصلاة مع الحدث فلما ارتفعت الرخصة بخروجه وجب الوضوء للحدث المتقدم واختلف في فعل صلاتي فرض بتيمم واحد فقال يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات مالم يحدث أو يجد الماء وهو مذهب الثوري والحسن بن صالح والليث بن سعد وهو مذهب إبراهيم وحماد والحسن وقال مالك لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد ولا يصلي الفرض بتيمم النافلة ويصلي النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض وقال شريك بن عبدالله يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد والدليل على صحة قولنا قوله ص - التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فجعل التراب طهورا مالم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة وقوله ولو إلى عشر حجج على وجه التأكيد وليس المراد حقيقة الوقت وهو كقوله تعالى إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ليس المراد به توقيت العدد المذكور وإنما المراد تأكيد نفي الغفران فإن قيل لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم كذلك فعل الصلاة قيل له لأن بطلانه بالحدث كان معلوما عند المخاطبين فلم يحتج إلى ذكره وإنما ذكر مالم يكن معلوما عندهم وأكده ببقائه إلى وجود الماء وأيضا فإن المعنى المبيح للصلاة

بالتيمم بديا كان عدم الماء وهو قائم بعد فعل الصلاة فينبغي أن يبقى تيممه ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء إذ كان المعنى فيهما واحدا وهو عدم الماء وأيضا لما كان المسح على الخفين بدلا من الغسل كما أن التيمم بدل منه ثم جاز عند الجميع فعل صلاتين بمسح واحد جاز فعلهما أيضا بتيمم واحد وأيضا فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن تكون طهارته باقية أو زائلة فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلا لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة وإن كانت باقية فجائز أن يصلي بها فرضا آخر فإن قيل قد خفف أمر النفل عن الفرض جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة قيل له أنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى إذا قمتم لا يقتضي التكرار في اللغة وقد بيناه فيما سلف ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء فكذلك في التيمم وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله فجعل التيمم بدلا منه فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعد ما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم فإن قيل التيمم لا يرفع الحدث فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده قيل له ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في

الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث فإن قيل هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها قيل له قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت فهو قياس فاسد منتقض وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوءها والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث فإذا خرج الوقت توضأت لحدث وجد بعد طهارتها ولم يوجد في المتيمم حدث بعد تيممه فطهارته باقية واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته وتوضأ واستقبل وقال مالك والشافعي يمضي فيها وتجزيه وروي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لم يلزمه الوضوء وصلى بتيممه وهو قول شاذ مخالف للسنة والإجماع والدليل على صحة قولنا قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء ثم نقله إلى التراب عند عدمه فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية وعلى أن حقيقة اللفظ تقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة فغير جائز أن يكون دخوله فيها مانعا من لزوم استعماله وأيضا لا يختلفون أن حكم الآية في فرض الغسل عند وجود الماء قائم عليه بعد دخوله في الصلاة لأنه لو أفسد صلاته قبل إتمامها لزمه استعمال الماء بالآية فثبت بذلك أن دخوله في الصلاة لم يسقط عنه فرض الغسل والخطاب بحكم الآية فوجب عليه بحكم الآية استعماله لبقاء فرض استعماله عليه وأيضا لا يخلو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة من أن يكون المراد به حال وجود الصلاة بعد فعل جزء منها وإرادة القيام إليها محدثا وجعل ذلك شرطا للزوم استعماله فقد وجد فعليه استعماله ولا يسقط عنه ذلك بالتيمم والدخول فيها مع وجود سبب تكليفه إذ كان المسقط لفرضه هو عدم الماء فمتى وجد فقد عاد شرط لزومه فلزمته الطهارة به ويدل عليه أيضا قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإذا كان جنبا ودخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لزمه بقوله لا تقربوا الصلاة إلى قوله حتى تغتسلوا فإن قيل في نسق الخطاب وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فلم

تجدوا ماء فتيمموا قيل له هما مستعملان جميعا كل واحد على شريطته فالتيمم عند عدم الماء والغسل عند وجوده وغير جائز إسقاط الغسل عند وجوده إذ كان الظاهر يوجبه ولم تفرق الآية بين حاله بعد الدخول في الصلاة أو قبله ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فجعله طهورا بشريطة عدم الماء فإذا وجد الماء خرج من أن يكون طهارة ولم يفرق بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها فإذا بطلت طهارته برؤيته الماء لم يجز أن يمضي فيها وأيضا فقال ص - الماء طهور المسلم وقال ص - إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك وفي بعض الألفاظ وأمسسه بشرتك ودلالته على وصفنا من وجهين أحدهما ما ذكرنا من قوله التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فأخبر بالحال التي يكون التراب فيها طهورا وهو أن لا يجد الماء ولم يفرق بين حاله قبل الدخول في الصلاة وبعده فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم - خص كونه طهورا بهذه الحال دون غيرها فمتى صلى به والماء موجود فهو مصل بغير طهور والثاني قوله ص - فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ولم يفرق بينه قبل الدخول وبعده فهو على الحالين يلزمه استعماله متى وجده بظاهر قوله ويدل عليه اتفاق الجميع على أن وجود الماء بعد التيمم قبل الدخول يمنع الابتداء فوجب أن يمنع البناء كما أن الحدث لما منع ابتداء الصلاة منع البناء عليها إذ كان من شرط صحتها جميعا الطهارة وأيضا فإن كونه في الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة لأنه لو أحدث فيها لزمته الطهارة وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شروط الصلاة مثل وجود الثوب للعريان وعتق الأمة في لزومها تغطية الرأس وخروج وقت المسح فوجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من لزوم الطهارة بالماء عند وجوده وأيضا لما لم يجز التحريمة بالتيمم مع وجود الماء لأنه يكون فاعلا لجزء من الصلاة بالتيمم مع وجود الماء وكان هذا المعنى موجودا بعد الدخول وجب أن يمنع المضي فيها فإن قيل لو أحدث جاز البناء عندك إذا توضأ ولا تجوز التحريمة بعد الحدث قيل له لا فرق بينهما لأنه لو فعل جزأ من الصلاة بعد الحدث قبل الطهارة بطلت صلاته وإنما نجيز له البناء إذا توضأ وأنت تجيزه قبل الطهارة بالماء فإن قيل إنما اختلف حال الصلاة وقبلها في التيمم لسقوط فرض الطلب عنه بدخوله في الصلاة لأن كونه فيها ينافي فرض الطلب وأما قبل الدخول فيها ففرض الطلب قائم عليه فلذلك لزمته الطهارة إذا وجده قبل الدخول قيل له أما قولك في لزوم فرض الطلب

قبل الدخول فيها ففاسد على ما قدمناه فيما سلف ومع ذلك فلو سلمناه لك لانتقض على أصلك وذلك أن بقاء فرض الطلب ينافي صحة الدخول في الصلاة عندك فلا يخلو إذا طلب ولم يجد فتيمم أن يكون فرض الطلب قائما عليه أو ساقطا عنه فإذا كان فرض الطلب قائما عليه فواجب أن لا يصح دخوله إذ كان بقاء فرض الطلب ينافي صحة الصلاة ويمنع صحة التيمم أيضا على أصلك وإن كان فرض الطلب ساقطا عنه فالواجب على قضيتك أن لا يلزمه استعمال الماء إذا وجده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة كما حكي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن فلما ألزمته استعمال الماء عند وجوده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة مع سقوط فرض الطلب ثبت أن سقوط فرض الطلب ليس بعلة لجاز ترك استعمال الماء عند وجوده وأيضا قد اتفقوا جميعا أن الصغيرة لو اعتدت شهرا ثم حاضت انتقلت عدتها إلى الحيض لأن الشهور بدل من الحيض وإنما تكون عدة عند عدمه كما أن التيمم طهور عند عدم الماء فلما اتفقوا على استواء حالهما قبل وجوب العدة وبعده في كون الحيض عدة عند وجوده وجب أن يستوي حكم وجود الماء بعد الدخول في الصلاة وقبله وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء لم يجز أن يبقى حكمه مع وجود المبدل عنه كسائر الأبدال لا يثبت حكمها مع وجود الأصل فإن قيل فلو أن متمتعا وجد الهدي بعد صوم الثلاثة أيام وبعد الإحلال جاز له أن يصوم السبعة مع وجود الأصل قيل له الثلاثة بدل من الهدي لأن بها يقع الإحلال وليست للسبعة بدلا من الهدي لأن الإحلال يكون قبل السبعة فإن قيل ليست حال الصلاة حال للطهارة فلا يلزمه استعمال الماء قيل له فينبغي أن لا يلزمه غسل الرجلين بخروج وقت المسح وهو في الصلاة وأن لا يلزم المستحاضة الوضوء بانقطاع الدم في الصلاة وأن لا تلزمها الطهارة لو أحدث فيها لهذه العلة فإن احتجوا بقوله ص - فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا قيل له لم يقل ذلك ابتداء بل بكلام متصل به وهو أنه قال إذا وجد أحدكم حركة في دبره فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال إن الشيطان يخيل إلى أحدكم أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال في بعض الألفاظ لا وضوء إلا من صوت أو ريح فأما ابتداء قول منه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فإن ذلك لم ينقل ولم يروه أحد وإذا كان كذلك فإنما هو في الشاك في الحدث فلم يصح نجعله في غيره ممن

لم يشك ووجد الماء وعلى أن قوله لا وضوء إلا من صوت أو ريح يقتضي ظاهره إيجاب الوضوء بوجود الماء لأن الحدث الذي عنه وجبت الطهارة باق لم يرتفع بالتيمم فإن قيل ما تقول لو تيمم ودخل في صلاة العيد أو صلاة الجنازة ثم وجد الماء قيل له ينتقض تيممه ولا يجوز له المضي عليها وتبطل صلاته إذا أمكنه استعمال الماء والدخول في الصلاة لا فرق بينهما وبين الصلاة المكتوبة وجواب آخر عما أورده من الخبر أنه مجمل لا يصح الإيجاب به لأنه مفهوم أنه لم يرد به كل صوت أو ريح يوجد في دار الدنيا وإنما أراد صوتا أو ريحا على صفة لا يدرى ما هو بنفس اللفظ فسبيله أن يكون موقوفا على دلالة فإن ادعوا فيه العموم كان دلالة لنا لأنه إذا سمع صوت الماء وجب عليه بظاهره إذ لم يفرق بين الأصوات
فصل ويستدل بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين أحدهما قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وذلك عموم في جميع المائعات لأنه يسمى غاسلا بها إلا ما قام الدليل فيه ونبيذ التمر مما قد شمله العموم والثاني قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ به بمكة قبل نزول آية التيمم وقبل أن نقل من الماء إلى بدل فدل ذلك على أنه بقي فيه حكم الماء الذي فيه لا على وجه البدل عن الماء إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة فيه مقصورة على الماء دون غيره وقد تكلمنا في هذه المسألة في مواضع من كتبنا وروى يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال الوضوء بالنبيذ الذي لا يسكر وضوء لمن لم يجد الماء وقال عكرمة النبيذ وضوء إذا لم تجد غيره وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال ركبت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - البحر ففنى ماؤهم فتوضؤا بالنبيذ وكرهوا ماء البحر وروى المبارك بن فضالة عن أنس أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ فهؤلاء الصحابة والتابعون قد روي عنهم جواز الوضوء بالنبيذ من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم وروي عن أبي حنيفة في الوضوء بنبيذ التمر ثلاث روايات إحداها وهي المشهورة أنه يتوضأ به ولا

يتيمم وهو قول زفر وروي عنه أنه يتوضأ به ويتيمم وهو قول محمد وروى نوح أن أبي حنيفة رجع عن الوضوء بالنبيذ وقال يتيمم ولا يتوضأ به وقال مالك والثوري وأبو يوسف والشافعي يتيمم ولا يتوضأ به وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه يتوضأ به ويتيمم وكذلك روي عنه المعلى وقال حميد بن عبدالرحمن الرؤاسي صاحب الحسن بن صالح يتوضأ بنبيذ التمر مع وجود الماء إن شاء وروي الوضوء بنبيذ التمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
عبدالله بن مسعود وأبو أمامة روى عن عبدالله من طرق عدة قد بيناها في مواضع
باب صفة التيمم
قال الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه فاختلف الفقهاء في صفته فقال أصحابنا التيمم ضربتان ضربة الوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فقالوا يضرب بيديه على الصعيد يحركهما فيقبل بهما ويدبر على الصعيد ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ثم يعيد إلى الصعيد كفه جميعا فيقبل بهما ويدبر ويرفعهما فينفضهما ثم يمسح بكل كف ظهر ذراعه الأخرى وباطنها إلى المرفقين واتفق مالك والثوري والليث والشافعي أنه ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وروي مثله عن مالك أيضا أنه يتيمم إلى المرفقين فإن تيمم إلى الكوعين لم يعد وقال الأوزاعي تجزي ضربة واحدة للوجه والكوعين وروي نحوه عن عطاء وقال الزهري يمسح يديه إلى الإبط وقال ابن ابي ليلى والحسن بن صالح يتيمم بضربتين يمسح بكل واحدة منها وجهه وذراعيه ومرفقيه وقال أبو جعفر الطحاوي لم نجد عن غيرهما أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه وذراعيه ومرفقيه والحجة لقول أصحابنا ما روى ابن عمر وابن عباس والأسلع عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في صفة التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين واختلفت الرواية عن عمار فروى عنه عبدالرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم - ضربة واحدة للوجه ولليدين وروى عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم - ضربتين وهذا أولى لأنه زائد وخبر الزائد أولى وأيضا فكما أنه لا يجوز في الوضوء الاكتفاء بماء واحد لعضوين بل عليه تجديد الماء لكل عضو كذلك الحكم في التيمم لأنهما طهارتان

وإن كانت إحداهما مسحا والأخرى غسلا ألا ترى أنه يحتاج إلى تجديد الماء لكل رجل في المسح على الخفين وإن لم يكن غسلا وإنما قلنا إن التيمم إلى المرفقين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وحديث الأسلع ذكرا فيه جميعا أن التيمم إلى المرفقين واختلف عن عمار فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صفة التيمم فروى الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أوفوا التيمم إلى المرفقين وروى غيره عن سعيد بن عبدالرحمن عن أبيه عن عمار قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم - عن التيمم فأمرني بضربة واحدة للوجه والكفين ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن زر عن ابن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار وقال فيهما ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه إلى المرفقين وروى سلمة عن أبي مالك عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار أنه تمعك في التراب في الجنابة فذكره للنبي ص - فقال له إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن عمار أنهم مسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالصعيد ضربة واحدة للوجه وضربة لليدين إلى المناكب والآباط فلما اختلفت أحاديث عمار هذا الاختلاف واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم ومع ذلك لم يعزه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وإنما حكى فعل نفسه لم يثبت التيمم إلى المناكب وإن كان له وجه في الاحتمال وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه على وجه المبالغة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم - إنكم الغر المحجلون من آثار الوضوء فمن أراد أن يطول غرته فليفعل فقال أبو هريرة إني أحب أن أطيل غرتي ثم بقي من أخبار عمار مما عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - الوجه والكفان ونصف الذراع إلى المرفقين فكانت رواية من روى إلى المرفقين أولى لوجوه أحدها أنه زائد على روايات الآخرين وخبر الزائد أولى والثاني أن الآية تقتضي اليدين إلى المنكبين لدخولهما تحت الاسم فلا يخرج شيء منه إلا بدليل وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين فبقي حكمه إلى المرفقين والثالث أن في حديث ابن عمرو الأسلع التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهما في روايتهما وقول الزهري يمسح يديه إلى الإبط قول شاذ ومع ذلك لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأما قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه ويديه فخلاف

ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في سائر الأخبار التي ذكر فيها صفة التيمم لأن الذي روي في بعضها ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فلم يجعل ما للوجه لليدين وما لليدين للوجه وفي بعضها ضربة واحدة لهما فقولهما خارج عن حكم الخبرين جميعا وهو مع ذلك خلاف الأصول لأن التيمم مسح فليس تكراره بمسنون كالمسح على الخفين ومسح الرأس ولو كان التكرار مسنونا فيه لكان ثلاثا كالأعضاء المغسولة وإنما
قال أصحابنا في صفة التيمم أنه يضع يديه على الصعيد يقبل بهما ويدبر ليتخلل أصابعه ويصيب جميعها وإنما قالوا ينفضهما لما روى الأعمش عن سفيان عن أبي موسى أن عمارا قال وذكر قصة التيمم فقال إنه ص - قال إنما يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بيده على الأرض وفي حديث عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ضرب بيده إلى الأرض ثم نفخهما وفي حديث الأسلع أنه نفضهما في كل مرة والنفخ والنفض جميعا إنما هو لإزالة التراب عن يده وهذا يدل علىأنه ليس المقصد فيه وصول التراب إلى وجهه ولا حصوله فيه لأنه لو كان المقصد حصول التراب في العضو لما نقضه
باب ما يتيمم به
قال الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا اختلف الفقهاء فيما يجوز به التيمم فقال أبو حنيفة يجزي التيمم بكل ما كان من الأرض التراب والرمل والحجارة والزرنيخ والنورة والطين الأحمر والمرداسنج وما أشبهه وهو قول محمد وزفر وكذلك يجزي بالكحل والآجر المدقوق في قولهما رواه محمد ورواه أيضا الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وإن تيمم ببورق أو رماد أو ملح أو نحوه لم يجز عندهم وكذلك الذهب والفضة في قولهم وقال أبو يوسف لا يجزي إلا أن يكون ترابا أو رملا وإن ضرب يده على صخرة أو حائط لا صعيد عليها أجزأه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف لا يجزيه وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن تيمم بأرض لا صعيد عليها لم يجزه وهو بمنزلة الحائط وهو قوله

الآخر وقال الثوري يجوز بالزرنيخ والنورة ونحوهما وكل ما كان من تراب الأرض ولا يتيمم بالآجر وقال مالك يتيمم بالحصا والجبل وكذلك حكى عنه أصحابه في الزرنيخ والنورة ونحوهما قال وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى الأرض أجزأه وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا وروى أشهب عن مالك أنه لا يتيمم بالثلج وقال الشافعي يتيمم بالتراب مما تعلق باليد قال أبو بكر لما قال الله فتيمموا صعيدا طيبا وكان الصعيد اسما للأرض اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض وأخبرنا أبو عمر غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي قال الصعيد الأرض والصعيد التراب والصعيد القبر والصعيد الطريق فكل ما كان من الأرض فهو صعيد فيجوز التيمم به بظاهر الآية فإن قيل إنما أباح التيمم بالصعيد الطيب والأرض الطيبة هي التي تنبت والجص والزرنيخ لا ينبت شيئا فليس إذا بطيب قال الله تعالى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه قيل له إيجاب التيمم بالصعيد الطاهر دون النجس وأما قوله والبلد الطيب كلوا من طيبات ما رزقناكم فأفاد بذلك ابن عباس ومجاهد وابراهيم رواية والشعبي رواية هو كفارة فإنما يريد به ما ليس بسبخة لأنه قال والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ولا خلاف في جواز التيمم بالسبخة التي لا تخرج مثل ما يخرج غيرها فعلمنا أنه لم يرد بالطيب ما ذكرت وقد روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال الطيب الصعيد الجرز أو قال الأرض الجرز وقال ابن جريج قال قلت لعطاء فتيمموا صعيدا طيبا قال أطيب ماحولك ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما إخباره أن الأرض طهور فكل ما كان من الأرض فهو طهور بمقتضى الخبر والآخر أن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا وسائر ما ذكر هو من الأرض وهي مسجد فيجوز التيمم به بحق العموم وروى عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن أعرابيا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إنا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النفساء والحائض والجنب فقال ص - عليكم بأرضكم فأفاد بذلك جوازه بكل ما كان من الأرض ولما ذكرنا من عموم الآية والخبر أجزنا التيمم بالحجر والحائط لأنه من الأرض لأنها تشتمل على أنواع مختلفة ولا يخرجها اختلاف أنواعها من كون جميعها صعيدا وقال تعالى فتصبح صعيدا زلقا

يعني الأرض الملساء التي لا شيء عليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
يحشر الناس عراة حفاة في صعيد واحد يعني الأرض المستوية التي ليس عليها شيء كقوله تعالى فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا فلا فرق بين ما عليه منها تراب أو لا تراب عليه لوقوع الاسم عليه على الإطلاق فإن قيل إن الآجر وإن كان أصله من الأرض فقد انتقل عن طبع الأرض بالطبخ وحال عن حد التراب فهو كالماء المنتقل عن حاله بما يدخل عليه من الرياحين والأصباغ حتى يحول إلى جنس آخر ويزول عنه الاسم الأول وكالزجاج فلا يجوز الوضوء به قيل له إنما لم يجز الوضوء بالماء الذي ذكرت لغلبة غيره عليه حتى أزال عنه اسم الماء وأما الآجر فلا يخالطه ما يخرجه عن حد الأرض وإنما حدثت فيه صلابة بالإحراق فهو كالحجر فلا يمتنع ذلك التيمم به وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - ضرب يده على الحائط فتيمم به وروي أنه نفض يديه حين وضعهما على التراب وأنه نفخهما فعلمنا أن المقصد فيه وضع اليد على ما كان من الأرض على أنه يحصل في يده أو وجهه شيء منه ولو كان المقصد أن يحصل في يده منه شيء لأمر بحمل التراب على يده ومسح الوجه به كما أمر بأخذ الماء للغسل أو للمسح حتى يحصل في وجهه فلما لم يأمر بأخذ التراب ونفض النبي صلى الله عليه وسلم - يديه ونفخهما علمنا أنه ليس المقصد حصول التراب في وجهه فإن قيل قوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يقتضي حصول شيء منه في الأعضاء الممسوحة به قيل له إنما أفاد بذلك تأكيد وجوب النية فيه لأن من قد تكون لبدء الغاية كقولك خرجت من الكوفة وهذا كتاب من فلان إلى فلان فيكون معناه على هذا ليكن ابتداء الأخذ من الأرض حتى يتصل بالوجه واليد بلا فاصل يفصل بين الأخذ وبين المسح فينقطع حكم النية ويحتاج إلى تجديدها وهو كقولك توضأ من النهر يعني أن ابتداء أخذه من النهر إلى أن اتصل بأعضاء الوضوء من غير قطع ألا ترى أنه لو أخذه من النهر في إناء وتوضأ منه لم يقل إنه توضأ من النهر ويحتمل أن يكون قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يعني من بعضه وأفاد به أن أي بعض منه مسحتم به على جهة الإطلاق والتوسعة وأما الذهب والفضة واللؤلؤ ونحوها فلا يجوز التيمم لأنها ليست من طبع الأرض وإنما هي جواهر مودوعة فيها قال النبي صلى الله عليه وسلم -
حين سئل عن الركاز هو الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم

خلقت واللؤلؤ من الصدف والصدف من حيوان الماء وأما الرماد فهو من الخشب ونحوه ومع ذلك فليس هو من طبع الأرض ولا من جوهرها وأما الثلج والحشيش فهما كالدقيق والحبوب ونحوها فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست من الصعيد ولا يجوز نقل الأبدال إلى غيرها إلا بتوقيف فلما جعل الله الصعيد بدلا من الماء لم يجز لنا إثبات بدل منه إلا بتوقيف ولو جاز ذلك لجاز أن يضرب يده على ثوب لا غبار عليه فيتيمم به ولا جاز التيمم بالقطن والحبوب وقال النبي صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا قال وترابها لنا طهور وقد اتفقوا على امتناع جوازه بالثلج والحشيش إذا وصل إلى الأرض فلو كان مما يجوز التيمم به لجاز مع وجود التراب لأن التيمم بالصعيد بدل فلا ينتقل إلى بدل غيره فإن قيل إذا لم يصل إلى الأرض فهو كالزرنيخ والنورة والمغرة إذا كان بينه وبين الأرض قيل له الزرنيخ ونحوه من الأرض ويجوز التيمم به مع وجود التراب وعدمه وليس هو مع ذلك حائلا بيننا وبين الأرض وإنما الأرض في الأغلب حائلة بيننا وبينه فكيف يشبهه بالثلج والحشيش وإن تيمم بغبار ثوب أو لبد وقد نفضه جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف وإنما جاز عند أبي حنيفة لأن الغبار الذي فيه من الأرض ولا يختلف حكمه في كونه في الثياب أو على الأرض كما أن الماء لا يختلف حكمه في كونه في إناء أو نهر أو ما عصر من ثوب مبلول وذهب أبو يوسف في ذلك كله إلى أن هذا لا يسمى ترابا على الإطلاق فلا يجوز التيمم به ومن أجل ذلك لم يجز التيمم بأرض لا تراب عليها وجعلها بمنزلة الحجر على أصله وروى قتادة عن نافع عن ابن عمر أن عمر صلى على مسح من ثلج أصابه وأرادوا أن يتيمموا فلم يجدوا ترابا فقال لينفض أحدكم ثوبه أو صفة سرجه فتيمم به وروى هشام بن حسان عن الحسن قال إذا لم يجد الماء ولم يصل إلى الأرض ضرب بيده على لبده وسرجه ثم يتيمم به قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه قال أبو بكر الذي يقتضيه الظاهر مسح البعض على ما بيناه في قوله تعالى وامسحوا برؤسكم وإن الباء تقتضي التبعيض إلا أن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل منه وأن عليه مسح الكثير وذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزه وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يجزيه إذا ترك اليسير منه وهذا

أولى بمذهبه لأن من أصله جواز التيمم بالحجارة التي لا غبار عليها وليس عليه تخليل أصابعه بالحجارة وهذا يدل على أن ترك اليسير منه لا يضره وقال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ولا خلاف في وجوب استيعاب البيت كله وغير جائز له ترك شيء منه قوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم قال أبو بكر لما كان الحرج الضيق ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات فيكون القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجا بظاهر هذه الآية وهو نظير قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى ولكن يريد ليطهركم يحتمل معنيين الطهارة من الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه من يده إلى آخره كما قال تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا يحتمل التطهير من الذنوب ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة والنجاسة كقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا وقوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان فانتظم لطهارة الجنابة والطهارة من النجاسة وقوله تعالى وثيابك فطهر فلما احتمل المعنيين فالواجب حمله عليهما فيكون المراد حصول الطهارة على سقوط اعتبار الترتيب وإيجاب النية في الوضوء فإن قيل لما ذكر ذلك عقيب التيمم فينغبي أن يدل على سقوط اعتبار النية في التيمم كما دل على سقوطها في الوضوء قيل له لما كان التيمم يقتضي إحضار النية في فحواه ومقتضاه علمنا أنه لم يرد به إسقاط ما انتظمه واما الوضوء والغسل فلا يقتضيان النية فوجب اعتبار عمومه فيهما وعلى أن قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره فصح اعتبار عمومه في جميع ما انتظمه لفظ إلا ما قام دليل خصوصه
فصل قال ابو بكر قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية وما في ضمنها من الدلائل على المعاني وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وأنزل الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في

قوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فحثنا على التفكر فيه وحرضنا على الاستنباط والتدبر وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين ودل بما نزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها وإن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر وأنا ذاكرنا مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا والله تعالى نسأل التوفيق فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة ما احتمله اللفظ من إرادة القيام والثاني ما اقتضه حقيقة اللفظ من إيجاب الغسل بعد القيام والثالث ما احتمله من القيام من النوم لأن الآية على هذه الحال نزلت والرابع اقتضاؤها إيجاب الوضوء من النوم المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم والخامس احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة مالم يحدث والسادس احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الأحداث والسابع دلالتها على جواز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير ذلك واحتمالها لقول من أوجب الدلك والثامن إيجابها بظاهرها إجراء الماء على الأعضاء وإن مسحها غير جائز على ما بينا وبطلان قول من أجاز المسح في جميع الأعضاء والتاسع دلالتها على جواز الوضوء بغير نية والعاشر دلالتها على وجوب الاقتصار بالفرض على ما واجهنا من المتوضئ بقوله تعالى وجوهكم إذ كان الوجه ما واجهك وإن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء والحادي عشر دلالتها على أن تخليل

اللحية غير واجب إذ لم يكن باطنها من الوجه والثاني عشر دلالتها على نفي إيجاب التسمية في الوضوء والثالث عشر دلالتها على دخول المرافق في الغسل والرابع عشر احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة والخامس عشر دلالتها على جواز مسح بعض الرأس والسادس عشر احتمالها لوجوب مسح الجميع والسابع عشر احتمالها لجواز مسح البعض أي بعض كان منه والثامن عشر دلالتها على أنه غير جائز أن يكون المفروض ثلاث شعرات إذ غير جائز تكليفه مالا يمكن الاقتصار عليه والتاسع عشر احتمالها لوجوب غسل الرجلين والعشرون احتمالها لجواز المسح على قول موجبي استيعابها بالمسح والحادي والعشرون دلالتها على بطلان قول مجيزي مسح البعض بقوله إلى الكعبين والثاني والعشرون دلالتها على عدم إيجاب الجمع بين الغسل والمسح وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء والثالث والعشرون دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخفين ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين والرابع والعشرون دلالتها على جواز المسح علىالخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث لأنها من حيث دلت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلا ما قام دليله والخامس والعشرون دلالتها على قول من أجاز المسح على الجرموقين من حيث دلت على المسح على الخفين لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه وإن كان عليهما خفان والسادس والعشرون دلالتها على المسح على الجوربين وأنه يحتاج إلىدليل في أن المسح على الجوربين وأنه غير مراد والسابع والعشرون دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع جوازه على العمامة والخمار فإن قيل كان ذلك دليلا على بطلان المسح على العمامة فقوله وأرجلكم يدل على بطلان المسح على الخفين قيل له لما كان قوله وأرجلكم محتملا للمسح والغسل وأمكننا استعمالها لها استعملناهما في حالين وإن كان في أحدهما مجازا لئلا نسقط واحدا منهما ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله وامسحوا برؤسكم على المجاز فاستعملناه على حقيقته والثامن والعشرون دلالتها على جواز الوضوء مرة مرة وأن ما زاد فهو تطوع والتاسع والعشرون دلالتها على نفي فرض الاستنجاء وعلى جواز الصلاة مع تركه وعلى بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح والثلاثون دلالتها على بطلان قول من أوجب غسل اليد قبل إدخالهما الإناء وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يجزه

الوضوء والحادي والثلاثون دلالتها على ان مسح الأذنين ليس بفرض وبطلان قول من أجاز المسح عليهما دون الرأس والثاني والثلاثون دلالتها على جواز تفريق الوضوء بإباحة الصلاة بالغسل على أي وجه حصل والثالث والثلاثون دلالتها على بطلان قول موجبي الترتيب في الوضوء والرابع والثلاثون اقتضاؤها لإيجاب الغسل من الجنابة والخامس والثلاثون دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمي به اجتناب أشياء إذ كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضي ذلك اجتنابه وهو ما قد بين حكمه في غيرها والسادس والثلاثون دلالتها على استيعاب البدن كله بالغسل ووجوب المضمضة والاستنشاق فيه بقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا والسابع والثلاثون دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن الوضوء ليس بفرض فيه والثامن والثلاثون إيجاب التيمم للحدث عند عدم الماء والتاسع والثلاثون جوازه للمريض إذا خاف ضرر الماء والأربعون جواز التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد إذ كان المعنى في المرض مفهوما وهو أنه خوف الضرر والحادي والأربعون دلالتها على جواز التيمم للجنب إذ كان قوله تعالى أو لامستم النساء يحتمل الجماع والثاني والأربعون احتمالها أيجاب الوضوء من مس المرأة إذ كان قوله تعالى أو لامستم يحتمل الأمرين والثالث والأربعون دلالتها على أن من خاف العطش جاز له التيمم إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله وهو المريض والمجروح والرابع والأربعون دلالتها على أن الناسي للماء في رحله يجوز له التيمم إذ هو غير واجد للماء والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده والخامس والأربعون دلالتها على أن من معه ماء لا يكفيه لوضوئه فليس عليه استعماله لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء ثم قال تعالى فلم تجدوا ماء يعني ما يكفي لغسلها ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم فدل على أن هذا القدر من الماء غير مراد والسادس والأربعون احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فذكر عدم كل جزء منه إذ كان نكرة في جواز التيمم فإذا وجد قليلا لم يجز الاقتصار على التيمم والسابع والأربعون دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلبا فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها والثامن والأربعون دلالتها على أن من خاف ذهاب الوقت إن توضأ لم يجز له التيمم إذ كان واجدا للماء لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء

بقوله تعالى فاغسلوا من غير ذكر الوقت والتاسع والأربعون دلالتها على أن المحبوس الذي لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا أنه لا يصلي لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الاية من ماء أو تراب والخمسون احتمالها لجواز التيمم للمحبوس إذا وجد ترابا نظيفا والحادي والخمسون جواز التيمم قبل دخول الوقت إذ لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى فلم تجدوا ماء والثاني والخمسون دلالتها على جواز الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ثم قوله في سياقه فتيمموا فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تقتض تكرار التيمم والثالث والخمسون دلالتها على أن على المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة الوضوء لقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف والرابع والخمسون مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به والخامس والخمسون مسح اليدين إلى المرفقين لاقتضاء قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق إياها وأن ما فوق المرفقين إنما خرج بدليل والسادس والخمسون جوازه بكل ما كان من الأرض لقوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا والصعيد الأرض والسابع والخمسون بطلان التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى طيبا والنجس ليس بطيب والثامن والخمسون وجوب النية في التيمم من وجهين أحدهما أن التيمم القصد والثاني قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه على ما بينا من دلالته على أن ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع وأن استعماله لشيء آخر يقطع حكم النية وتوجب الاستيناف والتاسع والخمسون احتمالها لإصابة بعض التراب وجهه ويديه لقوله منه وهو للتبعيض والستون دلالتها على بطلان قول من أجاز التيمم بالثلج والحشيش إذ ليسا من الصعيد والواحد والستون دلالة قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط على إيجاب الطهارة من الخارج من السبيلين وأن دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوهما توجب الوضوء إذ كان الغائط هو المطمئن من الأرض يؤتى لكل ذلك والثاني والستون دلالة قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم على جواز الغسل بسائر المائعات إلا ما خصه الدليل فيستدل به على جواز الوضوء بنبيذ التمر ويستدل به أيضا الحسن بن صالح على جوازه بالخل وما جرى مجراه ويستدل به أيضا على جواز

الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك والثالث والستون دلالة قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا على جوازه بالنبيذ إذ كان في النبيذ ماء وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور ويستدل به أيضا من يجيز الوضوء بالماء المضاف كالمرق وخل التمر ونحوه إذا كان فيه ماء والرابع والستون دلالتها لمن يمنع المستحاضة صلاتي فرض بوضوء واحد على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثان لقوله إذا قمتم إلى الصلاة فقد روي إذا قمتم وأنتم محدثون وهي محدثة لوجود الحدث بعد الطهارة والخامس والستون دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها في الاستحاضة إذا كان التيمم غير رافع للحدث فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو محدث والسادس والستون دلالتها على جواز التيمم في أول الوقت عند عدم الماء لقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا فأمر بالصلاة عند دلوكها وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجودا أو التراب إذا كان معدوما فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت كما اقتضى جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله والسابع والستون دلالتها على امتناع جواز التيمم في الحضر للمحبوس وجواز الصلاة به لقوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله فتيمموا صعيدا فشرط في إباحة التيمم شيئين أحدهما المرض والآخر السفر مع عدم الماء فإذا لم يكن مسافرا وكان مقيما إلا أنه ممنوع منه بحبس فغير جائز صلاته بالتيمم فإن قيل فهو غير واجد للماء وإن كان مقيما قيل له هو كذلك إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين أحدهما السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء والثاني عدمه وإنما أبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب وإنما حصل المنع بفعل آدمي من غير حال العادة فيها والغالب منها عدمه والثامن والستون دلالة قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج على نفي كل ما أوجب الحرج والاحتجاج به عند وقوع الخلاف عن منتحلي مذهب التضييق فيدل ذلك على جواز التيمم وإن كان معه ما إذا خاف على نفسه من العطش فيحبسه لشربه إذ كان فيه نفي الضيق والحرج وعلى نفي إيجاب الترتيب والموالاة في الطهارة وعلى نفي إيجاب

النية فيها وما جرى مجرى ذلك والتاسع والستون دلالة قوله ولكن يريد ليطهركم على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أو غيره ومن موالاة أو تفريق ومن وجوب نية أو عدمها وما جرى مجرى ذلك والسبعون دلالة قوله فاطهروا على سقوط اعتبار تقدير الماء إذ كان المراد التطهير وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم -
بالصاع غير موجب اعتباره والواحد والسبعون أن قوله تعالى فامسحوا برؤسكم فيه دلالة على أن المراد مسحه بالماء فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الحكام منها نصوص ومنها احتمال في الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة وشروطها التي تصح بها وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه علمنا متى يحث عنها واستقصي النظر فيها أدركها من وفق لفهمها والله الموفق
باب
القيام بالشهادة والعدل قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ومعناه كونوا قوامين لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتنابه فهذا هو القيام لله بالحق وقوله شهداء لله بالقسط يعني بالعدل قد قيل في الشهادة أنها الشهادات في حقوق الناس روي ذلك عن الحسن وهو مثل قوله كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم وقيل إنه أراد الشهادة على الناس بمعاصيهم كقوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس فكان معناه أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة وقيل أراد به الشهادة لأمر الله بأنه الحق وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها وقوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا روي أنها نزلت في شأن اليهود حين ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم - ليستعينهم في دية فهموا أن يقتلوه وقال الحسن نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام قال أبو بكر قد ذكر الله تعالى هذا المعنى في هذه السورة في قوله ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فحمله الحسن على معنى الآية الأولى والأولى أن تكون نزلت في غيرهم وأن لا تكون تكرارا وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل وحكم بأن كفر الكافرين وظلمهم لا يمنع من العدل عليهم وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقون وأن يقتصر بهم على

المستحق من القتال والأمر والاسترقاق دون المثلة بهم وتعذيبهم وقتل أولادهم ونسائهم قصدا لإيصال الغم والألم إليهم وكذلك قال عبدالله بن رواحة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر خارصا فجمعوا له شيئا من حليهم وأرادوا دفعه إليه ليخفف في الخرص إن هذا سحت وإنكم لأبغض إلي من عدتكم قردة وخنازير وما يمنعني ذلك من أن أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض فإن قيل لما قال هو أقرب للتقوى ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى فكيف يكون الشيء هو أقرب إلى نفسه قيل معناه هو أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيآت فيكون العدل فيما ذكر داعيا إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي ويحتمل هو أقرب لاتقاء النار وقوله هو أقرب للتقوى فقوله هو راجع إلى المصدر الذي دل عليه الفعل كأنه قال العدل أقرب للتقوى كقول القائل من كذب كان شرا له يعني كان الكذب شرا له وقوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا قد اختلف في المراد بالنقيب ههنا فقال الحسن الضمين وقال الربيع بن أنس الأمين وقال قتادة الشهيد على قومه وقيل إن أصل النقيب مأخوذ من النقب وهو الثقب الواسع فقيل نقيب القوم لأنه ينقب على أحوالهم وعن مكنون ضمائرهم وأسرارهم فسمي رئيس العرفاء نقيبا لهذا المعنى وأما قول الحسن أنه الضمين فإنما أراد به أنه الضمين لتعرف أحوالهم وأمورهم وصلاحهم وفسادهم واستقامتهم وعدولهم ليرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
وكذلك جعل النبي ص - على الأنصار اثني عشر نقيبا على هذا المعنى وقول الربيع بن أنس أنه الأمين وقول قتادة أنه الشهيد يقارب ما قال الحسن أيضا لأنه أمين عليهم وشهيد بما يعملون به ويجري عليهم أمورهم وإنما نقب النبي صلى الله عليه وسلم -
النقباء لشيئين أحدهما لمراعاة أحوالهم وأمورهم وإعلامها النبي ص - ليدبر فيهم بما روي والثاني أنهم إذا علموا أن عليهم نقيبا كانوا أقرب إلى الاستقامة إذ علموا أن أخبارهم تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
ولأن كل واحد منهم يحتشم مخاطبة النبي ص - فيما ينوبه ويعرض له من الحوائج قبله فيقوم عنه النقيب فيه وليس يجوز أن يكون النقيب ضامنا عليهم الوفاء بالعهد والميثاق لأن ذلك معنى لا يصح ضمانه ولا يمكن الضمين فعله ولا القيام به فعلمنا أنه على المعنى الأول وفي هذه الآية دلالة على قبول خبر الواحد لأن نقيب كل قوم إنما نصب ليعرف

أحوالهم النبي صلى الله عليه وسلم - أو الإمام فلولا أن خبره مقبول لما كان لنصبه وجه فإن قيل إنما يدل ذلك على قبول الإثني عشر دون الواحد قيل له إن الإثني عشر لم يكونوا نقباء على جميع بني إسرائيل بجملتهم وإنما كان كل واحد منهم نقيبا على قومه خاصة دون الآخرين قوله تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قال ابن عباس هذا قول جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم - نقمات الله فقالوا لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه قال السدي تزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد وقال الحسن إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد وأما النصارى فقيل إنهم تأولوا ما في الإنجيل في قول المسيح عليه السلام إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وقيل إنهم لما قالوا المسيح ابن الله وكان منهم جرى ذلك على قول العرب هذيل شعراء أي منهم شعراء وعلى قولهم في رهط مسيلمة قالوا نحن أبناء الله أي قال قائل منهم وتابعوه عليه فكان معنى قولهم على هذا الوجه نحن أبناء الله أي منا ابن الله وقال تعالى قل فلم يعذبكم بذنوبكم فيه إبطال دعواهم ذلك وتكذيبهم بها على لسانهم لأنهم كانوا مقرين بأنهم يعذبون بالذنوب ومعلوم أن الأب المشفق لا يعذب ولده قوله تعالى وجعلكم ملوكا قال عبدالله بن عمر وزيد بن أسلم والحسن الملك من له دار وامرأة وخادم وقال غيرهم هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش وقال ابن عباس ومجاهد جعلوا ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام وقال غيرهم بالأموال أيضا وقال الحسن إنما سماهم ملوكا لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم وقال السدي ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله وقال قتادة كانوا أول من ملك الخادم قوله يحرفون الكلم عن مواضعه تحريفهم إياه يكون بوجهين أحدهما بسوء التأويل والآخر بالتغيير والتبديل وأما ما قد استفاض وانتشر في أيدي الكافة فغير ممكن تغيير ألفاظه إلى غيرها لامتناع الطواطؤ على مثلهم وما لم يستفض في الكافة وإنما كان علمه عند قوم من الخاصة يجوز على مثلهم التواطؤ فإنه جائز وقوع تغيير ألفاظه ومعانيه إلى غيرها وإثبات ألفاظ أخر سواها وأما المستفيض الشائع في أيدي الكافة فإنما تحريفهم على تأويلات فاسدة كما تأولت المشبهة والمجبرة كثيرا من الآي المتشابهة على ما تعتقده من مذهبها وتدعي من معانيها ما يوافق اعتقادها دون حملها على معاني المحكمة وإنما قلنا إنه

غير جائز وقوع التحريف من جهة تغيير الألفاظ فيما استفاض وانتشر عند الكافة من قبل أن ذلك لا يقع إلا بالتواطؤ عليه ومثله مع اختلاف هممهم وتباعد أوطانهم لا يجوز وقوع التواطؤ منهم على مثله كما لا يجوز وقوع التواطؤ من المسلمين على تغيير شيء من ألفاظ القرآن إلى غيره ولو جاز ذلك لجاز تواطؤهم على اختراع أخبار لا أصل لها ولو جاز ذلك لما صح أن يعلم بالأخبار شيء وقد علم بطلان هذا القول اضطرار قوله تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم عن الحسن قال إنما قال قالوا إنا نصارى ولم يقل من النصارى ليدل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها وأنهم ليسوا على منهاج الذين اتبعوا المسيح في زمانه من الحواريين وهم الذين كانوا نصارى في الحقيقة نسبوا إلى قرية بالشام تسمى ناصرة فانتسب هؤلاء إليهم وإن لم يكونوا منهم لأن أولئك كانوا موحدة مؤمنين وهؤلاء مثلثة مشركون وقد أطلق الله تعالى في مواضع غيره اسم النصارى لا على وجه الحكاية عنهم في قوله تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله وفي مواضع أخر لأنهم قد عرفوا بذلك وصار ذلك سمة لهم وعلامة قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم إنما لحقتهم سمة الكفر لأنهم قالوا ذلك على جهة التدين به واعتقادهم إياه والإقرار بصحته لأنهم لو قالوا على جهة الحكاية عن غيرهم منكرين له لما كفروا والكفر هو التغطية ويرجع معنى ما ذكر عنهم إلى التغطية من وجهين أحدهما كفران النعمة يجحدها أن يكون المنعم بها هو الله تعالى وإضافتها إلى غيره ممن ادعوا له الإلهية والآخر كفر من جهة الجهل بالله تعالى وكل جاهل بالله كافر لتضييعه حق نعم الله تعالى فكان بمنزلة مضيفها إلى غيره وقوله تعالى فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم معناه من يقدر على دفع أمر الله تعالى إن أراد هلاك المسيح وأمه وهذا من أظهر الاحتجاج وأوضحه لأنه لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله تعالى إذا أراد الله تعالى إهلاكه وإهلاك غيره فلما كان المسيح وسائر المخلوقين سواء في جواز ورود الموت والهلاك عليهم صح أنه ليس بإله إذا لم يكن سائر الناس آلهة وهو مثلهم في جواز الفناء والموت والهلاك عليهم قوله تعالى يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم قال ابن عباس والسدي أرض بيت المقدس وقال مجاهد أرض الطور وقال قتادة أرض الشام

وقيل دمش وفلسطين وبعض الأردن والمقدسة هي المطهرة لأن التقديس التطهير وإنما سماها الله المقدسة لأنها طهرت من كثير من الشرك وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء والمؤمنين فإن قيل لم قال كتب الله لكم وقد قال فإنها محرمة عليهم قيل له روي عن ابن إسحاق أنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرمهم إياها قال أبو بكر ينبغي أن يكون الله قد جعلها على شريطة القيام بطاعته واتباع أمره فلما عصوا حرمهم إياها وقد قيل أنها على الخصوص وإن كان مخرجه مخرج العموم قوله تعالى إن فيها قوما جبارين فإنه قد قيل أن الجبار هو من الإجبار على الأمر وهو الإكراه عليه وجبر العظم لأنه كالإكراه على الصلاح والجبار هدر الأرش لأن فيه معنى الكره والجبار من النخل ما فات اليد طولا لأنه كالجبار من الناس والجبار من الناس الذي يجبرهم على ما يريد والجبار صفة مدح لله تعالى وهو ذم في صفة غيره يتعظم بما ليس له والعظمة لله عز و جل وحده الجبار المتعظم بالاقتدار ولم يزل الله جبارا والمعنى أن ذاته يدعو العارف به إلى تعظيمه والفرق بين الجبار والقهار أن في القهار معنى الغالب لمن ناوأه أو كان في حكم المناوئ بعصيانه إياه قوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب روي عن قتادة في قوله يخافون أنهم يخافون الله تعالى وقال غيره من أهل العلم يخافون الجبارين ولم يمنعهم الخوف من أن يقولوا الحق فأثنى الله عليهما بذلك فدل على فضيلة قول الحق عند الخوف وشرف منزلته وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول الحق إذا رآه وعلمه فإنه لا يبعد من رزق ولا يدني من أجل وقال لأبي ذر رضوان الله عليه وأن لا يأخذك في الله لومة لائم وقال حين سئل عن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر قوله تعالى قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون قوله فاذهب أنت وربك فقاتلا يحتمل معنيين أحدهما أنهم قالوه على وجه المجاز بمعنى وربك معين لك والثاني الذهاب الذي هو النقلة وهذا تشبيه وكفر من قائله وهو أولى بمعنى الكلام لأن الكلام خرج مخرج الإنكار عليهم والتعجب من جهلهم وقد يقال على المجاز قاتله الله بمعنى أن عداوته لهم كعداوة المقاتل المستعلى عليهم بالاقتدار وعظم السلطان قوله تعالى قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي هذا مجاز لأن الإنسان لا يملك نفسه ولا أخاه الحر على الحقيقة وذلك لأن أصل الملك القدرة

ومحال أن يقدر الإنسان على نفسه أو على أخيه ثم أطلق اسم الملك على التصرف فجعل المملوك في حكم المقدور عليه إذ كان له أن يصرفه تصرف المقدور عليه وإنما معناه ههنا أنه يملك تصريف نفسه في طاعة الله وأطلقه على أخيه أيضا إذ كان يتصرف بأمره وينتهي إلى قوله وقال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أحدا من علي بنفسه وذات يده من أبي بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله يعني أني متصرف حيث صرفتني وأمرك جائز في مالي وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لرجل أنت ومالك لأبيك ولم يرد به حقيقة الملك قوله تعالى فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض قال أكثر أهل العلم هو تحريم منع لأنهم كانوا يصبحون بحيث أمسوا ومقدار الموضع ستة فراسخ وقال بعض أهل العلم يجوز أن يكون تحريم التعبد لأن التحريم أصله المنع قال الله تعالى وحرمنا عليه المراضع من قبل يعني به المنع قال الشاعر يصف فرسا ... حالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام ...
يعني إني فارس لا يمكنك صرعي فهذا هو أصل التحريم ثم أجرى تحريم التعبد عليه لأن الله تعالى قد منعه بذلك حكما وصار المحرم بمنزلة الممنوع إذ كان من حكم الله فيه أن لا يقع كما لا يقع الممنوع منه وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ونحوهما تحريم حكم وتعبد لا تحريم منع في الحقيقة ويستحيل اجتماع تحريم المنع وتحريم التعبد في شيء واحد لأن الممنوع لا يجوز حظره ولا إباحته إذ هو غير مقدور عليه والحظر والإباحة يتعلق بأفعالنا ولا يكون فعل لنا إلا وقد كان قبل وقوعه منا مقدورا لنا قوله تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا قال ابن عباس وعبدالله بن عمر ومجاهد وقتادة كان ابني آدم لصلبه هابيل وقابيل وكان هابيل مؤمنا وقابيل كافرا وقيل بل كان رجل سوء وقال الحسن هما من بني إسرائيل لأن علامة تقبل القربان لم يكن قبل ذلك والقربان ما يقصد به القرب من رحمة الله تعالى من أعمال البر وهو فعلان من القرب كالفرقان من الفرق والعدوان من العدو والكفران من الكفر وقيل إذا لم يتقبل من أحدهما لأنه قرب شر ماله قرب الآخر خير ماله فتقبل منه وقيل بل رد قربانه لأنه كان فاجرا وإنما يتقبل الله من المتقين وقيل كانت علامة القبول أن تجيء نار فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود ومنه قوله تعالى حتى يأتينا بقربان تأكله النار إلى قوله تعالى

وبالذي قلتم قوله تعالى لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك قال ابن عباس معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به ولم يرد أني لا أدفعك على نفسي إذا قصدت قتلي فروي أنه قتل غيلة بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها وروي عن الحسن ومجاهد أنه كتب عليهم إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه قال أبو بكر وجائز في العقل ورود العبادة بمثله فإن كان التأويل هو الأول فلا دلالة فيه على جواز ترك الدفع عن نفسه بقتل من أراد قتله وإنما فيه أنه لا يبدأ بقتل غيره وإن كان التأويل هو الثاني فهو منسوخ لا محالة وجائز أن يكون نسخه بشريعة بعض الأنبياء المتقدمة وجائز أن يكون نسخه بشريعة نبينا ص -
والذي يدل على أن هذا الحكم غير ثابت في شريعة النبي ص - وأن الواجب على من قصده إنسان بالقتل أن عليه قتله إذا أمكنه وأنه لا يسعه ترك قتله مع الإمكان قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر الله بقتال الفئة الباغية ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق وقال تعالى ولكم في القصاص حيوة فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل وقال الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فأمر بالقتال لنفي الفتنة ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا حسين بن حريث قال حدثنا الفضل بن موسى عن معمر عن عبدالله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر وقد روي عن النبي ص - في أخبار مستفيضة من قتل دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد وروى عبدالله بن الحسين عن عبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال من أريد ماله فقاتل فقتل فهو شهيد فأخبر ص - أن الدافع عن نفسه وأهله وماله شهيد ولا يكون مقتولا دون ماله إلا وقد قاتل دونه ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم -
في حديث أبي سعيد الخدري من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يسطع فبقلبه وذاك ضعف الإيمان فأمر بتغير المنكر

باليد وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم خلافا أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله وقد قتل علي بن ابي طالب الخوارج حين قصدوا قتل الناس وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - معه موافقون عليه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
آثار في وجوب قتهلم منها حديث أبي سعيد الخدري وأنس أن رسول الله ص - قال سيكون في أمتي اختلاف وفرقة فيهم قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية طوبى لمن قتلهم أو قتلوه في آثار كثيرة مشهورة وقد تلقتها السلف بالقبول واستعملتها في وجوب قتلهم وقتالهم وروى أبو بكر بن عياش قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال قال رجل يا رسول الله الرجل يأتيني يريد مالي قال ذكره الله قال فإن لم يذكر قال استعن عليه من حولك من المسلمين قال فإن لم يكن حولي منهم قال فاستعن عليه السلطان قال فإن نأى عني السلطان قال قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده إنسان بالقتل أن لا يقاتله ولا يدفعه عن نفسه حتى يقتله وتأولوا فيه هذه الآية وقد بينا أنه ليس في الآية دلالة على أنه كف يده عن قتله حين قصده بالقتل وإنما الآية تدل على أنه لا يبدأ بالقتل على ما روي عن ابن عباس ولو ثبت حكم الآية على ما ادعوه لكان منسوخا بما ذكرنا من القرآن والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه وإن أتى على نفسه وتأولت هذه الطائفة التي ذكرنا قولها أحاديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
منها حديث أبي موسى الأشعري عن النبي ص - إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه أراد قتل صاحبه وروى علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن سعد بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة وروى الحسن عن الأحنف بن قيس قال سمعت أبا بكر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه وروى معمر عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إن ابني آدم ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما وروى معمر

عن أبي عمران الجوني عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة قتل قال قلت ألبس سلاحي قال شاركت القوم إذ قال قلت فكيف أصنع يا رسول الله قال إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه فاحتجوا بهذه الآثار ولا دلالة لهم فيها فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلما على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة وأما قوله ص - إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة فإنما عنى به ترك القتال في الفتنة وكف اليد عن الشبهة فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم ينفه بذلك وأما قوله ص -
كن كخير ابني آدم فإنما عنى به أن لا يبدأ بالقتل وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس فلا يجوز قتله قبل أن يقتل بقضية نفي النبي صلى الله عليه وسلم - قتل المسلم إلا بإحدى ما ذكر وهذا لم يقتل بعد فلا يستحق القتل قيل له هذا القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر لأنه أراد قتل غيره فإنما قتلناه بنفس من قصد لقتله لئلا يقتله فأحيينا نفس المقصود بقتلنا إياه ولو كان الأمر في ذلك على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما والإمساك عنه حتى يقتل من يريد قتله لوجب مثله في سائر المحظورات إذا أراد الفاجر ارتكابها من الزنا وأخذ المال أن نمسك عنه حتى يفعلها فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة ومحو آثار الشريعة وما علم مقالة أعظم ضررا على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور المسلمين واستيلائهم على بلدانهم حتى تحكموا فحكموا فيها بغير حكم الله وقد جر ذلك ذهاب الثغور وغلبة العدو حين ركن الناس إلى هذه المقالة في ترك قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على الولاة والجوار والله المستعان ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلما يستحق القتل وأن على الناس كلهم أن يقتلوه قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فكان في

مضمون الآية إباحة قتل المفسد في الأرض ومن أعظم الفساد قصد قتل النفس المحرمة فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه قال أبو بكر ذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت يسعك قتله لقوله ص - من قتل دون ماله فهو شهيد ولا يكون شهيدا إلا وهو مأمور بالقتال إن أمكنه فقد تضمن ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه وقال أيضا في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه قال أبو بكر وذلك لأن قلع السن أعظم من أخذ المال فإذا جاز قتله لحفظ ماله فهو أولى بجواز القتل من أجلها قوله تعالى إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فإنه روي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي وقال غيرهم إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك والمراد إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها ومعنى تبوء ترجع يقال باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزلة وباؤا بغضب الله رجعوا والبواء الرجوع بالقود وهم في هذه الأمر بواء أي سواء لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد قوله تعالى فطوعت له نفسه قتل أخيه قال مجاهد شجعته نفسه على قتل أخيه وقال قتادة زينت له نفسه قتل أخيه وقيل ساعدته نفسه على قتل أخيه والمعنى في جميع ذلك أنه فعله طوعا من نفسه غير متكره له ويقال إن العرب تقول طاع لهذه الظبية أصول الشجر وطاع فلان كذا أي أتاه طوعا ويقال انطاع بمعنى انقاد ويقال طوعت له نفسه ولا يقال أطاعته نفسه على هذا المعنى لأن قولهم أطاع يقتضي قصد أمنه لموافقة معنى الأمر وذلك غير موجود في نفسه وليس كذلك الطوع لأنه لا يقتضي أمرا ولا يجوز أن يكون آمرا لنفسه ولا ناهيا لها إذ كان موضوع الأمر والنهي ممن هو أعلى لمن دونه وقد يجوز أن يوصف بفعل يتناوله ولا يتعدى إلى غيره كقولك حرك غيره وقتل نفسه كما يقال حرك غيره وقتل غيره قوله تعالى فأصبح من الخاسرين يعني خسر نفسه بإهلاكه إياها لقوله تعالى إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ولا دلالة في قوله فأصبح من الخاسرين على أن القتل كان ليلا وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلا وجائز أن يكون نهارا وهو كقول الشاعر

أصبحت عاذلتي معتلة ...
وليس المراد النهار دون الليل وكقول الآخر ... بكرت علي عواذلي ... يلحينني والومهته ...
ولم يرد بذلك أول النهار دون آخره وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم
باب
دفن الموتى قال الله تعالى فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك لم يدر كيف يصنع به حتى رأى غرابا جاء يدفن غرابا ميتا وفي هذا دليل على فساد ما روي عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل لأنه لو كان كذلك لكان قد عرف الدفن بجريان العادة فيه قبل ذلك وهو الأصل في سنة دفن الموتى وقال تعالى ثم أماته فأقبره وقال تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءا وأمواتا وقيل في معنى سوأة أخيه وجهان أحدهما جيفة أخيه لأنه لو تركه حتى ينتن لقيل لجيفة وسوأة والثاني عورة أخيه وجائز أن يريد الأمرين جميعا لاحتمالهما وأصل السوأة التكره ومنه ساءه يسوءه سوء إذا أتاه بما يتكرهه وقص الله علينا قصته لنعتبر بها ونتجنب قبح ما فعله القاتل منهما وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما وقال الله تعالى فأصبح من النادمين قيل إنه ندم على القتل على غير جهة القربة إلى الله تعالى منه وخوف عقابه وإنما كان ندمه من حيث لم ينتفع بما فعل وناله ضرر بسببه من قبل أبيه وأمه ولو ندم على الوجه المأمور به لقبل الله توبته وغفر ذنوبه قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بني إسرائيل ما ذكر في الآية وهو لئلا يقتل بعضهم بعضا فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمنة بمعان يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني التي علق بها الأحكام وجعلت عللا وأعلاما لها وقوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض يدل على أن من قتل نفسا بنفس فلا لوم عليه وعلى أن من قتل

نفسا بغير نفس فهو مستحق للقتل ويدل أيضا على أن الفساد في الأرض معنى يستحق به القتل وقوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا قد قيل فيه وجوه أحدها تعظيم الوزر والثاني أن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه سن القتل وسهله لغيره فكان كالمشارك له فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال ما من قاتل ظلما إلا وعلى ابن آدم كفل من الإثم لأنه سن القتل وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة والثالث أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه فيكون كلهم خصومه في ذلك حتى يقاد منه كأنه قتل أولياءهم جميعا وهذا يدل على وجوب القود على الجماعة إذا قتلت واحدا إذ كانوا بمنزلة من قتل الناس جميعا وقوله تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال مجاهد من أحياها نجاها من الهلاك وقال الحسن إذا عفا عن دمها وقد وجب القود وقال غيرهم من أهل العلم زجر عن قتلها بما فيه حياتها قال أبو بكر يحتمل أن يريد بإحيائها معونة الولي على قتل القاتل واستيفاء القصاص منه حياة كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة ويحتمل أن يريد بإحيائها أن يقتل القاصد لقتل غيره ظلما فيكون محييا لهذا المقصود بالقتل ويكون كمن أحيا الناس جميعا لأن ذلك يردع القاصدين إلى قتل غيرهم عن مثله فيكون في ذلك حياة لسائر الناس من القاصدين للقتل والمقصودين به فتضمنت هذه الآية ضروبا من الدلائل على الأحكام منها دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعان يجب اعتبارها بوجودها وهذا يدل على صحة القول بالقياس والثاني إباحة قتل النفس بالنفس والثالث أن من قتل نفسا فهو مستحق للقتل والرابع من قصد قتل مسلم ظلما فهو مستحق القتل لأن قوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدل على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها والخامس الفساد في الأرض يستحق به القتل والسادس احتمال قوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا أن عليه مأثم كل قاتل عبده لأنه سن القتل وسهله لغيره والسابع أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه والثمن دلالتها على وجوب قتل الجماعة إذا قتلوا واحدا والتاسع قوله تعالى فكأنما أحيا الناس جميعا على معونة الولي على قتل القاتل والعاشر دلالته أيضا على قتل من قصد قتل غيره ظلما والله أعلم بالصواب

باب
حد المحاربين قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية قال أبو بكر قوله تعالى يحاربون الله هو مجاز ليس بحقيقة لأن الله يستحيل أن يحارب وهو يحتمل وجهين أحدهما أنه سمى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه فسموا محاربين تشبيها لهم بالمحاربين من الناس كما قال تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وقوله إن الذين يحادون الله ورسوله ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يباين صاحبه ومعنى المحادة أن يصير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة وذلك يستحيل على الله تعالى إذ ليس بذي مكان فيشاق أو يحاد أو تجوز عليه المباينة والمفارقة ولكنه تشبيه بالمعادين إذ صار كل واحد منهما في شق وناحية على وجه المباينة وذلك منه على وجه المبالغة في إظهار المخالفة والمباينة فكذلك قوله تعالى يحاربون الله يحتمل أن يكونوا سموا بذلك تشبيها بمظهري الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس وخصت هذه الفرقة بهذه السمة لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح ولم يسم بذلك كل عاص لله تعالى إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المبالغة في أخذ الأموال وقطع الطريق ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله كما قال تعالى إن الذين يؤذون الله والمعنى يؤذون أولياء الله ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله لكانوا مرتدين بإظهار محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد يصح إطلاق لفظ المحاربة لله ولرسوله على من عظمت جريرته بالمجاهرة بالمعصية وإن كان من أهل الملة والدليل عليه ما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رأى معاذا يبكي فقال ما يبكيك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول اليسير من الربا شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة فأطلق عليهم اسم المحاربة ولم يذكر الردة ومن حارب مسلما على أخذ ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى بذلك وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم فاستحق من حاربهم اسم المحارب لله ولرسوله وإن لم يكن مشركا فثبت بما ذكرنا أن قاطع الطريق يقع عليه اسم المحارب لله عز و جل ولرسوله

ويدل عليه أيضا ما روى أشعث عن الشعبي عن سعد بن قيس أن حارثة بن بدر حارب الله وسوله وسعى في الأرض فسادا وتاب من قبل أن يقدر عليه فكتب علي رضي الله عنه إلى عامله بالبصرة أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وتاب من قبل أن نقدر عليه فلا تعرضن إلا بخير فأطلق عليه اسم المحارب لله ورسوله ولم يرتد وإنما قطع الطريق فهذه الأخبار وما ذكرنا من معنى الآية دليل على أن هذا الاسم يلحق قطاع الطريق وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين مع أنه لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة وحكي عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين وهو قول ساقط مردود مخالف للآية وإجماع السلف والخلف ويدل على أن المراد به قطع الطريق من أهل الملة قوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها وأيضا فإن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحد عنهم وأيضا فإن المرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة فعلمنا أنه لم يرد المرتد وأيضا ذكر فيه نفي من لم يتب قبل القدرة عليه والمرتد لا ينفى فعلمنا أن حكم الآية جار في أهل الملة وأيضا فإنه لا خلاف أن أحدا لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر وأن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عرض عليه الإسلام فإن اسلم وإلا قتل ولا تقطع يده ولا رجله وأيضا فإن الآية أوجبت قطع يد المحارب ورجله ولم توجب منه شيئا آخر ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره وأيضا ليس من حكم المرتدين الصلب فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة ويدل عليه أيضا قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال في المحاربين إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم فشرط في زوال الحد عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها فلما علم انه لم يرد

بالمحاربين أهل الردة فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالة على بطلان قول من ادعى خصوص الآية في المرتدين فإن قال قائل قد روى قتادة وعبدالعزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم -
أناس من عرينة فقال لهم رسول الله ص - لو خرجتم إلى ذودنا فشربتم من ألبانها وأبوالها ففعلوا فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقتلوه ورجعوا كفارا واستاقوا ذود رسول الله ص - فأرسل في طلبهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا قيل له إن خبر العرنيين مختلف فيه فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا وزاد فيه أنه كان سبب نزول الآية وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في أصحاب أبي برزة الأسلمي وكان موادعا للنبي ص - فقطعوا الطريق على قوم جاؤا يريدون الإسلام فنزلت فيهم وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين فلم يذكر مثل قصة العرنيين وروي عن ابن عمر أنها نزلت في العرنيين ولم يذكر ردة ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين فإن كان نزولها في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم لأنه لا حكم للسبب عندنا وإنما الحكم عندنان لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب وأيضا فإن من ذكر نزولها في شأن العرنيين فإنه ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية شيئا وإنما تركهم في الحرة حتى ماتوا ويستحيل نزول الآية في الأمر بقطع من قد قطع وقتل من قد قتل لأن ذلك غير ممكن فعلمنا أنهم غير مرادين بحكم الآية ولأن الآية عامة في سائر من يتناوله الاسم غير مقصور الحكم على المرتدين وقد روى همام عن قتادة عن ابن سيرين قال كان أمر العرنيين قبل أن ينزل الحدود فأخبر أنه كان قبل نزول الآية ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم -
سمل أعينهم وذلك منسوخ بنهي النبي ص - عن المثلة وأيضا لما كان نزول الآية بعد قصة العرنيين واقتصر فيها على ما ذكر ولم يذكر سمل الأعين فصار سمل الأعين منسوخا بالآية لأنه لو كان حدا معه لذكره وهو مثل ما روي في خبر عبادة في البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم ثم أنزل الله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فصار الحد هو ما في الآية دون غيره وصار النفي منسوخا بها ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب وليس فيها ذكر

سمل الأعين وغير جائز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم وأن يكونوا مرادين بها لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي صلى الله عليه وسلم - حكمها عليهم فلما لم يصلبوا وسملهم دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتا حينئذ فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين وأنه عام في سائر المحاربين
ذكر الاختلاف في ذلك
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في حكم الآية من وجوه أنا ذاكرها بعد اتفاقهم على أن حكم الآية جار في أهل الملة إذا قطعوا الطريق فروى الحجاج بن أرطاة عن عطية العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية قال إذا حارب الرجل فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب فإن قتل ولم يأخذ المال قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفي وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل إن الإمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله وإن شاء قتله ولم يصلبه فإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل عزر ونفي من الأرض ونفيه حبسه وفي رواية أخرى أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا وهو قول الحسن رواية وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب وقال الآخرون الإمام مخير فيهم إذا خرجوا يجري عليهم أي هذه الأحكام شاء وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وممن قال ذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن رواية وعطاء بن أبي رباح وقال ابو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لا خلاف بين أصحابنا في ذلك فإن قتلوا وأخذوا المال فإن أبا حنيفة قال للإمام أربع خيارات إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وإن شاء صلبهم وإن شاء قتلهم وترك القطع وقال أبو يوسف ومحمد إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يصلبون ويقتلون ولا يقطعون وروي عن أبي يوسف في الإملاء أنه قال إن شاء قطع يده ورجله وصلبه فأما

الصلب فلا أعفيه منه وقال الشافعي في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا إذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا خافوا السبيل نفوا وإذا هربوا طلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحدود إلا من تاب قبل أن نقدر عليه سقط عنه الحد ولا يسقط حقوق الآدميين ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة ويقطع من أخذ ربع دينار فصاعدا وقال مالك إذا أخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإمام مخير في إقامة أي الحدود التي أمر الله تعالى بها قتل المحارب أو لم يقتل أخذ مالا أو لم يأخذ الإمام مخير في ذلك إن شاء قتله وإن شاء قطعه خلافا وإن شاء نفاه ونفيه حبسه حتى يظهر توبة فإن لم يقدر على المحارب حتى يأتيه تائبا وضع عنه حد المحاربة القتل والقطع والنفي وأخذ بحقوق الناس وقال الليث بن سعد الذي يقتل ويأخذ المال يصلب فيطعن بالحربة حتى يموت والذي يقتل فإنه يقتل بالسيف وقال ابو الزناد في المحاربين ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب من قتل أو صلب أو قطع أونفي قال أبو بكر الدليل على أن حكم الآية على الترتيب الذي ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس فنفى ص - قتل من خرج عن هذه الوجوه الثلاثة ولم يخصص فيه قاطع الطريق فانتفى بذلك قتل من لم يقتل من قطاع الطريق وإذا انتفى قتل من لم يقطع وجب قطع يده ورجله إذا أخذ المال وهذا لا خلاف فيه فإن قيل روى إبراهيم بن طهمان عن عبدالعزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان ورجل قتل رجلا فقتل به ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض قيل له قد روي هذا الحديث من وجوه صحاح ولم يذكر فيه قتل المحارب ورواه عثمان وعبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه قتل المحارب والصحيح منها ما لم يذكر ذلك فيه لأن المرتد لا محال مستحق للقتل بالاتفاق وهو أحد الثلاثة المذكورين في خبر هؤلاء فلم يبق من الثلاثة غيرهم ويكون المحارب إذا لم يقتل خارجا منهم وإن صح ذكر المحارب فيه فالمعنى فيه إذا قتل حتى يكون موافقا للإخبار الآخر وتكون فائدته جواز قتله على وجه الصلب فإن قيل فقد ذكر فيه أو

ينفى من الأرض قيل له لا يمتنع أن يكون مبتدأ قد أضمر فيه إن لم يقتل فإن قيل فقد يقتل الباغي وإن لم يقتل وهو خارج عن الثلاثة المذكورين في الخبر قيل له ظاهر الخبر ينفي قتله وإنما قتلناه بدلالة الاتفاق وبقي حكم الخبر في نفي قتل المحارب إلا أن يقتل على العموم وأيضا فإن الخبر إنما ورد فيمن استحق القتل بفعل سبق منه واستقر حكمه عليه كالزاني المحصن والمرتد والقاتل والباغي لا يستحق القتل على هذا الوجه وإنما يقتل على وجه الدفع ألا ترى أنه لو قعد في بيته ولم يقتل وإن كان معتقدا لمقالة أهل البغي فثبت بما وصفنا أن حكم الآية على الترتيب على الوجه الذي بينا لا على التخيير ويدل على أن في الآية ضميرا ولا تخيير فيها اتفاق الجميع على أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا لم يجز للإمام أن ينفيه ويترك قطع يده ورجله وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل أو الصلب الصلب ولو كان الأمر على ما قال القائلون بالتخيير لكان التخيير ثابتا فيما إذا أخذوا المال وقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا فلما كان ذلك على ما وصفنا ثبت أن في الآية ضميرا وهو أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا أن ينفوا من الأرض إن خرجوا ولم يفعلوا شيئا من ذلك حتى ظفر بهم واحتج القائلون بالتخيير بظاهر الآية وبقوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فدل على أن الفساد في الأرض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وليس ما ذكروه بموجب للتخيير مع قيام الدلالة على ضمير الآية وتعلق الحكم به دون مقتضى ظاهرها وهو ما قدمنا من أنها لو كانت موجبة للتخيير ولم يكن فيها ضمير لكان الخيار باقيا إذا قتلوا وأخذوا المال في العدول عن قتلهم وقطعهم إلى نفيهم فلما ثبت أنه غير جائز العدول عن القتل والقطع في هذه الحال صح أن معناها أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجهلم من خلاف إن أخذوا المال فإن قال قائل إنما أوجب قتلهم إذا قتلوا وقطعهم إذا أخذوا المال ولم يجز العدول عنه إلى النفي لأن القتل على الإنفراد يستحق به القتل وإن لم يكن محاربا وأخذ المال يستحق به القطع إذا كان سارقا فلذلك لم يجز في هذه الحال العدول إلى النفي وترك القتل أو القطع قيل له قتل المحارب في هذه الحال وقطعه حد ليس على وجه

القود ألا ترى أن عفو الأولياء غير جائز فيه فثبت أنه إنما يستحق ذلك على وجه الحد لأنه قتل على وجه المحاربة ووجب قطعه لأخذه المال على وجه المحاربة فإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا لم يجز أن يقتل ولا يقطع لأنه لو كان القتل واجبا حدا لما جاز العدول عنه إلى النفي وكذلك القطع كما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال لم يجز العدول عن القتل أو القطع إلى النفي إذ كان وجوب ذلك على وجه الحد وفي ذلك دليل على أن المحارب لا يستحق القتل إلا إذا قتل ولا القطع إلا إذا أخذ المال ويصلح أن يكون ذلك دليلا مبتدأ لأن القتل إذا وجب حدا لم يجز العدول عنه إلى غيره وكذلك القطع كالزاني والسارق فلما جاز للإمام أن يعدل عن قتل المحارب الذي لم يقتل إلى النفي علمنا أنه غير مستحق للقتل بنفس الخروج وكما لو قتل لم يجز أن يعفى عن قتله فلو كان يستحق القتل بنفس المحاربة لما جاز أن يعدل عنه كما لم يجز أن يعدل عنه إذا قتل وأما قوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض وتسويته بين قتل النفس بغير النفس وبين الفساد في الأرض فإنما المراد الفساد في الأرض الذي يكون معه قتل أو قتله في حال إظهار الفساد فيقتل على وجه الدفع ونحن قد نقتل المحارب الذي لم يقتل على وجه الدفع وإنما الكلام فيمن صار في يد الإمام قبل أن يتوب هل يجوز أن يقتله إذا لم يقتل فأما على وجه الدفع فلا خلاف فيه فجائز أن يكون المراد من قوله تعالى أو فساد في الأرض على هذا الوجه لأن الفساد في الأرض لو كان يستحق به القتل لما جاز العدول عنه إلى النفي فلما جاز عند الجميع نفيه دل على أنه غير مستحق للقتل فصح بما وصفنا قول من قال بإيجاب ترتيب حكم الآية على الوجه الذي ذكرنا وأيضا فإن الوصول إلى القتل لا يستحق بأخذ المال ولا القصد له ومعلوم أن المحاربين إنما خرجوا لأخذ المال فإن كان القتل غير مستحق لأخذ المال في الأصول فالقصد لأخذه أولى أن لا يستحق به القتل على وجه الحد فإذا خرج المحاربون وقتلوا قتلوا حدا لأجل القتل وليس قتلهم هذا لأن القتل يستحق به القتل في الأصول إلا أنه لما قتله على جهة إظهار الفساد في الأرض تأكد حكمه بأن أوجب قتله علىأنه حق لله تعالى لا يجوز فيه عفو الأولياء فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما في الآية من ذكر ذلك وقطع اليد والرجل يستحق بأخذ المال في الأصول ألا ترى أن السارق تقطع يده فإن

عاد فسرق قطعت رجله إلا أنه غلظت عقوبته حين كان أخذه للمال على وجه الفساد في الأرض فإن قتل وأخذ فالإمام فيه بالخيار على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا فيه فكان عند أبي حنيفة له أن يجمع عليه قطع اليد والرجل والصلب والقتل وأخذ المال على وجه المحاربة صار جميع ذلك حدا واحدا ألا ترى أن القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد كالقطع وأن عفو الأولياء فيه لا يجوز فدل ذلك على أنهما جميعا حد واحد فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعا وله أن يقتلهم فيدخل فيه قطع اليد والرجل وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في التبدئة ببعض ذلك دون بعض فله أن يبدأ بالقتل أو بالقطع فإن قال قائل هلا قتلته وأسقطت القطع كمن سرق وقتل أنه يقتل ولا يقطع قيل له ما بينا من أن جميع ذلك حد واحد مستحق بسب واحد هو القتل وأخذ المال على وجه المحاربة وأما السرقة والقتل فكل واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي به استحق الآخر وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ أحد الحدين وليس في مسئلتنا درء أحد الحدين وإنما هو حد واحد فلم يلزمنا إسقاط بعضه وإيجاب بعض وهو مخير أيضا بين أن يقتله صلبا وبين الاقتصار على القتل دون الصلب لقوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا وذكر أبو جعفر الطحاوي أن الصلب المذكور في آية المحارب هو الصلب بعد القتل في قول أبي حنيفة وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه يصلب ثم يقتل يبعج بطنه برمح أو غيره فيقتل وقال أبو الحسن هذا هو الصحيح وصلبه بعد القتل لا معنى له لأن الصلب عقوبة وذلك يستحيل في الميت فقيل له لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعا لغيره فقال لأن الصلب إذا كان موضوعه للتعذيب والعقوبة لم يجز إيقاعه إلا على الوجه الموضوع في الشريعة فإن قال قائل إذا كان الله تعالى إنما أوجب القتل أو الصلب على وجه التخيير فكيف يجوز جمعهما عليه قيل له أراد قتلا على غير وجه الصلب إذا قتل ولم يأخذ المال وأراد قتلا على وجه الصلب إذا قتل وأخذ المال فغلظت العقوبة عليه في صفة القتل لجمعه بين القتل وأخذ المال وروى مغيرة عن إبراهيم قال يترك المصلوب من المحاربين على الخشبة يوما وقال يحيى بن آدم ثلاثة أيام واختلف في النفي فقال أصحابنا هو حبسه حيث يرى الإمام وروي مثله عن إبراهيم وروي عن إبراهيم رواية أخرى وهو أن ينفيه طلبه وقال مالك ينفى إلى بلد آخر غير

البلد الذي يستحق فيه العقوبة فيحبس هناك وقال مجاهد وغيره هو أن يطلب الإمام الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام قال أبو بكر فأما من قال إنه ينفى عن كل بلد يدخل فهو إنما ينفيه عن البلد الذي هو فيه والإقامة فيه وهو حينئذ غير منفي من التصرف في غيره فلا معنى لذلك ولا معنى أيضا لحبسه في بلد غير بلده إذ الحبس يستوي في البلد الذي أصاب فيه وفي غيره فالصحيح إذا حبسه في بلده وأيضا فلا يخلو قوله تعالى أو ينفوا من الأرض من أن يكون المراد به نفيه من جميع الأرض وذلك محال لأنه لا يمكن نفيه من جميع الأرض إلا بأن يقتل ومعلوم أنه لم يرد بالنفي القتل لأنه قد ذكر في الآية القتل مع النفي أو يكون مراده نفيه من الأرض التي خرج منها محاربا من غير حبسه لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل وكف أذاه عن المسلمين وهو إذا صار إلى بلد آخر فكان هناك مخلا كانت معرته قائمة على المسلمين إذا كان تصرفه هناك كتصرفه في غيره أو أن يكون المراد نفيه عن دار الإسلام وذلك ممتنع أيضا لأنه لا يجوز نفي المسلم إلى دار الحرب لما فيه من تعريضه للردة ومصيره إلى أن يكون حربيا فثبت أن معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض إلا موضع حبسه الذي لا يمكنه فيه العبث والفساد وقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم يدل على أن إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم قوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها كقوله تعالى إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فأخرج آل لوط من جملة المهلكين وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين وكقوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فكان إبليس خارجا من جملة الساجدين فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم فقد نفى إيجاب الحد عليهم وقد أكد ذلك بقوله تعالى فاعلموا أن الله غفور رحيم كقوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم فإن قال قائل قد قال في السرقة فمن تاب من بعد ظلمه

وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ومع ذلك فليست توبة السارق مسقطة للحد عنه قيل له لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من مبتدأ مستغنيا بنفسه عن تضمينه بغيره وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة وقوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم مفتقر في صحته إلى ما قبله فمن أجل ذلك كان مضمنا به ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة وكالزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس كالسارق إذا درئ عنه الذي يكون به محاربا فقال أبو حنيفة من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا أو بين الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا فلا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحارى وحكى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن الأمصار وغيرها سواء وهم المحاربون يقام حدهم وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين يكبسون الناس ليلا في دورهم في المصر أنهم بمنزلة قطاع الطريق يجري عليهم أحكامهم وحكي عن مالك أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية وذكر عنه أيضا قال المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير نائرة ولم يفرق ههنا بين المصر وغيره وقال الشافعي قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال والصحارى والمصر واحد وقال الثوري لا يكون محاربا بالكوفة حتى يكون خارجا منها قال أبو بكر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال لا قطع على خائن ولا مختلس فنفى ص - القطع عن المختلس والمختلس هو الذي يختلس الشيء وهو ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمتهب كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلسا غاصبا لا يجري عليه أحكام قطاع الطريق وإذا كانت جماعة ممتنعة

في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محاربا في المصر لعدم الامتناع منه فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالسلب والقتال فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في المصر فإن قال قائل إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم قيل له صاروا محاربين بالامتناع والخروج سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره
فصل واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم واعتبر الشافعي ربع دينار كما اعتبره في
قطع السارق ولم يعتبره مالك لأنه يروى إجراء الحكم عليها بالخروج قبل أخذ المال
فصل وقال أصحابنا إذا كان الذي ولي القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجري الحكم عليهم وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا بإجتماعهم جميعا فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة وهو المنعة حصل باجتماعهم جميعا وجب أن لا يختلف حكم من ولي القتل منهم ومن كان عونا أو ظهيرا والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال منهم ومن كان منهم ردأ وظهيرا ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف إذ كان من لم يل القتال يجري عليه الحكم
باب قطع السارق
قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما روى سفيان عن جابر عن

عامر قال قراءة عبدالله فاقطعوا أيديهما وروى ابن عوف عن إبراهيم في قراءتنا فاقطعوا أيمانهما قال أبو بكر لم تختلف الأمة في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمين فعلمنا أن مراد الله تعالى بقوله أيديهما أيمانهما فظاهر اللفظ في جمعه الأيدي من الإثنين يدل على أن المراد اليد الواحدة من كل واحد منهما كقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما لما كان لكل واحد منهما قلب واحد أضافه إليها بلفظ الجمع كذلك لما أضاف الأيدي إليهما بلفظ الجمع دل على أن المراد إحدى اليدين من كل واحد منهما وهي اليمنى وقد اختلف في قطع اليسرى في المرة الثالثة وفي قطع الرجل اليمنى في الرابعة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى ولم تختلف الأمة في خصوص هذه الآية لأن اسم السارق يقع على سارق الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم - إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته قيل له يا رسول الله وكيف يسرق صلاته قال لا يتم ركوعها وسجودها ويقع على سارق اللسان روى ليث بن سعد قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبدالله عن أبي رهم عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أسرق السارق الذي يسرق لسان الأمير فثبت بذلك أنه لم يرد كل سارق والسرقة اسم لغوي مفهوم المعنى عند أهل اللسان بنفس وروده غير محتاج إلى بيان وكذلك حكمه في الشرع وإنما علق بهذا الاسم حكم القطع كالبيع والنكاح والإجارة وسائر الأمور المعقولة معانيها من اللغة قد علقت بها أحكام يجب اعتبار عمومها بوجود الاسم إلا ما قام دليل خصوصه فلو خلينا وظاهر قوله السارق والسارقة لوجب إجراء الحكم على الاسم إلا ما خصه الدليل إلا أنه قد ثبت عندنا أن الحكم متعلق بمعنى غير الاسم يجب اعتباره في إيجابه وهو الحرز والمقدار فهو مجمل من جهة المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إثباته فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار والدليل على إجماله وامتناع اعتبار عمومه ما حدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عبدالرحمن بن المبارك قال حدثنا وهيب عن أبي واقد قال حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن وروى ابن لهيعة عن أبي النضر عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تقطع يد السارق إلا فيما بلغ ثمن المجن فما فوقه وروى سفيان عن منصور عن مجاهد عن عطاء عن أيمن الحبشي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أدنى ما يقطع فيه السارق

ثمن المجن فثبت بهذه الأخبار أن حكم الآية في إيجاب القطع موقوف على ثمن المجن فصار ذلك كوروده مع الآية مضموما إليها وكان تقديرها والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذا بلغت السرقة ثمن المجن وهذا لفظ مفتقر إلى البيان غير مكتف بنفسه في إثبات الحكم وما كان هذا سبيله لم يصح الاحتجاج بعمومه ووجه آخر يدل على إجمالها في هذا الوجه وهو ما روى عن السلف في تقويم المجن فروي عن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم في آخرين أن قيمته كانت عشرة دراهم وقال ابن عمر قيمته ثلاثة دراهم وقال أنس وعروة والزهري وسليمان بن يسار قيمته خمسة دراهم وقالت عائشة ثمن المجن ربع دينار ومعلوم أنه لم يكن ذلك تقويما منهم لسائر المجان لأنها تختلف كاختلاف الثياب وسائر العروض فلا محالة أن ذلك كان تقويما للمجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ومعلوم أيضا أنهم لم يحتاجوا إلى تقويمه من حيث قطع فيه النبي ص - إذ ليس في قطع النبي صلى الله عليه وسلم - في شيء بعينه دلالة على نفي القطع عما دونه كما أن قطعه السارق في المجن غير دال على أن حكم القطع مقصور عليه دون غيره إذ كان ما فعله بعض ما تناوله لفظ العموم على حسب حدوث الحادثة فإذا لا محالة قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف لهم حين قطع السارق على نفي القطع فيما دونه فدل ذلك على إجمال حكم الآية في المقدار كدلالة الأخبار التي قدمناها لفظا من نفي القطع عما دونه قيمة المجن فلم يجز من أجل ذلك اعتبار عموم الآية في إثبات المقدار ووجب طلب معرفة قيمة المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم - وليس إجمالها في المقدار بموجب إجمالها في سائر الوجوه من الحرز وجنس المقطوع فيه وغير ذلك بل جائز أن يكون عموما في هذه الوجوه مجملا في حكم المقدار فحسب كما أن قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة عموم في جهة الأموال الموجب فيها الصدقة مجمل في المقدار الواجب منها وكان شيخنا أبو الحسن يذهب إلى أن الآية مجملة من حيث علق فيها الحكم بمعان لا يقتضيها اللفظ من طريق اللغة وهو الحرز والمقدار والمعان المعتبرة في إيجاب القطع متى عدم منها شيء لم يجب القطع مع وجود الاسم لأن اسم السرقة موضوع في اللغة لأخذ الشيء على وجه الاستخفاء ومنه قيل سارق اللسان وسارق الصلاة تشبيها بأخذ الشيء على وجه الاستخفاء والأصل فيها ما ذكرنا وهذه المعاني التي ذكرنا اعتبارها في الإيجاب القطع

لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة وإنما ثبت ذلك من جهة الشرع فصارت السرقة في الشرع اسما شرعيا لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قامت دلالته واختلف في مقدار ما يقطع فيه السارق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا أو قيمتها من غيرها وروي عن أبي يوسف ومحمد أنه لا قطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دارهم مضروبة وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سرق ما يساوي عشرة دارهم مما يجوز بين الناس قطع وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وقال الشافعي فلو غلت الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قطع إلا في ربع دينار وإن كان ذلك نصف درهم وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قطع في ربع دينار وذلك خمسة وعشرون درهما وروي عن الحسن البصري أنه قال لا يقطع في درهم واحد وهو قول شاذ قد اتفق الفقهاء على خلافه وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار لا يقطع إلا في خمسة دراهم وروي نحوه عن عمر وعلي أنهما قالا لا يقطع إلا في خمسة وقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأبو جعفر وعطاء وإبراهيم لا قطع إلا في عشرة دراهم قال ابن عمر يقطع في ثلاثة دراهم وروي عن عائشة القطع في ربع دينار وروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا لا تقطع اليد إلا في أربعة دراهم والأصل في ذلك أنه لما ثبت باتفاق الفقهاء من السلف ومن بعدهم أن القطع لا يجب إلا في مقدار متى قصر عنه لم يجب وكان طريق إثبات هذا الضرب من المقادير التوقيف أو الاتفاق ولم يثبت التوقيف فيما دون العشرة وثبت الاتفاق في الشعرة أثبتناها ولم نثبت ما دونها لعدم التوقيف والاتفاق فيه ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لما بينا أنه مجمل بما اقترن إليه من توقيف الرسول ص - على اعتبار ثمن المجن ومن اتفاق السلف على ذلك أيضا فسقط الاحتجاج بعمومه ووجب الوقوف عند الاتفاق في القطع في العشرة ونفيه عما دونها لما وصفنا وقد رويت أخبار توجب اعتبار العشرة في إيجاب القطع منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا نصر بن ثابت عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا قطع فيما دون عشرة دراهم وقد سمعنا أيضا في سنن ابن قانع

حديثا رواه بإسناده له عن زحر بن ربيعة عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم وقال عمرو بن شعيب قلت لسعيد بن المسيب إن عروة والزهري وسليمان بن يسار يقولون لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم فقال أما هذا فقد مضت السنة فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم قاله ابن عباس وأيمن الحبشي وعبدالله بن عمر وقالوا كان ثمن المجن عشرة دراهم فإن احتجوا بما روي عن ابن عمر وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وبما روي عن عائشة أن النبي ص - قال تقطع يد السارق في ربع دينار قيل له أما حديث ابن عمر وأنس فلا دلالة فيه على موضع الخلاف لأنهما قوماه ثلاثة دراهم وقد قومه غيرهما عشرة فكان تقديم الزائد أولى وأما حديث عائشة فقد اختلف في رفعه وقد قيل إن الصحيح منه أنه موقوف عليها غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
لأن الإثبات من الرواة رووه موقوفا وروى يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن ثلث دينار أو نصف دينار فصاعدا وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم تكن تقطع في الشيء التافه فهذا يدل على أن الذي كان عند عائشة من ذلك القطع في ثمن المجن وأنه لم يكن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير ذلك إذ لو كان عندها عن رسول الله في ذلك شيء معلوم المقدار من الذهب أو الفضة لم تكن بها حاجة إلى ذكر ثمن المجن إذ كان ذلك مدركا من جهة الاجتهاد ولا حظ للاجتهاد مع النص وهذا يدل أيضا على أن ما روي عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - إن ثبت فإنما هو تقدير منها لثمن المجن اجتهادا وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن عبدالرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب وحدث به يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه فقال له عبدالرحمن بن القاسم إنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه فهذا يدل على أن من رواه مرفوعا فإنما سمعه من يحيى قبل تركه الرفع ثم لو ثبت هذا الحديث لعارضه ما قدمناه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم - من وجوه مختلفة في نفي القطع عن سارق ما دون العشرة وكان يكون حينئذ خبرنا أولى لما فيه من حظر القطع عما دونها وخبرهم مبيح له وخبر الحظر أولى من خبر الإباحة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال لعن الله السارق يسرق الحبل

فيقطع فيه ويسرق البيضة فيقطع فيها فربما ظن بعض من لا روية له أنه يدل على أن ما دون العشرة يقطع فيه لذكر البيضة والحبل وهما في العادة أقل قيمة من عشرة دراهم وليس ذلك على ما يظنه لأن المراد بيضة الحديد وقد روي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم - قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهما ولأنه لا خلاف بين الفقهاء أن سارق بيضة الدجاج لا قطع عليه وأما الحبل فقد يكون مما يساوي العشرة والعشرين وأكثر من ذلك
فصل وأما اعتبار الحرز فالأصل فيها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا قطع على خائن رواه ابن عباس وجابر وهو يشتمل على نفي القطع في جميع ما ائتمن الإنسان فيه فمنها أن الرجل إذا ائتمن غيره على دخول بيته ولم يحرز منه ماله لم يجب عليه القطع إذا خانه لعموم لفظ الخبر ويصير حينئذ بمنزلة المودع والمضارب وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله لا قطع على خائن وجوب القطع على جاحد الوديعة والمضاربة وسائر الأمانات ويدل أيضا على نفي القطع عن المستعير إذا جحد العارية وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده فلا دلالة فيه على وجوب القطع على المستعير إذا خان إذ ليس فيه أنه قطعها لأجل جحودها للعارية وإنما ذكر جحود العارية تعريفا لها إذ كان ذلك معتادا منها حتى عرفت به فذكر ذلك على وجه التعريف وهذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للرجلين أحدهما يحجم الآخر في رمضان أفطر الحاجم والمحجوم فذكر الحجامة تعريفا لهما والإفطار واقع بغيرها وقد روي في أخبار صحيحة أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت وهي هذه المرأة التي ذكر في الخبر أنها كانت تستعير المتاع وتجحده فبين في هذه الأخبار أنه قطعها لسرقتها ويدل على اعتبار الحرز أيضا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سئل عن حريسة الجبل فقال فيها غرامة مثلها وجلدات نكال فإذا أواها المراح وبلغ ثمن المجن ففيه القطع وقال ليس في الثمر المعلق قطع حتى يأويه الجرين فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ودلالة هذا الخبر على وجوب اعتبار الحرز أظهر من دلالة الخبر الأول وإن كان كل واحد منهما مكتفيا بنفسه في وجوب اعتباره ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن الحرز شرط في القطع وأصله من السنة ما وصفنا والحرز عند أصحابنا ما بني للسكنى وحفظ الأموال من الأمتعة

وما في معناها وكذلك الفساطيط والمضارب والخيم التي يسكن الناس فيها ويحفظون أمتعتهم بها كل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أم لا باب له إلا أنه محجر بالبناء وما كان في غير بناء ولا خيمة ولا فسطاط ولا مضرب فإنه لا يكون حرزا إلا أن يكون عنده من يحفظه وهو قريب منه بحيث يكون حافظ له وسواء كان الحافظ نائما في ذلك الموضع أو مستيقظا والأصل في كون الحافظ حرزا له وإن كان في مسجد أو صحراء حديث صفوان بن أمية حين كان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فسرقه سارق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقطعه ولا خلاف أن المسجد ليس بحرز فثبت أنه كان محرزا لكون صفوان عنده ولذلك قال أصحابنا لا فرق بين أن يكون الحافظ نائما أو مستيقظا لأن صفوان كان نائما وليس المسجد عندهم في ذلك كالحمام فمن سرق من الحمام لم يقطع وكذلك الخان والحوانيت المأذون في دخولها وإن كان هناك حافظ من قبل أن الإذن موجود في الدخول من جهة مالك الحمام والدار فخرج الشيء من أن يكون محرزا من المأذون له في الدخول ألا ترى أن من أذن لرجل في دخول داره أن الدار لم تخرج من أن تكون حرزا في نفسها ولا يقطع مع ذلك المأذون له في الدخول لأنه حين أذن له في الدخول فقد ائتمنه ولم يحرز ماله عنه كذلك كل موضع يستباح دخوله بإذن المالك فهو غير حرز من المأذون له في الدخول وأما المسجد فلم يتعلق إباحة دخوله بإذن آدمي كالمفازة والصحراء فإذا سرق منه وهناك حافظ له قطع وحكي عن مالك أن السارق من الحمام يقطع إن كان هناك حافظ له قال أبو بكر لو وجب قطع السارق من الحانوت والمأذون له في الدخول إليه لأن صاحب الحانوت حافظ له ومعلوم أن إذنه له في دخوله قد أخرجه من أن يكون ماله فيه محرزا فكان بمنزلة المؤتمن ولا فرق بين الحمام والحانوت والمأذون في دخوله فإن قال قائل يقطع السارق من الحانوت والخان المأذون له قيل له هو كالخائن للودائع والعواري والمضاربات وغيرها إذ لا فرق بين ما ذكرنا وبينها وقد ائتمنه صاحبه بأن لم يحرزه كما ائتمنه في إيداعه وقال عثمان البتي إذا سرق من الحمام قطع واختلف في قطع النباش فقال أبو حنيفة والثوري ومحمد والأوزاعي لا قطع على النباش وهو قول ابن عباس ومكحول وقال الزهري اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في زمن كان مروان أميرا

على المدينة أن النباش لا يقطع ويعزر وكان الصحابة متوافرين يومئذ وقال أبو يوسف بن أبي ليلى وأبو الزناد وربيعة يقطع وروي مثله عن ابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز والشعبي والزهري ومسروق والحسن والنخعي وعطاء وهو قول الشافعي والدليل على صحة القول الأول أن القبر ليس بحرز والدليل عليه اتفاق الجميع على أنه لو كان هناك دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع لعدم الحرز والكفن كذلك فإن قيل إن الأحراز مختلفة فمنها شريحة البقال حرز لما في الحانوت والإصطبل حرز للدواب وللأموال ويكون الرجل حرزا لما هو حافظ له وكل شيء من ذلك حرزا لما يحفظ به ذلك الشيء في العادة ولا يكون حرزا لغيره فلو سرق دراهم من اصطبل لم يقطع ولو سرق منه دابة قطع ذلك القبر هو حرز للكفن وإن لم يكن حرزا للدراهم قيل له هذا كلام فاسد من وجهين أحدهما أن الأحراز على اختلافها في أنفسها ليست مختلفة في كونها حرزا لجميع ما يجعل فيها لأن الإصطبل لما كان حرزا للدواب فهو حرز للدراهم والثياب ويقطع فيما يسرقه منه وكذلك حانوت البقال هو حرز لجميع ما فيه من ثياب ودراهم وغيرها فقول القائل الإصطبل حرز للدواب ولا يقطع من سرق منه دراهم غلط والوجه الآخر أن قضيتك هذه لو كانت صحيحة لكانت مانعة من إيجاب قطع النباش لأن القبر لم يحفر ليكون حرزا للكفن فيحفظ به وإنما يحفر لدفن الميت وستره عن عيون الناس وأما الكفن فإنما هو للبلى والهلاك ودليل آخر وهو أن الكفن لا مالك له والدليل عليه أنه من جميع المال فدل على أنه ليس في ملك أحد ولا موقوف على أحد فلما صح أنه من جميع المال وجب أن لا يملكه الوارث كما لا يملكون ما صرف في الدين الذي هو من جميع المال ويدل عليه أيضا أن الكفن يبدأ به على الديون فإذا لم يملك الوارث ما يقضي به الديون فهو أن لا يملك الكفن أولى وإذا لم يملكه الوارث واستحال أن يكون الميت مالكا وجب أن لا يقطع سارقه كما لا يقطع سارق بيت المال وأخذ الأشياء المباحة التي لا ملك لها فإن قال قائل جواز خصومة الوارث المطالبة بالكفن دليل على أنه ملكه قيل له الإمام يطالب بما يسرق من بيت المال ولا يملكه ووجه آخر وهو أنا الكفن يجعل هناك للبلى والتلف لا للقنية والتبقية فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء الذي هو للإتلاف لا للتبقية فإن قال قائل القبر حرز للكفن لما روى عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول

الله ص - كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف يعني القبر قلت الله ورسوله أعلم
قال عليك بالصبر فسمى القبر بيتا وقال حماد بن أبي سليمان يقطع النباش لأنه دخل على الميت بيته وروى مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - لعن المختفي والمختفية وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله وقال أهل اللغة المختفي النباش قيل له إنما سماه بيتا على وجه المجاز لأن البيت موضوع في لغة العرب لما كان مبنيا ظاهرا على وجه الأرض وإنما سمي القبر بيتا تشبيها بالبيت المبني ومع ذلك فإن قطع السارق ليس معلقا بكونه سارقا من بيت إلا أن يكون ذلك البيت مبنيا ليحرز به ما يجعل فيه وقد بينا أن القبر ليس بحرز ألا ترى أن المسجد يسمى بيتا قال الله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولو سرق من المسجد لم يقطع إذا لم يكن له حافظ وأيضا فلا خلاف أنه لو كان في القبر دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع وإن كان بيتا فعلمنا أن قطع السرقة غير متعلق بكونه بيتا وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لعن الله المختفي وما روي أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله فإن هذا إنما هو لعن له واستحقاق اللعن ليس بدليل على وجوب القطع لأن الغاصب والكاذب والظالم كل هؤلاء يستحقون اللعن ولا يجب قطعهم وقوله من اختفى ميتا فكأنما قتله فإنه لم يوجب به قطعا وإنما جعله كالقاتل وإن كان معناه محمولا على حقيقة لفظه فواجب أن نقتله وهذا لا خلاف فيه ولا تعلق لذلك بالقطع
باب من أين يقطع السارق
قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما واسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب والدليل عليه أن عمارا تيمم إلى المنكب بقوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم يخطئ من طريق اللغة وإنما لم يثبت ذلك لورود السنة بخلافه ويقع على اليد إلى مفصل الكف أيضا قال الله تعالى إذا أخرج يده لم يكد يراها وقد عقل به ما دون المرفق وقال تعالى لموسى أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ويمتنع أن يدخل يده إلى المرفق ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق فلو لم يقع الاسم على ما دون المرافق لما ذكرها إلى المرافق وفي ذلك دليل على وقوع الاسم إلى الكوع لما كان الاسم يتناول هذا العضو إلى المفصل وإلى المرفق وإلى المنكب

اقتضى عموم اللفظ القطع من المنكب إلى أن تقوم الدلالة على أن المراد ما دونه وجائز أن يقال إن الاسم لما تناولها إلى الكوع ولم يجز أن يقال إن ذلك بعض اليد بل يطلق عليه اسم اليد من غير تقييد وإن كان قد يطلق أيضا على ما فوقه إلى المرفق تارة وإلى المنكب أخرى ثم قال تعالى فاقطعوا أيديهما وكانت اليد محظورة في الأصل فمتى قطعناها من الفصل فقد قضينا عهدة الآية لم يجز لنا قطع ما فوقه إلا بدلالة كما لو قال أعط هذا رجالا فأعطاه ثلاثة منهم فقد فعل المأمور به إذ كان الاسم يتناولهم وإن كان اسم الرجال يتناول ما فوقهم فإن قال قائل يلزمكم في التيمم مثله بقوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وقد قلتم فيه إن الاسم لما تناول العضو إلى المرفق اقتضاه العموم ولم ينزل عنه إلا بدليل قيل له هما مختلفان من قبل أن اليد لما كانت محظورة في الأصل ثم كان الاسم يقع على العضو إلى المفصل وإلى المرفق لم يجز لنا قطع الزيادة بالشك ولما كان الأصل الحدث واحتاج إلى استباحة الصلاة لم يزل أيضا إلا بيقين وهو التيمم إلى المرفق ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن القطع من المفصل وإنما خالف فيه الخوارج وقطعوا من المنكب لوقوع الاسم عليه وهم شذوذ لا يعدون خلافا وقد روى محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قطع يد سارق من الكوع وعن عمر وعلي أنهما قطعا اليد من المفصل ويدل على أن دون الرسغ لا يقع عليه اسم اليد على الإطلاق قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم يقل أحد أنه يقتصر بالتيمم على ما دون المفصل وإنما اختلفوا فيما فوقه واختلفوا في قطع الرجل من أي موضع هو فروي عن علي أنه قطع سارقا من خصر القدم وروى صالح السمان قال رأيت الذي قطعه علي رضي الله عنه مقطوعا من أطراف الأصابع فقيل له من قطعك فقال خير الناس قال أبو رزين سمعت ابن عباس يقول أيعجز من رأى هؤلاء أن يقطع كما قطع هذا الأعرابي يعني نحوه فلقد قطع فما أخطأ يقطع الرجل ويذر عقبها وروي مثله عن عطاء وأبي جعفر من قولهما وعن عمر رضي الله عنه في آخرين يقطع الرجل من المفصل وهو قول فقهاء الأمصار والنظر يدل على هذا القول لاتفاقهم على قطع اليد من المفصل الظاهر وهو الذي يلي الزند وكذلك الواجب قطع الرجل من المفصل الظاهر الذي يلي الكعب الناتئ وأيضا لما اتفقوا على أنه لايترك

له من اليد ما ينتفع به للبطش ولم يقطع من أصول الأصابع حتى يبقى له الكف كذلك ينبغي أن لا يترك له من الرجل العقب فيمشي عليه لأن الله تعالى إنما أوجب قطع اليد ليمنعه الأخذ والبطش بها وأمر بقطع الرجل ليمنعه المشي بها فغير جائز ترك العقب للمشي عليه ومن قطع من المفصل الذي هو على ظهر القدم فإنه ذهب في ذلك أن هذا المفصل من الرجل بمنزلة مفصل الزند من اليد لأنه ليس بين مفصل أصابع الرجل مفصل غيره كما أنه ليس بين مفصل الزند ومفصل أصابع اليد مفصل غيره فلما وجب في اليد قطع أقرب المفصل إلى مفصل الأصابع كذلك وجب أن يقطع في الرجل من أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع والقول الأول أظهر لأن مفصل ظهر القدم غير ظاهر كظهور مفصل الكعب من الرجل ومفصل الزند من اليد فلما وجب قطع مفصل اليد ظاهر منه كذلك يجب أن يكون في الرجل لما استوعبت اليد بالقطع وجب استيعاب الرجل أيضا والرجل كلها إلى مفصل الكعب بمنزلة الكف إلى مفصل الزند وأما القطع من أصول أصابع الرجل فإنه لم يثبت عن علي من جهة صحيحة وهو قول شاذ خارج عن الإتفاق والنظر جميعا واختلف في قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى فقال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب حين رجع إلى قول علي لما استشاره وابن عباس إذا سرق قطعت يده اليمنى فإذا سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى فإذا سرق لم يقطع وحبس وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وروي عن عمر أنه تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليمنى فإن سرق قطعت رجله اليمنى فإن سرق حبس حتى يحدث التوبة وعن أبي بكر مثل ذلك إلا أن عمر قد روي عنه الرجوع إلى قول علي كرم الله وجهه وقال مالك والشافعي تقطع اليد اليسرى بعد ا لرجل اليسرى والرجل اليمنى بعد ذلك ولا يقتل إن سرق بعد ذلك وروي عن عثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وعمر بن عبدالعزيز أنهم قتلوا سارقا بعد ما قطعت أطرافه وروى سفيان عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرجل فقال له عمر السنة اليد وروى عبدالرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول أن عمر قال لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل ولكن احبسوه عن المسلمين وقال الزهري انتهى أبو بكر إلى اليد والرجل وروى أبو خالد الأحمر عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا على أنه تقطع يده

اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثم لا يقطع أكثر من ذلك وهذا يقتضي أن يكون ذلك إجماعا لا يسع خلافه لأن الذي يستشيرهم عمر هم الذين ينعقد بهم الإجماع وروى سفيان عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق قطع اليد بعد قطع اليد والرجل في قصة الأسود الذي نزل بأبي بكر ثم سرق حلي أسماء وهو مرسل وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رجلا خدم أبا بكر فبعثه مع مصدق وأوصاه به فلبث قريبا من شهر ثم جاءه وقد قطعه المصدق فلما رآه أبو بكر قال له مالك قال وجدني خنت فريضة فقطع يدي فقال أبو بكر إني لا آراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة والذي نفسي بيده لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ثم سرق حلي أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر فأخبرت عائشة أن أبا بكر قطعه بعد قطع المصدق يده وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى وهو حديث صحيح لا يعارض بحديث القاسم ولو تعارضا لسقطا جميعا ولم يثبت بهذا الحديث عن أبي بكر شيء ويبقى لنا الأخبار الأخر التي ذكرناها عن أبي بكر والاقتصار على الرجل اليسرى فإن قيل روى خالد الحذاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يدا بعد يد ورجل قيل له لم يقل في السرقة ويجوز أن يكون في قصاص وقد روي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وتأويله ما ذكرناه فحصل من اتفاق السلف وجوب الاقتصار على اليد والرجل وما روي عنهم من مخالفة ذلك فإنما هو على وجهين إما أن يكون الحكاية في قطع اليد بعد الرجل أو قطع الأربع من غير ذكر السرقة فلا دلالة فيه على القطع في السرقة أو يكون مرجوعا عنه كما روي عن عمر ثم روي عنه الرجوع عنه وقد روي عن عثمان أنه ضرب عنق رجل بعد ما قطع أربعته وليس فيه دلالة على قول المخالف لأنه لم يذكر أنه قطعه في السرقة ويجوز أن يكون قطعه من قصاص ويدل على صحة قول أصحابنا قوله تعالى فاقطعوا أيديهما وقد بينا أن المراد أيمانهما وكذلك هو في قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم وإذا كان الذي تتناوله الآية يدا واحدة لم تجز الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق وقد ثبت الاتفاق في الرجل اليسرى واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى فلم يجز قطعها مع عدم الاتفاق والتوقيف إذ غير جائز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين ودليل آخر وهو اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليد وفي ذلك دليل على أن اليد اليسرى غير مقطوعة أصلا لأن العلة في العدول عن

اليد اليسرى بعد اليمنى إلى الرجل في قطعها على هذ الوجه إبطال منفعة الجنس وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى ومن جهة أخرى أنه لم تقطع رجله اليمنى بعد رجله اليسرى لما فيه من بطلان منفعة المشي رأسا كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى لما فيه من بطلان البطش وهو منافع اليد كالمشي من منافع الرجل ودليل آخر وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جرمه في أخذ المال لا يزاد على قطع اليد والرجل لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف كذلك السارق وإن كثر الفعل منه بأن عظم جرمه فلا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل فإن قال قائل قوله عز و جل فاقطعوا أيديهما يقتضي قطع اليدين جميعا ولولا الاتفاق لما عدلنا عن اليد اليسرى في السرقة الثانية إلى الرجل اليسرى قيل له أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى فليس كذلك عندنا لأنها إنما اقتضت يدا واحدة لما ثبت من إضافتها إلى الإثنين بلفظ الجمع دون التثنية وإن ما كان هذا وصفه فإنه يقتضي يدا واحد منهما ثم قد اتفقوا أن اليد اليمنى مرادة فصار كقوله تعالى فاقطعوا أيمانهما فانتفى بذلك أن تكون اليسرى مرادة باللفظ فيسقط الاحتجاج بالآية في إيجاب قطع اليسرى وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملا لما وصفت لكان اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دلالة على أن اليسرى غير مرادة إذ غير جائز ترك المنصوص والعدول عنه إلى غيره واحتج موجبو قطع الأطراف بما رواه عبدالله بن رافع قال أخبرني حماد بن بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق قد سرق فأمر به أن تقطع يده ثم أتي به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تقطع رجله حتى قطعت أطرافه كلها وحماد بن أبي حميد ممن يضعف وهو مختصر وأصله ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبدالله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء الثالثة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الخامسة فقال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ورواه معشر عن مصعب بن ثابت بإسناد مثله وزاد

خرجنا به إلى مربد النعم فحملنا عليه النعم فأشار بيده ورجليه فنفرت الإبل عنه فلقيناه بالحجارة حتى قتلناه ورواه يزيد بن سنان حدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر
قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم - بسارق فقطع يده ثم أتي به قد سرق فقطع رجله ثم أتي به قد سرق فأمر بقتله ورواه حماد بن سلمة عن يوسف بن الحارث بن حاطب أن رجلا سرق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقتلوه فقال القوم إنما سرق فقال اقطعوه فقطعوه ثم سرق على عهد أبي بكر الصديق فقطعه حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق الخامسة فقال أبو بكر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعلم به حين أمر بقتله فأمر به فقتل والذي ذكرناه من حديث مصعب بن ثابت هو أصل الحديث الذي رواه حماد بن أبي حميد وفيه الأمر بقتله بديا ومعلوم ان السرقة لا يستحق بها القتل فثبت أن قطع هذه الأعضاء لم يكن على وجه الحد المستحق بالسرقة وإنما كان على جهة تغليظ العقوبة والمثلة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة العرنيين أنه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم وليس السمل حدا في قطاع الطريق فلما نسخت المثلة نسخ بها هذا الضرب من العقوبة فوجب الاقتصار على اليد والرجل لا غير ويدل على أن قطع الأربع كان على وجه المثلة لا على الحد أن في حديث جابر أنهم حملوا عليه النعم ثم قتلوه بالحجارة وذلك لا يكون حدا في السرقة بوجه
باب مالا يقطع فيه
قال أبو بكر قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يوجب قطع كل من تناول الاسم في سائر الأشياء لأنه عموم في هذا الوجه وإن كان مجملا في المقدار إلا أنه قد قامت الدلالة من سنة الرسول ص -
وقول السلف واتفاق فقهاء الأمصار على أنه لم يرد به العموم وأن كثيرا مما يسمى آخذه سارقا لا قطع فيه واختلف الفقهاء في أشياء منه
ذكر الاختلاف في ذلك
قال أبو حنيفة ومحمد لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد نحو الرطب والعنب والفواكه الرطبة واللحم والطعام الذي لا يبقى ولا في الثمر المعلق والحنطة في سنبلها سواء كان لها حافظ أو لم يكن ولا قطع في شيء من الخشب إلا الساج والقنا ولا قطع في الطين والنورة

والجص والزرنيخ ونحوه ولا قطع في شيء من الطير ويقطع في الياقوت والزمرد ولا قطع في شيء من الخمر ولا في شيء من آلات الملاهي وقال أبو يوسف يقطع في كل شيء سرق من حرز إلا في السرقين والتراب والطين وقال مالك لا يقطع في الثمر المعلق ولا في حريسة الجبل وإذا أواه الجرين ففيه القطع وكذلك إذا سرق خشبة ملقاة فبلغ ثمنها ما يجب فيه القطع ففيه القطع وقال الشافعي لا قطع في الثمر المعلق ولا في الجمار لأنه غير محرز فإن أحرز ففيه القطع رطبا كان أو يابسا وقال عثمان البتي إذا سرق الثمر على شجره فهو سارق يقطع قال أبو بكر روى مالك وسفيان الثوري وحماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن مروان أراد قطع يد عبد وقد سرق وديا فقال رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا قطع في ثمرة ولا كثر وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمه واسع بن حبان بهذه القصة فأدخل ابن عيينة بين محمد بن حبان وبين رافع واسع بن حبان ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمة له بهذه القصة وأدخل الليث بينهما عمة له مجهولة ورواه الدراوردي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي ميمونة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله فجعل الدراوردي بين محمد بن يحيى ورافع أبا ميمونة فإن كان واسع بن حبان كنيته أبو ميمونة فقد وافق ابن عيينة وإن كان غيره فهو مجهول لا يدري من هو إلا أن الفقهاء قد تلقت هذا الحديث بالقبول وعملوا به فثبت حجته بقولهم له كقوله لا وصية لوارث واختلاف التابعين لما تلقاه العلماء بالقبول ثبتت حجته ولزم العمل به وقد تنازع أهل العلم معنى قوله لا قطع في ثمر ولا كثر فقال أبو حنيفة ومحمد هو على كل ثمر يسرع إليه الفساد وعمومه يقتضي ما يبقى منه ومالا يبقى إلا أن الكل متفقون على القطع فيما قد استحكم ولا يسرع إليه الفساد فخص ما كان بهذا الوصف من العموم وصار ذلك أصلا في نفي القطع عن جميع ما يسرع إليه الفساد وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا قطع في طعام وذلك ينفي القطع عن جميع الطعام إلا أنه خص مالا يسرع إليه بالفساد بدليل وقال أبو يوسف ومن قدمنا قوله أن نفيه القطع عن الثمر والكثر لأجل عدم الحرز فإذا أحرز فهو وغيره سواء وهذا تخصيص بغير دلالة وقوله ولا كثر أصل في ذلك أيضا لأن الكثر قد قيل فيه وجهان أحدهما الجمار والآخر النخل الصغار وهو عليهما جميعا

فإذا أراد به الجمار فقد نفى القطع عنه لأنه مما يفسد وهو أصل في كل ما كان في معناه وإن أراد به النخل فقد دل على نفي القطع في الخشب فنستعملهما على فائدتيهما جميعا وكذلك قال أبو حنيفة لا قطع في الخشب إلا الساج والقنا وكذلك يجيء على قوله في الأبنوس وذلك أن الساج والأبنوس لا يوجد في دار الإسلام إلا مالا فهو كسائر الأموال وإنما اعتبر ما يوجد في دار الإسلام مالا من قبل أن الأملاك الصحيحة هي التي توجد في دار الإسلام وما كان في دار الحرب فليس بملك صحيح لأنها دار إباحة وأملاك أهلها مباحة فلا يختلف فيها حكم ما كان منه مالا مملوكا وما كان منه مباحا فلذلك سقط اعتبار كونها مباحة في دار الحرب فاعتبر حكم وجودها في دار الإسلام فلما لم توجد في دار الإسلام إلا مالا كانت كسائر أموال المسلمين التي ليست مباحة الأصل فإن قال قائل النخل غير مباح الأصل قيل له هو مباح الأصل في كثير من المواضع كسائر الجنس المباح الأصل وإن كان بعضها مملوكا بالأخذ والنقل من موضع إلى موضع وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمر قال جاء رجل من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال هي عليه ومثلها والنكال وليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح فإذا أواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد ومالم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثله وجلدات النكال قال يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق قال هي ومثله معه والنكال وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذه من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ومالم يبلغ ففيه غرامة مثله وجلدات النكال فنفى في حديث رافع بن خديج القطع عن الثمر رأسا ونفى في حديث عبدالله بن عمر القطع عن الثمر إلا ما أواه الجرين وقوله حتى يأويه الجرين يحتمل معنيين أحدهما الحرز والآخر الإبانة عن حال استحكامه وامتناع إسراع الفساد إليه لأنه لا يأويه الجرين إلا وهو مستحكم في الأغلب وهو كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده ولم يرد به وقوع الحصاد وإنما أراد به بلوغه وقت الحصاد وقوله ص - لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولم يرد به وجود الحيض وإنما أخبر عن حكمها بعد البلوغ وقوله إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ولم يرد به السن وإنما أراد الإحصان وقوله في خمس وعشرين بنت مخاض أراد دخولها في السنة الثانية وإن لم يكن بأمها مخاض لأن الأغلب إذا صارت كذلك كان بأمها مخاض وكذلك قوله حتى يأويه

الجرين يحتمل أن يريد به بلوغ حال الاستحكام فلم يجز من أجل ذلك أن يخص حديث رافع بن خديج في قوله لا قطع في ثمر ولا كثر وإنما لم يقطع في النورة ونحوها لما روت عائشة قالت لم يكن قطع السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الشيء التافه يعني الحقير فكل ما كان تافها مباح الأصل فلا قطع فيه والزرنيخ والجص والنورة ونحوها تافه مباح الأصل لأن أكثر الناس يتركونه في موضعه مع إمكان القدرة عليه وأما الياقوت والجوهر فغير تافه وإن كان مباح الأصل بل هو ثمين رفيع ليس يكاد يترك في موضعه مع إمكان أخذه فيقطع فيه وإن كان الأصل كما يقطع في سائر الأموال لأن شرط زوال القطع المعينان جميها من كونه تافها في نفسه ومباح الأصل وأيضا فإن الجص والنورة ونحوها أموال لا يراد بها القنية بل الإتلاف فهي كالخبز واللحم ونحو ذلك والياقوت ونحوه مال يراد به القنية والتبقية كالذهب والفضة وأما الطير فإنما لم تقطع فيه لما روي عن علي وعثمان أنهما قالا لا يقطع في الطير من غير خلاف من أحد من الصحابة عليهما وأيضا فإنه مباح الأصل فأشبه الحشيش والحطب واختلف في السارق من بيت المال فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي لا يقطع من سرق من بيت المال وهو قول علي وإبراهيم النخعي والحسن وروى ابن وهب عن مالك أنه يقطع وهو قول حماد بن أبي سليمان وروى سفيان عن سماك بن حرب عن ابن عبيد بن الأبرص أن عليا أتي برجل سرق مغفرا من الخمس فلم يرد عليه قطعا وقال له فيه نصيب وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم أن رجلا سرق من بيت المال فكتب فيه سعد إلى عمر فكتب إليه عمر ليس عليه قطع له في نصيب ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وأيضا لما كان حقه وحق سائر المسلمين فيه سواء فصار كسارق مال بينه وبين غيره فلا يقطع واختلف فيمن سرق خمرا من ذمي أو مسلم فقال أصحابنا ومالك والشافعي لا قطع عليه وهو قول الثوري وقال الأوزاعي في ذمي سرق من مسلم خمرا أو خنزيرا غرم الذمي ويجد فيه المسلم قال أبو بكر الخمر ليست بمال لنا وإنما أمر هؤلاء أن نترك مالا لهم بالعهد والذمة فلا يقطع سارقها لأن ما كان مالا من وجه وغير مال من وجه فإن أقل أحواله أن يكون ذلك شبهة في درء الحد عن سارقه كن وطىء جارية بينه وبين غيره وأيضا فإن المسلم معاقب على اقتناء الخمر وشربها مأمور بتخليلها أو صبها فمن أخذها فإنما

أزال يده عما كان عليه إزالته عنه فلا يقطع واختلف فيمن أقر بالسرقة مرة واحدة فقال أبو حنيفة وزفر ومالك والشافعي والثوري إذا أقر بالسرقة مرة واحدة قطع وقال أبو يوسف وابن شبرمة وابن أبي ليلى لا يقطع حتى يقر مرتين والدليل على صحة القول الأول ما روى عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن صفية عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال أتي بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله هذا سرق فقال ما أخاله سرق فقال السارق بلى قال فاذهبوا به فاقطعوه فقطع ورواه غير الدراوردي عن محمد بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه أبا هريرة منهم الثوري وابن جريج ومحمد بن إسحاق قال أبو بكر وعلى أي وجه حصلت الرواية من وصل أو قطع فحكمها ثابت لأن إرسال من أرسله لا يمنع صحة وصل من وصله ومع ذلك لو حصل مرسلا لكان حكمه ثابتا لأن المرسل والموصول سواء عندنا فيما يوجبون من الحكم فقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم - بإقراره مرة واحدة فإن قال قائل إنما قطعه بشهادة الشهود لأنهم قالوا سرق قيل له لو كان كذلك لاقتصر عليها ولم يلقنه الجحود فلما قال بعد قولهم سرق وما أخاله سرق ولم يقطعه حتى أقر ثبت أنه قطع بإقراره دون الشهادة فإن احتجوا بما روى حماد بن سلمة عن إسحاق عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أتي بلص اعترف اعترافا ولم يوجبوا معه المتاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ما أخالك سرقت قال بلى يا رسول الله فأعادها عليه رسول الله ص - مرتين أو ثلاثا قال بلى فأمر به فقطع ففي هذا الحديث أنه لم يقطعه بإقراره مرة واحدة وهو أقوى إسنادا من الأول قيل له ليس في هذا الحديث بيان موضع الخلاف وذلك أنه لم يذكر فيه إقرار السارق مرتين أو ثلاثا قبل أن يقر ثم أقر فإن قيل فقد ذكر فيه أنه اعترف اعترافا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -
ذلك مرتين أو ثلاثا ويحتمل أيضا أن يكون الاعتراف قد حصل منه عند غير النبي صلى الله عليه وسلم - فلا يوجب ذلك القطع عليه وأيضا لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أعاد عليه ذلك بعد الإقرار الأول لما دل على أن الإقرار الأول لم يوجب القطع إذ ليس يمتنع أن يكون القطع قد وجب وأراد النبي صلى الله عليه وسلم - أن يتوصل إلى إسقاطه بتلقينه الرجوع عنه فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال ما بنبغي لوال أمر أن يؤتى الحد إلا أقامه فلو كان القطع واجبا بإقراره بديا لما اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم - بتلقينه الرجوع عن الإقرار

ولسارع إلى إقامته قيل له ليس وجوب القطع مانعا من استثبات الإمام إياه فيه ولا موجبا عليه قطعه في الحال لأن ماعزا قد أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم - بالزنا أربع مرات فلم يرجمه حتى استثبته وقال لعلك قبلت لعلك لمست وسأل أهله عن صحة عقله وقال لهم أبه جنة ولم يدل ذلك على أن الرجم لم يكن قد وجب بإقراره أربع مرات فليس إذا في هذا الخبر ما يعترض به على خبر أبي هريرة الذي ذكر فيه أنه أمر بقطعه حين أقر ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقدم على إقامة حد لم يجب بعد وليس يمتنع أن يؤخر إقامة حد قد وجب مستثبتا لذلك ومتحريا بالاحتياط والثقة فيه ويدل على صحة ما ذكرنا أيضا حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه أن عمرو بن سمرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فأرسل إليهم النبي ص - فقالوا إنا فقدنا جملا لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم - فقطعت يده ففي هذا الخبر أيضا قطعه بإقراره مرة واحدة ومن جهة النظر أيضا أن السرقة المقر بها لا تخلو من أن تكون عينا أو غير عين فإن كانت عينا ولم يجب القطع بإقرار الأول فقد وجب ضمانها لا محالة من قبل أن حق الآدمي فيه يثبت بإقراره مرة واحدة ولا يتوقف على الإقرار ثانيا وإذا ثبت الملك للمقر له ولم يثبت القطع صار مضمونا عليه وحصول الضمان ينفي القطع وإن كانت السرقة ليست بعين قائمة قد صارت دينا بالإقرار الأول وحصولها دينا في ذمته ينفي القطع على ما وصفنا فإن قال قائل إذا جاز أن يكون حكم أخذه بديا على وجه السرقة موقوفا في القطع على نفي الضمان وإثباته فهلا جعلت حكم إقراره موقوفا في تعلق الضمان به على وجوب القطع وسقوطه قيل له نفس الأخذ عندنا على وجه السرقة يوجب القطع فلا يكن موقوفا وإنما سقوط القطع بعد ذلك يوجب الضمان ألا ترى أنه إذا ثبتت السرقة بشهادة الشهود كان كذلك حكمها فإن لم يكن الإقرار بديا موجبا للقطع فينبغي أن يوجب الضمان ووجوب الضمان ينفي القطع إذ كان إقراره الثاني لا ينفي ما قد حصل عليه من الضمان النافي للقطع بإقراره الأول فإن قيل ينتقض هذا الاعتلال بالإقرار بالزنا لأن إقراره الأول بالزنا إذا لم يوجب حدا فلا بد من إيجاب المهر به لأن الوطء في غير ملك لا يخلو من إيجاب حد ومهر ومتى انتفى الحد وجب المهر وإقراره الثاني والثالث والرابع لا يسقط المهر الواجب بديا بالإقرار الأول وهذا يؤدي إلى سقوط اعتبار عدد الإقرار في الزنا فلما صح وجوب اعتبار عدد الإقرار

في الزنا مع وجود العلة المانعة من اعتبار عدد الإقرار في السرقة بان فيه فساد اعتلالك قيل له ليس هذا مما ذكرناه في شيء وذلك أن سقوط الحد في الزنا على وجه الشبهة لا يجب به مهر لأن البضع لا قيمة له إلا من جهة عقد أو شبهة عقد ومتى عري من ذلك لم يجب مهر ويدل عليه اتفاقهم جميعا على أنه لو أقر بالزنا مرة واحدة ثم مات أو قامت عليه بينة بالزنا فمات قبل أن يحد لم يجب عليه المهر في ماله ولو مات بعد إقراره بالسرقة مرة واحدة لكانت السرقة مضمونة عليه باتفاق منهم جميعا فقد حصل من قولهم جميعا إيجاب الضمان بالإقرار مرة واحدة وسقوط المهر مع الإقرار بالزنا من غير حد واحتج الآخرون بما روى الأعمش عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن علي أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال شهدت على نفسك بشهادتين فأمر به فقطع وعلقها في عنقه ولا دلالة في هذا الحديث على أن مذهب علي رضي الله عنه أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين إنما قال شهدت على نفسك بشهادتين ولم يقل لو شهدت بشهادة واحدة لما قطعت وليس فيه أيضا أنه لم يقطع حتى أقر مرتين ومما يحتج به لأبي يوسف من طريق النظر أن هذا لما كان حدا يسقط بالشبهة وجب أن يعتبر عدد الإقرار فيه بالشهادة فلما كان أقل من يقبل فيه شهادة شاهدين وجب أن يكون أقل ما يصح به إقراره مرتين كالزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود وهذا يلزم ابا يوسف أن يعتبر عدد الإقرار في شرب الخمر بعدد الشهود وقد سمعت أبا الحسن الكرخي يقول إنه وجد عن أبي يوسف في شرب الخمر أنه لا يحد حتى يقر مرتين كعدد الشهود ولا يلزم عليه حد القذف لأن المطالبة به حق لآدمي وليس كذلك سائر الحدود وهذا الضرب من القياس مدفوع عندنا فإن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس فيما كان هذا صفته وإنما طريقها التوقيف والاتفاق
باب
السرقة من ذوي الأرحام قال أبو بكر قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما عموم في إيجاب قطع كل سارق إلا ما خصه الدليل على النحو الذي قدمنا وعلى ما حكينا عن أبي الحسن ليس بعموم وهو مجمل محتاج فيه إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ومن جهة أخرى على أصله أن ما ثبت خصوصه بالاتفاق لا يصح الاحتجاج بعمومه وقد بينا ذلك في أصول الفقه وهو مذهب محمد بن شجاع إلا أنه وإن كان عموما عندنا لو خلينا ومقتضاه فقد قامت

دلالة خصوصه في ذوي الرحم المحرم وقد اختلف الفقهاء فيه
ذكر
الاختلاف في ذلك قال أصحابنا لا يقطع من سرق من ذي الرحم وهو الذي لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم الذي بينهما ولا تقطع أيضا عندهم المرأة إذا سرقت من زوجها ولا الزوج إذا سرق من امرأته وقال الثوري إذا سرق من ذوي رحم منه لم يقطع وقال مالك يقطع الزوج فيما سرق من امرأته والمرأة فيما تسرق من زوجها في غير الموضع الذي يسكنان فيه وكذلك في الأقارب وقال عبيدالله بن الحسن في الذي يسرق من أبويه إن كان يدخل عليهم لا يقطع وإن كانوا نهوه عن الدخول عليهم فسرق قطع وقال الشافعي لا قطع على من سرق من أبويه أو أجداده ولا على زوج سرق من امرأته أو امرأة سرقت من زوجها والدليل على صحة قول أصحابنا قول الله عز و جل ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم إلى قوله أو ما ملكتم مفاتحه فأباح تعالى الأكل من بيوت هؤلاء وقد اقتضى ذلك إباحة الدخول إليها بغير إذنهم فإذا جاز لهم دخولها لم يكن ما فيها محرزا عنهم ولا قطع إلا فيما سرق من حرز وأيضا إباحة أكل أموالهم يمنع وجوب القطع فيها لما لهم فيها من الحق كالشريك ونحوه فإن قيل فقد قال أو صديقكم ويقطع فيه مع ذلك إذا سرق من صديقه قيل له ظاهر الآية ينفي القطع من الصديق أيضا وإنما خصصناه بدلالة الاتفاق ودلالة اللفظ قائمة فيما عداه وعلى أنه لا يكون صديقا إذا قصد السرقة ودليل آخر هو أنه قد ثبت عندنا وجوب نفقة هؤلاء عند الحاجة إليه وجواز أخذها منه بغير يدل فأشبه السارق من بيت المال لثبوت حقه فيه بغير بدل يلزمه عند الحاجة إليه فإن قيل قد ثبت هذا الحق عند الضرورة في مال الأجنبي ولم يمنع من القطع بالسرقة منه قيل له يعترضان من وجهين أحدهما أنه في مال الأجنبي يثبت عند الضرورة وخوف التلف وفي مال هؤلاء يثبت بالفقر وتعذر الكسب والوجه الآخر أن الأجنبي يأخذه ببدل وهؤلاء يستحقونه بغير بدل كمال بيت المال وأيضا فلما استحق عليه إحياء نفسه وأعضائه عند الحاجة إليهم بالإنفاق عليه وكان هذا السارق محتاجا إلى هذا المال في إحياء يده لسقوط

القطع صار في هذه الحالة كالفقير الذي يستحق على ذي الرحم المحرم منه الإنفاق عليه لإحياء نفسه أو بعض أعضائه وأيضا فهو مقيس على الأب بالمعنى الذي قدمناه والله تعالى أعلم
باب
فيمن سرق ما قد قطع فيه قال أصحابنا فيمن سرق ثوبا فقطع فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه لم يقطع فيه والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق فلما عدمناهما فيما وصفنا لم يبق في إثباته إلا القياس ولا يجوز ذلك عندنا فإن قيل هلا قطعته بعموم قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قبل السرقة قيل له السرقة الثانية لم يتناولها العموم لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع والذي في الآية قطع اليد وأيضا فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعين جميعا والدليل أنه متى سقط القطع وجب ضمان العين كما أن حد الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجبا ضمان الوطء ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجبا ضمان النفس فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعا واحدا كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعا واحدا إذا كان لكل واحد من العينين أعني الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع فإن قيل فلو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى حد ثانيا مع وقوع الفعلين في عين واحدة قيل له لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلق وجوب الحد بها وإنما يتعلق وجوب حد الزنا بالوطء لا غير والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة وفي السرقة متى سقط القطع ضمن عين السرقة وأيضا فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكا للناس كالطين والخشب والحشيش والماء ومن أجل ذلك قالوا إنه لو كان غزلا فنسجه ثوبا بعد ما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قطع لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع كما لو سرق خشبا لم يقطع فيه ولو كان بابا منجورا فسرقه قطع لخروجه بالصنعة

عن الحال الأولى وأيضا لما كان وقوع القطع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دفع قيمته فصار كأنه عوضه منه وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجب ويشبه الملك من وجه
باب
السارق يوجد قبل إخراج السرقة قال أبو بكر رحمه الله اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حرزه والدار كلها حرز واحد فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر وهو قول إبراهيم وروى يحيى بن سعيد عن عبدالرحمن بن القاسم قال بلغ عائشة أنهم كانوا يقولون إذا لم يخرج بالمتاع لم يقطع فقالت عائشة لو لم أجد إلا سكينا لقطعته وروى سعيد عن قتادة عن الحسن قال إذا وجد في بيت فعليه القطع قال أبو بكر دخوله البيت لا يستحق به اسم السارق فلا يجوز إيجاب القطع به وأخذه في الحرز أيضا لا يوجب القطع لأنه باق في الحرز ومتى لم يخرجه من الحرز فهو بمنزلة من لم يأخذه فلا يجب عليه القطع ولو جاز إيجاب القطع في مثله لما كان لاعتبار الحرز معنى والله أعلم
باب
غرم السارق بعد القطع قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري وابن شبرمة إذا قطع السارق فإن كانت السرقة قائمة بعينها أخذها المسروق منه وإن كانت مستهلكة فلا ضمان عليه وهو قول مكحول وعطاء والشعبي وابن شبرمة وأحد قولي إبراهيم النخعي وقال مالك يضمنها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا وقال عثمان البتي والليث والشافعي يغرم السرقة وإن كانت هالكة وهو قول الحسن والزهري وحماد وأحد قولي إبراهيم قال أبو بكر أما إذا كانت قائمة بعينها فلا خلاف أن صاحبها يأخذها وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قطع سارق رداء صفوان ورد الرداء على صفوان والذي يدل على نفي الضمان بعد القطع قوله تعالى فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والجزاء اسم لما يستحق بالفعل فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق بالفعل هو القطع لم يجز إيجاب الضمان

معه لما فيه من الزيادة في حكم المنصوص ولا يجوز ذلك إلا بمثل ما يجوز به النسخ وكذلك قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله فأخبر أن جميع الجزاء هو المذكور في الآية لأن قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ينفي أن يكون هناك جزاء غيره ومن جهة السنة حديث عبدالله بن صالح قال حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن زيد قال سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبدالرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إذا أقمتم على السارق الحد فلا غرم عليه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن نصر بن صهيب قال حدثنا أبو بكر بن أبي شجاع الأدمي قال حدثني خالد بن خداش قال حدثنا إسحق بن الفرات قال حدثنا المفضل بن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم عن عبدالرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق فأمر بقطعه وقال لا غرم عليه وقال عبدالباقي هذا هو الصحيح وأخطأ فيه خالد بن خداش فقال المسور بن مخرمة ويدل عليه من جهة النظر امتناع وجوب الحد والمال بفعل واحد كما لا يجتمع الحد والمهر والقود والمال فوجب أن يكون القطع نافيا لضمان المال إذ كان المال في الحدود لا يجب إلا مع الشبهة وحصول الشبهة ينفي وجوب القطع ووجه آخر وهو أن من أصلنا أن الضمان سبب لإيجاب الملك فلو ضمناه لملكه بالأخذ الموجب للضمان فيكون حينئذ مقطوعا في ملك نفسه وذلك ممتنع فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع وكان في إيجاب الضمان إسقاط القطع امتنع وجوب الضمان
باب
الرشوة قال الله تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت قيل إن اصل السحت الاستيصال يقال أسحته إسحاتا إذا استأصله وأذهبه قال الله عز و جل فيسحتكم بعذاب أي يستأصلكم به ويقال أسحت ماله إذا أفسده وأذهبه فسمى الحرام سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستيصال وروى ابن عيينة عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال سألت عبدالله بن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم فقال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ولكن السحت أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدي لك هدية فتقبلها وروى شعبة عن منصور عن سالم بن

أبي الجعد عن مسروق قال سألت عبدالله عن الجور في الحكم فقال ذلك كفر وسألته عن السحت فقال الرشا وروى عبدالأعلى بن حماد حدثنا حماد عن أبان عن ابن أبي عياش عن مسلم أن مسروقا قال قلت لعمر يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت قال لا ولكن كفر إنما السحت أن يكون لرجل عند سلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه وروي عن علي بن أبي طالب قال السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعجال في القضية فكأنه جعل السحت اسما لأخذ مالا يطيب أخذه وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك السحت الرشا وروى منصور عن الحكم عن أبي وائل عن مسروق قال إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال بابان من السحت يأكلهما الناس الرشا ومهر الزانية وروى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هدايا الأمراء من السحت وروى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال لعن رسول الله ص - الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما وروى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الراشي والمرتشي وروى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم قال أبو بكر اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى والرشوة تنقسم إلى وجوه منها الرشوة في الحكم وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعا وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم - لعن الله الراشي والمرتشي والرائش وهو الذي يمشي بينهما فلذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحق له فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم ولا ينفذ حكمه لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه وفي هذا دليل أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه كالحج

وتعليم القرآن والإسلام ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائز لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين أحدهما أخذ الرشوة والآخر الحكم بغير حق وكذلك الراشي وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان وقال إن أخذ الرشا على الأحكام كفر وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله الرشا من السحت وأما الرشوة في غير الحكم فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان وذلك منهي عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه قال الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يزال الله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه ووجه آخر من الرشوة وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها وروي عن جابر بن زيد والشعبي قالا لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم وعن عطاء وإبراهيم مثله وروى هشام عن الحسن قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي قال الحسن ليحق باطلا أو يبطل حقا فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس وقال يونس عن الحسن لا بأس أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال اجعل مالك جنة دون دينك ولا تجعل دينك جنة دون مالك وروى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال لم نجد زمن زياد شيئا أنفع لنا من الرشا فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -
لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس السلمي شيئا فسخطه فقال شعرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم - اقطعوا عنا لسانه فزادوه حتى رضي وأما الهدايا للأمراء والقضاة فإن محمد بن الحسن كرهها وإن لم يكن للمهدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميدالساعدي في قصة ابن اللتبية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم -
على الصدقة فلما جاء قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقال النبي ص - ما بال أقوام نستعملهم على ما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي فهلا جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا وما روي عنه ص -
أنه قال هدايا الأمراء غلول وهدايا الأمراء سحت وكره عمر بن عبدالعزيز قبول الهدية فقيل

له إن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الهدية ويثيب عليها فقال كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحت ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهديه قبل القضاء فكأنه إنما كره منها ما أهدي له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يهد له وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا فأخبر أنه إنما أهدي له لأنه عامل ولولا أنه عامل لم يهد له وأنه لا يحل له وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد أعلم به لم يهده إليه لأجل القضاء فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك وقد روي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت علي امرأة عمر فردها عمر ومنع قبولها
باب
الحكم بين أهل الكتاب قال الله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ظاهر ذلك يقتضي معنيين أحدهما تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم والثاني التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم فقال قائلون منهم إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم وقال آخرون التخيير منسوخ فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي وإبراهيم رواية وروي عن الحسن خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم وروى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال آيتان نسختا من سورة المائدة آية القلائد وقوله تعالى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم حتى نزلت وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال نسخها قوله وأن احكم بينهم بما انزل الله وروى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله وروى سفيان عن السدي عن عكرمة مثله قال أبو بكر فذكر هؤلاء أن قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأي

والاجتهاد وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير أن آية التخيير نزلت بعد قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأن التخيير نسخه وإنما حكى عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ فثبت نسخ التخيير بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله كرواية من ذكر نسخ التخيير ويدل على نسخ التخيير قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الايات ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات ومن لم يحكم بما أنزل الله منسوخا إلا ما يروى عن مجاهد رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله نسخها ما قبلها فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وقد روى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ويحتمل أن يكون قوله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قبل أن تعقد لهم الذمة ويدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا للتخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة الذين يجري عليهم أحكام المسلمين وقد روي عن ابن عباس ما يدل على ذلك روى محمد بن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة وأن بني قريظة يدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله ص - على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ومعلوم أن بني قريظة وبني النضير لم تكن لهم ذمة قط وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم - بني النضير وقتل بني قريظة ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها فأخبر ابن عباس إن آية التخيير نزلت فيهم فجائز أن يكون حكمها باقيا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ وهذا تأويل سائغ لولا ما روي عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى وروي عن ابن عباس رواية أخرى وعن الحسن ومجاهد والزهري أنها نزلت في شأن

الرجم حين تحاكموا إليه وهؤلاء أيضا لم يكونوا أهل ذمة وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم فصار النبي صلى الله عليه وسلم - إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله ثم رجم اليهوديين وقال اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في ا لبيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرون على أن تكون مالا لهم ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان ولا نعلم خلافا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور فكتب إليهم عمر أن ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم - في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين قال الله تعالى وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل فأخبر أنهم منهيون عن الربا وأكل المال بالباطل كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فسوى بينهم وبين المسلمين في المنع من الربا والعقود الفاسدة المحظورة وقال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين وقال مالك الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم فقال أبو حنيفة هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا لأحكامنا فإن رضي بها الزوجان حملا على أحكامنا وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم وكذلك إن أسلموا وقال محمد إذا رضي احدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر إلا في النكاح بغير شهود خاصة وقال أبو يوسف يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في

النكاح بعد شهود نجيزه إذا تراضوا بها فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحتهم إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون نكاح ذوات المحرم ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما وكذلك اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهما حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية وفي ذلك دليل أنه أقرهم على مناكحتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فلم يقرهم عليه حين علم بتايعهم به وأيضا قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحتهم وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الإعتراض عليهم وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا فإن قيل فقد روي عن عمر انه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه قيل له لو كان هذا ثابتا لورد النقل متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا وأيضا قد بينا أن قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير فأما شرط المجيء منهم فلم تقم الدلالة على نسخه فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيا والتخيير منسوخا فيكون تقديره مع الآية الأخرى فإن جاؤك فاحكم بينهم بما أنزل وإنما قال إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة من قبل أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراض عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا فمتى تراضوا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل ومعلوم أن العدة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء لأن امرأة تحت زوج أو طرأت عليها عدة من وطء بشبهة لم يمنع ما وجب من العدة بقاء الحكم فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما

ومن جهة أخرى أن العد حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة فإذا لم تكن عندهم عدة واجبة لم تكن عليها عدة فجاز نكاحها الثاني وليس كذلك نكاح ذوات المحارم إذ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه وأما النكاح بغير شهود فإن الذي هو شرط في صحة العقد وجوب الشهود في حال العقد ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود لأن الشهود لو ارتدوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثر ذلك في العقد فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يجز أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلف فيه بين الفقهاء فمنهم من يجيزه والاجتهاد سائغ في جوازه ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه فغير جائز فسخه إذا عقدوه في حال الكفر إذ كان ذلك سائغا جائزا في وقت وقوعه لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يجز بعد ذلك فسخه وإنما اعتبر أبو حنيفة تراضيهما جميعا بأحكامنا من قبل قول الله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم فشرط مجيئهم فلم يجز الحكم على أحدهما بمجيء الآخر فإن قال قائل إذا رضي أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو أسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام قيل له هذا غلط لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجابا ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه بعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا وأيضا إذا لم يجز أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يرض به مبقي على حكمه لا يجز إلزامه حكما لأجل رضا غيره وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يلزم الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم وذهب أبو يوسف إلى ظاهر قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم قوله تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله يعني الله أعلم فيما تحاكموا إليك فيه فقيل إنهم تحاكموا إليه في حد الزانيين وقيل في الدية بين بني قريظة وبني النضير فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته وإنما طلبوا الرخصة ولذلك قال وما أولئك بالمؤمنين يعني هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين وقوله تعالى وعندهم التوراة فيها حكم الله يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا وأنه

صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم - شريعة لنا لم ينسخ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا مالم تنسخ وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن الحسن في قوله تعالى فيها حكم الله بالرجم لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا وقال قتادة فيها حكم الله بالقود لأنهم اختصموا في ذلك وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي أن النبي صلى الله عليه وسلم -
مراد بقوله حكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا قال أبو بكر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها وكان ذلك في حكم التوراة وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضا حكم التوراة وهذا يدل على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة وقوله تعالى وكانوا عليه شهداء قال ابن عباس شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه في التوراة وقال غيره شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله وقال عز و جل فلا تخشوا الناس واخشون قال فيه السدي لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت وقيل لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله تعالى أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قال يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى الآية وقال إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا إلى قوله فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فتضمنت هذه الآية معاني منها الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد حكم على اليهود بحكم التوراة ومنها أن حكم التوراة كان باقيا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يوجب نسخه ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتا لم ينسخ بشريعة الرسول ص - ومنها إيجاب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يجابى فيه مخالفة الناس ومنها تحريم أخذ الرشا في الأحكام وهو قوله تعالى ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا

وقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله قال ابن عباس هو في الجاحد لحكم الله وقيل هي في اليهود خاصة وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم هي عامة يعني فيمن لم يحكم بما أنزل ا لله وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى ومن فعل هذا فقد كفر فمن جعلها في قوم خاصة وهم اليهود لم يجعل من بمعنى الشرط وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله والمراد قوم بأعيانهم وقال البراء بن عازب وذكر قصة رجم اليهود فأنزل الله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآيات إلى قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال في اليهود خاصة وقوله فأولئك هم الظالمون وأولئك هم الفاسقون في الكفار كلهم وقال الحسن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في اليهود وهي علينا واجبة وقال أبو مجلز نزلت في اليهود وقال أبو جعفر نزلت في اليهود ثم جرت فينا وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في بني إسرائيل قال نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ولتسلكن طريقهم قد الشراك قال إبراهيم النخعي نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها وروى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى وقال طاوس ليس بكفر ينقل عن الملة وروى طاوس عن ابن عباس قال ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله ومن لم يحكم بما أنزل ا لله فأولئك هم الكافرون وقال ابن جريج عن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وقال علي بن حسين رضي الله عنهما ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك قال أبو بكر قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون لا يخلو من أن يكون مراده كفر الشرك والجحود او كفر النعمة من غير جحود فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله فهذا كفر يخرج عن الملة وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلما وعلى هذا تأوله من قال إنها نزلت في بني إسرائيل وجرت فينا يعنون أن من جحد منا حكم أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود فلا يكون فاعله خارجا من الملة والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله

وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود لها وأكفروا بذلك كل من عصى الله بكبيرة أو صغيرة فإذا هم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين الآية فيه إخبار عما كتب الله على بني إسرائيل في التوراة من القصاص في النفس وفي الأعضاء المذكورة وقد استدل أبو يوسف بظاهر هذه الآية على إيجاب القصاص بين الرجل والمرأة في النفس لقوله تعالى أن النفس بالنفس وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن شرائع من كان قبلنا حكمها ثابت إلى أن يرد نسخا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم -
أو بنص القرآن وقوله في نسق الآية ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون دليل على ثبوت هذا الحكم ي وقت نزول هذه الآية من وجهين أحدهما أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شيء من الأزمان فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يرد نسخه والثاني معلوم أنهم استحقوا سمة الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية إما جحودا له أو تركا لفعل ما أوجب الله من ذلك وهذا يقتضي وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه وقوله تعالى والعين بالعين معناه عند أصحابنا في العين إذا ضربت فذهب ضوءها وليس هو على أن تقلع عينه هذا عندهم لا قصاص فيه لتعذر استيفاء لا قصاص في مثله ألا ترى أنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه منها فهو كمن قطع قطعة لحم من فخذ رجل أو ذراعه أو قطع بعض فخذه فلا يجب فيه القصاص وإنما القصاص عندهم فيما قد ذهب ضوءها وهي قائمة أن تشد عينه الأخرى وتحمى له مرآة فتقدم إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها وأما قوله تعالى والأنف بالأنف فإن أصحابنا قالوا إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه لأنه عظم لا يمكن استيفاء القصاص فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد وكما لو قطع رجله من نصف الفخذ لا خلاف في سقوط القصاص فيه لتعذر استيفاء المثل والقصاص هو أخذ المثل فمتى لم يكن كذلك لم يكن قصاصا وقالوا إنما يجب القصاص في الأنف إذا قطع المارن وهو ما لان منه ونزل عن قصبة الأنف وروي عن أبي يوسف أن في الأنف إذا استوعب القصاص وكذلك الذكر واللسان وقال محمد لا قصاص في الأنف واللسان والذكر إذا استوعب وقوله تعالى والأذن بالأذن

فإنه يقتضي وجوب القصاص فيها إذا استوعبت لإمكان استيفائه وإذا قطع بعضها فإن أصحابنا قالوا فيه القصاص إذا كان يستطاع ويعرف قدره وقوله عز و جل والسن بالسن فإن أصحابنا قالوا لا قصاص في عظم إلا السن فإن قلعت أو كسر بعضها ففيها القصاص لإمكان استيفائه إن كان الجميع فبالقلع كما يقتص من اليد من المفصل وإن كان البعض فإنه يبرد بمقداره بالمبرد فيمكن استيفاء القصاص فيه وأما سائر العظام فغير ممكن استيفاء القصاص فيها لا يوقف على حده وقد اقتضى ما نص الله تعالى في هذه الأعضاء أن يؤخذ الكبير من هذه الأعضاء بصغيرها والصغير بالكبير بعد أن يكون المأخوذ منه مقابلا لما جني عليه لغيره وقوله تعالى والجروح قصاص يعني إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها ودل به على نفي القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه لأن قوله والجروح قصاص يقتضي أخذ المثل سواء ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وقد بيناه في سورة البقرة وكذلك بين العبيد والأحرار
ذكر
الخلاف في ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والشافعي لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني وقال ابن شبرمة تفقأ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان وتؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية وقال الحسن بن صالح إذا قطع أصبعا من كف فلم يكن للقاطع من تلك الكف أصبع مثلها قطع مما يلي تلك الأصبع ولا يقطع أصبع كف بأصبع كف أخرى وكذلك تقلع السن التي تليها إذا لم تكن للقاطع سن مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى قال أبو بكر لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا لم يكن للمجني عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدو ما قبله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى والعين بالعين إلى آخر الآية استيفاء مثله مما يقابله من الجاني فغير جائز إذا كان كذلك أن يعتدى إلى غيره سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه تكون

يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل وليست هذه الأعضاء مماثلة فغير جائز أن يستوعبها ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة وذلك
لقوله تعالى والجروح قصاص وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز لأنه رضي بدون حقه واختلف في القصاص في العظم فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد لا قصاص في عظم ما خلا السن وقال الليث والشافعي مثل ذلك ولم يستثنيا السن وقال ابن القاسم عن مالك عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص وقال الأوزاعي ليس في المأمومة قصاص قال أبو بكر لما اتفقوا على نفي في عظم الرأس كذلك سائر العظام وقال الله تعالى والجروح قصاص وذلك غير ممكن في العظام وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير أنه اقتص من مأمومة فأنكر ذلك عليه ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس لأنه لا يوقف على مقدار جنايته فكذلك العظام وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم قوله تعالى فمن تصدق به فهو كفارة له روي عن عبدالله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم رواية والشعبي رواية هو كفارة لولى القتيل وللمجروح إذا عفوا المستوفي لحقه ويكون الجاني كأنه لم يجن وهذا محمول على أن وقال الجاني للجاني كأنهم جعلوه بمنزلة الذي ينافي موته حتف أنفه وينفصل به من الميتة والتسمية مشروطة لشهادتنا احق من شهادتهما ثم قوله ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة تاب من جنايته لأنه لو كان مصرا عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمة والقول الأول هو الصحيح لأن قوله تعالى راجع إلى المذكور وهو قوله فمن تصدق به فالكفارة واقعة لمن تصدق ومعناه كفارة لذنوبه قوله تعالى وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه قال أبو بكر فيه دلالة على أن مالم ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابت على معنى أنه صار شريعة للنبي ص - لقوله وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومعلوم أنه لم يرد أمرهم باتباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم -
لأنه صار شريعة له لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي ص - غير متبعين له لكانوا

كفارا فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعة للنبي ص -
قوله تعالى وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة مهيمنا يعني أمينا وقيل شاهدا وقيل حفيظا وقيل مؤتمنا والمعنى فيه أنه أمين عليه ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان لأن الأمين على الشيء مصدق عليه وكذلك الشاهد وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمنا على شيء فهو مقبول القول فيه من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سماه أمينا عليها وقد بين الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبول القول فيما ائتمن فيه وهو
قوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه وقال وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فلما جعله أمينا فيه وعظه بترك البخس وقد اختلف في المراد بقوله ومهيمنا فقال ابن عباس هو الكتاب وفيه إخبار بأن القرآن مهيمن على الكتب المتقدمة شاهد عليها وقال مجاهد أراد به النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله يدل على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه قوله تعالى ولا تتبع أهواءهم يدل على بطلان قول من يردهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف لما فيه من تعظيم الموضع وهم يهون ذلك وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم ويدل على بطلان قول من يردهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم ولأن ردهم إلى أهل دينهم إنما هو رد لهم ليحكموا فيهم بما هو كفر بالله عز و جل إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفرا بالله وإن كان موافقا لما أنزل في التوراة والإنجيل لأنهم مأمورون بتركه واتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الشرعة والشريعة واحد ومعناها الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي قوله تعالى ومنهاجا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك سنة وسبيلا ويقال طريق نهج إذا كان واضحا قال مجاهد وأراد بقوله شرعة القرآن لأنه لجميع الناس وقال قتادة وغيره شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا إيانا وإن لم يثبت نسخها لإخباره بأنه

جعل لكل نبي من الأنبياء شرعة ومنهاجا وليس فيه دليل على ما قالوا لأن ما كان شريعة لموسى عليه السلام فلم ينسخ إلى ان بعث النبي
ص -
فقد صارت شريعة للنبي ص - وكان فيما سلف شريعة لغيره فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع وأيضا فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الأنبياء فلم ينف قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم - ص - موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين وإذا كان كذلك فالمراد فيما نسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم - بغيرها فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر قوله عز و جل ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة قال الحسن لجعلكم على الحق وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحق ولكنه لو فعل لم يستحقوا ثوابا وهو كقوله ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقال قائلون معناه ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء قوله تعالى فاستبقوا الخيرات معناه الأمر بالمبادرة بالخيرات التي تعبدنا بها قبل الفوات بالموت وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات لأنها من الخيرات فإن قيل فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها لأنها من الواجبات في أول الوقت قيل له ليست من الواجبات في أول الوقت والآية مقتضية للوجوب فهي فيما قد وجب وألزم وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات وقوله تعالى في هذا الموضع وأن احكم بينهم بما أنزل الله ليس بتكرار لما تقدم من مثله لأنهما نزلا في شيئين مختلفين أحدهما في شأن الرجم والآخر في التسوية بين الديات حين تحاكموا إليه في الأمرين قوله تعالى واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك قال ابن عباس أراد أنهم يفتنونه بإضلالهم إياه عما أنزل الله إلى ما يهوون من الأحكام أطماعا منهم له في الدخول في الإسلام وقال غيره إضلالهم بالكذب على التوراة بما ليس فيها فقد بين الله تعالى حكمه قوله تعالى فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ذكر البعض والمراد الجميع كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص وكما قال يا أيها النبي والمراد جميع المسلمين بقوله إذا طلقتم النساء وفيه أن المراد الإخبار

عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقون به يهلكهم وقيل أراد تعجيل البعض بتمردهم وعتوهم وقال الحسن ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة قوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون فيه وجهان أحدهما أنه خطاب لليهود لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا أوجب على أغنيائهم لم يأخذهم به فقيل لهم أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل الكتاب وقيل إنه أريد به كل من خرج عن حكم الله إلى حكم الجاهلية وهو ما تقدم عليه فاعله بجهالة من غير علم قوله تعالى ومن أحسن من الله حكما إخبار عن حكمه بالعدل والحق من غير محاباة وجائز أن يقال إن حكما أحسن من حكم كما لو خير بين حكمين نصا وعرف أن أحدهما أفضل من الآخر كان الأفضل أحسن وكذلك قد يحكم المجتهد بما غيره أولى منه لتقصير منه في النظر أو لتقليده من قصر فيه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض روي عن عكرمة أنها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر لما تنصح إلى بني قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح وقال السدي لما كان بعد أحد خاف قوم من المشركين حتى قال رجل أو إلى اليهود وقال آخر أو إلى النصارى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال عطية بن سعد نزلت في عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبي بن سلول لما تبرأ عبادة من موالاة اليهود وتمسك بها عبدالله بن أبي وقال أخاف الدوائر والولي هو الناصر لأنه يلي صاحبه بالنصرة وولي الصغير لأنه يتولى التصرف عليه بالحياطة وولي المرأة عصبتها لأنهم يتولون عليها عقد النكاح وفي هذه الآية دلالة على أن الكافر لا يكون وليا للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة ويدل على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم لأن الولاية ضد العداوة فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم ويدل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى بعضهم أولياء بعض ويدل على أن اليهودي يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهوديا وهو أن يكون صغيرا أو مجنونا وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل ومن حيث دلت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدل على إيجاب التوارث بينهما وعل ما ذكرنا من كون الكفر كله ملة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض اليهودي للنصرانية والنصراني لليهودية وهذا الذي

ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم وأما فيما بينهم لا بين المسلمين فيختلف حكم الكتابي وغير الكتابي في جواز المناكحة وأكل الذبيحة قوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم يدل على أن حكم نصارى بني تغلب حكم نصارى بني إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقوله منكم يجوز أن يريد به المغرب لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذ تولوا الكفار صاروا مرتدين والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحة وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينما شيء من حقوق الولاية وزعم بعضهم أن قوله ومن يتولهم منكم فإنه منهم يدل على أن المسلم لا يرث المترتد لإخبار الله أنه ممن تولاه من اليهود والنصارى ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني فكذلك لا يرث المرتد قال أبو بكر وليس فيه دلالة على ما ذكرنا لأنه لا خلاف أن المرتد إلى اليهودية لا يكون يهوديا والمرتد إلى النصرانية لا يكون نصرانيا ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه فكما لم يدل ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني كذلك لا يدل على أن المسلم لا يرثه وإنما المراد أحد وجهين إن كان الخطاب لكفار العرب فهو دال على أن عبدة الأوثان من العرب إذا تهودوا أو تنصروا كان حكمهم حكمهم في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم فلا دلالة فيه على حكم الميراث فإن قال قائل لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين لأنه قال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء لم يحتمل أن يريد بقوله ومن يتولهم منكم مشركي العرب قيل له لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب جاز أن يريد بقوله ومن يتولهم منكم العرب فيفيد أن مشركي العرب إذا تولوا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملتنا بعض المذاهب الموجبة لإكفار معتقديها أن الحكم بإكفاره لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملة الإسلام وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة إذ كانوا في الجملة متولين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن كما أن

من انتحل النصرانية إلى اليهودية كان حكمه حكمهم وإن لم يكن متمسكا بجميع شرائعهم ولقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن قاتل معه أهل الردة وقال السدي هي في الأنصار وقال مجاهد في أهل اليمن وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري قال لما نزلت يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - بشيء معه إلى أبي موسى فقال هم قوم هذا وفي الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وذلك لأن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله ولم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
غير هؤلاء المذكورين وأتباعهم ولا يتهيأ لأحد أن يجعل الآية في غير المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - من العرب ولا في غير هؤلاء الأئمة لأن الله تعالى لم يأت بقوم يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر ونظير ذلك ايضا في دلالته على صحة إمامة أبي بكر قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا لأنه كان الداعي لهم إلى قتال أهل الردة وأخبر تعالى بوجوب طاعته عليهم بقوله فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما فإن قال قائل يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
هو الذي دعاهم قيل له قال الله تعالى فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبدا ولا يقاتلون معه عدوا فإن قال قائل جائز أن يكون عمر هو الذي دعاهم قيل له إن كان كذلك فإمامة عمر ثابتة بدليل الآية وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبي بكر لأنه هو المستخلف له فإن قيل جائز أن يكون علي هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب قيل له قال الله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون وعلي رضي الله عنه إنما قاتل أهل البغي وحارب أهل الكتاب على أن يسلموا أو يعطوا الجزية ولم يحارب أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
على أن يسلموا غير أبي بكر فكانت الآية دالة على صحة إمامته

باب العمل اليسير في الصلاة
قال الله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون روي عن مجاهد والسدي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم أنها نزلت في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع وروى الحسن أنه قال هذه الآية صفة جميع المسلمين لأن قوله تعالى الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون صفة للجماعة وليست للواحد وقد اختلف في معنى قوله وهم راكعون فقيل فيه أنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة وقال آخرون معنى وهم راكعون أن ذلك من شأنهم وأفرد الركوع بالذكر تشريفا له وقال آخرون معناه أنهم يصلون بالنوافل كما يقال فلان يركع أي يتنفل فإن كان المراد فعل الصدقة في حال الركوع فإنه يدل على إباحة العمل اليسير في الصلاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار في إباحة العمل اليسير فيها فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة ومنها أنه مس لحيته وأنه أشار بيده ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلى الله عليه وسلم - فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه ومنها أنه كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة لأنه إن كان المراد الركوع فكان تقديره الذين يتصدقون في حال الركوع فقد دلت على إباحة الصدقة في هذه الحال وإن كان المراد وهم يصلون فقد دلت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة فكيفما تصرفت الحال فالآية دالة على إباحة الصدقة في الصلاة فإن قال قائل فالمراد أنهم يتصدقون ويصلون ولم يرد به فعل الصدقة في الصلاة قيل له هذا تأويل ساقط من قبل أن قوله تعالى وهم راكعون إخبار عن الحال التي تقع فيها الصدقة كقوله تكلم فلان وهو قائم وأعطى فلانا وهو قاعد إنما هو إخبار عن حال الفعل أيضا لو كان المراد ما ذكرت كان تكرارا لما تقدم ذكره في أول الخطاب قوله تعالى الذين يقيمون الصلوة ويكون تقديره الذين يقيمون الصلاة ويصلون وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى فثبت أن المعنى ما ذكرنا من مدح الصدقة في حال الركوع أو في حال الصلاة وقوله تعالى ويؤتون الزكاة وهم راكعون يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة لأن عليا تصدق بخاتمه تطوعا وهو نظير قوله تعالى وما آتيتم من زكاة تريدون

وجه الله فأولئك هم المضعفون قد انتظم صدقة الفرض والنفل فصار اسم الزكاة يتناول الفرض والنفل كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين
باب
الأذان قال الله تعالى وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا قد دلت هذه الآية على أن للصلاة أذانا يدعى به الناس إليها ونحوه قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وقد روى عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال كانوا يجتمعون للصلاة لوقت يعرفونه ويؤذن بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا فجاء عبدالله بن زيد الأنصاري وذكر الأذان فقال عمر قد طاف بي الذي طاف به ولكنه سبقني وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال استشار النبي صلى الله عليه وسلم - المسلمين على ما يجمعهم في الصلاة فقالوا البوق فكرهه من أجل اليهود وذكر قصة عبدالله بن زيد وأن عمر رأى مثل ذلك فلم يختلفوا أن الأذان لم يكن مسنونا قبل الهجرة وأنه إنما سن بعدها وقد روى أبو يوسف عن محمد بن بشر الهمداني قال سألت محمد بن علي عن الأذان كيف كان أوله وما كان فقال شأن الأذان أعظم من ذلك ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما أسري به جمع النبيون ثم نزل ملك من السماء لم ينزل قبل ليلته فأذن كأذانكم وأقام كإقامتكم ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالنبيين قال أبو بكر ليلة أسري به كان بمكة وقد صلى بالمدينة بغير أذان واستشار أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة ولو كانت تبدئة الأذان قد تقدمت قبل الهجرة لما استشار فيه وقد ذكر معاذ وابن عمر في قصة الأذان ما ذكرنا والأذان مسنون لكل صلاة مفروضة منفردا كان المصلي أو في جماعة إلا أن أصحابنا قالوا جائز للمقيم المنفرد أن يصلي بغير أذان لأن أذان الناس دعاء له فيكتفى به والمسافر يؤذن ويقيم وإن اقتصر على الإقامة دون الأذان أجزأه ويكره له أن يصلي بغير أذان ولا إقامة لأنه لم يكن هناك أذان ويكون دعاء له وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من صلى في أرض بأذان وإقامة صلى خلفه صف من الملائكة لا يرى طرفاه وهذا يدل على أن من سنة صلاة المنفرد الأذان وقال في خبر آخر إذا سفرتما فأذنا وأقيما وقد ذكرنا صفة الأذان والإقامة والاختلاف فيهما في غير هذا الكتاب قوله تعالى يا أيها الذين

آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين لأن الأولياء هم الأنصار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه حين أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود وقالوا نحن نخرج معك فقال إنا لا نستعين بمشرك وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم - المشركين وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو مسلم حدثنا حجاج حدثنا حماد عن محمد بن إسحق عن الزهري أن أناسا من اليهود غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -
فقسم لهم كما قسم للمسلمين وقد روي عن النبي ص - أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبدالله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم - ليقاتل معه فقال ارجع ثم اتفقا فقال إنا لا نستعين بمشرك وقال أصحابنا لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم ومستفيض في أخبار أهل السير ونقله المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يغزو ومعه قوم من اليهود في بعض الأوقات وفي بعضها قوم من المشركين وأما وجه الحديث الذي قال فيه إنا لا نستعين بمشرك فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يثق بالرجل وظن أنه عين للمشركين فرده وقال إنا لا نستعين بمشرك يعني به من كان في مثل حاله قوله تعالى لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم قيل فيه إن معناه هلا وهي تدخل للماضي والمستقبل فإذا كانت للمستقبل فهي في معنى الأمر كقوله لم لا تفعل وهي ههنا للمستقبل يقول هلا ينهاهم ولم لا ينهاهم وإذا كانت للماضي فهو للتوبيخ كقوله تعالى لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء و لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقيل في الرباني إنه العالم بدين الرب فنسب إلى الرب كقولهم روحاني في النسبة إلى الروح وبحراني في النسبة إلى البحر وقال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره هو كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم وذكر لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب قال الرباني العالم العامل وقد اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهي عنه والاجتهاد في إزالته لذمه من ترك ذلك قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم وروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم

وصفوه بالبخل وقالوا هو مقبوض العطاء كقوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال الحسن قالوا هي مقبوضة عن عقابنا واليد في اللغة تنصرف على وجوه منها الجارحة وهي معروفة ومنها النعمة تقول لفلان عندي يد أشكره عليها أي نعمة ومنها القوة فقوله أولي الأيدي فسروه بأولي القوى ونحوه قول الشاعر ... تحملت من ذلفاء ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان ...
ومنها الملك ومنه قوله الذي بيده عقدة النكاح يعني يملكها ومنها الاختصاص بالفعل كقوله تعالى خلقت بيدي أي توليت خلقه ومنها التصرف كقوله هذه الدار في يد فلان يعني التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك وقيل أنه قال تعالى بل يداه على وجه التثنية لأنه أراد نعمتين أحدهما نعمة الدنيا والأخرى نعمة الدين والثاني قوتان بالثواب والعقاب على خلاف قول اليهود لأنه لا يقدر على عقابنا وقيل إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة كقولك لبيك وسعديك وقيل في قوله تعالى غلت أيديهم يعني في جهنم روي عن الحسن قوله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فيه إخبار بغلبة المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم وقد كان من حول المدينة منهم فئات تقاوم العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم فكان مخبره على ما أخبر به فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم - بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين وإنما ذكر النار ههنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهب لها على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم - أنا بريء من كل مسلم مع مشرك قيل لم يا رسول الله قال لا تراءى ناراهما وإنما عنى بها نار الحرب يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان وقيل إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى منها أوقدت النيران على رؤس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعم القبيلة رؤيتها فيعلمون أنهم قد ندبوا إلى

الاستعداد للحرب والتأهب لها فاستعدوا وتأهبوا فصار اسم النار في هذا الموضع مفيدا للتأهب للحرب وقد قيل فيه وجه آخر وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالف على التناصر على غيرهم والجد في حربهم وقتالهم أوقدوا نارا عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب وقال الأعشى ... وأوقدت للحرب نارا ...
قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فيه أمر للنبي ص - بتبليغ الناس جميعا وما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئا بقوله تعالى وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره بقوله تعالى والله يعصمك من الناس وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية لأنه تعالى أمره بالتبليغ وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى والله يعصمك من الناس وفيه دلالة على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها لعموم البلوى بها فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحديث وقد دل قوله تعالى والله يعصمك من الناس على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - إذا كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به لأنه لم يصل إليه احد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة والقصد لاغتياله مخادعة نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد فلم يصلا إليه ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية فأعلمه الله إياه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتساله فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة ولو لم يكن ذلك من عند الله

لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم - ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدث والتخمين وتعاطي علم النجوم والزرق والفال ونحوها فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شيء منها علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون قوله تعالى يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم فيه أمر لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل لأن إقامتها هو العمل بهما وبما في القرآن أيضا لأن قوله تعالى وما أنزل إليكم من ربكم حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله فكان خطابا لهم وإن كان محتملا لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى لستم على شيء مقتضاه لستم على شيء من الدين الحق حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم ينسخ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -
فهو ثابت الحكم مأمور به وأنه قد صار شريعة لنبينا ص - لولا ذلك لما أمروا بالثبات عليه والعمل به فإن قال قائل معلوم نسخ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا ص - فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم - ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقه وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين قيل له لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين فيكون فيها أمر باستعمالها وإخبار ببقاء حكمها أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم -
وموجبات أحكام العقول فلم تخل الآية من الدلالة على بقاء حكم ما لم ينسخ من شرائع من قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا ص - قوله تعالى ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى

في أن المسيح إله لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شيء وقد قيل في معنى قوله كانا يأكلان الطعام أنه كناية عن الحدث لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه وإن ذلك ينفي كونه إلها وقديما قوله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير وقيل إن فائدة لعنهم على لسان الأنبياء إعلامهم الأياس من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجاب وقيل إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلا يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي قوله تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق اطرا ولتقصرنه على الحق قصرا وقال أبو داود وحدثنا خلف بن هشام حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - بنحوه زادا وليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم قال أبو بكر في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالة على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر وأنه لا يكتفى منهم بالنهي دون الهجران قوله تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا روي عن الحسن وغيره أن الضمير في منهم راجع إلىاليهود وقال آخرون هو راجع

إلى أهل الكتاب والذين كفروا هم عبدة الأوثان تولاهم أهل الكتاب على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم -
ومحاربته قوله تعالى ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء روي عن الحسن ومجاهد أنه من المنافقين من اليهود أخبر أنهم غير مؤمنين بالله وبالنبي وإن كانوا يظهرون الإيمان وقيل إنه أراد بالنبي موسى عليه السلام أنهم غير مؤمنين به إذ كانوا يتولون المشركين قوله تعالى ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى الآية
قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي نزلت في النجاشي وأصحابه لما أسلموا وقال قتادة قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام فلما جاء محمد ص - آمنوا به ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وإخبارا بأنهم خير من اليهود وليس كذلك وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه
باب تحريم ما أحل الله عز و جل
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم والطيبات اسم يقع على ما يستلذ ويشتهى ويميل إليه القلب ويقع على الحال وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعا لوقوع الاسم عليهما فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين أحدهما أن يقول قد حرمت هذا الطعام على نفسي فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن أكل منه والثاني أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية وروى سعيد عن قتادة قال كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - هموا بترك اللحم والنساء والاختصاء فأنزل الله عز و جل يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال ليس في ديني ترك

النساء ولا اللحم ولا اتخاذ الصوامع وروى مسروق قال كنا عند عبدالله فأتى بضرع فتنحى رجل فقال عبدالله أدنه فكل فقال إني كنت حرمت الضرع فتلا عبدالله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كل وكفر وقال الله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم - حرم مارية وروي أنه حرم العسل على نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفارة وكذلك قال أكثر أهل العلم فيمن حرم طعاما أو جارية على نفسه أنه إن أكل من الطعام حنث وكذلك إن وطئ الجارية لزمته كفارة يمين وفرق أصحابنا بين من قال والله لا آكل هذا الطعام وبين قوله حرمته على نفسي فقالوا في التحريم إن أكل الجزء منه حنث وفي اليمين لا يحنث إلا بأكل الجميع وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله والله لأكلت منه شيئا إذ كان ذلك مقتضى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى مثل قوله حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه فكذلك تحريم الإنسان طعاما يقتضي إيجاب اليمين في أكل الجزء منه وأما اليمين بالله في نفي أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيمان المنتظمة للشروط والجواب كقول القائل إن أكلت هذا الطعام فعبدي حر فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفي أكل الجميع فإن قال قائل قال الله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فروي أن إسرائيل أخذه عرق النسا فحرم أحب الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله فكان ذلك تحريما صحيحا حاظرا لما حرم على نفسه قيل له هو منسوخ بشريعة الرسول ص - وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم -
يأكل لحم الدجاج وروي أنه كان يأكل الرطب والبطيخ وروى غالب بن عبدالله عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يأكل الدجاج حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت ابن عباس يقول كل ما شئت واكتس ما أخطأت اثنتين سرفا أو مخيلة وقد روي أن عثمان وعبدالرحمن بن عوف والحسن بن علي وعبدالله بن أبي أوفى وعمران بن حصين وأنس

ابن مالك وأبا هريرة وشريحا كانوا يلبسون الخز ويدل على نحو دلالة الاية التي ذكرنا في أكل إباحة الطيبات قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه متاع لكم ويحتج بقوله لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة
باب
الأيمان قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم عقيب نهيه عن تحريم ما أحل الله قال ابن عباس لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية وأما اللغو فقد قيل فيه أنه مالا يعتد به ومنه قول الشاعر ... أو مائة تجعل أولادها ... لغوا وعرض المائة الجلد ...
يعني نوقا لا تعتد بأولادها فعلى هذا لغو اليمين ما لا يعتد به ولا حكم له وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قوله عز و جل لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا حدثنا محمد بن بكار حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء وسئل عن اللغو في اليمين فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت لغو اليمين لا والله وبلى والله موقوفا عليها وروى عكرمة عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر يراه كذلك وليس كذلك وروي عن ابن عباس أيضا أن لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وروي عن الحسن والسدي وإبراهيم مثل قول عائشة وقال بعض أهل العلم اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد على نحو قول القائل لا والله وبلى والله على سبق اللسان وقال بعضهم اللغو في اليمين أن تحلف على معصية أن تفعلها فينبغي أن لا تفعلها ولا كفارة فيه وروي فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أصحابنا اللغو هو قوله لا والله وبلى والله فيما يظن أنه صادق فيه على الماضي وقال مالك والليث نحو ذلك وهو قول

الأوزاعي وقال الشافعي اللغو هو المعقود عليه وقال الربيع عنه من حلف على شيء يرى أنه كذلك ثم وجده على غير ذلك فعليه كفارة قال أبو بكر لما قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان أبان بذلك أن لغو اليمين غير المعقود منها لأنه لو كان المعقود هو اللغو لما عطفه عليه ولما فرق بينهما في الحكم في نفيه المؤاخذة بلغو اليمين وإثبات الكفارة في المعقودة ويدل على ذلك أيضا أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة ويدل على ذلك ايضا أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة لأن المؤاخذة قائمة في المعقودة وحكمها ثابت فبطل بذلك قول من قال إن اللغو هو اليمين المعقودة وأن فيها الكفارة فثبت بذلك أن معناه ما قال ابن عباس وعائشة وأنها اليمين على الماضي فيما يظن الحالف أنه كما قال والأيمان على ضربين ماض ومستقبل والماضي ينقسم قسمين لغو وغموس ولا كفارة في واحد منهما والمستقبل ضرب واحد وهو اليمين المعقودة وفيها الكفارة إذا حنث وقال مالك والليث مثل قولنا في الغموس إنه لا كفارة فيها وقال الحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي في الغموس الكفارة وقد ذكر الله تعالى هذه الأيمان الثلاث في الكتاب فذكر في هذه الآية اليمين اللغو والمعقودة جميعا بقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وقال في سورة البقرة لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والمراد به والله أعلم الغموس لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكسب القلب ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك فدل على أن قوله ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة وذكره للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين يدل على أن اللغو هو الذي لم يقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى ومما يدل على أن الغموس لا كفارة فيها قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة فلو أوجبنا فيها الكفارة كان زيادة في النص وذلك غير جائز إلا بنص مثله وروى عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من حلف على يمين وهو فيها آثم فاجر ليقطع بها

مالا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار فذكر النبي ص - المأثم ولم يذكر الكفارة فدل على أن الكفارة غير واجبة من وجهين أحدهما أنه لا تجوز الزيادة في النص إلا بمثله والثاني أنها لو كانت واجبة لذكرها في اليمين المعقودة في قوله ص - من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خيرا منها وليكفر عن يمينه رواه عبدالرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما ومما يدل على نفي الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة واحفظوا أيمانكم وحفظها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها ومعلوم امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ فإن قال قائل قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم يقتضي عمومه إيجاب الكفارة في سائر الأيمان إلا ما خصه الدليل قيل له ليس كذلك لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل فلا محالة أن فيه ضمير يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث وإذا ثبت أن في الآية ضميرا سقط الاحتجاج بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجب بها كفارة قبل الحنث فثبت أن في الآية ضميرا فلم يجز اعتبار عمومها إذ كان حكمها متعلقا بضمير غير مذكور فيها وأيضا قوله تعالى واحفظوا أيمانكم يقتضي أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي ألزمنا حفظها وذلك إنما هو في اليمين المعقودة التي تمكن مراعاتها وحفظها لأداء كفارتها واليمين على الماضي لا يقع فيها حنث فينتظمها اللفظ ألا ترى أنه لا يصح دخول الاستثناء عليها فتقول كان أمس الجمعة إن شاء الله والله لقد كان أمس الجمعة إذ كان الحنث وجود معنى بعد اليمين بخلاف ما عقد عليه ويدل على أن الكفارة إنما تتعلق بالحنث في اليمين بعد العقد أنه لو قال والله كان ذلك قسما ولم تلزمه كفارة بوجود هذا القول لأنه لم يتعلق به حنث وقد قرئ قوله تعالى بما عقدتم على ثلاثة أوجه عقدتم بالتشديد قد قرأه جماعة وعقدتم خفيفة وعاقدتم فقوله تعالى عقدتم بالتشديد كان أبو الحسن يقول لا يحتمل إلا عقد قول وعقدتم بالتخفيف يحتمل عقد القلب وهو العزيمة والقصد إلى القول ويحتمل عقد اليمين قولا ومتى احتمل إحدى القراءتين القول واعتقاد القلب ولم يحتمل الأخرى إلا عقد اليمين قولا وجب حمل ما يحتمل وجهين على مالا يحتمل إلا وجها واحدا فيحصل المعنى من

القراءتين عقد اليمين قولا ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصورا على هذا الضرب من الأيمان وهو أن تكون معقودة ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير معقودة وإنما هو خبر عن ماض والخبر عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقا أو كذبا فإن قال قائل إذ كان قوله تعالى عقدتم بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب ويحتمل عقد اليمين فهلا حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين وكذلك قوله تعالى بما عقدتم بالتشديد محمول على عقد اليمين فلا ينفي ذلك واستعمال اللفظ في القصد إلى اليمين فيكون عموما في سائر الأيمان قيل له لو سلم لك ما ادعيت من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت ولكانت دلالة الإجماع مانعة من حمله على ما وصفت وذلك أنه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة فبطل بذلك تأويل من تأوله اللفظ على قصد القلب في حكم الكفارة وثبت أن المراد بالقراءتين جميعا في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل فإن قال قائل قوله عقدتم بالتشديد يقتضي التكرار والمؤاخذة تلزم من غير تكرار فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه التكرار قيل له قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدا إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارة بتكرير الفعل والتضعيف وتارة بعظم المنزلة وأيضا فإن في قراءة التشديد إفادة حكم ليس في غيره وهو أنه متى أعاد المين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره وأراد به التكرار لا يلزمه واحدة فإن قيل قوله بما عقدتم بالتخفيف يفيد إيجاب الكفارة باليمين إلا كفارة أحد قيل له القراءتان والتكرار جميعا مستعملتان على ما وصفنا ولكل واحدة منهما فائدة مجددة
فصل ومن يجيز الكفارة قبل الحنث يحتج بهذه الآية من وجهين أحدهما قوله ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته فجعل ذلك كفارة عقيب عقد اليمين من غير ذكر الحنث لأن الفاء للتعقيب والثاني قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأما قوله بما عقدتم الأيمان فكفارته فإنه لا خلاف أن فيه ضميرا متى أراد إيجابها وقد علمنا لا محالة أن الآية قد تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وأنها غير واجبة قبل

الحنث فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها فكفارته وهو كقوله تعالى ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر والمعنى فأفطر فعدة من أيام أخر وقوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة فمعناه فحلق ففدية عن صيام كذلك قوله بما عقدتم الأيمان فكفارته معناه فحنثتم بكفارته لاتفاق الجميع أنها غير واجبة قبل الحنث وقد اقتضت الآية لا محالة إيجاب الكفارة وذلك لا يكون إلا بعد الحنث فثبت أن المراد ضمير الحنث فيه وأيضا لما سماه كفارة علمنا أنه أراد التكفير بها في حال وجوبها لأن ما ليس بواجب فليس بكفارة على الحقيقة ولا يسمى بهذا الاسم فعلمنا أن المراد إذا حنثتم فكفارته إطعام عشرة مساكين وكذلك قوله في نسق التلاوة ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم معناه إذا حلفتم وحنثتم لما بيناه آنفا فإن قيل يجوز أن تسمى كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يعجله من الزكاة قبل الحول زكاة لوجوب السبب الذي هو النصاب وكما يسمى ما يعجله بعد الجراحة كفارة قبل وجود القتل وإن لم تكن واجبة في هذه الحال فكذلك يجوز أن يكون ما يعجله الحالف كفارة قبل الحنث ولا يحتاج إلى إثبات إضمار الحنث في جوازها قيل له قد بينا أن الكفارة الواجبة بعد الحنث مرادة بالآية وإذا أريد بها الكفارة الواجبة امتنع أن ينتظم ما ليس منها لاستحالة كون لفظ واحد مقتضيا للإيجاب ولما ليس بواجب فمن حيث أريد بها الواجب انتفى ما ليس منها بواجب وأيضا فقد ثبت أن المتبرع بالطعام ونحوه لا يكون مكفرا بما يتبرع به إذا لم يحلف فلما كان المكفر قبل الحنث متبرعا بما أعطى ثبت أن ما أخرج ليس بكفارة ومتى فعله لم يكن فاعلا للمأمور به وأما إعطاء كفارة القتل قبل الموت بعد الجراحة وتعجيل الزكاة قبل الحول فإن جميع ما أخرج هؤلاء تطوع وليس بكفارة ولا زكاة وإنما أجزناه لما قامت الدلالة أن إخراج هذا التطوع يمنع لزوم الفرض بوجود الموت وحؤول الحول
فصل ويحتج من يوجب على من عقد نذره بشرط كفارة يمين دون المنذور مثل قوله إن دخلت الدار فالله علي حجة أو عتق رقبة أو نحو ذلك فحنث بظاهر قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته وبقوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم قال فلما كان هذا حالفا وجب أن يكون الواجب عليه بالحنث كفارة اليمين دون

المنذور بعينه وليس هذا كما ظن هذا القائل وذلك لأن النذر يوجب الوفاء بالمنذور بعينه وله أصل غير اليمين لقوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وقال تعالى يوفون بالنذر وقال تعالى أوفوا بالعقود وقال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فذمهم تعالى على ترك الوفاء بنفس المنذور وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من نذر نذرا لم يسمه فعليه كفارة يمين ومن نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به وكان قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم في اليمين المعقودة بالله عز و جل وكانت النذور محمولة على الأصول الأخر التي ذكرنا في لزوم الوفاء بها قوله تعالى واحفظوا أيمانكم فقال قائلون معناه احفظوا أنفسكم من الحنث فيها واحذروا الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية وقال آخرون أقلوا من الأيمان على نحو قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم واستشهد من قال ذلك بقول الشاعر ... قليل الألا يا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الألية برت ...
وقال آخرون معناه راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها لأن حفظ الشيء هو مراعاته وهذا هو الصحيح فأما الأول فلا معنى له لأنه غير منتهي عن الحنث إذا لم يكن ذلك الفعل معصية وقد قال ص -
من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فأمره بالحنث فيها وقد قال الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا الآية روي أنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة حين حلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن لا ينفق عليه لما كان منه من الخوض في أمر عائشة وقد كان ينفق عليه وكان ذا قرابة منه فأمره الله تعالى بالحنث في يمينه والرجوع إلى الإنفاق عليه ففعل ذلك أبو بكر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم -
بقوله يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم بالكفارة والرجوع عما حرم على نفسه فثبت بذلك أنه غير منهي عن الحنث في اليمين إذا لم يكن الفعل معصية فغير جائز أن يكون معنى قوله واحفظوا أيمانكم نهيا عن الحنث وأما من قال إن معناه النهي عن الحلف واستشهد بالبيت فقوله مرذول ساقط لأنه غير جائز أن يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين كما لا يجوز أن يقال احفظ مالك بمعنى أن لا تكسبه ومعنى البيت هو على ما نقوله مراعاة

الحنث لأداء الكفارة لأنه قال قليل الألا يا حافظ ليمينه فأخبر بديا بقلة أيمانه ثم قال حافظ ليمينه ومعناه أنه مراع لها ليؤدي كفارتها عند الحنث ولو كان على ما قال المخالف لكان تكرارا لما قد ذكره فصح أن معناه الأمر بمراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث قوله تعالى طعام عشرة مساكين روي عن علي وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن في كفارة اليمين كل مسكين نصف صاع من بر وقال عمر وعائشة أو صاعا من تمر وهو قول أصحابنا إذا أعطاهم الطعام تمليكا وقال ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء في آخرين مد من بر لكل مسكين وهو قول مالك والشافعي واختلف في الإطعام من غير تمليك فروي عن علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة يغديهم ويعشيهم وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي وقال الحسن البصري وجبة واحدة تجزئ وقال الحكم لا يجزي الإطعام حتى يعطيهم وقال سعيد بن جبير مدين من طعام ومد لإدامه ولا يجمعهم فيطعمهم ولكن يعطيهم وروي عن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وطاوس والشعبي يطعمهم أكلة واحدة وروي عن أنس مثل ذلك وقال الشافعي لا يعطيهم جملة ولكن يعطي كل مسكين مدا قال أبو بكر قال الله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فاقتضى ظاهره جواز الإطعام بالأكل من غير إعطاء ألا ترى إلى قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا قد عقل منه إطعامهم بالإباحة لهم من غير تمليك ويقال فلان يطعم الطعام وإنما مرادهم دعاؤه إياهم إلى أكل طعامه فلما كان الاسم يتناول الإباحة وجب جوازه وإذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة من غير تمليك فالتمليك أحرى بالجواز لأنه أكثر من الإباحة ولا خلاف في جواز التمليك وإنما قالوا يغديهم ويعشيهم لقوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم وهو مرتان غداء وعشاء لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات والأقل واحدة والأوسط مرتان وقد روى ليث عن ابن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا كان خبزا يابسا فهو غداؤه وعشاؤه وإنما قال أصحابنا إذا أعطاهم كان من البر نصف صاع ومن الشعير والتمر صاعا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث كعب بن عجرة في فدية الأذى أو أطعم ثلاثة آصع من طعام ستة مساكين وفي حديث آخر أطعم ستة آصع من تمر ستة

مساكين فجعل لكل مسكين صاعا من تمر أو نصف صاعا من بر ولم يفرق بين تقدير الطعام في فدية الأذى وكفارة اليمين فثبت أن كفارة اليمين مثلها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في كفارة الظهار وسقا من تمر لستين مسكينا والوسق ستون صاعا ولما ثبت في كفارة الظهار لكل مسكين صاع من تمر كانت كفارة اليمين مثلها لاتفاق الجميع على تساويهما في مقدار ما يجب فيهما من الطعام وإذا ثبت من التمر صاع وجب أن يكون من البر نصف صاع لأن كل من أوجب فيها صاعا من التمر أوجب من البر نصف صاع قوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم روي عن ابن عباس قال كان لأهل المدينة قوت وكان للكبير أكثر مما للصغير وللحر أكثر مما للمملوك فنزلت من أوسط ما تطعمون أهليكم ليس بأفضله ولا بأخسه وروي عن سعيد بن جبير مثله قال أبو بكر بين ابن عباس أن المراد الأوسط في المقدار لا بأن يكون مادوما وروي عن ابن عمر قال أوسطه الخبز والتمر والخبز والزيت وخير ما نطعم أهلنا الخبز واللحم وعن عبيدة الخبز والسمن وقال أبو رزين الخبز والتمر والخل وقال ابن سيرين أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه التمر مع الخبز روي عن عبدالله بن مسعود مثله قال أبو بكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم - سلمة بن صخر أن يكفر عن الظهار بإعطاء كل مسكين صاعا من تمر ولم يأمره معه بشيء آخر غيره من الإدام وأمر كعب بن عجرة أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ولم يأمره بالإدام ولا فرق عند أحد بين كفارة الظهار وكفارة اليمين في مقدار الطعام فثبت بذلك أن الإدام غير واجب مع الطعام وأن الأواسط المراد بالآية الأوسط في مقدار الطعام لا في ضم الإدام إليه وقوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين عموم في جميع من يقع عليه الاسم منهم فيصح الاحتجاج به في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع لأنا لو منعناه في اليوم الثاني كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض لا سيما فيمن قد دخل في حكم الآية بالاتفاق وهو قول أصحابنا وقال مالك والشافعي لا يجزي فإن قال قائل لما ذكر عشرة مساكين لم يجز الاقتصار على من دونهم كقوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله تعالى أربعة أشهر وعشرا وسائر الأعداد المذكورة لا يجوز الاقتصار على ما دونها كذلك غير جائز الاقتصار على الأقل من العدد المذكور قيل له لما كان القصد في

ذلك سد جوعة المساكين لم يختلف فيه حكم الواحد والجماعة بعد أن يتكرر عليهم الإطعام أو على واحد منهم في عشرة أيام على حسب ما يحصل به سد الجوعة فكان المعنى المقصود بإعطاء العشرة موجودا في الواحد عند تكرار الدفع والإطعام في عدد الأيام وليس يمتنع إطلاق اسم إطعام العشرة على واحد بتكرار الدفع إذ كان المقصد فيه تكرار الدفع لا تكرار المساكين كما قال تعالى يسئلونك عن الأهلة وهو هلال واحد فأطلق عليه اسم الجمع لتكرار الرؤية في الشهور وأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بالاستنجاء بثلاثة أحجار ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه وكذلك أمر برمي الجمار بسبع حصيات ولو رمى بحصاة واحدة سبع مرات أجزأه لأن المقصد فيه حصول الرمي سبع مرات والمقصد في الاستنجاء حصول المساحات دون عدد الأحجار فكذلك لما كان المقصد في إخراج الكفارة سد جوعة المساكين لم يختلف حكم الواحد إذا تكرر ذلك عليه في الأيام وبين الجماعة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى أو كسوتهم ومعلوم أن كسوتهم عشرة أثواب فصار تقديره أو عشرة أثواب لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة فوجب أن يجزي إعطاؤها الواحد منهم ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كسوة عشر مساكين مسكينا واحدا فقوله تعالى أو كسوتهم يدل من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة ويدل أيضا من الوجه الذي دل عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا ولا تجزي الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكينا واحدا إلا أن يعطيه كل يوم ثوبا لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام وجب مثله في الكسوة إذ لم يفرق واحد بينهما وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر وجب مثله في الكفارة لأن أحدا لم يفرق بينهما ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعطى غيره دراهم يشتري بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال قد أطعمه وكساه وإذا كان إطلاق ذلك سائغا انتظمه لفظ الآية ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل  ===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج16وج17وج18.وج19.كتاب أحكام القرآن المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

  ج16وج17وج18.وج19.{والاخير بمشيئة  أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19    الله الواحد}     ...