9 مصاحف

9 مصاحف روابط 9 مصاحف

الأربعاء، 27 مارس 2024

ج7وج8وج9.كتاب : أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص

 

ج7وج8وج9.كتاب : أحكام القرآن أحمد بن علي الرازي الجصاص

ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها وقد حكي عن سفيان بن عيينة أن رجلا شهد عند ابن أبي ليلى فرد شهادته قال فقلت لابن أبي ليلى مثل فلان وحاله كذا وحال ابنه كذا ترد شهادته فقال أين يذهب بك إنه فقير فكان عنده أن الفقر يمنع الشهادة إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال وأقام شهادة بما لا تجوز وقال مالك بن أنس لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير وتجوز في الشيء التافه إذا كانوا عدولا فشرط مالك مع الفقر المسألة ولم يقبلها في الشيء الكثير للتهمة وقبلها في اليسير لزوال التهمة وقال المزني والربيع عن الشافعي إذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وإذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته وقال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم عن الشافعي إذا كان أكثر أمره الطاعة ولم يقدم على كبيرة فهو عدل فأما شرط المروءة فإن أراد به التصاون والصمت والحسن وحفظ الحرمة وتجنب السخف والمجون فهو مصيب وإن أراد به نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة والشارة الحسنة فقد أبعد وقال غير الحق لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين
قال أبو بكر جميع ما قدمنا من ذكر أقاويل السلف وفقهاء الأمصار واعتبار كل واحد منهم في الشهادة ما حكينا عنه يدل على أن كلا منهم بنى قبول أمر الشهادة على ما غلب في اجتهاده واستولى على رأيه أنه ممن يرضى ويؤتمن عليها وقد اختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد فروي عن عمر بن الخطاب في كتابه الذي كتبه إلى أبو موسى في القضاء والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة وقال منصور قلت لإبراهيم وما العدل في المسلمين قال من لم تظهر منه ريبة وعن الحسن البصري والشعبي مثله وذكر معمر عن أبيه قال لما ولي الحسن القضاء كان يجيز شهادة المسلمين ةإلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد وذكر هشيم قال سمعت ابن شبرمة يقول ثلاث لم يعمل بهن أحد قبلي ولن يتركهن أحد بعدي المسألة عن الشهود وإثبات حجج الخصمين وتحلية الشهود في المسألة وقال أبو حنيفة لا أسأل عن الشهود إلا أن يطعن فيهم الخصم المشهود عليه فإن طعن فيهم سألت عنهم في السر والعلانية وزكيتهم في العلانية إلا شهود الحدود والقصاص فإني أسأل عنهم في

السر وأزكيهم في العلانية وقال محمد يسأل عنهم وإن لم يطعن فيهم وروى يوسف بن موسى القطان عن علي بن عاصم عن ابن شبرمة قال أول من سأل في السر أنا كان الرجل يأتي القوم إذا قيل له هات من يزكيك فيقول قومي يزكونني فيستحي القوم فيزكونه فلما رأيت ذلك سألت في السر فإذا صحت شهادته قلت هات من يزكيك في العلانية وقال أبو يوسف ومحمد يسأل عنهم في السر والعلانية ويزكيهم في العلانية وإن لم يطعن فيهم الخصم وقال مالك بن أنس لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسئل عنهم في السر وقال الليث أدركت الناس ولا تلتمس من الشاهدين تزكية وإنما كان الوالي يقول للخصم إن كان عندك من يجرح شهادتهم فأت به وإلا أجزنا شهادته عليك وقال الشافعي يسأل عنهم في السر فإذا عدل سأل عن تعديله علانية ليعلم أن المعدل هو هذا لا يوافق اسم اسما ولا نسب نسبا قال أبو بكر ومن قال من السلف بتعديل من ظهر إسلامه فإنما بنى ذلك على ما كانت عليه أحوال الناس من ظهور العدالة في العامة وقلة الفساق فيهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد شهد بالخير والصلاح للقرن الأول والثاني والثالث حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثلاث أو أربع ثم يجيء قوم سبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته قال وكان أصحابنا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صبيان وإنما حمل السلف ومن قال من فقهاء الأمصار مما وصفنا أمر المسلمين في عصرهم على العدالة وجواز الشهادة لظهور العدالة فيهم وإن كان فيهم صاحب ريبة وفسق كان يظهر النكير عليه ويتبين أمره وأبو حنيفة كان في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم - بالخير والصلاح فتكلم على ما كانت الحال عليه وأما لو شهد أحوال الناس بعد لقال بقول الآخرين في المسألة عن الشهود ولما حكم لأحد منهم بالعدالة إلا بعد المسألة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للأعرابي الذي شهد على رؤية الهلال أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال نعم فأمر الناس بالصيام بخبره ولم يسأل عن عدالته بعد ظهور إسلامه لما وصفنا فثبت بما وصفنا أن أمر التعديل وتزكية الشهود وكونهم مرضيين مبني على اجتهاد الرأي وغالب الظن لاستحالة إحاطة علومنا بغيب أمور الناس وقد حذرنا الله الإغترار بظاهر حال الإنسان والركون

إلى قوله مما يدعيه لنفسه من الصلاح والأمانة فقال ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية ثم أخبر عن مغيب أمره وحقيقة حاله فقال وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية فأعلمنا ذلك من حال بعض من يعجب ظاهر قوله وقال أيضا في صفة قوم آخرين وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم الآية فحذر نبيه ص - الاغترار بظاهر حال الإنسان وأمرنا بالاقتداء به فقال واتبعوه وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا الركون إلى ظاهر أمر الإنسان دون التثبت في شهادته والبحث عن أمره حتى إذا غلب في ظنه عدالته قبلها وقد وصف الله تعالى الشهود المقبولين بصفتين إحداهما العدالة في قوله تعالى اثنان ذوا عدل منكم وقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم والأخرى أن يكونوا مرضيين لقوله ممن ترضون من الشهداء والمرضيون لا بد أن تكون من صفتهم العدالة وقد يكون عدلا غير مرضي في الشهادة وهو أن يكون غمرا مغفلا يجوز عليه التذوير والتمويه فقوله ممن ترضون من الشهداء قد انتظم الأمرين من العدالة والتيقظ وذكاء الفهم وشدة الحفظ وقد أطلق الله ذكر الشهادة في الزنا غير مقيد بذكر العدالة وهي من شرطها العدالة والرضى جميعا وذلك لقوله عز و جل إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وذلك عموم في إيجاب التثبت في سائر أخبار الفساق والشهادة خبر فوجب التثبت فيها إذا كان الشاهد فاسقا فلما نص الله على التثبت في خبر الفاسق وأوجب علينا قبول شهادة العدول المرضيين وكان الفسق قد يعلم من جهة اليقين والعدالة لا تعلم من جهة اليقين دون ظاهر الحال علمنا أنها مبنية على غالب الظن وما يظهر من صلاح الشاهد وصدق لهجته وأمانته وهذا وإن كان مبنيا على أكثر الظن فهو ضرب من العلم كما قال تعالى في المهاجرات فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وهذا هو علم الظاهر دون الحقيقة فكذلك الحكم بعدالة الشاهد طريقه العلم الظاهر دون المغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى وهذا أصل كبير في الدلالة على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث إذ كانت الشهادات من معالم أمور الدين والدنيا وقد عقد بها مصالح الخلق في وثائقهم وإثبات حقوقهم وأملاكهم وإثبات الأنساب والدماء والفروج وهي مبنية على غالب الظن وأكثر الرأي إذ لا يمكن أحدا من الناس إمضاء حكم بشهادة شهود من طريق حقيقة العلم بصحة المشهود به وهو يدل

على بطلان القول بإمام معصوم في كل زمان واحتجاج من يحتج فيه بأن أمور الدين كلها ينبغي أن تكون مبنية على ما يوجب العلم الحقيقي دون غالب الظن وأكثر الرأي وأنه متى لم يكن إمام بهذه الصفة لم يؤمن الخطأ فيها لأن الرأي يخطئ ويصيب لأنه لو كان كما زعموا لوجب أن لا تقبل شهادة الشهود إلا أن يكونوا معصومين مأمونا عليهم الخطأ والزلل فلما أمر الله تعالى بقبول شهادة الشهود إذا كانوا مرضيين في ظاهر أحوالهم دون العلم بحقيقة مغيب أمورهم مع جواز الكذب والغلط عليهم ثبت بطلان الأصل الذي بنوا عليه أمر النص فإن قالوا الإمام يعلم صدق الشهود من كذبهم قيل لهم فواجب أن لا يسمع شهادة الشهود غير الإمام وأن لا يكون للإمام قاض ولا أمين إلا أن يكون بمنزلته في العصمة وفي العلم بمغيب أمر الشهود ويجب أن لا يكون أحد من أعوان الإمام إلا معصوما مأمون الزلل والخطأ لما يتعلق به من أحكام الدين فلما جاز أن يكون للإمام حكام وشهود وأعوان بغير هذه الصفة ثبت بذلك جواز كثير من أمور الدين مبنيا على اجتهاد الرأي وغالب الظن وفيما ذكرناه مما تعبدنا الله به في هذه الآية من اعتبار أحوال الشهود بما يغلب في الظن من عدالتهم وصلاحهم دلالة على بطلان قول نفاة القياس والاجتهاد في الأحكام التي لا نصوص فيها ولا إجماع لأن الدماء والفروج والأموال والأنساب من الأمور التي قد عقد بهما مصالح الدين والدنيا وقد أمر الله فيها بقول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم وإنما نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب والخطأ والزلل والسهو عليهم فثبت بذلك تجويز الاجتهاد واستعمال غلبة الرأي فيما لا نص فيه من أحكام الحوادث ولا اتفاق وفيه الدلالة على جواز قبول الأخبار المقصرة عن إيجاب العلم بمخبراتها من أمور الديانات عن الرسول ص - لأن شهادة الشهود غير موجبة للعلم بصحة المشهود به وقد أمرنا بالحكم بها مع تجويز أن يكون الأمر في المغيب بخلافه فبطل بذلك قول من قال أنه غير جائز قبول خبر من لا يوجب العلم بخبره في أمور الدين وقد دل أيضا على بطلان قول من يستدل على رد أخبار الآحاد بأنا لو قبلناها لكنا قد جعلنا منزلة المخبر أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم - إذ لم يجب في الأصل قبول خبر النبي صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ظهور المعجزات الدالة على صدقه لأن الله تعالى قد أمرنا بقبول شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة وإن لم يكن معها علم معجزة يدل على صدقهم وأما ما ذكرنا من اعتبار

نفي التهمة عن الشهادة وإن كان الشاهد عدلا فإن الفقهاء متفقون على بعضها ومختلفون في بعضها فمما اتفق عليه فقهاء الأمصار بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلا شيء يحكى عن عثمان البتي قال تجوز شهادة الولد لوالديه وشهادة الأب لابنه ولامرأته إذا كانوا عدولا مهذبين معروفين بالفضل ولا يستوي الناس في ذلك ففرق بينهما لوالده وبينها للأجنبي فأما أصحابنا ومالك والليث والشافعي والأوزاعي فإنهم لا يجيزون شهادة واحد منهما للآخر فقد حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع عن سفيان عن جابر عن الشعبي عن شريح قال لا تجوز شهادة الإبن لأبيه ولا الأب لابنه ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته وروي عن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا خالد الحذاء عن إياس بن معاوية بذلك والذي يدل على بطلان شهادته لابنه قوله عز و جل ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ولم يذكر بيوت الأبناء لأن قوله تعالى من بيوتكم قد انتظمها إذ كانت منسوبة إلى الآباء فاكتفى بذكر بيوتهم عن ذكر بيوت أبنائهم وقال ص - أنت ومالك لأبيك فأضاف الملك إليه وقال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم فلما أضاف ملك الإبن إلى الأب وأباح أكله له وسماه له كسبا كان المثبت لابنه حقا بشهادته بمنزلة مثبته لنفسه ومعلوم بطلان شهادته لنفسه فكذلك لابنه وإذا ثبت ذلك في الإبن كان ذلك حكم شهادة الابن لأبيه إذ لم يفرق أحد بينهما فإن قيل إذا كان الشاهد عدلا فواجب قبول شهادته لهؤلاء كما نقبلها لأجنبي وإن كانت شهادته لهؤلاء غير مقبولة لأجل التهمة فغير جائز قبولها للأجنبي لأن من كان متهما في الشهادة لابنه بما ليس يحق له فجائزة عليه مثل هذه التهمة للأجنبي قيل له ليست التهمة المانعة من قبول شهادته لابنه ولأبيه تهمة فسق ولا كذب وإنما التهمة فيه من قبل أنه يصير فيها بمعنى المدعي لنفسه ألا ترى أن أحدا من الناس وإن ظهرت أمانته وصحت عدالته لا يجوز أن يكون مصدقا فيما يدعيه لنفسه لا على جهة تكذيبه ولكن من جهة أن كل مدع لنفسه فدعواه غير ثابتة إلا ببينة تشهد له بها فالشاهد لابنه بمنزلة المدعي لنفسه لما بينا وكذلك قال أصحابنا إن كل شاهد يجر بشهادته

إلى نفسه مغنما أو يدفع بها عن نفسه مغرما فغير مقبول الشهادة لأنه حينئذ يقوم مقام المدعي والمدعي لا يجوز أن يكون شاهدا فيما يدعيه ولا أحد من الناس أصدق من نبي الله ص - إذ دلت الأعلام المعجزة على أنه لا يقول إلا حقا وإن الكذب غير جائز عليه مع وقوع العلم لنا بمغيب أمره وموافقة باطنه لظاهره ولم يقتصر فيما ادعاه لنفسه على دعواه دون شهادة غيره حين طالبه الخصم بها وهو قصة خزيمة بن ثابت حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أبو اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري قال حدثنا عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ابتاع فرسا من أعرابي وذكر القصة وقال فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد

أني قد بايعتك فقال خزيمة أنا أشهد أنك بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال بم تشهد فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلى الله عليه وسلم -

شهادة خزيمة بشهادة رجلين فلم يقتصر النبي ص

- في دعواه على ما تقرر وثبت بالدلائل والأعلام أنه لا يقول إلا حقا ولم يقل للأعرابي حين قال هلم شهيدا أنه لا بينة عليه وكذلك سائر المدعين فعليهم إقامة بينة لا يجر بها إلى نفسه مغنما ولا يدفع بها عنها مغرما وشهادة الوالد لولده يجر بها إلى نفسه أعظم المغنم كشهادته لنفسه والله تعالى أعلم
ومن

هذا الباب أيضا شهادة أحد الزوجين للآخر

وقد اختلف الفقهاء فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والليث لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر وقال الثوري تجوز شهادة الرجل لامرأته وقال الحسن بن صالح لا تجوز شهادة المرأة لزوجها وقال الشافعي تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر قال أبو بكر هذا نظير شهادة الوالد للولد والولد للوالد وذلك من وجوه أحدها أنه معلوم تبسط كل واحد من الزوجين في مال الآخر في العادة وأنه كالمباح الذي لا يحتاج فيه إلى الإستيذان فما يثبته الزوج لامرأته بمنزلة ما يثبته لنفسه وكذلك ما تثبته المرأة لزوجها ألا ترى أنه لا فرق في المعتاد بين تبسطه في مال الزوج والزوجة وبينه في مال أبيه وابنه ولما كان كذلك وكانت شهادته لوالده وولده غير جائزة كان كذلك حكم شهادة الزوج والزوجة وأيضا فإن شهادته لزوجته بمال توجب زيادة قيمة البضع الذي في ملكه لأن مهره مثلها يزيد بزيادة مالها فكان شاهدا لنفسه بزيادة قيمة ما هو ملكه وقد

روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبدالله بن عمرو بن الحضرمي لما ذكر له أن عبده سرق مرة لامرأته عبدكم سرق مالكم لا قطع عليه فجعل مال كل واحد منهما مضافا إليهما بالزوجية التي بينهما فما يثبته كل واحد لصاحبه فكأنه يثبته لنفسه ومن جهة أخرى أنه كلما كثر مال الزوج كانت النفقة التي تستحقها أكثر فكأنها شاهدة إذ كانت مستحقة للنفقة بحق الزوجية في حالي الفقر والغنى فإن قال قائل فالأخت الفقيرة والأخ الزمن يستحقان للنفقة على أخيهما إذا كان غنيا ولم يمنع ذلك جواز شهادتهما له قيل له ليست الأخوة موجبة للإستحقاق لأن الغني لا يستحقها مع وجود النسب والفقير لا تجب عليه مع وجود الأخوة والزوجية سبب لاستحقاقها فقيرا كان الزوج أو غنيا فكانت المرأة مثبتة بشهادتها لنفسها زيادة النفقة مع وجود الزوجية الموجبة لها والنسب ليس كذلك لأنه غير موجب للنفقة لوجوده بينهما فلذلك اختلفا
ومن

هذا الباب أيضا شهادة الأجير

وقد ذكر الطحاوي عن محمد بن سنان عن عيسى عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء وإن كان عدلا لا استحسانا قال أبو بكر روى هشام وابن رستم عن محمد أن شهادة الأجير الخاص غير جائزة لمستأجره وتجوز شهادة الأجير المشترك له ولم يذكر خلافا عن أحد منهم وهو قول عبيدالله بن الحسن وقال مالك لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزا في العدالة وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له وقال الأوزاعي لا تجوز شهادة الأجير لمستأجره وقال الثوري شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجر إلى نفسه حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا أبو عمر الحوضي قال حدثنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - رد شهادة الخائن والخائنة وشهادة ذي الغمر على أخيه ورد القانع لأهل البيت وأجازها على غيرهم وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا محمد بن راشد بإسناده مثله إلا أنه قال ورد شهادة القانع لأهل البيت قال أبو بكر قوله القانع لأهل البيت يدخل فيه الأجير الخاص لأن معناه التابع لهم والأجير الخاص هذه صفته وأما الأجير المشترك فهو وسائر الناس في ماله بمنزلة فلا يمنع ذلك جواز شهادته وكذلك شريك العنان تجوز شهادته

له في غير مال الشركة وقال أصحابنا كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدا مثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت لفسقه ثم تاب وأصلح فشهد بتلك الشهادة لم تقبل أبدا ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت ثم شهد بها بعد زوال الزوجية لم تقبل أبدا وقالوا لو شهد عبد بشهادة أو كافر أو صبي فردت ثم أعتق العبد أو أسلم الكافر أو كبر الصبي أو عتق العبد وشهد بها لم تقبل أبدا ولو لم تكن ردت قبل ذلك فإنها جائزة وروي عن عثمان بن عفان مثل قول مالك وإنما قال أصحابنا أنها إذا ردت لتهمة لم تقبل أبدا من قبل أن الحاكم قد حكم بإبطالها وحكم الحاكم لا يجوز فسخه إلا بحكم ولا يصح فسخه بما لا يثبت من جهة الحكم فلما لم يصح الحكم بزوال التهمة التي من أجلها ردت الشهادة كان حكم الحاكم بإبطال تلك الشهادة ماضيا لا يجوز فسخه أبدا وأما الرق والكفر والصغر فإن المعاني التي ردت من أجلها وحكم الحاكم بإبطالها محكوم بزوالها لأن الحرية والإسلام والبلوغ كل ذلك مما يحكم به الحاكم فلما صح حكم الحاكم بزوال المعاني التي من أجلها بطلت شهادتهم وجب أن تقبل ولما لم يصح أن يحكم الحاكم بزوال التهمة لأن ذلك معنى لا تقوم به البينة ولا يحكم به الحاكم كان حكم الحاكم بإبطالها ماضيا إذا كان ما ثبت من طريق الحكم لا ينفسخ إلا من جهة الحكم فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرناها من العدالة ونفي التهمة وقلة الغفلة هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء فانظر إلى كثره هذه المعاني والفوائد والدلالات على الأحكام التي في ضمن قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته اختصاره وظهور فوائده وجميع ما ذكرنا من عند ذكرنا لمعنى هذا اللفظ من أقاويل السلف والخلف واستنباط كل واحد منهم ما في مضمونه وتحريم موافقته مع احتماله لجميع ذلك يدل على أنه كلام الله ومن عنده تعالى وتقدس إذ ليس في وسع المخلوقين إيراد لفظ يتضمن من المعاني والدلالات والفوائد والأحكام ما تضمنه هذا القول مع اختصاره وقلة عدد حروفه وعسى أن يكون مالم يحط به علمنا من معانيه مما لو كتب لطال وكثر والله نسئل التوفيق لنعلم أحكامه ودلائل كتابه وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه قوله تعالى عز و جل أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى قرئ فتذكر إحداهما الأخرى بالتشديد وقرئ فتذكر إحداهما الأخرى بالتخفيف وقيل إن معناهما قد يكون

واحدا يقال ذكرته وذكرته وروي ذلك عن الربيع بن أنس والسدي والضحاك وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبيد مؤمل الصيرفي قال حدثنا أبو يعلى البصري قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال من قرأ فتذكر مخففة أراد تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ومن قرأ فتذكر بالتشديد أراد من جهة التذكير وروي ذلك عن سفيان بن عيينة قال أبو بكر إذا كان محتملا للأمرين وجب حمل كل واحدة من القراءتين على معنى وفائدة مجددة فيكون قوله تعالى فتذكر بالتخفيف تجعلهما جميعا بمنزلة رجل واحد في ضبط الشهادة وحفظها وإتقانها وقوله تعالى فتذكر من التذكير عند النسيان واستعمال كل واحد منهما على موجب دلالتيهما أولى من الاقتصار بها على موجب دلالة أحدهما ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن قيل يا رسول الله وما نقصان عقلهن قال جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل فهذا موافق لمعنى من تأول فتذكر إحداهما الأخرى على أنهما تصيران في ضبط الشهادة وحفظها بمنزلة رجل وفي هذه الآية دلالة على أنه غير جائز لأحد إقامة شهادة وإن عرف خطه إلا أن يكون ذاكرا لها ألا ترى ذكر ذلك بعد الكتاب والإشهاد ثم قال تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى فلم يقتصر بنا على الكتاب والخط دون ذكر الشهادة وكذلك قوله تعالى ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به لتستذكر به كيفية الشهادة وأنها لا تقام إلا بعد حفظها وإتقانها وفيها الدلالة على أن الشاهد إذا قال ليس عندي شهادة في هذا الحق ثم قال عندي شهادة فيه أنها مقبولة لقوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى فأجازها إذا ذكرها بعد نسيانها وذكر ابن رستم عن محمد رحمه الله في رجل سئل عن شهادة في أمر كان يعلمه فقال ليس عندي شهادة ثم أنه شهد بها في ذلك عند القاضي قال تقبل منه إذا كان عدلا لأنه يقول نسيتها ثم ذكرتها ولأن الحق ليس له فيجوز قوله عليه وإنما الحق لغيره فكذلك تقبل شهادته فيه قال أبو بكر يعني أنه ليس هذا مثل أن يقول المدعي ليس لي عنده هذا الحق ثم يدعيه فلا تقبل دعواه له بعد إقراره لأنه أبرأه من الحق وأقر على نفسه فجاز إقراره فلا تقبل دعواه بعد ذلك لذلك الحق لنفسه لأنه قد أبطلها بإقراره وأما الشهادة فإنما هي حق للغير فلا يبطلها قوله ليس عندي شهادة وقوله

تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى يدل على صحة هذا القول وقد اختلف الفقهاء في الشهادة على الخط فقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يشهد بها حتى يذكرها وهذا هو المشهور من قولهم وروى ابن رستم قال قلت لمحمد رجل يشهد على شهادة وكتبها بخطه وختمها أو لم يختم عليها وقد عرف خطه قال إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها ختم عليه أو لم يختم قال فقلت إن كان أميا لا يقرأ فكتب غيره له قال لا يشهد حتى يحفظ ويذكرها وقال أبو حنيفة ما وجد القاضي في ديوانه لا يقضي به إلا أن يذكره وقال أبو يوسف يقضي به إذا كان في قمطره وتحت خاتمه لأنه لو لم يفعله أضر بالناس وهو قول محمد ولا خلاف بينهم أنه لا يمضي شيئا منه إذا لم يكن تحت خاتمه وأنه لا يمضي ما وجده في ديوانه غيره من القضاة إلا أن يشهد به الشهود على حكم الحاكم الذي قبله وقال ابن أبي ليلى مثل قول أبي يوسف فيما يجده في ديوانه وذكر أبو يوسف أيضا عن ابن أبي ليلى إذا أقر عند القاضي لخصمه فلم يثبته في ديوانه ولم يقض به عليه ثم سأله المقر له به أن يقضي له على خصمه فإنه لا يقضي به عليه في قول ابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأبو يوسف يقضي به عليه إذا كان يذكره وقال مالك فيمن عرف خطه ولم يذكر الشهادة أنه لايشهد على ما في الكتاب ولكن يؤدي شهادته إلى الحاكم كما علم وليس للحاكم أن يجيزها فإن كتب الذي عليه الحق شهادته على نفسه في ذكر الحق ومات الشهود فأنكر فشهد رجلان أنه خط نفسه فإنه يحكم عليه بالمال ولا يستحلف رب المال وذكر أشهب عنه فيمن عرف خطه ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها إلى السلطان ويعلمه ليرى فيه رأيه وقال الثوري إذا ذكر أنه شهد ولا يذكر عدد الدراهم فإنه لا يشهد وإن كتبها عنده ولم يذكر إلا أنه يعرف الكتاب فإنه إذا ذكر أنه شهد وأنه قد كتبها فأرى أن يشهد على الكتاب وقال الليث إذا عرف أنه خط يده وكان ممن يعلم أنه لا يشهد إلا بحق فليشهد وقال الشافعي إذا ذكر إقرار المقر حكم به عليه أثبته في ديوانه أو لم يثبته لأنه لا معنى للديوان إلا الذكر وقال في كتاب المزني أنه لا يشهد حتى يذكر قال أبو بكر قد ذكرنا دلالة قوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ودلالة قوله تعالى بعد ذكر الكتاب ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط إذ الخط والكتاب مأمور به لتذكر به

الشهادة ويدل عليه أيضا قوله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون فإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها وقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم يدل على ذلك ويدل عليه حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع وقد تقدم ذكر سنده وأما الخط فقد يزور عليه وقد يشتبه على الشاهد فيظن أنه خطه وليس بخطه ولما كانت الشهادة من مشاهدة الشيء وحقيقة العلم به فمن لا يذكر الشهادة فهو بخلاف هذه الصفة فلا تجوز له إقامة الشهادة به وقد أكد أمر الشهادة حتى صار لا يقبل فيها إلا صريح لفظها ولا يقبل ما يقوم مقامها من الألفاظ فكيف يجوز العمل على الخط الذي يجوز عليه التزوير والتبديل وقد روي عن أبي معاوية النخعي عن الشعبي فيمن عرف الخط والخاتم ولا يذكر الشهادة أنه لا يشهد به حتى يذكرها وقوله تعالى أن تضل إحداهما معناه أن ينساها لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء فلما كان الناسي ذاهبا عما نسيه جاز أن يقال ضل عنه بمعنى أنه نسيه وقد يقال أيضا ضلت عنه الشهادة وضل عنها والمعنى واحد والله تعالى أعلم
باب الشاهد واليمين

اختلف

الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين الطالب فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة لا يحكم إلا بشاهدين ولا يقبل شاهد ويمين في شيء وقال مالك والشافعي يحكم به في الأموال خاصة قال أبو بكر قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء يوجب بطلان القول بالشاهد واليمين وذلك لأن قوله واستشهدوا يتضمن الإشهاد على عقود المداينات التي ابتدأ في الخطاب بذكرها ويتضمن إقامتها عند الحاكم ولزوم الحاكم الأخذ بها لاحتمال اللفظ للحالين ولأن الإشهاد على العقد إنما الغرض فيه إثباته عند التجاحد فقد تضمن لا محالة استشهاد الشاهدين أو الرجل والمرأتين على العقد عند الحاكم وإلزامه الحكم به وإذا كان كذلك فظاهر اللفظ يقتضي الإيجاب لأنه أمر وأوامر الله على الوجوب فقد ألزم الله الحاكم الحكم بالعدد المذكور كقوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله تعالى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور كذلك العدد المذكور للشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه وفي تجويز أقل منه

مخالفة الكتاب كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين أو حد الزنا تسعين كان مخالفا للآية وأيضا قد انتظمت الآية شيئين من أمر الشهود أحدهما العدد والآخر الصفة وهي أن يكونوا أحرارا مرضيين لقوله تعالى من رجالكم وقوله تعالى ممن ترضون من الشهداء فلما لم يجز إسقاط الصفة المشروطة لهم والاقتصار على دونها لم يجز إسقاط العدد إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها وهو العدد والعدالة والرضا فغير جائز إسقاط واحد منهما والعدد أولى بالاعتبار من العدالة والرضا لأن العدد معلوم من جهة اليقين والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر لا من طريق الحقيقة فلما لم يجز إسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر لم يجز إسقاط العدد المعلوم من جهة الحقيقة واليقين وأيضا فلما أراد الله الاحتياط في إجازة شهادة النساء أوجب شهادة المرأتين وقال أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ثم قال ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا فنفى بذلك أسباب التهمة والريب والنسيان وفي مضمون ذلك ما ينفي قبول يمين الطالب والحكم له بشاهد واحد لما فيه من الحكم بغير ما أمر به من الاحتياط والاستظهار ونفي الريبة والشك وفي قبول يمينه أعظم الريب والشك وأكبر التهمة وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل على بطلان الشاهد واليمين قول الله تعالى ممن ترضون من الشهداء وقد علمنا أن الشاهد الواحد غير مقبول ولا مراد بالآية ويمين الطالب لا يجوز أن يقع عليها إثم الشاهد ولا يجوز أن يكون رضي فيما يدعيه لنفسه فالحكم بشاهد واحد ويمينه مخالف للآية من هذه الوجوه ورافع لما قصد به من أمر الشهادات من الاحتياط والوثيقة على ما بين الله في هذه الآية وقصد به من المعاني المقصودة بها ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وفرق بين اليمين والبينة فغير جائز أن تكون اليمين بينة لأنه لو جاز أن تسمى اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل البينة على المدعي والبينة على المدعى عليه وقوله البينة اسم للجنس فاستوعب ما تحتها فما من بينة إلا وهي التي على المدعي فإذا لا يجوز أن يكون عليه اليمين وأيضا لما كانت البينة لفظا مجملا قد يقع على معان مختلفة واتفقوا أن الشاهدين والشاهد والمرأتين مرادون بهذا الخبر وأن الاسم يقع عليهم صار كقوله الشاهدان أو الشاهد والمرأتان على المدعي فغير جائز الاقتصار على ما دونهم وهذا الخبر وإن كان وروده من طريق الآحاد فإن

الأمة قد تلقته بالقبول والاستعمال فصار في حيز المتواتر ويدل عليه قوله ص - لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم فحوى هذا الخبر ضربين من الدلالة على بطلان القول بالشاهد واليمين أحدهما أن يمينه دعواه لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد فلو استحق بيمينه كان مستحقا بدعواه وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك والثاني إن دعواه لما كانت قوله ومنع النبي صلى الله عليه وسلم - أن يستحق بها شيئا لم يجز أن يستحق بيمينه إذا كانت يمينه قوله ويدل على ذلك حديث علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه في الحضرمي الذي خاصم الكندي في أرض ادعاها في يده وجحد الكندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم - للحضرمي شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك فنفى النبي صلى الله عليه وسلم - أن يستحق شيئا بغير شاهدين وأخبر أنه لا شيء له غير ذلك فإن قيل لم ينف بذلك أن يستحق بإقرار المدعى عليه كذلك لا ينفي أن يستحق بشاهد ويمين قيل له قد كان المدعى عليه جاحدا فبين النبي صلى الله عليه وسلم - حكم ما يوجب صحة دعواه عند الجحود فأما حال الإقرار فلم يجز لها ذكر وهي موقوفة على الدلالة وأيضا فإن ظاهره يقتضي أن لا يستحق شيئا إلا ما ذكرنا في الخبر والإقرار قد ثبت بالإجماع وجوب الاستحقاق به فحكمنا به أو الشاهد واليمين مختلف فيه فقضى قوله شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ببطلانه واحتج القائلون بالشاهد واليمين بأخبار رويت مبهمة ذكر فيها قضية النبي صلى الله عليه وسلم - به أنا ذاكرها ومبين ما فيها أحدها ما حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أبو سعيد قال حدثنا سليمان قال حدثنا ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن سهل بن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد وروى عثمان بن الحكم عن زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وحديث آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم قال حدثنا سيف يعني ابن سليمان المكي عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن يحيى وسلمة بن شبيب قالا حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار بإسناده ومعناه وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالرحمن بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالله بن الحرث قال حدثنا

سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد قال عمرو وإنما ذاك في الأموال وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع قال حدثنا خلد بن أبي كريمة عن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة رجل مع يمين المدعي في الحقوق ورواه مالك وسفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قضى بشهادة رجل مع اليمين قال أبو بكر والمانع من قبول هذه الأخبار وإيجاب الحكم بالشاهد واليمين بها وجوه أحدها فساد طرقها والثاني جحود المروي عنه روايتها والثالث رد نص القرآن لها والرابع أنها لو سلمت من الطعن والفساد لما دلت على قول المخالف والخامس احتمالها لموافقة الكتاب فأما فسادها من طريق النقل فإن حديث سيف بن سليمان غير ثابت لضعف سيف بن سليمان هذا ولأن عمرو بن دينار لا يصح له سماع من ابن عباس فلا يصح لمخالفنا الاحتجاج به وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن سعد بن عبادة عن أبيه أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد فلو كان عنده عن عمرو بن دينار عن ابن عباس لذكره ولم يلجأ إلى ما وجده في كتاب وأما حديث سهيل فإن محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري قال حدثنا الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد قال أبو داود وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث قال أخبرنا الشافعي عن عبدالعزيز قال فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه قال عبدالعزيز وقد كان أصابت سهيلا علة أزالت بعض عقله ونسي بعض حديثه فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن داود الإسكندراني قال حدثنا زياد يعني ابن يونس قال حدثني سليمان بن بلال عن ربيعة بإسناد أبي مصعب ومعناه قال سليمان فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث فقال ما أعرفه فقلت له إن ربيعة أخبرني به عنك قال فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني ومثل هذا الحديث لا يثبت به شريعة مع إنكار من روى

عنه إياه وفقد معرفته به فإن قال قائل يجوز أن يكون رواه ثم نسيه قيل له ويجوز أن يكون قد وهم بديا فيه وروى ما لم يكن سمعه وقد علمنا أنه كان آخر أمره جحوده وفقد العلم به فهو أولى وأما حديث جعفر بن محمد فإنه مرسل وقد وصله عبدالوهاب الثقفي وقيل إنه أخطأ فيه فذكر فيه جابرا وإنما هو عن أبي جعفر محمد بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر فهذه الأمور التي ذكرنا إحدى العلل المانعة من قبول هذه الأخبار وإثبات الأحكام بها ومن جهة أخرى وهو ما حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا إسماعيل عن سوار بن عبدالله قال سألت ربيعة الرأي قلت قولكم شهادة الشاهد ويمين صاحب الحق قال وجدت في كتاب سعد فلو كان حديث سهيل صحيحا عند ربيعة لذكره ولم يعتمد على ما وجد في كتاب سعد وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن احمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري في اليمين مع الشاهد قال هذا شيء أحدثه الناس لا إلا شاهدين حدثنا حماد بن خالد الخياط قال سألت ابن أبي ذئب إيش كان الزهري يقول في اليمين مع الشاهد قال كان يقول بدعة وأول من أجازه معاوية وروى محمد بن الحسن عن ابن أبي ذئب قال سألت الزهري عن شهادة شاهد ويمين الطالب فقال ما أعرفه وأنها البدعة وأول من قضى به معاوية والزهري من أعلم أهل المدينة في وقته فلو كان هذا الخبر ثابتا كيف كان يخفى مثله عليه وهو أصل كبير من أصول الأحكام وعلى أنه قد علم أن معاوية أول من قضى به وأنه بدعة وقد روي عن معاوية أنه قضى بشهادة امرأة واحدة في المال من غير يمين الطالب حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن احمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرزاق وروح ومحمد بن بكر قالوا أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عبدالله ابن أبي مليكة أن علقمة بن أبي وقاص أخبره أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - شهدت لمحمد بن عبدالله بن زهير وأخوته أن ربيعة بن أبي أمية أعطى أخاه زهير بن أبي أمية نصيبه من ريعه ولم يشهد على ذلك غيرها فأجاز معاوية شهادتها وحدها وعلقمة حاضر ذلك من قضاء معاوية فإن كان قضاء معاوية بالشاهد مع اليمين جائزا فينبغي أن يجوز أيضا قضاؤه بالشاهد من غير يمين الطالب فاقضوا بمثله وأبطلوا حكم الكتاب والسنة وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرزاق قال

أخبرنا ابن جريج قال كان عطاء يقول لا يجوز شهادة على دين ولا غيره دون شاهدين حتى إذا كان عبدالملك بن مروان جعل مع شهادة الرجل الواحد يمين الطالب وروى مطرف بن مازن قاضي أهل اليمن عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال أدركت هذا البلد يعني مكة وما يقضى فيه في الحقوق إلا بشاهدين حتى كان عبدالملك بن مروان يقضي بشاهد ويمين وروى الليث بن سعد عن زريق بن حكيم أنه كتب إلى عمر بن عبدالعزيز وهو عامله إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق فكتب إليه عمر إنا قد كنا نقضي كذلك وإنا وجدنا الناس على غير ذلك فلا تقضين إلا بشهادة رجلين أو برجل وامرأتين فقد أخبر هؤلاء السلف أن القضاء باليمين سنة معاوية وعبدالملك وأنه ليس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم -

فلو كان ذلك عن النبي ص

- لما خفى على علماء التابعين فهذان الوجهان اللذان ذكرنا أحدهما فساد السند واضطرابه والثاني جحود سهيل له وهو العمدة فيه وأخبار ربيعة أن أصله ما وجد في كتاب سعد وإنكار علماء التابعين وأخبارهم أنه بدعة وأن معاوية وعبدالملك أول من قضى به والوجه الثالث أنها لو وردت من طرق مستقيمة تقبل أخبار الآحاد في مثلها وعريت من ظهور نكير السلف على روايتها وأخبارهم أنها بدعة لما جاز الاعتراض بها على نص القرآن إذ غير جائز نسخ القرآن بأخبار الآحاد ووجه النسخ منه أن المفهوم منه الذي لا يرتاب به أحد من سامعي الآية من أهل اللغة حظر قبول أقل من شاهدين أو رجل وامرأتين وفي استعمال هذا الخبر ترك موجب الآية والاقتصار على أقل من العدد المذكور إذ غير جائز أن ينطوي تحت ذكر العدد المذكور في الآية الشاهد واليمين كما كان المفهوم من قوله فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة منع الاقتصار على أقل منها في كونها حدا فإن قال قائل جائز أن يكون حد القاذف أقل من ثمانين وحد الزاني أقل من مائة كان مخالفا للآية كذلك من وجه آخر وهو ما أبان الله تعالى من قبل شهادة رجل واحد فقد لخالف أمر الله وتعالى في إستشهاد شاهتدين وهو مخالف لمعنى كذلك به عن المقصد في الكتاب واستشهاد الشهود في قوله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا وقوله ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى فأخبر أن المقصد فيه الاحتياط والتوثق لصاحب الحق والاستظهار بالكتاب والشهود لنفي الريبة

والشك والتهمة عن الشهود في قوله ممن ترضون من الشهداء وفي الحكم بشاهد ويمين دفع هذه المعاني كلها وإسقاط اعتبارها فثبت بما وصفنا أن الحكم بها خلاف الآية فهذان الوجهان مما قد ظهر بهما مخالفة الحكم بالشاهد واليمين للآية وأيضا فلما كان حكم القرآن في الشاهدين والرجل والمرأتين مستعملا ثابتا وكانت أخبار الشاهد واليمين مختلفا فيها وجب أن يكون خبر الشاهد واليمين منسوخا بالقرآن لأنه لو كان ثابتا لاتفق على استعمال حكمه كاتفاقهم على استعمال حكم القرآن والوجه الرابع أن خبر الشاهد واليمين لو سلم من معارضة الكتاب وورد من طرق مستقيمة لما صح الاحتجاج به في الاستحقاق فشاهد ويمين الطالب وذلك أن أكثر ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قضى بشاهد ويمين وهذه حكاية قضية من النبي ص

- ليس بلفظ عموم في إيجاب الحكم بشاهد ويمين حتى يحتج به في غيره ولم يبين لنا كيفيتها في الخبر وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد وذلك محتمل أن يريد به أن وجود الشاهد الواحد لا يمنع استحلاف المدعى عليه وأن وجوده وعدمه بمنزلة وقد كان يجوز أن يظن ظان أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي شاهد أصلا فأبطل الراوي بنقله لهذه القضية ظن الظان لذلك وأيضا فإن الشاهد قد يكون اسما للجنس فجائز أن يكون مراد الراوي أنه قضى باليمين في حال وبالبينة في حال فلا يكون حكم الشاهد مفيدا للقضاء بشهادة واحد وهذا كقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لما كان اسما للجنس لم يكن المراد سارقا واحدا وجائز أن يكون قضى بشاهد واحد وهو خزيمة بن ثابت الذي جعل شهادته بشهادة رجلين فاستحلف الطالب مع ذلك لأن المطلوب ادعى البراءة والوجه الخامس احتماله لموافقة مذهبنا وذلك بأن تكون القضية فيمن اشترى جارية وادعى عيبا في موضع لا يجوز النظر إليه إلا لعذر فتقبل شهادة الشاهد الواحد في وجود العيب واستحلف المشتري مع ذلك بالله ما رضي فيكون قد قضى بالرد على البائع بشهادة شاهد مع يمين الطالب وهو المشتري وإذا كان خبر الشاهد واليمين محتملا لما وصفنا وجب حمله عليه وأن لا يزال به حكم ثابت من جهة نص القرآن لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وما

خالفه فليس مني

وأيضا فإن القضية المروية في الشاهد واليمين ليس فيها أنها كانت في الأموال أو غيرها وقد اتفق الفقهاء على بطلانه في غير الأموال فكذلك في الأموال فإن قيل قال عمرو ابن دينار ومذهبه وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى بها في الأموال فإذا جاز أن لا يقضى في غير الأموال وإن كانت القضية مبهمة ليس فيها بيان ذكر الأموال ولا غيرها فكذلك لا يقضى به في الأموال إذا لم يبين كيفيتها وليس القضاء بها في الأموال بأولى منه في غيرها فإن قيل إنما يقضى به فيما تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وهو الأموال فتقوم يمين الطالب مقام شاهد واحد مع شهادة الآخر قيل له هذه دعوى لا دلالة عليها ومع ذلك فكيف صارت يمين الطالب قائمة مقام شاهد آخر دون أن تقوم مقام امرأة ويقال له أرأيت لو كان المدعي امرأة هل تقيم يمينها مقام شهادة رجل فإن قال نعم قيل له فقد صارت اليمين آكد من ا لشهادة لأنك لا تقبل شهادة امرأة واحدة في الحقوق وقبلت يمينها وأقمتها مقام شهادة رجل واحد والله تعالى إنما أمرنا بقبول من نرضى من الشهداء وإن كانت هذه شهادة وقامت يمينها مقام شهادة رجل فقد خالفت القرآن لأن أحدا لا يكون مرضيا فيما يدعيه لنفسه ومما يدل على تناقض قولهم أنه لا خلاف أن شهادة الكافر غير مقبولة على المسلم في عقود المداينات وكذلك شهادة الفاسق غير مقبولة ثم إن كان المدعي كافرا أو فاسقا وشهد منه شاهد واحد استحلفوه واستحق ما يدعيه بيمينه وهو لو شهد مثل هذه الشهادة لغيره وحلف عليها خمسين يمينا لم تقبل شهادته ولا أيمانه وإذا ادعى لنفسه وحلف استحق ما ادعى بقوله مع أنه غير مرضي ولا مأمون لا في شهادته ولا في أيمانه وفي ذلك دليل على بطلان قولهم وتناقض مذهبهم
قوله عز و جل ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا روي عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد والشعبي وطاوس إذا ما دعوا لإقامتها وعن قتادة والربيع بن أنس إذا دعوا لإثبات الشهادة في الكتب وقال ابن عباس والحسن هو على الأمرين جميعا من إثباتها في الكتاب وإقامتها بعد علم الحاكم قال أبو بكر الظاهر أنه عليهما جميعا لعموم اللفظ هو في الابتداء على إثبات الشهادة كأنه قال إذا دعوا لإثبات شهاداتهم في الكتاب ولا خلاف أنه ليس على الشهود الحضور عند المتعاقدين وإنما على المتعاقدين أن يحضرا عند الشهود فإذا حضرا هم وسألاهم إثبات شهاداتهم في الكتاب فهذه الحال هي المرادة بقوله

إذا ما دعوا لإثبات الشهادة وأما إذا ما أثبتا شهادتهما ثم دعيا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو كحضورهما عند الحاكم للأن الحاكم ا يحضر عند الشاهدين يشهدا عنده وإنما الشهود عليهم الحضور عند الحاكم فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب والدعاء والثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة عنده وقوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم يجوز أن ليكيون أيضا على الحالين من الابتداء والإقامة لها عند الحاكم وقوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى لا يدل على أن المراد ابتداء الشهادة لأنه ذكر بعض ما انتظمه اللفظ فلا دلالة فيه على خصوصه فيه دون غيره فإن قال قائل لما قال ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فسماهم شهداء دل على أن المراد حال إقامتها عند الحاكم لأنهم لا يسمون شهداء قبل أن يشهدوا في الكتاب قيل له هذا غلط لأن الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فسماهما شهيدين وأمر باستشهادهما قبل أن يشهدا لأنه لا خلاف أن حال الابتداء مرادة بهذا اللفظ وهو كما قال تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فسماه زوجا قبل أن تتزوج وإنما يلزم الشاهد إثبات الشهداء ابتداء ويلزمه إقامتها على طريق الإيجاب إذا لم يجد من يشهد غيره وهو فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز وغسل الموتى دفنهم ومتى قام به بعض سقط عن الباقين وكذلك حكم الشهادة في تحملها وأدائها والذي يدل على أنها فرض على الكفاية أنه غير جائز للناس كلهم الامتناع من تحمل الشهادة ولو جاز لكل واحد أن يمتنع من تحملها لبطلت الوثائق وضاعت الحقوق وكان فيه سقوط ما أمر الله تعالى به وندب إليه من التوثق بالكتاب والاشهاد فدل ذلك على لزوم فرض إثبات الشهادة في الجملة والدليل على أن فرضها غير معين على كل أحد في نفسه اتفاق المسلمين على أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها ويدل عليه قوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد فإذا ثبت فرض التحمل على الكفاية كان حكم الأداء عند الحاكم كذلك إذا قام بها البعض منهم سقط عن الباقين وإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتها بقوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا وقال ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وقال وأقيموا الشهادة لله وقوله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ولو على أنفسكم وإذا كان منهما مندوحة بإقامة غيرهما فقد سقط

الفرض منهما لما وصفنا قوله عز و جل ولا تساموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله يعني والله أعلم لا تملوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل الذي جرت العادة بتأجيله والكثير الذي ندب فيه الكتاب والإشهاد لأنه معلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق ونحوه إذ ليس في العادة المدينة بمثله إلى أجل فأبان أن حكم القليل المتعارف فيه التأجيل كحكم الكثير فيما ندب إليه من الكتابة والإشهاد لما ثبت أن النزر اليسير غير مراد بالآية وإن قليل ما جرت به العادة فهو مندوب إلى كتابته والإشهاد فيه وكل ما كان مبنيا على العادة فطريقه الاجتهاد وغالب الظن وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا توقيف فيها ولا اتفاق وقوله إلى أجله يعني إلى محل أجله فيكتب ذكر الأجل في الكتاب ومحله كما كتب أصل الدين وهذا يدل على أن عليهما أن يكتبا في الكتاب صفة الدين ونقده ومقداره لأن الأجل بعض أوصافه فحكم سائر أوصافه بمنزلته وقوله تعالى ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة فيه بيان أن الغرض الذي أجري بالأمر وبالكتاب واستشهاد الشهود هي الوثيقة والاحتياط للمتداينين عند التجاحد ورفع الخلاف وبين المعنى المراد بالكتابة فأعلمهم أن ذلك أقسط عند الله بمعنى أنه أعدل وأولى أن لا يقع فيه بينهم التظالم وأنه مع ذلك أقوم للشهادة يعني والله أعلم أنه أثبت لها وأوضح منها لو لم تكن مكتوبة وأنه مع ذلك أقرب إلى نفي الريبة والشك فيها فأبان لنا جل وعلا أنه أمر بالكتاب والإشهاد احتياطا لنا في ديننا ودنيانا ودفع التظالم فيما بيننا وأخبر مع ذلك أن في الكتاب من الاحتياط للشهادة ما نفى عنها الريب والشك وأنه أعدل عند الله من أن لا يكون مكتوبا فيرتاب الشاهد فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الارتياب والشك فيقدم على محظور أو يتركها فلا يقيمها فيضيع حق الطالب وفي هذا دليل على أن الشهادة لا تصح إلا مع زوال الريب والشك فيها وأنه لا يجوز للشاهد إقامتها إذا لم يذكرها وإن عرف خطه لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا يرتاب بالشهادة فدل ذلك على أنه لا تجوز له إقامتها مع الشك فيها فإذا كان الشك فيها يمنع فعدم الذكر والعلم بها أولى أن يمنع صحتها قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها يعني والله أعلم البياعات التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل فأباح ترك الكتاب فيها وذلك توسعة منه جل

وعز لعباده ورحمة لهم لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في المأكول والمشروب والأقوات التي حاجتهم إليها ماسة في أكثر الأوقات ثم قال تعالى في نسق هذا الكلام وأشهدوا إذا تبايعتم وعمومه يقتضي الإشهادة على سائر عقود البياعات بالأثمان العاجلة والآجلة وإنما خص التجارات الحاضرة غير المؤجلة بإباحة ترك الكتاب فيها فأما الإشهاد مندوب إليه في جميعها إلا النزر اليسير الذي ليس في العادة التوثق فيها بالإشهاد نحو شرى الخبز والبقل والماء وما جرى مجرى ذلك وقد روي عن جماعة من السلف أنهم رأوا الإشهاد في شري البقل ونحوه ولو كان مندوبا إليه لنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة والسلف والمتقدمين ولنقله الكافة لعموم الحاجة إليه وفي علمنا بأنهم كانوا يتبايعون الأقوات وما لا يستغني الإنسان عن شرائه من غير نقل عنهم الإشهاد فيه دلالة على أن الأمر بالإشهاد وإن كان ندبا وإرشادا فإنما هو في البياعات المعقودة على ما يخشى فيه التجاحد من الأثمان الخطيرة والأبدال النفيسة لما يتعلق بها من الحقوق لبعضهم على بعض من عيب إن وجده ورجوع ما يجب لمبتاعيه باستحقاق مستحق لجميعه أو بعضه وكان المندوب إليه فيما تضمنته هذه الآية الكتاب والإشهاد على البياعات المعقودة على أثمان آجلة والإشهاد على البياعات الحاضرة دون الكتاب وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم قال إذا كان نسيئة كتب وإذا كان نقدا أشهد وقال الحسن في النقد إن أشهدت فهو ثقة وإن لم تشهد فلا بأس وعن الشعبي مثل ذلك وقد قال قوم إن الأمر بالإشهاد منسوخ بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وقد بينا الصواب عندنا من ذلك فيما سلف قوله عز و جل ولا يضار كاتب ولا شهيد روى يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال هي أن يجيء الرجل إلى الكاتب أو الشاهد فيقول إني على حاجة فيقول إنك قد أمرت أن تجيب فلا يضار وعن طاوس ومجاهد مثله وقال الحسن وقتادة لا يضار كاتب فيكتب مالم يؤمر به ولا يضار الشهيد فيزيد في شهادته وقرأ الحسن وقتادة وعطاء ولا يضار كاتب بكسر الراء وقرأ عبدالله بن مسعود ومجاهد لا يضار بفتح الراء فكانت إحدى القرائتين نهيا لصاحب الحق عن مضارة الكاتب والشهيد والقراءة الأخرى فيها نهي الكاتب والشهيد عن مضارة صاحب الحق وكلاهما صحيح مستعمل فصاحب الحق منهي عن مضارة الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن حوائجهما ويلح عليهما في الاشتغال

بكتابه وشهادته والكاتب والشهيد كل واحد منهما منهي عن مضارة الطالب بأن يكتب الكتاب مالم يمل ويشهد الشهيد بما لم يستشهد ومن مضارة الشهيد للطالب القعود عن الشهادة وليس فيها إلا شاهدان فعليهما فرض أدائها وترك مضارة الطالب بالامتناع من إقامتها وكذلك على الكاتب أن يكتب إذا لم يجدا غيره فإن قيل قوله تعالى في التجارة فليس عليكم جناح ألا تكتبوها فرق بينها وبين الدين المؤجل دلالة على أن عليهم كتب الدين المؤجل والإشهاد فيه قيل له ليس كذلك لأن الأمر بالإشهاد على عقود المداينات المؤجلة لما كان مندوبا إليه وكان تاركه تاركا لما ندب إليه من الإحتياط لماله جاز أن يعطف عليه قوله إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها بأن لا تكونوا تاركين لما ندبتم إليه بترك الكتابة كما تكونوا تاركين الندب والاحتياط إذا لم تكتبوا الديون المؤجلة ولم تشهدوا عليها ويحتمل قوله فليس عليكم جناح أنه لا ضرر عليكم في باب حياطة الأموال لأن كل واحد منهما يسلم ما استحق عليه بإزاء تسليم الآخر وقوله وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم عطفا على ذكر المضارة تدل على أن مضارة الطالب للكاتب والشهيد ومضارتهما له فسق لقصد كل واحد منهم إلى مضارة صاحبه بعد نهي الله تعالى عنها والله أعلم
باب

الرهن

قال الله تعالى وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة يعني والله أعلم إذا عدمتم التوثق بالكتاب والإشهاد فالوثيقة برهان مقبوضة وقام الرهن في باب التوثق في الحال التي لا يصل فيها إلى التوثق بالكتاب والإشهاد مقامها وإنما ذكر حال السفر لأن الأغلب فيها عدم ا لكتاب والشهود وقد روي عن مجاهد أنه كان يكره الرهن إلا في السفر وكان عطاء لا يرى به بأسا في الحضر فذهب مجاهد إلى أن حكم الرهن لما كان مأخوذا من الآية وإنما أباحته الآية في السفر لم يثبت في غيره وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك ولا خلاف بين فقهاء الأمصار وعامة السلف في جوازه في الحضر وقد روى إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه وروى قتادة عن أنس قال رهن ا

لنبي ص - درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله فثبت جواز الرهن في الحضر بفعله ص -

وقال تعالى فاتبعوه وقال لقد كان

لكم في رسول الله أسوة حسنة فدل على أن تخصيص الله لحال السفر بذكر الرهن إنما هو لأن الأغلب فيها عدم الكاتب والشهيد وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - في خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض وفي ست وثلاثين ابنة لبون لم يرد به وجود المخاض واللبن بالأم وإنما أخبر عن الأغلب الأعم من الحال وإن كان جائزا أن لا يكون بأمها مخاض ولا لبن فكذلك ذكر السفر هو على هذا الوجه وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا قطع في ثمر حتى يؤويه الجرين والمراد استحكامه وجفافه لا حصوله في الجرين لأنه لو حصل في بيته أو حانوته بعد إستحكامه وجفافه فسرقه سارق قطع فيه فكان ذكر الجرين على الأغلب الأعم من حاله في استحكامه فكذلك ذكره لحال السفر هو على هذا المعنى وقوله فرهان مقبوضة يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من وجهين أحدهما أنه عطف على ما تقدم من قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضى للإيجاب والوجه ا لثاني أن حكم الرهن مأخوذ من الآية والآية إنما أجازته بهذه الصفة فغير جائز إجازته على غيرها إذ ليس ههنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضا أنه معلوم أنه وثيقة لمرتهن بدينه ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وتيقة للمرتهن فيها وإنما جعل وثيقة له ليكون محبوسا في يده بدينه فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من سائر الغرماء ومتى لم يكن في يده كان لغوا لا معنى فيه وهو وسائر الغرماء فيه سواء ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسا بالثمن ما دام في يد البائع فإن هو سلمه إلى المشتري سقط حقه وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه واختلف الفقهاء في إقرار المتعاقدين بقبض الرهن فقال أصحابنا جميعا والشافعي إذا قامت البينة على إقرار الراهن بالقبض والمرتهن يدعيه جازت الشهادة وحكم بصحة الرهن وعند مالك أن البينة غير مقبولة على إقرار المصدق بالقبض حتى يشهدوا على معاينة القبض فقيل إن القياس قوله في الرهن كذلك والدليل على جواز الشهادة على إقرارهما بقبض الرهن اتفاق

الجميع على جواز أقراره بالبيع والغصب والقتل فكذلك قبض الرهن والله أعلم
ذكر

اختلاف الفقهاء في رهن المشاع

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يجوز رهن المشاع فيما يقسم ولا فيما لا يقسم وقال مالك والشافعي يجوز فيما لا يقسم وما يقسم وذكر ابن المبارك عن الثوري في رجل يرتهن الرهن ويستحق بعضه قال يحرج من الرهن ولكن له أن يجبر الراهن على أن يجعله رهنا فإن مات قبل أن يجعله رهنا كان بينه وبين الغرماء وقال الحسن بن صالح يجوز رهن المشاع فيما لا يقسم ولا يجوز فيما يقسم قال أبو بكر لما صح بدلالة الآية أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من حيث كان رهنه على جهة الوثيقة وكان في ارتفاع القبض ارتفاع معنى الرهن وهو الوثيقة وجب أن لا يصح رهن المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم لأن المعنى الموجب لاستحقاق القبض وإبطال الوثيقة مقارن العقد وهو الشركة التي يستحق بها دفع القبض للمهايأة فلم يجز أن يصح مع وجود ما يبطله ألا ترى أنه متى استحق ذلك القبض بالمهايأة وعاد إلى يد الشريك فقد بطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة الرهن الذي لم يقبض وليس ذلك بمنزلة عارية الرهن المقبوض إذا أعاده لراهن فلا يبطل الرهن وله أن يرده إلى يده من قبل أن هذا القبض غير مستحق وللمرتهن أخذه منه متى شاء وإنما هو ابتدأ به من غير أن يكون ذلك القبض مستحقا بمعنى يقارن العقد وليس هذا أيضا بمنزلة هبة المشاع فيما لا يقسم فيجوز عندنا وإن كان من شرط الهبة القبض كالرهن من قبل أن الذي يحتاج إليه في الهبة من القبض لصحة الملك وليس من شرط بقاء الملك استصحاب اليد فلما صح القبض بديا لم يكن في استحقاق اليد تأثير في رفع الملك ولما كان في استحقاق المرتهن رفع معنى الوثيقة لم يصح مع وجود ما يبطله وينافيه فإن قيل هلا أجزت رهنه من شريكه إذ ليس فيه استحقاق يده في الثاني لأن يده تكون باقية عليه إلى وقت الفكاك قيل له لأن للشريك استخدامه إن كان عبدا بالمهايأة بحق ملكه ومن فعل ذلك لم يكن يده فيه يد رهن فقد استحقت يد الرهن في اليوم الثاني فلا فرق بين الشريك وبين الأجنبي لوجود المعنى الموجب لاستحقاق قبض الرهن مقارنا للعقد واختلف في رهن الدين فقال سائر الفقهاء لا يصح رهن الدين بحال وقال ابن القاسم عن مالك في قياس قوله إذا كان لرجل على رجل دين فبعته بيعا وارتهنت منه الدين الذي

له عليه فهو جائز وهو أقوى من أن يرتهن دينا على غيره لأنه جائز لما عليه قال ويجوز في قول مالك أن يرهن الرجل الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويبتاع من رجل بيعا ويرهن منه الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويقبض ذلك الحق له ويشهد له وهذا قول لم يقل أحد به من أهل العلم سواه وهو فاسد أيضا لقوله تعالى فرهان مقبوضة وقبض الدين لا يصح ما دام دينا لا إذا كان عليه ولا إذا كان على غيره لأن الدين هو حق لا يصح فيه قبض وإنما يتأتى القبض في الأعيان ومع ذلك فإنه لا يخلو ذلك الدين من أن يكون باقيا على حكم الضمان الأول أو منتقلا إلى ضمان الرهن فإن انتقل إلى ضمان الرهن فالواجب أن يبرأ من الفضل إذا كان الدين الذي به الرهن أقل من الرهن وإن كان باقيا على حكم الضمان الأول فليس هو رهنا لبقائه على ما كان عليه والدين الذي على الغير أبعد في الجواز لعدم الحيازة فيه والقبض بحال وقد اختلف الفقهاء في الرهن إذا وضع على يدي عدل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري يصح الرهن إذا جعلاه على يدي عدل ويكون مضمونا على المرتهن وهو قول الحسن وعطاء والشعبي وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة والأوزاعي لا يجوز حتى يقبضه المرتهن وقال مالك إذا جعلاه على يدي عدل فضياعه من الراهن وقال الشافعي في رهن شقص السيف إن قبضه أن يحول حتى يضعه الراهن والمرتهن على يدي عدل أو على يدي الشريك قال أبو بكر قوله عز و جل فرهان مقبوضة يقتضي جوازه إذا قبضه العدل إذ ليس فيه فصل بين قبض المرتهن والعدل وعمومه يقتضي جواز قبض كل واحد منهما وأيضا فإن العدل وكيل للمرتهن في القبض فكان القبض بمنزلة الوكالة في الهبة وسائر المقبوضات بوكالة من له القبض فيها فإن قيل لو كان العدل وكيلا للمرتهن لكان له أن يقبضه منه ولما كان للعدل أن يمنعه إياه قيل له هذا لا يخرجه عن أن يكون وكيلا وقابضا له وإن لم يكن له حق القبض من قبل أن الراهن لم يرض بيده وإنما رضي بيد وكيله ألا ترى أن الوكيل بالشرى هو قابض للسلعة للموكل وله أن يحبسها بالثمن ولو هلك قبل الحبس هلك من مال الموكل وليس جواز حبس الوكيل الرهن عن المرتهن علما لنفي الوكالة وكونه قابضا له ويدل على أن يد العدل يد المرتهن وأنه وكيله في القبض أن للمرتهن متى شاء أن يفسخ هذا الرهن ويبطل يد العدل ويرده إلى الراهن وليس للراهن إبطال يد العدل فدل ذلك

على أن العدل وكيل للمرتهن فإن قيل لو جعلا المبيع على يدي عدل لم يخرج عن ضمان البيع ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري في قبضه كذلك المرتهن قيل له الفرق بينهما أن العدل في البيع لو صار وكيلا للمشتري لخرج عن ضمان البائع وفي خروجه من ضمان بائعه سقوط حقه منه ألا ترى أنه لو أحاز قبضه بطل حقه ولم يكن له استرجاعه لأن المبيع ليس له إلا قبض واحد فمتى وجد سقط حق البائع ولم يكن له أن يرده إلى يده وكذلك إذا أودعه إياه فلذلك لم يكن العدل وكيلا للمشتري لأنه لو صار وكيلا له لصار قابضا له قبض بيع ولم يكن المشتري ممنوعا منه فكان لا معنى لقبض العدل بل يكون المشتري كأنه قبضه والبائع لم يرض بذلك فلم يجز إثباته ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري ومن جهة أخرى أنه لو قبضه للمشتري لتم البيع فيه وفي تمام البيع سقوط حق البائع فيه فلا معنى لبقائه في يدي العدل بل يجب أن يأخذه المشتري والبائع لم يرض بذلك وليس كذلك الرهن لأن كون العدل وكيلا للمرتهن لا يوجب إبطال حق الراهن ألا ترى أن حق الراهن باق بعد قبض المرتهن فكذلك بعد قبض العدل فلا فرق بين قبض العدل وقبض المرتهن وفارق العدل في الشرى لامتناع كونه وكيلا للمشتري إذ كان يصير في معنى قبض المشتري في خروجه من ضمان البائع ودخوله في ضمانه وفي معنى تمام البيع فيه وسقوط حق البائع منه والبائع لم يرض بذلك ولا يجوز أن يكون عدلا للبائع من قبل أن حق الحبس موجب له بالعقد فلا يسقط ذلك أو يرضى بتسليمه إلى المشتري أو يقبض الثمن والله أعلم
باب

ضمان الرهن

قال الله تعالى فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته فعطف بذكر الأمانة على الرهن فذلك يدل على أن الرهن ليس بأمانة وإذا لم يكن أمانة كان مضمونا إذ لو كان الرهن أمانة لما عطف عليه الأمانة لأن الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره واختلف الفقهاء في حكم الرهن فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبي ليلى والحسن بن صالح الرهن مضمون بأقل من قيمته ومن الدين وقال الثقفي عن عثمان البتي ما كان من رهن ذهبا أو فضة أو ثيابا فهو مضمون يترادان الفضل وإن كان عقارا أو حيوانا فهلك فهو من مال الراهن والمرتهن على حقه إلا أن يكون الراهن

اشترط الضمان فهو على شرطه وقال ابن وهب عن مالك إن علم هلاكه فهو من مال الراهن ولا ينقص من حق المرتهن شيء وإن لم يعلم هلاكه فهو من مال المرتهن وهو ضامن لقيمته يقال له صفه فإذا وصفه حلف على صفته وتسمية ماله فيه ثم يقومه أهل البصر بذلك فإن كان فيه فضل عما سمي فيه أخذه الراهن وإن كان أقل مما سمى الراهن حلف على ما سمى وبطل عنه الفضل وإن أبى الراهن أن يحلف أعطى المرتهن ما فضل بعد قيمة الرهن وروى عنه ابن القاسم مثل ذلك وقال فيه إذا شرط أن المرتهن مصدق في ضياعه وأن لا ضمان عليه فيه فشرطه باطل وهو ضامن وقال الأوزاعي إذا مات العبد الرهن فدينه باق لأن الرهن لا يغلق ومعنى قوله لا يغلق الرهن أنه لا يكون بما فيه إذا علم ولكن يترادان الفضل إذا لم يعلم هلاكه وقال الأوزاعي في قوله له غنمه وعليه غرمه قال فأما غنمه فإن كان فيه فضل رد إليه وأما غرمه فإن كان فيه نقصان وفاه إياه وقال الليث الرهن مما فيه إذا هلك ولم تقم بينة على ما فيه إذا اختلفا في ثمنه فإن قامت البينة على ما فيه ترادا الفضل وقال الشافعي هو أمانة لا ضمان عليه فيه بحال إذا هلك سواء كان هلاكه ظاهرا أو خفيا قال أبو بكر قد اتفق السلف عن الصحابة والتابعين على ضمان الرهن لا نعلم بينهم خلافا فيه إلا أنهم اختلفوا في كيفية ضمانه اختلفت الرواية عن علي رضي الله عنه فروى إسرائيل عن عبدالأعلى عن محمد بن علي عن علي قال إذا كان أكثر مما رهن فهلك فهو بما فيه لأنه أمين في الفضل وإذا كان بأقل مما رهنه به فهلك رد الراهن الفضل وروى عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر مثله وهو قول إبراهيم النخعي وروى الشعبي عن الحرث عن علي في الرهن إذا هلك قال يترادان الفضل وروى قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي قال إذا ان فيه فضل فأصابته جائحة فهو بما فيه وإن لم تصبه جائحة واتهم فإنه يرد الفضل فروى عن علي هذه الروايات الثلاث وفي جميعها ضمانه إلا أنهم اختلفوا عنه في كيفية الضمان على ما وصفنا وروي عن ابن عمر أنه يترادان الفضل وقال شريح والحسن وطاوس والشعبي وابن شبرمة أن الرهن بما فيه وقال شريح وإن كان خاتما من حديد بمائة درهم فلما اتفق السلف على ضمانه وكان اختلافهم إنما هو في كيفية الضمان كان قول القائل إنه أمانة غير مضمون خارجا عن قول الجميع وفي الخروج عن اختلافهم مخالفة لإجماعهم وذلك أنهم لما اتفقوا على ضمانه فذلك اتفاق منهم على

بطلان قول القائل بنفي ضمانه ولا فرق بين اختلافهم في كيفية ضمانه وبين اتفاقهم على وجه واحد فيه أن يكون قد حصل من اتفاقهم أنه مضمون فهذا اتفاق قاض بفساد قول من جعله أمانة وقد تقدم ذكر دلالة الآية على ضمانه ومما يدل عليه من جهة السنة حديث عبدالله بن المبارك عن مصعب بن ثابت قال سمعت عطاء يحدث أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - للمرتهن ذهب حقك وفي لفظ آخر لا شيء لك فقوله للمرتهن ذهب حقك إخبار بسقوط دينه لأن حق المرتهن هو دينه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن علي الغنوي وعبدالوارث بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن أبي أمية الزارع قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الرهن بما فيه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحسين بن إسحاق قال حدثنا المسيب بن واضح قال حدثنا ابن المبارك عن مصعب بن ثابت قال حدثنا علقمة بن مرثد عن محارب بن دثار قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن الرهن بما فيه والمفهوم من ذلك ضمانه بما فيه من الدين ألا ترى إلى قول شريح الرهن بما فيه ولو خاتما من حديد وكذلك قول محارب بن دثار إنما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في خاتم رهن بدين فهلك أنه بما فيه وظاهر ذلك يوجب أن يكون بما فيه قل الدين أو كثر إلا أنه قد قامت الدلالة على أن مراده إذا كان الدين مثل الرهن أو أقل وأنه إذا كان الدين أكثر رد الفضل ويدل على أنه مضمون اتفاق الجميع على أن المرتهن أحق به بعد الموت من سائر الغرماء حتى يباع فيستوفي دينه منه فدل ذلك على أنه مقبوض للإستيفاء فقد وجب أن يكون مضمونا ضمان الإستيفاء لأن كل شيء مقبوض على وجه فإنما يكون هلاكه على الوجه الذي هو مقبوض به كالمغصوب متى هلك هلك على ضمان الغصب وكذلك المقبوض على بيع فاسد أو جائز إنما يهلك على الوجه الذي حصل قبضه عليه فلما كان الرهن مقبوضا للإستيفاء بالدلالة التي ذكرنا وجب أن يكون هلاكه على ذلك الوجه فيكون مستوفيا بهلاكه لدينه الذي يصح عليه الإستيفاء فإذا كان الرهن أقل قيمة فغير جائز أن يجعل استيفاء العدة بما هو أقل منها وإذا كان أكثر منه لم يجز أن يستوفى منه أكثر من مقدار دينه فيكون أمينا في الفضل ويدل على ضمانه اتفاق الجميع على بطلان الرهن بالأعيان نحو الودائع والمضاربة والشركة لا يصح الرهن بها لأنه لو هلك لم يكن مستوفيا للعين وصح بالديون المضمونة وفي هذا دليل على أن الرهن مضمون

بالدين فيكون المرتهن مستوفيا له بهلاكه ويدل عليه أنا لم نجد في الوصول حبسا لملك الغير لحق لا يتعلق به ضمان ألا ترى أن المبيع مضمون على البائع حتى يسلمه إلى المشتري لما كان محبوسا بالثمن وكذلك الشيء المستأجر يكون محبوسا في يد مستأجره مضمونا بالمنافع استعمله أو لم يستعمله ويلزمه بحبسه ضمان الأجرة التي هي بدل المنافع فثبت أن حبس ملك الغير لا يخلو من تعلق ضمان واحتج الشافعي لكونه أمانة بحديث ابن أبي ذؤيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه قال الشافعي

ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر إنما يوصله يحيى بن أبي أنيسة وقوله له غنمه وعليه غرمه من كلام سعيد بن المسيب كما روى مالك ويونس وابن أبي ذؤيب عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا يغلق الرهن قال يونس بن زيد قال ابن شهاب وكان ابن المسيب يقول الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه فأخبر ابن شهاب أن هذا قول ابن المسيب لا عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولو كان ابن المسيب قد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم -

لما قال وكان ابن المسيب يقول ذلك بل كان يغرمه إلى النبي ص

- فاحتج الشافعي بقوله له غنمه وعليه غرمه بأنه قد أوجب لصاحب الرهن زيادته وجعل عليه نقصانه والدين بحاله قال أبو بكر فأما قوله لا يغلق الرهن فإن إبراهيم النخعي وطاوسا ذكرا جميعا أنهم كانوا يرهنون ويقولون إن جئتك بالمال إلى وقت كذا وإلا فهو لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يغلق الرهن وتأوله على ذلك أيضا مالك وسفيان وقال أبو عبيد لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع قد غلق الرهن إنما يقال غلق إذا استحقه المرتهن فذهب به وهذا كان من فعل أهل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله لا يغلق الرهن وقال بعض أهل اللغة إنهم يقولون غلق الرهن إذا ذهب بغير شيء قال زهير ... وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا ... يعني ذهبت بقلبه شيء ومنه قول الأعشى ... فهل يمنعني ارتياد البلا ... دمن حذر الموت أن يأتين ... على رقيب له حافظ ... فقل في امرئ غلق مرتهن ... فقال في البيت الثاني فقل في امرئ غلق مرتهن يعني أنه يموت فيذهب بغير شيء كأن لم

يكن فهذا يدل على أن قوله لا يغلق الرهن ينصرف على وجهين أحدهما إن كان قائما بعينه لم يستحقه المرتهن بالدين عند مضي الأجل والثاني عند الهلاك لا يذهب بغير شيء وأما قوله له غنمه وعليه غرمه فقد بينا أنه من قول سعيد بن المسيب أدرجه في الحديث بعض الرواة وفصله بعضهم وبين أنه من قوله وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأما ما تأوله الشافعي من أن له زيادته وعليه نقصانه فإنه تأويل خارج عن أقاويل الفقهاء خطأ في اللغة وذلك لأن الغرم في أصل اللغة هو اللزوم قال الله تعالى إن عذابها كان غراما يعني ثابتا لازما والغريم الذي قد لزمه الدين ويسمى به أيضا الذي له الدين لأن له اللزوم والمطالبة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من المأثم والمغرم فقيل له في ذلك فقال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف فجعل الغرم هو لزوم المطالبة له من قبل الآدمي وفي حديث قبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن المسألة لا تحل إلا من ثلاث فقر مدقع أو غرم مفظع أو دم موجع وقال تعالى إنما الصدقات للفقراء إلى قوله والغارمين وهم المدينون وقال تعالى إنا لمغرمون يعني ملزمون مطالبون بديوننا فهذا أصل الغرم في أصل اللغة وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي في معنى الغرم قال أبو عمر أخطأ من قال إن هلاك المال ونقصانه يسمى غرما لأن الفقير الذي ذهب ماله لا يسمى غريما وإنما الغريم من توجهت عليه المطالبة للآدمي بدين وإذا كان كذلك فتأويل من تأوله وعليه غرمه أنه نقصانه خطأ وسعيد بن المسيب هو راوي الحديث وقد بينا أنه هو القائل له غنمه وعليه غرمه ولم يتأوله على ما قاله الشافعي لأن من مذهبه ضمان الرهن وذكر عبدالرحمن بن أبي الزناد في كتاب السبعة عن أبيه عن سعيد بن المسيب وعروة والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبدالرحمن وخارجة بن زيد وعبيدالله بن عبيدالله وغيرهم أنهم قالوا الرهن بما فيه إذا هلك وعميت قيمته ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت أن من مذهب سعيد بن المسيب ضمان الرهن فكيف يجوز أن يتأول متأول قوله وعليه غرمه على نفي الضمان فإن كان ذلك رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -

فالواجب على مذهب الشافعي أن يقضي بتأويل الراوي على مراد النبي ص

- لأنه زعم أن الراوي للحديث أعلم بتأويله فجعل قول عمرو بن دينار في الشاهد واليمين أنه في الأموال حجة في أن لا يقضي في غير الأموال وقضى بقول ابن جريج في حديث القلتين أنه بقلال

هجر على مراد النبي صلى الله عليه وسلم -

وجعل مذهب ابن عمر في خيار المتبايعين مالم يفترقا إنه على التفرق

بالأبدان قاضيا على مراد النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك فلزمه على هذا أن يجعل قول سعيد بن المسيب قاضيا على مراد النبي صلى الله عليه وسلم -

إن كان قوله وعليه غرمه ثابتا عنه وإنما معنى قوله له غنمه أن للراهن

زيادته وعليه غرمه يعني دينه الذي به الرهن وهو تفسير قوله ص - لا يغلق الرهن لأنهم كانوا يوجبون استحقاق ملك الرهن للمرتهن بمضي الأجل قبل انقضاء الدين فقال ص - لا يغلق الرهن أي لا يستحقه المرتهن بمضي ا لأجل ثم فسره فقال لصاحبه يعني للراهن غنمه يعني زيادته فبين أن المرتهن لا يستحق غير عين الرهن لإنمائه وزيادته وإن دينه باق عليه كما كان وهو معنى قوله وعليه غرمه كقوله وعليه دينه فإذا ليس في الخبر دلالة على كون الرهن غير مضمون بل هو دال على أنه مضمون على ما بينا قال أبو بكر وقوله ص - لا يغلق الرهن إذا أراد به حال بقائه عند الفكاك وإبطال النبي صلى الله عليه وسلم -

شرط استحقاق ملكه بمضي الأجل قد حوى معاني منها أن الرهن لا تفسده الشروط

الفاسدة بل يبطل الشرط ويجوز هو لإبطال النبي صلى الله عليه وسلم - شرطهم وإجازته الرهن ومنها أن الرهن لما كان شرط صحته القبض كالهبة والصدقة ثم لم تفسده الشروط وجب أن يكون كذلك حكم ما لا يصح إلا بالقبض من الهبات والصدقات في أن الشروط لا تفسدها لاجتماعها في كون القبض شرطا لصحتها وقد دل هذا الخبر أيضا على أن عقود التمليكات لا تعلق على الأخطار لأن شرطهم لملك الرهن بمضي المدة كان تمليكا معلقا على خطر وعلى مجيء وقت مستقبل فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم - شرط التمليك على هذا الوجه فصار ذلك أصلا في سائر عقود التمليكات والبراءة في امتناع تعلقها على الأخطار ولذلك قال أصحابنا فيمن قال إذا جاء غد فقد وهبت لك العبد أو قال قد بعتكه أنه باطل لا يقع به الملك وكذلك إذا قال إذا جاء غد فقد أبرأتك مما لي عليك من الدين كان ذلك باطلا وفارق ذلك عندهم العتاق والطلاق في جواز تعلقهما على الأخطار لأن لهما أصلا آخر وهو أن الله تعالى قد أجاز الكتابة بقوله ص - وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وهو أن يقول كاتبتك على ألف درهم فإن أديت فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق وذلك عتق معلق على خطر وعلى مجيء حال مستقبلة وقال في شأن الطلاق فطلقوهن لعدتهن ولم يفرق بين إيقاعه في الحال وبين إضافته إلى وقت السنة ولما كان إيجاب هذا العقد أعني العتق على مال والخلع بمال

مشروط للزوج يمنع الرجوع فيما أوجبه قبل قبول العبد والمرأة صار ذلك عتقا معلقا على شرط بمنزلة شروط الأيمان التي لا سبيل إلى الرجوع فيها وفي ذلك دليل على جواز تعلقهما على شروط وأوقات مستقبلة والمعنى في هذين أنهما لا يلحقهما الفسخ بعد وقوعهما وسائر العقود التي ذكرناها من عقود التمليكات يلحقها الفسخ بعد وقوعها فلذلك لم يصح تعلقها على الأخطار ونظير دلالة قوله ص -

لا يغلق الرهن على ما ذكرنا ما روي عن النبي ص

- أنه نهى عن بيع المنابذة والملامسة وعن بيع الحصاة وهذه بياعات كان أهل الجاهلية يتعاملون بها فكان أحدهم إذا لمس السلعة أو ألقى الثوب إلى صاحبه أو وضع عليه حصاة وجب البيع فكان وقوع الملك متعلقا بغير الإيجاب والقبول بل بفعل آخر يفعله أحدهما فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن عقود التمليكات لا تتعلق على الأخطار وإنما جعل أصحابنا الرهن مضمونا بأقل من قيمته ومن الدين من قبل أنه لما كان مقبوضا للاستيفاء وجب اعتبار ما يصح الاستيفاء به وغير جائز أن يستوفي من عدة أقل منها ولا أكثر فوجب أن يكون أمينا في الفضل وضامنا لما نقص الرهن عن الدين ومن جعله بما فيه قل أو كثر شبهة بالمبيع إذا هلك في يد البائع أنه يهلك بالثمن قل أو كثر والمعنى الجامع بينهما أن كل واحد محبوس بالدين وليس هذا كذلك عندنا لأن المبيع إنما كان مضمونا بالثمن قل أو كثر لأن البيع ينتقض بهلاكه فسقط الثمن إذ غير جائز بقاء الثمن مع انتقاض البيع وأما الرهن فإنه يتم بهلاكه ولا ينتقض وإنما يكون مستوفيا للدين به فوجب اعتبار ضمانه بما وصفنا فإن قيل إذا جاز أن يكون الفضل عن الدين أمانة فما أنكرت أن يكون جميعه أمانة وأن لا يكون حبسه بالدين للاستيفاء موجبا لضمانه لوجودنا هذا المعنى في الزيادة مع عدم الضمان فيها وكذلك ولد المرهونة المولود بعد الرهن يكون محبوسا في يد المرتهن مع الأم ولو هلك هلك بغير شيء فيه ولم يكن كونه محبوسا في يد المرتهن علة لكونه مضمونا قيل له إن الزيادة على الدين من مقدار قيمة الرهن وولد المرهونة كلاهما تابع للأصل غير جائز إفرادهما دون الأصل إذا أدخلا في العقد على وجه التبع وإذا كان كذلك لم يجز إفرادهما بحكم الضمان لامتناع إفرادهما بالعقد المتقدم قبل حدوث الولادة وليس حكم ما يدخل في العقد على وجه التبع حكم ما يفرد به ألا ترى أن ولد أم الولد يدخل في حكم الأم ويثبت له حق الإستيلاد على وجه التبع ولا يصح انفراده في الأصل

بهذا الحق لا على وجه التبع وكذلك ولد المكاتبة يدخل في الكتابة وهو حمل مع استحالة إفراده بالعقد في تلك الحال فكذلك ما ذكرت من زيادة الرهن وولد المرهونة لما دخلا في العقد على وجه التبع لم يلزم على ذلك أن يجعل حكمهما حكم الأصل ولا أن يلحقهما بمنزلة ما ابتدئ العقد عليهما ويدل على ذلك أن رجلا لو أهدى بدنة فزادت في بدنها أو ولدت أن عليه أن يهديها بزيادتها وولدها ولو ذهبت الزيادة وهلك الولد لم يلزمه بالهلاك شيء غير ما كان عليه وكذلك لو كان عليه بدنة وسط فأهدى بدنة خيارا مرتفعة أن هذه الزيادة حكمها ثابت ما بقي الأصل فإن هلك قبل أن ينحر بطل حكم الزيادة وعاد إلى ما كان عليه في ذمته وكذلك لو كان بدل الزيادة ولدا ولدته كان في هذه المنزلة فكذلك ولد المرهونة وزيادتها على قيمة الرهن هذا حكمهما في بقاء حكمهما ما داما قائمين وسقوط حكمهما إذا هلكا والله أعلم
ذكر

اختلاف الفقهاء في الإنتفاع بالرهن

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زيادة وزفر لا يجوز للمرتهن الإنتفاع بشيء من الرهن ولا للراهن أيضا وقالوا إذا آجر المرتهن الراهن بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن فقد خرج من الراهن ولا يعود وقال ابن أبي ليلى إذا آجره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله والغلة للمرتهن قضاء من حقه وقال ابن القاسم عن مالك إذا خلى المرتهن بين الرهن والراهن يكريه أو يسكنه أو يعيره لم يكن رهنا وإذا آجره المرتهن بإذن الراهن لم يخرج من الرهن وكذلك إذا أعاره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله فإذا آجره المرتهن بإذن الراهن فالأجر لرب الأرض ولا يكون الكرى رهنا بحقه إلا أن يشترط المرتهن فإن اشتراطه في البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكرى فإن مالكا كره ذلك وإن لم يشترط ذلك في البيع وتبرع به الراهن بعد البيع فلا بأس به وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم أو شرط فيه البائع بيعه الرهن ليأخذها من حقه فإن ذلك جائز عند مالك في الدور والأرض وكرهه في الحيوان وذكر المعافى عن الثوري أنه كره أن ينتفع من الرهن بشيء ولا يقرأ في المصحف المرهون وقال الأوزاعي غلة الرهن لصاحبه ينفق عليه منها والفضل له فإن لم تكن له غلة وكان يستخدمه فطعامه بخدمته فإن لم يكن يستخدمه فنفقته على صاحبه وقال الحسن بن صالح لا يستعمل الرهن

ولا ينتفع به إلا أن يكون دارا يخاف خرابها فيسكنها المرتهن لا يريد الانتفاع بها وإنما يريد إصلاحها وقال ابن أبي ليلى إذا لبس المرتهن الخاتم للتجمل ضمن وإن لبسه ليحوزه فلا شيء عليه وقال الليث بن سعد لا بأس بأن يستعمل العبد الرهن بطعامه إذا كانت النفقة بقدر العمل فإن كان العمل أكثر أخذ فضل ذلك من المرتهن وقال المزني عن الشافعي فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - الرهن محلوب ومركوب أي من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الرهن م ظهرها ودرها وللراهن أن يستخدم العبد ويركب الدابة ويحلب الدر ويجز الصوف ويأوي بالليل إلى المرتهن أو الموضوع على يده قال أبو بكر لما قال الله تعالى فرهان مقبوضة فجعل القبض من صفات الرهن أوجب ذلك أن يكون استحقاق القبض موجبا لإبطال الرهن فإذا آجره أحدهما بإذن صاحبه خرج من الرهن لأن المستأجر قد استحق القبض الذي به يصح الرهن وليس ذلك كالعارية عندنا لأن العارية لا توجب استحقاق القبض إذ للمعير أن يرد العارية إلى يده متى شاء واحتج من أجاز إجازته والإنتفاع به بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونا والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويحلب النفقة فذكر في هذا الحديث أن وجوب النفقة لركوب ظهره وشرب لبنه ومعلوم أن الراهن إنما يلزمه نفقته لملكه لا لركوبه ولبنه لأنه لو لم يكن مما يركب أو يحلب لزمته النفقة فهذا يدل على أن المراد به أن اللبن والظهر للمرتهن بالنفقة التي ينفقها وقد بين ذلك هشيم في حديثه فإنه رواه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب فبين في هذا الخبر أن المرتهن هو الذي تلزمه النفقة ويكون له ظهره ولبنه وقال الشافعي إن نفقته على الراهن دون المرتهن فهذا الحديث حجة عليه لا له وقد روى الحسن بن صالح عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال لا ينتفع من الرهن بشيء فقد ترك الشعبي ذلك وهو رواية عن أبي هريرة فهذا يدل على أحد معنيين إما أن يكون الحديث غير ثابت في الأصل وإما أن يكون ثابتا وهو منسوخ عنده وهو كذلك عندنا لأن مثله كان جائزا قبل تحريم الربا فلما حرم الربا وردت الأشياء إلى مقاديرها صار ذلك منسوخا ألا ترى أنه جعل النفقة بدلا من اللبن قل أو كثر وهو نظير

ما روي في المصراة أنه يردها ويرد معها صاعا من تمر ولم يعتبر مقدار اللبن الذي أخذه وذلك أيضا عندنا منسوخ بتحريم الربا ويدل على بطلان قول القائلين بإيجاب الركوب واللبن للراهن إن الله تعالى جعل من صفات الرهن القبض كما جعل من صفات الشهادة العدالة بقوله اثنان ذوا عدل منكم وقوله ممن ترضون من الشهداء ومعلوم أن زوال هذه الصفة عن الشهادة يمنع جواز الشهادة فكذلك لما جعل من صفات الرهن أن يكون مقبوضا بقوله فرهان مقبوضة وجب إبطال الرهن لعدم هذه الصفة وهو استحقاق القبض فلو كان الراهن مستحقا للقبض الذي به يصح الرهن لمنع ذلك من صحته بديا لمقارنة ما يبطله ولو صح بديا لوجب أن يبطل باستحقاق قبضه وجوب رده إلى يده وأيضا لما اتفق الجميع على أن الراهن ممنوع من وطء الأمة المرهونة والوطء من منافعها وجب أن يكون ذلك حكم سائر المنافع في بطلان حق الراهن فيها ومن جهة أخرى أن الراهن إنما لم يستحق الوطء لأن المرتهن يستحق ثبوت يده عليها كذلك الإستخدام واختلف الفقهاء فيمن شرط ملك الرهن للمرتهن عند حلول الأجل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا رهنه رهنا وقال إن جئتك بالمال إلى شهر وإلا فهو بيع فالرهن جائز والشرط باطل وقال مالك الرهن فاسد وينقض فإن لم ينقض حتى حل الأجل فإنه لا يكون للمرتهن بذلك الشرط وللمرتهن أن يحبسه بحقه وهو أحق به من سائر الغرماء فإن تغير في يده لم يرد ولزمته القيمة في ذلك يوم حل الأجل وهذا في السلع والحيوان وأما في الدور والأرضين فإنه يردها إلى الراهن وإن تطاول إلا أن تنهدم الدار أو يبنى فيها أو يغرس في الأرض فهذا فوت ويغرم القيمة مثل البيع الفاسد وقال المعافى عن الثوري في الرجل يرهن صاحبه المتاع ويقول إن لم آتك فهو لك قال لا يغلق ذلك الرهن وقال الحسن بن صالح ليس قوله هذا بشيء وقال الربيع عن الشافعي لو رهنه وشرط له إن لم يأته بالحق إلى كذا فالرهن له بيع فالرهن فاسد والرهن لصاحبه الذي رهنه قال أبو بكر اتفقوا أنه لا يملكه بمضي الأجل واختلفوا في جواز الرهن وفساده وقد بينا فيما سلف أن قوله لا يغلق الرهن أنه لا يملك بالدين بمضي الأجل للشرط الذي شرطاه فإنما نفي النبي صلى الله عليه وسلم -

غلقه بذلك ولم ينف صحة الرهن الذي شرطاه فدل ذلك على جواز الرهن وبطلان

الشرط وهو أيضا قياس العمرى التي أبطل النبي صلى الله عليه وسلم - فيها الشرط وأجاز الهبة والمعنى الجامع

بينهما أن كل واحد منهما لا يصح بالعقد دون القبض واختلفوا أيضا في مقدار الدين إذا اختلف فيه الراهن والمرتهن فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا هلك ا لرهن واختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين فالقول قول الراهن في الدين مع يمينه وهو قول الحسن بن صالح والشافعي وإبراهيم النخعي وعثمان البتي وقال طاوس يصدق المرتهن إلى ثمن الرهن ويستحلف وكذلك قول الحسن وقتادة والحكم وقال أياس بن معاوية قولا بين هذين القولين قال إن كان للراهن بينة بدفعه الرهن فالقول قول الراهن وإن لم تكن له بينة فالقول قول المرتهن لأنه لو شاء جحده الراهن ومتى أقر بشيء وليست عليه بينة فالقول قوله وقال ابن وهب عن مالك إذا اختلفا في الدين والرهن قائم فإن كان الرهن قدر حق المرتهن أخذه المرتهن وكان أولى به ويحلفه إلا أن يشاء رب الرهن أن يعطيه حقه عليه ويأخذ رهنه وقال ابن القاسم عن مالك القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن لا يصدق على أكثر من ذلك قال أبو بكر قال الله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فيه الدلالة على أن القول قول الذي عليه الدين لأنه وعظه في البخس وهو النقصان فيدل على أن القول قوله وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -

البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه والمرتهن هو المدعي والراهن

هو المدعى عليه فالقول قوله بقضية قوله ص - وأيضا لو لم يكن رهن لكان القول قول الذي عليه الدين في مقداره بالإتفاق كذلك إذا كان به رهن لأن الرهن لا يخرجه من أن يكون مدعى عليه قال أبو بكر وزعم بعض من يحتج لمالك أن قوله أشبه بظاهر القرآن لأنه قال فرهان مقبوضة فأقام الرهن مقام الشهادة ولم يأتمن الذي عليه الحق حين أخذ منه وثيقة كما لم يأتمنه على مبلغه إذا أشهد عليه الشهود لأن الشهود والكتاب تنبئ عن مبلغ الحق فلم يصدق الراهن وقام الرهن مقام الشهود إلى أن يبلغ قيمته فإذا جاوز قيمته فلا وثيقة فيه والمرتهن مدع فيه والراهن مدعى عليه قال أبو بكر وهذا من عجيب الحجاج وذلك أنه زعم أنه لما لم يأتمنه حتى أخذ الرهن قام الرهن مقام الشهادة وزعم مع ذلك أن ذلك موافق لظاهر القرآن وقد جعل الله تعالى القول قول الذي عليه الحق حين قال وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فجعل القول قوله في الحال التي أمر فيها بالإشهاد والكتاب ولم يجعل عدم ائتمان الطالب

للمطلوب مانعا من أن يكون القول قول المطلوب فكيف يكون ترك ائتمانه إياه بالتوثق منه بالرهن مانعا من قبول قول المطلوب وموجبا لتصديق الطالب على ما يدعيه والذي ذكره مخالف لظاهر القرآن والعلة التي نصبها لتصديق المرتهن في ترك ائتمانه منتقضة بنص الكتاب ثم دعواه موافقته لظاهر القرآن أعجب الأشياء وذلك لأن القرآن قد قضى ببطلان قوله حين جعل القول قول المطلوب في الحال التي لم يؤتمن فيها حتى استوثق منه الكتاب والإشهاد وهو فإنما زعم أنه لم يأتمنه حين أخذ الرهن وجب أن يكون القول قول الطالب ثم زعم أن قوله موافق لظاهر القرآن وبنى عليه أنه لم يأتمنه وأن الرهن توثق كما أن الشهادة توثق فقام الرهن مقام الشهادة وليس ما ذكره من المعنى من ظاهر القرآن في شيء وأنا كنا قد دللنا على أنه مخالف له وإنما هو قياس ورد لمسألة الرهن إلى مسألة الشهادة بعلة أنه لم يؤتمن في الحالين على الدين الذي عليه وهو قياس باطل من وجوه أحدها أن ظاهر القرآن يرده وهو ما قدمناه والثاني أنه منتقض باتفاق الجميع على أن من له على رجل دين فأخذ منه كفيلا ثم اختلفوا في مقداره كان القول قول المطلوب فيما يلزمه ولم يكن عدم الائتمان بأخذه الكفيل موجبا لتصديق الطالب مع وجود علته فيه فانتقضت علته بالكفالة والثالث أن المعنى الذي من أجله لم يصدق الطالب إذا قامت البينة أن شهادة الشهود مقبولة محكوم بتصديقهم فيها وهم قد شهدوا على إقراره بأكثر مما ذكره وبما ادعاه المدعي فصار كإقراره عند القاضي بالزيادة ولا دلالة في قيمة الرهن على أن الدين بمقداره لأنه لا خلاف أنه جائز أن يرهن بالقليل الكثير وبالكثير القليل ولا تنبئ قيمة الرهن عن مقدار الدين ولا دلالة فيه عليه فكيف يكون الرهن بمنزلة الشهادة ويدل على فساد قياسه هذا أنهما لو اتفقا على أن الدين أقل من قيمة الرهن لم يوجب ذلك بطلان الرهن ولو أقر الطالب أن دينه أقل مما شهد به شهوده بطلت شهادة شهوده فهذه الوجوه كلها توجب بطلان ما ذكره هذا المحتج
وقوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه قال أبو بكر قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة كلام مكتف بنفسه وإن كان معطوفا على ما تقدم ذكره من الأمر بالإشهاد عند التبايع بقوله وأشهدوا إذا تبايعتم فهو عموم في سائر الشهادات التي يلزم الشاهد إقامتها وأداؤها وهو نظير قوله تعالى وأقيموا الشهادة لله وقوله يا أيها

الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فنهى الله تعالى الشاهد بهذه الآيات عن كتمان الشهادة التي تركها يؤدي إلى تضييع الحقوق وهو على ما بيننا من إثبات الشهادة في كتب الوثائق وأدائها بعد إثباتها فرض على الكفاية فإذا لم يكن من يشهد على الحق غير هذين الشاهدين فقد تعين عليهما فرض أدائها ويلحقهما إن تخلفا عنها الوعيد المذكور في الآية وقد كان نهيه عن الكتمان مفيدا لوجوب أدائها ولكنه تعالى أكد الفرض فيها بقوله ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وإنما أضاف الإثم إلى القلب وإن كان في الحقيقة الكاتم هو الآثم لأن المأثم فيه إنما يتعلق بعقد القلب ولأن كتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أدائها باللسان فعقد النية من أفعال القلب لا نصيب للجوارح فيه وقد انتظم الكاتم للشهادة المأثم من وجهين أحدهما عزمه على أن لا يؤديها والثاني ترك أدائها باللسان وقوله آثم قلبه مجاز لا حقيقة وهو آكد في هذا الموضع من الحقيقة لو قال ومن يكتمها فإنه آثم وأبلغ منه وأدل على الوعيد من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني تعالى الله الحكيم قال أبو بكر وآية الدين بما فيه من ذكر الإحتياط بالكتاب والشهود المرضيين والرهن تنبيه على موضع صلاح الدين والدنيا معه فأما في الدنيا فصلاح ذات البين ونفي التنازع والاختلاف وفي التنازع والاختلاف فساد ذات البين وذهاب الدين والدنيا قال الله عز و جل ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وذلك أن المطلوب إذا علم أن عليه دينا وشهودا وكتابا ورهنا بما عليه وثيقة في يد الطالب قل الخلاف علمنا منه أن خلافه وبخسه لحق المطلوب لا ينفعه بل يظهر كذبه بشهادة الشهود عليه وفيه وثيقة واحتياط للطالب وفي ذلك صلاح لهما جميعا في دينهما ودنياهما لأن في تركه بخس حق الطالب صلاح دينه وفي جحوده وبخسه ذهاب دينه إذا علم وجوبه وكذلك الطالب إذا كانت له بينة وشهود أثبتوا ماله وإذا لم تكن له بينة وجحد الطالب حمله ذلك على مقابلته بمثله والمبالغة في كيده حتى ربما لم يرض بمقدار حقه دون الإضرار به في أضعافه متى أمكنه وذلك متعالم من أحوال عامة الناس وهذا نظير ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه ص -

من البياعات المجهولة القدر والآجال المجهولة والأمور التي كانت عليها

الناس قبل مبعثه ص - مما كان يؤدي إلى الإختلاف وفساد ذات البين وإيقاع العداوة والبغضاء ونحوه مما حرم الله تعالى من الميسر والقمار وشرب الخمر وما يسكر فيؤدي إلى

العداوة والبغضاء والاختلاف والشحناء قال الله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون فأخبر الله تعالى أنه إنما نهى عن هذه الأمور لنفي الاختلاف والعداوة ولما في ارتكابها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة فمن تأدب بأدب ا لله وانتهى إلى أوامره وانزجر بزواجره حاز صلاح الدين والدنيا قال الله تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما وفي هذه الآيات التي أمر الله فيها بالكتاب والإشهاد على الدين والعقود والاحتياط فيها تارة بالشهادة وتارة بالرهن دلالة على وجوب حفظ المال والنهي عن تضييعه وهو نظير قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وقوله والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقوله ولا تبذر تبذيرا الآية فهذه الآي دلالة على وجوب حفظ المال والنهي عن تبذيره وتضييعه وقد روي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا بعض من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا معاذ بن المثنى قال حدثنا مسدد قال حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يحب الله إضاعة المال ولا قيل ولا قال وحدثنا من لا أتهم قال أخبرنا محمد بن إسحاق قال حدثنا موسى بن عبدالرحمن المسروقي قال حدثنا حسن الجعفي عن محمد بن سوقة عن وراد قال كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ليس بينك وبينه أحد قال فأملى علي وكتبت أني سمعت رسول الله ص

- يقول إن الله حرم ثلاثا ونهى عن ثلاث فأما الثلاث التي حرم فعقوق الأمهات ووأد البنات ولا وهات والثلاث التي نهى عنهن فقيل وقال وإلحاف السؤال وإضاعة المال قال تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال أبو بكر روي أنها منسوخة بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال نسخها قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر قال سمعت الزهري يقول في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه

قال قرأها ابن عمر وبكى وقال إنا لمأخوذون بما نحدث به أنفسنا فبكى حتى سمع نشيجه فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له فقال يرحم الله ابن عمر لقد وجد منها المسلمون نحوا مما وجد حتى نزلت بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وروي عن الشعبي عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال نسختها الآية التي تليها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله أنها لم تنسخ لكن الله إذا جمع الخلق يوم القيامة يقول إني أخبركم مما في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم من الشك والنفاق وروي عن الربيع بن أنس مثل ذلك وقال عمرو بن عبيد كان الحسن يقول هي محكمة لم تنسخ وروي عن مجاهد أنها محكمة في الشك واليقين قال أبو بكر لا يجوز أن تكون منسوخة لمعنيين أحدهما أن الأخبار لا يجوز فيها النسخ لأن نسخ مخبرها يدل على البداء والله تعالى عالم بالعواقب غير جائز عليه البداء والثاني أنه لا يجوز تكليف ما ليس في وسعها لأنه سفه وعبث والله تعالى يتعالى عن فعل العبث وإنما قول من روي عنه أنها منسوخة فإنه غلط من الراوي في اللفظ وإنما أراد بيان معناها وإزالة التوهم عن صرفه إلى غير وجهه وقد روى مقسم عن ابن عباس أنها نزلت في كتمان الشهادة وروي عن عكرمة مثله وروي عن غيرهما أنها في سائر الأشياء وهذا أولى لأنه عموم مكتف بنفسه فهو عام في الشهادة وغيرها ومن نظائر ذلك في المؤاخذة بكسب القلب قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وقال تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم وقال تعالى في قلوبهم مرض أي شك فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به قيل له هذا فيما يلزمه من الأحكام فلا يقع عتقه ولا طلاقه ولا بيعه ولا صدقته ولا هبته بالنية ما لم يتكلم به وما ذكر في الآية فيما يؤاخذ به مما بين العبد وبين الله تعالى وقد روى الحسن بن عطية عن أبيه عن عطية عن ابن عباس في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فقال سر عملك وعلانيته يحاسبك به الله وليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل

به فإن عمل به كتب له به عشر حسنات وإن هو لم يقدر يعمل به كتب له به حسنة من أجل أنه مؤمن وأن الله رضى بسر المؤمنين وعلانيتهم وإن كان شرا حدث به نفسه اطلع الله عليه أخبر به يوم تبلى السرائر فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم وهذا على معنى قوله إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم يتكلموا به أو يعملوا به قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيه نص على أن الله تعالى لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يطيقه ولو كلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يستطيعه لكان مكلفا له ما ليس في وسعه ألا ترى قول القائل ليس في وسعي كيت وكيت بمنزلة قوله لا أقدر عليه ولا أطيقه بل الوسع دون الطاقة ولم تختلف الأمة في أن الله لا يجوز أن يكلف الزمن المشي والأعمى البصر والأقطع اليدين البطش لأنه لا يقدر عليه ولا يستطيع فعله ولا خلاف في ذلك بين الأمة وقد وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن من لم يستطع الصلاة قائما فغير مكلف للقيام فيها ومن لم يستطعها قاعدا فغير مكلف للقعود بل يصليها على جنب يومئ إيماء لأنه غير قادر عليها إلا على هذا الوجه ونص التنزيل قد أسقط التكليف عمن لا يقدر على الفعل ولا يطيقه وزعم قوم جهال نسبت إلى الله فعل السفه والعبث فزعموا أن كل ما أمر به أحد من أهل التكليف أو نهى عنه فالمأمور به منه غير مقدور على فعله والمنهي عنه غير مقدور على تركه وقد أكذب الله قيلهم بما نص عليه من أنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها مع ما قد دلت عليه العقول من قبح تكليف ما لا يطاق وإن العالم بالقبيح المستغنى عن فعله لا يقع منه فعل القبيح ومما يتعلق بذلك من الأحكام سقوط الفرض عن المكلفين فيما لا تتسع له قواهم لأن الوسع هو دون الطاقة وأنه ليس عليهم استفراغ المجهود في أداء الفرض نحو الشيخ الكبير الذي يشق عليه الصوم ويؤديه إلى ضرر يلحقه في جسمه وإن لم يخش الموت بفعله فليس عليه صومه لأن الله لم يكلفه إلا ما يتسع لفعله ولا يبلغ به حال الموت وكذلك المريض الذي يخشى ضرر الصوم وضرر استعمال الماء لأن الله قد أخبر أنه لا يكلف أحدا إلا ما اتسعت له قدرته وإمكانه دون ما يضيق عليه ويعنته وقال الله تعالى ولو شاء الله لأعنتكم وقال في صفة النبي صلى الله عليه وسلم - عزيز عليه ما عنتم فهذا حكم مستمر في سائر أوامر الله وزواجره ولزوم التكليف فيها على ما يتسع له ويقدر

عليه قوله عز و جل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال أبو بكر النسيان علىوجهين أحدهما أنه قد يتعرض الإنسان للفعل الذي يقع معه النسيان فيحسن الاعتذار به إذا وقعت منه جناية على وجه السهو والثاني أن يكون النسيان بمعنى ترك المأمور به لشبهة تدخل عليه أو سوء تأويل وإن لم يكن الفعل نفسه واقعا على وجه السهو فيحسن أن يسأل الله مغفرة الأفعال الواقعة على هذا الوجه والنسيان بمعنى الترك مشهور في اللغة قال الله تعالى نسوا الله فنسيهم يعني تركوا أمر الله تعالى فلم يستحقوا ثوابه فأطلق اسم النسيان على الله تعالى على وجه مقابلة الاسم كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم قال أبو بكر النسيان الذي هو ضد الذكر فإن حكمه مرفوع فيما بين العبد وبين الله تعالى في استحقاق العقاب والتكليف في مثله ساقط عنه والمؤاخذة به في الآخرة غير جائزة لا أنه لا حكم له فيما يكلفه من العبادات فإن النبي صلى الله عليه وسلم -

قد نص على لزوم حكم كثير منها مع النسيان واتفقت الأمة أيضا على حكمها من

ذلك قوله ص - من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وتلا عند ذلك وأقم الصلواة لذكري فدل على أن مراد الله تعالى بقوله أقم الصلواة لذكري فعل المنسية منها عند الذكر وقال تعالى واذكر ربك إذا نسيت وذلك عموم في لزومه قضاء كل منسي عند ذكره ولا خلاف بين الفقهاء في أن ناسي الصوم والزكاة وسائر الفروض بمنزلة ناسي الصلاة في لزوم قضائها عند ذكرها وكذلك قال أصحابنا في المتكلم في الصلاة ناسيا أنه بمنزلة العامد لأن الأصل أن العامد الناسي في حكم ا لفروض سواء وإنه لا تأثير للنسيان في إسقاط شيء منها إلا ما ورد به التوقيف ولا خلاف أن تارك الطهارة ناسيا كتاركها عامدا في بطلان حكم صلاته وكذلك قالوا في الأكل في نهار شهر رمضان ناسيا إن القياس فيه إيجاب القضاء وإنهم إنما تركوا القياس فيه للأثر ومع ما ذكرنا فإن الناسي مؤد لفرضه على أي وجه فعله إذ لم ميكلفه الله في تلك الحال غيره وإنما القضاء فرض آخر ألزمه الله تعالى بالدلائل التي ذكرنا فكان تأثير النسيان في سقوط المأثم فحسب فأما في لزوم فرض فلا وقول النبي صلى الله عليه وسلم - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان مقصور على المأثم أيضا دون رفع الحكم ألا ترى أن الله تعالى قد نص على لزوم حكم قتل الخطأ في إيجاب الدية والكفارة فلذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم - النسيان مع الخطأ وهو على هذا المعنى فإن قال قائل

من أصلكم إيجاب فرض التسمية على الذبيحة ولو تركها عامدا كانت ميتة وإذا تركها ناسيا حلت وكانت مذكاة ولم تجعلوها بمنزلة تارك الطهارة ناسيا حتى صلى فيكون مأمورا بإعادتها بالطهارة قطعا وكذلك الكلام في الصلاة ناسيا قيل له لما بينا من أنه لم يكلف في الحال غير ما فعل على وجه النسيان والذي لزمه بعد الذكر فرض مبتدأ آخر وكذلك نجيز في هذه القضية أن لا يكون مكلفا في حال النسيان للتسمية فصحت الزكاة ولا تتأتى بعد الزكاة فيه ذبيحة أخرى فيكون مكلفا لها كما كلف إعادة الصلاة والصوم ونحوه قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت هو مثل قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها وقوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى وفيه الدلالة على أن كل واحد من المكلفين فأحكام أفعاله متعلقة به دون غيره وإن أحدا لا يجوز تصرفه على غيره ولا يؤاخذ بجريرة سواه وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لأبي رمثة حين رآه مع ابنه فقال هذا ابنك قال نعم قال إنك لا تجني عليه

ولا يجني عليك وقال ص - لا يؤاخذ أحد بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه فهذا هو العدل الذي لا يجوز في العقول غيره وقوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت يحتج به في نفي الحجر وامتناع تصرف أحد من قاض أو غيره على سواه ببيع ماله أو منعه منه إلا ما قامت الدلالة على خصوصه ويحتج به في بطلان مذهب مالك بن أنس في أن من أدى دين غيره بغير أمره أن له أن يرجع به عليه لأن الله تعالى إنما جعل كسبه له وعليه ومنع لزومه غيره قوله عز و جل ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قد قيل في معنى الإصر إنه الثقل وأصله في اللغة يقال إنه العطف ومنه أواصر الرحم لأنها تعطفه عليه والواحد آصرة والمأصر يقال أنه حبل يمد على طريق أو نهر تحبس به المارة ويعطفون به على النفوذ ليؤخذ منهم العشور والمكس والمعنى في قوله لا تحمل علينا إصرا يريد به عهدا وهو الأمر الذي يثقل روي نحوه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وهو في معنى قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج يعني من ضيق وقوله يريد الله بكم اليسر الآية وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج وقال النبي صلى الله عليه وسلم - جئتكم بالحنيفية السمحة وروي عنه أن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فقوله ولا تحمل علينا إصرا يعني من ثقل الأمر والنهي كما حملته على الذين من قبلنا وهو كقوله ويضع عنهم إصرهم

والأغلال التي كانت عليهم وهذه الآية ونظائرها يحتج بها على نفي الحرج والضيق والثقل في كل أمر اختلف الفقهاء فيه وسوغوا فيه الاجتهاد فالموجب للثقل والضيق والحرج محجوج بالآية نحو إيجاب النية في الطهارة وإيجاب الترتيب فيها وما جرى مجرى ذلك في نفي الضيق والحرج يجوز لنا الاحتجاج بالظواهر التي ذكرناها قوله تعالى ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به قيل فيه وجهان أحدهما ما يشتد ويثقل من التكليف كنحو ما كلف بنو إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم وجائز أن يعبر بما يثقل أنه لا يطيقه كقولك ما أطيق كلام فلان ولا أقدر أن أراه ولا يراد به نفي القدرة وإنما يريدون أنه يثقل عليه فيكون بمنزلة العاجز الذي لا يقدر على كلامه ورؤيته لبعده من قلبه وكراهته لرؤيته وكلامه وهو كما قال تعالى وكانوا لا يستطيعون سمعا وقد كانت لهم أسماع صحيحة إلا أن المراد أنهم استثقلوا استماعه فأعرضوا عنه وكانوا بمنزلة من لم يسمع والوجه الثاني أن لا يحملنا من العذاب مالا نطيقه وجائز أن يكون المراد الأمرين جميعا والله أعلم بالصواب
سورة

آل عمران

بسم

الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه أيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات إلى آخر القصة قال الشيخ أبو بكر قد بينا في صدر الكتاب معنى المحكم والمتشابه وأن كل واحد منهما ينقسم إلى معنيين أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى الر كتاب أحكمت آياته وقال تعالى الر تلك آيات الكتاب الحكيم فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالأحكام وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني فوصف جميعه بالمتشابه ثم قال في موضع آخر هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات عن أم الكتاب وأخر متشابهات فوصف ههنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه والأحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول وأما موضع الخصوص في قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل عند سامعه إلا معنى واحدا وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه إلا أن هذا المعنى لا محالة قد انتظمه لفظ الأحكام المذكور في هذه الآية وهو الذي جعل

إما للمتشابه الذي يرد إليه ويحمل معناه عليه وإما المتشابه الذي عم به جميع القرآن في قوله تعالى كتابا متشابها فهو التماثل ونفي الاختلاف والتضاد عنه وأما المتشابه الخصوص به بعض القرآن فقد ذكرنا أقاويل السلف فيه وما روي عن ابن عباس أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ فهذا عندنا هو أحد أقسام المحكم والمتشابه لأنه لم ينف أن يكون للمحكم والمتشابه وجوه غيرهما وجاجز أن يسمى الناسخ محكما لأنه ثابت الحكم والعرب تسمي البناء الوثيق محكما ويقولون في العقد ا لوثيق الذي لا يمكن حله محكما فجائز أن يسمى الناسخ محكما إذ كانت صفته الثبات والبقاء ويسمى المنسوخ متشابها من حيث أشبه في التلاوة المحكم وخالفه في ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه فمن هذا الوجه جائز أن يسمى المنسوخ متشابها وأما قول من قال إن المحكم هو الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه هو الذي تتكرر ألفاظه فإن اشتباه هذا من جهة اشتباه وجه الحكمة فيه على السامع وهذا سائغ عام في جميع ما يشتبه فيه وجه الحكمة فيه على السامع إلى أن يتبينه ويتضح له وجهه فهذا مما يجوز فيه إطلاق اسم المتشابه ومالا يشتبه فيه وجه الحكمة على السامع فهو المحكم الذي لا تشابه فيه على قول هذا القائل فهذا أيضا أحد وجوه المحكم والمتشابه وإطلاق الاسم فيه سائغ جائز وأما ما روي عن جابر بن عبدالله أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه مالا يعلم تأويله كقوله تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرسيها وما جرى مجرى ذلك فإن إطلاق اسم المحكم والمتشابه سائغ فيه لأن ما علم وقته ومعناه فلا تشابه فيه وقد أحكم بيانه ومالا يعلم تأويله ومعناه ووقته فهو مشتبه على سامعه فجائز أن يسمى بهذا الاسم فجميع هذه الوجوه يحتمله اللفظ على ما روي فيه ولولا احتمال اللفظ لما ذكروا لما تأولوه عليه وما ذكرناه من قول من قال إن المحكم هو مالا يحتمل إلا معنى واحدا والمتشابه ما يحتمل معنيين فهو أحد الوجوه الذي ينتظمها هذا الاسم لأن المحكم من هذا القسم سمي محكما لأحكام دلالته وإيضاح معناه وإبانته والمتشابه منه سمي بذلك لأنه أشبه المحكم من وجه واحتمل معناه وأشبه غيره مما يخالف معناه معنى المحكم فسمي متشابها من هذا الوجه فلما كان المحكم والمتشابه يعتورهما ما ذكرنا من المعاني احتجنا إلى معرفة المراد منها بقوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء

الفتنة وابتغاء تأويله مع علمنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رد المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه لقوله تعالى في صفة المحكمات هن أم الكتاب والأم هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه فسماها أما فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها ورده إليها ثم أكد ذلك بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فوصف متبع المتشابه من غير حمله له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه وأعلمنا أنه مبتغ للفتنة وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى والفتنة أشد من القتل يعني والله أعلم الكفر فأخبر أن متبع المتشابه وحامله على مخالفة المحكم في قلبه زيغ يعني الميل عن الحق يستدعي غيره بالمتشابه إلى الضلال والكفر فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني الذي يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه ثم نظرنا بعد ذلك في المعاني التي تعتور هذا اللفظ وتتعاقب عليه مما قدمنا ذكره في أقسام المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال للفظ فوجدنا قول من قال بأنه الناسخ والمنسوخ فإنه إن كان تاريخهما معلوما فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتاريخهما وعلم يقينا أن المنسوخ متروك الحكم وأن الناسخ ثابت الحكم فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحكمين اللذين لا احتمال فيهما لغير الناسخ وإن اشتبه على السامع من حيث أنه لم يعلم التاريخ فهذا ليس أحد اللفظين أولى بكونه محكما من الآخر ولا يكونا متشابها منه إذ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا فهذا لا مدخل له في قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وأما قول من قال إن المحكم مالم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه فهذا أيضا لا مدخل له في هذه الآية لأنه لا يحتاج إلى رده إلى المحكم وإنما يحتاج إلى تدبيره بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه وأما قول من قال إن المحكم ما علم وقته وتعيينه والمتشابه مالا يعلم تعيين تأويله كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيسنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا وإن هذا الضرب أيضا منها خارج عن حكم هذه الآية لأنا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم فلم يبق من الوجوه التي ذكرنا من أقسام المحكم والمتشابه مما يجب بناء أحدهما على الآخر وحمله على معناه إلا الوجه الأخير الذي قلنا وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني فيجب حمله على

المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه من نظائر ما قدمنا في صدر الكتاب وبينا أنه ينقسم إلى وجهين من العقليات والسمعيات وليس يمتنع أن تكون الوجوه التي ذكرناها عن السلف على اختلافها بتناولها الاسم على ما روي عنهم فيه لما بينا من وجوهها ويكون الوجه الذي يجب حمله على المحكم هو هذا الوجه الأخير لامتناع إمكان حمل سائر وجوه المتشابه على المحكم على ما تقدم من بيانه ثم يكون قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم ينف بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء لأن في فحوى الآية ما قد دل على أنا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بينا من ذلك ويستحيل أن تدل الآية على وجوب رده إلى المحكم وتدل أيضا على أنا لا نصل إلى علمه ومعرفته فإذا ينبغي أن يكون قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله غير ناف لوقوع العلم ببعض المتشابه فمما لا يجوز وقوع العلم لنا به وقت الساعة والذنوب الصغائر ومن الناس من يجوز ورود لفظ مجمل في حكم يقتضي البيان ولا يبينه أبدا فيكون في حيز المتشابه الذي لا نصل إلى العلم به وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فمنهم من جعل تمام الكلام عند قوله تعالى والراسخون في العلم وجعل الواو التي في قوله والراسخون في العلم للجمع كقول القائل لقيت زيدا وعمرا وما جرى مجراه ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله وما يعلم تأويله إلا الله وجعل الواو للإستقبال وابتداء خطاب غير متعلق بالأول فمن قال بالقول الأول وجعل الراسخين في العلم عالمين ببعض المتشابه وغير عالمين بجميعه وقد روي نحوه عن عائشة والحسن وقال مجاهد فيما رواه ابن أبي نجيح في قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيع يعني شكا ابتغاء الفتنة الشبهات بما هلكوا لكن الراسخون في العلم يعلمون تأويله يقولون آمنا به وروي عن ابن عباس ويقولون الراسخون في العلم وكذلك روي عن عمر بن عبدالعزيز وقد روي عن ابن عباس أيضا وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به وعن الربيع بن أنس مثله والذي يقتضيه اللفظ على ما فيه من الاحتمال أن يكون تقديره وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل جميع المتشابه على ما بينا والراسخون في العلم يعلمون

بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا يعني ما نصب لهم من الدلالة عليه في بنائه على المحكم ورده إليه وما لم يجعل لهم سبيل إلى علمه من نحو ما وصفنا فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا وما أخفى عنا علم ما غاب عنا علمه إلا لعلمه تعالى بما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا وما أعلمنا وما يعلمناه إلا لمصلحتنا ونفعنا فيعترفون بصحة الجميع والتصديق بما علموا منه ومالم يعلموه ومن الناس من يظن أنه لا يجوز إلا أن يكون منتهى الكلام وتمامه عند قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله وأن الواو للإستقبال دون الجمع لأنها لو كانت للجمع لقال ويقولون آمنا به ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر وقال من ذهب إلى القول الأول هذا سائغ في اللغة وقد وجد مثله في القرآن وهو قوله تعالى في بيان قسم الفيء ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول إلى قوله تعالى شديد العقاب ثم تلاه بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله تعالى والذين جاؤا من بعدهم وهم لا محالة داخلون في استحقاق الفيء كالأولين والواو فيه للجمع ثم قال تعالى يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان معناه قائلين ربنا اغفر لنا ولإخواننا كذلك قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون معناه والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه قائلين ربنا آمنا به فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في حيزه وقد وجد مثله في الشعر قال يزيد بن مفرغ الحميري ... وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه ... فالريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في الغمامه ... والمعنى والبرق يبكي شجوه لامعا في الغمامة وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية في وجوب رد المتشابه إلى المحكم فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه ومن جهة أخرى أن الواو لما كانت حقيقتها الجمع فالواجب حملها على حقيقتها ومقتضاها ولا يجوز حملها على الابتداء إلا بدلالة ولا دلالة معنا توجب صرفها عن الحقيقة فوجب استعمالها على الجمع فإن قيل إذا كان استعمال المحكم مقيدا بما في العقل وقد يمكن كل مبطل أن يدعي ذلك لنفسه فيبطل فائدة الاحتجاج

بالمحكم قيل له إنما هو مقيد بما هو في تعارف العقول فيكون اللفظ مطابقا لما تعارفه العقلاء من أهل اللغة ولا يحتاج في استعمال حكم العقل فيه إلى مقدمات بل يوقع العلم لسامعه بمعنى مراده على الوجه الذي هو ثابت في عقول العقلاء دون عادات فاسدة قد جروا عليها فما كان كذلك فهو المحكم مالذي لا يحتمل معناه إلا مقتضى لفظه وحقيقته فأما العادات الفاسدة فلا اعتبار بها فإن قيل كيف وجه اتباع من في قلبه زيغ ما تشابه منه دون ما أحكم قيل له نحو ما روى الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم - في المسيح فقالوا أليس هو كلمة الله وروح منه فقال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله فأما الذين في قلبوهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ثم أنزل الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فصرفوا قوله كلمة الله إلى ما يقولونه في قدمه مع الله وروحه صرفوه إلى أنه جزء منه قديم معه كروح الإنسان وإنما أراد الله تعالى بقوله كلمة أنه بشر به في كتاب الأنبياء المتقدمين فسماه كلمة من حيث قدم البشارة به وسماه روحه لأن الله تعالى خلقه من غير ذكر بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيب مريم عليها السلام وأضافه إلى نفسه تعالى تشريفا له كبيت الله وسماء الله وأرضه ونحو ذلك وقيل إنه سماه روحا كما سمى القرآن روحا بقوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وإنما سماه روحا من حيث كان فيه حياة الناس في أمور دينهم فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال وقال قتادة أهل الزيغ المتبعون للمتشابه منه هم الحرورية والسبائية قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم روي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق أنه لما هلكت قريش يوم بدر جمع النبي صلى الله عليه وسلم - اليهود بسوق قينقاع فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثل ما نزل بقريش من الإنتقام فأبوا وقالوا ألسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون القتال لئن حاربتنا لتعرفن أنا الناس فأنزل الله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما فيها من الأخبار عن غلبة المؤمنين المشركين فكان على ما أخبر به ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغيوب في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خلف وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب إذ ليس في وسع أحد من

الخلق الإخبار بالأمور المستقبلة ثم يتفق مخبر أخباره على ما أخبر به من غير خلف لشيء منه وقوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله الآية روي عن ابن مسعود والحسن أن ذلك خطاب للمؤمنين وإن المؤمنين هي الفئة الرائية للمشركين مثليهم رأي العين فرأوهم مثلي عدتهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم لأن المشركين كانوا نحو ألف رجل والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر فقللهم الله تعالى في أعين المسلمين لتقوية قلوبهم وقال آخرون قوله قد كان لكم آية مخاطبة للكفار الذين ابتدأ بذكرهم في قوله قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وقوله قد كان لكم أية معطوف عليه وتمام له والمعنى فيه إن الكافرين رأوا المؤمنين مثليهم وأراهم الله تعالى كذلك في رأي العين ليجبن قلوبهم ويرهبهم فيكون أقوى للمؤمنين عليهم وذلك أحد أبواب النصر للمسلمين والخذلان للكافرين وفي هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - أحدهما غلبة الفئة القليلة العدد والعدة للكثيرة العدد والعدة وذلك على خلاف مجرى العادة لما أمدهم الله به من الملائكة والثاني أن الله تعالى قد كان وعدهم إحدى الطائفتين وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة وقال هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى زين للناس حب الشهوات قال الحسن زينها الشيطان لأنه لا أحد أشد ذما لها من خالقها وقال بعضهم زينها الله بما جعل في الطباع من المنازعة إليها كما قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها وقال آخرون زين الله ما يحسن منه وزين الشيطان ما يقبح منه وقوله تعالى إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس الآية روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم وهو الذي ذكر الله تعالى وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل وأنه منزلة شريفة

يستحق بها الثواب الجزيل لأن الله مدح هؤلاء الذين قتلوا حين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وروى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وفي بعض الروايات يقتل عليه

وروى أبو حنيفة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتل قال عمرو بن عبيد لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه وإنما قال الله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وإن كان الإخبار عن أسلافهم من قبل أن المخاطبين من الكفار كانوا راضين بأفعالهم فأجملوا معهم في الأخبار بالوعيد لهم وهذا كقوله تعالى قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل وقوله تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فنسب القتل إلى المخاطبين لأنهم رضوا بأفعال أسلافهم وتولوهم عليها فكانوا مشاركين لهم في استحقاق العذاب كما شاركوهم في الرضا بقتل الأنبياء عليهم السلام قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله الآية روي عن ابن عباس أنه أراد اليهود حين دعوا إلى التوراة وهي كتاب الله وسائر الكتب التي فيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم - فدعاهم إلى الموافقة على ما في هذه الكتب من صحة نبوته كما قال تعالى في آية أخرى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فتولى فريق من أهل الكتاب عن ذلك لعلمهم بما فيه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته ولولا أنهم علموا ذلك لما أعرضوا عند الدعاء إلى ما في كتبهم وفريق منهم آمنوا وصدقوا لعلمهم بصحة نبوته ولما عرفوه من التوراة وكتب الله من نعته وصفته وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنهم لولا أنهم كانوا عالمين بما ادعاه مما في كتبهم من نعته وصفته وصحة نبوته لما أعرضوا عن ذلك بل كانوا يسارعون إلى الموافقة على ما في كتبهم حتى يتبينوا بطلان دعواه فلما أعرضوا ولم يجيبوا إلى ما دعاهم إليه دل ذلك على أنهم كانوا عالمين بما في كتبهم من ذلك وهو نظير ما تحدى الله تعالى به العرب من الإتيان بمثل سورة من القرآن فأعرضوا عن ذلك وعدلوا إلى القتال والمحاربة لعلمهم بالعجز عن الإتيان بمثلها وكما دعاهم إلى المباهلة في قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم إلى قوله تعالى ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين

وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لو حضروا وباهلوا لأضرم الله تعالى عليهم الوادي نارا ولم يرجعوا إلى أهل ولا ولد وهذه الأمور كلها من دلائل النبوة وصحة الرسالة وروي عن الحسن وقتادة إنما أراد بقوله تعالى يدعون إلى كتاب الله إلى القرآن لأن ما فيه يوافق ما في التوراة في أصول الدين والشرع والصفات التي قد قدمت بها البشارة في الكتب المتقدمة والدعاء إلى كتاب الله تعالى في هذه الآية يحتمل معاني جائز أن يكون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - على ما بينا ويحتمل أن يكون أمر إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام ويحتمل أن يريد به بعض أحكام الشرع من حد أو غيره كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه ذهب إلى بعض مدارسهم فسألهم عن حد الزاني فذكروا الجلد والتحميم

وكتموا الرجم حتى وقفهم النبي صلى الله عليه وسلم - على آية الرجم بحضرة عبدالله بن سلام وإذا كانت هذه الوجوه محتملة لم يمتنع أن يكون الدعاء قد وقع إلى جميع ذلك وفيه الدلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله تعالى ونظيره أيضا قوله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء قيل في قوله تعالى مالك الملك أنه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى ومن أنه مالك كل ملك وقيل مالك أمر الدنيا والآخرة وقيل مالك العباد وما ملكوا وقال مجاهد أراد بالملك ههنا النبوة وقوله تؤتي الملك من تشاء يحتمل وجهين أمر ملك الأموال والعبيد وذلك مما يجوز أن يؤتيه الله للمسلم والكافر والآخر أمر التدبير وسياسة الأمة فهذا مخصوص به المسلم العدل دون الكافر ودون ا لفاسق وسياسة الأمة وتدبيرها متعلقة بأوامر ا لله تعالى ونواهيه وذلك لا يؤتمن الكافر عليه ولا الفاسق لا يجوز أن تجعل إلى من هذه صفته سياسة المؤمنين لقوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين فإن قيل قال الله تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك فأخبر أنه آتى الكافر الملك قيل له يحتمل أن يريد به المال إن كان المراد إيتاء الكافر الملك وقد قيل إنه أراد به آتى إبراهيم الملك يعني النبوة وجواز الأمر والنهي في طريق الحكمة وقوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الآية فيه نهي عن اتخاذ الكافرين أولياء لأنه جزم الفعل فهو إذا نهي وليس بخبر قال ابن عباس نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يلاطفوا ونظيرها من الآي قوله تعالى لا تتخذوا بطانة من

دونكم لا يألونكم خبالا وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد اللل ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم الآية وقال تعالى فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وقال تعالى فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وقال تعالى فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا وقال تعالى وأعرض عن الجاهلين وقال تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض وقال تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - مر بإبل لبني المصطلق وقد عبست بأبوالها من السمن فتقنع بثوبه ومضى لقوله تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أنا بريء من كل مسلم مع مشرك فقيل لم يا رسول الله فقال لا تراءى ناراهما وقال أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين فهذه الآي والآثار دالة على أنه ينبغي أن يعامل الكفار بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة مالم تكن حال يخاف فيها على تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه أو ضررا كبيرا يلحقه في نفسه فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد والولاء ينصرف على وجهين أحدهما من يلي أمور من يرتضي فعله بالنصرة والمعونة والحياطة وقد يسمى بذلك المعان المنصور قال الله تعالى الله ولي الذين آمنوا يعني أنه يتولى نصرهم ومعونتهم والمؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم معانون بنصرة الله قال الله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية يعني إن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين قال لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في

دينه وقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية إلا أن تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك فجعل التقية صلة لقرابة الكافر وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب بل ترك التقية أفضل قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل أنه أفضل ممن أظهر وقد أخذ المشركون خبيب بن عدي فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعطى التقية وأظهر الكفر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم -

عن ذلك فقال كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان فقال ص

- وإن عادوا فعد وكان ذلك على وجه الترخيص وروي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال نعم فخلاه ثم دعا بالآخر وقال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال إني أصم قالها ثلاثا فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصة وأن الأفضل ترك إظهارها وكذلك قالوا أصحابنا في كل أمر كان فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة في العدول عنه ألا ترى أن من بذل نفسه فجهاد العدو فقتل كان أفضل ممن انحاز وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين فكذلك بذل النفس في إظهار دين الله تعالى وترك إظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء وإنه إذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره ويدل على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم وكذلك المسلم لا يعقل جنايته لأن ذلك من الولاية والنصرة قوله تعالى وآل إبراهيم وآل عمران روي عن ابن عباس والحسن إن آل إبراهيم هم المؤمنون الذين على دينه وقال الحسن وآل عمران المسيح عليه السلام لأنه ابن مريم بنت عمران وقيل آل عمران هم آل إبراهيم كما قال ذرية بعضها من بعض وهم موسى وهارون ابنا عمران وجعل أصحابنا الآل وأهل البيت واحدا فيمن يوصي لآل فلان إنه بمنزلة قوله لأهل بيت فلان فيكون لمن يجمعه وإياه الجد

الذي ينسبون إليه من قبل الآباء نحو قولهم آل النبي صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته هما عبارتان عن معنى واحد قالوا إلا أن يكون من نسب إليه الآل هو بيت ينسب إليه مثل قولنا آل العباس وآل علي والمعنى فيه أولاد العباس وأولاد علي الذين ينسبون إليهما بالآباء وهذا محمول على المتعارف المعتاد وقوله عز و جل ذرية بعضها من بعض روي عن الحسن وقتادة بعضها من بعض في التناصر في الدين كما قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يعني في الإجتماع على الضلال والمؤمنون بعضهم من بعض في الاجتماع على الهدى وقال بعضهم ذرية بعضها من بعض في التناسل لأن جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم عليهم السلام قوله عز و جل إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرارا روي عن الشعبي أنه قال مخلصا للعبادة وقال مجاهد خادما للبيعة وقال محمد بن جعفر بن الزبير عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى والتحرير ينصرف على وجهين أحدهما العتق من الحرية والآخر تحرير الكتاب وهو إخلاصه من الفساد والإضطراب وقولها إني نذرت لك ما في بطني محررا إذا أرادت مخلصا للعبادة أنها تنشئه على ذلك وتشغله بها دون غيرها وإذا أرادت به أنها تجعله خادما للبيعة أو عتيقا لطاعة الله تعالى فإن معاني جميع ذلك متقاربة كان نذرا من قبلها نذرته لله تعالى بقولها نذرت ثم قالت فتقبل مني إنك أنت السميع العليم والنذر في مثل ذلك صحيح في شريعتنا أيضا بأن ينذر الإنسان أن ينشئ ابنه الصغير على عبادة الله وطاعته وأن لا يشغله بغيرهما وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين وجميع ذلك نذور صحيحة لأن في ذلك قربة إلى الله تعالى وقولها نذرت لك يدل على أنه يقتضي الإيجاب وأن من نذر لله تعالى قربة يلزمه الوفاء بها ويدل على أن النذور تتعلق على الأخطار وعلى أوقات مستقبلة لأنه معلوم أن قولها نذرت لك ما في بطني محررا أرادت به بعد الولادة وبلوغ الوقت الذي يجوز في مثله أن يخلص لعبادة الله تعالى ويدل أيضا على جواز النذر بالمجهول لأنها نذرته وهي لا تدري ذكرا أم أنثى ويدل على أن للأم ضربا من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته لولا أنها تملك ذلك لما نذرته في ولدها ويدل أيضا على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإن لم يسمه الأب لأنها قالت وإني سميتها مريم وأثبت الله تعالى لولدها هذا الاسم وقوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن المراد به والله

أعلم رضيها للعبادة في النذر الذي نذرته بالإخلاص للعبادة في بيت المقدس ولم يقبل قبلها أنثى في هذا المعنى قوله تعالى وكفلها زكريا إذا قرئ بالتخفيف كان معناه أنه تضمن مؤنتها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه يعني به من يضمن مؤنة اليتيم وإذا قرئ بالتثقيل كان معناه أن الله تعالى كفله إياها وضمنه مؤنتها وأمره بالقيام بها والقراءتان صحيحتان بأن يكون الله تعالى كفله إياها فتكفل بها قوله تعالى قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الهبة تمليك الشيء من غير ثمن ويقولون قد تواهبوا لأمر بينهم وسمى الله تعالى ذلك هبة على وجه المجاز لأنه لم تكن هناك هبة على الحقيقة إذ لم يكن تمليك شيء وقد كان الولد حرا لا يقع فيه تمليك ولكنه لما أراد أن يخلص له الولد على ما أراد من عبادة الله تعالى ووراثته النبوة والعلم أطلق عليه لفظ الهبة كما سمى الله تعالى بذل النفس للجهاد في الله شراء بقوله إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة هو تعالى مالك الجميع من الأنفس والأموال قبل أن جاهدوا وبعده وسمى ذلك شراء لما وعدهم عليه من الثواب الجزيل وقد يقول القائل لي جناية فلان ولا تمليك فيه وإنما أراد إسقاط حكمها وقوله تعالى وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يسمى بهذا الاسم لأن الله تعالى سمى بمحي سيدا والسيد هو الذي تجب طاعته وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحكم بينه وبين بني قريظة قوموا إلى سيدكم وقال ص - للحسن إن ابني هذا سيد وقال لبني سلمة من سيدكم يا بني سلمة قالوا الحر بن قيس على بخل فيه قال وأي داء أدوى من البخل ولكن سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمى سيدا وليس السيد هو المالك فحسب لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال سيد الدابة وسيد الثوب كما يقال سيد العبد وقد روي أن وفد بني عامر قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا أنت سيدنا وذو الطول علينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

السيد هو الله تكلموا بكلامكم ولا يستهوينكم الشيطان وقد كان النبي ص

- أفضل السادة من بني آدم ولكنه رآهم متكلفين لهذا القول فأنكره عليهم كما قال أبغضكم إلي الثرثارون المتشدقون المتفيقون فكره لهم تكلف الكلام على وجه التصنع وقد روي عن النبي أنه قال لا تقولوا للمنافق سيدا فإنه إن يك سيدا فقد هلكتم فنهى أن يسمى المنافق سيدا لأنه لا تجب

طاعته فإن قيل قال الله تعالى ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا فسموهم سادات وهم ضلال قيل له لأنهم أنزلوهم منزلة من تجب طاعته وإن لم يكن مستحقا لها فكانوا عندهم وفي اعتقادهم ساداتهم كما قال تعالى فما أغنت عنهم آلهتهم ولم يكونوا آلهة ولكنهم سموهم آلهة فأجرى الكلام على ما كان في زعمهم واعتقادهم قوله تعالى قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا يقال إنه طلب آية لوقت الحمل ليعجل السرور به فأمسك على لسانه فلم يقدر أن يكلم الناس إلا بالإيماء يروى ذلك عن الحسن والربيع بن أنس وقتادة وقال في هذه الآية ثلاثة أيام وفي موضع آخر في سورة مريم في هذه القصة بعينها ثلاث ليال سويا عبر تارة بذكر الأيام وتارة بذكر الليالي وفي هذا دليل على أن أحد العددين من الجميع عند الإطلاق يعقل به مقداره من الوقت الآخر فيعقل من ثلاثة أيام ثلاث ليال معها ومن ثلاث ليال ثلاثة أيام ألا ترى أنه لما أراد التفرقة بينهما أفرد كل واحد منهما بالذكر فقال سبع ليال وثمانية أيام حسوما لأنه لو اقتصر على العدد الأول عقل مثله من الوقت الآخر قوله تعالى وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين قيل في قوله اصطفاك اختارك بالتفضيل على نساء العالمين في زمانهم يروى ذلك عن الحسن وابن جريج وقال غيرهما معناه أنه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح وقال الحسن ومجاهد وطهرك من الكفر بالإيمان قال أبو بكر هذا سائغ كما جاز إطلاق اسم النجاسة على الكافر لأجل الكفر في قوله تعالى إنما المشركون نجس والمراد نجاسة الكفر فكذلك يكون وطهرك بطهارة الإيمان وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن ليس بنجس يعني به نجاسة الكفر وهو كقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والمراد طهارة الإيمان والطاعات وقيل إن المراد وطهرك من سائر الأجناس من الحيض والنفاس وغيرهما وقد اختلف في وجه تطهير الملائكة لمريم وإن لم تكن نبية لأن الله تعالى قال وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فقال قائل كان ذلك معجزة لزكريا عليه السلام وقال آخرون على وجه إرهاص نبوة المسيح كحال الشهب وإظلال الغمامة ونحو ذلك مما كان لنبينا ص - قبل المبعث قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين قال سعيد أخلصي لربك وقال قتادة أديمي الطاعة وقال

مجاهد أطيلي القيام في الصلاة وأصل القنوت الدوام على الشيء وأشبه هذه الوجوه بالحال الأمر بإطالة القيام في الصلاة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الصلاة طول القنوت يعني طول القيام ويدل عليه قوله عطفا على ذلك واسجدي واركعي فأمرت بالقيام والركوع والسجود وهي أركان الصلاة ولذلك لم يكن هذا موضع سجدة عند سائر أهل العلم كسائر مواضع السجود لأجل ذكر السجود فيها لأنه قد ذكر مع السجود القيام والركوع فكان أمرا بالصلاة وفي هذا دلالة على أن الواو لا توجب الترتيب لأن الركوع مقدم على السجود في المعنى وقدم السجود ههنا في اللفظ قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم قال أبو بكر حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى إذ يلقون أقلامهم قال تساهموا على مريم أيهم يكفلها فقرعهم زكريا ويقال إن الأقلام ههنا القداح التي يتساهم عليها وأنهم ألقوها في جرية الماء فاستقبل قلم زكريا عليه السلام جرية الماء مصعدا وانحدرت أقلام الآخرين معجزة لزكريا عليه السلام فقرعهم يروى ذلك عن الربيع بن أنس ففي هذا التأويل أنهم تساهموا عليها حرصا على كفالتها ومن الناس من يقول إنهم تدافعوا كفالتها لشدة الأزمة والقحط في زمانها حتى وفق لها زكريا خير الكفلاء والتأويل الأول أصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه كفلها زكريا وهذا يدل على أنه كان حريصا على كفالتها ومن الناس من يحتج بذلك على جواز القرعة في العبيد يعتقهم في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا من عتق العبيد في شيء لأن الرضا بكفالة الواحد منهم بعينه جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له لحرية وقد كان عتق الميت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه وإلقاء الأقلام يشبه القرعة في القسمة وفي تقديم الخصوم إلى الحاكم وهو نظير ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه وذلك لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة وكذلك حكم كفالة مريم عليها السلام وغير جائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه قوله تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح البشارة هي خبر على وصف وهو في الأصل لما يسر لظهور السرور في بشرة وجهه إذا

بشر والبشرة هي ظاهر الجلد فأضافت الملائكة البشارة إلى الله تعالى وكان الله هو مبشرها وإن كانت الملائكة خاطبوها وكذلك قال أصحابنا فيمن قال إن بشرت فلانا بقدوم فلان فعبدي حر فقدم وأرسل إليه رسولا يخبره بقدومه فقال له الرسول إن فلانا يقول لك قد قدم فلان أنه يحنث في يمينه لأن المرسل هو المبشر دون الرسول ولأجل ما ذكرنا من تضمن البشارة إحداث السرور قال أصحابنا إن المبشر هو المخبر الأول وأن الثاني ليس بمبشر لأنه لا يحدث بخبره سرور وقد تطلق البشارة ويراد بها الخبر فحسب كقوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم قوله تعالى بكلمة منه قد قيل فيه ثلاثةأوجه أحدها أنه لما خلقه الله تعالى من غير والد كما قال الله تعالى خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فلما كان خلقه على هذا الوجه من غير والد أطلق عليه اسم الكلمة مجازا كما قال وكلمته ألقاها إلى مريم والوجه الثاني أنه لما بشر به في الكتب القديمة أطلق عليه الاسم والوجه الثالث إن الله يهدي به كما يهدي بكلمته قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الاحتجاج المتقدم لهذه الآية على النصارى في قولهم إن المسيح هو ابن الله وهم وفد نجران وفيهم السيد والعاقب قالا للنبي ص - هل رأيت ولدا من غير ذكر فأنزل الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم روي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة وقال قبل ذلك فيما حكي عن المسيح ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم إلى قوله تعالى إن الله ربي وربكم فاعبدوه وهذا موجود في الإنجيل لأن فيه إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم والأب السيد في تلك اللغة ألا تراه قال وأبي وأبيكم فعلمت أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة فلما قامت الحجة عليهم بما عرفوه واعترفوا به وأبطل شبهتهم في قولهم أنه ولد من غير ذكر بأمر آدم عليه السلام دعاهم حينئذ إلى المباهلة فقال تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم الآية فنقل رواة السير ونقلة الأثر لم يختلفوا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم ثم دعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة فأحجموا عنها وقال بعضهم لبعض إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارا ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة وفي هذه الآيات دحض شبه النصارى في أنه إله أو ابن الإله وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -

لولا أنهم عرفوا يقينا أنه

نبي ما الذي كان يمنعهم من المباهلة فلما أحجموا وامتنعوا عنها دل أنهم قد كانوا عرفوا صحة نبوته بالدلائل المعجزات وبما وجدوا من نعته في كتب الأنبياء المتقدمين وفيه الدلالة على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال تعالوا ندع

أبناءها وأبناءكم ولم يكن هناك للنبي ص - بنون غيرهما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للحسن رضي الله عنه إن ابني هذا سيد وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير لا تزرموا ابني وهما من ذريته أيضا كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام بقوله تعالى ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله تعالى وزكريا ويحيى وعيسى وإنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له ومن الناس من يقول أن هذا مخصوص في الحسن والحسين رضي الله عنهما أن يسميا ابني النبي صلى الله عليه وسلم - دون غيرهما وقد روي في ذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - يدل علىخصوص إطلاق اسم ذلك فيهما دون غيرهما من الناس لأنه روي عنه أنه قال سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وقال محمد فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة أن الوصية لولد الإبن دون ولد الإبنة وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إن ولد الإبنة يدخلون فيه وهذا يدل على أن قوله تعالى وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك مخصوص به الحسن والحسين في جواز نسبتهما على الإطلاق إلى النبي صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الناس لما ورد فيه من الأثر وأن غيرهما من الناس إنما ينسبون إلى الآباء وقومهم دون قوم الأم ألا ترى أن الهاشمي إذا استولد جارية رومية أو حبشية أن ابنه يكون هاشميا منسوبا إلى قوم أبيه دون أمه وكذلك قال الشاعر ... بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد ... فنسبة الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم - بالبنوة على الإطلاق مخصوص بهما لا يدخل فيه غيرهما هذا هو الظاهر المتعالم من كلام الناس فيمن سواهما لأنهم ينسبون إلى ا لأب وقومه دون قوم الأم قوله تعالى قل يا أيه الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله الآية قوله تعالى كلمة سواء يعني والله أعلم كلمة عدل بيننا وبينكم نتساوى جميعا فيها إذ كنا جميعا عباد الله ثم فسرها بقوله تعالى ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله وهذه هي

الكلمة التي تشهد العقول بصحتها إذ كان الناس كلهم عبيد الله لا يستحق بعضهم على بعض العبادة ولا يجب على أحد منهم طاعة غيره إلا فيما كان طاعة لله تعالى وقد شرط الله تعالى في طاعة نبيه ص - ما كان منها معروفا وإن كان الله تعالى قد علم أنه لا يأمر إلا بالمعروف لئلا يترخص أحد في إلزام غيره طاعة نفسه إلا بأمر الله تعالى كما قال الله تعالى مخاطبا لنبيه ص - في قصة المبايعات ولا يعصينك في معروف فبايعهن فشرط عليهن ترك عصيان النبي صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي يأمرهن به تأكيدا لئلا يلزم أحدا طاعة غيره إلا بأمر الله وما كان منه طاعة لله تعالى وقوله تعالى ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله أي لا يتبعه في تحليل شيء ولا تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه وهو نظير قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وقد روى عبدالسلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قلت يا رسول ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم فيحرمونه قال فتلك عبادتهم وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوهم أربابا لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه ا لله ولم يحلله ولا يستحق أحد أن يطاع بمثله إلا الله تعالى الذي هو خالقهم والمكلفون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم إلى قوله تعالى أفلا تعقلون روي عن ابن عباس والحسن والسدي أن أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود ما كان إلا يهوديا وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا فأبطل الله دعواهم بقوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده فلا تعقلون فاليهودية والنصرانية حادثتان بعد إبراهيم فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا وقد قيل إنهم سموا بذلك لأنهم من ولد يهودا والنصارى سموا بذلك لأن أصلهم من ناصرة قرية بالشام ومع ذلك فإن اليهودية ملة محرفة عن ملة موسى عليه السلام والنصرانية ملة محرفة عن شريعة عيسى عليه السلام فلذلك قال تعالى وما أنزلت التوراة والإنجيل

إلا من بعده فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملة حادثة بعده فإن قيل فينبغي أن لا يكون حنيفا مسلما لأن القرآن نزل بعده قيل له ما كان معنى الحنيف الدين المستقيم لأن الحنف في اللغة هو الإستقامة والإسلام ههنا هو الطاعة لله تعالى والانقياد لأمره وكل واحد من أهل الحق يصح وصفه بذلك فقد علمنا بأن الأنبياء المتقدمين إبراهيم ومن قبله قد كانوا بهذه الصفة فلذلك جاز أن يسمى إبراهيم حنيفا مسلما وإن كان القرآن نزل بعده لأن هذا الاسم ليس بمختص بنزول القرآن دون غيره بل يصح صفة جميع المؤمنين به واليهودية والنصرانية صفة حادثة لمن ان على ملة حرفها منتحلوها من شريعة التوراة والإنجيل فغير جائز أن ينسب إليها من كان قبلها وفي هذه الآيات دليل على وجوب المحاجة في الدين وإقامة الحجة على المبطلين كما احتج الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأبطل بها شبهتهم وشغبهم وقوله تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم أوضح دليل على صحة الاحتجاج للحق لأنه لو كان الحجاج كله محظورا لما فرق بين المحاجة بالعلم وبينها إذا كانت بغير علم وقيل في قوله تعالى حاججتم فيما لكم به علم فيما وجدوه في كتبهم وأما ما ليس لهم به علم فهو شأن إبراهيم في قولهم إنه كان يهوديا أو نصرانيا قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك معناه تأمنه على قنطار لأن الباء وعلى تتعاقبان في هذا الموضع كقولك مررت بفلان ومررت عليه وقال الحسن في القنطار هو ألف مثقال ومائتا مثقال وقال أبو نضرة ملء مسك ثور ذهبا وقال مجاهد سبعون ألفا وقال أبو صالح مائة رطل فوصف الله تعالى بعض أهل الكتاب بأداء الأمانة في هذا الموضع ويقال إنه أراد به النصارى ومن الناس من يحتج بذلك في قبول شهادة بعضهم على بعض لأن الشهادة ضرب من الأمانة كما أن بعض المسلمين لما كان مأمونا جازت شهادته فكذلك الكتابي من حيث كان منهم موصوفا بالأمانة دل على جواز قبول شهادته على الكفار فإن قيل فهذا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين لأنه وصفه بأداء الأمانة إلى المسلمين إذا ائتمنوه عليها قيل له كذلك يقتضي ظاهر الآية إلا أنا خصصناه بالاتفاق وأيضا فإنما دلت على جواز شهادتهم للمسلمين لأن أداء أمانتهم حق لهم فأما جوازه عليهم فلا دلالة في الآية عليه وقوله تعالى ومنهم من إن تأمنه

بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما قال مجاهد وقتادة إلا ما دمت عليه قائما بالتقاضي وقال السدي إلا ما دمت قائما على رأسه بالملازمة له واللفظ محتمل للأمرين من التقاضي ومن الملازمة وهو عليهما جميعا وقوله تعالى إلا ما دمت عليه قائما بالملازمة أولى منه بالتقاضي من غير ملازمة وقد دلت الاية على أن للطالب ملازمة المطلوب بالدين وقوله تعالى ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل روي عن قتادة والسدي أن اليهود قالت ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون وزعموا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم وقيل انهم قالوا ذلك في سائر من يخالفهم في دينهم ويستحلون أموالهم لأنهم يزعمون أن على الناس جميعا اتباعهم وادعوا ذلك على الله أنه أنزل عليهم فأخبر الله تعالى عن كذبهم في ذلك بقوله تعالى ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنه كذب قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وروى الأعمش عن سفيان عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فاجر فيها لقي الله وهو عليه غضبان وقال الأشعث بن قيس في نزلت كان بيني وبين رجل خصومة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال ألك بينة قلت لا قال فيمينه قلت إذا يحلف فذكر مثل قول عبدالله فنزلت إن الذين يشترون بعهد الله الآية وروى مالك عن العلاء بن عبدالرحمن عن معبد بن كعب عن أخيه عبدالله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن كان قضيبا من أراك وروى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان وظاهر الآية وهذه الآثار تدل على أنه لا يستحق أحد بيمينه مالا هو في الظاهر لغيره وكل من في يده شيء يدعيه لنفسه فالظاهر أنه له حتى يستحقه غيره وقد منع ظاهر الآية والآثار التي ذكرنا أن يستحق بيمينه مالا هو لغيره في الظاهر ولولا يمينه لم يستحقه لأنه معلوم أنه لم يرد به مالا هو له عند الله دون ما هو عندنا في الظاهر إذ كانت الأملاك لا تثبت عندنا إلا من طريق الظاهر دون الحقيقة وفي ذلك دليل على بطلان قول القائلين برد اليمين لأنه يستحق بيمينه ما كان ملكا لغيره في الظاهر وفيه الدلالة على أن الأيمان ليست

موضوعة للإستحقاق وإنما موضوعها لإسقاط الخصومة وروى العوام بن حوشب قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أنه سمع ابن أبي أوفى يقول أقام رجل سلعة فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت بها ثمنا لم يعط بها ليوقع فيها مسلما فنزلت إن الذين يشترون بعهد الله الآية وروي عن الحسن وعكرمة أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود كتبوا كتابا بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله ممن ادعوا أنه ليس علينا في الأميين سبيل قوله تعالى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب إلى قوله تعالى وما هو من عند الله يدل على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله لأنها لو كانت من فعله لكانت من عنده وقد نفى الله نفيا عاما كون المعاصي من عنده ولو كانت من فعله لكانت من عنده من آكد الوجوه فكان لا يجوز إطلاق النفي بأنه ليس من عنده فإن قيل فقد يقال إن الإيمان من عند الله ولا يقال إنه من عنده من كل الوجوه كذلك الكفر والمعاصي قيل له لأن إطلاق النفي يوجب العموم وليس كذلك إطلاق الإثبات ألا ترى أنك لو قلت ما عند زيد طعام كان نفيا لقليله وكثيره ولو قلت عنده طعام ما كان عموما في كون جميع الطعام عنده قوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قيل في معنى البر ههنا وجهان أحدهما الجنة وروي ذلك عن عمرو بن ميمون والسدي وقيل فيه البر بفعل الخير الذي يستحقون به الأجر والنفقة ههنا أخراج ما يحبه في سبيل الله من صدقة أو غيرها وروى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس قال لما نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ومن ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قال أبو طلحة يا رسول الله حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله تعالى ولو استطعت أن أسره ما أعلنته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اجعله في قرابتك أو في أقربائك وروى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي عمرو بن حماس عن حمزة بن عبدالله عن عبدالله بن عمر قال خطرت هذه الآية لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فتذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب إلي من جاريتي أميمة فقلت هي حرة لوجه الله فلولا أن أعود في شيء فعلته لله لنكحتها فأنكحتها نافعا وهي أم ولده حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب وغيره أنها حين نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فحمل النبي صلى الله عليه وسلم - عليها أسامة بن

زيد فكان زيد أوجد في نفسه فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك منه قال أما الله تعالى فقد قبلها وروي عن الحسن أنه قال هو الزكاة الواجبة وما فرض الله تعالى في الأموال قال أبو بكر عتق ابن عمر للجارية على تأويل الآية على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القربةإلى الله فهو من النفقة المراد بالآية ويدل على أن ذلك كان عنده عاما في الفروض والنوافل وكذلك فعل أبي طلحة وزيد بن حارثة يدل على أنهم لم يروا ذلك مقصورا على الفرض دون النفل ويكون حينئذ معنى قوله تعالى لن تنالوا البر على أنكم لن تنالوا البر الذي هو في أعلى منازل القرب حتى تنفقوا مما تحبون على وجه المبالغة في الترغيب فيه لأن الإنفاق مما يحب يدل على صدق نيته كما قال تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة وإن لم يرد به نفي الأصل وإنما يريد به نفي الكمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد ما ينفق ولا يفطن له فيتصدق عليه فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة لا على نفي المسكنة عن غيره على الحقيقة قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قال أبو بكر هذا يوجب أن يكون جميع المأكولات قد كان مباحا لبني إسرائيل إلى أن حرم إسرائيل ما حرمه على نفسه وروي عن ابن عباس والحسن أنه أخذه وجع عرق النسا فحرم أحب الطعام إليه إن شفاه الله على وجه النذر وهو لحوم الإبل وقال قتادة حرم العروق وروي أن إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام نذر إن برئ من عرق النسا أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الإبل وألبانها وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وسلم - لحوم الإبل لأنهم لا يرون النسخ جائزا فأنزل الله هذه الآية وبين أنها كانت مباحة لإبراهيم وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه وحاجهم بالتوراة فلم يجسروا على إحضارها لعلمهم بصدق ما أخبر أنه فيها وبين بذلك بطلان قولهم في إباء النسخ إذ ما جاز أن يكون مباحا في وقت ثم حظر جازت إباحته بعد حظره وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه ص - كان أميا لا يقرأ الكتاب ولم يجالس أهل الكتاب فلم يعرف سرائر كتب الأنبياء المتقدمين إلا بإعلام الله إياه وهذا الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه صار محظورا عليه وعلى بني إسرائيل يدل

عليه قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فاستثنى ذلك مما أحله تعالى لبني إسرائيل ثم حظره إسرائيل على نفسه فدل على أنه صار محظورا عليه وعليهم فإن قيل كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئا وهو لا يعلم موقع المصلحة في الحظر والإباحة إذ كان علم المصالح في العبادات لله تعالى وحده قيل هذا جائز بأن يأذن الله له فيه كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله تعالى فيكون ما يؤدي ليه الاجتهاد حكما لله تعالى وأيضا فجائز للإنسان أن يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يأذن الله له في تحريم الطعام إما من جهة النص أو الاجتهاد وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك أو توقيفا من الله له في إباحة التحريم له إن شاء وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك لإضافة الله تعالى التحريم إليه ولو كان ذلك عن توقيف لقال إلا ما حرم الله على بني إسرائيل فلما أضاف التحريم إليه دل ذلك على أنه كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد وهذا يدل على أنه جائز أن يجعل للنبي ص -

الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره والنبي ص

- أولى بذلك لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأي وقد بينا ذلك في أصول الفقه قال أبو بكر قد دلت الآية على أن تحريم إسرائيل لما حرمه من الطعام على نفسه قد كان واقعا ولم يكن موجب لفظه شيئا غير التحريم وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا ص -

وذلك لأن النبي ص

- حرم مارية على نفسه وقيل أنه حرم العسل فلم يحرمهما الله تعالى عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين بقوله تعالى يا أيهاالنبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك إلىقوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فجعل في التحريم كفارة يمين إذا استباح ما حرم بمنزلة الحلف أن لا يستبيحه وكذلك قال أصحابنا فيمن حرم على نفسه جارية أو شيئا من ملكه أنه لا يحرم عليه وله أن يستبيحه بعد التحريم وتلزمه كفارة يمين بمنزلة من حلف أن لا يأكل هذا الطعام إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه وهو أن القائل والله لا أكلت هذا الطعام لا يحنث إلا بأكل جميعه ولو قال قد حرمت هذا الطعام على نفسي حنث بأكل جزء منه لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى الحنث بأكل الجزء منه بمنزلة قوله والله لا آكل شيئا منه لأن ما حرمه الله تعالى من الأشياء

فتحريمه شامل لقليله وكثيره وكذلك المحرم له على نفسه عاقد لليمين على كل جزء منه أن لا يأكل قوله عز و جل إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين قال مجاهد وقتادة لم يوضع قبله بيت على الأرض وروي عن علي والحسن أنهما قالا هو أول بيت وضع للعبادة وقد اختلف في بكة فقال الزهري بكة المسجد ومكة الحرم كله وقال مجاهد بكة هي مكة ومن قال هذا القول يقول قد تبدل الباء مع الميم كقوله سبد رأسه وسمده إذا حلقه وقال أبو عبيدة بكة هي بطن مكة وقيل إن البك الزحم من قولك بكه يبكه بكا إذا زاحمه وتباك الناس بالموضع إذا ازدحموا فيجوز أن يسمى بها البيت لازدحام الناس فيه للتبرك بالصلاة ويجوز أن يسمى به ما حول البيت من المسجد لازدحام الناس فيه للطواف قوله تعالى وهدى للعالمين يعني بيانا ودلالة على الله لما أظهر فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره وهو أمن الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي في الحرم فلا الكلب يهيج الظبي ولا الظبي يتوحش منه وفي ذلك دلالة على توحيد الله وقدرته وهذا يدل على أن المراد بالبيت ههنا البيت وما حوله من الحرم لأن ذلك موجود في جميع الحرم وقوله مباركا يعني أنه ثابت الخير والبركة لأن البركة هي ثبوت الخير ونموه وتزيده والبرك هو الثبوت يقال برك بركا وبروكا إذا ثيت على حاله هذه في الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونمو الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والديانة قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم قال أبو بكر الآية في مقام إبراهيم عليه السلام أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله تعالى ليكون ذلك دلالة وآية على توحيد الله وعلى صحة نبوة إبراهيم عليه السلام ومن الآيات فيه ما ذكرنا من أمن الوحش وأنسه فيه مع السباع الضارية المتعادية وأمن الخائف في الجاهلية فيه ويتخطف الناس من حولهم وإمحاق الجمار على كثرة الرمي من لدن إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا مع أن حصى الجمار إنما تنقل إلى موضع الرمي من غيره وامتناع الطير من العلو عليه وإنما يطير حوله لا فوقه واستشفاء المريض منها به وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وقد كانت العادة بذلك جارية ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا لإخرابة بالطير الأبابيل فهذه كلها من آيات الحرم سوى ما لا نحصيه منها وفي جميع ذلك دليل على أن المراد بالبيت هنا الحرم كله لأن هذه الآيات موجودة في الحرم

ومقام إبراهيم ليس في البيت إنما هو خارج البيت والله أعلم
باب

الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجني فيه

قال الله تعالى ومن دخله كان آمنا قال أبو بكر لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله إن أول بيت وضع للناس موجودة في جميع الحرم ثم قال ومن دخله كان آمنا وجب أن يكون مراده جميع الحرم وقوله ومن دخله كان آمنا يقتضي أمنه على نفسه سواء كان جانيا قبل دخوله أو جنى بعد دخوله إلا أن الفقهاء متفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها ومعلوم أن قوله ومن دخله كان آمنا هو أمر وإن كان في صورة الخبر كأنه قال هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به كما نقول هذا مباح وهذا محظور والمراد به كذلك في حكم الله وما أمر به عباده وليس المراد أن مبيحا يستبيحه ولا أن معتقدا للحظر يحظره وإنما هو بمنزلة قوله في المباح افعله على أن لا تبعة عليك فيه ولا ثواب وفي المحظور لا تفعله فإنك تستحق العقاب به وكذلك قوله تعالى ومن دخله كان آمنا هو أمر لنا بإيمانه وحظر دمه ألا ترى إلى قوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا ولو كان قوله تعالى ومن دخله كان آمنا خبرا لما جاز أن لا يوجد مخبره فثبت بذلك أن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا هو أمر لنا بإيمانه ونهي لنا عن قتله ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمرا لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن تؤمنه من قتل قد استحقه بجنايته فلما كان حمله على الإيمان من قتل غير مستحق عليه بل على وجه الظلم تسقط فائدة تخصيص الحرم به لأن الحرم وغيره في ذلك سواء إذا كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قبلنا أومن قبل غيرنا إذا أمكننا ذلك علمنا أن المراد الأمر بالإيمان من قبل مستحق فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحق من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قتل في الحرم قتل قال الله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ففرق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه وقد اختلف الفقهاء فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم

لم يقتص منه ما دام فيه ولكنه لا يبايع ولا يؤاكل إلى أن يخرج من الحرم فيقتص منه وإن قتل في الحرم قتل وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه وقال مالك والشافعي يقتص منه في الحرم ذلك كله قال أبو بكر روي عن ابن عباس وابن عمر وعبيدالله بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والشعبي فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل قال ابن عباس ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه وروى قتادة عن الحسن أنه قال لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه قال وكان الحسن يقول ومن دخله كان آمنا كان هذا في الجاهلية لو أن رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا إذا أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم حتى يقام عليه وعن مجاهد مثله وهذا يحتمل أن يريد به أن يضطر إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته وقد روي ذلك عن عطاء مفسرا فجائز أن يكون ما روي عنه وعن الحسن في إخراجه من الحرم على هذا الوجه وقد ذكرنا دلالة قوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه على مثل ما دل عليه قوله تعالى ومن دخله كان آمنا في موضعه وبينا وجه دلالة ذلك على أن دخول الحرم يحظر قتل من لجأ إليه إذا لم تكن جنايته في الحرم وأما ما ذكرنا من قول السلف فيه يدل على أنه اتفاق منهم على حظر قتل من قتل في غير الحرم ثم لجأ إليه لأن الحسن روي عنه فيه قولان متضادان أحدهما رواية قتادة عنه أنه يقتل والآخر رواية هشام بن حسان في أنه لا يقتل في الحرم ولكنه يخرج منه فيقتل وقد بينا أنه يحتمل قوله يخرج فيقتل أنه يضيق عليه في ترك المبايعة والمشاراة والأكل والشرب حتى يضطر إلى الخروج فلم يحصل للحسن في هذا قول لتضاد الروايتين وبقي قول الآخرين من الصحابة والتابعين في منع القصاص في الحرم بجناية كانت منه في غير الحرم ولم يختلف السلف ومن بعدهم من الفقهاء أنه إذا جنى في الحرم وكان مأخوذا بجنايته يقام عليه ما يستحقه من قتل أو غيره فإن قيل قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله النفس بالنفس وقوله ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يوجب

عمومه القصاص في الحرم على من جنى فيه أو في غيره قيل له قد دللنا على أن قوله ومن دخله كان آمنا قد اقتضى وقوع الأمن من القتل بجناية كانت منه في غيره وقوله كتب عليكم القصاص وسائر الآي الموجبة للقصاص مرتب على ما ذكرنا من الأمن بدخول الحرم ويكون ذلك مخصوصا من آي القصاص وأيضا فإن قوله تعالى كتب عليكم القصاص وارد في إيجاب القصاص لا في حكم الحرم وقوله ومن دخله كان آمنا وارد في حكم الحرم ووقوع الأمن لمن لجأ إليه فيجري كل واحد منهما على بابه ويستعمل فيما ورد فيه ولا يعترض بآي القصاص على حكم الحرم ومن جهة أخرى أن إيجاب القصاص لا محالة متقدم لإيجاب أمانه بالحرم لأنه لو لم يكن القصاص واجبا قبل ذلك استحال أن يقال هو آمن مما لم يجن ولم يستحق عليه فدل ذلك علىأن الحكم بأمنه بدخول الحرم متأخر عن إيجاب القصاص ومن جهة الأثر حديث ابن عباس وأبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن الله حرم مكة ولم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار فظاهر ذلك يقتضي حظر قتل اللاجئ إليه والجاني فيه إلا أن الجاني فيه لا خلاف فيه أنه يؤخذ بجنايته فبقي حكم اللفظ في الجاني إذا لجأ إليه وروى حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن أعتى الناس على الله عز و جل رجل قتل غير قاتله أو قتل في الحرم أو قتل بذحل الجاهلية وهذا أيضا يحظر عمومه قتل كل من كان فيه فلا يخص منه شيء إلا بدلالة وأما ما دون النفس فإنه يؤخذ به لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به لقوله ص - لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والحبس في الدين عقوبة فجعل الحبس عقوبة وهو فيما دون النفس فكل حق وجب فيما دون النفس أخذ به وإن لجأ إلى الحرم قياسا على الحبس في الدين وأيضا لا خلاف بين الفقهاء أنه مأخوذ بما ايجب عليه فيما دون النفس وكذلك لا خلاف أن الجاني في الحرم مأخوذ بجنايته في النفس وما دونها ولا خلاف أيضا أنه إذا جنى في غير الحرم ثم دخل الحرم أنه إذا لم يجب قتله في الحرم أنه لا يبايع ولا يشارى ولا يؤوى حتى يخرج ولما ثبت عندنا أنه لا يقتل وجب استعمال الحكم الآخر فيه في ترك مشاراته ومبايعته وإيوائه فهذه الوجوه كلها لا خلاف فيها وإنما الخلاف فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم وقد دللنا عليه وما عدا ذلك فهو محمول على ما حصل عليه الاتفاق

وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال حدثنا يعقوب بن حميد قال حدثنا عبدالله بن الوليد عن سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يسكن مكة سافك دم ولا آكل ربا ولا مشاء بنميمة وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يؤو ولم يجالس ولم يبايع ولم يشار ولم يطعم ولم يسق حتى يخرج لقوله ص - لا يسكنها سافك دم وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبار قال حدثنا داود بن عمرو قال حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال إذا دخل القاتل الحرم لم يجالس ولم يبايع ولم يؤو واتبعه طالبه يقول له اتق الله في دم فلان واخرج من الحرم ونظير قوله تعالى ومن دخله كان آمنا قوله عز و جل أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وقوله أو لو نمكن لهم حرما آمنا وقوله وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إليه وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله وما عبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دل على أن الحرم في حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه ولما لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه فإن قيل من قتل في البيت لم يقتل فيه ومن قتل في الحرم قتل فيه فليس الحرم كالبيت قيل له لما جعل الله حكم الحرم حكم البيت فيما عظم من حرمته وعبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم اقتضى ذلك التسوية بينهما إلا فيما قام دليل تخصيصه وقد قامت الدلالة في حظر القتل في البيت فخصصناه وبقي حكم الحرم على ما اقتضاه ظاهر القرآن من إيجاب التسوية بينهما والله تعالى أعلم
باب

فرض الحج

قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال أبو بكر هذا ظاهر في إيجاب فرض الحج على شريطة وجود السبيل إليه والذي يقتضيه من حكم السبيل إن كل من أمكنه الوصول إلى الحج لزمه ذلك إذ كانت استطاعة السبيل إليه هي إمكان الوصول إليه كقوله تعالى فهل إلى خروج من سبيل يعني من وصول وهل إلى مرد من سبيل يعني من وصول وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم -

من شرط استطاعة السبيل إليه وجود الزاد والراحلة وروى أبو إسحاق عن

الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من ملك

زادا وراحلة يبلغه بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وروى إبراهيم بن يزيد الجوزي عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن قوله عز و جل ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال السبيل إلى الحج الزاد والراحلة وروى يونس عن الحسن لما نزلت هذه الآية ولله على الناس حج البيت الآية قال رجل يا رسول الله ما السبيل قال زاد وراحلة وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال السبيل الزاد والراحلة ولم يحل بينه وبينه أحد وقال سعيد بن جبير هوالزاد والراحلة قال أبو بكر فوجود الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره الله تعالى ومن شرائط وجوب الحج وليست الإستطاعة مقصورة على ذلك لأن المريض الخائف والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة والزمنى وكل من تعذر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجدا للزاد والراحلة فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يرد بقوله الإستطاعة الزاد والراحلة إن ذلك جميع شرائط الإستطاعة وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن من أمكنه المشي إلى بيت الله ولم يجد زادا وراحلة فعليه الحج فبين ص - أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي وأن من لا يمكنه الوصول إليه إلا بالمشي الذي يشق ويعسر فلا حج عليه فإن قيل فينبغي أن لا يلزم فرض الحج إلا من كان بينه وبين مكة مسافة ساعة إذا لم يجد زادا وراحلة وأمكنه المشي قيل له إذا لم يلحقه في المشي مشقة شديدة فهذا أيسر أمر من الواجد للزاد والراحلة إذا بعد وطنه من مكة ومعلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لأن لا يشق عليه ويناله ما يضره من المشي فإذا كان من أهل مكة وما قرب منها ممن لا يشق عليه المشي في ساعة من نهار فهذا مستطيع للسبيل بلا مشقة وإذا كان لا يصل إلى البيت إلا بالمشقة الشديدة فهو الذي خفف الله عنه ولم يلزمه الفرض إلا على الشرط المذكور ببيان النبي صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج يعني من ضيق وعندنا أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الحج لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج وروى عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم - فقال لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقال رجل يا رسول الله إني

قد اكتتبت في غزوة كذا وقد أرادت امرأتي أن تحج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - احجج مع امرأتك وهذا يدل على أن قوله لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم قد انتظم المرأة إذا أرادت الحج من ثلاثة أوجه أحدها أن السائل عقل منه ذلك ولذلك سأله عن امرأته وهي تريد الحج ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك عليه فدل على أن مراده ص - عام في الحج وغيره من الأسفار والثاني قوله حج مع امرأتك وفي ذلك إخبار منه بإرادة سفر الحج في قوله لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم والثالث أمره إياه بترك الغزو للحج مع امرأته ولو جاز لها الحج بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو وهو فرض للتطوع وفي هذا دليل أيضا على أن حج المرأة كان فرضا ولم يكن تطوعا لأنه لو كان تطوعا لما أمره بترك الغزو الذي هو فرض لتطوع المرأة ومن وجه آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يسئله عن حج المرأة أفرض هو أم نفل وفي ذلك دليل على تساوي حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم فثبت بذلك أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الإستطاعة ولا خلاف أن من شرط استطاعتها أن لا تكون معتدة لقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة فلما كان ذلك معتبرا في الإستطاعة وجب أن يكون نهيه للمرأة أن تسافر بغير محرم معتبرا فيها ومن شرائطه ما ذكرنا من إمكان ثبوته على الراحلة وذلك لما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عبادة قال حدثنا محمد بن مصعب قال حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك فأجاز ص - للمرأة أن تحج عن أبيها ولم يلزم الرجل الحج بنفسه فثبت بذلك أن من شرط الإستطاعة إمكان الوصول إلى الحج وهؤلاء وإن لم يلزمهم الحج بأنفسهم إذا كانوا واجدين للزاد والراحلة فإن عليهم أن يحجوا غيرهم عنهم أعني المريض والزمن والمرأة إذا حضرتهم الوفاة فعليهم أن يوصوا بالحج وذلك أن وجود ما يمكن به الوصول إلى الحج في ملكهم يلزمهم فرض الحج في أموالهم إذا لم يمكنهم فعله بأنفسهم لأن فرض الحج يتعلق بمعنيين أحدهما بوجود الزاد والراحلة وإمكان فعله بنفسه فعلى من كانت هذه صفته الخروج والمعنى الآخر أن يتعذر فعله بنفسه لمرض أو كبر سن أو زمانة أو

لأنها امرأة لا محرم لها ولا زوج يخرج معها فهؤلاء يلزمهم الحج بأموالهم عند الأياس والعجز عن فعله بأنفسهم فإذا أحج المريض أو المرأة عن أنفسهما ثم لم يبرأ المريض ولم تجد المرأة محرما حتى ماتا أجزأهما وإن برئ المريض ووجدت المرأة محرما لم يجزهما وقول الخثعمية للنبي ص -

إن أبي أدركته فريضة الله في الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم - إياها بالحج عنه يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وإن لم يثبت على الراحلة لأنها أخبرته أن فريضة الله تعالى أدركته وهو شيخ كبير فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم -

قولها ذلك فهذا يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وأمر النبي ص

- إياها بفعل الحج الذي أخبرت أنه قد لزمه يدل على لزومه أيضا وقد اختلف في حج الفقير فقال أصحابنا والشافعي لا حج عليه وإن حج أجزأه من حجة الإسلام وحكي عن مالك أن عليه الحج إذا أمكنه المشي وروي عن ابن الزبير والحسن أن الاستطاعة ما تبلغه كائنا ما كان وقول النبي صلى الله عليه وسلم - أن الإستطاعة الزاد والراحلة يدل على أن لا حج عليه فإن هو وصل إلى البيت مشيا فقد صار بحصوله هناك مستطيعا بمنزلة أهل مكة لأنه معلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لمن بعد من مكة فإذا حصل هناك فقد استغنى عن الزاد والراحلة للوصول إليه فيلزمه الحج حينئذ فإذا فعله كان فاعلا فرضا واختلف في العبد إذا حج هل يجزيه من حجة الإسلام فقال أصحابنا لا يجزيه وقال الشافعي يجزيه والدليل على صحة قولنا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هلال بن عبدالله مولى ربيعة بن سليم قال حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال قال رسول ا لله ص - من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

أن شرط لزوم الحج ملك الزاد والراحلة والعبد لا يملك شيئا فليس هو إذا من

أهل الخطاب بالحج وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الإستطاعة أنها الزاد والراحلة هي على ملكهما على ما بين في حديث علي رضي الله عنه وأيضا فمعلوم من مراد النبي صلى الله عليه وسلم - في شرطه الزاد والراحلة أن يكون ملكا للمستطيع وأنه لم يرد به زادا وراحلة في ملك غيره وإذا كان العبد لا يملك بحال لم يكن من أهل الخطاب بالحج فلم يجزه حجه فإن قيل

ليس الفقير من أهل الخطاب بالحج لعدم ملك الزاد والراحلة ولو حج جاز حجه كذلك العبد قيل له إن الفقير من أهل الخطاب لأنه ممن يملك والعبد ممن لا يملك وإنما سقط الفرض عن الفقير لأنه غير واجد لا لأنه ليس ممن يملك فإذا وصل إلى مكة فقد استغنى عن الزاد والراحلة وصار بمنزلة سائر الواجدين الواصلين إليها بالزاد والراحلة والعبد إنما سقط عنه الخطاب به لا لأنه لا يجد لكن لأنه لا يملك وإن ملك فلم يدخل في خطاب الحج فلذلك لم يجزه وصار من هذا الوجه بمنزلة الصغير الذي لم يخاطب بالحج لا لأنه لا يجد ولكنه ليس من أهل الخطاب بالحج لأن من شرط الخطاب به أن يكون ممن يملك كما أن من شرطه أن يكون ممن يصح خطابه به وأيضا فإن العبد لا يملك منافعه وللمولى منعه من الحج بالإتفاق ومنافع العبد هي ملك للمولى فإذا فعل بها الحج صار كحج فعله المولى فلا يجزيه من حجة الإسلام ويدل عليه أن العبد لا يملك منافعه أن المولى هو المستحق لإبدالها إذا صارت مالا وأن له أن يستخدمه ويمنعه من الحج فإذا أذن له فيه صار معيرا له ملك المنافع فهي متلفة على ملك المولى فلا يجزئ العبد وليس كذلك الفقير لأنه يملك منافع نفسه وإذا فعل بها الحج أجزأه لأنه قد صار من أهل الإستطاعة فإن قيل للمولى منع العبد من الجمعة وليس العبد من أهل الخطاب بها وليس عليه فرضها ولو حضرها وصلاها أجزأته فهلا كان الحج كذلك قيل له إن فرض الظهر قائم على العبد ليس للمولى منعه منها فمتى فعل الجمعة فقد أسقط بها فرض الظهر الذي كان العبد يملك فعله من غير إذن المولى فصار كفاعل الظهر فلذلك أجزأه ولم يكن على العبد فرض آخر يملك فعله فأسقط بفعل الحج حتى نحكم بجوازه ونجعله في حكم ما هو مالكه فلذلك اختلفا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في حج العبد ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن إسحاق قال حدثنا يحيى بن أيوب عن حرام بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لو أن صبيا حج عشر حجج ثم بلغ لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن أعرابيا حج عشر ثم هاجر لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم أعتق لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عباد قال حدثنا محمد بن المنهال قال حدثنا يزيد بن ذريع قال حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيما صبي حج ثم أدرك الحلم فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم - على العبد أن يحج حجة أخرى ولم يعتد له بالحجة التي فعلها في حال الرق وجعله بمنزلة الصبي فإن قيل فقد قال مثله في الأعرابي وهو مع ذلك يجزيه الحجة المفعولة قبل الهجرة قيل له كذلك كان حكم الأعرابي في حال ما كانت الهجرة فرضا لأنه يمتنع أن يقول ذلك بعد نسخ فرض الهجرة فلما قال ص - لا هجرة بعد الفتح نسخ الحكم المتعلق به من وجوب إعادة الحج بعد الهجرة إذ لا هجرة هناك واجبة وقد روي نحو قولنا في حج العبد عن ابن عباس والحسن وعطاء قال أبو بكر والذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى ولله على الناس حج البيت حجة واحدة إذ ليس فيه ما يوجب تكرارا فمتى فعل الحج فقد قضى عهدة الآية وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم - بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان قال أبو داود هو الدؤلي عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم - قال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة فقال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع قوله تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين روى وكيع عن فطر بن خليفة عن نفيع أبي داود قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية ومن كفر قال هو أن حج لا يرجو ثوابه وإن حبس لا يخاف عقابه وروى مجاهد من قوله مثله وقال الحسن من كفر بالحج وقد دلت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر لأن الله تعالى جعل من وجد زادا وراحلة مستطيعا للحج قبل فعله ومن مذهب هؤلاء أن من لم يفعل الحج لم يكن مستطيعا له قط فواجب على مذهبهم أن يكون معذورا غير ملزم إذا لم يحج إذ كان الله تعالى إنما ألزم الحج من استطاع وهو لم يكن مستطيعا قط إذ لم يحج ففي نص التنزيل واتفاق الأمة على لزوم فرض الحج لمن كان وصفه ما ذكرنا من صحة البدن ووجود الزاد والراحلة ما يوجب بطلان قولهم قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء قال زيد بن أسلم نزلت في قوم من اليهود كانوا يغرون الأوس والخزرج يذكرهم الحروب التي كانت بينهم حتى ينسلخوا من الدين بالعصبية وحمية الجاهلية وعن الحسن أنها نزلت في اليهود والنصارى

جميعا في كتمانهم صفته في كتبهم فإن قيل قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم فلا يصح لكم الإحتجاج بقوله لتكونوا شهداء على الناس في صحة إجماع الأمة وثبوت حجته قيل له أنه جل وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم وقال هناك لتكونوا شهداء على الناس كما قال ويكون الرسول عليكم شهيدا فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم وقال في هذه الآية وأنتم شهداء ومعناه غير معنى قوله شهداء على الناس وقد قيل في معناه وجهان أحدهما وأنتم شهداء إنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى وذلك في أهل الكتاب منهم والثاني أن يريد بقوله شهداء عقلاء كما قال الله تعالى أو ألقى السمع وهو شهيد يعني وهو عاقل لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته روي عن عبدالله والحسن وقتادة في قوله حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى وقيل أن معناه اتقاء جميع معاصيه وقد اختلف في نسخه فروي عن ابن عباس وطاوس أنها محكمة غير منسوخة وعن قتادة والربيع بن أنس والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم فقال بعض أهل العلم لا يجوز أن تكون منسوخة لأن معناه اتقاء جميع معاصيه وعلى جميع المكلفين اتقاء جميع المعاصي ولو كان منسوخا لكان فيه إباحة بعض المعاصي وذلك لا يجوز وقيل إنه جائز أن يكون منسوخا بأن يكون معنى قوله حق تقاته القيام بحقوق الله تعالى في حال الخوف والأمن وترك التقية فيها ثم نسخ ذلك في حال التقية والإكراه ويكون قوله تعالى ما استطعتم فيما لا تخافون فيه على أنفسكم يريد فيما لا يكون فيه احتمال الضرب والقتل لأنه قد يطلق نفي الإستطاعة فيما يشق على الإنسان فعله كما قال تعالى وكانوا لا يستطعون سمعا ومراده مشقة ذلك عليهم قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في معنى الحبل ههنا أنه القرآن وكذلك روي عن عبدالله وقتادة والسدي وقيل أن المراد به دين الله وقيل بعهد الله لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من غرق أو نحوه ويسمى الأمان الحبل لأنه سبب النجاة وذلك في قوله تعالى إلا بحبل من الله وحبل من الناس يعني به الأمان إلا أن قوله واعتصموا بحبل الله جميعا هو أمرا بالاجتماع ونهي عن الفرقة وأكده بقوله ولا تفرقوا معناه

التفرق عن دين الله الذي أمروا جميعا بلزومه والإجتماع عليه وروي نحو ذلك عن عبدالله وقتادة وقال الحسن ولا تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد يحتج به فريقان من الناس أحدهما نفاة القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث مثل النظام وأمثاله من الرافضة والآخر من يقول بالقياس والاجتهاد يقول مع ذلك أن الحق واحد من أقاويل المختلفين في مسائل الاجتهاد ويخطئ من لم يصب الحق عنده لقوله تعالى ولا تفرقوا فغير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه وليس هذا عندنا كما قالوا لأن أحكام الشرع في الأصل على أنحاء منها مالا يجوز الخلاف فيه وهو الذي دلت العقول على حظره في كل حال أو على إيجابه في كل حال فأما ما جاز أن يكون تارة واجبا وتارة محظورا وتارة مباحا فإن الاختلاف في ذلك سائغ يجوز ورود العبادة به كاختلاف حكم الطاهر والحائض في الصوم والصلاة واختلاف حكم المقيم والمسافر في القصر والإتمام وما جرى مجرى ذلك فمن حيث جاز ورود النص باختلاف أحكام الناس فيه فيكون بعضهم متعبدا بخلاف ما تعبد به الآخر لم يمتنع تسويغ الاجتهاد فيما يؤدي إلى الخلاف الذي يجوز ورود النص بمثله ولو كان جميع الاختلاف مذموما لوجب أن لا يجوز ورود الاختلاف في أحكام الشرع من طريق النص والتوقيف فما جاز مثله في النص جاز في الاجتهاد قد يختلف المجتهدان في نفقات الزوجات وقيم المختلفات وأروش كثير من الجنايات فلا يلحق واحدا منهما لوم ولا تعنيف وهذا حكم مسائل الاجتهاد ولو كان هذا الضرب من الاختلاف مذموما لكان للصحابة في ذلك الحظ الأوفر ولما وجدناهم مختلفين في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متواصلون يسوغ كل واحد منهم لصاحبه مخالفته من غير لوم ولا تعنيف فقد حصل منهم الإتفاق على تسويغ هذا الضرب من الاختلاف وقد حكم الله تعالى بصحة إجماعهم وثبوت حجته في مواضع كثيرة من كتابه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال اختلاف أمتي رحمة وقال لا تجتمع أمتي على ضلال فثبت بذلك أن الله تعالى لم ينهنا بقوله ولا تفرقوا عن هذا الضرب من الاختلاف وأن النهي منصرف إلى أحد وجهين إما في النصوص أو فيما قد أقيم عليه دليل عقلي أو سمعي لا يحتمل إلا معنى واحدا وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد هو الاختلاف والتفرق في أصول الدين لا في فروعه وما يجوز ورود العبارة بالاختلاف فيه وهو قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ

كنتم أعداء فألف بين قلوبكم يعني بالإسلام وفي ذلك دليل على أن التفرق المذموم المنهي عنه في الآية هو في أصول الدين والإسلام لا في فروعه والله أعلم
باب

فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال الله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قال أبو بكر قد حوت هذه الآية معنيين أحدهما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآخر أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره لقوله تعالى ولتكن منكم أمة وحقيقته تقتضي البعض دون البعض فدل على أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ومن الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه ويجعل مخرج الكلام مخرج الخصوص في قوله ولتكن منكم أمة مجازا كقوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم ومعناه ذنوبكم والذي يدل على صحة هذا القول أنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين كالجهاد وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم ولولا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به وقد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع أخر من كتابه فقال عز و جل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال فيما حكى عن لقمان يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وقال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علىالأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله وقال عز و جل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي على منازل أولها تغييره باليد إذا أمكن فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفا على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه فإن تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه كما حدثنا عبدالله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا شعبة قال أخبرني قيس بن مسلم قال سمعت طارق بن شهاب قال قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال خالفت السنة كانت الخطبة بعدالصلاة قال ترك ذلك يا أبو فلان قال شعبة وكان لحانا فقام أبو

سعيد الخدري فقال من هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فلينكره بلسانه فإن لم يستطع فلينكره بقلبه وذاك أضعف الإيمان وحدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بديه فعليه تغييره بلسانه ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه وحدثنا عبدالله بن جعفر قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود قال حدثنا شعبة عن أبي إصحاق عن عبدالله بن جرير البجلي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما من قوم يعمل بينهم بالمعاصي هم أكثر وأعز ممن يعمله ثم لم يغيروا إلا عمهم الله منه بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ثم قال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا وتقصرنه على الحق قصرا قال أبو داود حدثنا خلف بن هشام قال حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - بنحوه وزاد فيه أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

أن من شرط النهي عن المنكر أن ينكره ثم لا يجالس المقيم على المعصية ولا

يؤاكله ولا يشاربه وكان ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - من ذلك بيانا لقوله تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا فكانوا بمؤاكلتهم إياهم ومجالستهم لهم تاركين للنهي عن المنكر لقوله تعالى كانوا

لا يتناهون عن منكر فعلوه مع ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

من إنكاره بلسانه إلا أن ذلك لم ينفعه مع مجالسته ومؤاكلته ومشاربته إياه

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا وهب بن بقية قال أخبرنا خالد عن إسماعيل عن قيس قال قال أبو بكر بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرؤن هذه الآية وتضعونها في غير موضعها عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وأنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم - يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثني أبو أمية الشعباني قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك يعني بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وفي هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله وإزالته باليد تكون على وجوه منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك كمن رأى رجلا قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله لقوله ص - من رأى منكرا فليغيره بيده فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله وقد ذكر ابن رستم عن محمد في رجل غصب متاع رجل وسعك قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه وكذلك قال أبو حنيفة

في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبه حتى تقتله إن لم يرد المتاع قال محمد وقال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله وقال في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر الله تعالى وترك ما هم عليه من البغي والمنكر وقول النبي صلى الله عليه وسلم - من رأى منكم منكرا فليغيره بيده يوجب ذلك أيضا لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة وواجب على المسلمين قتلهم ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له ولا التقدم إليهم بالقول لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر فجائز قتل من كان منهم مقيما على ذلك وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يقتل إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم وكذلك حكم سائر من كان مقيما على شيء من المعاصي الموبقات مصرا عليها مجاهرا بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن وتغيير ما هم عليه بيده وإن لم يستطع فلينكره بلسانه وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه فإن لم يرج ذلك وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم يعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وقوله ص - فإن لم يستطع قد فهم منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن لأن قوله إن لم يستطع معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال وقد روي عن ابن مسعود في قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم مر بالمعروف وانه عن المنكر ما قبل منك فإذا لم يقبل منك فعليك نفسك وحديث أبي ثعلبة الخشني أيضا الذي قدمناه يدل على ذلك لأنه قال ص - ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام يعني والله أعلم إذا لم يقبلوا ذلك

واتبعوا أهواءهم وآراءهم فأنت في سعة من تركهم وعليك نفسك ودع أمر العوام وأباح ترك النكير بالقول فيمن هذه حاله وروي عن عكرمة أن ابن عباس قال له قد أعياني أن أعلم ما فعل بمن أمسك عن الوعظ من أصحاب السبت فقلت له أنا أعرفك ذلك إقرأ الآية الثانية قوله تعالى أنجينا الذين ينهون عن السوء قال فقال لي أصبت وكساني حلة فاستدل ابن عباس بذلك على أن الله أهلك من عمل السوء ومن لم ينه عنه فجعل الممسكين عن إنكار المنكر بمنزلة فاعليه في العذاب وهذا عندنا على أنهم كانوا راضين بأعمالهم غير منكرين لها بقلوبهم وقد نسب الله تعالى قتل الأنبياء المتقدمين إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - من اليهود الذين كانوا متوالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم بقوله قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم وبقوله فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين فأضاف القتل إليهم وإن لم يباشروه ولم يقتلوه إذ كانوا راضين بأفعال القاتلين فكذلك ألحق الله تعالى من لم ينه عن السوء من أصحاب السبت بفاعليه إذ كانوا به راضين ولهم عليه متوالين فإذا كان منكرا للمنكر بقلبه ولا يستطيع تغييره على غيره فهو غير داخل في وعيد فاعليه بل هو ممن قال الله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وحدثنا مكرم بن أحمد القاضي قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي وقال حدثنا الحماني قال سمعت ابن المبارك يقول لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ بكى حتى ظننا أنه سيموت فخلوت به فقال كان والله رجلا عاقلا ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر قلت وكيف كان سببه قال كان يقدم ويسألني وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله وكان شديد الورع وكنت ربما قدمت إليه الشيء فيسألني عنه ولا يرضاه ولا يذوقه وربما رضيه فأكله فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى فقال لي مد يدك حتى أبايعك فاظلمت الدنيا بيني وبينه فقلت ولم قال دعاني إلى حق من حقوق الله فامتنعت عليه وقلت له إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر ولكن إن وجد عليه أعوانا صالحين ورجلا يرأس عليهم مأمونا على دين الله لا يحول قال وكان يقتضي ذلك كلما قدم على تقاضي الغريم الملح كلما قدم علي تقاضاني فأقول له هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده وهذا متى أمر به الرجل وحده

أشاط بدمه وعرض نفسه للقتل فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه ولكنه ينتظر فقد قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء أهل خراسان وعبادهم حتى أطلقوه ثم عاوده فزجره ثم عاوده ثم قال ما أجد شيئا أقوم به لله تعالى أفضل من جهادك ولأجاهدنك بلساني ليس لي قوة بيدي ولكن يراني الله وأنا أبغضك فيه فقتله قال أبو بكر لما ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن والآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبينا أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيره ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه وقد روى طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال اجتمع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله أرأيت إن عملنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلا عملناه وانتهينا عن المنكر حتى لم يبق شيئا من المنكر إلا انتهينا عنه أيسعنا أن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر قال مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهو عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم - فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التقصير في بعض الواجبات ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس

عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس واعداء الإسلام حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذهب الثنوية والخرمية والمزدكية والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر والله المستعان وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عباد الواسطي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا إسرائيل قال حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر وحدثنا محمد بن عمر قال أخبرني أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب المروزي قال سمعت أبا عمارة قال سمعت الحسن بن رشيد يقول سمعت أبا حنيفة يقول أنا حدثت إبراهيم الصائغ عن عكرمة عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم - سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله قوله تعالى وما الله يريد ظلما للعباد قد اقتضى ذلك نفي إرادة الظلم من كل وجه فلا يريد هو أن يظلمهم ولا يريد أيضا ظلم بعضهم لبعض لأنهما سواء في منزلة القبح ولو جاز أن ييد ظلم بعضهم لجاز أن يريد ظلمه لهم ألا ترى أنه لا فرق في العقول بين من أراد ظلم نفسه لغيره وبين من أراد ظلم إنسان لغيره وأنهما سواء في القبح فكذلك ينبغي أن تكون إرادته للظلم منتفية منه ومن غيره قوله عز و جل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر قيل في معنى قوله كنتم وجوه روي عن الحسن أنه يعني فيما تقدمت البشارة والخبر به من ذكر الأمم في الكتب المتقدمة قال الحسن نحن آخرها وأكرمها على الله وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس قال أنتم تتمنون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى فكان معناه كنتم خير أمة أخبر الله بها أنبياءه فيما أنزل إليهم من كتبه وقيل إن دخول كان وخروجها بمنزلة إلا بمقدار دخولها لتأكيد وقوع الأمر لا محالة إذ هو بمنزلة ما قد كان في الحقيقة كما قال تعالى وكان الله غفورا رحيما وكان الله عليما حكيما والمعنى الحقيقي وقوع ذلك وقيل كنتم خير أمة بمعنى حدثتم خير أمة فيكون خير أمة بمعنى

الحال وقيل كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ وقيل كنتم منذ أنتم ليدل أنهم كذلك من أول أمرهم وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه أحدها كنتم خير أمة ولا يستحقون من الله صفة مدح إلا وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين والثاني إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أمروا به فهو أمر الله تعالى لأن المعروف هو أمر الله والثالث أنهم ينكرون المنكر والمنكر هو ما نهى الله عنه ولا يستحقون هذه الصفة إلا وهم لله رضى فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى قوله تعالى لن يضروكم إلا أذى الآية فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن اليهود الذين كانوا أعداء المؤمنين وهم حوالي المدينة بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع ويهود خيبر فأخبر الله تعالى أنهم لا يضرونهم إلا أذى من جهة القول وأنهم متى قاتلوهم ولوا الأدبار فكان كما أخبر وذلك من علم الغيب قوله تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وهو يعني به اليهود المتقدم ذكرهم فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأن هؤلاء اليهود صاروا كذلك من الذلة والمسكنة إلا أن يجعل المسلمون لهم عهد الله وذمته لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان قوله تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون قال ابن عباس وقتادة وابن جريج لما أسلم عبدالله بن سلام وجماعة معه قالت اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا فأنزل الله تعالى هذه الآية قال الحسن قوله قائمة يعني عادلة وقال ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس ثابتة على أمر الله تعالى وقال السدي قائمة بطاعة الله تعالى وقوله وهم يسجدون قيل فيه أنه السجود المعروف في الصلاة وقال بعضهم معناه يصلون لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع فجعلوا الواو حالا وهو قول الفراء وقال الأولون الواو ههنا للعطف كأنه قال يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون قوله تعالى يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر صفة لهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لأنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم -

والإنكار على من خالفه فكانوا ممن قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت

للناس في الآية المتقدمة وقد بينا ما دل عليه القرآن من وجوب

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن قيل فهل تجب إزالة المنكر من طريق اعتقاد المذاهب الفاسدة على وجه التأويل كما وجب في سائر المناكير من الأفعال قيل له هذا على وجهين فمن كان منهم داعيا إلى مقالته فيضل الناس بشبهته فإنه تجب إزالته عن ذلك بما أمكن ومن كان منهم معتقدا ذلك في نفسه غير داع إليها فإنما يدعى إلى الحق بإقامة الدلالة على صحة قول الحق وتبين فساد شبهته مالم يخرج على أهل الحق بسفيه ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام فإن خرج داعيا إلى مقالته مقاتلا عليها فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله تعالى وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان قائما على المنبر بالكوفة يخطب فقالت الخوارج من ناحية المسجد لا حكم إلا لله فقطع خطبته وقال كلمة حق يراد بها باطل أما أن لهم عندنا ثلاثا أن لا نمنعهم حقهم من الفيء ما كانت أيديهم مع أيدينا ولا بمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه ولا نقاتلهم حتى يقاتلونا فأخبر أنه لا يجب قتالهم حتى يقاتلونا وكان ابتدأهم علي كرم الله وجهه بالدعاء حين نزلوا حروراء وحاجهم حتى رجع بعضهم وذلك اصل في سائر المتأول من أهل المذاهب الفاسدة أنهم مالم يخرجوا داعين إلى مذاهبهم لم يقاتلوا وأقروا على ما هم عليه مالم يكن ذلك المذهب كفرا فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجزية وليس يجوز إقرار من كفر بالتأويل على الجزية لأنه بمنزلة المرتد لإعطائه بديا جملة التوحيد والإيمان بالرسول فمتى نقض ذلك بالتفصيل صار مرتدا ومن الناس من يجعلهم بمنزلة أهل الكتاب كذلك كان يقول أبو الحسن فتجوز عنده مناكحتهم ولا يجوز للمسلمين أن يزوجوهم وتؤكل ذبائحهم لأنهم منتحلون بحكم القرآن وإن لم يكونوا مستمسكين به كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية فحكمه حكمهم وإن لم يكن مستمسكا بسائر شرائعهم وقال تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقال محمد في الزيادات لو أن رجلا دخل في بعض الأهواء التي يكفر أهلها كان في وصاياه بمنزلة المسلمين يجوز منها ما يجوز من وصايا المسلمين ويبطل منها ما يبطل من وصاياهم وهذا يدل على موافقة المذهب الذي يذهب إليه أبو الحسن في بعض الوجوه ومن الناس من يجعلهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - فأقروا على نفاقهم مع علم الله تعالى بكفرهم ونفاقهم ومن الناس من يجعلهم كأهل الذمة ومن أبى ذلك ففرق بينهما بأن المنافقين لو وقفنا على نفاقهم لم نقرهم عليه ولم نقبل

منهم إلا الإسلام أو السيف وأهل الذمة إنما أقروا بالجزية وغير جائز أخذ الجزية من الكفار المتأولين المنتحلين للإسلام ولا يجوز أن يقروا بغير جزية فحكمهم في ذلك متى وقفنا على مذهب واحد منهم اعتقاد الكفر لم يجز إقراره عليه وأجري عليه أحكام المرتدين ولا يقتصر في إجرائه حكم الكفار على إطلاق لفظ عسى أن يكون غلطه فيه دون الاعتقاد دون أن يبين عن ضميره فيعرب لنا عن اعتقاده بما يوجب تكفيره فحينئذ يجوز عليه أحكام المرتدين من الاستتابة فإن تاب وإلا قتل والله أعلم
باب

الاستعانة بأهل الذمة

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية قال أبو بكر بطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره ويثق بهم في أمره فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتخذوا أهل الكفر بطانة من دون المؤمنين وأن يستعينوا بهم في خوص أمورهم وأخبر عن ضمائر هؤلاء الكفار للمؤمنين فقال لا يألونكم خبالا يعني لا يقصرون فيما يجدون السبيل إليه من إفساد أموركم لأن الخبال هو الفساد ثم قال ودوا ما عنتم قال السدي ودوا ضلالكم عن دينكم وقال ابن جريج ودوا أن تعنتوا في دينكم فتحملوا على المشقة فيه لأن أصل العنت المشقة فكأنه أخبرعن محبتهم لما يشق عليكم وقال الله تعالى ولو شاء الله لأعنتكم وفي هذه الآية دلالة على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة وقد روي عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة فكتب إليه يعنفه وتلا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم أي لا تردوهم إلى العز بعد أن أذلهم الله تعالى وروى أبو حيان التيمي عن فرقد بن صالح عن أبي دهقانة قال قلت لعمر بن الخطاب أن ههنا رجلا من أهل الحيرة لم نر رجلا أحفظ منه ولا أخط منه بقلم فإن رأيت أن نتخذه كاتبا قال قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين وروى هلال الطائي عن وسق الرومي قال كنت مملوكا لعمر فكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم من ليس منهم فأبيت فقال لا إكراه في الدين فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال اذهب حيث شئت وقوله تعالى لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة قيل في معنى أضعافا مضاعفة وجهان أحدهما المضاعفة بالتأجيل أجلا بعد أجل ولكل

أجل قسط من الزيادة على المال والثاني ما يضاعفون به أموالهم وفي هذا دلالة على أن المخصوص بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذكر تحريم الربا أضعافا مضاعفة دلالة على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة فلما كان الربا محظورا بهذه الصفة وبعدمها دل ذلك على فساد قولهم في ذلك ويلزمهم في ذلك أن تكون هذه الدلالة منسوخة بقوله تعالى وحرم الربا إذا لم يبق لها حكم في الاستعمال وقوله تعالى وجنة عرضها السماء والأرض قيل كعرض السموات والأرض وقال في آية أخرى وجنة عرضها كعرض السماء والأرض وكما قال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أي إلا كبعث نفس واحدة ويقال إنما خص العرض بالذكر دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم ولو ذكر الطول لم يقم مقامه في الدلالة على العظم وهذا يحتج به في قول النبي صلى الله عليه وسلم - ذكاة الجنين ذكاة أمه معناه كذكاة أمه وقوله تعالى والذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس قال ابن عباس في السراء والضراء في العسر واليسر يعني في قلته وكثرته وقيل في حال السرور والغم لا يقطعه شيء من ذلك عن إنفاقه في وجوه البر فمدح المنفقين في هاتين الحالتين ثم عطف عليه الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فمدح من كظم غيظه وعفا عمن اجترم إليه وقال عمر بن الخطاب من خاف الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون وكظم الغيظ والعفو مندوب إليهما موعود بالثواب عليهما من الله تعالى قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا فيه حض على الجهاد من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله تعالى وفي التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه بإذن الله تعالى لأنه قد تقدم ذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم - في قوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية وقوله تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها قيل فيه من عمل للدنيا وفر حظه المقسوم له فيها من غير أن يكون له حظ في الآخرة روي ذلك عن ابن إسحاق وقيل إن معناه من أراد بجهاده ثواب الدنيا لم يحرم حظه من الغنيمة وقيل من تقرب إلى الله بعمل النوافل وليس هو ممن يستحق الجنة بكفره أو بما يحبط عمله جوزي بها في الدنيا من غير أن يكون له حظ في الآخرة وهو نظير قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم

يصلاها مذموما مدحورا قوله تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير قال ابن عباس والحسن علماء وفقهاء وقال مجاهد وقتادة جموع كثيرة وقوله تعالى فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا فإنه قيل في الوهن بأنه انكسار الجسد ونحوه والضعف نقصان القوة وقيل في الإستكانة أنها إظهار الضعف وقيل فيه أنه الخضوع فبين تعالى أنهم لم يهنوا بالخوف ولا ضعفوا لنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع وقال ابن إسحاق فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم وفي هذه الآية الترغيب في الجهاد في سبيل الله والحض على سلوك طريق العلماء من صحابة الأنبياء والأمر بالاقتداء بهم في الصبر على الجهاد وقوله تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا الآية فيه حكاية دعاء الربيين من أتباع الأنبياء المتقدمين وتعليم لنا لأن نقول مثل قولهم عند حضور القتال فنيبغي للمسلمين أن يدعوا بمثله عند معاينة العدو لأن الله تعالى حكى ذلك عنهم على وجه المدح لهم والرضا بقولهم لنفعل مثل فعلهم ونستحق من المدح كاستحقاقهم قوله تعالى فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة قال قتادة والربيع بن أنس وابن جريج ثواب الدنيا الذي أوتوه هو النصر على عدوهم حتى قهروهم وظفروا بهم وثواب الآخرة الجنة وهذا دليل على أنه يجوز اجتماع الدنيا والآخرة لواحد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال من عمل لدنياه أضر بآخرته ومن عمل لآخرته أضر بدنياه وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا فيه دليل على بطلان التقليد لأن الله تعالى حكم ببطلان قولهم إذ لم يكن معهم برهان عليه والسلطان ههنا هو البرهان ويقال إن أصل السلطان القوة فسلطان الملك قوته والسلطان الحجة لقوتها على قمع الباطل وقهر المبطل به والتسليط على الشيء التقوية عليه مع الإغراء به وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -

لما أخبر به من إلقاء الرعب في قلوب المشركين فكان كما أخبر به وقال

النبي صلى الله عليه وسلم - نصرت بالرعب حتى أن العدو ليرعب مني وهو على مسيرة شهر قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه فيه إخبار بتقدم وعد الله تعالى لهم بالنصر على عدوهم ما لم يتنازعوا ويختلفوا فكان كما أخبر به يوم أحد ظهروا على عدوهم وهزموهم وقتلوا منهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -

أمر الرماة بالمقام في موضع

وأن لا يرجوا فعصوا وخلوا مواضعهم حين رأوا هزيمة المشركين وظنوا أنه لم يبق لهم باقية واختلفوا وتنازعوا فحمل عليهم خالد بن الوليد من ورائهم فقتلوا من المسلمين من قتلوا بتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وعصيانهم وفي ذلك دليل على صحة نبوة النبي ص

- لأنهم وجدوا موعود الله كما وعد قبل العصيان فلما عصوا وكلوا إلى أنفسهم وفيه دليل على أن النصر من الله في جهاد العدو مضمون باتباع أمره والاجتهاد في طاعته وعلى هذا جرت عادة الله تعالى للمسلمين في نصرهم على أعدائهم وقد كان المسلمون من الصدر الأول إنما يقاتلون المشركين بالدين ويرجون النصر عليهم وغلبتهم به لا بكثرة العدد ولذلك قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فأخبر أن هزيمتهم إنما كانت لتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الإخلال بمراكزهم التي رتبوا فيها وقال تعالى منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة وإنما أتوا من قبل من كان يريد الدنيا منهم قال عبدالله بن مسعود ما ظننت أن أحدا ممن قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى أنزل الله تعالى منكم من يريد الدنيا وعلى هذا المعنى كان الله قد فرض على العشرين أن لا يفروا من مائتين بقوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين لأنه في ابتداء الإسلام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم - مخلصين لنية الجهاد لله تعالى ولم يكن فيهم من يريد الدنيا وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا رجالة قليلي العدة والسلاح وعدوهم ألف فرسان ورجالة بالسلاح الشاك فمنحهم الله أكتافهم ونصرهم عليهم حتى قتلوا كيف شاؤا وأسروا كيف شاؤا ثم لما خالطهم بعد ذلك من لم يكن له مثل بصائرهم وخلوص ضمائرهم خفف الله تعالى عن الجميع فقال الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ومعلوم أنه لم يرد ضعف قوى الأبدان ولا عدم السلاح لأن قوى أبدانهم كانت باقية وعددهم أكثر وسلاحهم أوفر وإنما أراد به أنه خالطهم من ليس له قوة البصيرة مثل ما للأولين فالمراد بالضعف ههنا ضعف النية وأجرى الجميع مجرى واحدا في التخفيف إذا لم يكن من المصلحة تمييز ذوي البصائر منهم بأعيانهم وأسمائهم من أهل ضعف اليقين وقلة البصيرة ولذلك قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - في يوم اليمامة حين انهزم الناس أخلصونا أخلصونا يعنون المهاجرين والأنصار قوله

تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم قال طلحة وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام وقتادة والربيع بن أنس كان ذلك يوم أحد بعد هزيمة من انهزم من المسلمين وتوعدهم المشركون بالرجوع فكان من ثبت من المسلمين تحت الحجف متأهبين للقتال فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أرعبهم الخوف لسوء الظن قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

فنمنا حتى اصطفقت الحجف من النعاس ولم يصب المنافقين ذلك بل أهمتهن

أنفسهم فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سمعت وأنا بين النائم واليقظان معتب بن قشير وناسا من المنافقين يقولون هل لنا من الأمر من شيء وهذا من لطف الله تعالى للمؤمنين وإظهار أعلام النبوة في مثل تلك الحال التي العدو فيها مطل عليهم وقد انهزم عنهم كثير من أعوانهم وقد قتلوا من قتلوا من المسلمين فينامون وهم مواجهون العدو في الوقت الذي يطير فيه النعاس عمن شاهده ممن لا يقاتل فكيف بمن حضر القتال والعدو قد أشرعوا فيهم الأسنة وشهروا سيوفهم لقتلهم واستيصالهم وفي ذلك أعظم الدلائل وأكبر الحجج في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - من وجوه أحدها وقوع الأمنة مع استعلاء العدو من غير مدد أتاهم ولا نكاية في العدو ولا انصرافهم عنهم ولا قلة عددهم فينزل الله تعالى على قلوبهم الأمنة وذلك في أهل الإيمان واليقين خاصة والثاني وقوع النعاس عليهم في مثل تلك الحال التي يطير في مثلها النعاس عمن شاهدها بعد الإنصراف والرجوع فكيف في حال المشاهدة وقصد العدو نحوهم لاستيصالهم وقتلهم والثالث تمييز المؤمنين من المنافقين حتى خص المؤمنين بتلك الأمنة والنعاس دون المنافقين فكان المؤمنون في غاية الأمن والطمأنينة والمنافقون في غاية الهلع والخوف والقلق والاضطراب فسبحان الله العزيز العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم قيل إن ما ههنا صلة معناه فبرحمة من الله روي ذلك عن قتادة كما قال عما قليل ليصبحن نادمين وقوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم واتفق أهل اللغة على ذلك وقالوا معناها التأكيد وحسن النظم كما قال الأعشى ... أذهبي ما إليك أدركني الحلم ... عداني عن هيجكم أشفاقي

وفي ذلك دليل على بطلان قول من نفى أن يكون في القرآن مجاز لأن ذكر ما ههنا مجاز وإسقاطها لا يغير المعنى قوله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى كما قال تعالى أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله تعالى لموسى وهارون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قوله تعالى وشاورهم في الأمر اختلف الناس في معنى أمر الله تعالى إياه بالمشاورة مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من الصحابة فقال قتادة والربيع بن أنس ومحمد بن إسحاق إنما أمره بها تطييبا لنفوسهم ورفعا من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأيه قال سفيان بن عيينة أمره بالمشاورة لتقتدي به أمته فيها ولا تراها منقصة كما مدحهم الله تعالى بأن أمرهم شورى بينهم وقال الحسن والضحاك جمع لهم بذلك الأمرين جميعا في المشاورة ليكون لإجلال الصحابة ولتقتدي الأمة به في المشاورة وقال بعض أهل العلم إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينص له فيه على شيء بعينه فمن القائلين بذلك من يقول إنما هو في أمور الدنيا خاصة وهم الذين يأبون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -

يقول شيئا من أمور الدين من طريق الاجتهاد وإنما هو في أمور الدنيا خاصة

فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - يستعين بآرائهم في ذلك ويتنبه بها على أشياء من وجوه التدبير ما جائز أن يفعلها لولا المشاورة واستشارة آراء الصحابة وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم - بالنزول على الماء فقبل وأشار منه عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة فينصرفوا فقبل منهم وخرق الصحيفة في أشياء من نحو هذا من أمور الدنيا وقال آخرون كان مأمورا بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى وفي أمور الدنيا أيضا مما طريقه الرأي وغالب الظن وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان ذلك من أمور الدين وكان ص - إذا شاورهم فأظهروا آراءهم ارتأى معهم وعمل بما أداه إليه اجتهاده وكان في ذلك ضروب من الفوائد أحدها إعلام الناس أن ما لا نص فيه من الحوادث فسبيل استدراك حكمه الاجتهاد وغالب الظن والثاني إشعارهم بمنزلة الصحابة رضي الله عنهم وأنهم أهل الاجتهاد وجائز اتباع آرائهم إذ رفعهم الله إلى المنزلة التي يشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم -

ويرضى اجتهادهم ويحريهم لموافقة النصوص من

أحكام الله تعالى والثالث أن باطن ضمائرهم مرضي عند ا لله تعالى لولا ذلك لم يأمره بمشاورتهم فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده ص - في مثله وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدي الأمة به في مثله لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شاوروا فيه وصواب الرأي فيما سئلوا عنه ثم لم يكن ذلك معمولا عليه ولا متلقى منه بالقبول بوجه لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم ولا رفع لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها فهذا تأويل ساقط لا معنى له فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدي به الأمة مع علم الأمة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئا ولم يعمل بشيء أشاروا به فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضا أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأيا صحيحا ولا قولا معمولا لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأيا صحيحا وقولا معمولا عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم - إياهم وإذ قد بطل هذا فلا بد من أن تكون لمشاورته إياهم فائدة تستفاد بها وأن يكون للنبي ص -

معهم ضرب من الارتشاء والاجتهاد فجائز حينئذ أن توافق آراؤهم رأي النبي ص

- وجائز أن يوافق رأي بعضهم رأيه وجائز أن يخالف رأي جميعهم فيعمل ص - حينئذ برأيه ويكون فيه دلالة على أنهم لم يكونوا معنقين في اجتهادهم بل كانوا مأجورين فيه لفعلهم ما أمروا به ويكون عليهم حينئذ ترك آرائهم واتباع رأي النبي صلى الله عليه وسلم - ولا بد من أن تكون مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم - إياهم فيما لا نص فيه إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره ص - بالمشاورة وجب أن يكون ذلك فيهما جميعا ولأنه معلوم أن مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم -

في أمر الدنيا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومكايدة العدو وإن لم يكن

للنبي ص - تدبيره في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره لاقتصاره ص -

من الدنيا على القوت والكفاف الذي لا فضل فيه وإذا كانت مشاورته لهم في

محاربة العدو ومكايدة الحروب فإن ذلك من أمر الدين ولا

فرق بين اجتهاد الرأي فيه وبينه في أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها وفي ذلك دليل على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وعلى أن كل مجتهد مصيب وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يجتهد رأيه فيما لا نص فيه ويدل على أنه قد كان يجتهد رأيه معهم ويعمل بما يغلب في رأيه فيما لا نص فيه قوله تعالى في نسق ذكر المشاورة فإذا عزمت فتوكل على ا لله ولو كان فيما شاور فيه شيء منصوص قد ورد التوقيف به من الله لكانت العزيمة فيه متقدمة للمشاورة إذ كان ورود النص موجبا لصحة العزيمة قبل المشاورة وفي ذكر العزيمة عقيب المشاورة دلالة على أنها صدرت عن المشورة وأنه لم يكن فيها نص قبلها قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل قرئ يغل برفع الياء ومعناه يخان وخص النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك وإن كانت خيانة سائر الناس محظورة تعظيما لأمر خيانته على خيانة غيره كما قال تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور وإن كان الرجس كله محظورا ونحن مأمورون باجتنابه وروي هذا التأويل عن الحسن وقال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى يغل برفع الياء أن معناه يخون فنسبا إلى الخيانة وقال نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل النبي صلى الله عليه وسلم - أخذها فأنزل الله هذه الآية ومن قرأ يغل بنصب الياء معناه يخون والغلول الخيانة في الجملة إلا أنه قد صار الإطلاق فيها يفيد الخيانة في المغنم وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم - أمر الغلول حتى أجراه مجرى الكبائر وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن رسول الله ص

- كان يقول من فارق الروح جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين وروى عبدالله بن عمر أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يقال له كركرة فمات فقال النبي ص

- هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء أو عباءة قد غلها وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة والأخبار في أمر

تغليظ الغلول كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روي في إباحة أكل الطعام وأخذ علف الدواب عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين أخبار مستفيضة قال عبدالله بن أبي أوفى أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل منا يأتي فيأخذ منه ما يكفيه ثم ينصرف وعن سلمان أنه أصاب يوم المداين أرغفة حواري وجبنا وسكينا فجعل يقطع من الجبنة ويقول كلوا بسم الله وقد روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يحل لأحد يؤمن

بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه وهذا محمول على الحال التي يكون فيها مستغنيا عنه فأما إذا احتاج إليه فلا بأس به عند الفقهاء وقد روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به قوله تعالى وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قال السدي وابن جريج في قوله أو ادفعوا إن معناه بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا وقال أبو عون الأنصاري معناه ورابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا قال أبو بكر وفي هذا دلالة على أن فرض الحضور لازم لمن كان في حضوره نفع في تكثير السواد والدفع وفي القيام على الخيل إذا احتيج إليهم وقوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم قيل فيه وجهان أحدهما تأكيد لكون القول منهم إذ قد يضاف الفعل إلى غير فاعله إذا كان راضيا به على وجه المجاز كما قال تعالى وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها وإنما قتل غيرهم ورضوا به وقوله تعالى فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ونحو ذلك والثاني أنه فرق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب وقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون زعم قوم أن المراد أنهم يكونون أحياء في الجنة قالوا لأنه لو جاز أن ترد عليهم أرواحهم بعد الموت لجاز القول بالرجعة ومذهب أهل التناسخ قال أبو بكر وقال الجمهور إن الله تعالى يحييهم بعد الموت فينيلهم من النعيم بقدر استحقاقهم إلى أن يفنيهم الله تعالى عند فناء الخلق ثم يعيدهم في الآخرة ويدخلهم الجنة لأنه أخبر أنهم أحياء وذلك يقتضي أنهم أحياء في هذا الوقت ولأن تأويل من تأوله على أنهم أحياء في الجنة يؤدي إلى إبطال فائدته لأن أحدا من المسلمين لا يشك أنهم سيكونون أحياء مع سائر أهل الجنة إذ الجنة لا يكون فيها ميت ويدل عليه أيضا وصفه تعالى لهم بأنهم فرحون على الحال بقوله تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله ويدل عليه قوله تعالى ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وهم في الآخرة قد لحقوا بهم وروى ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طيور خضر تحت

العرش ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل

معلقة تحت العرش وهو مذهب الحسن وعمرو بن عبيد وأبي حذيفة وواصل بن عطاء وليس ذلك من مذهب أصحاب التناسخ في شيء لأن المنكر في ذلك رجوعهم إلى دار الدنيا في خلق مختلفة وقد أخبر الله تعالى عن قوم أنه أماتهم ثم أحياهم في قوله ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وأخبر أن إحياء الموتى معجزة لعيسى عليه السلام فكذلك يحييهم بعد الموت ويجعلهم حيث يشاء وقوله تعالى عند ربهم يرزقون معناه حيث لا يقدر لهم أحد على ضر ولا نفع إلا ربهم عز و جل وليس يعني به قرب المسافة لأن الله تعالى لا يجوز عليه القرب والبعد بالمسافة إذ هو من صفة الأجسام وقيل عند ربهم من حيث يعلمهم هو دون الناس
قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية روي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق إن الذين قالوا كانوا ركبا وبينهم أبو سفيان ليحبسوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم وقال السدي هو أعرابي ضمن له جعلا على ذلك فأطلق الله تعالى اسم الناس على ا لواحد على قول من تأوله على أنه كان رجلا واحدا فهذا على أنه أطلق لفظ العموم وأراد به الخصوص قال أبو بكر لما كان الناس اسما للجنس وكان من المعلوم أن الناس كلهم لم يقولوا ذلك تناول ذلك أقلهم وهو الواحد منهم لأنه لفظ الجنس وعلى هذا قال أصحابنا فيمن قال إن كلمت الناس فعبدي حر أنه على كلام الواحد منهم لأنه لفظ الجنس ومعلوم أنه لم يرد به استغراق لجنس فيتناول الواحد منهم وقوله تعالى فاخشوهم فزادهم إيمانا فيه إخبار بزيادة يقينهم عند زيادة الخوف والمحنة إذ لم يبقوا على الحال الأولى بل ازدادوا عند ذلك يقينا وبصيرة في دينهم وهو كما قال تعالى في الأحزاب ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما فازدادوا عند معاينة العدو إيمانا وتسليما لأمر الله تعالى والصبر على جهادهم وفي ذلك أتم ثناء على الصحابة رضي الله عنهم وأكمل فضيلة وفيه تعليم لنا أن نقتدي بهم ونرجع إلى أمر الله والصبر عليه والاتكال عليه وأن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل وأنا متى فعلنا ذلك أعقبنا ذلك من الله النصر والتأييد وصرف كيد العدو وشرهم مع حيازة رضوان الله وثوابه بقوله تعالى فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله وقوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون

بما آتاهم الله من فضله إلى قوله سيطوقون ما بخلو به قال السدي بخلوا أن ينفقوا في سبيل الله وأن يؤدوا الزكاة وقال ابن عباس هو في أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس وهو بالزكاة أولى كقوله والذين يكنزون الذهب والفضة إلى قوله يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وقوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به يدل على ذلك أيضا وروى سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمى بها جبينه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده وقال مسروق يجعل الحق الذي منعه حية فيطوقها فيقول مالي ومالك فتقول الحية أنا مالك وقال عبدالله يطوق ثعبانا في عنقه له أسنان فيقول أنا ملك الذي بخلت به
قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس قد تقدم نظيرها في سورة البقرة وقد روي في ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن المراد به اليهود وقال غيرهم المراد به اليهود والنصارى وقال الحسن وقتادة المراد به كل من أوتي علما فكتمه قال أبو هريرة لولا آية من كتاب الله تعالى ما حدثتكم به ثم تلا قوله وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب فيعود الضمير في قوله لتبيننه في قول الأولين على النبي صلى الله عليه وسلم -

لأنهم كتموا صفته وأمره وفي قول الآخرين على الكتاب فيدخل فيه بيان أمر

النبي صلى الله عليه وسلم - وسائر ما في كتب الله عزوجل
قوله تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الآيات التي فيها من جهات أحدها تعاقب الأعراض المتضادة عليها مع استحالة وجودها عارية منها والأعراض محدثة وما لم يسبق المحدث فهو محدث وقد دلت أيضا على أن خالق الأجسام لا يشبهها لأن الفاعل لا يشبه فعله وفيها الدلالة على أن خالقها قادر لا يعجزه شيء إذ كان خالقها وخالق الأعراض المضمنة بها وهو قادر على أضدادها إذ ليس بقادر يستحيل منه الفعل ويدل على أن فاعلها قديم لم يزل لأن صحة وجودها متعلقة بصانع قديم لولا ذلك لاحتاج الفاعل إلى فاعل آخر إلى مالا نهاية له ويدل على أن صانعها عالم من حيث استحال وجود الفعل المتقن المحكم إلا من عالم به قبل أن يفعله ويدل على أنه حكيم عدل لأنه مستغن عن فعل القبيح عالم بقبحه فلا تكون أفعاله إلا

عدلا وصوابا ويدل على أنه لا يشبهها لأنه لو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من جميع الوجوه أو من بعضها فإن أشبهها من جميع الوجوه فهو محدث مثلها وإن أشبهها من بعض الوجوه فواجب أن يكون محدثا من ذلك الوجه لأن حكم المشبهين واحد من حيث اشتبها فوجب أن يتساويا في حكم الحدوث من ذلك الوجه ويدل وقوف السموات والأرض من غير عمد أن ممسكها لا يشبهها لاستحالة وقوفها من غير عمد من جسم مثلها إلى غير ذلك من الدلائل المضمنة بها ودلالة الليل والنهار على الله تعالى أن الليل والنهار محدثان لوجود كل واحد منهما بعد أن لم يكن موجودا ومعلوم أن الأجسام لا تقدر على إيجادها ولا على الزيادة والنقصان فيها وقد اقتضيا محدثا من حيث كانا محدثين لاستحالة وجود حادث لا محدث له فوجب أن محدثهما ليس بجسم ولا مشبه للأجسام لوجهين أحدهما أن الأجسام لا تقدر على إحداث مثلها والثاني المشبه للجسم يجري عليه ما يجري عليه من حكم الحدوث فلو كان فاعلها حادثا لاحتاج إلى محدث ثم كذلك يحتاج الثاني إلى الثالث إلى مالا نهاية له وذلك محال فلا بد من إثبات صانع قديم لا يشبه الأجسام والله أعلم
باب

فضل الرباط في سبيل الله تعالى

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا قال الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك اصبروا على طاعة الله وصابروا على دينكم وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله وقال محمد بن كعب القرظي اصبروا على الجهاد وصابروا وعدي إياكم ورابطوا أعداءكم وقال زيد بن أسلم اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل عليه وقال أبو مسلمة بن عبدالرحمن ورابطوا بانتظار الصلاة بعد الصلاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال في انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط وقال تعالى ومن رباط

الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وروى سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال رباط يوم في سبيل الله أفضل من صيام شهر ومن قيامه ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة وروى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها

والله الموفق

سورة النساء

بسم

الله الرحمن الرحيم

قال

الله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام قال الحسن ومجاهد وإبراهيم هو قول القائل أسألك بالله وبالرحم وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك اتقوا الأرحام أن تقطعوها وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله تعالى وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

من سأل بالله فأعطوه وروى معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال

أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بسبع منها إبرار القسم وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله ص - من سألكم بالله فأعطوه وأما قوله والأرحام ففيه تعظيم لحق الرحم وتأكيد للنهي عن قطعها قال الله تعالى في موضع آخر فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض وقال تعالى لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة قيل في الآل أنه القربى وقال تعالى وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في تعظيم حرمة الرحم ما يواطئ ما ورد به التنزيل روى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول الله أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالي حيان بن بشر قال حدثنا محمد بن الحسن عن أبي حنيفة قال حدثني ناصح عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالد بن خداش قال حدثنا صالح المري قال حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح قال الحميدي الكاشح العدو ورواه أيضا

سفيان عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن

سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الصدقة على المسلمين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان لأنها صدقة وصلة قال أبو بكر فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها جعل النبي صلى الله عليه وسلم - الصدقة على ذي الرحم اثنتين صدقة وصلة وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة فدل على أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أيا كان الواهب أو غيره لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة واستحقاق الثواب بها كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم يصح الرجوع فيها كذلك الهبة لذي الرحم المحرم ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وهبه للإبن كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم المحرم إذ كانت بمنزلة الصدقة إلا أن يكون الأب محتاجا فيجوز له أخذه كسائر أموال الإبن فإن قيل لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم المحرم وغيره فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه وإن لم يكن ذا رحم محرم كإبن العم والأباعد من أرحامه قيل له لو اعتبرنا كل من بينه وبينه نسب لوجب أن يشترك فيه بنو آدم عليه السلام كلهم لأنهم ذووا أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السلام وقبله آدم عليه السلام وهذا فاسد فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد ا لنكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم وهو بمنزلة ا لأجنبيين وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بمنى وهو يقول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك فذكر ذوي الرحم المحرم في ذلك فدل على صحة ما ذكرنا وهو مأمور مع ذلك بمن بعد رحمه أن يصله وليس في تأكيد من قرب كما يأمر بالإحسان إلى الجار ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين والله أعلم بالصواب

باب

دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومنعه الوصي من استهلاكها

قال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب روي عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم قال أبو بكر وأظن ذلك غلطا من الراوي لأن المراد بهذه الآية إيتاءهم أموالهم بعد البلوغ إذ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله قبل البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم فهذا هو الصحيح في ذلك وأما قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم فليس من هذا في شيء لأنه معلوم أنه لم يرد به إيتاءهم أموالهم في حال اليتم وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد وأطلق اسم الأيتام عليهم لقرب عهدهم باليتم كما سمى مقارنة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف والمعنى مقاربة البلوغ ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق الآية فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ فعلم أنه أراد بعد البلوغ وسماهم يتامى لأحد معنيين إما لقرب عهدهم بالبلوغ أو لانفرادهم عن آبائهم مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم والقيام بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنكين الذين قد جربوا الأمور واستحكمت آراؤهم وقد روى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسئله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب إليه إذا أونس منه الرشد انقطع عنه يتمه وفي بعض الألفاظ إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يستحكم رأيه ولم يؤنس منه رشده فجعل بقاء ضعف الرأي

موجبا لبقاء اسم اليتيم عليه واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن زوجها قال النبي صلى الله عليه وسلم - تستأمر اليتيمة في نفسها وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة وقال الشاعر ... إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى ... إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخا أو كهلا لا يسمى يتيما وإن كان ضعيف العقل ناقص الرأي فلا بد من اعتبار قرب العهد بالصغر والمرأة الكبيرة المسنة تسمى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج والرجل الكبير المسن لا يسمى يتيما من جهة انفراده عن أبيه وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير ويدبر أمره ويحوطه فيكنفه فسمي الصغير يتما لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يسمى يتيما بعد البلوغ وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله وكنفه فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياطتها فإذا انفردت عمن هذه حاله معها سميت يتيمة كما سمي الصغير يتيما لانفراده عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه ألا ترى إلى قوله تعالى الرجال قوامون على النساء كما قال وأن تقوموا لليتامى بالقسط فجعل الرجل قيما على امرأته كما جعل ولي اليتيم قيما عليه وقد روى علي بن أبي طالب وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يتم بعد حلم وهذا هو الحقيقة في اليتيم وبعد البلوغ يسمى يتيما مجازا لما وصفنا وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف على ما روي عن ابن عباس يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون أنها جائزة للفقراء من اليتامى لأن اسم اليتيم يدل على ذلك ويدل عليه ما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله عز و جل ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما قال السفهاء إبنك السفيه وامرأتك السفيهة قال وقوله قياما قيام عيشك وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة فسمي اليتيم ضعيفا ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم وظاهره يقتضي وجود دفعه إليهم بعد البلوغ أونس منه الرشد أو لم يؤنس إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم

منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بينه وبين خمس وعشرين سنة فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه لقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد لاتفاق أهل العلم أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه وهذا وجه شائع من قبل أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما على فائدتهما ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا وهو قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم من غير شرط لإيناس الرشد فيه لأن الله تعالى أطلق إيجاب دفع المال من غير قرينة ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة وأمكننا استعمالهما على فائدتهما ولم يجز لنا الاقتصار بها على فائدة إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه لقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقال في نسق التلاوة فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض إذ كان قوله فأشهدوا عليهم قد تضمن جواز الإشهاد على إقرارهم بقبضها وفي ذلك دلالة على نفي الحجر وجواز التصرف لأن المحجور عليه لا يجوز إقراره ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار وأما قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب فإنه روي عن مجاهد وأبي صالح الحرام بالحلال أي لا تجعل بدل رزقك الحلال حراما تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه أو تتجر فيه لنفسك أو تحبسه وتعطيه غيره فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثا حراما وتعطيه مالك الحلال الذي رزقك الله تعالى ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها وهذا يدل على أن ولي اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه ولا يستبدله فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف فيه بالبيع والشرى لليتيم لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه ويعطي اليتيم غيره وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشتري من مال اليتيم لنفسه بمثل قيمته سواء لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه فهو عام في سائر وجوه الاستبدال إلا ما قام دليله هو أن يكون ما يعطي اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه على قول أبي حنيفة لقوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وقال سعيد بن المسيب والزهري

===============================================================

ج8. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

والضحاك والسدي في قوله ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب قال لا تجعلوا الزائف بدل الجيد والمهزول بدن السمين وأما قوله ولاتأكلوا أموالهم إلى أموالكم فإنه روي عن مجاهد والسدي لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم مضيفين لها إلى أموالكم فنهوا عن خلطها بأموالهم على وجه الاستقراض لتصيردينا في ذمته فيجوز لهم أكلها وأكل أرباحها قوله تعالى إنه كان حوبا كبيرا قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة إثما كبيرا وفي هذه الآية دلالة على وجوب تسليم أموال اليتامى بعد البلوغ وإيناس الرشد إليهم وإن لم يطالبوا بأدائها لأن الأمر بدفعها مطلق متوعد على تركه غير مشروط فيه مطالبة الأيتام بأدائها ويدل على أن من له عند غيره مال فأراد دفعه إليه أنه مندوب على الإشهاد عليه لقوله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم والله الموفق
باب

تزويج الصغار

قال الله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع روى الزهري عن عروة قال قلت لعائشة قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكها بأدنى من صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن وأمروا أن ينكحوا سواهن من النساء قالت عائشة ثم أن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب إلى قوله تعالى وترغبون أن تنكحوهن قالت والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى وقوله في الآية الأخرى وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حتى تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن قال أبو بكر وروي عن ابن عباس نحو تأويل عائشة في قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى وروي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع تأويل غير هذا وهو ما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرازق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير في قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء

يقول ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن وروي عن مجاهد وإن خفتم ألا تقسطوا فحرجتم من أكل أموالهم وكذلك فتحرجوا من الزنا فانكحوا النساء نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع وروي فيه قول ثالث وهو ما روى شعبة عن سماك عن عكرمة قال كان الرجل من قريش تكون عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فيذهب ماله فيميل على مال الأيتام فنزلت وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية وقد اختلف الفقهاء في تزويج غير الأب والجد الصغيرين فقال أبو حنيفة لكل من كان من أهل الميراث من القربات أن يزوج الأقرب فالأقرب فإن كان المزوج الأب أو الجد فلا خيار لهم بعد البلوغ وإن كان غيرهما فلهم الخيار بعد البلوغ وقال أبو يوسف ومحمد لا يزوج الصغيرين إلا العصبات الأقرب فالأقرب قال أبو يوسف ولا خيار لهما بعد البلوغ وقال محمد لهما الخيار إذا زوجهما غير الأب والجد وذكر ابن وهب عن مالك في تزويج الرجل يتيمه إذا رأى له الفضل والصلاح والنظر أن ذلك جائز له عليه وقال ابن القاسم عن مالك في الرجل يزوج أخته وهي صغيرة أنه لا يجوز ويزوج الوصي وإن كره الأولياء والوصي أولى من الولي غير أنه لا يزوج الثيب إلا برضاها ولا ينبغي أن يقطع عنها الخيار الذي جعل لها في نفسها ويزوج الوصي بنيه الصغار وبناته الصغار ولا يزوج البنات الكبار إلا برضاهن وقول الليث في ذلك كقول مالك وكذلك قال يحيى بن سعيد وربيعة أن الوصي أولى وقال الثوري لا يزوج العم ولا الأخ الصغيرة ولا أموال إلى الأوصياء والنكاح إلى الأولياء وقال الأوزاعي لا يزوج الصغيرة إلا الأب وقال الحسن بن صالح لا يزوج الوصي إلا أن يكون وليا وقال الشافعي لا يزوج الصغار من الرجال والنساء إلا الأب أو الجد إذا لم يكن أب ولا ولاية للوصي على الصغيرة قال أبو بكر روى جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال قال عمر من كان في حجره تركة لها عوار فليضمها إليه فإن كانت رغبة فليزوجها غيره وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأم سلمة والحسن وطاوس وعطاء في آخرين جواز تزويج غير الأب والجد الصغيرة وروي عن ابن عباس وعائشة في تأويل الآية ما ذكرنا وأنها في اليتيمة فتكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سننهن في الصداق ولما كان ذلك عندهما تأويل الآية دل على أن جواز ذلك

من مذهبهما أيضا ولا نعلم أحدا من السلف منع ذلك والآية يدل على ما تأولها عليه ابن عباس وعائشة لأنهما ذكرا أنها في اليتيمة تكون في حجر له وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في الصداق فنهوا أن ينكحوهن أو يقسطوا لهن في الصداق وأقرب الأولياء الذي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوجها هو ابن العم فقد تضمنت الآية جواز تزوج ابن العم اليتيمة التي في حجره فإن قيل لم جعلت هذا التأويل أولى من تأويل سعيد بن جبير وغيره الذي ذكرت مع احتمال الآية للتأويلات كلها قيل له ليس يمتنع أن يكون المراد المعنيين جميعا لاحتمال اللفظ لهما وليسا متنافيين فهو عليهما جميعا ومع ذلك فإن ابن عباس وعائشة قد قالا إن الآية نزلت في ذلك وذلك لا يقال بالرأي وإنما يقال توقيفا فهو أولى لأنهما ذكرا سبب نزولها والقصة التي نزلت فيها فهو أولى فإن قيل يجوز أن يكون المراد الجد قيل له إنما ذكرا أنها نزلت في اليتيمة التي في حجره ويرغب في نكاحها والجد لا يجوز له نكاحها فعلمنا أن المراد ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء فإن قيل إن الآية إنما هي في الكبيرة لأن عائشة قالت أن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامىالنساء يعني قوله وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى قال فلما قال في يتامى النساء دل على أن المراد الكبار منهن دون الصغار لأن الصغار لا يسمين نساء قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن قوله وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى حقيقته تقتضي اللاتي لم يبلغن لقول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يتم بعد بلوغ الحلم ولا يجوز صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز إلا بدلالة والكبيرة تسمى يتيمة على وجه المجاز وقوله تعالى في يتامى النساء لا دلالة فيه على ما ذكرت لأنهن إذا كن من جنس النساء جازت إضافتهن إليهن وقد قال الله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء والصغار والكبار داخلات فيهن وقال ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الصغار والكبار مرادات به وقال وأمهات نسائكم ولو تزوج صغيرة حرمت عليه أمها تحريما مؤ بدا فليس إذا في إضافة اليتامى إلى النساء دلالة على أنهن الكبار دون الصغار والوجه الآخر أن هذا التأويل الذي ذكره ابن عباس وعائشة لا يصح في الكبار لأن الكبيرة إذا رضيت بأن يتزوجها بأقل من مهر مثلها جاز النكاح وليس لأحد

أن يعترض عليها فعلمنا أن المراد الصغار اللاتي يتصرف عليهم في التزويج من هن في حجره ويدل عليه ما روى محمد بن إسحاق قال أخبرني عبدالله بن أبي بكر بن حزم وعبدالله بن الحارث ومن لا أتهم عن عبدالله بن شداد قال كان زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أم سلمة ابنها سلمة فزوجه رسول الله ص

- بنت حمزة وهما صبيان صغيران فلم يجتمعا حتى ماتا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - هل جزيت سلمة بتزويجه إياي أمه وفيه الدلالة على ما ذكرنا من وجهين أحدهما أنه زوجهما وليس بأب ولا جد فدل على أن تزويج غير الأب والجد جائز للصغيرين والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما فعل ذلك وقد قال الله تعالى فاتبعوه فعلينا اتباعه فيدل على أن للقاضي تزويج الصغيرين وإذا جاز ذلك للقاضي جاز لسائر الأولياء لأن أحدا لم يفرق بينهما ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا نكاح إلا بولي فأثبت النكاح إذا كان بولي والأخ وابن العم أولياء والدليل عليه أنها لو كانت كبيرة كانوا أولياء في النكاح ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على أن الأب والجد إذا لم يكونا من أهل الميراث إن كانا كافرين أو عبدين لم يزوجا فدل على أن هذه الآية مستحقة بالميراث فكل من كان أهل الميراث فله أن يزوج الأقرب فالأقرب ولذلك قال أبو حنيفة أن للأم ومولى الموالاة أن يزوجوا إذا لم يكن أقرب منهم لأنهم من أهل الميراث فإن قيل لما كان في النكاح مال وجب أن لا يجوز عقد من لا يجوز تصرفه في المال قيل له إن المال يثبت في النكاح من غير تسمية فلا اعتبار فيه بالولاية في المال ألا ترى أن عند من لا يجيز النكاح بغير ولي فللأولياء حق في التزويج وليست لهم ولاية في المال على الكبيرة ويلزم مالكا والشافعي أن لا يجيز تزويج الأب لابنته البكر الكبيرة إذ لا ولاية له عليها في المال فلما جاز عند مالك والشافعي لأب البكر الكبيرة تزويجها بغير رضاها مع عدم ولايته عليها في المال دل ذلك على أنه لا اعتبار في استحقاق الولاية في عقد النكاح بجواز التصرف في المال ولما ثبت بما ذكرنا من دلالة الآية جواز تزويج ولي الصغيرة إياها من نفسه دل على أن لولي الكبيرة أن يزوجها من نفسه برضاها ويدل أيضا على أن العاقد للزوج والمرأة يجوز أن يكون واحدا بأن يكون وكيلا لهما كما جاز لولي الصغيرة أن يزوجها من نفسه فيكون الموجب للنكاح والقابل له واحدا ويدل أيضا على أنه إذا كان وليا لصغيرين جاز له أن يزوج أحدهما من صاحبه فالآية دالة من هذه الوجوه على بطلان مذهب الشافعي في قوله إن الصغيرة

لا يزوجها غير الأب والجد وفي قوله إنه لا يجوز لولي الكبيرة أن يتزوجها برضاها بغير محضر منها ويدل على بطلان قوله في أنه لا يجوز أن يكون رجل واحد وكيلا لهما جميعا في عقد النكاح عليهما وإنما قال أصحابنا إنه لا يجوز للوصي تزويج الصغيرة من قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا نكاح إلا بولي والوصي ليس بولي لها ألا ترى أن قوله ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلو وجب لها قود لم يكن الوصي لها وليا في ذلك ولم يستحق الولاية فيه فثبت أن الوصي لا يقع عليه اسم الولي فواجب أن لا يجوز تزويجه إياها إذ ليس بولي لها فإن قيل فواجب على هذا أن لا يكون الأخ أو العم وليا للصغيرة لأنهما لا يستحقان الولاية في القصاص قيل له لم نجعل عدم الولاية في القصاص علة في ذلك حتى يلزمنا عليها وإنما بينا أن ذلك الاسم لا يتناوله ولا يقع عليه من جهة ما يستحق من التصرف في المال وأما الأخ والعم فهما وليان لأنهما من العصبات واحد لا يمتنع من إطلاق اسم الولي على العصبات قال الله تعالى وإني خفت الموالي من ورائي قيل إنه أراد به بني أعمامه وعصباته فاسم الولي يقع على العصبات ولا يقع على الوصي فلما قال ص - لا نكاح إلا بولي انتفى بذلك جواز تزويج الوصي للصغيرة إذ ليس بولي وقال ص - أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها وفي لفظ آخر بغير إذن مواليها فنكاحها باطل فقد اقتضى بطلان نكاح المجنونة والبكر الكبيرة إذا زوجها الوصي أو تزوجت بإذن الوصي دون إذن الولي لحكم النبي صلى الله عليه وسلم - ببطلان نكاحها إذ كانت متزوجة بغير إذن وليها وأيضا فإن هذه الولاية في النكاح مستحقة بالميراث لما دللنا عليه وليس الوصي من أهل الميراث فلا ولاية له وأيضا فإن السبب الذي به يستحق الولاية في النكاح هو النسب وذلك لا يصح النقل فيه ولا يستحقه الوصي لعدم السبب الذي به يستحق الولاية وليس التصرف في المال بعد الموت كالتصرف في النكاح لأن المال يصح النقل فيه والنكاح لا يصح النقل فيه إلى غير الزوجين فلم يجز أن يكون للوصي ولاية فيه وليس الوصي كالوكيل في حال حياة الأب لأن الوكيل يتصرف بأمر الموكل وأمره باق لجواز تصرفه وامر الميت منقطع فيما لا يصح فيه النقل وهو النكاح فلذلك اختلفا فإن قيل فإن الحاكم يزوج عندكم الصغيرين مع عدم الميراث والولاية من طريق النسب قيل له إن الحاكم قائم مقام جماعة المسلمين فيما يتصرف فيه من ذلك وجماعة المسلمين هم من أهل ميراث

الصغيرين وهم باقون فاستحق الولاية من حيث هو كالوكيل لهم وهم من أهل ميراثه لأنه لو مات ولا وارث له من ذوي أنسابه ورثه المسلمون وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن للأب تزويج ابنته الصغيرة من حيث دلت على جواز تزويج سائر الأولياء إذ كان هو أقرب الأولياء ولا نعلم في جواز ذلك خلافا بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار إلا شيئا رواه بشر بن الوليد عن ابن شبرمة أن تزويج الآباء على الصغار لا يجوز وهو مذهب الأصم ويدل على بطلان هذا المذهب سوى ما ذكرنا من دلالة هذه الآية قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح فتضمنت الآية جواز تزويج الصغيرة ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة وهي بنت ست سنين زوجها إياه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما جواز تزويج الأب الصغيرة والآخر أن لا خيار لها بعد البلوغ لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يخيرها بعد البلوغ وأما قوله تعالى ما طاب لكم من النساء فإن مجاهدا قال معناه أنكحوا نكاحا طيبا وعن عائشة والحسن وأبي مالك ما أحل لكم وقال الفراء أراد بقوله تعالى ما طاب المصدر كأنه قال فانكحوا من النساء الطيب أي الحلال قال ولذلك جاز أن يقول ما ولم يقل من واما قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع فإنه إباحة للثنتين إن شاء وللثلاث إن شاء وللرباع إن شاء على أنه مخير في أن يجمع في هذه الأعداد من شاء قال فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الأربع على الثلاث فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الثلاث على الإثنتين فإن خاف أن لا يعدل بينهما اقتصر على الواحدة وقيل إن الواو ههنا بمعنى أو كأنه قال مثنى أو ثلاث أو رباع وقيل أيضا فيه أن الواو على حقيقتها ولكنه على وجه البدل كأنه قال وثلاث بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث لا على الجمع بين الأعداد ومن قال هذا قال أنه لو قيل بأو لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثنى ولا الرباع لصاحب الثلاث فأفاد ذكر الواو إباحة الأربع لكل أحد ممن دخل في الخطاب وأيضا فإن المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع إذ لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأخر عن وجه الجمع فتكون تسعا وهذا كقوله تعالى قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها

إلى قوله وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام والمعنى في أربعة أيام باليومين المذكورين بديا ثم قال فقضاهن سبع سموات في يومين ولولا أن ذلك كذلك لصارت الأيام كلها ثمانية وقد علم أن ذلك ليس كذلك لقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام فكذلك المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع فجميع ما أباحته الآية من العدد أربع لا زيادة عليها وهذا العدد إنما هو للأحرار دون العبيد في قول أصحابنا والثوري والليث والشافعي وقال مالك للعبد أن يتزوج أربعا والدليل على أن الآية في الأحرار دون العبيد قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم إنما هو مختص بالأحرار لأن العبد لا يملك عقد النكاح لاتفاق الفقهاء أنه لا يجوز له أن يتزوج إلا بإذن المولىوأن المولى أملك بالعقد عليه منه بنفسه لأن المولى لو زوجه وهو كاره لجاز عليه ولو تزوج هو بغير إذن المولى لم يجز نكاحه وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وقال الله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فلما كان العبد لا يملك عقد النكاح لم يكن من أهل الخطاب بالآية فوجب أن تكون الآية في الأحرار وأيضا لا يختلفون أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق النكاح المقدرة كالطلاق والعدة فلما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يكون للعبد النصف مما للحر وقد روي عن ستة من الصحابة أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين ولا يروى عن أحد من نظرائهم خلافه فيما نعلمه وقد روى سليمان بن يسار عن عبدالله بن عتبة قال قال عمر بن الخطاب ينكح العبد اثنتين ويطلق اثنتين وتعتد الأمة حيضتين فإن لم تحض فشهر ونصف وروى الحسن وابن سيرين عن عمر وعبدالرحمن بن عوف أن العبد لا يحل له أكثر من امرأتين وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قال لا يجوز للعبد أن ينكح فوق اثنتين وروى حماد عن إبراهيم أن عمر وعبدالله قالا لا ينكح العبد أكثر من اثنتين وشعبة عن الحكم عن الفضل بن العباس قال يتزوج العبد اثنتين وابن سيرين قال قال عمر أيكم يعلم ما يحل للعبد من النساء فقال رجل من الأنصار أنا فقال عمر كم قال اثنتين فسكت ومن يشاوره عمر ويرضى بقوله فالظاهر أنه صحابي وروى ليث عن الحكم قال اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين فقد ثبت بإجماع أئمة الصحابة ما ذكرناه ولا نعلم أحدا من نظرائهم قال أنه يتزوج أربعا فمن خالف ذلك كان محجوجا بإجماع الصحابة وقد روي نحو قولنا

عن الحسن وإبراهيم وابن سيرين وعطاء والشعبي فإن قيل روى يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن أبي الدرداء قال يتزوج العبد أربعا وهو قول مجاهد والقاسم وسالم وربيعة الرأي قيل له إسناد حديث أبي الدرداء فيه رجل مجهول وهو أبو وهب ولوثبت لم يجز الإعتراض به على قول الأئمة الذين ذكرنا أقاويلهم واستفاض ذلك عنهم وقد ذكر الحكم وهو من جلة فقهاء التابعين إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين وأما قوله تعالى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة فإن معناه والله أعلم العدل في القسم بينهن لما قال تعالى في آية أخرى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل والمراد ميل القلب والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف أن لا يفعل إظهار الميل بالفعل فأمره الله تعالى بالإقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانبة العدل وقوله عطفا على ما تقدم من إباحة العدد المذكور بعقد النكاح أو ما ملكت أيمانكم يقتضي حقيقته وظاهره إيجاب التخيير بين أربع حرائر وأربع إماء بعقد النكاح فيوجب ذلك تخييره بين تزويج الحرة والأمة وذلك لأن قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم كلام مستقل بنفسه بل هو مضمن بما قبله وفيه ضمير لا يستغنى عنه وضميره ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وغير جائز لنا إضمار معنى لم يتقدم له ذكر إلا بدلالة من غيره فلم يجز لنا أن نجعل الضمير في قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم الوطء فيكون تقديره قد أبحت لك وطء ملك اليمين لأنه ليس في الآية ذكر الوطء وإنما الذي في أول الآية ذكر العقد لأن قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم لا خلاف أن المراد به العقد فوجب أن يكون قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم ضميره أو فانكحوا ما ملكت أيمانكم وذلك النكاح هو العقد فالضمير الراجع إليه أيضا هو العقد دون الوطء فإن قيل لما صلح أن يكون النكاح اسما للوطء ثم عطف عليه قوله أو ما ملكت أيمانكم صار كقوله فانكحوا ما ملكت أيمانكم فيكون معناه الوطء في هذا الموضع وإن كان معناه العقد في أول الخطاب قيل له لا يجوز هذا لأنه إذا كان ضميره ما تقدم ذكره بديا في أول الخطاب فوجب أن يكون بعينه ومعناه المراد به ضميرا فيه فإذا كان النكاح المذكور هو العقد فكأنه قيل فاعقدوا عقدة النكاح فيما طاب لكم فإذا أضمره في ملك اليمين كان الضمير هو العقد إذ لم يجز للوطء ذكر من جهة المعنى ولا من طريق اللفظ

فامتنع من أجل ذلك إضمار الوطء فيه وإن كان اسم النكاح قد يتناوله ومن جهة أخرى أنه لما لم يكن في الآية ذكر النكاح إلا ما تقدم في أولها وثبت أن المراد به العقد لم يجز أن يكون ضمير ذلك اللفظ بعينه وطء لامتناع أن يكون لفظ واحد مجازا حقيقة لأن أحد المعنيين يتناوله اللفظ مجازا والآخر حقيقة ولا يجوز أن ينتظمهما لفظ واحد فوجب أن يكون ضميره عقد النكاح المذكور بديا في الآية فإن قيل الذي يدل على أن ضميره هو الوطء دون العقد إضافته لملك اليمين إلى المخاطبين ومعلوم استحالة تزوجه بملك يمينه ويجوز له وطء ملك يمينه فعلمنا أن المراد الوطء دون العقد قيل له لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير كقوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فأضاف عقد النكاح على ملك أيمانهم إليهم والخطاب متوجه إلى كل واحد في إباحة تزويج ملك غيره كذلك قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم محمول على هذا المعنى فليس إذا فيما ذكرت دليل على وجوب إضمار لا ذكر له في الخطاب فوجب أن يكون ضميره ما تقدم ذكره مظهرا وهو عقد النكاح وفيما وصفنا دليل على اقتضاء الآية التخيير بين تزوج الأمة والحرة لمن يستطيع أن يتزوج حرة لأن التخيير لا يصح إلا فيما يمكنه فعل كل واحد منهما على حاله فقد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع وجود الطول إلى الحرة أحدهما عموم قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وذلك شامل للحرائر والإماء لوقوع اسم النساء عليهن والثاني قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم وذلك يقتضي التخيير بينهن وبين الحرائر في التزويج وقد قدمنا دلالة قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة على ذلك في سورة البقرة ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم وذلك عموم شامل للحرائر والإماء وغير جائز تخصيصه إلا بدلالة وأما قوله تعالى ذلك أدنى ألا تعولوا6 فإن ابن عباس والحسن ومجاهد وأبا رزين والشعبي وأبا مالك وإسماعيل وعكرمة وقتادة قالوا يعني لا تميلوا عن الحق وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك الغفاري ذلك أدنى ألا تعولوا أن لا تميلوا وأنشد عكرمة شعرا لأبي طالب ... بميزان صدق لا يخس شعيرة ... ووزان قسط وزنه غير عائل

قال غير مائل قال أهل اللغة أصل العول المجاوزة للحد فالعول في الفريضة مجاوزة حد السهام المسماة والعول الميل الذي هو خلاف العدل لخروجه عن حد العدل وعال يعول إذا جار وعال يعيل إذا تبختر وعال يعيل إذا افتقر حكى لنا ذلك أبو عمر غلام ثعلب وقال الشافعي في قوله تعالى ذلك أدنى ألا تعولوا معناه أن لا يكثر من تعولون قال وهذا يدل على أن على الرجل نفقة امرأته وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روي عنه تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا وأن لا تجوروا وإن هذا الميل هو خلاف العدل الذي أمر الله به من القسم بين النساء والثاني خطاؤه في اللغة لأن أهل اللغة لا يختلفون في أنه لا يقال في كثرة العيال عال يعول ذكره المبرد وغيره من أئمة اللغة وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى أن لا تعولوا قال أن لا تجوروا يقال علت على أي جرت والثالث أن في الآية ذكر الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين فعلمنا أنه لم يرد كثرة العيال وأن المراد نفي الجور والميل بتزوج امرأة واحدة إذ ليس معها من يلزمها القسم بينه وبينها لا قسم للإماء بملك اليمين والله أعلم
باب

هبة المرأة المهر لزوجها

قال الله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا روي عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى وأتوا النساء صدقاتهن نحلة قالا فريضة كأنهما ذهبا إلى نحلة الدين وإن ذلك فرض فيه وروي عن أبي صالح في قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة قال كان الرجل إذا زوج موليته أخذ صداقها فنهوا عن ذلك فجعله خطابا للأولياء أن لا يحبسوا عنهن المهور إذا قبضوها إلا أن معنى النحلة يرجع إلى ما ذكره قتادة في أنها فريضة وهذا على معنى ما ذكره الله عقيب ذكر المواريث فريضة من الله قال بعض أهل العلم إنما سمي المهر نحلة والنحلة في الأصل العطية والهبة في بعض الوجوه لأن الزوج لا يملك بدله شيئا لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله ألا ترىأنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج فإنما سمي المهر نحلة لأنه لم يعتض من قبلها عوضا يملكه فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الإستباحة لا الملك وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى

في قوله تعالى نحلة يعني بطيبة أنفسكم يقول لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ولكن آتوهم ذلك وأنفسكم به طيبة وإن كان المهر لهن دونكم قال أبو بكر فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلة لأن النحلة هي العطية وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها طيبة بها نفسه فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه ويحتج بقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة في إيجاب كمال المهر للمخلو بها لاقتضاء الظاهر له وأما قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فإنه يعني عن المهر لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه قال قتادة في هذه الآية ما طابت به نفسها من غيره كره فهو حلال وقال علقمة لامرأته أطعميني من الهنيء والمريء فتضمنت الآية معاني منها أن المهر لها وهي المستحقة له لا حق للولي فيه ومنها أن على الزوج أن يعطيها بطيبة من نفسه ومنها جواز هبتها المهر للزوج والإباحة للزوج في أخذه بقوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا ومنها تساوي قال قبضها للمهر وترك قبضها في جواز هبتها للمهر لأن قوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا يدل على العنيين ويدل أيضا على جواز هبتها للمهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بينهما فإن قيل قوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا يدل على أن المراد فيما تعين من المهر إما أن يكون عرضا بعينه فقبضته أو لم تقبضه أودراهم قد قبضتها فإما دين في الذمة فلا دلالة في الآية على جواز هبتها له إذ لا يقال لما في الذمة كله هنيئا مريئا قيل له ليس المراد في ذلك مقصورا على ما يتأتى فيه الأكل دون مالا يتأتى لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خاصا في المهر إذا كان شيئا مأكولا وقد عقل من مفهوم الخطاب أنه غير مقصور على المأكول منه دون غيره لأن قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة عام في المهور كلها سواء كانت من جنس المأكول أو من غيره وقوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا شامل لجميع الصدقات المأمور بإيتائها فدل أنه لا اعتبار بلفظ الأكل في ذلك وإن المقصد فيه جواز استباحته بطيبة من نفسها وقال الله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وقال تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وهو عموم النهي عن سائر وجوه التصرف في مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول وغير المأكول وشامل للنهي في أخذ أموال الناس إلا على وجه

التجارة عن تراض وليس المأكول بأولى بمعنى الآية من غيره وإنما خص الأكل بالذكر لأنه معظم ما يبتغى له الأموال إذ به قوام بدن الإنسان وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه وهذا كقوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فخص البيع بالذكر وإن كان ما عداه من سائر ما يشغله عن الصلاة بمثابته في النهي لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعي في طلب معايشهم فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه وأنه أولى بالنهي إذ قد نهاهم عما هم إليه أحوج والحاجة إليه أشد وكما قال تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فخص اللحم بذكر التحريم وسائر أجزائه مثله دونه لأنه معظم ما يراد منه وينتفع به فكان في تحريمه أعظم منافعه دلالة على ما دونه فكذلك قوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا قد اقتضى جواز هبتها للمهر من أي جنس كان عينا أو دينا قبضته أو لم تقبضه ومن جهة أخرى أنه إذا جازت هبتها للمهر إذا كان مقبوضا معينا فكذلك حكمه إذا كان دينا لأنه قد ثبت جواز تصرفها في مالها فلا يختلف حكم العين والدين فيه ولأن أحدا لم يفرق بينهما وقد دلت هذه الآية على جواز هبة الدين والبراءة منه كما جازت هبة المرأة للمهر وهو دين ويدل أيضا على أن من وهب لإنسان دينا له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة لأن الله تعالى قد حكم بصحته وأسقطه عن ذمته ويدل على أن من وهب لإنسان مالا فقبضه وتصرف فيه أنه جائز له ذلك وإن لم يقل بلسانه قد قبلت لأن الله تعالى قد أباح له أكل ما وهبته من غير شرط القبول بل يكون التصرف فيه بحضرته حين وهبه قبولا ويدل على أنها لو قالت قد طبت لك نفسا عن مهري وأرادت الهبة والبراءة أن ذلك جائز لقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقد اختلف الفقهاء في هبة المرأة مهرها لزوجها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والشافعي إذا بلغت المرأة واجتمع لها عقلها جاز لها التصرف في مالها بالهبة أو غيرها بكرا كانت أو ثيبا وقال مالك لا يجوز أمر البكر في مالها ولا ما وضعت عن زوجها من الصداق وإنما ذلك إلى أبيها في العفو عن زوجها ولا يجوز لغير الأب من أوليائها ذلك قال وبيع المرأة ذات الزوج دارها وخادمها جائز وإن كره الزوج إذا أصابت وجه البيع فإن كانت محاباة كان من ثلث مالها وإن تصدقت أو وهبت أكثر من الثلث لم يجز من ذلك قليل ولا كثير قال مالك والمرأة الأيم

إذا لم يكن لها زوج في مالها كالرجل في ماله سواء وقال الأوزاعي لا تجوز عطية المرأة حتى تلد وتكون في بيت زوجها سنة وقال الليث لا يجوز عتق المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا في الشيء اليسير الذي لا بد لها منه لصلة رحم أو غيره ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى قال أبو بكر الآية قاضية بفساد هذه الأقوال شاهدة بصحة قول أصحابنا الذي قدمنا لقوله عز و جل فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ولم يفرق فيه بين البكر والثيب ولا بين من أقامت في بيت زوجها سنة أو لم تقم وغير جائز الفرق بين البكر والثيب في ذلك إلا بدلالة تدل على خصوص حكم الآية في الثيب دون البكر وأجاز مالك هبة الأب والله تعالى أمرنا بإعطائها جميع الصداق إلا أن تهب هي شيئا منه له فالآية قاضية ببطلان هبة الأب لأنه مأمور بإيتاء جميع الصداق إلا أن تطيب نفسها بتركه ولم يشرط الله تعالى طيبة نفس الأب فمنع ما أباحه الله له بطيبة نفسها من مهرها وأجاز ما حظره الله تعالى من منع شيء من مهرها إلا بطيبة نفسها بهبة الأب وهذا الإعتراض على الآية من وجهين بغير دلالة أحدهما منعها الهبة مع اقتضاء ظاهر الآية لجوازها والثاني جواز هبة الأب مع أمر الله الزوج بإعطائها الجميع إلا أن تطيب نفسا بتركه ويدل على ذلك قوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فمنع أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا برضاها بالفدية فقد شرط رضا المرأة ولم يفرق مع ذلك بين البكر والثيب ويدل عليه حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال للنساء تصدقن ولو من حليكن وفي حديث ابن عباس أن النبي ص

- خرج يوم الفطر فصلى ثم خطب ثم أتى النساء فأمرهن أن يتصدقن ولم يفرق في شيء منه بين البكر والثيب ولأن هذا حجر ولا يصح الحجر على من هذه صفته والله أعلم
باب

دفع المال إلى السفهاء

قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما قال أبو بكر قد اختلف أهل العلم في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس لا يقسم الرجل ماله على أولاده فيصير عيالا عليهم بعد إذ هم عيال له والمرأة من أسفه السفهاء فتأول ابن عباس الآية

على ظاهرها ومقتضى حقيقتها لأن قوله تعالى أموالكم يقتضي خطاب كل واحد منهم بالنهي عن دفع ماله إلى السفهاء لما في ذلك من تضييعه لعجز هؤلاء عن القيام بحفظه وتثميره وهو يعني به الصبيان والنساء الذين لا يكملون لحفظ المال ويدل ذلك أيضا على أنه لا ينبغي له أن يوكل في حياته بمال ويجعله في يد من هذه صفته وأن لا يوصي به إلى أمثالهم ويدل أيضا على ورثته إذا كانوا صغارا أنه لا ينبغي أن يوصي بماله إلا إلى أمين مضطلع بحفظه عليهم وفيه الدلالة على النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره والقيام به لقوله تعالى التي جعل الله لكم قياما فأخبر أنه جعل قوام أجسادنا بالمال فمن رزقه الله منه شيئا فعليه إخراج حق الله تعالى منه ثم حفظ ما بقي وتجنب تضييعه وفي ذلك ترغيب من الله تعالى لعباده في إصلاح المعاش وحسن التدبير وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع من كتابه العزيز منه قوله تعالى ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وقوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا وقوله تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وما أمر الله به من حفظ الأموال وتحصين الديون بالشهادات والكتاب والرهن على ما بينا فيما سلف وقد قيل في قوله تعالى التي جعل الله لكم قياما يعني أنه جعلكم قواما عليها فلا تجعلوها في يد من يضيعها والوجه الثاني من التأويل ما روى سعيد بن جبير أنه أراد لا تؤتوا السفهاء أموالهم وإنما أضافها إليهم كما قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم يعني لا يقتل بعضكم بعضا وقوله تعالى فاقتلوا أنفسكم وقوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم يريد من يكون فيها وعلى هذا التأويل يكون السفهاء محجورا عليهم فيكونون ممنوعين من أموالهم إلى أن يزول السفه وقد اختلف في معنى السفهاء ههنا فقال ابن عباس السفيه من ولدك وعيالك وقال المرأة من أسفه السفهاء وقال سعيد بن جبير والحسن والسدي والضحاك وقتادة النساء والصبيان وقال بعض أهل العلم كل من يستحق صفة سفيه في المال من محجور عليه وغيره وروى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ورجل داين رجلا فلم يشهد عليه وروي عن مجاهد أن السفهاء النساء وقيل إن أصل السفه

خفة الحلم ولذلك سمي الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله وليس السفه في هؤلاء صفة ذم ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تميزهم عن القيام بحفظ المال فإن قيل لا خلاف أنه جائز أن نهب النساء والصبيان المال وقد أراد بشير أن يهب لابنه النعمان فلم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم - منه إلا لأنه لم يعط سائر بنيه مثله فكيف يجوز حمل الآية على منع إعطاء السفهاء أموالنا قيل له ليس المعنى فيه التمليك وهبة المال وإنما المعنى فيه أن نجعل الأموال في أيديهم وهم غير مضطلعين بحفظها وجائز للإنسان أن يهب الصغير والمرأة كما يهب الكبير العاقل ولكنه يقبضه له من يلي عليه ويحفظ ماله ولا يضيعه وإنما منعنا الله تعالى بالآية أن نجعل أموالنا في أيدي الصغار والنساء اللاتي لا يكملن بحفظها وتدبيرها وقوله عز و جل وارزقوهم فيها واكسوهم يعني وارزقوهم من هذه الأموال لأن في ههنا بمعنى من إذ كانت حروف الصفات تتعاقب فيقام بعضها مقام بعض كما قال تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم وهو بمعنى مع فنهانا الله عن دفع الأموال إلى السفهاء الذين لا يقومون بحفظها وأمرنا بأن نرزقهم منها ونكسوهم فإن قيل كان مراد الآية النهي عن إعطائهم مالنا على ما اقتضى ظاهرها ففي ذلك دليل على وجوب نفقة الأولاد السفهاء والزوجات لأمره إيانا بالإنقاق عليهم من أموالنا وإن كان تأويلها ما ذهب إليه القائلون بأن مرادها أن لا نعطيهم أموالهم وهم سفهاء فإنما فيه الأمر بالإنفاق عليهم من أموالهم وهذا يدل على الحجر من وجهين أحدهما منعهم من أموالهم والثاني إجازته تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم وشرى أقواتهم وكسوتهم وقوله تعالى وقولوا لهم قولا معروفا قال مجاهد وابن جريج قولا معروفا عدة جميلة بالبر والصلة على الوجه الذي يجوز ويحسن ويحتمل أن يريد به إجمال المخاطبة لهم وإلانة القول فيما يخاطبون به كقوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر وكقوله وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا وقد قيل إنه جائز أن يكون القول المعروف ههنا التأديب والتنبيه على الرشد والصلاح والهداية للأخلاق الحسنة ويحتمل أن يريد به إذا أعطيتموهم الرزق والكسوة من أموالكم أن تجعلوا لهم القول ولا تؤذوهم بالتذمر عليهم والاستخفاف بهم كما قال تعالى وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا

معروفا يعني والله أعلم إجمال اللفظ وترك التذمر والامتنان وكما قال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بقوله تعالى وقولوا لهم قولا معروفا والله أعلم
باب

دفع المال إلى اليتيم

قال الله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي يعني اختبروهم في عقولهم ودينهم قال أبو بكر أمرنا باختبارهم قبل البلوغ لأنه قال وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فأمر بابتلائهم في حال كونهم يتامى ثم قال حتى إذا بلغوا النكاح فأخبر أن بلوغ النكاح بعد الإبتلاء لأن حتى غاية مذكورة بعد الإبتلاء فدلت الآية من وجهين علىأن هذا الإبتلاء قبل البلوغ وفي ذلك دليل على جواز الإذن للصغير الذي يعقل في التجارة لأن ابتلاءه لا يكون إلا باستبراء حاله في العلم بالتصرف وحفظ المال ومتى أمر بذلك كان مأذونا في التجارة وقد اختلف الفقهاء في إذن الصبي في التجارة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح جائز للأب أن يأذن لابنه الصغير في التجارة إذا كان يعقل الشرى والبيع وكذلك وصي الأب أو الجد إذا لم يكن وصي أب ويكون بمنزلة العبد المأذون له وقال ابن القاسم عن مالك لا أرى إذن الأب والوصي للصبي في التجارة جائزا وإن لحقه في ذلك دين لم يلزم الصبي منه شيء وقال الربيع عن الشافعي في كتابه في الإقرار وما أقر به الصبي من حق الله تعالى أو الآدمي أو حق في مال أو غيره فإقراره ساقط عنه سواء كان الصبي مأذونا له في التجارة أذن له أبوه أو وليه من كان أو حاكم ولا يجوز للحاكم أن يأذن له فإن فعل فإقراره ساقط عنه وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ قال أبو بكر ظاهر الآية يدل على جواز الإذن له في التجارة لقوله تعالى وابتلوا اليتامى والإبتلاء هو اختبارهم في عقولهم ومذاهبهم وحرمهم فيما يتصرفون فيه فهو عام في سائر هذه الوجوه وليس لأحد أن يقتصر بالإختبار على وجه دون وجه فيما يحتمله اللفظ والإختبار في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشرى وضبط أموره وحظ ماله ولا يكون إلا بإذن له في التجارة ومن قصر الإبتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال فقد خص عموم اللفظ بغير دلالة فإن قيل

الذي يدل على أنه لم يرد الإذن له في التصرف في حال الصغر قوله تعالى في نسق التلاوة فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره لجاز دفع المال إليه في حال الصغر والله تعالى إنما أمر بدفع المال إليه بعد البلوغ وإيناس الرشد قيل له ليس الإذن له في التجارة من دفع المال إليه في شيء لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشرى وذلك ممكن بغير مال في يده كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه فنقول إن الآية اقتضت الأمر بابتلائه ومن الإبتلاء الإذن له في التجارة وإن لم يدفع إليه مالا ثم إذا بلغ وقد أونس منه رشده دفع المال إليه ولو كان الإبتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشرى والبيع وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه وعلمه بالتصرف لما كان للإبتلاء وجه قبل البلوغ فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره وحفظه لماله وعلمه بالبيع والشرى ومعلوم أن الله تعالى أمر بالإحتياط له في استبراء أمره في حفظ المال والعلم بالتصرف فوجب أن يكون الإبتلاء المأمور به قبل البلوغ مأمورا بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب وأيضا فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ لأنه محجور عليه فالإبتلاء إذا ساقط من هذا الوجه فلا يخلو بعد البلوغ متى أردنا التوصل إلى إيناس رشده من أن نختبره بالإذن له في التجارة أو لا نختبره بذلك فإن وجب اختباره فقد أجزت له التصرف وهو عندك محجور عليه بعد البلوغ إلى إيناس الرشد فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجور عليه بعد البلوغ فقد أخرجته من الحجر وإن لم يخرج من الحجر وهو ممنوع من ماله بعد البلوغ وهو مأذون له فهلا أذنت له قبل البلوغ في التجارة لاستبراء حاله كما يستبرأ بها بالإذن بعد البلوغ مع بقاء الحجر إلى إيناس الرشد وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن فكيف يعلم إيناس الرشد منه فقول المخالف لا يخلو من ترك الإبتلاء أو دفع المال قبل إيناس الرشد ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن أبي سلمة وهو صغير بتزويج أم سلمة إياه وروى عبدالله بن شداد أنه أمر سلمة بن أبي سلمة بذلك وهو صغير وفي ذلك دليل على جواز الإذن له في التصرف الذي يملكه عليه غيره من بيع أو شرى ألا ترى أنه يقتضي جواز توكيل

الأب إياه بشرى عبد للصغير أو بيع عبد له هذا هو معنى الإذن له في التجارة وأما تأويل من تأول قوله تعالى وابتلوا اليتامى على اختبارهم في عقولهم ودينهم فإن اعتبار الدين في دفع المال غير واجب باتفاق الفقهاء لأنه لو كان رجلا فاسقا ضابطا لأموره عالما بالتصرف في وجوه التجارات لم يجز أن يمنع ماله لأجل فسقه فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك غير واجب وإن كان رجلا ذا دين وصلاح إلا أنه غير ضابط لماله بغبن في تصرفه كان ممنوعا من ماله عند القائلين بالحجر لقلة الضبط وضعف العقل فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك لا معنى له وأما قوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ابن عباس ومجاهد والسدي قالوا هو الحلم وهو بلوغ حال النكاح من الإحتلام وأما قوله تعالى فإن آنستم منهم رشدا فإن ابن عباس قال فإن علمتم منهم ذلك وقيل أن أصل الإيناس هو الإحساس حكي عن الخليل وقال الله تعالى إني آنست نارا يعني أحسستها وأبصرتها وقد اختلف في معنى الرشد ههنا فقال ابن عباس والسدي الصلاح في العقل وحفظ المال وقال الحسن وقتادة الصلاح في العقل والدين وقال إبراهيم النخعي ومجاهد العقل وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى فإن آنستم منهم رشدا قال إذا أدرك بحلم وعقل ووقار قال أبوبكر إذا كان اسم الرشد يقع على العقل لتأويل من تأوله عليه ومعلوم أن الله تعالى شرط رشدا منكورا ولم يشرط سائر ضروب الرشد اقتضى ظاهر ذلك أن حصول هذه الصفة له بوجود العقل موجبا لدفع المال إليه ومانعا من الحجر عليه فهذا يحتج به من هذا الوجه في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ وهو مذهب إبراهيم ومحمد بن سيرين وأبي حنيفة وقد بينا هذه المسألة في سورة البقرة وقوله تعالى فادفعوا إليهم أموالهم يقتضي وجوب دفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد على ما بينا وهو نظير قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وهذه الشريطة معتبرة فيها أيضا وتقديره وآتوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا وآنستم منهم رشدا وأما قوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا فإن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور فتارة يكون السرف في التقصير وتارة في الإفراط لمجاوزة حد الجائز في الحالين وقوله تعالى وبدارا قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدي مبادرة والمبادرة الإسراع في الشيء فتقديره النهي عن أكل أموالهم مبادرة أن يكبروا فيطالبوا بأموالهم وفيها دلالة على أنه إذا صار في

حد الكبر استحق المال إذا كان عاقلا من غير شرط إيناس الرشد لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ وأفاد بقوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا أنه لا يجوز له إمساك ماله بعد ما يصير في حد الكبر ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر ههنا معنى إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده فهذا يدل على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة لأن مثله يكون جدا ومحال أن يكون جدا ولا يكون في حد الكبر والله أعلم
باب

أكل ولي اليتيم من ماله

قال الله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله فروى معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن في حجري أيتاما لهم أموال وهو يستأذنه أن يصيب منها فقال ابن عباس ألست تهنأ جرباءها قال بلى قال ألست تبغى ضالتها قال بلى قال ألست تلوط حياضها قال بلى قال ألست تفرط عليها يوم ورودها قال بلى قال فاشرب من لبنها غير ناهك في الحلب ولا مضر بنسل وروى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم ولا يكتسي عمامة فشرط في الحديث الأول عمله في مال اليتيم في إباحة الأكل ولم يشرط في حديث عكرمة وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال حدثني أبو الخير مرثد بن عبدالله اليزني أنه سأل أناسا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فقالوا فينا نزلت أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم وقد طعن في هذا الحديث من جهة سنده ويفسد أيضا من جهة أنه لو أبيح لهم الأكل لأجل عملهم لما اختلف فيه الغني والفقير فعلمنا أن هذا التأويل ساقط وأيضا في حديث ابن عباس إباحة الأكل دون أن يكتسي منه عمامة ولو كان ذلك مستحقا لعمله لما اختلف فيه حكم المأكول والملبوس فهذا أحد الوجوه التي تأولت عليه الآية وهو أن يقتصر على الأكل فحسب إذا عمل لليتيم وقال آخرون يأخذه فرضا ثم يقضيه وروى شريك عن ابن إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر قال إني أنزلت مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف وقضيت وروي عن عبيدة السلماني وسعيد بن

جبير وأبي العالية وأبي وائل ومجاهد مثل ذلك وهو أن يأخذ قرضا ثم يقضيه إذا وجد وقول ثالث قال الحسن وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح ومكحول أنه يأخذ منه ما يسد الجوعة ويواري العورة ولا يقضي إذا وجد وقول رابع وهو ما روي عن الشعبي أنه بمنزلة الميتة يتناوله عند الضرورة فإذا أيسر قضاه وإذا لم يوسر فهو في حل وقول خامس وهو ما روى مقسم عن ابن عباس فليستعفف قال بغناه ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال فلينفق على نفسه من ماله حتى لا يصيب من مال اليتيم شيئا حدثنا عبدالباقي بن قانع حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا منجاب بن الحارث قال حدثنا أبو عامر الأسدي قالا حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس بمعنى ذلك وقد روى عكرمة عنه أنه يقضي وروي عن ابن عباس أنه منسوخ وقال مجاهد في رواية أخرى فليأكل بالمعروف من مال نفسه ولا رخصة له في مال اليتيم وهو قول الحكم قال أبو بكر فحصل الاختلاف بين السلف على هذه الوجوه وروي عن ابن عباس أربع روايات على ما ذكرنا أحدها أنه إذا عمل لليتيم في إبله شرب من لبنها والثانية أنه يقضي والثالثة لا ينفق من مال اليتيم شيئا ولكنه يقوت على نفسه من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم والرابعة أنه منسوخ والذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه قرضا ولا غيره غنيا كان أو فقيرا ولا يقرضه غيره أيضا وقد روى إسماعيل بن سالم عن محمد قال أما نحن فلا نحب للوصي أن يأكل من مال اليتيم قرضا ولا غيره وهو قول أبي حنيفة وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أنه يأخذ قرضا إذا احتاج ثم يقضيه كما روي عن عمر ومن تابعه وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيما فإن خرج لتقاضي دين لهم أو إلى ضياع لهم فله أن ينفق ويكتسي ويركب فإذا رجع رد الثياب والدابة إلى اليتيم قال وقال أبو يوسف وقوله تعالى فليأكل بالمعروف يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قال أبو بكر جعل أبو يوسف الوصي في هذه الحال كالمضارب في جواز النفقة من ماله في السفر وقال ابن عبدالحكم عن مالك ومن كان له يتيم فخلط نفقته بماله فإن كان الذي يصيب اليتيم أكثر مما يصيب وليه من نفقته فلا بأس وإن كان الفضل لليتيم فلا يخلطه ولم يفرق بين الغني والفقير وقال المعافى عن الثوري يجوز لولي اليتيم أن يأكل طعام اليتيم ويكافئه عليه وهذا

يدل على أنه إذا كان يجيز له أن يستقرض من ماله وقال الثوري لا يعجبني أن ينتفع من ماله بشيء وإن لم يكن على اليتيم فيه ضرر نحو اللوح يكتب فيه وقال الحسن بن حي يستقرض الوصي من مال اليتيم إذا احتاج إليه ثم يقضيه ويأكل الوصي من مال اليتيم بقدر عمله فيه إذا لم يضر بالصبي قال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وقال تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوا إسرافا وبدارا أن يكبروا وقال تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وقال تعالى إن الذين يأكلون أموال ا ليتامى ظلما وقال تعالى وأن تقوموا لليتامى بالقسط وقال تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وهذه الآي محكمة حاظرة لمال اليتيم على وليه في حال الغنى والفقر وقوله تعالى ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا فأولى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة وهو من يأكل من مال نفسه بالمعروف لئلا يحتاج إلى مال اليتيم لأن الله تعالى قد أمرنا برد المتشابه إلى المحكم ونهانا عن اتباع المتشابه من غير رد له إلى المحكم قال الله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وتأويل من تأوله على جواز أخذ مال اليتيم قرضا أو غير قرض مخالف لمعنى المحكم ومن تأوله على غير ذلك فقد رده إلى المحكم وحمله على معناه فهو أولى وقد روي أن قوله تعالى فليأكل بالمعروف منسوخ رواه الحسن بن أبي لحسن بن عطية عن عطية أبيه عن ابن عباس ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف نسختها الآية التي تليها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وروى عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس مثله وروى عيسى بن عبيد الكندي عن عبيدالله بن عمر بن مسلم عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف منسوخ بقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فإن قيل روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال ليس لي مال ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالك

بماله وروى عمرو بن دينار عن الحسن العوفي عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يأكل ولي اليتيم من ماله بالمعروف غير متأثل منه مالا قيل له غير جائز الإعتراض

بهذين الخبرين على ما ذكرنا من الآي المقتضية لحظر مال اليتيم فإن صح ذلك فهو محمول على الوجه الذي يجوز وهو أن يعمل في مال اليتيم مضاربة فيأخذ منه مقدار ربحه وهذا جائز عندنا وقد روي عن جماعة من السلف نحو ذلك فإن قيل فإذا جاز أن يأخذ ربح مال اليتيم إذا عمل به مضاربة فلم لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه كما روي عن ابن عباس في إحدى الروايات عنه أنه إذا كان يهنأ جرباء الإبل ويبغي ضالتها ويلوط حياضها جاز له أن يشرب من لبنها غير مضر بنسل ولا ناهك حلبا وكما روي عن الحسن أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم قيل له لأنه لا يخلو الوصي إذا أعان في الإبل وعمل في النخل من أحد وجهين إما أن يأخذه على وجه الأجرة لعمله أو على غير الأجرة والعوض من العمل فإن كان يأخذه على وجه الأجرة فذلك يفسد من أربعة أوجه أحدها أن الذين أباحوا ذلك له إنما أباحوه في حال الفقر إذ لا خلاف أن الغني لا يجوز له أخذه وهو نص الكتاب في قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف واستحقاق الأجرة لا يختلف فيه الغني والفقير فبطل أن يكون أجرة من هذا الوجه والوجه الثاني أن الوصي لا يجوز له أن يستأجر نفسه لليتيم والوجه الثالث أن الذين اباحوا ذلك لم يشرطوا له شيئا معلوما والإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة والوجه الرابع أن من أباح ذلك له لم يجعله أجرة فبطل أن يكون ذلك أجرة وليس هو بمنزلة ربح المضاربة إذا عمل به الوصي لأن الربح الذي يستحقه من المال لم يكن قط مالا لليتيم ألا ترى أن ما يشرطه رب المال للمضارب من الربح لم يكن قط ملكا لرب المال ولو كان ملكا لرب المال مشروطا للمضارب بدلا من عمله لوجب أن يكون مضمونا عليه كالأجرة التي هي مستحقة من مال المستأجر بدلا من عمل الأجير هي مضمونة على المستأجر فلما لم يكن الربح المشروط للمضارب مضمونا على رب المال ثبت أنه لم يكن قط ملكا لرب المال وأنه إنما حدث على ملك المضارب ويدل على ذلك أن مريضا لو دفع مالا مضاربة وشرط للمضارب تسعة أعشار الربح وهو أكثر من ربح مثله أن ذلك جائز ولم يحتسب بالمشروط للمضارب من ذلك من مال المريض إن مات من مرضه وإن ذلك ليس بمنزلة ما لو استأجره بأكثر من أجرة مثله فيكون ذلك من الثلث فليس إذا في أخذه ربح المضاربة أخذ شيء من مال اليتيم فإن قيل هلا كان الوصي في ذلك كسائر العمال والقضاة الذين يعملون ويأخذون أرزاقهم لأجل عملهم

للمسلمين فكذلك الوصي إذا عمل لليتيم جاز له أخذ رزقه بقدر عمله قيل له لا خلاف بين الفقهاء أن الوصي لا يجوز له أخذ شيء من مال اليتيم لأجل عمله إذا كان غنيا وقد حظر ذلك عليه نص التنزيل في قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ولا خلاف مع ذلك أن القضاة والعمال جائز لهم أخذ أرزاقهم مع الغني ولو كان ما أخذه ولي اليتيم من ماله يجري مجرى رزق القضاة والعمال جاز له أن يأخذه في حال الغنى فدل ذلك على أن ولي اليتيم لا يستحق رزقا من ماله ولا خلاف أيضا أن القاضي لا يجوز له أن يأخذ من مال اليتيم شيئا وإليه القيام بأمر الأيتام فثبت بذلك أن سائر الناس ممن لهم الولاية على الأيتام لا يجوز لهم أخذ شيء من أموالهم لا قرضا ولا غيره كما لا يأخذه القاضي فقيرا كان أو غنيا فإن قيل فما الفرق بين رزق القاضي والعامل وبين أخذ ولي اليتيم من ماله مقدار الكفاية وبين أخذ الأجرة قيل له إن الرزق ليس بأجرة لشيء وإنما هو شيء جعله الله له ولكل من قام بشيء من أمور المسلمين ألا ترى أن الفقهاء لهم أخذ الأرزاق ولم يعملوا شيئا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن اشتغالهم بالفتيا وتفقيه الناس فرض ولا جائز لأحد أخذ الأجرة على الفروض والمقاتلة وذريتها يأخذون الأرزاق وليست بأجرة وكذلك الخلفاء وقد كان للنبي ص -

سهم من الخمس والفيء وسهم من الغنيمة إذا حضر القتال وغير جائز لأحد أن

يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يأخذ الأجر على شيء مما يقوم به من أمور الدين وكيف يجوز ذلك مع قول الله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين و قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى فثبت بذلك أن الرزق ليس بأجرة ويدلك على هذا أنه قد تجب للفقراء والمساكين والأيتام في بيت المال الحقوق ولا يأخذونها بدلا من شيء فأخذ الأجرة للقاضي ولمن قام بشيء من أمور الدين غير جائز وقد منع القاضي أن يقبل الهدية وسئل عبدالله بن مسعود عن قوله تعالى أكالون للسحت أهو الرشا قال لا ذاك كفر إنما هو هدايا العمال وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال هدايا الأمراء غلول فالقاضي ممنوع من أخذ الأجرة على شيء من أمر القضاء ومحظور عليه قبول الهدايا وتأولها السلف على أنها السحت المذكور في كتاب الله تعالى وولي اليتيم لا يخلو فيما يأخذه من مال اليتيم من أن يأخذه أجرة أو على سبيل رزق القاضي والعامل ومعلوم أن الأجرة إنما تكون على عمل معلوم ومدة معلومة

وأجر معلوم وينبغي أن يتقدم له عقد إجارة ويستوي فيها الغني والفقير ومن يجيز له أخذ شيء من مال اليتيم على وجه القرض أو على جهة غير القرض فإنه لا يجعله أجرة لما ذكرنا ولاختلاف حكم الغني والفقير عندهم فيه فثبت أنه ليس بأجرة ولا يجوز له أن يأخذه على حسب ما يأخذه القضاة من الأرزاق لاستواء حال الغني والفقير من القضاة فيما يأخذونه من الأرزاق واختلاف الغني والفقير عند مجيزي أخذ ذلك من مال اليتيم ولأن الرزق إنما يجب في بيت مال المسلمين لا في مال أحد بعينه من الناس فالمشبه لولي اليتيم فيما يجيز له أخذ شيء من ماله بالقاضي والأجير فيما يأخذانه مغفل للواجب عليه ويدل على أن ولي اليتيم لا يحل له أخذ شيئ من ماله قول النبي صلى الله عليه وسلم -

في غنائم خيبر لا يحل لي مما أفاء الله عليكم مثل هذه يعني وبرة أخذها من

بعيره إلا الخمس والخمس مردود فيكم فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يتولاه من مال المسلمين كما ذكرنا فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم أحرى أن يكون كذلك وأيضا لما كان دخول الوصي في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة كان بمنزلة المستبضع فلا أجرة له ولا يحل له أخذ شيء منه قرضا ولا غيره كما لا يجوز ذلك للمستبضع وقوله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم قال أبو بكر الآي التي تقدم ذكرها في أمر الأيتام تدل على أن سبيل الأيتام أن يلي عليهم غيرهم في حفظ أموالهم والتصرف عليهم فيما يعود نفعه عليهم وهم وصي الأب أو الجد إن لم يكن وصي أب أو وصي الجد إن لم يكن أحد من هؤلاء أو أمين حاكم عدل بعد أن يكون الأمين أيضا عدلا وكذلك شرط الأوصياء والجد والأب وكل من يتصرف على الصغير لا يستحق الولاية عليه إلا أن يكون عدلا مأمونا فأما الفاسق والمتهم من الآباء والمرتشي من الحكام والأوصياء والأمناء غير المأمونين فإن واحدا من هؤلاء غير جائز له التصرف على الصغير ولا خلاف في ذلك نعلمه ألا ترى أنه لا خلاف بين المسلمين في أن القاضي إذا فسق بأخذ الرشا أو ميل إلى هوى وترك الحكم أنه معزول غير جائز الحكم فكذلك حكم الله فيمن ائتمنه على أموال الأيتام من قاض أو وصي أوأمين أو حاكم فغير جائز ثبوت ولايته في ذلك إلا على شرط العدالة وصحة الأمانة وقد أمر الله تعالى أولياء الأيتام بالإشهاد عليهم بعد البلوغ بما يدفعون إليهم من أموالهم وفي ذلك ضروب من الأحكام أحدها الاحتياط لكل واحد من اليتيم ووالي ماله فأما اليتيم فلأنه إذا قامت عليه البينة

بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له وأما الوصي فلأن يبطل دعوى اليتيم بأنه لم يدفعه إليه كما أمر الله تعالى بالإشهاد على البيوع احتياطا للمتبايعين ووجه آخر في الإشهاد وهو أنه يظهر أداء أمانته وبراءة ساحته كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم -

الملتقط بالإشهاد على اللقطة في حديث عياض بن حماد المجاشعي أن النبي ص

- قال من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فأمره بالإشهاد لتظهر أمانته وتزول عنه التهمة والله الموفق
ذكر

اختلاف الفقهاء في تصديق الوصي على دفع المال إلى اليتيم

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد في الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه أنه يصدق وكذلك لو قال أنفقت عليه في صغره صدق في نفقة مثله وكذلك لو قال هلك المال وهو قول سفيان الثوري وقال مالك لا يصدق الوصي أنه دفع المال إلى اليتيم وهو قول الشافعي قال لأن الذي زعم أنه دفعه إليه غير الذي ائتمنه كالوكيل بدفع المال إلى غيره لا يصدق إلا ببينة وقال الله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم قال أبو بكر وليس في الأمر بالإشهاد دليل على أنه غير أمين ولا مصدق فيه لأن الإشهاد مندوب إليه في الأمانات كهو في المضمونات ألا ترى أنه يصح الإشهاد على رد الأمانات من الودائع كما يصح في أداء المضمونات من الديون فإذا ليس في الأمر بالإشهاد دلالة على أنه غير مصدق فيه إذا لم يشهد فإن قيل إذا كان مصدقا في الرد فما معنى الإشهاد مع قبول قوله بغير بينة قيل له فيه ما قدمنا ذكره من ظهور أمانته والاحتياط له في زوال التهمة عنه في أن لا يدعى عليه بعد ما قد ظهر رده وفيه الاحتياط لليتيم في أن لا يدعي ما يظهر كذبه فيه وفيه ايضا سقوط اليمين عن الوصي إذا كانت له بينة في دفعه إليه ولو لم يشهد وادعى اليتيم أنه لم يدفعه كان القول قول الوصي مع يمينه وإذا أشهد فلا يمين عليه فهذه المعاني كلها مضمنة بالإشهاد وإن كان أمانة في يده ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه فهو بمنزلة الودائع والمضاربات وما جرى مجراها من الأمانات فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة والدليل على أنه أمانة أن اليتيم لو صدقه على الهلاك لم يضمنه كما أن المودع إذا صدق المودع في هلاك الوديعة لم يضمنه وأما قول الشافعي أنه لم يأتمنهم الأيتام لم يصدقوا

فقول ظاهر الإختلال بعيد من معاني الفقه منتقض فاسد لأنه لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم قد دفعته إليك لأنه لم يأتمنه وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصغير قد دفعت إليك مالك ان لا يصدقه لأنه لم يأتمنه ويلزمه أيضا أن يوجب عليهم الضمان إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه وأما تشبيهه إياه بالوكيل بدفع المال إلى غيره فتشبيه بعيد ومع ذلك فلا فرق بينهما من الوجه الذي صدقنا فيه الوصي لأن الوكيل مصدق أيضا في براءة نفسه غير مصدق في إيجاب الضمان ودفعه إلى غيره وإنما لم يقبل قوله على المأمور بالدفع إليه فأما في براءة نفسه فهو مصدق كما صدقنا الوصي على الرد بعد البلوغ وأيضا فإن الوصي في معنى من يتصرف على اليتيم بإذنه ألا ترى أنه يجوز تصرفه عليه في البيع والشرى كجواز تصرف أبيه فإذا كان إمساك الوصي المال بائتمان الأب له عليه وإذن الأب جائز على الصغير صار كأنه ممسك له بعد البلوغ بإذنه فلا فرق بينه وبين المودع وقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية قال أبو بكر قد انتظمت هذه الجملة عموما ومجملا فأما العموم فقوله للرجال وللنساء وقوله تعالى مما ترك الوالدان والأقربون فلذلك عموم في إيجاب الميراث للرجال وللنساء من الوالدين والأقربين فدل من هذه الجهة على إثبات مواريث ذوي الأرحام لأن أحدا لا يمتنع أن يقول إن العمات والخالات والأخوال وأولاد البنات من الأقربين فوجب بظاهر الآية إثبات ميراثهم إلا أنه لما كان قوله نصيب مجملا غير مذكور المقدار في الآية امتنع استعمال حكمه إلا بورود بيان من غيره إلا أن الاحتجاج بظاهر الآية في إثبات ميراث ما لذوي الأرحام سائغ وهذا مثل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وقوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده عطفا على ما قدم ذكره من الزرع والثمرة فهذه ألفاظ قد اشتملت على العموم والمجمل فلا يمنع ما فيها من الإجمال من الإحتجاج بعمومها متى اختلفنا فيما انتظمه لفظ العموم وهو أصناف الأموال الموجب فيها وإن لم يصح الاحتجاج بما فيها من المجمل عند اختلافنا في المقدار الواجب كذلك متى اختلفنا في الورثة المستحقين للميراث ساغ الاحتجاج بعموم قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية

ومتى اختلفنا في المقدار الواجب لكل واحد منهم احتجنا في إثباته إلى بيان من غيره فإن قيل لما قال نصيبا مفروضا ولم يكن لذوي الأرحام نصيب مفروض علمنا أنهم لم يدخلوا في مراد الآية قيل له ما ذكرت لا يخرجهم من حكمها وكونهم مرادين بها لأن الذي يجب لذوي الأرحام عند موجبي مواريثهم هو نصيب مفروض لكل واحد منهم وهو معلوم مقدر كأنصباء ذوي السهام لا فرق بينهما من هذا الوجه وإنما أبان الله تعالى أن لكل واحد من الرجال والنساء نصيبا مفروضا غير مذكور المقدار في الآية لأنه مؤذن ببيان وتقدير معلوم له يرد في التالي فكما ورد البيان في نصيب الوالدين والأولاد وذوي السهام بعضها بنص التنزيل وبعضها بنص السنة وبعضها بإجماع الأمة وبعضها بالقياس والنظر كذلك قد روي بيان أنصباء ذوي الأرحام بعضها بالسنة وبعضها بدليل الكتاب وبعضها باتفاق الأمة من حيث أوجبت الآية لذوي الأرحام أنصباء فلم يجز إسقاط عمومها فيهم ووجب توريثهم بها ثم إذا استحقوا الميراث بها كان المستحق من النصيب المفروض على ما ذهب إليه القائلون بتوريث ذوي الأرحام فيهم فهم وإن كانوا مختلفين في بعضها فقد اتفقوا في البعض وما اختلفوا فيه لم يخل من دليل لله تعالى يدل على حكم فيه فإن قيل قد روي عن قتادة وابن جريج أن الآية نزلت على سبب وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث فنزلت الآية وقال غيرهما أن العرب كانت لا تورث إلا من طاعن بالرمح وزاد عن الحريم والمال فأنزل الله تعالى هذه الآية إبطالا لحكمهم فلا يصح اعتبار عمومها في غير ما وردت فيه قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن السبب الذي ذكرت غير مقصور على الأولاد وذوي السهام من القرابات الذين بين الله حكمهم في غيرها وإنما السبب أنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وجائز أن يكونوا قد كانوا يورثون ذوي الأرحام من الرجال دون الإناث فليس فيما ذكرت إذا دليل على أن السبب كان توريث الأولاد ومن ذكرهم الله تعالى من ذوي السهام في آية المواريث ومن جهة أخرى أنها لو نزلت على سبب خاص لم يوجب ذلك تخصيص عموم اللفظ بل الحكم للعموم دون السبب عندنا فنزولها على سبب ونزولها مبتدأة من غير سبب سواء وأيضا فإن الله قد ذكر مع الأولاد غيرهم من الأقربين في قوله تعالى مما ترك الوالدان والأقربون فعلمنا أنه لم يرد به ميراث الأولاد دون

سائر الأقربين ويحتج بهذه الآية في توريث الأخوة والأخوات مع الجد كنحو احتجاجنا بها في توريث ذوي الأرحام وقوله تعالى نصيبا مفروضا يعني والله أعلم معلوما مقدرا ويقال إن أصل الفرض الحز في القداح علامة لها يميز بينها والفرضة العلامة في قسم الماء يعرف بها كل ذوي حق نصيبه من ا لشرب فإذا كان أصل الفرض هذا ثم نقل إلى المقادير المعلومة في الشرع أو إلى الأمور الثابتة اللازمة وقد قيل إن أصل الفرض الثبوت ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضا لثبوته والفرض في الشرع ينقسم إلى هذين المعنيين فمتى أريد به الوجوب كان المفروض في أعلى مراتب الإيجاب وقد اختلف في معنى الفرض والواجب في الشرع من بعض الوجوه وإن كان كل مفروض واجبا من حيث كان الفرض يقتضي فارضا وموجبا له وليس كذلك الواجب لأنه قد يجب من غير إيجاب موجب له ألا ترى أنه جائز أن يقال أن ثواب المطيعين واجب على الله في حكمته ولا يجوز أن يقال إنه فرض عليه إذ كان الفرض يقتضي فارضا وقد يكون واجبا في الحكمة غير مقتض موجبا وأصل الوجوب في اللغة هو ا لسقوط يقال وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط إذ1 سقط وسمعت وجبة يعني سقطة وقال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها يعني سقطت فالفرض في أصل اللغة أشد تأثيرا من الواجب وكذلك حكمهما في الشرع إذ كان الحز الواقع ثابت الأثر وليس كذلك الوجوب قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى الآية قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وأبو صالح هي منسوخة بالميراث وقال ابن عباس وعطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد والزهري أنها محكمة ليست بمنسوخة وروى عطية عن ابن عباس يعني عند قسمة الميراث وذلك قبل أن ينزل القرآن فأنزل الله تعالى بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى ففي هذه الرواية عن ابن عباس أنها كانت واجبة عند قسمة الميراث ثم نسخت بالميراث وجعل ذلك في وصية الميت لهم وروى عكرمة عنه أنها ليست بمنسوخة وهي في قسمة الميراث ترضخ لهم فإن كان في المال تقصيرا اعتذر إليهم وهو قوله تعالى وقولوا لهم قولا معروفا وروى الحجاج عن أبي إسحاق أن أبا موسى الأشعري وعبدالرحمن بن بكر كانا يعطيان من حضر من هؤلاء وقال قتادة عن الحسن قال قال أبو موسى هي محكمة وروى أشعث عن ابن سيرين عن حميد بن عبدالرحمن

قال ولي أبي ميراثا فأمر بشاة فذبحت ثم صنعت ولما قسم ذلك الميراث أطعمهم ثم تلا وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى الآية وروى محمد بن سيرين عن عبيدة مثله وقال لولا هذه الآية لكانت هذه الشاة من مالي وذكر أنه كان من مال يتيم قد وليه وروى هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال هذه الآية يتهاون بها الناس وقال هما وليان أحدهما يرث والآخر لا يرث والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم ويعطيهم والذي لا يرث هو الذي أمر أن يقول لهم قولا معروفا ويقول هذا المال لقوم غيب أو لأيتام صغار ولكم فيه حق ولسنا نملك أن نعطي منه شيئا فهذا القول المعرف قال هي محكمة وليست بمنسوخة فحمل سعيد بن جبير قوله فارزقوهم على أنهم يعطون أنصباءهم من الميراث والقول المعرف للآخرين فكانت فائدة الآية عنده أن حضر بعض الورثة وفيهم غائب أو صغير أنه يعطى الحاضر نصيبه من الميراث ويمسك نصيب الغائب والصغير فإن صح هذا التأويل فهو حجة لقول من يقول في الوديعة إذا كانت بين رجلين وغاب أحدهما أن للحاضر أن يأخذ نصيبه ويمسك المودع نصيب الغائب وهو قول أبي يوسف ومحمد وأبو حنيفة يقول لا يعطي أحد المودعين شيئا إذا كانا شريكين فيه حتى يحضر الآخر وروى عطاء عن سعيد بن جبير وقولوا لهم قولا معروفا قال يقول عدة جميلة إن كان الورثة صغارا يقول أولياء الورثة لهؤلاء الذين لا يرثون من قرابة الميت واليتامى والمساكين أن هؤلاء الورثة صغار فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حكم ويتبعوا فيه وصية ربهم فحصل اختلاف السلف في ذلك على أربعة أوجه قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وابو صالح أنها منسوخة بالميراث والثاني رواية عكرمة عن ابن عباس وقول عطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد أنها ثابتة الحكم غير منسوخة وهي في الميراث والثالث وهو قول ثالث عن ابن عباس أنها في وصية الميت لهؤلاء منسوخة عن الميراث وروي نحوه عن زيد بن أسلم قال زيد بن أسلم هذا شيء أمر به الموصي في الوقت الذي يوصي فيه واستدل بقوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا قال يقول له من حضره اتق الله وصلهم وبرهم وأعطهم والرابع قول سعيد بن جبير في رواية أبي بشر عنه أن قوله فارزقوهم منه هو الميراث نفسه وقولوا لهم قولا معروفا لغير أهل الميراث فأما الذين قالوا إنها منسوخة فإنه كان عندهم على الوجوب قبل نزول الميراث

فلما نزلت المواريث وجعل لكل وارث نصيب معلوم صار ذلك منسوخا وأما الذين قالوا ثابتة الحكم فإنه محمول عندنا على أنهم رأوها ندبا واستحبابا لا حتما وإيجابا لأنها لو كانت واجبة مع كثرة قسمة المواريث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -

والصحابة ومن بعدهم لنقل وجوب ذلك واستحقاقه لهؤلاء كما نقلت المواريث

لعموم الحاجة إليه فلما لم يثبت وجوب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة دل ذلك على أنه استحباب ليس بإيجاب وما روي عن عبدالرحمن وعبيدة وأبي موسى في ذلك فجائر أن يكون الورثة كانوا كبارا فذبح الشاة من جملة المال بإذنهم وما روي في الحديث أن أبي عبيدة قسم ميراث أيتام فذبح شاة فإن هذا على أنهم كانوا يتامى فكبروا لأنهم لو كانوا صغارا لم تصح مقاسمتهم ويدل على أنه ندب ما روى عطاء عن سعيد بن جبير أن الوصي يقول لهؤلاء الحاضرين من أولي القربى وغيرهم أن هؤلاء الورثة صغار ويعتذرون إليهم بمثله ولو كانوا مستحقين له على الإيجاب لوجب إعطاؤهم صغارا كان الورثة أو كبارا وأيضا فإن الله تعالى قد قسم المواريث بين ا لورثة وبين نصيب كل واحد منهم في آية المواريث ولم يجعل فيها لهؤلاء شيئا وما كان ملكا لغيره فغير جائز إزالته إلى غيره إلا بالوجوه التي حكم الله بإزالته بها لقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال ص - دماؤكم وأموالكم عليكم حرام وقال لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وهذا كله يوجب أن يكون إعطاء هؤلاء الحاضرين عند القسمة استحبابا لا إيجابا وأما قوله تعالى وقولوا لهم قولا معروفا فقد روي عن ابن عباس أنه إذا كان في المال تقصير اعتذر إليهم وعن سعيد بن جبير قال يعطي الميراث أهله وهو معنى قوله تعالى فارزقوهم منه في هذه الرواية ويقول لمن لا يرث إن هذا المال لقوم غيب ولأيتام صغار ولكم فيه حق ولسنا نملك أن نعطي منه شيئا فمعناه عنده ضرب من الاعتذار إليهم وقال بعض أهل العلم إذا أعطوهم عند القسمة شيئا لا يمن عليهم ولا ينتهرهم ولا يسيء اللفظ فيما يخاطبهم به لقوله تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وقوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وقوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية اختلف السلف في تأويله فروي عن ابن عباس رواية وعن سعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي قالوا هو الرجل يحضره الموت

فيقول له من يحضره اتق الله أعطهم صلهم برهم ولو كانوا هم الذين يوصون لأحبوا أن يبقوا لأولادهم قال حبيب بن أبي ثابت فسألت مقسما عن ذلك فقال لا ولكنه الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره اتق الله وأمسك عليك مالك ولو كانوا ذوي قرابته لأحبوا أن يوصي لهم فتأوله الأولون على نهي الحاضرين عن الحض على الوصية وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها وقال الحسن في رواية أخرى هو الرجل يكون عند الميت فيقول أوص بأكثر من الثلث من مالك وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال في ولاية مال اليتيم وحفظه أن عليهم أن يعملوا فيه ويقولوا بمثل ما يحب أن يعمل ويقال في أموال أيتامهم وضعاف ذريتهم بعد موتهم وجائز أن تكون هذه المعاني التي تأولها السلف عليها الآية مرادة بها إلا أن ما نهى عنه من الأمر بالوصية أن النهي عنها إذا قصد المشير بذلك إلى الإضرار بالورثة أو بالموصى لهم مما لا يرضاه هو لنفسه لو كان مكان هؤلاء وذلك بأن يكون المريض قليل المال له ذرية ضعفاء فيأمره الذي يحضره باستغراق الثلث للوصية ولو كان هو مكانه لم يرض بذلك وصية له لأجل ورثته وهذا يدل على أن المستحب له إذا كان له ورثة ضعفاء وهو قليل المال أن لا يوصي بشيء ويتركه لهم أو يوصي لهم بأقل من الثلث وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - لسعد حين قال أوصي بجميع مالي فقال لا إلى أن رده إلى الثلث فقال الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن الورثة إذا كانوا فقراء فترك الوصية ليستغنوا به أفضل من فعلها وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يقول الأفضل لمن له مال كثير الوصية بما يريد أن يوصي به على وجه القربة من ثلث ماله والأفضل لمن ليس له مال كثير أن لا يوصي منه بشيء وأن يبقيه لورثته والنهي منصرف أيضا إلى من يأمره من الحاضرين بأن يوصي بأكثر من الثلث على ما روي عن الحسن لأن ذلك لا يجوز أن يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم - الثلث كثير ولنهيه سعدا عن الوصية بأكثر من الثلث وجائز أن يكون ما قاله مقسم مرادا بأن يقول الحاضر لا توص بشيء ولو كان من ذوي قرابته لأحب أن يوصي له فيشير عليه بما لا يرضاه لنفسه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - معنى ذلك حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا هدبة قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب

لنفسه من الخير وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال حدثنا سهل بن عثمان قال حدثنا زياد بن عبدالله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتى إليه قال أبو بكر فهذا معنى قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا فنهاه عز و جل أن يشير على غيره ويأمره بما لا يرضاه لنفسه ولأهله ولورثته وأمر الله تعالى بأن يقول الحاضرون قولا سديدا وهو العدل والحق الذي لا خلل فيه ولا فساد في إجحاف بوارث أو حرمان لذي قرابة وقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أنه لما نزلت هذه الآية عزل من كان في حجره يتيم طعامه عن طعامه وشرابه عن شرابه حتى فسد حتى أنزل الله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح فرخص لهم في الخلطة على وجه الإصلاح قال أبو بكر قد خص الله تعالى الأكل بالذكر وسائر الأموال غير المأكول منها محظور إتلافه من مال اليتيم كحظر المأكول منه ولكنه خص الأكل بالذكر لأنه أعظم ما يبتغى له الأموال وقد بينا ذلك ونظائره فيما قد سلف وقوله تعالى إنما يأكلون في بطونهم نارا روي عن السدي أن لهب النار يخرج من فمه ومسامعه وأنفه وعينيه يوم القيامة يعرفه من رآه أنه أكل مال اليتيم وقيل أنه كالمثل لأنهم يصيرون به إلى جهنم فتمتلئ بالنار أجوافهم ومن جهال الحشو وأصحاب الحديث من يظن أن قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما منسوخ بقوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم وقد أثبته بعضهم في الناسخ والمنسوخ لما روي أنه لما نزلت هذه الآية عزلوا طعام اليتيم وشرابه حتىنزل قوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم وهذا القول من قائله يدل على جهله بمعنى النسخ وبما يجوز نسخه مما لا يجوز ولا خلاف بين المسلمين أن أكل مال اليتيم ظلما محظور وأن الوعيد المذكور في الآية قائم فيه على اختلاف منهم في إلحاق الوعيد به في الآخرة لا محالة أو جواز الغفران فأما النسخ فلا يجيزه عاقل في مثله وجهل هذا الرجل أن الظلم لا تجوز إباحته بحال فلا يجوز نسخ حظره وإنما عزل من كان في حجره يتيم من الصحابة طعامه عن طعامه لأنه خاف أن يأكل من مال

اليتيم مالا يستحقه فتلحقه سمة الظلم ويصير من أهل الوعيد في الآية واحتاطوا بذلك فلما نزل قوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم زال عنهم الخوف في الخلطة بعد أن يقصدوا الإصلاح بها وليس فيه إباحة لأكل مال اليتيم ظلما حتى يكون ناسخا لقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما والله أعلم تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله باب الفرائض

بسم الله الرحمن الرحميم
باب

الفرائض

قال أبو بكر قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين أحدهما النسب والآخر السبب فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا الإناث وإنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة روى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم إلى أن أنزل الله تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن إلى قوله تعالى والمستضعفين من الولدان وأنزل الله تعالى قوله يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -

على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن

نقلوا عنه إلى غيره بالشريعة
قال ابن جريج قلت لعطاء أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أقر الناس على ما أدركهم ص

- من طلاق أو نكاح أو ميراث قال لم يبلغنا إلا ذلك وروى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن سيرين قال توارث المهاجرين والأنصار بنسبهم الذي كان في الجاهلية وقال ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أقره على ذلك إلا الربا فما أدرك الإسلام من ربا لم يقبض رد البائع رأس

ماله وطرح الربا
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير فإن بعث الله تعالى محمدا ص - والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه والإ فهم ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم وهو على ما روي عن ابن عباس أنه قال الحلال ما أحل الله تعالى والحرام ما حرم الله تعالى وما سكت عنه فهو عفو فقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشرك وعبادة الأوثان ودفن البنات وكثير من الأشياء المقبحة في العقول وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول فبعث الله نبيه ص - داعيا إلى توحيد وترك ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودفن البنات والسائبة والوصيلة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى

أوثانهم وتركهم فيما لم يكن العقل يحظره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه فكان ذلك جائزا منهم إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتلة منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آي المواريث وكان السبب الذي يتوارثون به شيئين أحدهما الحلف والمعاقدة والآخر التبني ثم جاء الإسلام فتركوا برهة من الدهر على ما كانوا عليه ثم نسخ فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنص التنزيل ثم نسخ وقال شيبان عن قتادة في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك قال فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعا له فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شيء فأنزل الله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان يعطى من ميراثه وقال عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلة الرجل فيعاقده فيقول ترثني وأرثك وأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت

رجلا فمات فنزلت والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا فأخبر هؤلاء السلف ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتا في الإسلام من طريق السمع لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية وقال بعضهم لم يكن ذلك ثابتا بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مقرين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عببيد قال حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله

تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان حلفاء في الجاهلية فأمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبدالله بن الزبير في قوله تعالى واولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض قال نزلت هذه الآية في العصبات كان الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وأرثك فنزلت وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن إبراهيم عن علي بن طلحة عن ابن عباس والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يقول ترثني وأرثك فنسختها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا قال إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى وأولوا الأرحام وأن قوله تعالى فآتوهم نصيبهم إنما أريد به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث وأولي الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف لأن قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم يقتضي نصيبا ثابتا لهم والعقل والمشورة والوصية ليست بنصيب ثابت وهو مثل قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب المفهوم من ظاهره إثبات نصيب من الميراث كذلك قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قد اقتضى ظاهره إثبات نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة والمشورة يستوي فيها سائر الناس فليست إذا بنصيب فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له والوصية إن لم تكن مستحقة واجبة فليست بنصيب فتأويل الآية على النصيب المسمى له في عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون وهذا عندنا ليس بمنسوخ وإنما حدث وارث آخر هو أولى منهم كحدوث ابن لمن له أخ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث إلا أن الإبن أولى منه وكذلك أولوا الأرحام أولى من الحليف فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث له
وأما الميراث بالدعوة والتبني فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه وقد كان ذلك حكما ثابتا في الإسلام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -

تبنى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال تعالى فلما قضى زيد منها

وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقال تعالى أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنى سالما فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة إلى أن أنزل الله تعالى إدعوهم لآبائهم رواه الزهري عن عروة عن عائشة فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبني ونسخ ميراثه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال ابن المسيب إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة وأبى الله أن يجعل للمدعين ميراثا ممن ادعاهم ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي رد عليه أمرهم قال أبو بكر وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منتظما للحلف والتبني جميعا إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نقلوا عنه وبعضه بنص ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله
وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين أحدهما نسب والآخر سبب ليس بنسب فأما المستحق بالنسب فما نص الله تعالى عليه من كتابه وبين رسوله ص - بعضه وأجمعت الأمة على بعضه وقامت الدلالة على بعض وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما روي نسخه وإن ذلك عندنا ليس بنسخ وإنما جعل وارث أولى من وارث
وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث

الأعرابي المهاجر فنسختها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وقال بعضهم نسخها قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون وكانوا يتوارثون بالأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينهم وروى هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله ص

- آخى بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك فارتث كعب يوم أحد فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته ولو مات كعب عن الضح والريح لورثه الزبير حتى أنزل الله تعالى اولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم وروى ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فإن كان المهاجرون والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخى بينه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

دون أخيه فلما نزلت هذه الآية

ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ثم قال تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة فذكر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم أريد به معاقدة الأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينهم وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى

مالكم من ولايتهم من شيء أن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة والإسلام فكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فنسخ الله تعالى ذلك بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين وروى جعفر بن سليمان عن الحسن قال كان الأعربي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا وإن كان ذا قربى ليحثهم بذلك على الهجرة فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فنسخت هذه الآية تلك إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا فرخص الله للمسلم أن يوصي لقرابته من اليهود والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه كان ذلك في الكتاب مسطورا قال مكتوبا فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبني والحلف والهجرة والمؤاخاة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم نسخ الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة وأما الحلف فقد بينا أنه جعلت القرابة أولى منه ولم ينسخ إذا لم تكن قرابة وجائز أن يجعل له جميع ماله أو بعضه ومن الأسباب التي عقد بها التوارث في الإسلام ولاء العتاقة والزوجية وولاء الموالاة وهو عندنا يجري مجرى الحلف وإنما يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة فجميع ما انعقدت عليه مواريث الإسلام السبب والنسب والسبب كان على أنحاء مختلفة

منها المعاقدة بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -

والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة فأما إيجاب الميراث

بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بيينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - بها فمنسوخ مع وجود العصبات وذوي الأرحام وولاء العتاقة والموالاة والزوجية هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب المشروط لذلك وأما النسب الذي يستحق به الميراث فينقسم إلى أنحاء ثلاثة ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام وسنبين ذلك في موضعه فأما الآيات الموجبة لميراث ذوي الأنساب من ذوي السهام والعصبات وذوي الأرحام فقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان نسخ بهما في رواية عن ابن عباس وغيره من السلف ما كان عليه الأمر في توريث الرجال المقاتلة دون الذكور الصغار والإناث وقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم فيه بيان للنصيب المفروض في قوله تعالى للرجال نصيب إلى قوله تعالى نصيبا مفروضا والنصيب المفروض هو الذي بين مقداره في قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين فقال قد نسخ هذا قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقال مجاهد كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحب فجعل للولد الذكر مثل حظ الأنثيين وجعل لكل واحد من الأبوين السدس مع الولد قال ابن عباس وقد كان الرجل إذا مات وخلف زوجته اعتدت سنة كاملة في بيته ينفق عليها من تركته وهو قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ ذلك بالربع أو الثمن وقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض نسخ به التوارث بالحلف وبالهجرة وبالتبني على النحو الذي بينا وكذلك قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم هي آية محكمة غير منسوخة وهي موجبة لنسخ الميراث بهذه الأسباب التي ذكرنا لأنه جعل الميراث للمسلمين فيها فلا يبقى لأهل هذه الأسباب شيء وذلك موجب لسقوط حقوقهم في هذه الحال وروى محمد بن عبدالله بن عقيل عن جابر

ابن عبدالله قال جاءت امرأة من الأنصار ببنتين لها فقالت يا رسول الله هاتان بنتا ثابت ابن قيس قتل معك يوم أحد ولم يدع لهما عمهما مالا إلا أخذه فما ترى يا رسول الله فوالله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يقضي الله في ذلك فنزلت سورة النساء

يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية فقال ص -

ادع إلى المرأة وصاحبها فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما

بقي فلك
قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر معاني منها أن العم قد كان يستحق الميراث دون البنتين على عادة أهل الجاهلية في توريث المقاتلة دون النساء والصبيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك حين سألته المرأة بل أقر الأمر على ما كان عليه وقال لها يقضي الله في ذلك ثم لما نزلت الآية أمر العم بدفع نصيب البنتين والمرأة إليهن وهذا يدل على أن العم لم يأخذ الميراث بديا من جهة التوقيف بل على عادة أهل الجاهلية في المواريث لأنه لو كان كذلك لكان إنما يستأنف فيما يحدث بعد نزول الآية وما قد مضى على حكم منصوص متقدم لا يعترض عليه بالنسخ فدل على أنه أخذه على حكم الجاهلية التي لم ينقلوا عنها وروى سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال مرضت فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعودني فأتاني وقد أغمى على فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ثم رش علي من وضوئه فأفقت فقلت يا رسول الله كيف تقضي في مالي فلم يجبني

بشيء حتى نزلت آية المواريث يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين قال أبو بكر ذكر في الحديث الأول قصة المرأة مع بنتيها وذكر في هذا الحديث أن جابرا سأله عن ذلك وجائز أن يكون الأمران جميعا قد كانا سألته المرأة فلم يجبها منتظرا للوحي ثم سأله جابر في حال مرضه فنزلت الآية وهي ثابتة الحكم مثبتة للنصيب المفروض في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية
ولم يختلف أهل العلم في أن المراد بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم أولاد الصلب وإن ولد الولد غير داخل مع ولد الصلب وأنه إذا لم يكن ولد الصلب فالمراد أولاد البنين دون أولاد البنات فقد انتظم اللفظ أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب وهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى لولد فلان أنه لولده لصلبه فإن لم يكن له ولد لصلبه فهو لولد ابنه
وقوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قد أفاد أنه إن كان ذكرا أو أنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم وأفاد أيضا

أنهم إذا كانوا جماعة ذكورا وإناثا أن لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهما وأفاد أيضا أنه إذا كان مع الأولاد ذوو سهام نحو الأبوين والزوج والزوجة أنهم متى أخذوا سهامهم كان الباقي بعد السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لأن قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين اسم للجنس يشتمل على القليل والكثير منهم فمتى ما أخذ ذوو السهام سهامهم كان الباقي بينهم على ما كانوا يستحقونه لو لم يكن ذو سهم
وقوله عز و جل فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فنص على نصيب ما فوق الابنتين وعلى الواحدة ولم ينص على فرض الابنتين لأن في فحوى الآية دلالة على بيان فرضهما وذلك لأنه قد أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث وإذا كان لها مع الذكر الثلث كانت بأخذ الثلث مع الأنثى أولى وقد احتجنا إلى بيان حكم ما فوقهما فلذلك نص على حكمه وأيضا لما قال الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين فلو ترك ابنا وبنتا كان للابن سهمان ثلثا المال وهو حظ الأنثيين فدل ذلك على أن نصيب الابنتين الثلثان لأن الله تعالى جعل نصيب الابن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان ويدل على أن للبنتين الثلثين أن الله تعالى أجرى الأخوة والأخوات مجرى البنات وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة فقال تعالى إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ثم قال فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فجعل حظ الأختين كحظ ما فوقهما وهو الثلثان كما جعل حظ الأخت كحظ البنت وأوجب لهم إذا كانوا ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين وأوجب أن تكون الابنتان كالأختين في استحقاق الثلثين لمساواتهما لهما في إيجاب المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم يكن غيرهم كما في مساواة الأخت للبنت إذا لم يكن غيرهم في استحقاق النصف بالتسمية وأيضا البنتان أولى بذلك إذ كانتا أقرب إلى الميت من الأختين وإذا كانت الأخت بمنزلة البنت فكذلك البنتان في استحقاق الثلثين ويدل على ذلك حديث جابر في قصة المرأة التي أعطى النبي صلى الله عليه وسلم -

فيها البنتين الثلثين والمرأة الثمن والعم ما بقي

ولم يخالف في ذلك أحد إلا شيئا روي عن ابن عباس أنه جعل للبنتين النصف كنصيب الواحدة واحتج بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وليس في ذلك دليل على أن للابنتين النصف وإنما فيه نص على أن ما فوق الابنتين فلهن

الثلثان فإن كان القائل بأن للابنتين الثلثين مخالفا للآية فإن الله تعالى قد جعل للابنة النصف إذا كانت وحدها وأنت جعلت للابنتين النصف وذلك خلاف الآية فإن لم تلزمه مخالفة الآية حين جعل للابنتين النصف وإن كان الله قد جعل للواحدة النصف فكذلك لا تلزم مخالفيه مخالفة الآية في جعلهم للابنتين الثلثين لأن الله تعالى لم ينف بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك أن يكون للابنتين الثلثان وإنما نص على حكم ما فوقهما وقد دل على حكمهما في فحوى الآية على النحو الذي بينا وما ذكرناه من دلالة حكم الأختين على حكم الابنتين على ما ذكرنا وقد قيل إن قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين أن ذكر فوق ههنا صلة للكلام كقوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد يوجب ظاهره أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد ذكرا كان الولد أو أنثى لأن اسم الولد ينتظمهما إلا أنه لا خلاف إذا كان الولد بنتا لا تستحق أكثر من النصف لقوله تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف فوجب أن تعطى النصف بحكم النص ويكون للأبوين لكل واحد السدس بنص التنزيل ويبقى السدس يستحقه الأب بالتعصيب فاجتمع ههنا للأب الاستحقاق بالتسمية وبالتعصيب جميعا وإن كان الولد ذكرا فللأبوين السدسان بحكم النص والباقي للإبن لأنه أقرب تعصيبا من الأب
وقال تعالى فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فأثبت الميراث للأبوين بعموم اللفظ ثم فصل نصيب الأم وبين مقداره بقوله فلأمه الثلث ولم يذكر نصيب الأب فاقتضى ظاهر اللفظ للأب الثلثين إذ ليس هناك مستحق غيره وقد أثبت الميراث لهما بديا وقد كان ظاهر اللفظ يقتضي المساواة لو اقتصر على قوله تعالى وورثه أبواه دون تفصيل نصيب الأم فلما قصر نصيب الأم على الثلث علم أن المستحق للأب الثلثان قوله تعالى فإن كان له أخوة فلأمه السدس قال علي وعبدالله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وسائر أهل العلم إذا ترك أخوين وأبوين فلأمه السدس وما بقي فلأبيه وحجبوا الأم عن الثلث إلى السدس كحجبهم لها بثلاثة أخوة وقال ابن عباس للأم الثلث وكان لا يحجبها إلا بثلاثة من الأخوة والأخوات وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس إذا ترك أبوين وثلاثة أخوة فللأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب

وروي عنه أنه إن كان الأخوة من قبل الأم فالسدس لهم خاصة وإن كانوا من قبل الأب والأم أو من قبل الأب لم يكن لهم شيء وكان ما بعد السدس للأب والحجة للقول الأول أن اسم الأخوة قد يقع على الإثنين كما قال تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وهما قلبان وقال تعالى وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ثم قال تعالى خصمان بغى بعضنا على بعض فأطلق لفظ الجمع على اثنين وقال تعالى وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال اثنان فما فوقهما جماعة ولأن الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أقرب منهما إلى الواحد لأن لفظ الجمع موجود فيهما نحو قولك قاما وقعدا وقاموا وقعدوا كل ذلك جائز في الاثنين والثلاثة ولا يجوز مثله في الواحد فلما كان الاثنان في حكم اللفظ أقرب إلى الثلاثة منهما إلى الواحد وجب إلحاقهما بالثلاثة دون الواحد وقد روى عبدالرحمن بن أبي الزيناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول فإن كان له أخوة وأنت تحجبها بالأخوين فقال إن العرب تسمي الأخوين أخوة فإذا كان زيد بن ثابت قد حكى عن العرب أنها تسمي الأخوين أخوة فقد ثبت أن ذلك اسم لهما فيتناولهما اللفظ وأيضا قد ثبت أن حكم الأختين حكم الثلاث في استحقاق الثلثين بنض التنزيل في قوله تعالى وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وكذلك حكم الأختين من الأم حكم الثلاث في استحقاق الثلث دون حكم الواحدة فوجب أن يكون حكمهما حكم الثلاث في حجب الأم عن الثلث إلى السدس إذ كان حكم كل واحد من ذلك حكما متعلقا بالجمع فاستوى فيه حكم الاثنين والثلاث وروي عن قتادة أنه قال إنما يحجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب لأنه يقوم بنكاحهم والنفقة عليهم دون الأم وهذه العلة إنما هي مقصورة على الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأب فأما الإخوة من الأم فليس إلى الأب شيء من أمرهم وهم يحجبون أيضا كما يحجب الإخوة من الأب والأم ولا خلاف بين الصحابة في ثلاثة إخوة وأبوين أن للأم السدس وما بقي فللأب إلا شيئا يروى عن ابن عباس وروى عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس ان للأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وكان لا يحجب بمن

لا يرث فلما حجب الأم بالإخوة ورثهم وهو قول شاذ وظاهر القرآن خلافه لأنه تعالى قال وورثه أبواه فلأمه الثلث ثم قال تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس عطفا على قوله تعالى وورثه أبواه تقديره وورثه أبواه وله أخوة وذلك يمنع أن يكون للإخوة شيء
قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين الدين مؤخر في اللفظ وهو مبتدأ به في المعنى على الوصية لأنها أولا توجب الترتيب وإنما هي لأحد شيئين فكأنه قيل من بعد أحد هذين وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال ذكر الله الوصية قبل الدين وهي بعده يعني أنها مقدمة في اللفظ مؤخرة في المعنى قوله تعالى ولكم نصف ما ترك ازواجكم الآية هذا نص متفق على تأويله كاتفاقهم تنزيله وأن الولد الذكر والأنثى في ذلك سواء يحجب الزوج عن النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن إذا كان الولد من أهل الميراث ولم يختلفوا أيضا أن ولد الابن بمنزلة ولد الصلب في حجب الزوج والمرأة عن النصيب الأكثر إلى الأقل إذا لم يكن ولد الصلب
قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله قيل إن معناه لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعا في الدين والدنيا والله يعلمه فاقسموه على ما بينه إذ هو عالم بالمصالح وقيل إن معناه أباؤكم وأبناؤهم متقاربون في النفع حتى لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا إذ كنتم تنتفعون بآبائكم في حال الصغر وتنتفعون بأبنائكم عند الكبر ففرض ذلك في أموالكم للآباء والأبناء علما منه بمصالح الجميع وقيل لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة فينتفع ولده بماله أم الولد أقرب وفاة فينتفع الأب والأم بماله ففرض في مواريثكم ما فرض علما منه وحكما وقد اختلف السلف في الحجب بمن لا يرث وهو أن يخلف الحر المسلم أبوين حرين مسلمين وأخوين كافرين أو مملوكين أو قاتلين فقال علي وعمر وزيد للأم الثلث وما بقي فللأب وكذلك المسلمة إذا تركت زواجا وابنا كافرا أو مملوكا أو قاتلا أو الرجل ترك امرأة وابنا كذلك أنهم لا يحجبون الزوج ولا المرأة عن نصيبهما الأكثر إلى الأقل وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعي وقال عبدالله بن مسعود يحجيون وإن لم يرثوا وقال الأوزاعي والحسن بن صالح المملوك والكافر لا يرثان ولا يحجبان والقاتل يرث ويحجب
قال أبو بكر لا خلاف أن الأب الكافر لا يحجب ابنه من ميراث جده وأنه يمنزلة الميت فكذلك في حكم حجب الأم والزوج

والزوجة واحتج من حجب بظاهر قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ولم يفرق بين الكافر والمسلم فيقال له فلم حجبت به الأم دون الأب والله تعالى إنما حجبهما جميعا بالولد بقوله تعالى لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن جاز أن لا يحجب الأب وجعلت قوله تعالى إن كان له ولد على ولد يجوز الميراث فكذلك حكمه في الأم
قوله تعالى ولهن الربع مما تركتم إلى قوله تعالى فلهن الثمن مما تركتم قد دل على أنهن إذا كن أربعا يشتركن في الثمن وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم
وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة فقال على وعمر وعبدالله بن مسعود وعثمان وزيد للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وقال ابن عباس للزوج والزوجة ميراثهما وللأم الثلث كاملا وما بقي فللأب وقال لا أجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي وعن ابن سيرين مثل قول ابن عباس وروي انه تابعه في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين لتفضيله الأم على الأب والصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأنصار على القول الأول إلا ما حكينا عن ابن عباس وابن سيرين وظاهر القرآن يدل عليه لأنه قال فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فجعل الميراث بينهما أثلاثا كما جعله أثلاثا بين الابن والبنت في قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين وجعله بين الأخ والأخت أثلاثا بقوله تعالى وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ثم لما سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما وأخذا نصيبهما كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما وكذلك بين الأخ والأخت وجب أن يكون أخذ الزوج والزوجة نصيبهما موجبا للباقي بين الأبوين على ما استحقاه أثلاثا قبل دخولهما وأيضا هما كشريكين بينهما مال إذا استحق منه شيء كان الباقي بينهما على ما استحقاه بديا والله أعلم بالصواب
باب

ميراث أولاد الابن

قال أبو بكر رضي الله عنه قد بينا أن قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم قد أريد به أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب إذ لا خلاف أن من ترك بني ابن وبنات ابن أن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين بحكم الآية وكذلك لو ترك بنت ابن

كان لها النصف وإن كن جماعة كان لهن الثلثان على سهام ميراث ولد الصلب فثبت بذلك أن أولاد الذكور مرادون بالآية
واسم الولد يتناول أولاد الابن كما يتناول أولاد الصلب قال الله تعالى يا بني آدم ولا يمتنع أحد أن يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم - من ولد هاشم ومن ولد عبدالمطلب فثبت بذلك أن اسم الأولاد يقع على ولد الابن وعلى ولد الصلب جميعا إلا أن أولاد الصلب يقع عليهم هذا الاسم حقيقة ويقع على أولاد الابن مجازا ولذلك لم يردوا في حال وجود أولاد الصلب ولم يشاركوهم في سهامهم وإنما يستحقون ذلك في أحد حالين إما أن يعدم ولد الصلب رأسا فيقومون مقامهم وإما أن لا يجوز ولد الصلب الميراث فيستحقون بعض الفضل أو جميعه
فإما أن يستحقوا مع أولاد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه ولد الصلب بعضهم مع بعض فليس كذلك
فإن قيل لما كان الاسم يتناول ولد الصلب حقيقة وولد الابن مجازا لم يجز أن يرادوا بلفظ واحد لامتناع كون لفظ واحد حقيقة مجازا
قيل له إنهم لم يرادوا بلفظ واحد في حال واحدة متى وجد أولاد الصلب فإن ولد الابن لا يستحقون الميراث معهم بالآية وليس يمتنع أن يراد ولد الصلب في حال وجودهم وولد الابن في حال عدم ولد الصلب فيكون الفظ مستعملا في حالين في إحداهما هو حقيقة وفي الأخرى هو مجاز ولو أن رجلا قال قد أوصيت بثلث مالي لولد فلان وفلان وكان لأحدهما أولاد لصلبه ولم يكن للآخر ولد لصلبه وكان له أولاد ابن كانت الوصية لولد فلان لصلبه ولأولاد أولاد فلان ولم يمتنه دخول أولاد بنيه في الوصية مع أولاد الآخر لصلبه وإنما يمتنع دخول ولد فلان لصلبه وولد ولده معه فأما ولد غيره لغير صلبه فغير ممتنع دخوله مع أولا دالآخر لصلبه فكذلك قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم يقتضي ولد الصلب لكل واحد من المذكورين إذا كان ولا يدخل معه ولد الابن ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن دخل في اللفظ ولد ابنه وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم خطاب لكل واحد من الناس فكان كل واحد منهم مخاطبا به على حياله فمن له منهم ولد لصلبه تناوله اللفظ على حقيقته ولم يتناول ذلك ولد ابنه ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن فهو مخاطب بذلك على حياله فيتناول ولد ابنه
فإن قيل إن اسم الولد يقع على كل واحد من ولد الصلب وولد الابن حقيقة لم يبعد إذ كان الجميع منسوبين إليه من

جهة ولادته ونسبه متصل به من هذا الوجه فيتناول الجميع كالإخوة لما كان اسما لاتصال النسب بينه وبينه من جهة أحد أبويه شمل الاسم الجميع وكان عموما فيهم جميعا سواء كانوا لأب وأم أو لأب أو لأم
ويدل عليه أن قوله تعالى وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم قد عقل به حليلة ابن الابن كما عقل به حليلة ابن الصلب فإذا ترك بنتا وبنت ابن فللبنت النصف بالتسمية ولبنت الابن السدس وما بقي للعصبة فإن ترك بنتين وبنت ابن وابن ابن فللبنتين الثلثان والباقي لابن الابن وبنت الابن بينهما للذكر مثل حظ الآنيين وكذلك لو كانت بنتين وبنات ابن وابن ابن ابن اسفل منهن كان للبنات الثلثان وما بقي فبين بنات الابن ومن هو أسفل منهن من بني ابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا قول أهل العلم جميعا من الصحابة والتابعين إلا ما روي عن عبدالله بن مسعود أنه كان يجعل الباقي لابن الابن وإن سفل ولا يعطي بنات الابن شيئا إذا استكمل البنات الثلثين وإنما كان يجعل لبنات الابن تكملة الثلثين مثل أن يترك بنتا وبنات ابن فيكون للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين فإن كان معهن ابن ابن لم يعط بنات الابن أكثر من السدس وكذلك قوله في الأخوات من الأب مع الأخوات من الأب والأم وذهب في ذلك إلى أن إناث ولد الابن لو كن وحدهن لم يأخذن شيئا بعد استيفاء البنات الثلثين فكذلك إذا كان لهن أخ لم يكن لهن شيء ألا ترى أنه لو كان ابن عم مع إحداهن لم يأخذن
شيئا وليس هذا عند الجماعة كذلك لأن بنات الابن يأخذن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب وأخوهن ومن هو أسفل منهن يعصبهن كبنات الصلب يأخذن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب فلو انفرد البنات لم يأخذن أكثر من الثلثين وإن كثرن ولو كان معهن أخ لهن وهن عشر كان لهن خمسة أسداس المال فيأخذن في حال كون الأخ معهن أكثر مما يأخذن في حال الانفراد فكذلك حكم بنات الابن إذا استوفى بنات الصلب الثلثين لم يبق لهن فرض فإن كان معهن أخ صرن عصبة معه ووجبت قسمة الثلث الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وكذلك قالوا في بنتين وبنت ابن وأخت أن للبنتين الثلثين والباقي للأخت ولا شيء لبنت الابن لأنها لو أخذت في هذه الحال التي ليس معها ذكر كانت مستحقة بفرض البنات والبنات قد استوعبن الثلثين فلم يبق من فرض البنات شيء تأخذه فكانت الأخت أولى لأنها عصبة مع البنات

فما تأخذه الأخت في هذه الحال فإنما تأخذه بالتعصيب فإذا كان مع بنت الابن اخ لها كان الباقي بعد الثلثين بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا شيء للأخت
وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن عامر بن زرارة قال حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي قال جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم فقالا للبنت النصف وللأخت النصف ولم يورثا بنت الابن شيئا وأت ابن مسعود فإنه سيتابعنا فأتاة الرجل فسأله وأخبره بقولهما فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ولكن أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لابنته النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت من الأب

والأم
فهذا السدس تأخذه بنت الابن بالفرض لا بالتعضيب لم يختلفوا فيه إلا ما روي عن أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة وهو الآن اتفاق ثم لم يخالفهم عبدالله لو كان معها أخ أن للبنت النصف وما بقي فبين بنت الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين وأنها لا تعطى السدس في هذه الحال كما أعطيت إذا لم يكن معها أخ ففي هذا دليل على أن بنت الابن تستحق تارة بالفرض وتارة بالتعصيب مع أخواتها كفرائض بنات الصلب ومن قول عبدالله في بنت وبنات ابن وابن ابن أن للبنت النصف وما بقي فبين بنات لابن وابن الابن للذكر مثل حظ الآنثيين مالم تزد أنصباء بنات الابن على السدس فلا يعطيهن أكثر من السدس فلم يعتبر الفرض على حدة في هذه الحال ولا التعصيب على حدة ولكنه اعتبر التسمية في منع الزيادة على السدس واعتبر المقاسمة في النقصان وهو خلاف القياس والله أعلم بالصواب
باب

الكلالة

قال الله عز و جل وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس قال أبو بكر الميت نفسه يسمى كلالة وبعض من يرثه يسمى كلالة وقوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة يدل على أن الكلالة ههنا اسم الميت والكلالة حاله وصفته ولذلك انتصب وروي السميط بن عمير أن عمر رضي الله عنه قال أتى علي زمان وما أدري ما الكلالة وإنما الكلالة ما خلا الولد والوالد وروى عاصم الأحول عن الشعبي قال قال أبو بكر رضي الله عنه الكلالة ما خلا الولد والوالد فلما طعن عمر رضي

الله عنه قال رأيت أن الكلالة من لا ولد له ولا والد وإني لأستحي الله أن أخالف أبا بكر هو ماعدا الوالد والولد وروى طاوس عن ابن عباس قال كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب فسمعته يقول القول ما قلت قلت وما قلت قال الكلالة من لا ولد له وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال سألت ابن عباس عن الكلالة فقال من لا ولد له ولا والد قال قلت فإن الله تعالى يقول في كتابه إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فغضب وانتهرني
فظاهر الآية وقول من ذكرناهم من الصحابة يدل على أن الميت نفسه يسمى كلالة لأنهم قالوا الكلالة من لا والد له ولا ولد وقال بعضهم الكلالة من لا ولد له وهذه صفة الموروث الميت لأنه معلوم أنهم لم يريدوا أن الكلالة هو الوارث الذي لا ولد له ولا والد إذ كان وجود الولد والوالد للوارث لا يغير حكم ميراثه من موروثه وإنما يتغير حكم الميراث بوجود هذه الصفة للميت المورث والذي يدل على أن اسم الكلالة فد يقع على بعض الوارثين ما رواه شعبة عن ابن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال آتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض فقلت يا رسول الله كيف الميراث فإنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض وهذا الحرف تفرد به شعبة في رواية محمد بن المنكدر فأخبر أن الكلالة ورثته ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم - وروى ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبدالرحمن قال حدثنا رجل من بني سعد ان سعدا مرض بمكة فقال يا رسول الله ليس لي وارث إلا كلالة فأخبر أيضا أن الكلالة هم الورثة وحديث سعد متقدم لحديث جابر لأن مرضه كان بمكة وليس فيه ذكر الآية فقال قوم كان في حجة الوداع وقال قوم كان في عام الفتح ويقال إن الصحيح أنه كان في عام الفتح وحديث جابر كان بالمدينة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم -

وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال آخر آية نزلت يستفتونك

قل الله يفتيكم في الكلالة وآخرسورة نزلت براءة قال يحيى بن آدم وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أنه قال للذي سأله عن الكلالة يكفيك آية الصيف وهي قوله تعالى يستفتونك

قل الله يفتيكم في الكلالة لأنها نزلت في الصيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم -

يتجهز إلى مكة ونزلت عليه آية الحج ولله

على الناس حج البيت وهي آخر آية نزلت بالمدينة ثم خرج إلى مكة فنزلت عليه بعرفة يوم عرفة اليوم أكملت لكم دينكم الآية ثم نزلت عليه من الغد يوم النحر واتقوا يوما ترجعون

فيه إلى الله هذه الآية ثم لم ينزل عليه شيء بعدها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بعد نزولها هكذا سمعنا قال يحيى وفي حديث آخر أن رجلا سأل رسول الله ص

- عن الكلالة فقال من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة قال أبو بكر ولم يذكر تاريخ الأخبار والآي لأن الحكم يتغير فيما ذكرنا بالتاريخ ولكنه لما جرى ذكر الآي والأخبار اتصل ذلك بها وإنما أردنا بذلك أن نبين أن اسم الكلالة يتناول الميت تارة وبعض الورثة تارة أخرى
وقد اختلف السلف في الكلالة فروى جرير عن أبي إسحاق الشيباني عن عمرو ابن مرة عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب سال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

كيف يورث الكلالة قال أو ليس قد بين الله تعالى ذلك ثم قرأ

وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة إلى آخر الآية فأنزل الله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخرها قال فكان عمر لم يفهم فقال لحفصة إذا رأيت من رسول الله طيب نفس فسليه عنها فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فقال أبوك كتب لك هذا ما أرى أباك يعلمها أبدا قال فكان عمر يقول ما أراني أعلمها أبدا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما قال وروى سفيان عن عمرو بن مرة عن مرة قال قال عمر ثلاث لا يكون بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والربا وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة قال قال عمر ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري ثم قال يكفيك آية الصيف وروى عن عمر أنه قال عند موته اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا
فهذه الأخبار التي ذكرنا تدل على أنه لم يقطع فيها بشيء وأن معناها والمراد بها كان ملتبسا عليه قال سعيد بن المسيب كان عمر كتب كتابا في الكلالة فلما حضرته الوفاة محاه وقال ترون فيه رأيكم فهذه إدى الروايات عن عمر وروى عنه أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد وروي عنه أن الكلالة من لا ولد له وروي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عباس في إحدى الروايتين أن الكلالة ما عدا الوالد والولد وروى محمد بن سالم عن الشعبي عن ابن مسعود أنه قال الكلالة ماخلا الوالد والولد وعن زيد ابن ثابت مثله وروي عن ابن عباس رواية أخرى أن الكلالة ما خلا الوالد
قال أبو بكر اتفقت الصحابة على ان الولد ليس من الكلالة واختلفوا في الوالد فقال الجمهور الوالد خارج من الكلالة وقال ابن عباس في

إحدى الروايتين مثله وفي رواية أخرى أن الكلالة ما عدا الولد
فلما اختلف السلف فيها على هذه الوجوه وسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم -

عن معناها فوكله إلى حكم الآية وما في مضمونها وهي قوله تعالى

يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وقد كان عمر رجلا من أهل اللسان لا يخفى عليه ما طريق معرفته اللغة ثبت أن معنى اسم الكلالة غير مفهوم من اللغة وأنه من متشابه الآي التي أمرنا الله تعالى بالاستدلال على معناه بالحكم ورده إليه ولذلك لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم - عمر عن سؤاله في معنى الكلالة ووكله إلى استنباطه والاستدلال عليه وفي ذلك ضروب من الدلالة على المعاني أحدها أن بمسألته إياه لم يلزمه توقيفه على معناها من طريق النص لأنه لو كان واجبا عليه توقيفه على معناها لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم - من بيانها وذلك أنه لم يكن أمر الكلالة في الحال التي سأل عنها حادثة تلزمه تنفيذ حكمها في الحال ولو كان كذلك لما أخلاه من بيانها وإنما سأله سؤال مستفهم مسترشد لمعنى الآية من طريق النص ولم يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف الناس على جليل الأحكام ودقيقها لأن منها ما هو مذكور باسمه وصفته ومنها ما هو مدلول عليه بدلالة مفضية إلى العلم به لا احتمال فيه ومنها ما هو موكول إلى اجتهاد الرأي فرد النبي صلى الله عليه وسلم - عمر إلى اجتهاده وهذا يدل على أنه رآه من أهل الاجتهاد وأنه ممن قال الله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم وفيه الدلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في الأحكام وأنه أصل يرجع إليه في أحكام الحوادث والاستدلال على معاني الآي المتشابهة وبنائها على المحكم واتفاق الصحابة أيضا على تسويغ الاجتهاد في استخراج معاني الكلالة يدل على ذلك ألا ترى أن بعضهم قال هو من لا ولد له ولا والد وقال بعضهم من لا ولد له وأجاب عمر بأجوبة مختلفة ووقف فيها في بعض الأحوال ولم ينكر بعضهم على بعض الكلام فيها بما أداه إليه اجتهاده وفي ذلك دليل على اتفاقهم على تسويغ الاجتهاد في الأحكام ويدل على أن ما روى أبو عمران الجوني عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ إنما هو فيمن قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول وأن من استدل على حكمه واستنبط معناه فحمله على المحكم المتفق على معناه فهو ممدوح مأجور ممن قال الله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقد تكلم أهل اللغة في معنى الكلالة قال أبو عبيدة معمر بن المثنى الكلالة كل من لم يرثه أب ولا ابن فهو

عند العرب كلالة مصدر من تكلله النسب أي تعطف النسب عليه قال أبو عبيدة من قرأها يورث بالكسر أراد من ليس بولد ولا والد
قال أبو بكر والذي قرأه بالكسر الحسن وأبو رجاء العطاردي
قال أبو بكر وقد قيل إن الكلالة في أصل اللغة هو الإحاطة فمنه الإكليل لإحاطته بالرأس ومنه الكل لإحاطته بما يدل عليه فالكلالة في النسب من أحاط بالولد والوالد من الإخوة والأخوات وتكللهما وتعطف عليها والولد والوالد ليسا بكلالة لأن أصل النسب وعموده الذي إليه ينتهى هو الولد والوالد ومن سواهما فهو خارج عنهما وإنما يشتمل عليهما بالانتساب عن غير جهة الولادة ممن نسب إليه كالإكليل المشتمل على الرأس

وهذا

يدل على صحة قول من تأولها على من عدا الوالد والولد وإن الولد إذا لم يكن من الكلالة فكذلك الولد لأن نسبة كل واحد منهما إلى اللميت من طريق الولادة وليس كذلك الإخوة والأخوات لأن نسب كل واحد منهما لا يرجع إلى الميت من طريق ولاد بينهما ويشبه أن يكون من تأوله على من عدا الوالد وأخرج الولد وحده من الكلالة إن الولد من الوالد وكأنه بعضه وليس الوالد من الولد كما ليس الأخ والأخت ممن ينسب إليه بالإخوة فاعتبر من قال ذلك الكلالة بمن لا ينسب إليه بأنه منه وبعضه فأما من كانت نسبته إلى الميت من حيث هو منه فليس بكلالة وقد كان اسم الكلالة مشهورا في الجاهلية قال عامر بن الطفيل ... فإن وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب ... فما سودتني عامر عن كلالة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ...
وهذا يدل على أنه رأى الجد الذي انتسبوا إليه كلاله وأخبر مع ذلك أن سيادته ليست من طريق النسب والكلالة لكنه بنفسه ساد ورأس وقال بعضهم كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا تباعد والكلالة هو الإعياء لأنه قد يبعد عليه تناول ما يريده وأنشد الفرزدق ... ورثتم قناة الملك غير كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم ...
يعني ورثتموها بالآباء لا بالأخوة والعمومة
وذكر الله تعالى الكلالة في موضعين من كتابه أحدهما قوله تعالى قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك إلى آخر الآية فذكر ميراث الأخوة والأخوات

عند عدم الولد وسماهم كلالة وعدم الوالد مشروط فيها وإن لم يكن مذكورا لقوله تعالى في أول السورة وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس فلم يجعل للإخوة ميراثا مع الأب فخرج الوالد من الكلالة كما خرج الولد لأنه لم يورثهم مع الأب كما لم يورثهم مع الابن والبنت أيضا ليست بكلالة فإن ترك ابنة أو ابنتين وإخوة وأخوات لأب وأم أو لأب فالبنات لسن بكلالة ومن ورث معهما كلالة
وقال تعالى في أول السورة وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث فهذه الكلالة هي الأخ والأخت لأم لا يرثان مع والد ولا ولد ذكرا كان أو أنثى وقد روي أن في قراءة سعد بن أبي وقاص وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لأم فلا خلاف مع ذلك أن المراد بالأخ والأخت ههنا إذا كانا لأم دونهما إذا كانا لأب وأم أو لأب وقد روي عن طاوس عن ابن عباس أن الكلالة ما عدا الولد وورث الإخوة من الأم مع الأبوين السدس وهو السدس الذي حجبت الأم عنه وهو قول شاذ
وقد بينا ما روى عنه أنها ما عدا الوالد والولد ولا خلاف أن الإخوة والأخوات من الأم يشتركون في الثلث ولا يفضل منهم ذكر على أنثى
وقد اختلفوا في الجد هل يورث كلالة فقال قائلون لم يورث كلالة وقال آخرون بل هو كلالة وهو قول من يورث الإخوة والأخوات مع الجد والأولى أن يكون خارجا من الكلالة لثلاثة أوجه أحدها أنهم لا يختلفون أن ابن الابن خارج عن الكلالة لأنه منسوب إلى الميت بالولاد فواجب على هذا خروج الجد منها إذا كانت النسبة بينهما من طريق الولاد ومن جهة أخرى أن الجد هو أصل النسب كالأب وليس بخراج عنه فوجب أن يكون خارجا عن الكلالة إذا كانت الكلالة ما تكلل على النسب وتعطف عليه ممن ليس أصل النسب متعلقا به والثالث أنهم لا يختلفون أن قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لم يدخل فيه الجد وأنه خارج عنه لا يرث معه الإخوة من الأم كما لا يرثون مع الابن والبنت فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب في خروجه عن الكلالة وهذا يدل على أن الجد بمنزلة الأب في نفي مشاركة الإخوة والأخوات إياه في الميراث
فإن قيل هذا لا يدل على ما ذكرته من قبل

أن البنت خارجة عن الكلالة ولا يرث معها الإخوة والأخوات من الأم ويرث معها الإخوة والأخوات من الأب والأم فكذلك الجد
قيل له لم نجعل ما ذكرناه علة للمسئلة فيلزمنا ما وصفت وإنما قلنا أنه لم يتناوله اسم الكلالة كالأب والابن اقتضى ظاهر الآية أن يكون ميراث الإخوة والأخوات عند عدمه إلا أن تقوم الدلالة على توريثهم معه والبنت وإن كانت خارجة عن الكلالة فقد قامت الدلالة على توريث الإخوة والأخوات من الأب معها فخصصناها من الظاهر وبقي حكم اللفظ فيما سواه ممن يشتمله اسم الكلالة والله أعلم
باب

العول

روى الزهري عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب لما التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضا قال والله ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر وكان امرأ ورعا فقال ما أجد شيئا هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص وأدخل على كل ذي حق ما أدخل عليه من عول الفريضة وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي في بنتين وأبوين وامرأة قال صار ثمنها تسعا وكذلك رواه الحكم بن عتيبة عنه وهو قول عبدالله وزيد بن ثابت وقد روى أن العباس ابن عبدالمطلب أول من أشار على عمر بالعول قال عبيد الله بن عبدالله قال ابن عباس أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب وأيم الله لو قدم من قدم الله لما عالت فريضة فقيل له وأيها التي قدم الله وأيها التي أخر قال كل فريضة لم تزل عن فريضة إلا إلى فريضة فهي التي قدم الله وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فهي التي أخر الله تعالى فأما التي قدم الله تعالى فالزوج والزوجة والأم لأنهم لا يزولون من فرض إلا إلى فرض والبنات والأخوات نزلن من فرض إلى تعصيب مع البنتين والإخوة فيكون لهن ما بقي مع الذكور فنبدأ بأصحاب السهام ثم يدخل الضرر على الباقين وهم الذين يستحقون ما بقي إذا كانوا عصبة قال عبيد الله بن عبدالله فقلنا له فهلا راجعت فيه عمر فقال إنه كان أمرا مهيبا ورعا قال ابن عباس ولو كلمت فيه عمر لرجع وقال الزهري لولا أنه تقدم ابن عباس إمام عدل فأمضى أمرا فمضى وكان أمرأ ورعا ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم وروى محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح

عن عطاء بن أبي رباح قال سمعت ابن عباس ذكر الفرائض وعولها فقال أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا فهذا النصف وهذا النصف فأين موضع الثلث قال عطاء فقلت لابن عباس يا أبا عباس إن هذا لا يغني عنك ولا عني شيئا لو مت أو مت قسما ميراثنا على ما عليه القوم من خلاف رأيك ورأيي قال فإن شاؤا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما جعل الله في مال نصفا ونصفا وثلثا
والحجة للقول الأول أن الله تعالى قد سمى للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف وللأخوة من الأم الثلث ولم يفرق بين حال اجتماعهم وانفرادهم فوجب استعمال نص الآية في كل موضع على حسب الإمكان فإذا انفرد واتسع المال لسهامهم قسم بينهم عليها وإذا اجتمعوا وجب استعمال حكم الآية في التضارب بها ومن اقتصر على بعض وأسقط بعضا أو نقص نصيب بعض ووفى الآخرين كمال سهامهم فقد أدخل الضيم على بعضهم مع مساواته للآخرين في التسمية فأما ما قاله ابن عباس من تقديم من قدم الله تعالى وتأخير من أخر فإنما قدم بعضا وأخر بعضا وجعل له الباقي في حال التعصيب فأما حال التسمية التي لا تعصيب فيها فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر ألا ترى أن الأخت منصوص على فرضها بقوله تعالى وله أخت فلها نصف ما ترك كنصه على فرض الزوج والأم والإخوة من الأم فمن أين وجب تقديم هؤلاء عليها في هذه الحال وقد نص الله تعالى على فرضها في هذه الحال كما نص على فرض الذين معها وليس يجب لأن الله أزال فرضها إلى غير فرض في موضع أن يزيل فرضها في الحال التي نص عليه فيها فهذا القول أشنع في مخالفة الآي التي فيها سهام المواريث من القول بإثبات نصف ونصف وثلث على وجه المضاربة بها ولذلك نظائر في المواريث من الأصول أيضا
قال الله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين فلو ترك الميت ألف درهم وعليه دين لرجل ألف درهم ولآخر خمس مائة ولآخر ألف كانت الألف المتروكة مقسومة بينهم على قدر ديونهم وليس يجوز أن يقال لما لم يمكن استيفاء ألفين وخمسمائة من ألف استحال الضرب بها وكذلك لو أوصى رجل بثلث ماله لرجل وبسدسه لآخر ولم تجز ذلك الورثة تضاربا في الثلث بقدر وصياهم فليضرب أحدهما بالسدس والآخر بالثلث مع استحالة استيفاء النصف

من الثلث وكذلك الابن يستحق جميع المال لو انفرد وللبنت النصف لو انفردت فإذا اجتمعا ضرب الابن بجميع المال والبنت بالنصف فيكون المال بينهما أثلاثا وهكذا سبيل العول في الفرائض عند تدافع السهام والله أعلم
باب

المشركة

اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مسألة المشركة وهي أن تخلف المورثة زوجها وأمها وأخوتها لأمها وأخوتها لأبيها وأمها فقال علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث وسقط الإخوة والأخوات من الأب والأم وروى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة قال سئل علي عن الإخوة من الأم فقال أرأيتم لو كانوا مائة أكنتم تزيدونهم على الثلث قالوا لا قال فأنا لا أنقصهم منه شيئا وجعل الإخوة والأخوات من الأب والأم عصبة في هذه الفريضة وقد حالت السهام دونهم وقال عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث ثم يرجع الإخوة من الأب والأم على الإخوة من الأم فيشاركونهم فيكون الثلث الذي أخذوه بينهم سواء
وروى معمر عن سماك ابن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود الثقفي قال شهدت عمر بن الخطاب أشرك الإخوة من الأب والأم مع الإخوة من الأم في الثلث فقال له رجل قضيت عام أول بخلاف هذا قال كيف قضيت قال جعلته للأخوة من الأم ولم تعط الإخوة من الأب والأم شيئا قال تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا
وروى أن عمر كان لا يشرك بينهم حتى احتج الإخوة من الأب والأم فقالوا يا أمير المؤمنين لنا أب وليس لهم أب ولنا أم كما لهم فإن كنتم حرمتونا بأبينا فورثونا بأمنا كما ورثتم هؤلاء بأمهم واحسبوا أن أبانا كان حمارا أليس قد تراكضنا في رحم واحدة فقال عمر عند ذلك صدقتم فأشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إلى قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن تابعه في ترك الشركة بينهم والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم

شركاء في الثلث فنص على فرض الإخوة من الأم وهو الثلث وبين أيضا حكم الإخوة من الأب والأم في قوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى قوله تعالى وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فلم يجعل الله لهم فرضا مسمى وإنما جعل لهم المال على وجه التعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين ولا خلاف أنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وإخوة وأخوات لأب وأم أن للزوج النصف وللأم السدس وللأخ من الأم السدس وما بقي وهو السدس بين الإخوة والأخوات من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يدخلوا مع الأخ من الأم في نصيبه فلما كانوا مع ذوي السهام إنما يستحقون باقي المال بالتعصيب لا بالفرض لم يجز لنا إدخالهم مع الإخوة من الأم في فرضهم لأن ظاهر الآية ينفي ذلك إذ كانت الآية إنما أوجبت لهم ما يأخذونه للذكر مثل حظ الأنثيين بالتعصيب لا بالفرض فما أعطاهم بالفرض فهو خارج عن حكم الآية ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - الحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلا ولي عصبة ذكر فجعل للعصبة بقية المال بعد أخذ ذوي السهام سهامهم فمن أشركهم مع ذوي السهام وهم عصبة فقد خالف الأثر
فإن قيل لما اشتركوا في نسب الأم وجب أن لا يحرموا بالأب قيل له هذا غلط لأنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وإخوة وأخوات لأب وأم لأخذ الأخ من أم السدس كاملا وأخذ الإخوة والأخوات من الأب والأم السدس الباقي بينهم وعسى يصيب كل واحد منهم أقل من العشر ولم يكن لواحد منهم أن يقول قد حرمتموني بالأب مع اشتراكنا في الأم بل كان نصيب الأخ من الأم أوفر من نصيب كل واحد منهم فدل ذلك على معنيين أحدهما انتقاض العلة بالاشتراك في الأم والثاني انهم لم يأخذوا بالفرض وإنما أخذوا بالتعصيب ويدل على فساد ذلك أيضا أنها لو تركت زوجا وأختا لأب وأم وأختا وأخا لأب أن للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولا شيء للأخ والأخت من الأم لأنهما عصبة فلا يدخل مع ذوي السهام ولم يجز أن يجعل الأخ من الأب بمنزلة من لم يكن حتى تستحق الأخت من الأب سهمها الذي كانت تأخذه في حال الانفراد عن الأخ وإنما التعصيب أخرجها عن السدس الذي كانت تستحقه كذلك التعصيب يخرج الإخوة من الأب والأم عن الثلث الذي يستحقه الإخوة من الأم والله أعلم

ذكر

اختلاف السلف في ميراث الأخت مع البنت

لم يختلف عن علي وعمر وعبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل في رجل خلف بنتا وأختا لأب وأم وعصبة أن للبنت النصف وما بقي فللأخت فجعلوها عصبة مع البنات وقال عبدالله بن عباس وابن الزبير للبنت النصف وما بقي فللعصبة وإن بعد نسبه ولا حظ للأخت في الميراث مع البنت وروى أن ابن الزبير رجع عن ذلك بعد أن قضى به وروي أنه قيل لعبد الله بن عباس أن عليا وعبدالله وزيدا كانوا يجعلون الأخوات مع البنات عصبة فيورثونهن فاضل المال فقال أأنتم أعلم أم الله يقول الله إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وأنتم تجعلون لها مع الولد النصف
قال أبو بكر مما يحتج به للقول الأول قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا فظاهره يقتضي توريث الأخت مع البنت لأن أخاها الميت هو من الأقربين وقد جعل الله ميراث الأقربين للرجال والنساء ويحتج فيه بحديث أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم أن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأعطى للأخت بقية المال بعد السهام وجعلها عصبة مع البنت وأما احتجاج من يحتج في ذلك بأن الله تعالى إنما جعل لها النصف إذا لم يكن ولد ولا يجوز أن يجعل لها النصف مع الولد فإنه غير لازم من قبل أن الله تعالى نص على سهمها عند عدم الولد ولم ينف ميراثها مع وجوده وتسميته لها النصف عند عدم الولد لا دلالة فيه على سقوط حقها إذا كان هناك ولد إذ لم يذكر هذه الحال بنفي الميراث ولا بإيجابه فهو موقوف على دليله ومع ذلك فإن معناه إن أمرؤ هلك وليس له ولد ذكر بدلالة قوله تعالى في نسق التلاوة وهو يرثها يعني الأخ يرث الأخت إن لم يكن لها ولد معناه عند الجميع أن لم يكن لها ولد ذكر إذ لا خلاف بين الصحابة أنها إذا تركت ولدا أنثى وأخا أن للبنت النصف والباقي للأخ والولد المذكور ههنا هو المذكور بديا في أول الآية وأيضا قال الله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ومعناه عند الجميع إن كان له ولد ذكر لأنه لا خلاف بين الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء أنه لو ترك

ابنة وأبوين أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي للأب فيأخذ الأب في هذه الحال مع الولد الأنثى أكثر من السدس وإن قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد على أنه ولد ذكر وكذلك لو ترك أبا وبنتا كان للبنت النصف وللأب النصف فقد أخذ في هاتين المسألتين أكثر من السدس مع الولد قال أبو بكر وشذت طائفة عن الأمة فزعمت أنه إذا ترك بنتا وأختا كان المال كله للبنت وكذلك البنت والأخ وهذا قول خارج عن ظاهر التنزيل واتفاق الأمة قال الله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فنص على سهم البنت وسهم ما فوق الثنتين وجعل لها إذا انفردت النصف وإذا ضامها غيرها الثلثين لهما جميعا فغير جائز أن تعطى أكثر منه إلا بدلالة
فإن قيل إذا كان ذكر النصف والثلثين غير دال على ما ذكرت فليس إذا في الظاهر نفي ما زاد وإنما تحتاج إلى أن تطالب خصمك بإقامة الدلالة على أن الزيادة مستحقة
قيل له لما كان قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم أمرا باعتبار السهام المذكورة إذ كانت الوصية أمرا أوجب ذلك اعتبار كل فرض مقدر في الآية على حياله ممنوعا من الزيادة والنقصان فيه فاقتضى ذلك وجوب الاقتصار على المقادير المذكورة لمن سميت له غير زائدة ولا ناقصة ولم يقل بذلك من حيث خصه بالذكر دون ما تقدم من الأمر باعتبارها في ابتداء الخطاب فلذلك منعنا الزيادة عليها إلا بدلالة
وقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون يدل على وجوب توريث الأخ مع البنت ويدل عليه حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلا ولى عصبة ذكر فواجب بمجموع الآية والخبر أنا إذا أعطينا البنت النصف أن نعطي الباقي الأخ لأنه أولى عصبة ذكر واختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لأم فقال علي وزيد للأخ من الأم السدس وما بقي فبينهما نصفان وهو قول فقهاء الأمصار وقال عمر وعبدالله المال للأخ من الأم وقالا ذو السهم أحق ممن لا سهم له وإليه كان يذهب شريح والحسن ولم يختلفوا في أخوين لأم أحدهما ابن عم أن لهما الثلث بنسب الأم وما بقي فلابن العم خاصة ولم يجعلوا ابن العم أحق بجميع الميراث لاجتماع السهم والتسمية له دون الآخر كذلك حكم ابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم فغير جائز أن يجعل أولى

بالميراث من أجل اختصاصه بالسهم والتعصيب وشبه عمر وعبدالله ذلك بالأخ لأب وأم وأخ لأب أنه أولى بالميراث وليس هذ عند الآخرين مشبها لهذه المسألة من قبل أن نسبهما من جهة واحدة وهي الأخوة فاعتبر فيها أقربهما إليه وهو الذي اجتمع له قرابة الأب والأم ولا يستحق بقرابته من الأم سهم الأخ من الأم بل إنما يؤكد ذلك حكم الأخوة وليس كذلك ابنا العم إذا كان أحدهما أخا لأم لأنك تريد أن تؤكد بالإخوة من جهة الأم ما ليس بأخوة وإنما هو سبب آخر غيرها فلم يجز أن تؤكده بها ويدل لك على هذا أن نسبته من جهة أنه ابن العم لا يسقط سهمه من جهة أنه أخ لأم بل يرث بأنه أخ لأم سهم الأخ من الأم وإن كان ابن عم ألا ترى أن الميتة لو تركت أختين لأب وأم وزوجا وأخا لأم هو ابن عم أن للأختين الثلثين وللزوج النصف وللأخ من الأم السدس ولم يسقط سهمه من جهة أنه ابن عم ولو تركت زوجا وأما وأختا لأم وأخوة لأب وأم كان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت من الأم السدس وما بقي فللإخوة من الأب والأم ةولم يستحق أخوة من الأب والأم سهم الأخوة من الأم لمشاركتهم للأخ من الأم في نسبها بل إنما استحقوا بالتعصيب فكانت قرابتهم بالأب والأم مؤكدة لتعصيبهم فلا يستحقون بها أن يكونوا من ذوي السهام وقرابة ابن العم بنسبه من جهة الأم لاتخرجه من أن يكون من ذوى السهام فيما يستحقه من سهم الأخ من الأم وليس لهذا تأثير في تأكيد التعصيب لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يستحق أبدا إلا بالتعصيب كما لا يؤخذ الإخوة من الأب والأم إلا بالتعصيب ولا يأخذون بقرابتهم من الأم سهم الأخوة من الأم والله أعلم
باب

الرجل يموت وعليه دين ويوصي بوصية

قال الله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين وروى الحارث عن علي قال تقرأون الوصية قبل الدين وأن محمدا ص -

قضى بالدين قبل الوصية

قال أبو بكر وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين وذلك لأن معنى قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين أن الميراث بعد هذين وليست أو في هذا الموضع لأحدهما بل قد تناولهما جميعا وذلك لأن قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين مستثنى عن الجملة المذكورة في قسمة المواريث ومتى دخلت أو على النفي صارت في معنى الواو كقوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو

كفورا وقال تعالى حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم فكانت أو في هذه المواضع بمنزلة الواو فكذلك قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين لما كان في معنى الاستثناء كأنه قال إلا أن تكون هناك وصية أو دين فيكون الميراث بعدهما جميعا وتقديم الوصية على الدين في الذكر غير موجب للتبدئة بها على الدين لأن أو لا توجب الترتيب وإنما ذكر الله تعالى ذلك بعد ذكر الميراث إعلاما لنا أن سهام المواريث جارية في التركة بعد قضاء الدين وعزل حصة الوصية ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كانت سهام الورثة معتبرة بعد الثلث فيكون للزوجة الربع أو الثمن في الثلثين وكذلك سهام سائر أهل الميراث جارية في الثلثين دون الثلث الذي فيه الوصية فجمع تعالى بين ذكر الدين والوصية ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين وإن كانت الوصية مخالفة للدين من جهة الاستيفاء لأنه لو هلك من المال شيء لدخل النقصان على أصحاب الوصايا كما يدخل على الورثة وليس كذلك الدين لأنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي وإن استغرقه وبطل حق الموصى له والورثة جميعا فالموصى له شريك الورثة من وجه ويأخذ شبها من الغريم من وجه آخر وهو أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كاعتبارها بعد الدين وليس المراد بقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين أن الموصى له يعطى وصيته قبل أن يأخذ الورثة أنصباءهم بل يعطون كلهم معا كأنه أحد الورثة في هذا الوجه وما هلك من المال قبل القسمة فهو ذاهب منهم جميعا
باب

مقدار الوصية الجائزة

قال الله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين ظاهرة يقتضي جواز الوصية بقليل المال وكثيره لأنها منكورة لا تختص ببعض دون بعض إلا أنه قد قامت الدلالة من غير هذه الآية على أن المراد بها الوصية ببعض المال لا بجميعه وهو قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر فأطلق إيجاب الميراث فيه من غير ذكر الوصية فلو اقتضى قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها الوصية بجميع المال لصار قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون منسوخا بجواز الوصية بجميع المال فلما كان حكم هذه الآية

ثابتا في إيجاب الميراث وجب استعمالها مع آية الوصية فوجب أن تكون الوصية مقصورة على بعض المال والباقي للورثة حتى نكون مستعملين لحكم الآيتين ويدل عليه أيضا قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا يعني في منع الرجل الوصية بجميع ماله على ما تقدم من بيان تأويله فيدل على جواز الوصية ببعض المال لاحتمال اللفظ للمعنيين وقدروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار تلقتها الأمة بالقبول والاستعمال في الاقتصار بجواز الوصية على الثلث منها ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرض أبي مرضا شديدا قال ابن أبي خلف بمكة مرضا شفي منه فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين قال لا قال فبالشطر قال لا قال فبالثلث قال الثلث والثلث كثير وإنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك قلت يا رسول الله أتخلف عن هجرتي قال إنك أن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ثم قال اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن مات بمكة

قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر ضروبا من الأحكام والفوائد منها أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث والثاني أن المستحب النقصان عن الثلث ولذلك قال بعض الفقهاء أستحب النقصان عنه لقوله ص -

والثلث كثير والثالث أنه إذا كان قليل المال وورثته فقراء أن الأفضل أن

لا يؤصي بشيء لقوله ص - إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وفي ذلك أيضا دليل على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأنه أخبر ان الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة لأجل الورثة وفيه الدلالة على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث لأن سعد قال أتصدق بجميع مالي فقال لا إلى أن رده إلى الثلث وقد رواه جرير عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن سعد قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وأنا مريض فقال أوصيت قلت نعم قال بكم قلت بمالي كله في

سبيل الله قال فما تركت لولدك قال هم أغنياء قال أوص بالعشر فما زلت أناقصه ويناقصني حتى قال أوص بالثلث والثلث كثير قال أبو عبدالرحمن فنحن نستحب أن تنقص من الثلث لقوله ص - والثلث كثير فذكر في هذا الحديث أنه قال أوصيت بمالي كله وهذا لا ينفي ما روى في الحديث الأول من الصدقة في المرض لأنه جائز أن يكون لما منعه الوصية بأكثر من الثلث ظن أن الصدقة جائزة في المرض فسأله عنها فأخبر ص - أن حكم الصدقة حكم الوصية في وجوب الاقتصار بها على الثلث وهو نظير حديث عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته وفيه أن الرجل مأجور في النفقة على أهله وهذا يدل على أن من وهب لامرأته هبة لم يجز له الرجوع فيها لأنها بمنزلة الصدقة لأنه قد استوجب بها الثواب من الله تعالى وهو نظير ما روي عنه ص -

أنه قال إذا أعطى الرجل امرأته عطية فهي له صدقة

وقول سعد أتخلف عن هجرتي عنى به أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -

نهى المهاجرين أن يقيموا بعد النفر أكثر من ثلاث فأخبره النبي ص

- أنه يتخلف بعده حتى ينفع الله به أقواما ويضر به آخرين وكذلك كان فإنه بقي بعده ص -

وفتح الله على يده بلاد العجم وأزال به ملك الأكاسرة وذلك من علوم الغيب

الذي لا يعلمه غير الله تعالى
حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبدالله عبيدالله بن حاتم العجلي قال حدثني عبدالأعلى بن واصل قال حدثنا إسماعيل بن صبيح قال حدثنا مبارك بن حسان قال حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال حاكيا عن الله تعالى أنه قال يا ابن آدم اثنتان ليست لك واحدة منهما جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك ففي هذا الحديث أيضا أن له بعض المال عند الموت لا جميعه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن أحمد بن شيبة قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثنا عثمان قال سمعت طلحة بن عمرو قال حدثنا عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم
قال أبو بكر فهذه الأخبار الموجبة للاقتصار بالوصية على الثلث عندنا في حيز التواتر الموجب للعلم لتلقي الناس إياها بالقبول وهي مبينة لمراد الله تعالى في الوصية المذكورة في الكتاب انها مقصورة على الثلث
وقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أبو دين يدل على أن

من ليس عليه دين لآدمي ولم يوص بشيء أن جميع ميراثه لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة لم يجب إخراجه إلا أن يوصي به وكذلك الكفارات والنذور
فإن قيل إن الحج دين وكذلك كل ما يلزمه الله تعالى من القرب في المال لقول النبي صلى الله عليه وسلم -

للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه

أكان يجزئ قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء
قيل له أن النبي صلى الله عليه وسلم -

إنما سماه دين الله تعالى ولم يسمه بهذا الاسم إلا مقيدا فلا يتناوله

الإطلاق وقول الله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به على الإطلاق فلا ينطوي تحته ما لا يسمى به إلا مقيدا لأن في اللغة والشرع أسماء مطلقة وأسماء مقيدة فلا يتناول المطلق إلا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق فإذا لم تتناول الآية ما كان من حق الله تعالى من الديون لما وصفنا اقتضى قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين أنه إذا لم يوص ولم يكن عليه دين لآدمي أن يستحق الوارث جميع تركته وحديث سعد يدل على ذلك أيضا لأنه قال أتصدق بمالي وفي لفظ آخر أوصي بمالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

الثلث والثلث كثير ولم يستثن النبي ص

- الحج ولا الزكاة ونحوها من حقوق الله تعالى ومنع الصدقة والوصية إلا بثلث المال فثبت بذلك أنه إذا أوصى بهذه الحقوق كانت من الثلث ويدل عليه أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

إن الله تعالى جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم

وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال حاكيا عن الله تعالى جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك يدل جميع ذلك على أن وصيته بالزكاة والنذور وسائر القرب وإن كانت واجبة لا تجوز إلا من الثلث والله أعلم
باب

الوصية للوارث

حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالوهاب بن نجدة قال حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يقول إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وروى عمرو بن خارجة عن

النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا وصية لوارث إلا أن تجيزها الورثة ونقل أهل السير خطبة النبي صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وفيها أن لا وصية لوارث فورد نقل ذلك مستفيضا كاستفاضة وجوب الاقتصار بالوصية على الثلث دون ما زاد لا فرق بينهما من طريق نقل الاستفاضة

واستعمال الفقهاء له وتلقيهم إياه بالقبول وهذا عندنا في حيز المتواتر الموجب للعلم والنافي للريب والشك وقوله في حديث عمرو بن خارجة إلا أن تجيزها الورثة يدل على أنها إذا أجازتها فهي جائزة وتكون وصية من قبل الموصي لا تكون هبة من قبل الوارث لأن الهبة من قبل الوارث ليست بإجازة من قبل الموروث وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن عبدالصمد قال حدثنا محمد بن عمرو قال حدثنا يونس بن راشد عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة

قال أبو بكر وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الباقون في حياته فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح وعبيدالله بن الحسن والشافعي لا يجوز ذلك حتى يجيزها بعد الموت وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت وهي جائزة عليهم وقال ابن القاسم عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله فإنه ليس لهم أن يرجعوا فأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن وكل من في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا وكذلك العم وابن العم ومن خاف منهم أنه إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح فلهم أن يرجعوا وقول الليث في هذا كقول مالك
قال أبو بكر وإن أجازوها بعد الموت جازت عند جميع الفقهاء
قال أبو بكر لما لم يكن لهم فسخها في الحياة كذلك لا تعمل إجازتهم لأنهم لم يستحقوا بعد شيئا والله أعلم
باب

الوصية بجميع المال إذا لم يكن وارث

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا لم يكن له وارث فأوصى بجميع ماله جاز وهو قول شريك بن عبدالله وقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح لا تجوز وصيته إلا من الثلث
قال أبو بكر قد بينا دلالة قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وأنهم كانوا يتوارثون بالحلف وهو أن يحالفه على أنه إن مات ورثه ما يسمى له من ميراثه من ثلث أو أكثر وقد كان ذلك حكما ثابتا في صدر الإسلام وفرضه الله تعالى بقوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ثم أنزل الله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى يوصيكم

الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فجعل ذوي الأرحام أولى من الحلفاء ولم يبطل بذلك ميراث الحلفاء أصلا بل جعل ذوي الأنساب أولى منهم كما جعل الابن أولى من الأخ فإذا لم يكن ذوو الأنساب جاز له أن يجعل ماله على أصل ما كان عليه حكم التوارث لحلف وأيضا فإن الله تعالى أوجب سهام المواريث بعد الوصية بقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين وقال للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقد بينا أن ظاهر قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين يقتضي جواز الوصية بجميع المال لولا قيام دلالة الإجماع والسنة عى منع ذلك ووجوب الاقتصار بها على الثلث وإيجاب نصيب الرجال والنساء من الأقربين فمتى عدم من وجب به تخصيص الوصية في بعض المال وجب استعمال اللفظ في جواز الوصية بجميع المال على ظاهره ومقتضاه ويدل عليه قوله ص - في حديث سعد إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فأخبر أن منع الوصية بأكثر من الثلث إنما هو لحق الورثة ويدل عليه حديث الشعبي وغيره عن عمرو بن شرحبيل قال قال عبدالله بن مسعود ليس من حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب ولا يعلم له مخالف من الصحابة وأيضا فإنه لا يخلو من لا وارث له إذا مات من أن يستحق المسلمون ماله من جهة الميراث أو من جهة أنه مال لا مالك له فيضعه الإمام حيث يرى فلما جاز أن يستحقه الرجل مع ابنه ومع أبيه والبعيد مع القريب علمنا أنه غير مستحق لهم على وجه الميراث لأن الأب والجد لا يجتمعان في استحقاق ميراث واحد من جهة الأبوة وأيضا لو كان ميراثا لم يجز حرمان واحد منهم لأن سبيل الميراث أن لا يخص به بعض الورثة دون بعض وأيضا لو كان ميراثا لوجب أن يكون لو كان الميت رجلا من همدان ولا يعرف له وارث أن يستحق ميراثه أهل قبيلته لأنهم أقرب إليه من غيرهم فلما كان إنما يستحقه بيت المال للمسلمين وللإمام أن يصرفه إلى من شاء من الناس ممن يراه أهلا له دل ذلك على أن المسلمين لا يأخذونه ميراثا وإذا لم يأخذوه ميراثا وإنما كان للإمام صرفه إلى حيث يرى لأنه مالك له فمالكه أولى بصرفه إلى من يرى ومن جهة أخرى أنهم إذا لم يأخذوه ميراثا أشبه الثلث الذي يوصي به الميت

ولا ميراث فيه فله أن يصرفه إلى من شاء فكذلك بقية المال إذا لم يستحقه الوارث كان له صرفه إلى من شاء ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع

قال

حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا أيوب قال سمعت نافعا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما حق امرئ مسلم له مال يوصي فيه تمر عليه الليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة فلم يفرق بين الوصية ببعض المال أو بجميعه وظاهره يقتضي جواز الوصية بجميع المال وقد قامت الدلالة على وجوب الاقتصار على بعضه إذا كان له وارث فإذا لم يكن له وارث فهو على ظاهر مقتضاه في جوازها بالجميع والله أعلم
باب الضرار في الوصية
قال الله تعالى غير مضار وصية من الله قال أبو بكر الضرار في الوصية على وجوه منها أن يقر في وصيته بماله أو ببعضه لأجنبي أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له زيا للميراث عن وارثه ومستحقه ومنها أن يقر باستيفاء دين له على غيره في مرضه لئلا يصل إلى وارثه ومنها أن يبيع ماله من غيره في مرضه ويقر باستيفاء ثمنه ومنها أن يهب ماله في مرضه أو يتصدق بأكثر من ثلثه في مرضه إضرارا منه بورثته ومنها أن يتعدى فيوصي بأكثر ما تجوز له الوصية به وهو الزيادة على الثلث فهذه الوجوه كلها من المضارة في الوصية وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك في فحوى قوله لسعد الثلث والثلث كثير إنك لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن المصري قال حدثنا عبدالصمد بن حسان قال حدثنا سفيان الثوري عن داود يعني ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال الإضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله قال في الوصية ومن يعص الله ورسوله قال في الوصية وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قال حدثنا حميد بن زنجويه قال حدثنا عبدالله بن يوسف قال حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الإضرار في الوصية من الكبائر وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا طاهر بن عبدالرحمن بن إسحاق القاضي قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أشعث عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى

حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة قال أبو بكر ومصادقه في كتاب الله فيما تأوله ابن عباس في قوله تعالى تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله قال في الوصية ومن يعص الله ورسوله قال في الوصية
باب

من يحرم الميراث مع وجود النسب

قال أبو بكر لا خلاف بين المسلمين أن قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وما عطف عليه من قسمة الميراث خاص في بعض المذكورين دون بعض فبعض ذلك متفق عليه وبعضه مختلف فيها فما اتفق عليه أن الكافر لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث وأن قاتل العمد لا يرث وقد بينا ميراث هؤلاء في سورة البقرة ما أجمعوا عليه منه وما اختلفوا فيه واختلف في ميراث المسلم الكافر وميراث المرتد فأما ميراث المسلم من الكافر فإن الأمة من الصحابة متفقون على نفي التوارث بينهما وهو قول عامة التابعين وفقهاء الأمصار وروى شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن ابن باباه عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال كان معاذ بن جبل باليمن فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاه مسلما فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول الإسلام يزيد ولا ينقص وروى ابن شهاب عن داود بن أبي هند قال قال مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية قال كان يورث المسلم من اليهودي والنصراني ولا يورث اليهودي والنصراني من المسلم قال فقضى بها أهل الشام قال داود فلما قدم عمر بن عبدالعزيز ردهم إلى الأمر الأول وروى هشيم عن مجالد عن الشعبي أن معاوية كتب بذلك إلى زياد يعني توريث المسلم من الكافر فأرسل زياد إلى شريح فأمره بذلك وكان شريح قبل ذلك لا يورث المسلم من الكافر فأرسل زياد إلى شريح فأمره بذلك وكان شريح قبل ذلك لا يورث المسلم من الكافر فلما أمره زياد بما أمره قضى بقوله فكان شريح إذا قضى بذلك قال هذا قضاء أمير المؤمنين وقد روى الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يتوارث أهل ملتين شتى وفي لفظ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا يتوارث أهل ملتين بهذه الأخبار تمنع توريث المسلم من الكافر

والكافر من المسلم ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم - خلافه فهو ثابت الحكم في إسقاط التوارث بينهما وأما حديث معاذ فإنه لم يعن هذه المقالة وإنما تأول فيها قوله الإيمان يزيد ولا ينقص والتأول لا يقضي به على النص والتوقيف وإنما يرد التأويل إلى المنصوص عليه يحمل على موافقته دون مخالفته وقول النبي صلى الله عليه وسلم - الإيمان يزيد ولا ينقص يحتمل أن يرد به من أسلم ترك على إسلامه ومن خرج عن الإسلام رد إليه وإذا احتمل ذلك واحتمل ما تأوله معاذ وجب حمله على موافقة خبر أسامة في منع التوارث إذ غير جائز رد النص بالتأويل والاحتمال أيضا لا تثبت به حجة لأنه مشكوك فيه وهو مفتقر في إثبات حكمه إلى دلالة من غيره فسقط الاحتجاج به وأما قول مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضى بها معاوية في توريث المسلم من الكافر فإنه يدل على بطلان هذا المذهب لإخباره أنها قضية محدثة في الإسلام وذلك يوجب أن يكون قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وإذا ثبت أن من قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وأن معاوية لا يجوز أن يكون خلافا عليهم بل هو ساقط القول معهم ويؤيد ذلك أيضا قول داود بن أبي هند أن عمر بن عبدالعزيز ردهم إلى الأمر الأول والله أعلم
باب

ميراث المرتد

اختلف السلف في ميراث المرتد الذي اكتسبه في حال الإسلام قبل الردة على أنحاء ثلاثة فقال علي وعبدالله وزيد بن ثابت والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وعمر بن عبدالعزيز وحماد بن الحكم وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والأوزاعي وشريك يرثه ورثته من المسلمين إذا مات أو قتل على ردته وقال ربيعة بن عبدالعزيز وابن أبي ليلى ومالك والشافعي ميراثه لبيت المال وقال قتادة وسعيد بن أبي عروبة إن كان له ورثة على دينه الذي ارتد إليه فميراثه لهم دون ورثته من المسلمين ورواه قتادة عن عمر بن عبدالعزيز والصحيح عن عمر أن ميراثه لورثته من المسلمين ثم اختلفوا فيما اكتسبه بعد الردة إذا قتل أو مات مرتدا فقال أبو حنيفة والثوري ما اكتسبه بعد الردة فهو فيء وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين ما اكتسبه بعد الردة أيضا فهو لورثته

المسلمين قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم يقتضي توريث المسلم من المرتد إذ لم يفرق بين الميت المسلم وبين المرتد فإن قيل يخصه حديث أسامة بن زيد لا يرث المسلم الكافر كما خص توريث الكافر من المسلم وهو وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه في منع توريث الكافر من المسلم فصار في حيز المتواتر ولأن آية الموارث خاصة بالإتفاق وأخبار الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها قيل له في بعض ألفاظ حديث أسامة لا يتوارث أهل ملتين لا يرث المسلم الكافر فأخبر أن المراد إسقاط التوارث بين أهل ملتين وليست الردة بملة قائمة لأنه وإن ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فغير مقر عليها فليس هو محكوما له بحكم أهل الملة التي انتقل إليها ألا ترى أنه وإن انتقل إلى ملة الكتابي أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها فثبت بذلك أن الردة ليست بملة وحديث أسامة مقصور في منع التوارث بين أهل ملتين وقد بين ذلك في حديث مفسر وهو ما رواه هشيم عن الزهري قال حدثنا علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا يتوارث أهل ملتين شتى لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فدل ذلك

على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك هو منع التوارث بين أهل ملتين وأيضا فإن أبا حنيفة من أصله أن ملك المرتد يزول بالردة فإذا قتل أو مات انتقل إلى التوارث ومن أجل ذلك لا يجيز تصرف المرتد في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام وإذا كان هذا أصله فهو لم يورث مسلما من كافر لأن ملكه زال عنه في آخر الإسلام وإنما ورث مسلما ممن كان مسلما
فإن قيل فإذا يكون قد ورثته منه وهو حي
قيل له ليس يمتنع توريث الحي قال الله تعالى وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وكانوا أحياء وعلى أنا إنما نقلنا المال إلى الورثة بعد الموت فليس فيه توريث الحي ويقال للسائل عن ذلك وأنت إذا جعلت ماله لبيت المال فقد ورثت منه جماعة المسلمين وهو كافر وورثتهم منه وهو حي إذا لحق بدار الحرب مرتد وأيضا فإن المسلمين إذا كانوا إنما يستحقون ماله بالإسلام فقد اجتمع للورثة القرابة والإسلام وجب أن يكونوا أولى بماله لاجتماع السببين لهم وانفراد المسلمين بأحدهما دون الآخر والسببان اللذان اجتمعا للورثة هو الإسلام وقرب النسب فأشبه سائر الموتى من المسلمين لما كان ماله مستحقا للمسلمين كان من اجتمع له قرب النسب مع الإسلام أولى ممن بعد نسبه منه وإن

كان له إسلام فإن قال قائل هذه العلة توجب توريثه من مال الذمي قيل له لا يجب ذلك لأن مال الذمي بعد موته غير مستحق بالإسلام لاتفاق الجميع على أن ورثته من أهل الذمة أولى به من المسلمين واتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن مال المرتد مستحق بالإسلام فمن قائل يقول يستحقه جماعة المسلمين وآخرين يقولون يستحقه ورثته من المسلمين فلما كان ماله مستحقا بالإسلام أشبه مال المسلم الميت لما كان مستحقا بالإسلام كان من اجتمع له الإسلام وقرب النسب أولى من جماعة المسلمين فإن قيل فلو مات ذمي وترك مالا ولا وارث له من أهل دينه وله قرابة مسلمون كان ماله لجماعة المسلمين ولم يكن أقاربه من المسلمين أولى به لاجتماع السببين لهم من الإسلام والنسب قيل له إن مال الذمي غير مستحق بالإسلام والدليل عليه أنه لو كانت له ورثة من أهل الذمة لم يستحق المسلمون ماله وما استحق من مال الذمي بالإسلام لا يكون ورثته من أهل الذمة أولى به منهم بل يكونون هم أولى كمواريث المسلمين فدل ذلك على أن مال الذمي وإن جعل لبيت المال إذا لم يكن له وارث فليس هو مستحقا بالإسلام وإنما هو مال لا مالك له وجده الإمام في دار الإسلام كاللقطة التي لا يعرف مستحقها فتصرف في وجوه القرب إلى الله تعالى فإن قيل فقد قال أبو حنيفة فيما اكتسبه المرتد في حال ردته أنه فيء لبيت المال وهذا ينقض الإعتلال ويدل على أصل المسألة للمخالف قيل له لا يلزم ذلك ولا دلالة فيه على قول المخالف وذلك لأن ما اكتسبه في حال الردة هو بمنزلة مال الحربي ولا يملكه ملكا صحيحا ومتى جعلناه في بيت المال بعد موته أو قبله فإنما يصير ذلك المال مغنوما كسائر أموال الحرب إذا ظفرنا بها وما يؤخذ على وجه الغنيمة فليس بمستحق لبيت المال لأجل الإسلام لأن الغنائم ليست بمستحقه لغانميها بالإسلام والدليل عليه أن الذمي متى شهد القتال استحق أن يرضخ له من الغنيمة فثبت بذلك أن مال الحربي ومال المرتد الذي اكتسبه في الردة مغنوم غير مستحق بالإسلام فلم يعتبر فيه قرب النسب والإسلام كما اعتبرناه في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام لأن ذلك المال كان ملكه فيه صحيحا إلى أن ارتد ثم زال ملكه عنه بالردة فمن يستحقه من الناس فإنما يستحقه بالميراث والمواريث يعتبر فيها الإسلام وقرب النسب إذا كان ملكا لمسلم إلى أن زال عنه بالردة الموجبة لزوال ملكه كما يزول بالموت فلم يلزم عليه حكم ماله المكتسب في حال الردة ولا يجوز

أيضا أن يكون أصلا للمال المكتسب في حال الإسلام لأن ملكه فيه كان صحيحا إلى أن زال عنه بالموت والمال المكتسب في حال الردة بمنزلة مال الحربي ملكه فيه غير صحيح لأنه اكتسبه وهو مباح الدم فمتى حصل في يد المسلمين صار مغنوما بمنزلة حربي دخل إلينا بغير أمان فأخذناه مع ماله أن ماله يكون غنيمة فكذلك مال المرتد الذي اكتسبه في حال الردة
فإن احتج محتج بحديث البراء بن عازب قال مر بي خالي أبو بردة ومعه الراية فقلت إلى أين تذهب فقال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وهذا يدل على أن مال المرتد

فيء
قيل له إنما فعل ذلك لأن الرجل كان محاربا مع استحلاله لذلك حربيا فكان ماله مغنوما لأن الراية إنما تعد للمحاربة وقد روى معاوية بن قرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه ويخمس ماله وهذا يدل

على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة ولذلك أخذ منه الخمس
فإن قيل ما أنكرت أن يكون مال المرتد مغنوما
قيل له أما ما اكتسبه في حال الردة فهو كذلك وأما ما اكتسبه في حال الإسلام فغير جائز أن يكون مغنوما من قبل أن ما كان يغنم من الأموال سبيله أن يكون ملك مالكه غير صحيح فيه قبل الغنيمة كمال الحربي ومال المرتد قبل الردة قد كان ملكه فيه صحيحا فغير جائز أن يغنم كما لا يغنم أموال سائر المسلمين إذ كانت أملاكهم فيه صحيحة وزواله عن المرتد بالردة كزواله بالموت فمتى انقطع حقه عنه بالقتل أو بالموت أو اللحاق بدار الحرب استحقه ورثته دون سائر المسلمين لأن سائر المسلمين إن استحقوه بالإسلام لا على أنه غنيمة كانت ورثته أولى به لاجتماع الإسلام والقرابة لهم وإن استحقوه بأنه غنيمة لم يصح ذلك لما بينا من أن شرط الغنيمة أن يكون مال المغنوم غير صحيح الملك في الأصل واختلف السلف فيمن أسلم قبل قسمة الميراث فقال علي بن أبي طالب في مسلم مات فلم يقسم ميراثه حتى أسلم ابن له كافرا وكان عبدا فأعتق أنه لا شيء له وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وأبي الزناد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والشافعي وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قالا من أسلم على ميراث قبل أن يقسم شارك في الميراث وهو مذهب الحسن وأبي الشعثاء وشبهوا ذلك بالمواريث التي كانت في الجاهلية ما طرأ عليه الإسلام منها قبل القسمة قسم على حكم الإسلام ولم يعتبر وقت الموت وليس هذا عند الأولين كذلك لأن حكم

المواريث قد استقر في الشرع على وجوه معلومة وقال الله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم وقال إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك فأوجب لها الميراث بالموت وحكم لها بالنصف وللزوج بالنصف بحدوث الموت من غير شرط القسمة والقسمة إنما تجب فيما قد ملك فلا حظ للقسمة في استحقاق الميراث لأن القسمة تبع للمالك ولما كان ذلك كذلك وجب أن لا يزول ملك الأخت عنه بإسلام الابن كما لا يزول ملكها عنه بعد القسمة وأما مواريث الجاهلية فإنها لم تقع على حكم الشرع فلما طرأ الاسلام حملت على أحكام الشرع إذا لم يكن ما وقع قبل ورود الشرع مستقرا ثابتا فعفى لهم عما قد اقتسموه وحمل ما لم يقسم منها على حكم الشرع كما عفى لهم عن الربا المقبوض وحمل بعد ورود تحريم الربا ما لم يكن مقبوضا على حكم الشرع فأبطل وأوجب عليهم رد رأس المال ومواريث الإسلام قد ثبتت واستقر حكمها ولا يجوز ورود النسخ عليها فلا اعتبار فيها بالقسمة ولا عدمها كما أن عقود الربا لو وقعت في الإسلام بعد تحريم الربا واستقرار حكمه لا يختلف فيه حكم المقبوض منها وغير المقبوض في بطلان الجميع وأيضا لا خلاف نعلمه بين المسلمين أن من ورث ميراثا فمات قبل القسمة أن نصيبه من الميراث لورثته وكذلك لو ارتد لم يبطل ميراثه الذي استحقه وأنه لا يكون بمنزلة من كان مرتدا وقت الموت فكذلك من أسلم أو أعتق بعد الموت قبل القسمة فلا حظ له في الميراث والله أعلم
باب

حد الزانيين

قال الله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم الآية
قال أبو بكر لم يختلف السلف في أن ذلك كان حد الزانية في بدء الإسلام وأنه منسوخ غير ثابت الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم إلى قوله تعالى سبيلا قال وقال في المطلقات لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قال هذه الآيات قبل أن تنزل سورة النور في الجلد نسختها هذه الآية الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال والسبيل

الذي جعله لهن الجلد والرجم قال فإذا جاءت اليوم بفاحشة مبينة فإنها تخرج وترجم بالحجارة قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما قال كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت وكان الرجل إذى زنى أوذي بالتعيير وبالضرب بالنعال قال فنزلت الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال وإن كانا محصنين رجما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم -

قال فهو سبيلها الذي جعله الله لها يعني قوله تعالى

حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا قال أبو بكر فكان حكم الزانية في بدء الإسلام ما أوجب من حدها بالحبس إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ولم يكن عليها في ذلك الوقت شيء غير هذا وليس في الآية فرق بين البكر والثيب فهذا يدل على أنه كان حكما عاما في البكر والثيب وقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإنه روي عن الحسن وعطاء أن المراد الرجل والمرأة وقال السدي البكرين من الرجال والنساء وروي عن مجاهد أنه أراد الرجلين الزانيين وهذا التأويل الأخير يقال أنه لا يصح لأنه لا معنى للتثنية ههنا إذ كان الوعد والوعيد إنما يجيئان بلفظ الجمع لأنه لكل واحد منهم أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الشامل لجميعهم وقول الحسن صحيح وتأويل السدي محتمل أيضا فاقتضت الآيتان بمجموعهما أن حد المرأة كان الأذى والحبس جميعا إلى أن تموت وحد الرجل التعيير والضرب بالنعال إذ كانت المرأة مخصوصة في الآية الأولى بالحبس ومذكورة مع الرجل في الآية الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمران جميعا ولم يذكر للرجال إلا الأذى فحسب ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معا فأفردت المرأة بالحبس وجمعا جميعا في الأذى وتكون فائدة إفراد المرأة بالذكر إفرادها بالحبس إلى أن تموت وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل وجمعت مع الرجل في الأذى لاشتراكهما فيه ويحتمل أن يكون إيجاب الحبس للمرأة متقدما للأذى ثم زيد في حدها وأوجب على الرجل الأذى فاجتمع للمرأة الأمران وانفرد الرجل بالأذى دونها فإن كان كذلك فإن الإمساك في البيوت إلى الموت أو السبيل قد كان حدها فإذا ألحق به الأذى صار منسوخا لأن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ إذ كان الحبس في ذلك الوقت جميع حدها ولما وردت الزيادة صار بعض حدها فهذا

يوجب أن يكون كون الإمساك حدا منسوخا وجائز أن يكون الأذى حدا لهما جميعا بديا ثم زيد في حد المرأة الحبس إلى الموت أو السبيل الذي يجعله الله لها فيوجب ذلك نسخ الأذى في المرأة أن يكون حدا لأنه صار بعضه بعد نزول الحبس فهذه الوجوه كلها محتملة
فإن قيل هل يحتمل أن يكون الحبس منسوخا بإسقاط حكمه والاقتصار على الأذى إذا كان نازل بعده
قيل له لا يجوز نسخه على جهة رفع حكمه رأسا إذ ليس في إيجاب الأذى ما ينفي الحبس لجواز اجتماعهما ولكنه يكون نسخه من طريق أنه يصير بعض الحد بعد أن كان جميعه وذلك ضرب من النسخ
وقد قيل في ترتيب الآيتين وجهان أحدهما ما روي عن الحسن أن قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما نزلت قبل قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ثم أمر أن توضع في التلاوة بعده فكأن الأذى حدا لهما جميعا ثم الحبس للمرأة مع الأذى وذلك يبعد من وجه لأن قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الهاء التي في قوله تعالى يأتيانها كناية لا بد لها من مظهر متقدم مذكور في الخطاب أو معهود معلوم عند المخاطب وليس في قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم دلالة من الحال على أن المراد الفاحشة فوجب أن تكون كناية راجعة إلى الفاحشة التي تقدم ذكرها في أول الآية إذا لو لم تكن كناية عنها لم يستقم الكلام بنفسه في إيجاب الفائدة وإعلام المراد وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة وقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر لأن من مفهوم ذكر الإنزال أنه القرآن وفي مفهوم قوله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة أنها الأرض فاكتفى بدلالة الحال وعلم المخاطب بالمراد المكنى عنه فالذي يقتضيه ظاهر الخطاب أن يكون ترتيب معاني الآيتين على حسب ترتيب اللفظ فإما أن تكونا نزلتا معا وإما أن يكون الأذى نازلا بعد الحبس إن كان المراد بالأذى من أريد بالحبس من النساء والوجه الثاني ما روي عن السدي أن قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم إنما كان حكما في البكرين خاصة والأولى في الثيبات دون الأبكار إلا أن هذا قول يوجب تخصيص اللفظ بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد مع إمكان استعمال اللفظين على حقيقة مقتضاهما وعلى أي وجه تصرفت وجوه الاحتمال في حكم الآيتين وترتيبهما فإن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين
وقد اختلف السلف في معنى السبيل المذكور في هذه الآية

فروي عن ابن عباس أن السبيل الذي جعله الجلد لغير المحصن والرجم للمحصن وعن قتادة مثل ذلك وروي عن مجاهد في بعض الروايات أو يجعل الله لهن سبيلا أو يضعن ما في بطونهن وهذا لا معنى له لأن ا لحكم كان عاما في الحامل والحائل فالواجب أن يكون السبيل مذكورا لهن جميعا
واختلف أيضا فيما نسخ هذين الحكمين فقال قائلون نسخ بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقد كان قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم في البكرين فنسخ ذلك عنهما بالجلد المذكور في هذه الآية وبقي حكم الثيب من النساء الحبس فنسخ بالرجم وقال آخرون نسخ بحديث عبادة بن الصامت وهو ما حدثنا جعفر بن محمد

قال

حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو النصر عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبدالله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم وهذا هو صحيح وذلك لأن قوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا يوجب أن يكون بيانا للسبيل المذكور في الآية ومعلوم أنه لم يكن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم - وبين الحبس والأذى واسطة حكم وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذ لأنها لو كانت نزلت كان السبيل متقدما لقوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ولما صح أن يقول ذلك فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصمت وأن آية الجلد نزلت بعده وفي ذلك دليل على نسخ القرآن بالسنة إذ نسخ بقوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ما أوجب الله من الحبس والأذى بنص التنزيل
فإن قيل فقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم وما ذكر في الآيتين من الحبس والأذى كان في البكرين دون الثيبين
قيل له لم يختلف السلف في أن حكم المرأة الثيب كان الحبس وإنما قال السدي إن الأذى كان في البكرين خاصة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم - عن السبيل المذكور في آية الحبس وذلك لا محالة في الثيب فأوجب أن يكون منسوخا بقوله الثيب بالثيب الجلد والرجم فلم يخل الحبس من أن يكون منسوخا في جميع الأحوال بغير القرآن وهي الأخبار التي فيها إيجاب رجم المحصن فمنها حديث عبادة الذي ذكرنا حديث عبدالله وعائشة وعثمان حين كان محصورا فاستشهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال

لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس وقصة ماعز والغامدية ورجم النبي صلى الله عليه وسلم - إياهما قد نقلته الأمة لا يتمارون فيه فإن قيل هذه الخوارج بأسرها تنكر الرجم ولو كان ذلك منقولا من جهة الاستفاضة الموجبة للعلم لما جهلته الخوارج
قيل له إن سبيل العلم بمخبر هذه الأخبار السماع من ناقليها وتعرفه من جهتهم والخوارج لم تجالس فقهاء المسلمين ونقلة الأخبار منهم وانفردوا عنهم غير قابلين لأخبارهم فلذلك شكوا فيه ولم يثبتوه وليس يمتنع أن يكون كثير من أوائلهم قد عرفوا ذلك من جهة الاستفاضة ثم جحدوه محاملة منهم على ما سبقوا إلى اعتقاده من رد أخبار من ليس على مقالتهم وقلدهم الأتباع ولم يسمعوا من غيرهم فلم يقع لهم العلم به أو الذين عرفوه كانوا عددا يسيرا يجوز على مثلهم كتمان ما عرفوه وجحدوه ولم يكونوا صحابة فيكونوا قد عرفوه من جهة المعاينة أو بكثرة السماع من المعاينين له فلما خلوا من ذلك لم يعرفوه ألا ترى أن فرائض صدقات المواشي منقولة من جهة النقل المستفيض الموجب للعلم ولا يعرفها إلا أحد رجلين إما فقيه قد سمعها فثبت عنده العلم بها من جهة الناقلين لها وإما رجل صاحب مواش تكثر بلواه بوجوبها فيتعرفها ليعلم ما يجب عليه فيها ومثله أيضا إذا كثر سماعه وقع له العلم بها وإن لم يسمعها إلا من جهة الآحاد لم يعلمها وهذا سبيل الخوارج في جحودهم الرجم وتحريم تزويج المرأة على عمتها وخالتها وما جرى مجرى ذلك مما اختص أهل العدل بنقله دون الخوارج والبغاة وقد تضمنت هاتان الآيتان أحكاما منها استشهاد أربعة من الشهداء على الزنا ومنها الحبس للمرأة والأذى للرجل والمرأة جميعا ومنها سقوط الأذى والتعبير عنهما بالتوبة لقوله تعالى فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما وهذه التوبة إنما كانت مؤثرة في إسقاط الأذى دون الحبس وأما الحبس فكان موقوفا على ورود السبيل وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك السبيل وهو الجلد والرجم ونسخ جميع ما ذكر في الآية إلا ما ذكر من استشهاد أربعة شهود فإن اعتبار عدد الشهود باق في الحد الذي نسخ به الحدان الأولان وهو الجلد والرجم وقد بين الله ذلك في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وقال تعالى لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فلم ينسخ اعتبار العدد ولم ينسخ الاستشهاد

أيضا وهذا يوجب جواز إحضار الشهود والنظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليها لأن الله تعالى أمر بالاستشهاد على الزنا وذلك لا يكون إلا بتعمد النظر فدل ذلك على أن تعمد النظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما لا يسقط شهادته وكذلك فعل أبو بكر مع شبل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد في قصة المغيرة بن شعبة وذلك موافق لظاهر الآية وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن الآية روى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤا زوجوها وإن شاؤا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية في ذلك وقال الحسن ومجاهد كان الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه ورثت امرأته كما ووثت ماله فإن شاء تزوجها بالصداق الأول وإن شاء زوجها وأخذ صداقها قال مجاهد وذلك إذا لم يكن ابنها قال أبو مجلز فكان بالميراث أولى من ولي نفسها وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل يقوم أقرب الناس منه فيلقي على امرأته ثوبا فيرث نكاحها فمات أبو عامر زوج كبشة بنت معن فجاء ابن عامر من غيرهما وألقى عليها ثوبا فلم يقربها ولم ينفق عليها فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فأنزل الله لا

يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن أن تؤتوهن الصداق الأول وقال الزهري كان يحبسها من غير حاجة إليها حتى تموت فيرثها فنهوا عن ذلك وقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك هو أمر للأزواج تخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة ولا يمسكها إضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها وقال الحسن هو نهي لولي الزوج الميت أن يمنعها من التزويج على ما كان عليه أمر الجاهلية وقال مجاهد هو نهي لوليها أن يعضلها قال أبو بكر الأظهر هو التأويل تأويل ابن عباس لأن قوله تعالى لتذهبوا بعض ما آتيتموهن وما ذكر بعده يدل عليه لأن قوله لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن يريد به المهر حتى تفتدي كأنه يعضلها أو يسيء إليها لتفتدي منه ببعض مهرها وقوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قال الحسن وأبو قلابة والسدي هو الزنا وإنه إنما تحل له الفدية إذا اطلع منها على ريبة وقال ابن عباس والضحاك وقتادة هي النشوز فإذا نشزت حل له أن يأخذ منها الفدية وقد بينا في سورة البقرة أمر الخلع وأحكامه

وقوله تعالى وعاشروهن بالمعروف أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها والميل إلى غيرها وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب جرى مجرى ذلك نظير قوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقوله تعالى فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا يدل على أنه مندوب إلى إمساكها مع كراهته لها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يوافق معنى ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن خالد بن يزيد النيلي قال حدثنا مهلب بن العلاء قال حدثنا شعيب بن بيان عن عمران القطان عن قتادة عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

تزوجوا ولا تطلقوا فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات فهذا القول من

النبي صلى الله عليه وسلم - موافق لما دلت عليه الآية من كراهة الطلاق والندب إلى الإمساك بالمعروف مع كراهته لها وأخبر الله تعالى أن الخيرة ربما كانت لنا في الصبر على ما نكره بقوله تعالى فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وهو كقوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم وقوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا الآية قد اقتضت هذه الآية إيجاب المهر لها تمليكا صحيحا ومنع الزوج أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها وأخبر أن ذلك سالم لها سواء استبدل بها أو أمسكها وأنه محظور عليه أخذ شيء منه إلا بما أباح الله تعالى به أخذ مال الغير في قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وظاهره يقتضي حظر أخذ شيء منه بعد الخلوة فيحتج به في إيجاب كمال المهر إذا طلق بعد الخلوة لعموم اللفظ في حظر الأخذ في كل حال إلا ما خصه الدليل وقد خص قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إذا طلق قبل الخلوة في سقوط نصف المهر لأنه لا خلاف أن ذلك مراد إذا طلق قبل الخلوة وقد اختلف في الخلوة هل هي المسيس المراد بالآية أو المسيس الجماع واللفظ محتمل للأمرين لأن عليا وعمر وغيرهما من الصحابة قد تأولوه

عليها وتأوله عبدالله بن مسعود على الجماع فلا يخص عموم قوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا بالاحتمال وقوله تعالى وآتيتم إحداهم قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا يدل على أن من وهب محله مراته هبة لا يجوز له الرجوع فيها لأنها مما آتاها وعموم اللفظ قد حظر أخذ شيء مما آتاها من غير فرق بين المهر وغيره ويحتج فيمن خلع امرأته على مال وقد أعطاها صداقها أنه لا يرجع عليها بشيء من الصداق الذي أعطاها عينا كان أو عرضا ما قاله أبو حنيفة في ذلك ويحتج به فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى فظاهر اللفظ قد تناول هذه الحال فإن قيل لما عقب ذلك قوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض دل على أن المراد بأول الخطاب فيما أعطاها هو المهر دون غيره إذ كان هذا المعنى إنما يختص بالمهر دون ما سواه قيل له ليس يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما انتظمه الاسم ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول وقد بينا نظائر ذلك في مواضع وهذه الآية أيضا تدل على أنه إذا دخل بها ثم وقعت الفرقة من قبلها بمعصية أو غير معصية أن مهرها واجب لا يبطله وقوع الفرقة من قبلها وفائدة تخصيص الله تعالى حال الاستبدال بالنهي عن أخذ شيء مما أعطاها مع شمول الحظر لسائر الأحوال إزالة توهم من يظن أن ذلك جائز عند حصول البضع لها وسقوط حق الزوج عنه بطلاقها وأن الثانية قد قامت مقام الأولى فتكون أولى بالمهر الذي أعطاها فنص على حظر الأخذ في هذه الحال ودل به على عمومه في سائر الأحوال إذا لم يبح له أخذ شيء مما أعطاها في الحال التي يسقط حقه عن بضعها فهو أولى أن لا يأخذ منها شيئا مع بقاء حقه في استباحة بضعها وكونه أملك بها من نفسها وأكد الله تعالى حظر أخذ شيء مما أعطى بأن جعله ظلما كالبهتان وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه وهذا أقبح ما يكون من الكذب وأفحشه فشبه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه بهتانا وإثما قوله عز و جل وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا قال أبو بكر ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول وقول الفراء حجة فيما يحكيه من اللغة فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة فقد منعت

الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق لأن قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج قد أفاد الفرقة والطلاق والإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه فسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول ومن الناس من يقول أن الفضاء السعة وأفضى إذا صار المتسع مما يقصده وجائز على هذا الوضع أيضا أن تسمى الخلوة إفضاء لوصوله بها إلى مكان الوطء واتساع ذلك بالخلوة وقد كان يضيق عليه الوصول إليها قبل الخلوة فسميت الخلوة إفضاء لهذا المعنى فأخبر تعالى أنه غير جائز له أخذ شيء مما أعطاها مع إفضاء بعضهم إلى بعض وهو الوصول إلى مكان الوطء وبذلها ذلك له وتمكينها إياه من الوصول إليها فظاهر هذه الآية تمنع الزوج أخذ شيء مما أعطاها إذا كان النشوز من قبله لأن قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج يدل على أن الزوج هو المريد للفرقة دونها ولذلك

قال

أصحابنا إن النشوز إذا كان من قبله يكره له أن يأخذ شيئا من مهرها وإذا كان من قبلها فجائز له ذلك لقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فقيل عن ابن عباس إن الفاحشة هي النشوز وقال غيره هي الزنا ولقوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ومن الناس من يقول إنها منسوخة بقوله وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وذلك غلط لأن قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج قد أفاد حال كون النشوز من قبله وقوله تعالى إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله إنما فيه ذكر حال أخرى غير الأولى وهي الحال التي يكون النشوز منها وافتدت فيها المرأة منه فهذه حال غير تلك وكل واحد من الحالين مخصوصة بحكم دون الأخرى وقوله تعالى وأخذن منكم ميثاقا غليظا قال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي هو قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال قتادة وكان يقال للناكح في صدر الإسلام الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان وقال مجاهد كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج وقال غيره هو قول النبي صلى الله عليه وسلم -

إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى والله أعلم

بالصواب
باب ما يحرم من النساء
قال الله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء قال أبو بكر أخبرنا أبو عمر

غلام ثعلب قال الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين تقول العرب أنكحنا الفرا فسنرى هو مثل ضربوه للأمر يتشاورون فيه ويجتمعون عليه ثم ينظر عماذا يصدرون فيه معناه جمعنا بين الحمار وأتانه
قال أبو بكر إذا كان اسم النكاح في حقيقة اللغة موضوعا للجمع بين الشيئين ثم وجدناهم قد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد كما قال الأعشى ... ومنكوحة غير ممهورة ... وأخرى يقال له فادها ...

يعني

المسبية الموطوأه بغير مهر ولا عقد وقال الآخر ... ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال تلهف ...

وهو

يعني المسبية أيضا ومنه قول الآخر أيضا ... فنكحن أبكارا وهن بأمة ... أعجلنهن مظنة الأعذار ...
وهو يعني الوطء أيضا ولا يمتنع أحد من إطلاق اسم النكاح على الوطء وقد تناول الاسم العقد أيضا قال الله تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن والمراد به العقد دون الوطء وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أنا من نكاح ولست من سفاح فدل بذلك على معنيين أحدهما أن اسم النكاح يقع على العقد والثاني دلالته على أنه قد يتناول الوطء من غير عقد لولا ذلك لاكتفى بقوله أنا من نكاح إذ كان السفاح لا يتناول اسم النكاح بحال فدل قوله ولست من سفاح بعد تقديم ذكر النكاح أن النكاح يتناول له الأمرين فبين ص - أنه من العقد الحلال لا من النكاح الذي هو سفاح ولما ثبت بما ذكرنا أن الاسم ينتظم الأمرين جميعا من العقد والوطء وثبت بما ذكرنا من حكم هذا الاسم في حقيقة اللغة وانه اسم للجمع بين الشيئين والجمع إنما يكون بالوطء دون العقد إذا العقد لا يقع به جمع لأنه قول منهما جميعا لا يقتضي جمعا في الحقيقة ثبت أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز للعقد وأن العقد إنما سمي نكاحا لأنه سبب يتوصل به إلى الوطء تسمية الشيء باسم غير ه إذا كان منه بسبب أو مجاورا له مثل الشعر الذي يولد الصبي وهو على رأسه يسمى عقيقة ثم سميت الشاة التي تذبح عنه عند حلق ذلك الشعر عقيقة وكالراوية التي هي اسم للجمل الذي يحمل المزادة ثم سميت المزادة راوية لاتصالها به وقربها منه وقال أبو النجم

تمشي من الردة مشي الحفل ... مشي الروايا بالمزاد الأثقل ...
ونحوه الغائط هو اسم للمكان المطمئن من الأرض ويسمى به ما يخرج من الإنسان مجازا أنهم كانوا يقصدون الغائط لقضاء الحاجة ونظائر ذلك كثيرة فكذلك النكاح اسم للوطء حقيقة على مقتضى موضوعه في أصل اللغة ويسمى العقد باسمه مجازا لأنه يتوصل به إليه وهو سببه ويدل على أنه سمي باسم العقد مجازا أن سائر العقود من البياعات والهبات لا يسمى منها شيء نكاح وإن كان قد يتوصل به إلى استباحة وطء الجارية إذ لم تختص هذه العقود بإباحة الوطء لأن هذه العقود تصح فيمن يحظر عليه وطؤها كأخته من الرضاعة ومن النسب وأم امرأته ونحوها وسمي العقد المختص بإباحة الوطء نكاحا لأن من لا يحل له وطؤها لا يصح نكاحها فثبت بذلك أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز في العقد فوجب إذا كان هذا على ما وصفنا أن يحمل قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء على الوطء فاقتضى ذلك تحريم من وطئها أبوه من النساء عليه لأنه لما ثبت أن النكاح اسم للوطء لم يختص ذلك بالمباح منه دون المحظور كالضرب والقتل والوطء نفسه لا يختص عند الإطلاق بالمباح منه دون المحظور بل هو على الأمرين حتى تقوم الدلالة على تخصيصه وكان أبو الحسن يقول إن قوله تعالى ما نكح أباؤكم مراده الوطء دون العقد من حيث اللفظ حقيقة فيه ولم يرد به العقد لاستحالة كون لفظ واحد مجازا حقيقة في حال واحدة وإنما أوجبنا التحريم بالعقد بغير الآية
وقد اختلف أهل العلم في إيجاب تحريم الأم والبنت بوطء الزنا فروى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته حرمت عليه امرأته وهو قول الحسن وقتادة وكذلك قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسالم بن عبدالله ومجاهد وعطاء وإبراهيم وعامر وحماد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي ولم يفرقوا بين وطء الأم قبل التزوج أو بعده في إيجاب تحريم البنت وروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزني بأم امرأته بعد ما يدخل بها قال تخطى حر متين ولم تحرم عليه امرأته وروى عنه أنه قال لا يحرم الحرام الحلال وذكر الأوزاعي عن عطاء أنه كان

يتأول قول ابن عباس لا يحرم حرام حلالاعلى الرجل يزني بالمرأة ولا يحرمها عليه زناه وهذا يدل على أن قول ابن عباس الذي رواه عكرمة في أن الزنا بالأم لا يحرم البنت لم يكن عند عطاء كذلك لأنه لو كان ثابتا عنده لما احتاج إلى تأويل قوله لا يحرم الحرام الحلال وقال الزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي لا تحرم أمها ولا بنتها بالزنا وقال عثمان البتني في الرجل يزني بأم امرأته قال حرام لا يحرم حلالا ولكنه إن زنى بالأم قبل أن يتزوج البنت أو زنى بالبنت قبل أن يتزوج الأم فقد حرمت ففرق بين الزنا بعد التزويج وقبله
واختلف الفقهاء أيضا في الرجل يلوط بالرجل هل تحرم عليه أمه وابنته فقال أصحابنا لا تحرم عليه وقال عبدالله بن الحسين هو مثل وطء المرأة بزنا في تحريم الأم والبنت وقال من حرم بهذا من النساء حرم من الرجال
وروى إبراهيم بن إسحاق قال سألت سفيان الثوري عن الرجل يلعب بالغلام أيتزوج أمه قال لا وقال كان الحسن بن صالح يكره أن يتزوج الرجل بامرأة قد لعب بابنها وقال الأوزاعي في غلامين يلوط أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال لا يتزوجها الفاعل
قال أبو بكر قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء قد أوجب تحريم نكاح امرأة قد وطئها أبوه بزنا أو غيره إذ كان الاسم يتناوله حقيقة فوجب حمله عليها وإذا ثبت ذلك في وطء الأب ثبت مثله في وطء ام المرأة أو ابنتها في إيجاب تحريم المرأة لأن أحدا لم يفرق بينها ويدل على ذلك قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن والدخول بها اسم للوطء وهو عام في جميع ضروب الوطء من مباح أو محظور ونكاح أو سفاح فوجب تحريم البنت بوطء كان منه قبل تزويج الأم لقوله تعالى اللاتي دخلتم بهن ويدل على أن الدخول بها اسم للوطء وأنه مراد بالآية وأن اسم الدخول لا يختص بوطء نكاح دون غيره أنه لو وطىء الأم بملك اليمين حرمت عليه البنت تحريما مؤبدا بحكم الآية وكذلك لو وطئها بنكاح فاسد فثبت أن الدخول لما كان اسما للوطء لم يختص فيما علق به من الحكم بوطء بنكاح دون ما سواه من سائر ضروب الوطء ويدل عليه من جهة النظر أن الوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد لأنا لم نجد وطأ مباحا إلا وهو موجب للتحريم وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت ولو وطئها حرمت فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم

فكيفما وجد ينبغي أن يحرم مباحا كان الوطء أو محظورا لوجود الوطء لأن التحريم لم يخرجه من أن يكون وطأ صحيحا فلما اشتركا في هذا المعنى وجب ان يقع به تحريم وأيضا لا خلاف أن الوطء بشبهة وبملك اليمين يحرمان مع عدم النكاح وهذا يدل على أن الوطء يوجب التحريم على أي وجه وقع فوجب أن يكون وطء الزنا محرما لوجود الوطء الصحيح
فإن قيل إن الوطء بملك اليمين وبشبهة إنما تعلق بهما التحريم لما يتعلق بهما من ثبوت ا لنسب والزنا لا يثبت به النسب فلا يتعلق به حكم التحريم
قيل له ليس لثبوت النسب تأثير في ذلك لأن الصغير الذي لا يجامع مثله لو جامع امرأته حرمت عليه أمها وبنتها ولم يتعلق بوطئه ثبوت النسب ومن عقد على امرأة نكاحا تعلق بعقد النكاح ثبوت النسب قبل الوطء حيتى لو جاءت بولد قبل الدخول وبعد العقد بستة أشهر لزمه ولم يتعلق بالعقد تحريم البنت فإذ كنا وجدنا الوطء مع عدم ثبوت النسب به يوجب التحريم والعقد مع تعلق ثبوت النسب به لا يوجب التحريم علمنا أنه لا حظ لثبوت النسب في ذلك وإن الذي يجب اعتباره هو الوطء لا غير وأيضا لا خلاف بييننا وبينهم أنه لو لمس أمته لشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وليس للمس حظ في ثبوت النسب فدل على أن حكم التحريم ليس بموقوف على النسب وأنه جائز ثبوته مع ثبوت النسب وجائز ثبوته أيضا مع عدم ثبوت النسب
ويدل على صحة قول أصحابنا أنا وجدنا الله تعالى قد غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة وبأيجاب الجلد أخرى وأوعد عليه بالنار ومنع إلحاق النسب به وذلك كله تغليط لحكمه فوجب أن يكون بإيجاب التحريم أولى إذ كان إيجاب التحريم ضربا من التغليظ ألا ترى أن الله تعالى لما حكم ببطلان حج من جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة كان الزاني أولى ببطلان الحج لأن بطلان الحج تغليظ لتحريم الجماع فيه كذلك لما حكم الله بإيجاب تحريم الأم والبنت بالوطء الحلال وجب أن يكون الزنا أولى بإيجاب التحريم تغليظا لحكمه
وقد زعم الشافعي أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ كان قاتل العمد أولى إذا كان حكم العمد أغلظ من حكم الخطأ ألا ترى أن الوطء لم يختلف حكمه أن يكون بزنا أو غيره فيما تعلق به من فساد الحج والصوم ووجوب الغسل فكذلك ينبغي ان يستويا في حكم التحريم
فإن قيل الوطء المباح يتعلق به حكم في إيجاب المهر ولا يتعلق ذلك بالزنا
قيل له قد تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد

ما هو أغلظ من إيجاب المال وعلى أن المال والحد يتعاقبان على الوطء لأنه متى وجب الحد لم يجب المهر ومتى وجب المهر لم يجب الحد فكل واحد منهما يخلف الآخر فإذا وجب الحد فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم فلا فرق بينهما من هذا الوجه فإن احتج محتج بما حدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن الليث الجزري قال حدثنا إسحاق بن بهلول قال حدثنا عبدالله بن نافع المدني قال حدثنا المغيرة بن إسماعيل بن أيوب ابن سلمة الزهري عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن الرجل يتبع المرأة حراما أينكح أمها أو يتبع الأم حراما أينكح ابنتها

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح وبما رواه إسحاق بن محمد الفروي عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا يحرم الحرام الحلال وروى عمر بن حفص عن عثمان بن عبدالرحمن عن

الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يفسد الحرام الحلال
فإن هذه الأخبار باطلة عند أهل المعرفة ورواتها غير مرضيين أما المغيرة بن إسماعيل فمجهول لا يعرف لا يجوز ثبوت شريعة بروايته لا سيما في اعتراضه على ظاهر القرآن وإسحاق بن محمد الفروي مطعون في روايته وكذلك عمر بن حفص ولو ثبت لم يدل على قول المخالف لأن الحديث الأول إنما ذكر فيه الرجل ويتبع المرأة وليس فيه ذكر الوطء فكان قوله ص - لا يحرم إلا ما كان بنكاح جوابا عما سأله من اتباع المرأة وذلك إنما يكون بأن يتبعها نفسه فيكون منه نظرا إليها مراودتها على الوطء وليس فيه إثبات الوطء فأخبر ص - أن مثل ذلك لا يوجب تحريما وأنه لا يقع بمثله التحريم إلا أن يكون بينهما عقد نكاح وليس فيه للوطء ذكر وقوله لا يحرم الحرام الحلال إنما هو فيما سئل عنه من اتباع المرأة من غير وطء وأما حديث ابن عمر وقوله لا يحرم الحرام الحلال فجائز أن يكون في هذه القصة بعينها إن صحت فكان جوابا لما سئل عنه من النظر والمراودة من غير جماع وتكون فائدته إزالة توهم من يظن أن النظر بانفراده يحرم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال زنا العينين النظر وزنا الرجلين المشي فكان جائز أن يظن ظان أن

النظر بانفراده يحرم كما يحرم الوطء لتسمية النبي صلى الله عليه وسلم - إياه زنا فأخبر ص - أن ذلك لا يحرم وإن التحريم إذا لم تكن ملامسة إنما يتعلق بالعقد وإن لم يكن مسيس وإذا

احتمل هذا الخبر ما وصفنا زال الاعتراض به وعلى أنهم متفقون أن التحريم غير مقصور على النكاح ولا على الوطء المباح لأنه لا خلاف أن من وطىء أمته حائضا أن هذا وطء حرام في غير نكاح وأنه يوجب التحريم فبطل أن يكون حكم التحريم مقصورا على النكاح ولا على وطء مباح وكذلك لو وطىء جارية بينه وبين غيره أو جاريته وهي مجوسية كان واطئا وطأ حراما في غير نكاح موجب للتحريم وهذا يدل على أن الحديث إن ثبت فليس بعموم في نفي إيجاب التحريم بوطء حرام وأيضا قد حرم الله تعالى امرأة المظاهر عليه بالظهار وقد سماه منكرا من القول وزورا ولم يكن هذا القول محرما مانعا من وقوع تحريم الوطء به وأيضا فإن قوله الحرام لا يحرم الحلال لا يصح الاحتجاج به لوروده مطلقا من وجه صحيح غير متعلق بسبب من وجهين أحدهما أن الحرام والحلال إنما هو حكم الله تعالى بالتحريم والتحليل وقد علمنا حقيقة أن حكم الله تعالى بالتحريم في شيء وبالتحليل في غيره ليس يتعلق به حكم آخر في إيجاب تحريم أو تحليل إلا بدلالة فهذا اللفظ إذا حمل على حقيقته لم يكن له تعلق بمسألتنا لأنا كذلك نقول أن حكم الله تعالى بالتحريم لا يوجب تحريم مباح بنفس ورود الحكم إلا أن يقول الدليل على إيجاب تحريم غيره من حيث حرم هو وفائدته حينئذ أن ما قد حكم الله تعالى بتحليله نصا فهو مقر على ما حكم به من تحليله وإذا حكم بتحريم شيء آخر لم يجز الاعتراض على المحكوم بتحليله بديا بتحريم غيره من طريق القياس فمنع تحريم المباح بالقياس ودل ذلك على بطلان قول من يجيز النسخ بالقياس هذا الذي تقتضيه حقيقة اللفظ إن صح فهذا أحد الوجهين اللذين ذكرنا والوجه الآخر أن يكون المراد بقوله الحرام لا يحرم الحلال أن فعل الحرام لا يحرم الحلال فإن كان هذا أراد فلا محالة أن في اللفظ ضميرا يجب اعتباره دون اعتبار حقيقة معنى اللفظ فلا يصح له الاحتجاج به من وجهين أحدهما أن الضمير ليس بمذكور يعتبر عمومه فيسقط الاحتجاج بعمومه إذ الضمير ليس بمذكور حتى يكون لفظ عموم فيما تحته من المسميات فلا يصح لأحد الاحتجاج بعموم ضمير غير مذكور والوجه الآخر أنه لا يصح اعتبار العموم فيه من قبل أنه لا يصح اعتقاد العموم في مثله لاتفاق المسلمين على إيجاب تحريم الحرام الحلال وهو الوطء بنكاح فاسد ووطء الأمة الحائض والطلاق الثلاث في الحيض والظهار والخمر إذا

خالطت الماء والردة تبطل النكاح وتحرمها على الزوج وغير ذلك من الأفعال المحرمة للحلال فقوله ص - الحرام لا يحرم الحلال لو ورد بلفظ عموم لما صح اعتقاد العموم فيه وكان مفهوما مع وروده أنه أراد بعض الأفعال المحرمة لا يحرم الحلال فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه كسائر الألفاظ المجملة وأيضا لو نص النبي صلى الله عليه وسلم - على ما ادعيت من ضميره فقال إن فعل الحرام لا يحرم الحلال لما دل على ما ذكرت لأنا كذلك نقول إن فعل الحرام لا يحرم الحلال فيكون ذلك محمولا على حقيقة ولا دلالة فيه أن الله لا يحرم الحلال عند وقوع فعل حرام
فإن قيل معناه أن الله لا يحرم الحلال يفعل الحرام
قيل له فإذا قوله الحرام لا يحرم الحلال إذا كان المراد به ما ذكرت مجاز ليس بحقيقة فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه إذ لا يجوز استعمال المجاز إلا عند قيام الدلالة عليه
وذكر الشافعي أن مناظرة جرت بينه وبين بعض الناس فيها أعجوبة لمن تأملها قال الشافعي قال لي قائل لم قلت إن الحرام لا يحرم الحلال قلت قال الله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وقال وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وقال وأمهات نسائكم الى قوله اللاتي دخلتم بهن أفلست تجد التنزيل إنما يحرم ما سمى بالنكاح أو الدخول والنكاح قال بلى قال قلت أفيجوز أن يكون الله حرم بالحلال شيئا وحرمه بالحرام والحرام ضد الحلال والنكاح مندوب إليه مأمور به وحرم الزنا فقال ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا قال أبو بكر تلا الشافعي آية التحريم بالنكاح والدخول وآية تحريم الزنا وهذان الحكمان غير مختلف فيهما أعني إباحة النكاح والدخول وتحريم الزنا وليس في ذلك دلالة على موضع الخلاف في المسألة لأن إباحة النكاح والدخول وإيجاب التحريم بهما ليس فيه أن التحريم لا يقع بغيرهما كما لم ينف إيجاب التحريم بالوطء بملك اليمين وتحريم الله تعالى للزنا لا يفيد أن التحريم لا يقع إلا به فإذا ليس في ظاهر تلاوة الآيتين نفي لتحريم النكاح بوطء الزنا لأن آية الزنا إنما فيها تحريم الزنا وليس تحريم الزنا عبارة عن نفي إيجابه لتحريم النكاح ولا في إيجاب التحريم بالنكاح والدخول نفي إيجابه بغيرهما فإذا لا دلالة فيما تلاه من الآيتين على موضع الخلاف ولا جوابا للسائل الذي سأله عن الدلالة على صحة قوله
ثم قال الحرام ضد الحلال فلما قال له السائل فرق بينهما قال قلت قد فرق الله بينهما لأن الله ندب إلى النكاح وحرم الزنا

فجعل فرق الله بينهما في التحليل والتحريم دليلا على السائل والسائل لم يشكل عليه إباحة النكاح وتحريم الزنا وإنما سأله عن وجه الدلالة من الآية على ما ذكر فلم يبين وجهها واشتغل بأن هذا محرم وهذا حلال فإن كان هذا السائل من عمى القلب بالمحل الذي لم يعرف بين النكاح وبين الزنا فرقا من وجه من الوجوه فمثله لا يستحق الجواب لأنه مؤوف العقل إذ العاقل لا ينزل نفسه بهذه المنزلة من التجاهل وإن كان قد عرف الفرق بينهما من جهة أن أحدهما محظور والآخر مباح وإنما سأله أن يفرق بينهما في امتناع جواز اجتماعهما في إيجاب تحريم النكاح فإن الشافعي لم يجبه عن ذلك ولم يزده على تلاوة الآيتين في الإباحة والحظر وإن الحلال ضد الحرام إذ ليس في كون الحلال ضد الحرام ما يمنع اجتماعهما في إيجاب التحريم ألا ترى أن الوطء بالنكاح الفاسد هو حرام ووطء الحائض حرام بنص التنزيل واتفاق المسلمين وهو ضد الوطء الحلال وهما متساويان في إيجاب التحريم والطلاق في الحيض محظور وفي الطهر قبل الجماع مباح وهما متساويان فيما يتيعلق بهما من إيجاب التحريم فإن كان عند الشافعي أن القياس ممتنع في الضدين فواجب أن لا يجتمعا أبدا في حكم واحد ومعلوم أن في الشريعة اجتماع الضدين في حكم واحد وإن كونهما ضدين لا يمنع اجتماعهما في أحكام كثيرة ألا ترى أن ورود النص جائز بمثله وما جاز ورود النص به ساغ فيه القياس عند قيام الدلالة عليه فإذا لم يكن ممتنعا في العقل ولا في الشرع اجتماع الضدين في حكم واحد فقوله إن الحلال ضد الحرام ليس بموجب للفرق بينهما من حيث سأله السائل ويدل على أن ذلك غير ممتنع أن الله تعالى قد نهى المصلي عن المشي في الصلاة وعن الاضطجاع فيها من غير ضرورة والمشي والاضطجاع ضدان وقد اجتمعا في النهي ولا يحتاج في ذلك إلى الإكثار إذ ليس يمتنع أحد من إجازته فلم يحصل من قول الشافعي أنهما ضدان معنى يوجب الفرق بينهما ثم حكى عن السائل أنه قال أجد جماعا وجماعا فأقيس أحدهما بالآخر قال قلت وجدت جماعا حلالا حمدت به ووجدت جماعا حراما رجمت به أفرأيته يشبهه قال ما يشبهه فهل توضحه بأكثر من هذا قال أبو بكر فقد سلم له السائل أنه ما يشبهه فإن كان مراده أنه لا يشبهه من حيث افترقا فهذا ما لا ينازع فيه وإن كان أراد لا يشبهه من حيث رام الجمع بينهما من جهة إيجاب التحريم فإنه لم يأت بدليل ينفي الشبه بينهما من هذه الجهة وليس في الدنيا

قياس إلا وهو تشبيه للشيء بغيره من بعض الوجوه دون جميعها فإن كان افتراق الشيئين من وجه يوجب الفرق بينهما من سائر الوجوه فإن في ذلك إبطال القياس أصلا إذ ليس يجوز وجود القياس فيما اشتبها فيه من سائر الوجوه فقد بان أن ما قاله الشافعي وما اسأله السائل كلام فارغ لا معنى تحته في حكم ما سئل عنه ثم قال له السائل هل توضحه بأكثر من هذا قال نعم أفتجعل الحلال الذي هو نعمة قياسا على الحرام الذي هو نقمة وهذا هو تكرار المعنى الأول بزيادة النعمة والنقمة والسؤال قائم عليه لم يجب بما تقتضيه مطالبة السائل ببيان وجه الدلالة في منع هذا القياس وهو قد جعل هذا الحرام الذي هو نقمة وهو وطء الحائض والجارية المجوسية والوطء بالنكاح الفاسد الحلال الذي هو نعمة في إيجاب التحريم فانتقض ما ذكره وادعاه من غير دلالة أقامها عليه وحكى عن السائل أنه قال إن صاحبنا قال يوجدكم أن الحرام يحرم الحلال قال قلت له أفيما اختلفنا فيه من النساء قال لا ولكن في غيره من الصلاة والمشروب والنساء قياس عليه قال قلت أفتجيز لغيرك أن يجعل الصلاة قياسا على النساءقال أما في شيء فلا قال أبو بكر فمنع الشافعي بهذا أن يقيس تحريم الحرام والحلال من غير النساء على النساء مع إطلاقه القول بديا أنه إنما لم يجز قياس الزنا على الوطء المباح لأنه حرام وهو ضد الحلال والحلال نعمة والحرام نقمة من غير تقييد لذلك بأن هذه القضية في منع القياس مقصورة على النساء دون غيرهن وإطلاقه الاعتلال بالفرق الذي ذكر يلزمه إجراؤه في سائر ما وجد فيه فإذا لم يفعل ذلك فقد ناقض ثم يقال له فإذا جاز تحريم الحرام الحلال في غير النساء هلا جاز مثله في النساء مع كون أحدهما ضد الآخر وكون أحدهما نعمة والآخر نقمة كما كان الوطء بملك اليمين مثل الوطء بالنكاح في إيجاب التحريم مع كون ملك اليمين ضد للنكاح ألا ترى أن ملك اليمين والنكاح لا يجتمعان لرجل واحد وحكى عن السائل أنه قال له إن الصلاة حلال والكلام فيها حرام فإذا تكلم فيها فسدت عليه صلاته فقد أفسد الحلال بالحرام قال قلت له زعمت أن الصلاة فاسدة الصلاة لا تكون فاسدة ولكن الفاسد فعله لا هي ولكن لا تجزى عنك الصلاة لأنك لم تأت بها كما أمرت قال أبو بكر ما ظننت أن أحدا ممن ينتدب لمناظرة خصم يبلغ به الإفلاس من الحجاج إلى أن يلجأ إلى مثل هذا مع سخافة عقل السائل وغباوته وذلك لأن أحدا لا يمتنع من إطلاق القول

بفساد صلاته إذا فعل فيها ما يوجب بطلانها كما لا يمتنع من إطلاق القول بفساد النكاح إذا وجد فيه ما يبطله فإن كان الذي أوجب الفرق بينهما أنه لا يطلق اسم الفساد على الصلاة مع بطلانها مع إطلاق الناس كلهم ذلك فيها فإنه لا يعوز خصمه أن يقول مثل ذلك في النكاح إني لا أقول أن نكاحه يفسد والنكاح لا يكون فاسدا وإنما فعله وهو الزنا هو الفاسد فأما النكاح فلم يفسد ولكن المرأة بانت منه وخرجت من حباله فهما سواء من هذا الوجه ثم يقال له أحسب أنا قد سلمنا لك ما ادعيت من امتناع اسم الفساد على الصلاة التي قد بطلت أليس السؤال قائما عليك في المعنى إذا سلمنا لك الاسم وهو أن يقال لك ما أنكرت أنه لما جاز خروج المتكلم من الصلاة ولم تجز عنه لأجل الكلام المحظور وجب أن يكون كذلك حكم المرأة فلا يبقى نكاحها بعد وطء أمها بزنا كما لم تبق الصلاة بعد الكلام فتبين منه امرأته وتخرج من حباله كما خرج من الصلاة ويلزم الشافعي على هذا أن لا يطلق في شيء من البيوع أنه فاسد وكذلك سائر العقود وإنما يقال فيها أنها غير مجزية ولا موجبة للملك وهذا إنما هو منع للعبارة وإنما الكلام على المعاني لا على العبارات والأسامي
وذكر الشافعي عن سائله أنه قال إن صاحبنا قال الماء حلال والخمر حرام فإذ صب الماء في الخمر حرم الماء قال قلت له أرأيت إن صببت الماء في الخمر أما يكون الماء الحلال مستهلكا في الحرام قال بلى قلت أتجد المرأة محرمة على كل أحد كما تجد الخمر محرمة على كل أحد قال لا قلت أتجد المرأة وبنتها مختلطتين كاختلاط الماء والخمر قال لا قلت أفتجد القليل من الخمر إذا صب في كثير الماء نجس قال لا قلت أفتجد قليل الزنا والقبلة واللمس للشهوة لا يحرم ويحرم كثيره قال لا قال فلا يشبه أمر النساء الخمر والماء
قال أبو بكر وهذا إيضا من طريق الفروق والذي ذكر في تحريم الخمر للماء يحكى عن الشافعي أنه احتج به على يحيى بن معين حين قال الحرام لا يحرم الحلال وهو إلزام صحيح على من ينفي التحريم لهذه العلة لوجودها فيه إذ لم تكن العلة في منع تحريم الحرام الحلال أنهما غير مختلطين وإن قيل الزنا يحرم وإنما كانت علته أن الحرام ضد الحلال وإن الحلال نعمة والحرام نقمة ولم نره احتج بغيره في جميع ما ناظر به السائل والفروق التي ذكرها إنما هي فروق من وجوه أخر تزيد علته انتقاضا لوجودها مع عدم الحكم وعلى انه إن كان التحريم مقصورا على الاختلاط وتعذر تمييز المحظور من المباح فينبغي ان

لا يحرم الوطء المباح لعدم الاختلاط وكذلك الوطء بالنكاح الفاسد وسائر ضروب الوطء الذي علق به التحريم إذ كانت المرأة متميزة عن أمها فهما غير مختلطتين فإذا جاز أن يقع التحريم بهذه الوجوه مع عدم الاختلاط فما أنكر مثله في الزنا وقد بينا في صدر المسألة دلالة قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وقوله تعالى اللاتي دخلتم بهن على وقوع التحريم بالزنا فلم يحصل من كلام الشافعي دلالة في هذه المسألة ولا شبهة على ما سئل عنه
ثم حكى الشافعي عن سائله هذا لما فرق له بين الماء والخمر وبين النساء بما ذكر أنه لا يشبهه أمر النساء الخمر والماء قال الشافعي فقلت له وكيف قبلت هذا منه فقال ما بين لنا أحد بيانك لنا ولو علم صاحبنا به لظننت أنه لا يقيم على قوله ولكن غفل وضعف عن كلامه
قال فرجع عن قولهم وقال الحق عندي في قولكم ولم يصنع صاحبنا شيئا ولا ندري من كان هذا السائل ولا من صاحبهم الذي قال لو علم صاحبنا بهذه الفروق لظن أنه لا يقيم على قوله وقد بان عمى قلب هذا السائل بتسليمه للشافعي جميع ما ادعاه من غير مطالبة له بوجه الدلالة على المسألة فيما ذكر وجائز أن يكون رجلا عاميا لم يرتض بشيء يمن الفقه إلا أنه قد انتظم بذلك شيئين أحدهما الجهل والغباوة بما وقفنا عليه من مناظرته وتسليمه ما لا يجوز تسليمه ومطالبته للمسؤول بالفروق التي لا توجب فرقا في معاني العلل والمقايسات ثم انتقاله بمثل ذلك إلى مذهبه على ما زعم وتركه لقول أصحابه والآخر قلة العقل وذلك أنه ظن أن صاحبه لو سمع بمثل ذلك رجع عن قوله فقضى بالظن على غيره فيما لا يعلم حقيقته
وسرور الشافعي بمناظرة مثله وانتقاله إلى مذهبه يدل على أنهما كانا متقاربين في المناظرة وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدىء والمغفل العامي لما أثبت مناظرته إياه في كتابه ولو كلم بذلك المبتدؤون من أحداث أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذا الحجاج وضعف السائل والمسؤول فيه وقد ذكر الشافعي أنه قال لمناظره جعلت الفرقة إلى المرأة بتقبيلها ابن زوجها والله لم يجعل الفرقة إليها قال فقال فأنت تزعم أنها تحرم على زوجها إذا ارتدت قال قلت وأقول إن رجعت وهي في العدة فهما على النكاح أفتزعم أنت في التي تقبل ابن زوجها مثله قال لا
قال أبو بكر فأنكر على خصمه وقوع التحريم من قبل المرأة ثم قال هو بها وجعل إليها الرجعة كما جعل إليها التحريم ثم قال الشافعي فأقول إن مضت العدة فرجعت إلى الإسلام كان لزوجها أن

ينكحها أفتزعم في التي تقبل ابن زوجها مثله قال والمرتدة تحرم على الناس كلهم حتى تسلم وتقبيل ابن الزوج ليس كذلك قال أبو بكر فناقض على أصله فيما أنكره على خصمه ثم أخذ في ذكر الفروق على النحو الذي مضى من كلامه ولم أذكر ذلك لأن في مثله شبهة على من ارتاض بشيء من النظر ولكن لأبين مقادير علوم مخالفي أصحابنا ومحلهم من النظر وأما ما حكى عثمان البتي في فرقه بين الزنا بأم المرأة بعد التزويج وقبله فلا معنى له لأن ما يوجب تحريما مؤبدا لا يختلف حكمه في إيجابه ذلك بعد التزويج وقبله والدليل عليه أن الرضاع لما كان موجبا للتحريم المؤبد لم يختلف حكمه في إيجابه ذلك قبل التزويج وبعده وإنما قال أصحابنا إن فعل ذلك بالرجل لا يحرم عليه أمه ولا بنته من قبل أن هذه الحرمة إنما هي متعلقة بمن يصح عقد النكاح عليها ويجوز أن تملك به فيكون الوطء المحرم فيها بمنزلة الوطء الحلال في إيجاب التحريم فلما لم يصح وجود ذلك في الرجل على الوجه المباح ولا يجوز أن يملك ذلك بالعقد منه لم يتعلق به حكم التحريم ألا ترى أنه لو لمس الرجل بشهوة لا يتعلق به حكم في إيجاب تحريم الأم والبنت واللمس بمنزلة الوطء في المرأة عند الجميع فيما يتعلق به حكم التحريم فلما اتفق الجميع على أن اللمس لا حكم له في الرجل في حكم تحريم الأم والبنت كان ذلك ما سواه من الوطء وفي ذلك الدلالة من وجهين على صحة ما ذكرنا أحدهما أن لمس الرجل للرجل لشهوة لما لم يكن مما يصح ان يملك بعقد النكاح ولم يتعلق به تحريم كان كذلك حكم الوطء إذ لا يصح أن يملك بعقد النكاح والثاني أن اللمس عند الجميع في المرأة حكمه حكم الوطء ألا ترى أن الجميع متفقون على أن لمس المرأة الزوجة يحرم بنتها كما يحرمها الوطء وكذلك لمس الجارية بملك اليمين يوجب من التحريم ما يوجبه الوطء وكذلك من حرم بوطء الزنا حرم باللمس فلما لم يكن لمس الرجل موجبا للتحريم وجب ان يكون كذلك حكم وطئه لاستوائهما في المرأة
قال أبو بكر واتفق أصحابنا والثوري ومالك والأوزاعي والليث والشافعي إن اللمس لشهوة بمنزلة الجماع في تحريم أم المرأة وبنتها فكل من حرم بالوطء الحرام أوجبه باللمس إذا كان لشهوة ومن لو يوجبه بالوطء الحرام لم يوجبه باللمس لشهوة ولا خلاف أن اللمس المباح في الزوجة وملك اليمين يوجب تحريم الأم والبنت إلا شيئا يحكى عن ابن شبرمة أنه قال لا تحرم باللمس وإنما تحرم بالوطء الذي يوجب مثله الحد وهو قول شاذ قد سبقه

الإجماع بخلافه واختلف الفقهاء في النظر هل يحرم أم لا فقال أصحابنا جميعا إذا نظر إلى فرجها لشهوة كان ذلك بمنزلة اللمس في إيجاب التحريم ولا يحرم النظر للشهوة إلى غير الفرج وقال الثوري إذا نظر إلى فرجها متعمدا حرمت عليه أمها وابنتها ولم يشرط أن يكون لشهوة وقال مالك إذا نظر إلى شعر جاريته تلذذا أو صدرها أو ساقها أو شيء من محاسنها تلذذا حرمت عليه أمها وابنتها وقال ابن أبي ليلى والشافعي النظر لا يحرم مالم يلمس قال أبو بكر روى جرير بن عبدالحميد عن حجاج عن أبي هانىء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من نظر إلى فرج امرأة حرمت عليه أمها وابنتها وروى حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال لا ينظر الله إلى رجل نطر إلى فرج امرأة وابنتها وروى الأوزاعي عن محكول إن عمر جرد جارية له فسأله إياها بعض ولده فقال إنها لا تحل لك وروى حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه جرد جارية ثم سأله إياها بعض ولده فقال إنها لا تحل لك وروى المثنى عن عمرو بن شعيب عن عمر أنه قال أيما رجل جرد جارية له فنظر إليه منها يريد ذلك الأمر فإنها لا تحل لابنه وعن الشعبي قال كتب مسروق إلى أهله قال انظروا جاريتي فلانة فبيعوها فإني لم أصب منها إلا ما حرمها على ولدي من الللمس والنظر وهو قول الحسن والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم فاتفق هؤلاء السلف على إيجاب التحريم بالنظر واللمس وإنما خص أصحابنا النظر إلى الفرج في إيجاب التحريم دون النظر إلى سائر البدن لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا ابنتها فخص النظر إلى الفرج بإيجاب التحريم دون النظر إلى سائر البدن وكذلك روي عن ابن مسعود وابن عمر ولم يرو عن غيرهما من السلف خلافه فثبت بذلك أن النظر إلى الفرج مخصوص بإيجاب التحريم دون غيره وكان القياس أن لا يقع تحريم بالنظر إلى غيره من سائر البدن إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر واتفاق السلف ولم يوجبوه بالنظر إلى غير الفرج وإن كان لشهوة على ما يقتضيه القياس ألا ترى أن النظر لا يتعلق به حكم في سائر الأصول ألا ترى أنه لو نظر وهو محرم أو صائم فأمنى لا يفسد صومه ولو كان الإنزال عن لمس فسد صومه ولزمه دم لإحرامه فعلمت أن النظر من غير لمس لا يتعلق به حكم فلذلك قلنا إن القياس لا يحرم النظر شيئا إلا أنهم تركوا القياس في النظر إلى الفرج خاصة لما ذكرنا يحتج لمذهب ابن شبرمة بظاهر قوله تعالى فإن لم تكونوا دخلتم

بهن فلا جناح عليكم واللمس ليس بدخول فلا يحرم والجواب عنه أنه ليس بممتنع أن يريد الدخول أو ما يقوم مقامه كما قال تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا فذكر الطلاق ومعناه الطلاق أو ما يقوم مقامه ويكون دلالته ما ذكرنا من قول السلف واتفاقهم من غير مخالف لهم على إيجاب التحريم باللمس
ولا خلاف بين أهل العلم أن عقد النكاح على امرأة يوجب تحريمها على الإبن وروى ذلك عن الحسن ومحمد بن سيرين وإبراهيم وعطاء وسعيد بن المسيب
وقوله تعالى إلا ما قد سلف فإنه روى عن عطاء إلا ما كان في الجاهلية
قال أبو بكر يحتمل أن يريد إلا ما كان في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون به ويحتمل إلا ما قد سلف فإنكم مقرون عليه وتأوله بعضهم على ذلك وهذا خطأ لأنه لم يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم -

أقر أحدا على عقد نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية وقد روى البراء أن

النبي صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بردة بن نيار إلى رجل عرس بامرأة أبيه وفي بعض الألفاظ نكح امرأة أبيه أن يقتله ويأخذ ماله وقد كان نكاح امرأة الأب مستفيضا شائعا في الجاهلية فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم -

أقر أحدا منهم على ذلك النكاح لنقل واستفاض فلما لم ينقل ذلك دل على أن

المراد بقوله إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به وذلك لأنهم قبل ورود الشرع بخلاف ما هم عليه كانوا مقرين على أحكامهم فأعلمهم الله تعالى أنهم غير مؤاخذين فيما لم تقم عندهم حجة السمع بتركه فلا احتمال في قوله إلا ما قد سلف في هذا الموضع إلا ما ذكرنا وقوله تعالى إلا ما قد سلف عند ذكر الجمع بين الأختين يحتمل غير ما ذكر ههنا وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى ومعنى إلا ما قد سلف ههنا استثناء منقطع كقوله لا تلق فلانا إلا ما لقيت يعني لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه
وقوله إنه كان فاحشة هذه الهاء كناية عن النكاح وقد قيل فيه وجهان أحدهما النكاح بعد النهي فاحشة ومعناه هو فاحشة فكان في هذا الموضع ملغاة وهو موجود في كلامهم قال الشاعر ... فإنك لو رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام ...

فأدخل

كان وهي ملغاة غير معتد بها لأن القوافي مجرورة وقال الله تعالى وكان الله عليما حكيما والله عليم حكيم ويحتمل أن يريد به أن ما كان منه في الجاهلية فهو فاحشة فلا تفعلوا مثله وهذا لا يكون إلا بعد قيام حجة السمع عليهم بتحريمه ومن قال هذا

جعل قوله تعالى إلا ما قد سلف فإنه يسلم منه بالإقلاع عنه والتوبة منه قال أبو بكر والأولى حمله على أنه فاحشة بعد نزول التحريم لأن ذلك مراد عند الجميع لا محالة ولم تقم الدلالة على أن حجة السمع قد قامت عليهم بتحريمه من جهة الرسل المتقدمين فيستحقون اللوم عليه ويدل عليه قوله تعالى إلا ما قد سلف وظاهره يقتضي نفي المؤاخذة بما سلف منه فإن قيل هذا يدل على أن من عقد نكاحا على امرأة أبيه ووطئها كان وطؤه زنا موجبا للحد لأنه سماها فاحشة وقال الله تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا قيل له الفاحشة لفظ مشترك يقع على كثير من المحظورات
وقد روي في قوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أن خروجها من بيته فاحشة وروي أن الفاحشة في ذلك أن تستطيل بلسانها على أهل زوجها وقيل فيها أنها الزنا فالفاحشة اسم يتناول مواقعة المحظور وليس يختص بالزنا دون غيره حتى إذا أطلق فيه اسم الفاحشة كان زنا وما كان من وطء عن عقد فاسد فإنه لا يسمى زنا لأن المجوس وسائر المشركين المولودين على مناكحاتهم التي هي فاسدة في الإسلام لا يسمون أولاد زنا والزنا اسم لوطء في غير ملك ولا نكاح ولا شبهة عن واحد منهما فأما إذا صدر عن عقد فإن ذلك لا يسمى زنا سواء كان العقد فاسدا أو صحيحا
وقوله تعالى ومقتا وساء سبيلا يعني أنه مما يبغضه الله تعالى ويبغضه المسلمون وذلك تأكيد لتحريمه وتقبيحه وتهجين فاعله وبين أنه طريق سوء لأنه يؤدي إلى جهنم قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى آخر الآية حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن سلمة قال حدثنا سنيد بن داود قال حدثنا وكيع قال حدثنا علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله تعالى وبنات الأخت قال حرم الله هذه السبع من النسب ومن الصهر سبع ثم قال كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم ما وراء هذا النسب ثم قال وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة إلى قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم يعني السبي قال أبو بكر قوله حرمت عليكم عموم في جميع ما يتناوله الاسم حقيقة ولا خلاف أن الجدات وإن بعدن محرمات واكتفى بذكر الأمهات لأن اسم الأمهات يشملهن كما ان اسم الآباء يتناول الأجداد وإن بعدوا وقد عقل من قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء

تحريم ما نكح الأجداد وإن كان للجد اسم خاص لا يشاركه فيه الأب الأدنى فإن الاسم العام وهو الأبوة ينتظمهم جميعا وكذلك قوله تعالى وبناتكم قد يتناول بنات الأولاد وإن سفلن لأن الاسم يتناولهن كما يتناول اسم الآباء الأجداد وقوله تعالى وأخواتكم وعماتكم وخالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت فأفرد بنات الأخ وبنات الأخت بالذكر لأن اسم الأخ والأخت لا يتناول اسم البنات بنات الأولاد فهؤلاء السبع المحرمات بنص التنزيل من جهة النسب ثم قال وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وقال قبل ذلك ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فهؤلاء السبع المحرمات من جهة الصهر وقد عقل من قوله تعالى وبنات الأخ وبنات الأخت من سفل منهن كما عقل من قوله تعالى أمهاتكم من علا منهن ومن قوله تعالى وبناتكم من سفل منهن وعقل من قوله تعالى وعماتكم تحريم عمات الأب والأم وكذلك قوله تعالى وخالاتكم عقل منه تحريم خالات الأب والأم كما عقل تحريم أمهات الأب وإن علون وخص تعالى العمات والخالات بالتحريم دون أولادهن ولا خلاف في جواز نكاح بنت العمة وبنت الخالة وقال تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ومعلوم أن هذه السمة إنما هي مستحقة بالرضاع أعني سمة الأمومة والأخوة فلما علق هذه السمة بفعل الرضاع اقتضى ذلك استحقاق اسم الأمومه والأخوة بوجود الرضاع وذلك يقتضي التحريم بقليل الرضاع لوقوع الاسم عليه
فإن قيل قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم بمنزلة قول القائل وأمهاتكم اللاتي اعطينكم وأمهاتكم اللاتي كسونكم فنحتاج إلى أن نثبت أنها أم بهذه الصفة حتى يثبت الرضاع لأنه لم يقل واللاتي أرضعنكم أمهاتكم قيل له هذا غلط من قبل أن الرضاع هو الذي يكسبها سمة الأمومة فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم متعلقا به واسم الرضاع في الشرع واللغة يتناول القليل والكثير فوجب أن تصير أما بوجود الرضاع لقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وليس كذلك الذي ذكرت من قول القائل وأمهاتكم اللاتي كسونكم لأن اسم الأمومة غير متعلق

بوجود الكسوة كتعلقه بوجود الرضاع فلذلك احتجنا إلى حصول الاسم والفعل المتعلق به وكذلك قوله تعالى وأخواتكم من الرضاعة يقتضي ظاهره كونها أختا بوجود الرضاع إذا كان اسم الأخوة مستفادا بوجود الرضاع لا بمعنى آخر سواه
ويدل على أن ذلك مفهوم الخطاب ومقتضى القول ما رواه عبدالوهاب بن عطاء عن أبي الربيع عن عمرو بن دينار قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إن ابن الزبير يقول لا بأس بالرضعة والرضعتين فقال ابن عمر قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير قال الله تعالى وأخواتكم من الرضاعة فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بقليل الرضاع
واختلف السلف ومن بعدهم في التحريم بقليل الرضاع فروى عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وطاوس وإبراهيم والزهري والشعبي قليل الرضاع وكثيره يحرم في الحولين وهو قول ابي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعي والليث قال الليث اجتمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم وقال ابن الزبير والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان وقال الشافعي لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرقات
قاله أبو بكر وقد ذكرنا في سورة البقرة الكلام في مدة الرضاع والاختلاف فيها وقد قدمنا ذكر دلالة الآية على إيجاب التحريم بقليل الرضاع وغير جائز لأحد إثبات تحديد الرضاع الموجب للتحريم إلا بما يوجب العلم من كتاب أو سنة منقولة من طريق التواتر ولا يجوز قبول أخبار الآحاد عندنا في تخصيص حكم الآية الموجبة للتحريم بقليل الرضاع لأنها آية محكمة ظاهرة المعنى بينة المراد لم يثبت خصوصها بالاتفاق وما كان هذا وصفه فغير جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس ويدل عليه من جهة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم -

إنما الرضاعة من المجاعة رواه مسروق عن عائشة عن النبي ص

- ولم يفرق بين القليل والكثير فهو محمول عليهما جميعها ويدل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

من جهة التواتر والاستفاضة أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب رواه

علي وابن عباس وعائشة وحفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وتلقاه أهل العلم بالقبول والاستعمال فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم - من الرضاع ما يحرم من النسب وكان معلوما أن النسب متى ثبت من وجه أوجب التحريم وإن لم يثبت من وجه آخر كذلك الرضاع يجب أن يكون هذا حكمه في إيجاب

التحريم بالرضعة الواحدة لتسوية النبي صلى الله عليه وسلم -

بينهما فيما علق بهما حكم التحريم

واحتج من اعتبر خمس رضعات بما روت عائشة وابن الزبير وأم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا تحرم المصة ولا المصتان وبما روي عن عائشة أنها قالت كان فيما

أنزل من القرآن عشر رضعات فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يقرأ من القرآن
قال أبو بكر وهذه الأخبار لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة لما بينا أن مالم يثبت خصوصه من ظواهر القرآن وكان ظاهر المعنى بين المراد لم يجز تخصيصه بأخبار الآحاد فهذا أحد الوجوه التي تسقط الاعتراض بهذا الخبر
ووجه آخر وهو ما حدث أبو الحسن الكرخي قال حدثنا الحضرمي قال حدثنا عبدالله بن سعيد قال حدثنا أبو خالد عن حجاج عن حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقال إن الناس يقولون لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان قال قد كان ذاك فأما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم
وروى محمد بن شجاع قال حدثنا إسحاق بن سليمان عن حنظلة عن طاوس قال اشترطت عشر رضعات ثم قيل الرضعة الواحدة تحرم فقد عرف ابن عباس وطاوس خبر العدد في الرضاع وأنه منسوخ بالتحريم بالرضعة الواحدة
وجائز أن يكون التحديد كان مشروطا في رضاع الكبير وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في رضاع الكبير وهو منسوخ عند فقهاء الأمصار فجائز أن يكون تحديد الرضاع كان في رضاع الكبير فلما نسخ سقط التحديد إذ كان مشروطا فيه وأيضا يلزم الشافعي إيجاب التحريم بثلاث رضعات لدلالة قوله لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان على إيجاب التحريم فيما زاد على أصله في المخصوص بالذكر
وأما حديث عائشة فغير جائز اعتقاد صحته على ما ورد وذلك لأنها ذكرت أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر فنسخن بخمس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

توفي وهو مما يتلى وليس أحد من المسلمين يجيز نسخ القرآن بعد موت النبي ص

- فلو كان ثابتا لوجب أن تكون التلاوة موجودة فإذا لم توجد به التلاوة ولم يجز النسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يخل ذلك من أحد وجهين إما أن يكون الحديث مدخولا في الأصل غير ثابت

الحكم أو يكون إن كان ثابتا فإنما نسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وما كان منسوخا فالعمل به ساقط وجائز أن يكون ذلك كان تحديد الرضاع الكبير وقد كانت عائشة تقول به في إيجاب التحريم في

رضاع الكبير دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت عندنا وعند الشافعي نسخ رضاع الكبير فسقط حكم التحديد المذكور في حديث عائشة هذا ومع ذلك لو خلا من هذه المعاني التي ذكرنا من الاستحالة والاحتمال لما جاز الاعتراض به على ظاهر القرآن إذ هو من أخبار الآحاد
ومما يدل على ما ذكرنا من سقوط اعتبار التحديد أن الرضاع يوجب تحريما مؤبدا فأشبه الوطء الموجب لتحريم الأم والبنت والعقد الموجب للتحريم كحلائل الأبناء وما نكح الآباء فلما كان القليل من ذلك ككثيره فيما يتعلق به من حكم التحريم وجب أن يكون ذلك حكم الرضاع في إيجاب التحريم بقليله
واختلف أهل العلم في لبن الفحل وهو الرجل يتزوج المرأة فتلد منه ولدا وينزل لها لبن بعد ولادتها منه فترضع به صبيا فإن من قال بتحريم لبن الفحل يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل وإن كانوا من غيرها ومن لا يعتبره لا يوجب تحريما بينه وبين أولاده من غيرها فممن قال بلبن الفحل ابن عباس وروى الزهري عن عمرو بن الشريد عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له امرأتان أرضعت هذه غلاما وهذه الجارية هل يصح الغلام أن يتزوج الجارية فقال لا اللقاح واحد وهو قول القاسم وسالم وعطاء وطاوس وذكر الخفاف عن سعيد عن ابن سيرين قال كرهه قوم ولم ير به قوم بأسا ومن كرهه كان أفقه من الذين لم يروا به بأسا وذكر عباد بن منصور قال قلت للقاسم بن محمد امرأة أبي أرضعت جارية من الناس بلبان أخوتي من أبي أتحل لي فقال لا أبوك أبوها فسألت طاوسا والحسن فقالا مثل ذلك وسألت مجاهدا فقال اختلف فيه الفقهاء فلست أقول فيه شيئا وسألت محمد بن سيرين فقال مثل قول مجاهد وسألت يوسف بن ماهك فذكر حديث أبي قعيس وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي لبن الفحل يحرم وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبدالرحمن وعطاء ابن يسار وسليمان بن يسار أن لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجال وروى مثله عن رافع بن خديج والدليل على صحة القول الأول حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة أن أفلح أخا أبي القيس جاء ليستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد ان نزل الحجاب قالت فأبيت أن آذن له فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم -

أخبرته قال ليلج عليك فإنه عمك قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل

قال ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك وكان أبو

القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة ويدل عليه من جهة النظر أن سبب نزول اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعا لأن الحمل منهما جميعا فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد منهما وإن اختلف سببهما
فإن قيل قد روى مالك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها كانت تدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا تدخل عليها من أرضعته نساء أخوتها
قيل له هذا غير مخالف لما ورد في لبن الفحل إذ كان لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب من شاءت ويدل عليه أيضا من جهة النظر أن البنت محرمة على الجد وإن لم تكن من مائه لأنه كان سبب حدوث الأب الذي هو من مائه كذلك الرجل لما كان هو سبب نزول اللبن من المرأة وجب أن يتعلق به التحريم وإن لم يكن اللبن منه إذ كان هو سببه كما يتعلق به التحريم من جهة الأم
والمنصوص عليه في التنزيل من الرضاع الأمهات والأخوات من الرضاعة إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - بالنقل المستفيض الموجب للعلم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب واتفق الفقهاء على استعماله والله أعلم
باب

أمهات النساء والربائب

قال الله تعالى وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولم تختلف الأمة أن الربائب لا يحرمن بالعقد على الأم حتى يدخل بها أو يكون منه ما يوجب التحريم من اللمس والنظر على على ما بيناه فيما سلف هو نص التنزيل في قوله تعالى فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم واختلف السلف في أمهات النساء هل يحرمن بالعقد دون الدخول فسوى حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس أن عليا قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول بها فله أن يتزوج أمها وإن تزوج أمها ثم طلقها قبل الدخول يتزوج بنتها تجريان مجرى واحدا وأهل النقل يضعفون حديث خلاس عن علي ويروى عن جابر بن عبدالله مثل ذلك وهو قول مجاهد وابن الزبير وعن ابن عباس روايتان إحداهما ما يرويه ابن جريج عن أبي بكر بن حفص عن عمرو بن مسلم ابن عويمر بن الأجدع عنه أن أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول والأخرى ما يرويه عكرمة عنه أنها تحرم بنفس العقد وقال عمر وعبدالله بن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وعطاء والحسن وعكرمة تحرم بالعقد دخل بها أو لم يدخل وروى أبو أسامة عن سفيان

عن أبي فروة عن أبي عمرو الشيباني عن عبدالله بن مسعود أنه أفتى في امرأة تزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت قال لا بأس أن يتزوج أمها فلما أتى المدينة رجع فأفتاهم فنهاهم وقد ولدت أولادا وروى إبراهيم عن شريح أن ابن مسعود كان يقول بقول علي ويفتي به يعني في أمهات النساء فحج فلقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذاكرهم ذلك فكرهوا أن يتزوجها فلما رجع ابن مسعود نهى من كان أفتاه بذلك وكانوا أحياء من بن فزارة أفتاهم بذلك وقال إني سألت أصحابي فكرهوا ذلك وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول فأراد أن يتزوج أمها قال إن طلقها قبل الدخول يتزوج أمها وإن ماتت لم يتزوج أمها وأصحاب الحديث يضعفون حديث قتادة هذا عن سعيد بن المسيب عن زيد ويقولون إن أكثر ما يرويه قتادة عن سعيد بن المسيب بينه وبينه رجال وإن رواياته عن سعيد مخالفة لروايات أكثر أصحاب سعيد الثقات وقال عبدالرحمن بن مهدي عن مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلى من قتادة عن سعيد وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن زيد بن ثابت خلاف رواية قتادة ويقال إن حديث يحيى وإن كان مرسلا فهو أقوى من حديث قتادة عن سعيد قال أبو بكر وهذا الذي ذكرناه طريقة أصحاب الحديث والفقهاء لا يعتبرون ذلك في قبول الأخبار وردها وإنما ذكرنا ذلك ليعرف به مذهب القوم فيه دون اعتباره والعمل عليه ويشبه أن يكون زيد بن ثابت إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ألا ترى أنه يجب فيه نصف المهر ولا يجب عليها العدة وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب استحقاق كمال المهر ووجوب العدة جعله كذلك في حكم التحريم والدليل على أن أمهات النساء يحرمن بالعقد قوله تعالى وأمهات نسائكم هي مبهمة عامة كقوله وحلائل أبنائكم وقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فغير جائز تخصيصه إلا بدلالة وقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن حكم مقصور على الربائب دون أمهات النساء وذلك من وجوه أحدها أن كل واحدة من الجملتين مكتفية بنفسها في إيجاب الحكم المذكور فيها أعني قوله تعالى وأمهات نسائكم وقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم دخلتم بهن وكل كلام اكتفى

بنفسه من غير تضمين له بغيره ولا حمله عليه وجب إجراؤه على مقتضى لفظه دون تعليقه بغيره فلما كان قوله وأمها نسائكم جملة مكتفية بنفسها يقتضي عمومها تحريم أمهات النساء مع وجود الدخول وعدمه وكان قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن جملة قائمة بنفسها على ما فيها من شرط الدخول لم يجز لنا بناء إحدى الجملتين على الأخرى بل الواجب إجراء المطلق منهما على إطلاقه والمقيد على تقييدة وشرطه إلا أن تقوم الدلالة على أن إحداهما مبنية عن الأخرى محمولة على شرطها
وأخرى وهي أن قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم يجري هذا الشرط مجرى الاستثناء تقديره وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم إلا اللاتي لم تدخلوا بهن لأن فيه إخراج بعض ما انتطمه العموم فلما كان ذلك في معنى الاستثناء وكان من حكم الاستثناء عوده إلى ما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إلى ما تقدم وجب أن يكون حكمه مقصورا على الربائب ولم يجز رده إلى ما تقدمه إلا بدلالة
وأخرى وهي أن شرط الدخول تخصيص لعموم اللفظ وهو لا محالة مستعمل في الربائب ورجوعه إلى أمهات النساء مشكوك فيه وغير جائز تخصيص العموم بالشك فوجب أن يكون عموم التحريم في أمهات النساء مقرا على بابه
وأخرى وهي أن إضمار شرط الدخول لا يصح في أمهات النساء مظهرا لأنه لا يستقيم أن يقال وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لأن أمهات نسائنا لسن من نسائنا والربائب من نسائنا لأن البنت من الأم وليست الأم من البنت فلما لم يستقم الكلام بإظهار أمهات النساء في الشرط لم يصح إضماره فيه
فثبت بذلك أن قوله من نسائكم إنما هو من وصف الربائب دون أمهات النساء وأيضا فلو جعلنا قوله من نسائكم اللاتي دخلتم بهن نعتا لأمهات النساء وجعلنا تقديره وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لخرج الربائب من الحكم وصار حكم الشرط في أمهات النساء دونهن وذلك خلاف نص التنزيل فثبت أن شرط الدخول مقصور على الربائب دون أمهات النساء وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل ابن الفضل قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها

وإن لم يدخل بها 0فلينكح ابنتها وإيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها
وقد حكى عن السلف اختلاف في حكم الربيبة فذكر ابن جريج قال أخبرني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة عن مالك بن أوس عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ثم فارق الأم بعد الدخول أنه جائز له أن يتزوج الربيبة ونسب عبدالرزاق إبراهيم هذا فقال إبراهيم ابن عبيد في غير هذا الحديث وهو مجهول لا تثبت بمثله مقالة ومع ذلك فإن أهل العلم ردوه ولم يتلقه أحد منهم بالقبول وقد ذكر قتادة عن خلاس عن علي أن الربيبة والأم تجريان مجرى واحدا وهو خلاف هذا الحديث لأن الأم لا محالة تحرم بالدخول بالبنت وقد جعل الربيبة مثلها فاقتضى تحريم البنت بالدخول فالأم سواء كانت في حجره أو لم تكن وذكر في حديث إبراهيم هذا أن عليا احتج في ذلك بأن الله تعالى قال وربائبكم اللاتي في حجوركم فإذا لم تكن في حجره لم تحرم وحكاية هذا الحجاج يدل على وهن الحديث وضعفه لأن عليا لا يحتج بمثله وذلك لأنا قد علمنا أن قوله وربائبكم لم يقتض أن تكون تربية زوج الأم لها شرطا في التحريم وأنه متى لم يربها لم تحرم وإنما سميت بنت المرأة ربيبة لأن الأعم الأكثر أن زوج الأم يربيها ثم معلوم أن وقوع الاسم على هذا المعنى لم يوجب كون تربيته إياها شرطا في التحريم كذلك قوله في حجوركم كلام خرج على الأعم الأكثر من كون الربيبة في حجر الزوج وليست هذه الصفة شرطا في التحريم كما أن تربية الزوج إياها ليست شرطا فيه وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم -

في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض

وفي ست وثلاثين بنت لبون وليس كون المخاض أو اللبن بالأم شرطا في المأخوذ وإنما ذكره لأن الأغلب أنها إذا دخلت في السنة الثانية كان بأمها مخاض وإذا دخلت في الثالثة كان بأمها لبن فإنما أجرى الكلام على غالب الحال كذلك قوله تعالى في حجوركم على هذا الوجه قال أبو بكر لا خلاف بين أهل العلم في تحريم من ذكر ممن لا يعتق عليه بملك اليمين وأن الأم والأخت من الرضاعة محرمتان بملك اليمين كما هما بالنكاح وكذلك أم المرأة وابنتها إذا دخل بالأم وأن كل واحدة منهما محرمة عليه تحريما مؤبدا إذا وطىء الأخرى وكذلك لا خلاف أنه لا يجوز له الجمع بين أم وبنت بملك اليمين
وروي ذلك عن عمر وابن

عباس وابن عمر وعائشة ولا خلاف أيضا أن الوطء بالنكاح فيما يتعلق به تحريم مؤبد قوله تعالى وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم قال عطاء بن أبي رباح نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم -

حين تزوج امرأة زيد ونزلت

وما جعل أدعياءكم أبناءكم و ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال وكان يقال له زيد بن محمد
قال أبو بكر حليلة الابن هي زوجته ويقال إنما سميت حليلة لأنها تحل معه في فراش
وقيل لأنه يحل له منها الجماع بعد النكاح والأمة وإن استباح فرجها بالملك لا تسمى حليلة ولا تحرم على الأب ما لم يطأها وعقد نكاح الابن عليهما يحرمها على أبيه تحريما مؤبدا وهذا يدل على أن الحليلة اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون ذكر الوطء اقتضى ذلك تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء لأنا لو شرطنا الوطء لكان فيه زيادة في النص ومثلها يوجب النسخ لأنها تبيح ما حظرته الآية وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين
قال أبو بكر وقوله تعالى الذين من أصلابكم قد تناول عند الجميع تحريم حليلة ولد الولد على الجد وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجدلأن إطلاق الآية قد اقتضاها عند الجميع وفيه دلالة على أن ولد الولد نسوب إلى الجد بولادة وهذه الآية في تخصيصها حليلة الابن من الصلب في معنى قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطرا لما تضمنه من إباحة تزويج حليلة الابن من جهة التبني
وقوله في أزواج أدعيائهم يدل على أن حليلة الابن هي زوجته لأنه عبر في هذا الموضوع عنهم باسم الأزواج وفي الآية الأولى بذكر الحلائل قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف قال أبو بكر قد اقتضى ذلك تحريم الجمع بين الأختين في سائر الوجوه لعموم اللفظ والجمع على وجوه
منها أن يعقد عليهما جميعا معا فلا يصح نكاح واحدة منهما لأنه جامع بينهما وليست إحداهما بأولى يجوز نكاحها من الأخرى ولا يجوز تصحيح نكاحهما مع تحريم الله تعالى الجمع بينهما وغير جائز تخيير الزوج في أن يختار أيتهما شاء من قبل أن العقدة وقعت فاسدة مثل النكاح في العدة أو هي تحت زوج فلا يصح أبدا
ومن الجمع أن يتزوج أحدهما ثم يتزوج الأخرى بعدها فلا يصح نكاح الثانية لأن الجمع بها حصل وعقدها وقع منهيا عنه وعقد الأولى وقع مباحا فيفرق بينه وبين الثانية

ومن الجمع أيضا أن يجمع بين وطئهما بملك اليمين فيطأ إحداهما ثم يطأ الأخرى قبل إخراج الموطوءة الأولى من ملكه فهذا ضرب من الجمع وقد كان فيه خلاف بين السلف ثم زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين وروى عن عثمان وابن عباس أنهما أباحا ذلك وقالا أحلتهما آية وحرمتهما آية وقال عمر وعلي وابن مسعود والزبير وابن عمر وعمار وزيد بن ثابت لا يجوز الجمع بينهما بملك اليمين وقال الشعبي سئل علي عن ذلك فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية فالحرام أولى وروى عبدالرحمن المقري قال حدثنا موسى بن أيوب الغافقي قال حدثني عمي أياس بن عامر قال سألت علي بن أبي طالب عن الأختين بملك اليمين وقد وطىء إحداهما هل يطأ الأخرى فقال اعتق الموطوءة حتى يطأ الأخرى وقال ما حرم الله من الحرائر شيئا إلا حرم من الإماء مثله إلا عدد الأربع وروي عن عمار مثل ذلك
قال أبو بكر أحلتهما آية يعنون به قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم وقوله حرمتهما آية قوله وأن تجمعوا بين الأختين فروى عن عثمان الإباحة وروي عنه أنه ذكر التحريم والتحليل وقال لا آمر ولا أنهى عنه وهذا القول منه يدل على أنه كان ناظرا فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثم وقف فيه وقطع علي فيه بالتحريم وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن الحظر والإباحة إذا اجتمعا فالحظر أولى إذا تساوى سبباهما وكذلك يجب أن يكون حكمهما في الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم - ومذهب أصحابنا يدل على أن ذلك قولهم وقد بيناه في أصول الفقه وقد روى أياس بن عامر أنه قال لعلي إنهم يقولون إنك تقول أحلتهما آية وحرمتهما آية فقال كذبوا وهذا يحتمل أن يريد به نفي المساواة في مقتضى الآيتين وإبطال مذهب من يقول بالوقف فيه على ما روى عن عثمان لأنه قال في رواية الشعبي أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وإنكاره أن يكون أحلتهما آية وحرمتهما آية إنما هو على جهة أن آيتي التحليل والتحريم غير متساويتين في مقتضاهما وأن التحريم أولى من التحليل ومن جهة أخرى أن إطلاق القول بأنه أحلتهما آية وحرمتهما آية من غير تقييد هو قول منكر لاقتضاء حقيقته أن يكون شيء واحد مباحا محظورا في حال واحدة فجائز أن يكون على رضي الله عنه أنكر إطلاق القول بأنه أحلتهما آية وحرمتهما آية من هذا الوجه وأنه إذا كان مقيدا بالقطع

ج9.===============================================

ج9. كتاب : أحكام القرآن

المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص

على أحد الوجهين كان سائغا جائزا على ما روى عنه في الخبر الآخر ومما يدل على أن التحريم أولى لو تساوت الآيتان في إيجاب حكميهما أن فعل المحظور يستحق به العقاب وترك المباح لا يستحق به العقاب والاحتياط الامتناع مما لا يأمن استحقاق العقاب به فهذه قضية واجبة في حكم العقل وأيضا فإن الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بإحداهما على الأخرى إذ كل واحدة منهما ورودها في سبب غير سبب الأخرى وذلك لأن قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين وارد حكم التحريم كقوله تعالى وحلائل أبنائكم وأمهات نسائكم وسائر من ذكر في الآية تحريميها وقوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وارد في إباحة المسبية التي لها زوج في دار الحرب وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما فهو مستعمل فيما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبية وبين زوجها وإباحتها لمالكها فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأختين إذ كل واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى فيستعمل حكم كل واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه
ويدل على ذلك أنه لا خلاف بين المسلمين في أنها لم تعترض على حلائل الأبناء وأمهات النساء وسائر من ذكر تحريمهن في الآية وأنه لا يجوز وطء حليلة الابن ولاأم المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم موجبا لتخصيصهن لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع علي رضي الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم على تحريم الجمع بين الأختين يدل على أن حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم أن كل واحدة منهما تجري على حكمها في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول ص - في مثل ذلك وقد بينا ذلك في أصول الفقه وأيضا لا نعلم خلافا بين المسلمين في حظر الجمع بين الأختين إحداهما بالنكاح والأخرى بملك اليمين نحو أن تكون عنده امرأة بنكاح فيشتري أختها أنه لا يجوز له وطؤهما جميعا وهذا يدل على أن تحريم الجمع قد انتظم ملك اليمين كما انتظم النكاح وعموم قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين يقتضي تحريم جمعهما على سائر الوجوه وهو موجب لتحريم

تزويج المرأة وأختها تعتد منه لما فيه من الجمع بينهما في استحقاق نسب ولديهما وفي إيجاب النفقة المستحقة بالنكاح والسكنى لهما وذلك كله من ضروب الجمع فوجب أن يكون محظورا منتفيا بتحريمه الجمع بينهما فإن قيل قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين مقصور على النكاح دون غيره قيل له هذا غلط لاتفاق فقهاء الأمصار على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين على ما بيناه وليس ملك اليمين بنكاح فعلمنا أن تحريم الجمع غير مقصور على النكاح وأيضا فإن اقتصارك بالتحريم على النكاح دون غيره من سائر ضروب الجمع تخصيص بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في ذلك فروي عن علي وابن عباس وزيد بن ثابت وعبيدة السلماني وعطاء ومحمد بن سيرين ومجاهد في آخرين من التابعين أنه لا يتزوج المرأة في عدة أختها وكذلك لا يتزوج الخامسة وأحدى الأربع تعتد منه فبعضهم أطلق العدة وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح وروي عن عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخلاس له أن يتزوج أختها إذا كانت عدتها من طلاق بائن وهو قول مالك والأوزاعي والليث والشافعي واختلف عن سعيد بن المسيب والحسن وعطاء فروي عن كل واحد منهم روايتان إحداهما أنه يتزوجها والأخرى أنه لا يتزوجها وقال قتادة رجع الحسن عن قوله أنه يتزوجها في عدة أختها وما قدمنا من دلالة الآية وعمومها في تحريم الجمع كاف في إيجاب التحريم وما دامت الأخت معتدة منه ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على تحريم الجمع بين وطء الأختين بملك اليمين والمعنى فيه أن إباحة الوطء حكم من أحكام النكاح وإن لم يكن نكاحا ولا عقد فواجب على ذلك تحريم الجمع بينهما في حكم من أحكام النكاح فلما كان استلحاق النسب ووجوب النفقة والسكنى من أحكام النكاح وجب أن يكون ممنوعا من الجمع بينهما فيه فإن قيل كيف يكون جامعا بينهما مع ارتفاع الزوجيه وكونها أجنبية منه ولو كان قد طلقها ثلاثا ثم وطئها في العدة وجب عليه الحد وهذا يدل على أنها بمنزلة الأجنبية منه فلا تمنع تزويج أختها قيل له لا يختلفان في وجوب الحد لأنه كما يجب عليها بوطئه إياها ومع ذلك لا يجوز لها أن تتزوج وتجمع إلى حقوق نكاح الأول زوجا آخر ولم يكن وجوب الحد عليها بمطاوعتها إياه على الوطء مبيحا لها نكاح زوج آخر بل كانت في المنع من زوج ثان بمنزلة من هي في حباله وكذلك الزوج لا يجوز

له جمع أختها في هذه الحال مع بقاء حقوق النكاح وإن كان وطؤه إياها موجبا للحد ودليل آخر وهو أنه لما كان تحريم نكاح الأخت من طريق الجمع ووجدنا تحريم نكاح زوج آخر إذا كانت عند زوج من طريق الجمع ثم وجدنا العدة تمنع من الجمع ما تمنع نفس النكاح وجب أن يكون الزوج ممنوعا من تزويج أختها في عدتها كما منع ذلك في حال بقاء نكاحها إذ كانت العدة تمنع من الجمع ما يمنعه نفس النكاح كما جرت العدة مجرى النكاح في باب منعها من نكاح زوج آخر حتى تنقضي عدتها فإن قيل هذا يوجب أن يكون الرجل في العدة إذا منعته من تزويج الأخت حتى تنقضي عدتها قيل له ليس تحريم النكاح مقصورا على العدة حتى إذا منعناه من نكاح أختها فقد جعلناه في العدة ألا ترى أنه ممنوع من تزوج أختها إذا كانت معتدة منه من طلاق رجعي ولم يوجب الرجل في العدة وكذلك قبل طلاق كل واحد منهما ممنوع من عقد نكاح على الأخت أو لزوج آخر وليس واحد منهما في العدة وقوله تعالى إلا ما قد سلف قال أبو بكر قد ذكرنا معنى قوله إلا ما قد سلف عند ذكر قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف واختلاف المختلفين في تأويله واحتماله لما قيل فيه وقال تعالى عند ذكر تحريم الجمع بين الأختين إلا ما قد سلف وهو في هذا الموضع يحتمل من المعاني ما احتمله الأول وفيه احتمال لمعنى آخر لا يحتمله الأول وهو أن يكون معناه أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ويكون أن يختار إحداهما ويدل عليه حديث أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم - فقال طلق إحداهما وفي بعض الألفاظ طلق أيتهما شئت فلم يأمره بمفارقتهما إن كان العقد عليهما معا ولم يأمره بمفارقة الآخرة منهما إن كان تزوجهما في عقدين ولم يسأله عن ذلك فدل ذلك على بقاء نكاحه عليهما بقوله طلق أيتهما شئت ودل ذلك على أن العقد عليهما كان صحيحا قبل نزول التحريم وأنهم كانوا مقرين على ما كانوا عليه من عقودهم قبل قيام حجة السمع ببطلانها واختلاف أهل العلم في الكافر يسلم وتحته أختان أو خمس أجنبيات فقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري يختار الأوائل منهن إن كن خمسا وإن كانتا أختين اختار الأولى وإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فرق بينه وبينهن وقل محمد بن الحسن ومالك والليث والأوزاعي والشافعي يختار من الخمس

أربعا أيتهن شاء ومن الأختين أيتهما شاء إلا أن الأوزاعي روى عنه في الأختين أن الأولى امرأته ويفارق الآخرة وقال الحسن بن صالح يختار الأربع الأوائل فإن لم يدر أيتهن الأولى طلق كل واحدة حتى تنقضي عدتها ثم يتزوج أربعا
والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين وذلك خطاب لجميع المكلفين فكان عقد الكافر على الأختين بعد نزول التحريم كعقد المسلم في حكم الفساد فوجب التفريق بينه وبين الآخرة لوقوع عقدها على فساد بنص التنزيل كما يفرق بينهما لو نكحها بعد الأسلام لقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين والجمع واقع بالثانية وإن كان تزوجهما في عقدة واحدة فهي فاسدة فيهما جميعا لوقوعها منهيا عنها بظاهر النص فدل ذلك من وجهين على ماذكرنا أحدهما وقوع العقدة منهيا عنها والنهي عندنا يقتضي الفساد والثاني أنه منع الجمع بينهما بحال فلو بقينا عقدة عليهما بعد الإسلام كنا مثبتين لما نفاه الله تعالى من الجمع فدل ذلك على بطلان العقد الذي وقع به الجمع ومن جهة النظر أنه لما لم يجز أن يبتدىء المسلم عقدا على أختين ولم يجز أيضا أن يبقى له عقد على أختين وإن لم تكونا أختين في حال العقد كمن تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة فاستوى حكم الابتداء والبقاء في نفي الجمع بينهما أشبه نكاح ذوات المحارم في استواء حال البقاء والابتداء فيهما فلما لم يختلف العقد على ذوات المحارم في وقوعه في حال الكفر وحال الإسلام ووجب التفريق متى طرأ عليه الإسلام وكان بمنزلة ابتداء العقد بعد الإسلام وجب مثله في نكاح الأختين وأكثر من أربع نسوة وكما لم يختلف حكم البقاء والابتداء فيهما كما قلنا في ذوات المحارم واحتج من غيره بعد الإسلام بحديث فيروز الديلمي الذي قدمناه وبما روى ابن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل عن الحرث بن قيس قال أسلمت وعندي ثمان نسوة فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن أختار منهن أربعا وبما روي معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن

غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم - خذ منهن أربعا فأما حديث فيروز فإن في لفظه ما يدل على صحة العقد وكان قبل نزول التحريم لأنه قال أيتهما شئت وهذا يدل على بقاء العقد عليهما بعد الإسلام وحديث الحارث بن قيس يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم فكان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فلزمه اختيار الأربع منهن ومفارقة سائرهن كرجل له امرأتان فطلق إحداهما

ثلاثا فيقال له اختر أيهما شئت لأن العقد كان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فإن قيل لو كان ذلك يختلف لسأله النبي صلى الله عليه وسلم -

عن وقت العقد

قيل له يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - قد علم ذلك فاكتفى بعلمه عن مسألته وأما حديث معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه في قصة غيلان فإنه مما لا يشك أهل النقل فيه أن معمرا أخطأ فيه بالبصرة وأن أصل هذا الحديث مقطوع من حديث الزهري رواه مالك عن الزهري قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة اختر منهن أربعا ورواه عنه عقيل ابن خالد عن ابن شهاب قال بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان بن سلمة وكيف يجوز أن يكون عنده عن سالم عن أبيه فيجعله بلاغا عن عثمان ابن محمد بن أبي سويد ويقال إنه إنما جاء الغلط من قبل أن معمرا كان عنده عن الزهري حديثان في قصة غيلان أحدهما هذا وهو بلاغ عن عثمان بن محمد بن أبي سويد والآخر حديثه عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة طلق نساءه في زمن عمر وقسم ماله بين ورثته فقال له عمر لئن لم تراجع نساءك ثم مت لأورثهن ثم لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال فأخطأ معمر وجعل إسناد هذا الحديث لحديث إسلامه مع النسوة
فصل قال أبو بكر والمنصوص على تحريمه في الكتاب هو الجمع بين الأختين وقد وردت آثار متواتره في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها رواه علي وابن عباس وجابر وابن عمر وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة وعبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها وفي بعضها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى على اختلاف بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقد تلقها الناس بالقبول مع تواترها واستفاضتها وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل فوجب استعمال حكمها مع الآية وشذت طائفة من الخوارج بإباحة الجمع بين من عدا الأختين لقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وأخطأت في ذلك وضلت عن سواء السبيل لأن الله تعالى كما قال وأحل لكم ما وراء ذلكم قال وما آتاكم الرسول فخذوه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -

تحريم الجمع بين من ذكرنا فوجب أن يكون مضموما إلى الآية فيكون قوله

تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم مستعملا فيمن عدا الأختين وعدا من بين النبي صلى الله عليه وسلم -

تحريم الجمع بينهن

وليس يخلو قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم من أن يكون نزل قبل حكم النبي صلى الله عليه وسلم -

بتحريم من حرم الجمع بينهن أو معه أو بعده وغير جائز أن يكون قوله تعالى

وأحل لكم ما وراء ذلكم بعد الخبر لأن قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم مرتب على تحريم من ذكر تحريمهن منهن لأن قوله ما وراء ذلكم المراد به ما وراء من تقدم ذكر تحريمهن وقد كان قبل تحريم الجمع بين الأختين جميع ذلك مباحا فعلمنا أن تحريم من ذكر تحريم الجمع بينهن في الخبر لم يكن قبل تحريم الجمع بين الأختين وإذا امتنع أن يكون الخبر قبل الآية لم يخل من أن يكون معها أو بعدها فإن كان معها فلم ترد الآية إلا خاصة فيما عدا ما ذكر في الخبر تحريم جمعهن وعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال

ذلك عقيب تلاوة الآية وبين مراد الله تعالى بها فلم يعقل السامعون للآية حكما إلا خاصا على ما بينا وإن كان حكم الآية استقر على مقتضى عموم لفظها ثم ورد الخبر فإن هذا لا يكون إلا على وجه النسخ ونسخ القرآن جائز بمثله لتواتره واستفاضته وكونه في حيز الأخبار الموجبة للعلم والعمل فإن لم يثبت عندنا تاريخ الآية والخبر مع حصول اليقين بأنه غير منسوخ بالآية لأنه لم يرد قبلها على ما بينا آنفا وجب استعماله مع الآية وأولى الأشياء أن يكون الآية والخبر وردا معا لأنه ليس عندنا علم بتاريخهما وغير جائز لنا الحكم بتأخره عن الآية ونسخ بعض أحكام الآية به لأن ذلك لا يكون إلا بعد استقرار حكم الآية على عمومها ثم ورد النسخ عليها بالخبر فوجب الحكم بورودهما معا ولأن الآية والخبر إذا لم يعلم تاريخهما وجب الحكم بهما معا كالغرقى والقوم الذين يقع عليهم البيت إذا لم يعلم موت أحدهم متقدما على الآخر حكمنا بموتهم جميعا معا والله أعلم
باب نكاح ذوات الزوج
قال الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت عطفا على من حرم من النساء من عند قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فروى سفيان عن حماد عن إبراهيم عن عبدالله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين وقال علي بن أبي طالب ذوات الأزواج من المشركين وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت
قال أبو بكر اتفق هؤلاء على أن المراد بقوله تعالى والمحصنات من النساء ذوات الأزواج منهن وأن

نكاحها حرام ما دامت ذات زوج واختلفوا في قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم فتأوله علي وابن عباس في رواية وعمر وعبدالرحمن بن عوف وابن عمر أن الآية إنما وردت في ذوات الأزواح من السبايا أبيح وطؤهن بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما وكانوا يقولون أن بيع الأمة لا يكون طلاقا ولا يبطل نكاحها وتأوله ابن مسعود وأبي بن كعب وأنس بن مالك وجابر بن عبدالله وابن عباس في رواية عكرمة أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهم وكانوا يقولون بيع الأمة طلاقها وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن عمر بن ميسرة قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم - بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا منهم سبايا لهن أزواج من المشركين فكان المسلمون يتحرجون من غشيانهم فأنزل الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم أي هن لكم حلال إذا انقضت عدتهن وقد ذكر أن أبا علقمة هذا رجل جليل من أهل العلم وقد روي عنه يعلى ابن عطاء وروى هو هذا الحديث عن أبي سعيد وله أحاديث عن أبي هريرة وهذا حديث صحيح السند قد أخبر فيه بسبب نزول الآية وأنها في السبايا وتأولها ابن مسعود ومن وافقه على جميع النساء ذوات الأزواج إذا ملكن حل وطؤهن لمالكهن ووقعت الفرقة بينهن وبين أزواجهن
فإن قيل أنتم لا تعتبرون السبب وإنما تراعون حكم اللفظ إن كان عاما فهو على عمومه حتى تقوم دلالة الخصوص فهلا اعتبرت ذلك في هذه الآية وجعلتها على العموم في سائر من يطرأ عليه الملك من النساء ذوات الأزواج فينتظم السبايا وغيرهن قيل له الدلالة ظاهرة في الآية على خصوصها في السبايا وذلك لأنه قال والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فلو كان حدوث الملك موجبا لإيقاع الفرقة لوجب أن تقع الفرقة بينها وبين زوجها إذا اشترتها امرأة أو أخوها من الرضاعة لحدوث الملك فإن قيل جائز أن يقال ذلك في سائر من طرأ عليهن الملك سواء كان حدوث الملك سببا لإباحة الوطء أو لم يكن بأن تملكها امرأة أو رجل لا يحل له وطؤها قيل له فشأن الآية إنما هو فيمن حدث له ملك اليمين فأباحت له وطأها لأنه استثناء بملك اليمين من حظر وطء المحصنات من النساء فواجب على ذلك أنه إذا

لم يستبح المالك وطأها بملك اليمين أن تكون الزوجية قائمة بينها وبين زوجها بحكم الآية وإذا وجب ذلك بحكم الآية وجب أن يكون قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم خاصا في السبايا ويكون السبب الموجب للفرقة اختلاف الدين لا حدوث الملك ويدل على أن حدوث الملك لا يوجب الفرقة ما روى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها اشترت بريرة فأعتقتها وشرطت لأهلها الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال الولاء لمن أعتق وقال له يا بريرة اختاري فالأمر إليك ورواه سماك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة مثله وروى قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها أن الولاء لمن أعطى الثمن وخيرها
فإن قيل فقد روى ابن عباس في أمر بريرة ما روى ثم قال بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -

بيع الأمة طلاقها فينبغي أن يقضي قوله هذا ما رواه لأنه لا يجوز أن يخالف

النبي صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه
قيل له قد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السبايا وأن بيع الأمة لا يوقع فرقة بينها وبين زوجها فجائز أن يكون الذي ذكرت عنه من أن بيع الأمة طلاقها كان يقول قبل أن تثبت عنده قصة بريرة وتخيير النبي صلى الله عليه وسلم -

إياها بعد الشرى فلما سمع بقصة بريرة رجع عن قوله وأيضا يحتمل أن يريد

بقوله بيع الأمة طلاقها إذا اشتراها الزوج ولا يبقى النكاح مع الملك
والنظر يدل على أن بيع الأمة ليس بطلاق ولا يوجب الفرقة وذلك لأن الطلاق لايملكه الزوج ولا يصح إلا بإيقاعه أو بسبب من قبله فلما لم يكن من الزوج في ذلك سبب وجب أن لا يكون طلاقا ويدل أيضا على ذلك أن ملك اليمين لا ينافي النكاح لأن الملك موجود قبل البيع غير ناف للنكاح فكذلك ملك المشتري لا ينافيه
فإن قيل لما طرأ ملك المشتري ولم يكن منه رضى بالنكاح وجب أن ينفسخ
قيل له هذا غلط لأنه قد ثبت أن الملك لا ينافي النكاح والمعنى الذي ذكرت إن كان معتبرا فإنما يوجب للمشتري خيارا في فسخ النكاح وليس هذا قول أحد لأن عبدالله بن مسعود ومن تابعه يوجبون فسخ النكاح بحدوث الملك
واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سبيا معا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا سبى الحربيان معا وهما زوجان فهما على النكاح وإن سبي أحدهما قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة وهو قول الثوري وقال الأوزاعي إذا

سبيا جميعا فما كانا في المقاسم فهما على النكاح فإذا اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء فرق بينهما فاتخذها لنفسه أو زوجها غيره بعد ما يستبرئها بحيضة وهو قول الليث بن سعد وقال الحسن بن صالح إذا سبيت ذات زوج استبرئت بحيضتين لأن زوجها أحق بها إذا جاء في عدتها وغير ذات الأزواج بحيضة
وقال مالك والشافعي إذا سبيت بانت من زوجها سواء كان معها زوجها أو لم يكن
قال أبو بكر قد ثبت أن حدوث الملك غير موجب للفرقة بدلالة الأمة المبيعه والمورثة فوجب أن لا تقع الفرقة بالسبي نفسه لأنه ليس فيه أكثر من حدوث الملك ودليل آخر وهو أن حدوث الرق عليها لا يمنع ابتداء العقد فلأن لا يمنع بقاءه أولى لأن البقاء هو آكد في ثبوت النكاح معه من الابتداء ألا ترى أنه قد يمنع الابتداء مالا يمنع البقاء وهو حدوث العدة عليها من وطء بشبهة يمنع ابتداء العقد ولا يمنع بقاء العقد المتقدم
فإن احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري في قصة سبايا أوطاس وسبب نزول الآية عليها وهو قوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم لم يفرق بين من سبيت مع زوجها أو وحدها قيل له روى حماد قال أخبرنا الحجاج عن سالم المكي عن محمد بن علي قال لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون كيف نصنع ولهن أزواج فأنزل الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فأخبر أن الرجال لحقوا بالجبال وأن السبايا كن منفردات عن الأزواج والآية فيهن نزلت وأيضا لم يأسر النبي صلى الله عليه وسلم - في غزاة حنين من الرجال أحدا فيما نقل أهل المغازي وإنما كانوا من بين قتيل أو مهزوم وسبى النساء ثم جاءه الرجال بعد ما وضعت الحرب أوزارها فسألوه أن يمن عليهم بإطلاق سباياهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم وقال للناس من رد عليهم فذاك ومن تمسك بشيء منهن فله خمس فرائض في كل رأس وأطلق الناس سباياهم فثبت بذلك أنه لم يكن مع ا لسبايا أزواجهن
فإن احتجوا بعموم قوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم لم يخصص من معهن أزواجهن والمنفردات منهن قيل له قد اتفقنا على أنه لم يرد عموم الحكم في إيجاب الفرقة بالملك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بشرى الأمة وهبتها وبالميراث وغيره من وجوه الأملاك الحادثة فلما لم يكن ذلك كذلك علمنا أن الفرقة لم تتعلق بحدوث الملك وكان ذلك دليلا على مراد الآية وذلك لأنه إذا لم يخل

مراد الله تعالى في المعنى الموجب للفرقة في المسبية من أحد وجهين إما اختلاف الدارين بهما أو حدوث الملك ثم قامت دلالة السنة واتفاق الخصم معنا على نفي إيجاب الفرقة بحدوث الملك قضى ذلك على مراد الآية بأنه اختلاف الدارين وأوجب ذلك خصوص الآية في المسبيات دون أزواجهن ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين أنهما المسبيات دون أزواجهن ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين أنهما لو خرجا مسلمين أو ذميين لم تقع بينهما فرقة لأنهما لم تختلف بهما الداران فدل ذلك على أن المعنى الموجب للفرقة بين المسبية وزوجها إذا كانت منفردة اختلاف الدارين بهما ويدل عليه أن الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة أو ذمية ثم لم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف وقد حكم الله تعالى بذلك في المهاجرات في قوله ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ثم قال ولا تمسكوا بعصم الكوافر قال أبو بكر قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم يقتضى إباحة الوطء بملك اليمين لوجود الملك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد روى عنه ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال قام فينا خطيبا فقال أما أني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول يوم حنين لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر ان يسقى ماؤه زرع غيره حتى يستبرئها بحيضة قال أبو داود ذكر الاستبراء ههنا وهم من أبي معاوية وهو صحيح في حديث أبي سعيد وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا النفيلي قال حدثنا مسكين قال حدثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن عبدالرحمن ابن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة فرأى امرأة مجحا فقال لعل صاحبها ألم بها قالوا نعم قال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستخدمه وهو لا يحل له فهذه الأخبار

تمنع من استحدث ملكا في جارية أن يطأها حتى يستبرئها إن كانت حائلا وحتى تضع حملها إن كانت حاملا وليس بين فقهاء الأمصار خلاف في وجوب استبراء المسبية على ما ذكرنا إلا أن الحسن بن صالح قال عليها العدة حيضتين إذا كان لها زوج في دار الحرب وقد ثبت بحديث أبي سعيد الذي ذكرنا الاستبراء بحيضة واحدة وليس هذا الاستبراء بعدة لانها لو كانت عدة لفرق النبي صلى الله عليه وسلم -

بين ذوات الأزواج منهن وبين من ليس لها زوج لأن العدة لا تجب إلا عن فراش

فلما سوى النبي صلى الله عليه وسلم - بين من كان لها فراش وبين من لم يكن لها فراش دل ذلك على أن هذه الحيضة ليست بعدة فإن قيل قد ذكر في حديث أبي سعيد الذي ذكرت إذا انقضت عدتهن فجعل ذلك عدة قيل له يجوز أن تكون هذه اللفظة من كلام الراوي تأويلا منه للاستبراء أنه عدة وجائز أن تكون العدة لما كان أصلها استبراء الرحم أجرى اسم العدة على الاستبراء على وجه المجاز
قال أبو بكر وقد روى في قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم تأويل آخر وروى زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال ذوات الأزواج ورجع ذلك إلى قوله حرم الله تعالى الزنا وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال فزوجتك مما ملكت يمينك يقول حرم الله الزنا لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال نهى عن الزنا وعن عطاء بن السائب قال كل محصنة عليك حرام إلا امرأة تملكها بنكاح
قال أبو بكر وكان تأويلها عند هؤلاء أن ذوات الأزواج حرام إلا على أزواجهن وليس يمتنع أن يكون ذلك من مراد الله تعالى بالآية لاحتمال اللفظ له وذلك لا يمنع إرادة المعاني التي تأولها الصحابة عليها من إباحة وطء السبايا اللاتي لهن أزواج حربيون فيكون محمولا على الأمرين والأظهر أن ملك اليمين هي الأمة دون الزوجات لأن الله قد فرق بينهما فقال الله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فجعل ملك اليمين غير الزوجات والإطلاق إنما يتناول الإماء المملوكات دون الزوجات وهي كذلك في الحقيقة لأن الزوج لا يملك من زوجته شيئا وإنما له منها استباحة الوطء ومنافع بضعها في ملكها دونه ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة وهي تحت زوج كان المهر لها دونه فدل ذلك

على أنه لا يملك من زوجته شيئا فوجب ان يجمل قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم على من يملكها في الحقيقة وهي المسبية
قوله تعالى كتاب الله عليكم روي عن عبيدة

قال

أربع وإنما نصب كتاب الله لأنهم يقولون أن معنى كتاب الله عليكم أي كتب الله عليكم ذلك وقيل معناه حرم ذلك كتابا من الله عليكم وهذا تاكيد لوجوبه وإخبار منه لنا بفرضه لأن الكتاب هو الفرض
قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم روى عن عبيدة السلماني والسدي أحل ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح وقال عطاء أحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم وقال قتادة ما وراء ذلكم ما ملكت أيمانكم
وقيل ما وراء ذوات المحارم وما وراء الزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين
قال أبو بكر هو عام فيما عدا المحرمات في الآية وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم -

باب

المهور
قال الله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم فعقد الإباحة بشريطة إيجاب بدل البضع وهو مال فدل على معنيين أحدهما أن بدل البضع واجب أن يكون ما يستحق به تسليم مال والثاني أن يكون المهر ما يسمى أموالا وذلك لأن هذا خطاب لكل واحد في إباحة ما وراء ذلك أن يبتغي البضع بما يسمى أموالا كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم خطاب لكل أحد في تحريم أمهاته وبناته عليه وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز أن يكون المهر الشيء التافه الذي لا يسمى أموالا واختلف الفقهاء في مقدار المهر فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا مهر أقل من عشرة دراهم وهو قول الشعبي وإبراهيم في آخرين من التابعين وقول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وقال أبو سعيد الخدري والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء يجوز النكاح على قليل المهر وكثيره وتزوج عبدالرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب فقال بعض الرواة قيمتها ثلاثة دراهم وثلث وقال آخرون النواة عشرة أو خمسة وقال مالك أقل المهر ربع دينار وقال ابن أبي ليلى والليث والثوري والحسن ابن صالح والشافعي يجوز بقليل المال وكثيره ولو درهم
قال أبو بكر قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم يدل على أن ما لا يسمى أموالا لا يكون مهرا وإن شرطه أن يسمى أموالا هذا مقتضى الآية وظاهرها ومن كان له درهم أو

درهمان لا يقال عنده أموال فلم يصح أن يكون مهرا بمقتضى الظاهر
فإن قيل ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال وقد أجزئها مهرا
قيل له كذلك يقتضي الظاهر لكن أجزناها بالاتفاق وجائز تخصيص الآية بالإجماع وأيضا قد روى حرام بن عثمان عن ابن جابر عن أبيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا مهر أقل من عشرة دراهم وقال علي بن أبي طالب لا مهر أقل من عشرة دراهم ولا سبيل إلى معرفة هذا الضر ب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى من طريق يالاجتهاد والرأي وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وتقديره العشرة مهرا دون ما هو أقل منها يدل على أنه قاله توقيفا وهو نظير ما روي عن أنس في أقل الحيض أنه ثلاثة أيام وأكثره عشرة وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي في أكثر النفاس أنه أربعون يوما أن ذلك توقيف إذ لا يقال في مثله من طريق الرأي وكذلك ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهيد فقد تمت صلاته فدل تقديره للفرض بمقدار التشهيد أنه قاله من طريق التوقيف وقد احتج بعض أصحابنا لاعتبار العشرة أن البضع عضو لا تجوز استباحته إلا بمال فأشبه القطع في السرقة فلما كانت اليد عضوا لا تجوز استباحته إلا بمال وكان المقدار الذي يستباح به عشرة على أصلهم فكذلك المهر يعتبر به وأيضا لما اتفق الجميع على أنه لا يجوز استباحة البضع بغير بدل واختلفوا فيما تجوز استباحته به من المقدار وجب أن يكون باقيا على الحظر في منع استباحته إلا بما قام دليل جوازه وهو العشرة المتفق عليها وما دونها مختلف فيه فالبضع باق على حكم الحظر وأيضا لما لم تجز استباحته إلا ببدل كان الواجب أن يكون البدل الذي به يصح قيمة البضع هو مهر المثل وأن لا يحط عنه شيء إلا بدلالة ألا ترى أنه لو تزوجها على غير مهر لكان الواجب لها مهر مثلها وفي ذلك دليل على أن عقد النكاح يوجب مهر المثل فغير جائز إسقاط شيء من موجبه إلا بدلالة وقد قامت دلالة الإجماع على جواز إسقاط ما زاد على العشرة واختلفوا فيما دونه أن يكون واجبا بإيجاب العقد له إذا لم تقم الدلالة على إسقاطه
فإن قيل لما قال الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم اقتضى ذلك إيجاب نصف الفرض قليلا كان أو كثيرا قيل له لما ثبت بما ذكرنا ان المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم كانت تسميته لبعض العشرة تسمية لها

كسائر الأشياء التي لا تتبعض تكون تسميته لبعضها تسمية لجميعها كالطلاق والنكاح ونحوهما وإذا كانت العشرة لا تتبعض في العقد صارت تسميته لبعضها تسمية لجميعها فإذا طلقها قبل الدخول وجب لها نصف العشرة لأن العشرة هي الفرض ألا ترى أنه لو طلق امرأته نصف تطليقه كان مطلقا لها تطليقة كاملة ولو طلق نصفها كان مطلقا كذلك لجميعها وكذلك لو عفا عن نصف دم عمد كان عافيا عن جميعه فلما كان ذلك كذلك وجب أن تكون تسميته لخمسة تسمية للعشرة لقيام الدلالة على أن العشرة لا تتبعض في عقد النكاح فمتى أوجبنا بعد الطلاق خمسة كان ذلك نصف الفرض وأيضا فإنا نوجب نصف المفروض فلسنا مخالفين لحكم الآية ونوجب الزيادة إلى تمام الخمسة بدلالة أخرى وإنما كان يكون مذهبنا خلاف الآية لو لم نوجب نصف الفرض فأما إذا أوجبناه وأوجبنا زيادة عليه بدلالة أخرى فليس في ذلك مخالفة للآية
واحتج من أجاز أن يكون المهر أقل من عشرة بحديث عامر بن ربيعة أن امرأة جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

وقد تزوجت رجلا على نعلين فقال لها رسول الله ص

- رضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وبحديث أبي الزبير يعن جابر عن النبي ص

- أنه قال ما أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعاما فقد استحل وبحديث الحجاج ابن أرطأة عن عبدالملك بن المغيرة الطائفي عن عبدالرحمن بن السلماني قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال أنكحوا الأيامى منكم فقالوا يا رسول الله وما العلائق بينهما قال ما

تراضى به الأهلون وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من استحل بدرهمين فقد استحل وإن عبدالرحمن بن عوف تزوج على وزن نواة من ذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال أولم ولو بشاة ولم ينكر ذلك عليه وبحديث أبي حازم عن سهل بن سعد في

قصة المرأة التي قالت لنبي ص - قد وهبت نفسي لك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم - مالي بالنساء من حاجة فقال له رجل زوجنيها فقال هل عندك من شيء تصدقها إياه فقال إزاري هذا فقال إن اعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك إلى أن قال إلتمس ولو خاتما من حديد فأجاز أن يكون المهر خاتما من حديد لا يساوي عشرة
والجواب عن إجازته النكاح على نعلين أن النعلين قد يجوز أن تساويا عشرة دراهم أو أكثر فلا دلالة فيه على موضع الخلاف لأنه تزوجها على نعلين ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

وجائز أن يكون قيمتها عشرة أو أكثر

وليس بعموم لفظ في إباحة التزويج على نعلين أي نعلين كانتا فلا دلالة فيه على قول المخالف وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبر بجواز النكاح وجواز النكاح لا يدل على أنه هو المهر لا غيره لأنه لو تزوجها على غير مهر لكان النكاح جائزا ولم يدل جواز النكاح على أن لا شيء لها كذلك جواز النكاح على نعلين قيمتهما أقل من عشرة دراهم لا دلالة فيه على أنه لا يجب غيرهما وأما قوله من استحل بدرهمين أو بكف دقيق فقد استحل فإنه أخبار عن ملك البضع ولا دلالة فيه على أنه لا يجب غيره
وكذلك حديث عبدالرحمن في تزوجه على وزن نواة من ذهب وعلى أنه قد روى في الخبر أن قيمتها كانت خمسة أو عشرة
وأما قوله العلائق ما تراضى به الأهلون فإنه محمول على ما يجوز مثله في الشرع ألا ترى أنهم لو تراضوا بخمر أو خنزير أو شغار لما جاز تراضيهما كذلك في حكم التسمية يكون مرتبا على ما ثبت حكمه في الشرع من تسمية العشرة
وأما حديث سهل بن سعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أمره بتعجيل شيء لها وعلى ذلك كان مخرج كلامه لأنه لو أراد ما يصح به العقد من التسمية لاكتفى بإثباته في ذمته ما يجوز به العقد عن السؤال عما يعجل فدل ذلك على أنه لم يرد به ما يصح مهرا ألا ترى أنه لما لم يجد شيئا قال زوجتكها بما معك من القرآن وما معه من القرآن لا يكون مهرا فدل ذلك على صحة ما ذكرنا
واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة على خدمته سنة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فإن كان حرا فلها مهر مثلها وإن كان عبدا فلها خدمته سنة وقال محمد لها قيمة خدمته إن كان حرا وقال مالك إذا تزوجها على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر أو أقل ويكون ذلك صداقها فإنه يفسخ النكاح إن لم يدخل بها وإن دخل بها ثبت النكاح وقال الأوزاعي إذا تزوجها على أن يحجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فهو ضامن لنصف حجها من الحملان والكسوة والنفقة وقال الحسن بن صالح والشافعي النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتا معلوما وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا تزوجها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها وهو قول مالك والليث وقال الشافعي يكون ذلك مهرا لها فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجرة التعليم إن كان قد علمها وهي رواية المزني وحكى الربيع عنه أنه يرجع عليها بصف مهر مثلها قال أبو بكر قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم قد

اقتضى أن يكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال لأن قوله أن تبتغوا بأموالكم يحتمل معنيين أحدهما تمليك المال بدلا من البضع والآخر تسليمه لاستيفاء منافعه فدل ذلك على أن المهر الذي يملك به البضع إما أن يكون مالا أو منافع في مال يستحق بها تسليمه إليها إذ كان قوله أن تبتغوا بأموالكم يشتمل عليهما ويقتضيهما ويدل على أن المهر حكمه أن يكون مالا قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وذلك لأن قوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة أمر يقتضي ظاهره الإيجاب ودل بفحواه على أن المهر ينبغي أن يكون مالا من وجهين أحدهما قوله وآتوا معناه أعطوا والإعطاء إنما يكون في الأعيان دون المنافع إذ المنافع لا يتأتى فيها الإعطاء على الحقيقة والثاني قوله فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وذلك لا يكون في المنافع وإنما هو في المأكول أو فيما يمكن صرفه بعد الإعطاء إلى المأكول فدلت هذه الآية على أن المنافع لا تكون مهرا
فإن قيل فهذا يوجب أن لا تكون خدمة العبد مهرا قيل له كذلك اقتضى ظاهر الآية ولولا قيام الدلالة لما جاز ويدل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الشغار وهو أن يزوجه أخته على أن يزوجه أخته أو يزوجه أمته على أن يزوجه أمته وليس بينهما مهر وهذا أصل في أن المهر لا يصح إلا أن يستحق به تسليم مال فلما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم - أن تكون منافع البضع مهرا لأنها ليست بمال دل ذلك على أن كل ما شرط من بدل البضع مما لا يستحق به تسليم مال لا يكون مهرا وكذلك قال أصحابنا لو تزوجها على عفو من دم عمدا وعلى طلاق فلانة أن ذلك ليس بمهر مثل منافع البضع إذا جعلها مهرا وقد قال الشافعي أنه إذا سمي في الشغار لإحداهما مهرا أن النكاح جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها ولم يجعل البضع مهرا في الحال التي أجاز النكاح فيها ونهى ا لنبي ص - عن نكاح الشغار فدل ذلك على معنيين أحدهما أنه إذا كان الشغار في الأمتين كان المهر منافع البضع بدلا في النكاح والثاني إذا كان الشغار في الحرتين وهو أن يقول أزوجك أختي على أن تزوجني أختك أو أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك فيكون هذا عقدا عاريا من ذكر المهر لواحدة من المرأتين لأنه شرط المنافع لغير المنكوحة وهو الولي فالشغار في أحد الوجهين يكون عقد نكاح عاريا عن تسمية بدل للمنكوحة وفي الوجه الآخر يكون بدل البضع بضع آخر فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك أن

يكون بدلا فصار أصلا في أن بدل البضع شرطه أن يستحق به تسليم مال
فإن قيل إن منافع بضع الأمة حق في مال فهلا كانت كالتزويج على خدمة العبد قيل له لأن خدمة العبد يستحق بها تسليم مال وهو رقبة العبد كالمستأجر له يستحق تسليم العبد إليه للخدمة وزوج الأمة لا يستحق تسليمها إليه بعقد النكاح لأن للمولى أن لا يبوئها بيتا وقوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم قد اقتضى أن يستحق عليه بعقد النكاح تسليم مال بدلا من البضع وأما التزويج على تعليم سورة من القرآن فإنه لا يصح مهرا من وجهين أحدهما ما ذكرنا من أنه لا يستحق به تسليم مال كخدمة الحر والوجه الآخر أن تعليم القرآن فرض على الكفاية فكل من علم إنسانا شيئا من القرآن فإنما قام بفرض وقد روى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال بلغوا عني ولو آية فكيف يجوز أن يجعل عوضا للبضع ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليم الإسلام وهذا باطل لأن ما أوجب الله تعالى على الإنسان فعله فهو متى فعله فعله فرضا فلا يستحق أن يأخذ عليه شيئا من أعراض الدنيا ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخذ الرشى على الحكم وقد جعل الله ذلك سحتا محرما فإن احتج محتج بحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت للنبي ص - قد وهبت نفسي لك فقال رجل زوجنيها إلى أن قال هل معك من القرآن شيء قال نعم سورة كذا فقال ص - قد زوجتكها بما معك من القرآن وبما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حفص بن عبدالله قال حدثني أبي قال حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج الباهلي عن عسل عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة بنحو قصة سهل بن سعد في أمر المرأة وقال فيه ما تحفظ من القرآن قال سورة البقرة أو التي تليها قال قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك قيل له معناه لما معك من القرآن كما قال تعالى ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ومعناه لما كنتم تفرحون وأيضا كون القرآن معه لا يوجب أن يكون بدلا والتعليم ليس له ذكر في هذا الخبر فعلمنا أن مراده أني زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك من القرآن وهو كما روى عبدالله بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس قال خطب أبو طلحة أم سليم فقالت إني آمنت بهذا الرجل وشهدت أنه رسول الله فإن تابعتني تزوجتك قال فأنا على ما أنت عليه فتزوجته فكان صداقها الإسلام ومعناه أنها تزوجته لأجل إسلامه لأن الإسلام لا يكون صداقا لأحد في

الحقيقة وأما حديث إبراهيم بن طهمان فإنه ضعيف السند وقد روى هذه القصة مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد فلم يذكر أنه قال علمها ولم يعارض بحديث إبراهيم بن طهمان ولو صح هذا الحديث لم يكن فيه دلالة على أنه جعل تعليم القرآن مهرا لأنه جائز أن يكون أمره بتعليمها القرآن ويكون المهر ثابتا في ذمته إذ لم يقل إن تعليم القرآن مهر لها فإن قيل قال الله تعالى إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فجعل منافع الحر بدلا من البضع قيل له لم يشرط المنافع للمرأة وإنما شرطها لشعيب النبي عليه السلام وما شرط للأب لا يكون مهرا فالاحتجاج به باطل في مسألتنا وأيضا لو صح أنها كانت مشروطة لها وأنه إنما أضافها إلى نفسه لأنه هو المتولي للعقد أو لأن مال الولد منسوب إلى الوالد كقوله ص - أنت ومالك لأبيك فهو منسوخ بالنهي عن الشغار
وقوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم يدل على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها إذ كانت الآية مقتضية لكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال إليها وليس في العتق تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها ألا ترى أن الرق الذي كان المولى يملكه لا ينتقل إليها وإنما يتلف به ملكه فإذا لم يحصل لها به مال أو لم تستحق به تسليم مال إليها لم يكن مهرا وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -

أعتق صفية وجعل عتقها صداقها فلأن النبي ص

- كان له أن يتزوج بغير مهر وكان مخصوصا به دون الأمة قال الله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين فكان ص -

مخصوصا بجواز ملك البضع بغير بدل كما كان مخصوصا بجواز تزويج التسع دون

الأمة قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا يدل أيضا على أن العتق لا يكون صداقا من وجوه أحدها أنه قال وآتوهن وذلك أمر يقتضي الإيجاب وإعطاء العتق لا يصح والثاني قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا والعتق لا يصح فسخه بطيب نفسها عن شيء منه والثالث قوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا وذلك محال في العتق
قوله تعالى محصنين غير مسافحين قال أبو بكر يحتمل قوله تعالى محصنين غير مسافحين وجهين أحدهما الحكم بكونهم محصنين بعقد النكاح والأخبار عن حالهم إذا نكحوا

والثاني أني كون الإحصان شرطا في الإباحة المذكورة في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم فإن كان المراد الوجه الأول فإطلاق الإباحة عموم يصح اعتباره فيما انتظمه إلا ما قام دليله وإن أراد الوجه الثاني كان إطلاق الإباحة مجملا لأنه معقود بشريطة حصول الإحصان به والإحصان لفظ مجمل مفتقر إلى البيان فلا يصح حينئذ الاحتجاج به والأولى حمله على الأخبار عن حصول الإحصان بالتزويج لإمكان استعماله وذلك لأنه متى ورد لفظ يحتمل أن يكون عموما يمكننا استعمال ظاهره ويحتمل أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فالواجب حمله على معنى العموم دون الإجمال لما فيه من استعمال حكمه عند وروده فعلينا المصير إليه وغير جائز حمله على وجه يسقط عنا استعماله إلا بورود بيان من غيره وفي نسق التلاوة وفحوى الآية ما يوجب أن يكون ذكر الإحصان إخبارا عن كونه محصنا بالنكاح وذلك لأنه قال محصنين غير مسافحين والسفاح هو الزنا فأخبر أن الإحصان المذكور هو ضد الزنا وهو العفة وإذا كان المراد بالإحصان في هذا الموضع العفاف فقد حصل على وجه لا يكون مجملا لأن تقديره وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم عفة غير زنا وهذا لفظ ظاهر المعنى بين المراد فيوجب ذلك معنيين أحدهما إطلاق لفظ الإباحة وكونه عموما والآخر الأخبار بأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا محصنين غير مسافحين والإحصان لفظ مشترك متى أطلق لم يكن عموما كسائر الألفاظ المشتركة وذلك لأنه اسم يقع على معان مختلفة وأصله المنع ومنه سمي الحصن لمنعه من صار فيه من أعدائه ومنه الدرع الحصينة أي المنيعة والحصان بالكثر الفحل من الأفراس لمنعه راكبه من الهلاك والحصان بالنصب العفيفة من النساء لمنعها فرجها من الفساد قال حسان في عائشة رضي الله عنهما ... حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثة من لحوم الغوافل ...
وقال الله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات يعني العفائف والإحصان في الشرع اسم يقع على معان مختلفة غير ما كان لها في اللغة فمنها الإسلام قال الله تعالى فإذا أحصن روى فإذا أسلمن ويقع على التزويج لأنه قد روي في التفسير أيضا أن معناه فإذا تزوجن وقال تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ومعناه ذوات الأزواج ويقع على العفة في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ويقع

على الوطء بنكاح صحيح في إحصان الرجم
والإحصان في الشرع يتعلق به حكمان أحدهما في إيجاب الحد على قاذفه في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات فهذا يعتبر فيه العفاف والحرية والإسلام والعقل والبلوغ فما لم يكن على هذه الصفة لم يجب على قاذفه الحد لأنه لا حد على قاذف المجنون والصبي والزاني والكافر والعبد فهذه الوجوه من الإحصان معتبرة في إيجاب الحد على القاذف والحكم الآخر هو الإحصان الذي يتعلق به إيجاب الرجم إذا زنا وهذا الإحصان يشتمل على الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح مع الدخول بها وهما على هذه الصفة فإن عدم شيء من هذه الخلال لم يكن عليه الرجم إذا زنا والسفاح هو الزنا قال النبي صلى الله عليه وسلم -

أنا من نكاح ولست من سفاح وقال مجاهد والسدي في قوله تعالى غير

مسافحين قالا غير زانين ويقال إن أصله من سفح الماء وهو صبه ويقال سفح دمعه وسفح دم فلان وسفح الجبل أسفله لأنه موضع مصب الماء وسافح الرجل إذا زنا لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح فسمي مسافحا لأنه لم يكن له من فعله هذا غير صب الماء وقد أفاد ذلك نفي نسب الولد المخلوق من مائه منه وأنه لا يلحق به ولا تجب على المرأة العدة منه ولا تصير فراشا ولا يجب عليه مهر ولا يتعلق بذلك الوطء شيء من أحكام النكاح هذه المعاني كلها في مضمون هذا اللفظ والله أعلم بالصواب
باب

المتعة

قال الله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة قال أبو بكر هو عطف على ما تقدم ذكره من إباحة نكاح ما وراء المحرمات في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ثم قال فما استمتعتم به منهن يعني دخلتم بهن فآتوهن أجورهن كاملة وهو كقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وقوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا والاستمتاع هو الانتفاع وهو ههنا كناية عن الدخول قال الله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها يعني تعجلتم الانتفاع بها وقال فاستمتعتم بخلاقكم يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا فلما حرم الله تعالى من ذكر تحريمه في قوله حرمت عليكم أمهاتكم وعنى به نكاح الأمهات ومن ذكر معهن ثم عطف عليه

قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم اقتضى ذلك إباحة النكاح فيمن عدا المحرمات المذكورة ثم قال أن تبتغوا بأموالكم محصنين يعني والله أعلم نكاحا تكونون به محصنين عفائف غير مسافحين ثم عطف عليه حكم النكاح إذا اتصل به الدخول بقوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فأوجب على الزوج كمال المهر وقد سمى الله المهر أجرا في قوله فأنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن فسمى المهر أجرا وكذلك الأجور المذكورة في هذه الآية هي المهور وإنما سمى المهر أجرا لأنه بدل المنافع وليس ببدل عن الأعيان كما سمى بدل منافع الدار والدابة أجرا وفي تسمية الله المهر أجرا دليل على صحة قول أبي حنيفة فيمن استأجر امرأة فزنا بها أنه لا حد عليه لأن الله تعالى قد سمى المهر أجرا فهو كمن قال أمهرك كذا وقد روى نحوه عن عمربن الخطاب ومثل هذا يكون نكاحا فاسدا لأنه بغير شهود وقال تعالى في آية أخرى ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وقد كان ابن عباس يتأول قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن على متعة النساء وروي عنه فيها أقاويل روي أنه كان يتأول الآية على إباحة المتعة ويروى أن في قراءة أبي بن كعب فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وروي عنه أنه لما قيل له أنه قد قيل فيها الأشعار قال هي كالمضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فأباحها في هذا القول عند الضرورة وروي عن جابر بن زيد أن ابن عباس نزل عن قوله في الصرف وقوله في المتعة
وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن بكير عن الليث عن بكير بن عبدالله بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح فقال ابن عباس لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي قال المتعة كما قال الله تعالى قلت له هل لها من عدة قال نعم عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قال لا
وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله تعالى فما استمتعتم به منهن قال نسختها يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وهذا يدل على رجوعه عن القول بالمتعة وقد روي عن جماعة من السلف أنها زنا حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن عقيل

ويونس عن ابن شهاب عن ابن عبدالملك مغيرة بن نوفل عن ابن عمر أنه سئل عن المتعة فقال ذلك السفاح وروي عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان نكاح المتعة بمنزلة الزنا فإن قيل لا يجوز أن تكون المتعة زنا لأنه لم يختلف أهل النقل أن المتعة قد كانت مباحة في بعض الأوقات أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يبح الله تعالى الزنا قط
قيل له لم تكن زنا في وقت الإباحة فلما حرمها الله تعالى جاز إطلاق اسم الزنا عليها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الزانية هي التي تنكح نفسها بغير بينة وأيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وإنما معناه التحريم لا حقيقة الزنا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - العينان تزنيان والرجلان تزنيان فزنا العين النظر وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك كله الفرج أو كذبه فأطلق اسم الزنا في هذه الوجوه على وجه المجاز إذا كان محرما فكذلك من أطلق اسم الزنا على المتعة فإنما أطلقه على وجه المجاز وتأكيد التحريم وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت أبا نضرة يقول كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبدالله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله وانتهوا عن نكاح هذه النساء لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته فذكر عمر الرجم في المتعة وجائز أن يكون على جهة الوعيد والتهديد لينزجر الناس عنها وقال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عطاء قال سمعت ابن عباس يقول رحم الله عمر ماكانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم الله بها أمة محمد ص - ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا فالذي حصل من أقاويل ابن عباس القول بإباحة المتعة في بعض الروايات من غير تقييد لها بضرورة ولا غيرها
والثاني أنها كالميتة تحل بالضرورة
والثالث أنها محرمة وقد قدمنا ذكر سنده وقوله أيضا إنها منسوخة
ومما يدل على رجوعه عن إباحتها ما روى عبدالله بن وهب قال اخبرني عمرو بن الحرث أن بكير بن الأشج حدثه أن أبا إسحاق مولى بني هاشم حدثه أن رجلا سأل ابن عباس فقال كنت في سفر ومعي جارية لي ولي أصحاب فأحللت جاريتي لأصحابي يستمتعون منها فقال

ذلك السفاح فهذا أيضا يدل على رجوعه
وأما احتجاج من احتج فيها بقوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن وأن في قراءة أبي إلى أجل مسمى فإنه لا يجوز إثبات الأجل في التلاوة عند أحد من المسلمين فالأجل إذا غير ثابت في القرآن ولو كان فيه ذكر الأجل لما دل أيضا على متعة النساء لأن الأجل يجوز أن يكون داخلا على المهر فيكون تقديره فما دخلتم به منهن بمهر إلى أجل مسمى فآتوهن مهورهن عند حلول الأجل
وفي فحوى الآية من الدلالة على أن المراد النكاح دون المتعة ثلاثة أوجه أحدها أنه عطف على إباحة النكاح في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وذلك إباحة لنكاح من عدا المحرمات لا محالة لأنهم لا يختلفون أن النكاح مراد بذلك فوجب أن يكون ذكر الاستمتاع بيانا لحكم المدخول بها بالنكاح في استحقاقها لجميع الصداق والثاني قوله تعالى محصنين والإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح لأن الوطئ بالمتعة لا يكون محصنا ولا يتناوله هذا الاسم فعلمنا أنه أراد النكاح والثالث قوله تعالى غير مسافحين فسمى الزنا سفاحا لالتقاء أحكام النكاح عنه من ثبوت النسب ووجوب العدة وبقاء الفراش إلى أن يحدث له قطعا ولما كانت هذه المعاني موجودة في المتعة كانت في معنى الزنا ويشبه أن يكون من سماها سفاحا ذهب إلى هذا المعنى إذا كان الزاني إنما سمي مسافحا لأنه لم يحصل له من وطئها فيما يتعلق بحكمه إلا على سفح الماء باطلا من غير استلحاق نسب به فمن حيث نفى الله تعالى بما أحل من ذلك وأثبت به الإحصان اسم السفاح وجب أن يكون المراد بالاستمتاع هو المتعة إذ كانت في معنى السفاح بل المراد به النكاح
وقوله تعالى غير مسافحين شرط في الإباحة المذكورة وفي ذلك دليل على النهي عن المتعة إذ كانت المتعة في معنى السفاح من الوجه الذي ذكرنا
قال أبو بكر فكان الذي شهر عنه إباحة المتعة من الصحابة عبدالله بن عباس واختلفت الروايات عنه مع ذلك فروى عنه إباحتها بتأويل الآية له قد بينا أنه لا دلالة في الآية على إباحتها بل دلالات الآية ظاهرة في حظرها وتحريمها من الوجوه التي ذكرنا ثم روى عنه أنه جعلها بمنزلة الميتة ولحم الخنزير والدم وأنها لا تحل إلا لمضطر وهذا محال لأن الضرورة المبيحة للمحرمات لا توجد في المتعة وذلك لأن الضرورة المبيحة للميتة والدم هي التي يخاف معها تلف النفس إن لم يأكل وقد علمنا إن الإنسان لا يخاف على نفسه ولا على شيء

من أعضائه التلف بترك الجماع وفقده وإذا لم تحل في حال الرفاهية والضرورة لا تقع إليها فقد ثبت حظرها واستحال قول القائل إنها تحل عند الضرورة كالميتة والدم فهذا قول متناقض مستحيل وأخلق بان تكون هذه الرواية عن ابن عباس وهما من رواتها لأنه كان رحمه الله أفقه من أن يخفى عليه مثله فالصحيح إذا ما روي عنه من حظرها وتحريمها وحكاية من حكي عنه الرجوع عنها
والدليل على تحريمها قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فقصر إباحة الوطء على أحد هذين الوجهين وحظر ما عداهما بقوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والمتعة خارجة عنهما فهي إذا محرمة فإن قيل ما أنكرت أن تكون المرأة المستمتع بها زوجة وأن المتعة غير خارجة عن هذين الوجهين اللذين قصر الإباحة عليهما
قيل له هذا غلط لأن اسم الزوجة إنما يقع عليها ويتناولها إذا كانت منكوحة بعقد النكاح وإذا لم تكن المتعة نكاحا لم تكن هذه زوجة
فإن قيل ما الدليل على أن المتعة ليست بنكاح
قيل له الدليل على ذلك أن النكاح اسم يقع على أحد معنيين وهو الوطء والعقد وقد بينا فيما سلف أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد وإذ كان الاسم مقصورا في إطلاقه على أحد هذين المعنيين وكان إطلاقه في العقد مجازا على ما ذكرنا ووجدناهم أطلقوا الاسم على عقد تزويج مطلق أنه نكاح ولم نجدهم أطلقوا اسم النكاح على المتعة فلا يقولون إن فلانا تزوج فلانة إذا شرط التمتع بها لم يجز لنا إطلاق اسم النكاح على المتعة إذ المجاز لا يجوز إطلاقه إلا أن يكون مسموعا من العرب أو يرد به الشرع فلما عدمنا إطلاق اسم النكاح على المتعة في الشرع واللغة جميعا وجب أن تكون المتعة ما عدا ما أباحه الله وأن يكون فاعلها عاديا ظالما لنفسه مرتكبا لما حرمه الله وأيضا فإن النكاح له شرائط قد اختص بها متى فقدت لم يكن نكاحا منها أن مضي الوقت لا يؤثر في عقد النكاح ولا يوجب رفعه والمتعة عند القائلين بها توجب رفع النكاح بمضي المدة ومنها أن النكاح فراش يثبت به النسب من غير دعوة بل لا ينتفي الولد المولود على فراش النكاح إلا باللعان والقائلون بالمتعة لا يثبتون النسب منه فعلمنا أنها ليست بنكاح ولا فراش ومنها أن الدخول بها على النكاح يوجب العدة عند الفرقة والموت يوجب العدة دخل بها أو لم يدخل قال الله تعالى والذين

يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والمتعة لا توجب عدة الوفاة وقال تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولا توارث عندهم في المتعة فهذه هي أحكام النكاح التي يختص بها إلا أن يكون هناك رق أو كفر يمنع التوارث فلما لم يكن في المتعة مانع من الميراث من أحدهما بكفر أو رق ولا سبب يوجب الفرقة ولا مانع من ثبوت النسب مع كون الرجل ممن يستفرش ويلحقه الأنساب لفراشه ثبت بذلك أنها ليست بنكاح فإذا خرجت عن أن تكون نكاحا أو ملك يمين كانت محرمة بتحريم الله إياها في قوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فإن قيل انقضاء المدة الموجبة للبينونة هو الطلاق
قيل له إن الطلاق لا يقع إلا بصريح لفظ أو كناية ولم يكن منه واحد منهما فكيف يكون طلاقا ومع ذلك فيجب على أصل هذا القائل أن لا تبين لو انقضت المدة وهي حائض لأن القائلين بإباحة المتعة لا يرون طلاق الحائض جائزا فلو كانت البينونة الواقعة بمضي المدة طلاقا لوجب أن لا يقع في حال الحيض فلما أوقعوا البينونة الواقعة بمضي الوقت وهي حائض دل ذلك على أنه ليس بطلاق وإن كانت تبين بغير طلاق ولا سبب من قبل الزوج يوجب الفرقة ثبت أنها ليست بنكاح
فإن قيل على ما ذكرنا من نفي النسب والعدة والميراث ليس انتفاء هذه الأحكام بمانع من أن تكون نكاحا لأن الصغير لا يلحق به نسب ويكون نكاحه صحيحا والعبد لا يرث والمسلم لا يرث الكافر ولم يخرجه انتفاء هذه الأحكام عنه من أن يكون نكاحا قيل له إن نكاح الصغير قد تعلق به ثبوت النسب إذا صار في ممن يستفرش ويتمتع وأنت لا تلحقه نسب ولدها مع الوطء الذي يجوز أن يلحق به النسب في النكاح والعبد والكافر إنما لم يرثا للرق والكفر وهما يمنعان التوارث بينهما وذلك غير موجود في المتعة لأن كل واحد منهما من أهل الميراث من صاحبه فإذا لم يكن بينهما ما يقطع الميراث ثم لم يرث مع وجود المتعة علمنا أن المتعة ليست بنكاح لأنها لو كانت نكاحا لأوجبت الميراث مع وجود سببه من غير مانع له من قبلهما وأيضا قد قال ابن عباس إنها ليست بنكاح ولا سفاح فإذا كان ابن عباس قد نفى عنها اسم النكاح وجب أن لا تكون نكاحا لأن ابن عباس لم يكن ممن يخفى عليه أحكام الأسماء في الشرع واللغة فإذا كان هو القائل بالمتعة من الصحابة ولم يرها نكاحا ونفى عنها الاسم ثبت أنها ليست بنكاح

ومما يوجب تحريمها من جهة السنة ما حدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عبدالله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وقال فيه غير مالك إن عليا قال لابن عباس إنك امرؤ تياه إنما المتعة إنما كانت رخصة في أول الإسلام نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - زمن خيبر وعن لحوم الإنسية وروى هذا الحديث من طرق عن الزهري رواه سفيان بن عيينة وعبيدالله بن عمر في آخرين وروى عكرمة بن عمار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة تبوك إن الله تعالى حرم المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث وروى عبدالواحد بن زياد قال حدثنا أبو عميس عن أياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أذن في متعة النساء عام أوطاس ثم نهى عنها وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل البلخي قال حدثنا محمد بن جعفر بن موسى قال حدثنا محمد بن الحسن قال حدثنا أبو حنيفة عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن متعة النساء وما كنا مسافحين قال أبو بكر قوله وما كنا مسافحين يحتمل وجوها أحدها أنهم لم يكونوا مسافحين حين أبيحت لهم المتعة يعني أنها لو لم تبح لم يكونوا ليسافحوا أو نفى بذلك قول من قال إنها أبيحت للضرورة كالميتة والدم ثم نهى عنها بعد والثاني أنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك بعد النهي فيكونوا مسافحين ويحتمل أنهم لم يكونوا في حال الإباحة مسافحين بالتمتع إذ كانت مباحة وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبدالوارث عن إسماعيل بن أمية عن الزهري قال كنا عند عمر بن عبدالعزيز فتذاركنا متعة النساء فقال له رجل يقال له ربيع بن سبرة أشهد علي أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عنها في حجة الوداع وروى عبدالعزيز بن ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده أن ذلك كان عام الفتح ورواه إسماعيل بن عياش عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله وذكر أنه كان عام الفتح ورواه أنس بن عوض الليثي عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله وقال كان في حجة الوداع فلم تختلف الرواة في التحريم واختلفوا في التاريخ فسقط التاريخ كأنه ورد غير مؤرخ وثبت التحريم لاتفاق الرواة عليه ورواه أبو حنيفة عن الزهري عن محمد بن عبد

الله عن سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا ابن ناحية قال حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال حدثنا صدقة عن عبيدالله بن علي عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال خرج النساء اللاتي استمتعنا بهن معنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - هن حرام إلى يوم القيامة فإن قيل هذه الأخبار متضادة لأن في حديث سبرة الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم -

أباحها لهم في حجة الوداع وقال بعضهم عام الفتح وفي حديث علي وابن عمر أن

النبي صلى الله عليه وسلم - حرمها يوم خيبر وخيبر كانت قبل الفتح وقبل حجة الوداع فكيف تكون مباحة عام الفتح أو في حجة الوداع وقد حرمت قبل ذلك عام خيبر قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن حديث سبرة مختلف في تاريخه فقال بعضهم في حجة الوداع وفي كلا الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم - أباحها في تلك السفرة ثم حرمها فلما اختلفت الرواة في تاريخه سقط التاريخ وحصل الخبر غير مؤرخ فلا يضاد حديث علي وابن عمر الذي اتفقا على تاريخه أنه حرمها يوم خيبر والوجه الآخر أنه جائز أن يكون حرمها يوم خيبر ثم أحلها في حجة الوداع أو في فتح مكة ثم حرمها فيكون التحريم المذكور في حديث علي وابن عمر منسوخا بحديث سبرة الجهني ثم تكون الإباحة بما في حديث سبرة أيضا لأن ذلك غير ممتنع فإن قيل روى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قال لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية قيل له هذه المتعة هي التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - في سائر الأخبار التي ذكرنا ولم ننكر نحن أنها قد كانت أبيحت في وقت ثم حرمت وليس في حديث ابن مسعود ذكر التاريخ فأخبار الحظر قاضية عليها لأن فيها ذكر الحظر بعد الإباحة وأيضا لو تساويا لكان الحظر أولى لما بيناه في مواضع وأما تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم - الآية عند إباحة المتعة وهو قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم فإنه يحتمل أن يريد به النهي عن الاستخصاء وتحريم النكاح المباح ويحتمل المتعة في حال ما كانت مباحة وقد روي عن عبدالله أنها منسوخة بالطلاق والعدة والميراث ويدل عليه أنه قد علم أنها قد كانت مباحة في وقت فلو كانت الإباحة باقية لورد النقل بها مستفيضا متواترا لعموم الحاجة

إليه ولعرفتها الكافة كما عرفتها بديا ولما اجتمعت الصحابة على تحريمها لو كانت الإباحة باقية فلما وجدنا الصحابة منكرين لإباحتها موجبين لحظرها مع علمهم بديا بإباحتها دل ذلك على حظرها بعد الإباحة ألا ترى أن النكاح لما كان مباحا لم يختلفوا في إباحته ومعلوم أن بلواهم بالمتعة لو كانت مباحة كبلواهم بالنكاح فالواجب إذا أن يكون ورود النقل في بقاء إباحتها من طريق الإستفاضة ولا نعلم أحدا من الصحابة روي عنه تجريد القول في إباحة المتعة غير ابن عباس وقد رجع عنه حين استقر عنده تحريمها بتواتر الأخبار من جهة الصحابة وهذا كقوله في الصرف وإباحته الدرهم بالدرهمين يدا بيد فلما استقر عنده تحريم النبي صلى الله عليه وسلم - إياه وتواترت عنده الأخبار فيه من كل ناحية رجع عن قوله وصار إلى قول الجماعة فكذلك كان سبيله في المتعة ويدل على أن الصحابة قد عرفت نسخ إباحة المتعة ما روي عن عمر أنه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما وقال في خبر آخر لو تقدمت فيها لرجمت فلم ينكر هذا القول عليه منكر لا سيما في شيء قد علموا إباحته وإخباره بأنهما كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلا يخلو ذلك من أحد وجهين إما أن يكونوا قد علموا بقاء إباحتها فاتفقوا معه على حظرها وحاشاهم من ذلك لأن ذلك يوجب أن يكونوا مخالفين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم - عيانا وقد وصفهم الله تعالى بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فغير جائز منهم التواطؤ على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم -

ولأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإلى الانسلاخ من الإسلام لأن من علم إباحة

النبي صلى الله عليه وسلم - للمتعة ثم قال هي محظورة من غير نسخ لها فهو خارج من الملة فإذا لم يجز ذلك علمنا أنهم قد علموا حظرها بعد الإباحة ولذلك لم ينكروه ولو كان ما قال عمر منكرا ولم يكن النسخ عندهم ثابتا لما جاز أن يقروه على ترك النكير عليه وفي ذلك دليل على إجماعهم على نسخ المتعة إذ غير جائز حظر ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم -

إلا من طريق النسخ

ومما يدل على تحريم المتعة من طريق النظر أنا قد علمنا أن عقد النكاح وإن كان واقعا على استباحة منافع البضع فإن استحقاق تلك المنافع بعقد النكاح بمنزلة العقود على المملوكات من الأعيان وأنه مخالف لعقود الإجارات الواقعة على منافع الأعيان ألا ترى أن عقد النكاح يصح مطلقا من غير شرط مدة مذكورة له وأن عقود الإجارات لا تصح إلا على مدد معلومة أو على

عمل معلوم فلما كان ذلك حكم العقد على منافع البضع أشبه عقود البياعات وما جرى مجراها إذا عقدت على الأعيان فلا يصح وقوعه موقتا كما لا يصح وقوع التمليكات في الأعيان المملوكة موقتة ومتى شرط فيه التوقيت لم يكن نكاحا فلا تصح استباحة البضع به كما لا يصح البيع إذا شرط فيه توقيت الملك وكذلك الهبات والصدقات ولا يملكه بشيء من هذه العقود ملكا موقتا وكذلك منافع البضع لما جرت مجرى الأعيان المملوكة لم يصح فيها التوقيت ومما يحتج به القائلون بإباحة المتعة اتفاق الجميع على أنها كانت مباحة في وقت من الزمان ثم اختلفنا في الحظر فنحن ثابتون على ما حصل الاتفاق عليه ولا نزول عنه بالاختلاف فيقال لهم الأخبار التي بها تثبت الإباحة بها يثبت الحظر ذلك لأن كل خبر ذكر فيه إباحة المتعة ذكر فيه حظرها فمن حيث يثبت الإباحة وجب أن يثبت الحظر وإن لم يثبت الإباحة إذا كانت الجهة التي بها تثبت الإباحة بها ورد الحظر وأيضا فإن قول القائل أنا لما اتفقنا على كذا ثم اختلفنا فيه لم ينزل عن الإجماع بالاختلاف قول فاسد لأن الموضع الذي فيه الخلاف ليس هو موضع الإجماع فإذا لم يكن إجماعا فلا بد من دلالة يقيمها على صحة دعواه وأيضا فإن كون الشيء مباحا في وقت غير موجب بقاء إباحته فيما يجوز فيه النسخ وقد دللنا على ثبوت الحظر بعد الإباحة من ظاهر الكتاب والسنة وإجماع السلف قال أبو بكر قد ذكرنا في المتعة وحكمها في التحريم ما فيه بلاغ لمن نصح نفسه ولا خلاف فيها بين الصدر الأول على ما بينا وقد اتفق فقهاء الأمصار مع ذلك على تحريمها ولا يختلفون فيه واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة أياما معلومة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي والشافعي إذا تزوج امرأة عشرة أيام فهو باطل ولا نكاح بينهما وقال زفر النكاح جائز والشرط باطل وقال الأوزاعي إذا تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها وليس ثم شرط فلا خير في هذا هذا متعة قال أبو بكر لا خلاف بينهم وبين زفر أن عقد النكاح لا يصح بلفظ المتعة وأنه لو قال أتمتع بك عشرة أيام أن ذلك ليس بنكاح وإنما الخلاف إذا عقده بلفظ النكاح قال أتزوجك عشرة أيام فجعله زفر نكاحا صحيحا وأبطل الشرط فيه لأن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة كما لو قال أتزوجك على أن أطلقك بعد عشرة أيام كان النكاح جائزا والشرط باطلا وإنما الخلاف بينهم وبين زفر في أن

هذا نكاح أو متعة فقال الجمهور هذا متعة وليس بنكاح والدليل على صحة هذا القول أن النكاح إلى أجل هو متعة وإن لم يلفظ بالمتعة ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة الجهني أن أباه أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في حجة الوداح حتى نزلوا عسفان وذكر قصة أمر النبي ص

- إياهم بالإحلال بالطواف إلا من كان معه هدي قال فلما أحللنا قال استمتعوا من هذه النساء والإستمتاع التزويج عندنا فعرضنا ذلك على النساء فأبين إلا أن نضرب بيننا وبينهن أجلا فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال افعلوا فخرجت أنا وابن عمي وأنا أشب منه ومعي برد ومعه برد فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي فقالت برد كبرد وهذا أشب وكان بيني وبينها عشر فبت عندها ليلة ثم أصبحت فخرجت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين الركن والمقام يقول يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن بقي عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا فأخبر سبرة في هذا الحديث أن الاستمتاع كان التزويج وأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان رخص لهم في توقيت المدة فيه ثم نهى عنه بعد الإباحة فثبت بذلك أن النكاح إلى أجل هو متعة ويدل على ذلك أيضا حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبدالله بن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قرأ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم فأخبر عبدالله بن مسعود أن المتعة كانت نكاحا إلى أجل ويدل على ذلك حديث جابر عن عمر بن الخطاب وقد تقدم سنده في باب المتعة أنه قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله واتقوا نكاح هذه النساء ألا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته فأخبر عمر أن النكاح إلى أجل هو متعة وإذا ثبت له هذا الاسم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم -

عن المتعة انتظم ذلك تحريم النكاح إلى أجل لدخوله تحت الاسم وأيضا لما

كانت المتعة اسما للنفع القليل كما قال تعالى إنما هذه الحياة الدنيا متاع يعني نفعا قليلا وسمى الواجب بعد الطلاق متعة بقوله فمتعوهن وقال وللمطلقات متاع بالمعروف لأنه أقل من المهر علمنا أن ما أطلق عليه اسم المتعة أو متاع فقد أريد

به التقليل وأنه نزر يسير بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد ويوجبه فسمى ما يعطى بعد الطلاق مما لا يوجب بنفس العقد متاعا ومتعة لقلته بالإضافة إلى المهر المستحق بالعقد وسمى النكاح الموقت متعة لقصر مدته وقلة الانتفاع به بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد من بقائه مؤبدا إلى أن يفرق بينهما الموت أو سبب حادث يوجب التفريق فوجب أن لا يختلف على ذلك في إطلاق اسم المتعة أن يكون بلفظ المتعة أو بلفظ النكاح بعد أن يكون موقتا لأن اسم ا لمتعة يتناولهما من الوجه الذي ذكرنا وأيضا لا يخلو العاقد عقد النكاح على عشرة أيام من أن يجعله موقتا على ما شرط أو يبطل الشرط ويجعله مؤبدا لم يصح ذلك من قبل أن ما بعد الوقت ليس عليه عقد فلا يجوز له أن يستبيح بضعها بلا عقد ألا ترى أن من اشرتى صبرة من طعام على أنها عشرة أقفزة أو قال قد اشتريت منك عشرة أقفزة من هذه الصبرة أن العقد واقع على عشرة أقفزة دون ما عداها فكذلك إذا عقد النكاح على عشرة ايام فما بعد العشرة ليس عليه عقد النكاح فغير جائز استباحة بضعها فيه بالعقد ولا يجوز أن يجعله موقتا فيكون صريح المتعة فوجب بذلك إفساد العقد وليس هذا بمنزلة قوله قد تزوجتك على أن أطلقك بعد عشرة ايام فيجوز النكاح ويبطل الشرط لأنه عقد النكاح مؤبدا وشرط فيه قطعه بالطلاق ألا ترى أنه إذا لم يطلق كان النكاح باقيا فعلمت أن النكاح قد وقع على وجه التأبيد وإنما شرط قطعه بالطلاق وذلك شرط فاسد والنكاح لا تفسده الشروط فيبطل الشرط ويجوز العقد وليس كذلك إذا تزوجها عشرة أيام لأن ما بعد العشرة ليس عليه عقد ألا ترى أنه لو استأجر دارا عشرة أيام كان العقد واقعا على عشرة أيام وما بعدها ليس عليها عقد ولو سكنها بعد العشرة كان غاصبا ساكنا لها على غير وجه العقد ولا أجر عليه ولو قال آجرتك هذه الدار على أن أفسخ العقد بعد عشرة أيام كانت إجارة فاسدة مؤبدة ما سكن منها من المدة في العشرة وبعدها يلزمه أجر المثل فكذلك النكاح إذا عقد على عشرة فليس على ما بعد العشرة عقد
فإن قيل فلو قال قد تزوجتك على أنك طالق بعد عشرة أيام كان النكاح موقتا لأنه يبطل بعد مضي العشرة
قيل له ليس هذا نكاحا موقتا بل هو مؤبدا وإنما قطعه بالطلاق ولا فرق بين ذكر الطلاق مع العقد وإيقاعه بعد المدة لأن النكاح قد وقع بديا مؤبدا وإنما أوقع طلاقا لوقت مستقبل فلا يوجب ذلك توقيت العقد
قوله

تعالى فآتوهن أجورهن فريضة معناه المهور فسمى المهر أجرا لأنه بدل منافع البضع ويدل على أن المراد المهر أنه ذكره لمن كان محصنا بالنكاح في قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين وكقوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات فذكر الإحصان عقيب ذكرالنكاح وسمى المهر أجرا وقوله فريضة تأكيد لوجوبه وإسقاط للظن وتوهم التأويل فيه إذ كان الفرض ما هو في أعلى مراتب الإيجاب والله أعلم بالصواب
باب

الزيادة في المهور

قال الله تعالى بعد ذكر المهر ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة والفريضة هي التسمية والتقدير كفرائض المواريث والصدقات وقد بينا ذلك فيما سلف وروي عن الحسن في قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أنه ما تراضيتم به من حط بعض الصداق أو تأخيره أو هبة جميعه وفي هذه الآية دلالة على جواز الزيادة في المهر لقوله تعالى فيما تراضيتم به من بعد الفريضة وهو عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء وهو بالزيادة أخص منه بغيرها لأنه علقه بتراضيهما والبراءة والحط والتأخير لا يحتاج في وقوعه إلى رضى الرجل والزيادة لا تصح إلا بقبولهما فلما علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد الزيادة ولا يجوز الاقتصار به على البراءة والحط والتأجيل لأن عموم اللفظ يقتضي جواز الجميع فلا يخص بغير دلالة ولأن الاقتصار به على ما ذكرت يسقط فائدة ذكر تراضيهما جميعا وإضافة ذلك إليهما وغير جائز إسقاط حكم اللفظ والاقتصار به على ما يجعل وجوده وعدمه سواء وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد وقال زفر بن الهزيل والشافعي الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إذا قبضتها جازت في قولهما جميعا وإن لم تقبضها بطلت وقال مالك بن أنس تصح الزيادة فإن طلقها قبل الدخول رجع نصف ما زادها إليه وهي بمنزلة مال وهبه لها يقوم به عليه وإن مات عنها قبل أن تقبض فلا شيء لها منه لأنها عطية لم تقبض قال ابو بكر قد ذكرنا وجه دلالة الآية على جواز الزيادة ومما يدل على جواز الزيادة

أن عقد النكاح في ملكهما والدليل على ذلك أنه جائز له أن يخلعها على البضع فيأخذ منها بدله فهما مالكان للتصرف في البضع فلما كان العقد في ملكهما وجب أن تجوز الزيادة فيه كما جازت في ابتداء عقد النكاح من حيث كانا مالكين للعقد إذا كان الملك هو التصرف وتصرفهما جائز فيه ويدل عليه اتفاق الجميع على أنه إذا قبضها جاز فلا يخلو بعد الإقباض من أن تكون هبة مستقبلة على ما قال زفر والشافعي أو زيادة في المهر لاحقه بالعقد على ما ذكرنا وغير جائز أن تكون هبة مستقبلة لأنهما لم يدخلا فيها على أنها هبة وإنما أوجبناها على أنها بدل من البضع لاحقة بالعقد ولا يجوز لنا أن نلزمهما عقدا لم يعقداه على أنفسهما لقوله تعالى أوفوا بالعقود وقوله ص - المسلمون عند شروطهم فإذا عقدا على أنفسهما عقدا لم يجز لنا إلزامهما عقدا غيره بظاهر الآية والسنة إذ كانت الآية إنما اقتضت إيجاب الوفاء بنفس العقد الذي عقده لا بغيره لأن إلزامه عقدا غيره لا يكون وفاء بالعقد الذي عقده وكذلك قوله المسلمون عند شروطهم يقتضي الوفاء بالشرط وليس في إسقاط الشرط وإلزامهما معنى غيره الوفاء بالشرط
فدلت الآية والسنة معا على بطلان قول المخالف من وجهين أحدهما اقتضاء عمومهما لإيجاب الوفاء بالعقد والشرط والآخر ما انتظمتا من امتناع إلزام عقد أو شرط غير ما عقداه ولما بطل إلزامهما الهبة بعد القبض وصح التمليك دل على أنها ملكت من جهة الزيادة
ويدل على أنه غير جائز أن يجعلها هبة أنها متى كانت زيادة كانت مضمونة على المرأة بالقبض لأنها بدل من البضع وإذا كانت هبة لم تكن مضمومة عليها وإذا كانت زيادة سقطت بالطلاق قبل الدخول وإذا كانت هبة لم يؤثر الطلاق فيها وإذا دخلا فيها على عقد يوجب الضمان لم يجز لنا إلزامهما عقدا لا ضمان فيه ألا ترى أنهما إذا تعاقدا عقد بيع لم يجز إلزامهما عقد هبة ولو تعاقدا عقد إقالة لم يلزمهما عقد بيع مستقبل وفي ذلك دليل على أنه غير جائز إثبات الهبة بعقد الزيادة إذا لم تكن هبة وقد صح التمليك كانت زيادة لاحقة بالعقد بدلا من البضع مع التسمية وأما قول مالك في جعله إياها هبة ثم قوله أنه إذا طلقها قبل الدخول رجع إليه نصف الزيادة فإنه قول غير منتظم لأنها إن كانت هبة فلا تعلق لها بعقد النكاح ولا بالمهر ولا تأثير للطلاق في رجوع شيء منها إليه وإن كانت زيادة في المهر فغير جائز بطلانها بالموت
وإنما

قال أصحابنا إنه إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة كلها من قبل أن الزيادة لما لم تكن موجودة في العقد وإنما كانت ملحقة به وجب أن يكون بقاؤها موقوفا على سلامة العقد أو الدخول بالمرأة ألا ترى أن الزيادة في البيع إنما تلحق به على شرط بقاء العقد وأنه متى بطل العقد بطلت الزيادة فكذلك الزيادة في المهر فإن قيل التسمية الموجودة في العقد إنما يبطل بعضها بورود الطلاق عليها قبل الدخول فهلا كانت الزيادة كذلك إذ كانت إذا صحت ولحقت به كانت بمنزلة وجودها فيه فلا فرق بينهما وبين المسمى فيه قيل له عندنا أن المسمى في العقد يبطله كله أيضا إذا طلق قبل الدخول لبطلان العقد المسمى فيها كهلاك المبيع قبل القبض وإنما يجب النصف على جهة الاستقبال كالمتعة وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال فيمن طلق قبل الدخول وقد سمى لها أن نصف المسمى هو متعتها وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وعلى هذا المعنى قالوا في شاهدين شهدا على رجل بطلاق امرأته قبل الدخول وهو يجحد ثم رجعا أنهما يضمنان للزوج نصف المهر الذي غرم لأن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المهر والنصف الذي يلزمه في التقدير كأنه دين مستأنف ألزماه بشهادتهما فعلى هذا لا يختلف حكم الزيادة والتسمية في سقوطهما بالطلاق قبل الدخول فإن قيل هذا التأويل يؤدي إلى مخالفة قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم لأنك قلت إن الجميع يسقط ويجب النصف على وجه الاستئناف
قيل له ليس في الآية نفي لأن يكون النصف الواجب بعد الطلاق مهرا على وجه الاستيناف وإنما فيه وجوب نصف المفروض غير مقيد بوصف ولا شرط ونحن نوجب النصف أيضا فليس فيما ذكرنا من وجوبه في التقدير على وجه الاستئناف على أنه متعتها مخالفة للآية ويدل على أن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع الزيادة إنا قد علمنا أن العقد إذا خلا من التسمية يوجب مهر المثل إذ غير رجائز أن يملك البضع بلا بدل ثم إذا رد الطلاق قبل الدخول أسقطه إذ لم يكن مسمى في العقد وكذلك الزيادة لما لم تكن مسماة في العقد وجب أن يسقطها الطلاق قبل الدخول وإن كانت قد وجبت بإلحاقها بالعقد والله أعلم

باب

نكاح الإماء

قال الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات قال أبو بكر الذي اقتضته هذه الآية إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول إلى الحرائر المؤمنات لأنه لا خلاف أن المراد بالمحصنات ههنا الحرائر وليس فيها حظر لغيرهن لأن تخصيص هذه الحال بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداها كقوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحال وقوله تعالى ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة لا يدل على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة وقوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ليس بدلالة على أن أحدنا يجوز أن يقوم له برهان على صحة القول بأن مع الله إلها آخر تعالى الله عن ذلك وقد بينا ذلك في اصول الفقه فإذا ليس في قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا الآية إلا إباحة نكاح الإماء لمن كانت هذه حاله ولا دلالة فيه على حكم من وجد طولا إلى الحرة لا بحظر ولا إباحة
واختلف السلف في معنى الطول فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي أنهم قالوا هو الغنى وروي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم قالوا إذا هوى الأمة فله أن يتزوجها وإن كان موسرا إذا خاف أن يزني بها فكان معنى الطول عند هؤلاء في هذا الموضع أن لا ينصرف قلبه عنها بنكاح الحرة لميله إليها ومحبته لها فأباحوا له في هذه الحال نكاحها والطول يحتمل الغنى والقدرة ويحتمل الفضل قال الله تعالى شديد العقاب ذي الطول قيل فيه ذو الفضل وقيل ذو القدرة والفضل والغنى يتقاربان في المعنى فاحتمل الطول المذكور في الآية الغنى والقدرة واحتمل الفضل والسعة فإذا كان معناه الغنى واحتمل وجهين أحدهما حصول الغنى له بكون الحرة تحته والثاني غنى المال وقدرته على تزوج حرة وإذا كان معناه الفضل احتمل إرادة الغنى لأن الفضل يوجب ذلك والثاني اتساع قلبه لتزوج الحرة والانصراف عن الأمة وإنه إن لم يتسع قلبه لذلك وخشي الإقدام من نفسه على محظور جاز له أن يتزوجها وإن كان موسرا على ما روي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم هذه الوجوه كلها تحتملها الآية وقد اختلف السلف في ذلك فروي عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير والشعبي ومكحول لا يتزوج الأمة إلا أن لا يجد

طولا إلى الحرة وروي عن مسروق والشعبي قال نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا لمضطر وروي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب رواية وإبراهيم والحسن رواية والزهري قالوا ينكح الأمة وإن كان موسرا وعن عطاء وجابر بن زيد أنه إن خشي أن يزني بها تزوجها وروي عن عطاء أنه يتزوج الأمة على الحرة وعن عبدالله بن مسعود قال لا يتزوج الأمة على الحرة إلا المملوك وقال عمر وعلي وسعيد بن المسيب ومكحول في آخرين لا يتزوج الأمة على الحرة وقال إبراهيم يتزوج الأمة على الحرة إذا كان له منها ولد وقال إذا تزوج أمة وحرة في عقد واحد بطل نكاحهما جميعا وقال ابن عباس ومسروق إذا تزوج حرة فهو طلاق الأمة وقال إبراهيم رواية يفرق بينه وبين الأمة إلا أن يكون له منها ولد وقال الشعبي إذا وجد الطول إلى الحرة بطل نكاح الأمة وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة ويقسم للحرة يومين وللأمة يوما
قال أبو بكر وهذا يدل على أنه كان لا يرى تزويج الأمة على الحرة جائزا إن لم ترض الحرة
واختلفوا فيمن يجوز أن يتزوج من الإماء فروى ابن عباس أنه قال لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة وقال إبراهيم ومجاهد والزهري يجمع أربع إماء أن شاء فاختلف السلف في نكاح الأمة على هذه الوجوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد للرجل أن يتزوج أمة إذا لم تكن تحته حرة وإن وجد طولا إلى الحرة ولا يتزوجها إذا كانت تحته حرة وقال سفيان والثوري إذا خشي على نفسه في المملوكة فلا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسرا ومالك والليث والأوزاعي والشافعي الطول المال فإذا وجد طولا إلى الحرة لا يتزوج أمة وإن لم يجد طولا لم يتزوجها أيضا حتى يخشى العنت على نفسه واتفق أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة ولا يفرقون بين إذن الحرة في ذلك وغير إذنها وقال ابن وهب عن مالك لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة والحرة بالخيار وقال ابن القاسم عنه في الأمة تنكح على الحرة أرى أن يفرق بينهما ثم رجع وقال تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت قال وسئل مالك عن رجل تزوج أمة وهو ممن يجد طولا إلى الحرة قال أرى أن يفرق بينهما فقيل له إنه يخاف العنت قال

السوط يضرب به ثم خففه بعد ذلك قال وقال مالك إذا تزوج العبد أمة على حرة فلا خيار للحرة لأن الأمة من نسائه وقال عثمان البتي لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة
والدليل على جواز نكاح الأمة وإن قدر على تزوج الحرة إذا لم تكن تحته قول الله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم قد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع القدرة على نكاح الحرة أحدهما إباحة النكاح على الإطلاق في جميع النساء من العدد المذكور من غير تخصيص لحرة من أمة والثاني قوله تعالى في نسق الخطاب أو ما ملكت أيمانكم ومعلوم أن قوله أو ما ملكت أيمانكم غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وأنه مفتقر إلى ضمير وضميره هو ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وهو عقد النكاح فكان تقديره فاعقدوا نكاحها على ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم وغير جائز إضمار الوطء فيه إذ لم يتقدم له ذكر فثبت بدلالة هذه الآية أنه مخير بين تزويج الأمة أو الحرة
فإن قيل قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء إباحة معقودة بشرط وهي أن تكون مما طاب لنا فدل على أنه مما طاب حتى يجوز العقد وهو إذا كان كذلك كان بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان
قيل له قوله تعالى ما طاب لكم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون معناه ما استطبتموه فيكون مفيدا للتخيير كقول القائل اجلس ما طاب لك في هذه الدار وكل ما طاب لك من هذا الطعام فيفيد تخييره في فعل ما شاء منه والوجه الآخر ما حل لكم فإن كان المراد الوجه الأول فقد اقتضى تخييره في نكاح من شاء وذلك عموم في الحرائر والإماء وإن كان معناه ما حل لكم فإنه قد عقبه ببيان ما طاب لكم منها وهو قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم فقد خرج بذلك عن حيز الإجمال إلى حيز العموم واستعمال العموم واجب كيف تصرفت الحال وعلى أنها لو كانت محتملة للعموم والإجمال جميعا لكان حملها على معنى العموم أولى لإمكان استعماله ومتى أمكننا استعمال حكم اللفظ على وجه فعلينا استعماله ويدل عليه قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم وذلك عموم في الحرائر والإماء ويدل عليه قوله تعالى اليوم أحل الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من

الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والإحصان اسم يقع على الإسلام وعلى العقد يدل عليه قوله تعالى فإذا أحصن روي عن بعض السلف فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن ومعلوم أنه لم يرد به التزويج في هذا الموضع فثبت أنه أراد العفاف وذلك عموم في الحرائر والإماء وقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم هو عموم أيضا في تزويج الإماء الكتابيات ويدل عليه قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وذلك عموم يوجب جواز نكاح الإماء كما اقتضى جواز نكاح الحرائر ويدل عليه أيضا قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ومحال أن يخاطب بذلك إلا من قدر على نكاح المشركة الحرة ومن وجد طولا إلى الحرة المشركة فهو يجد طولا إلى الحرة المسلمة فاقتضى ذلك جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة المسلمة كما اقتضاه مع وجوده إلى الحرة المشركة
ويدل عليه من طريق النظر أن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم نكاح أخرى كالقدرة على تزويج البنت لا يحرم تزويج الأم والقدرة على نكاح المرأة لا يحرم نكاح أختها فوجب على هذا أن لا تمنع قدرته على نكاح الحرة من تزويج الأمة بل الأمة أيسر أمرا في ذلك من الأختين والأم والبنت والدليل عليه جواز اجتماع الحرة والأمة تحته عند جميع فقهاء الأمصار وامتناع اجتماع الأم والبنت والأختين تحته فلما لم يكن إمكان تزويج البنت الذي هو أغلظ حكما مانعا من الأم الحرة والأمة وجب أن لا يكون لإمكان تزوج الحرة تأثير في منع نكاح الأمة
واحتج من خالف في ذلك بقوله تعالى فمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم وأنه أباح نكاح الأمة بشرط عدم الطول إلى الحرة وخشية العنت فلا تجوز استباحته إلا بوجود الشرطين جميعا وهذه الآية قاضية على ما تلوت من الآي لما فيها من بيان حكم الأمة في التزويج
قيل له ليس في هذه الآية حظر نكاح الأمة في حال وجود الطول إلى الحرة وإنما فيها إباحته في حال عدم الطول إليها وسائر الآي التي تلونا يقتضي إباحة نكاحها في سائر الأحوال فليس في أحدهما ما يوجب تخصيص الأخرى لورودهما جميعا في حكم الإباحة وليس في واحدة منهما حظر فلا يجوز أن يقال إن هذه مخصصة لها والجميع وارد في حكم واحد
فإن قيل

هذا كقوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فكان مقتضى جميع ذلك امتناع جوازه مع وجود ما قبله
قيل له لأنه جعل الفرق بديا عتق رقبة فاقتضى ذلك أن يكون الفرض هو العتق لا غير فلما نقله عند عدم الرقبة إلى الصيام اقتضى ذلك أن لا يجزي غيره إذا عدم الرقبة فلما قال فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا كان حكم الكفارة مقصورا على المذكور في الآية على ما اقتضته من الترتيب وليس معك آية تحظر نكاح الإماء حتى إذا ذكرت إباحتهن بشرط وحال كان عدم الشرط والحال موجبا لحظرهن بل سائر الآي الواردة في إباحة النكاح ليس فيها فرق بين الحرائر والإماء فليس إذا في قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات دلالة على حظرهن عند وجود الطول إلى الحرة
وذكر إسماعيل بن إسحاق هذه الآية وذكر اختلاف السلف فيها ثم ذكر قول أصحابنا في تجويزهم نكاح الأمة مع القدرة على تزويج الحرة فقال وهذا قول تجاوز فساده ولا يحتمل التأويل لأنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت
قال أبو بكر قوله لا يحتمل التأويل خلاف الإجماع وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا فيه وقد حكينا أقاويلهم ولولا خشية الإطالة لذكرنا أسانيدها ولو كان لا يحتمل التأويل لما قال به من قال من السلف إذ غير جائز لأحد تأويل آية على معنى لا تحتمله وقد ظهر هذا الاختلاف في السلف فلم ينكر بعضهم على بعض القول فيها على الوجوه التي اختلفوا فيها ولو كان هذا القول غير محتمل ولا يسوغ التأويل فيه لأنكره من لم يقل به منهم على قائليه فإذا كان هذا القول مستفيضا فيهم من نكير ظهر من أحد منهم على قائليه فقد حصل بإجماعهم تسويغ الاجتهاد فيه واحتمال الآية للتأويل الذي تأولته فقد بان بما وصفنا أن إنكاره لاحتمال التأويل غير صحيح وأما قوله إنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت فإنه لا يخلو من أن يريد أنه محظور فيه نصا أو دليلا فإن ادعى نصا طولب بتلاوته وإظهاره ولا سبيل له إلى ذلك وإن ادعى على ذلك دليلا طولب بإيجاده وذلك معدوم فلم يحصل من قوله إلا على هذه الدعوى لنفسه والتعجب من قول خصمه اللهم إلا أن يزعم أن تخصيصه الإباحة بهذه الحال والشرط دليل على حظر ما عداه فإن كان إلى هذا ذهب فإن هذا دليل يحتاج إلى دليل وما نعلم أحدا استدل بمثله قبل الشافعي ولو كان هذا دليلا لكانت

الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسئلة ونظائرها من المسائل مع كثرة ما اختلفوا فيه من احكام الحوادث التي لم يخل كثير منها من إمكان الاستدلال عليها بهذا الضرب كما استدلوا عليها بالقياس والاجتهاد وسائر ضروب الدلالات وفي تركهم الاستدلال بمثله دليل على أن ذلك لم يكن عندهم دليلا على شيء فإذا لم يحصل إسماعيل من قوله هو محظور في الكتاب على حجة ولا شبهة
وقد حكى داود الأصبهاني أن إسماعيل سئل عن النص ما هو فقال النص ما اتفقوا عليه فقيل له فكل ما اختلفوا فيه من الكتاب فليس بنص فقال القرآن كله نص فقيل له فلم اختلف أصحاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم - والقرآن كله نص فقال داود ظلمه السائل ليس مثله يسئل عن هذه المسئلة هو أقل من أن يبلغ علمه هذا الموضع فإن كانت حكاية داود عنه صحيحة فإن ذلك لا يليق بإنكاره على القائلين بإباحة نكاح الأمة مع إمكان تزوج الحرة لأنه حكي عنه أنه قال مرة ما اتفقوا عليه فهو نص وقال مرة القرآن كله نص وليس في القرآن ما يخالف قولنا ولا اتفقت الأمة أيضا على خلافه وفي حكاية داود هذا عن إسماعيل عهدة وهو غير أمين ولا ثقة فيما يحكيه وغير مصدق على إسماعيل خاصة لأنه كان نفاه من بغداد وقذفه بالعظائم وما أظن تعجب إسماعيل من قولنا إلا من جهة أنه كان يعتقد في مثله أنه دلالة على حظر ما عدا المذكور وقد بينا أن ذلك ليس بدليل واستقصينا القول فيه أصول الفقه ومما يدل على صحة قولنا أن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة لأن الضرورة ما يخاف فيها تلف النفس وليس في فقد الجماع تلف النفس وقد أبيح له نكاح الأمة فإذا جاز نكاح الأمة في غير ضرورة فلا فرق بين وجود الطول وعدمه إذ عدم الطول ليس بضرورة في التزوج إذ لا تقع لأحد ضرورة إلى التزوج إلا أن يكره عليه بما يوجب تلف النفس أو بعض الأعضاء ويدل على أن الإباحة المذكورة في الآية غير معقودة بضرورة قوله في نسق الخطاب أن تصبروا خير لكم وما اضطر إليه الإنسان من ميتة أو لحم خنزير أو نحوه لا يكون الصبر عليه خيرا له لأنه لو صبر عليه حتى مات كان عاصيا وأيضا فليس النكاح بفرض حتى تعتبر فيه الضرورة وأصله تأديب وندب وإذا كان كذلك وقد جاز في غير الضرورة وجب أن يجوز في حال وجود الطول كما أجاز في حال عدمه وقوله تعالى بعضكم من بعض في نسق التلاوة قيل فيه إن كلكم من آدم وقيل فيه كلكم مؤمنون يدل على

أنه أراد المساواة بينهم في النكاح وهذا يدل على وجوب التسوية بين الحرة والأمة إلا فيما تقوم فيه دلالة التفضيل وأما من قال إن نكاح الحرة طلاق للأمة فقوله وانه ضعيف لا مساغ له في النظر لأنه لو كان كما ذكر لوجب أن يكون الطول إلى الحرة فاسخا لنكاح الأمة كما قال الشعبي كالمتيمم إذا وجد الماء ينتقض تيممه توضأ أو لم يتوضأ وقد روي عن أبي يوسف أنه تأول قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا على عدم الحرة في ملكه وأن وجود الطول هو كون الحرة تحته وهذا التأويل سائغ لأن من ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها إذ لا يصل إليها ولا يقدر على وطئها فكان وجود الطول عنده هو ملك وطء الحرة وهو أولى بمعنى الآية من تأول من تأوله على القدرة على تزوجها لأن القدرة على المال لا توجب له ملك الوطء إلا بعد النكاح فوجود الطول بحال ملك الوطء أخص منه بوجود المال الذي به يتوصل إلى النكاح ويدل عليه أنا وجدنا لملك وطء الزوجة تأثيرا في منع نكاح أخرى ولم نجد هذه المزية لوجود المال فإذا لا حظ لوجود المال في منع نكاح الأمة فتأويل أبي يوسف الآية على ملك وطء الحرة أصح من تأويل من تأولها على ملك المال فإن قيل وجود ثمن رقبة الظهار كوجود الرقبة في ملكه فهلا كان وجود مهر الحرة كوجود نكاحها
قيل له هذا خطأ منتقض من وجوه أحدها أنك لم تعقده بمعنى يوجب الجمع بينهما وبدلالة يدل بها على صحة المعنى وما خلا من ذلك من دعوى الخصم فهو ساقط غير مقبول والثاني أن ذلك يوجب أن يكون وجود مهر امرأة ي ملكه كوجود نكاحها في منع تزويج أمها أو أختها فلما لم يكن ذلك بأن به فساد ما ذكرت وعلى أن الرقبة ليست عروضا للنكاح لأن الرقبة فرض عليه عتقها وغير جائز له الانصراف عنها مع وجودها وجائز للرجل أن لا يتزوج مع الإمكان فلما كان كذلك كان وجود ثمن الرقبة في ملكه كوجودها إذ كانت فرضا هو مأمور بعتقها على حسب الإمكان وليس النكاح بفرض فيلزمه التوصل إليه لوجود المهر فليس إذا لوجود المهر في ملكه تأثير في منع نكح الأمة وكان واجده بمنزلة من لم يجد وإنما قال أصحابنا إنه لا يتزوج الأمة على الحرة لما روى الحسن ومجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تنكح الأمة على الحرة ولولا ما ورد من الأثر لم يكن تزويج الأمة على الحرة محظورا إذ ليس في القرآن ما يوجب حظره والقياس يوجب إباحته ولكنهم اتبعوا

الأثر في ذلك والله تعالى أعلم
باب

نكاح الأمة الكتابية

قال أبو بكر اختلف أهل العلم فيه فروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن عبدالعزيز وأبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم كراهة ذلك وهو قول الثوري وقال أبو ميسرة في آخرين يجوز نكاحها وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وروي عن أبي يوسف أنه كرهه إذا كان مولاها كافرا والنكاح جائز ويشبه أن يكون ذهب إلى أن ولدها يكون عبدا لمولاها وهو مسلم بإسلام الأب كما يكره بيع العبد المسلم من الكافر وقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد لا يجوز النكاح والدليل على جوازه جميع ما ذكرنا من عموم الآي في الباب الذي قبله الموجبة لجواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة ودلالتها على جواز نكاح الأمة الكتابية كهي على إباحة نكاح المسلمة ومما يختص منها بالدلالة على هذه المسألة قوله عز و جل والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وروى جرير عن ليث عن مجاهد في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال العفائف وروى هشيم عن مطرف عن الشعبي والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال إحصانها أن تغتسل من الجنابة وتحصن فرجها من الزنا فثبت بذلك أن اسم الإحصان قد يتناول الكتابية قال تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فاستثنى ملك اليمين من المحصنات فدل على أن الاسم يقع عليهن لولا ذلك لما استثناهن وقال تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فأطلق اسم الإحصان في هذا الموضع على الإماء ولما ثبت أن اسم المحصنات يقع على الكتابيات من الحرائر والإماء وأطلق الله نكاح الكتابيات المحصنات بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم كان عاما في الحرائر والإماء منهم فإن احتجوا بقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكانت هذه مشركة وقال في أية أخرى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فكانت إباحة نكاح الإماء مقصورة على المسلمات منهن دون الكتابيات وجب أن يكون نكاح الإماء الكتابيات باقيا في حكم الحظر قيل له إطلاق اسم المشركات لا يتناول الكتابيات وإنما يقع على عبدة الأوثان دون غيرهم لأن الله تعالى

قد فرق بينهما في قوله لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين فعطف المشركين على أهل الكتاب وهذا يدل على أن إطلاق الاسم إنما يتناول عبدة الأوثان دون غيرهم فلم يعم الكتابيات فغير جائز الاعتراض به في حظر نكاح الإماء الكتابيات وأيضا فلا خلاف بين فقهاء الأمصار أن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قاض على قوله ولا تنكحوا المشركات وذلك لأنهم لا يختلفون في جواز نكاح الحرائر الكتابيات فليس يخلو حينئذ قوله ولا تنكحوا المشركات من أن يكون عاما في إطلاقه للكتابيات والوثنيات أو أن يكون إطلاقه مقصورا على الوثنيات دون الكتابيات فإن كان الإطلاق إنما يتناول الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال نازلا بعده فيكون مستعملا أيضا أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة ساقط فيه إذ ليس بناف فيه لنكاح الكتابيات وإن كان الإطلاق ينتظم الصنفين جميعا لو حملنا على ظاهره فقد اتفقوا أنه مرتب على قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لاتفاق الجميع على استعماله معه في الحرائر منهن وإذا كان كذلك لم يخل من أن تكون الآيتان نزلتا معا أو أن تكون إباحة نكاح الكتابيات متأخرا عن حظر نكاح المشركات أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات فإن كانتا نزلتا معا فهما مستعملتان جميعا على جهة ترتيب حظر نكاح المشركات على إباحة نكاح الكتابيات أو أن يكون نكاح الكتابيات نكاح الكتابيات فإن كان كذلك فإنه ورد مرتبا على إباحة نكاح الكتابيات فالإباحة مستعملة في الأحوال كلها كيف تصرف الحال على الحال على أنه ولا خلاف أن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم نزل بعد تحريمه نكاح المشركات لأن آية تحريم المشركات في سورة البقرة وإباحة نكاح الكتابيات في سورة المائدة وهي نزلت بعدها فهي قاضية على تحريم المشركات إن كان إطلاق اسم المشركات يتناول الكتابيات ثم لما تفرق الآية المبيحة لنكاح الكتابيات بين الحرائر منهن وبين الإماء واقتضى عمومها الفريقين منهن وجب استعمالها فيهما جميعا وأن لا يعترض بتحريم نكاح المشركات عليهن كما لم يجز الاعتراض به على الحرائر منهن وأما تخصيص الله تعالى المؤمنات من الإماء في قوله من فتياتكم المؤمنات فقد بينا في المسألة المتقدمة أن التخصيص بالذكر

لا يدل على أن ما عداالمخصوص حكمه بخلافه
فإن قيل لا يصح الاحتجاج بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم في إباحة النكاح وذلك لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معاني مختلفة وليس بعموم فيجري على مقتضى لفظه بل هو مجمل موقوف الحكم على البيان فما ورد به البيان من توقيف أو اتفاق صرنا إليه وكان حكم الآية مقصورا عليه وما لم يرد به بيان فهو على إجماله لا يصح الاحتجاج بعمومه فلما اتفق الجميع على أن الحرائر من الكتابيات مرادات به استعملنا حكم الآية فيهن ولما لم تقم الدلالة على إرادة الإماء الكتابيات احتجنا في إثباتها إلى دليل من غيرها
قيل له لما روي عن جماعة من السلف في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب إنهن العفائف منهن إذا كان اسم الإحصان يقع على العفة وجب اعتبار عموم اللفظ في جميع العفائف إذ قد ثبت أن العفة مرادة بهذا الإحصان وما عدا ذلك من ضروب الإحصان لم تقم الدلالة على أنها مرادة وقد اتفقوا على أنه ليس من شرط هذا الإحصان استكمال شرائطه كلها فما وقع عليه الاسم واتفق الجميع أنه مراد أثبتناه وما عداه يحتاج مثبته شرطا في الإباحة إلى دلالة فإن قيل اسم الإحصان يقع على الحرية فما أنكرت أن يكون المراد بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الحرائر منهن قيل له لما كان معلوما أنه لم يرد بذكر الإحصان في هذا الموضع استيفاء شرائطه لم يجز لأحد أن يقتصر بمعنى الإحصان فيه على بعض ما يقع عليه الاسم دون بعض بل إذا تناوله الاسم من وجه وجب اعتبار عمومه فيه فلما كانت الأمة قد يتناولها اسم الإحصان على الإطلاق في بعض الوجوه من طريق العفة أو غيرها جاز اعتبار عموم ا للفظ فيه وإذا جاز لك أن تقتصر باسم الإحصان على الحرية دون غيرها فجائز لغيرك أن يقتصر به على العفاف دون غيره وغير جائز لنا إجمال حكم اللفظ مع إمكان استعماله على العموم وقد أطلق الله اسم الإحصان على الأمة فقال تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فقال بعضهم أراد فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن فكان اعتبار هذا العموم سائغا في إيجاب الحد عليهن وقد قال في الآية والمحصنات من المؤمنات ولم يرد به حصول جميع شرائط الإحصان وإنما أراد به العفائف منهن وحرم ذوات الأزواج بقوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فكان عموما في تحريم الأزواج إلا

ما استثناهن فكذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لا يمنع ذكر الإحصان فيه من اعتبار عمومه فيمن يقع عليه الاسم من جهة العفاف على ما روي عن السلف
ومن جهة النظر أنه لا خلاف بين الفقهاء في إباحة وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وكل من جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بملك النكاح على الوجه الذي يجوز عليه نكاح الحرة المنفردة ألا ترى أن المسلمة لما جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بالنكاح وأن الأخت من الرضاعة وأم المرأة وحليلة الابن وما نكح الآباء لما لم يجز وطؤهن بملك اليمين حرم وطؤهن بالنكاح فلما اتفق الجميع على جواز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وجب جواز وطئها بالنكاح على الوجه الذي يجوز فيه وطء الحرة المنفردة فإن قيل قد يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين ولا يجوز بالنكاح كما إذا كانت تحته حرة قيل له لم نجعل ما ذكرنا علة لجواز نكاحها في سائر الأحوال وإنما جعلناه علة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها ألا ترى أن الأمة المسلمة يجوز نكاحها منفردة ولو كانت تحته حرة لما جاز نكاحها لأنه لم يجز نكاحها من طريق جمعها إلى الحرة كما لا يجوز نكاحها لو كانت أختها تحته وهي أمة فعلنا صحيحة مستمرة جارية في معلولاتها غير لازم عليها ما ذكرت إذ كانت منصوبة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها وبالله التوفيق
باب

نكاح الأمة بغير إذن مولاها

قال الله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن قال أبو بكر قد اقتضى ذلك بطلان نكاح الأمة إلا أن يأذن سيدها وذلك لأن قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن يدل على كون الإذن شرطا في جواز النكاح وإن لم يكن النكاح واجبا وهو مثل قوله ص - من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم أن السلم ليس بواجب ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط كذلك النكاح وإن لم يكن حتما فعليه إذا أراد أن يتزوج الأمة أن لا يتزوجها إلا بإذن سيدها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في نكاح العبد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال أخبرنا معلى قال حدثنا عبدالوارث قال حدثنا القاسم بن عبدالواحد عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فهو عاهر حدثنا عبد

الباقي قال حدثنا محمد بن الخطابي قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا الحسن بن صالح عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال سمعت جابر بن عبدالله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيما عبد تزوج بغير إذن سيده زنا وروى هشيم عن يونس عن نافع أن مملوكا لابن عمر تزوج بغير إذنه فضربهما وفرق بينهما وأخذ كل شيء أعطاها وقال الحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فالأمر إلى المولى إن شاء أجاز وإن شاء رد وقال عطاء نكاح العبد بغير إذن سيده ليس بزنا لكنه أخطأ السنة وروى قتادة عن خلاس أن غلاما لأبي موسى تزوج بغير إذنه فرفع ذلك إلى عثمان ففرق بينهما وأعطاها الخمسين وأخذ ثلاثة أخماس قال أبو بكر واتفق من ذكرنا قوله من السلف أنه لا حد عليهما وإنما روي الحد عن ابن عمر وجائز أن يكون جلدهما تعزيرا لا حدا فظن الراوي أنه حد واتفق علي وعمر في المتزوجة في العدة أنه لا حد عليها ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفهما في ذلك والعبد الذي تزوج بغير إذن مولاه أيسر أمرا من المتزوجة في العدة لأن ذلك نكاح تلحقه الإجازة عند عامة التابعين وفقهاء الأمصار ونكاح المعتدة لا تلحقه إجازة عند أحد وتحريم نكاح المعتدة منصوص عليه في الكتاب في قوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وتحريم نكاح العبد من جهة خبر الواحد والنظر فإن
قيل قال النبي صلى الله عليه وسلم -

في العبد يتزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وقد قال ص

- وللعاهر الحجر
قيل له لا خلاف أن العبد غير مراد بقوله وللعاهر الحجر لأنه لا يرجم إذا زنى وإنما سماه عاهرا على المجاز والتشبيه بالزاني لإقدامه على وطء محظور وقال النبي صلى الله عليه وسلم - العينان تزنيان والرجلان تزنيان وذلك مجاز فكذلك قوله في العبد وأيضا فقد قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ولم يذكر الوطء ولا خلاف أنه لا يكون عاهرا بالتزوج فدل أن إطلاقه ذلك كان على وجه المجاز تشبيها له بالعاهر
وقوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن يدل على أن للمرأة أن تزوج أمتها لأن قوله أهلهن المراد به الموالي لأنه لا خلاف أنه لا يجوز لها أن تتزوج بغير مولاها وأنه لا اعتبار بإذن غير المولى إذا كان المولى بالغا عاقلا جائز التصرف في ماله وقال الشافعي لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها وإنما توكل غيرها بالتزويج وهو قول يرده ظاهر الكتاب لأن الله تعالى لم يفرق بين عقدها التزويج وبين عقد غيرها بإذنها ويدل على أنها إذا أذنت لامرأة أخرى في

تزوجيها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها وظاهر الآية مقتض لجواز نكاحها بإذن مولاها فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك لأن ظاهر الآية قد أجازه ومن منع ذلك فإنما خص الآية بغير دلالة وأيضا فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها غيرها به لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما مالا يملكه فغير جائز توكيل غيره في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون الوكيل وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكل وهي عقود البياعات والإجارت فأما عقد النكاح إذا وكل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البضع فلو لم تكن المرأة مالكة لعقد النكاح لما صح توكيلها به لغيرها إذ كانت أحكام العقود غير متعلقة بالوكيل فلما صح توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دل على أنها تملك العقد وهذا أيضا دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على نفسها كما جاز وتوكيلها على غيرها به وهو وليها وقوله تعالى وآتوهن أجورهن بالمعروف يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم لأنه لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجابه المهر ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله تعالى بالمعروف وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن المعتاد والمتعارف كقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بمالعروف وقوله تعالى وآتوهن أجورهن يقتضي ظاهره وجوب دفع المهر إليها والمهر واجب للمولى دونها لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها كذلك المهر ومع ذلك فإن الأمة لا تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر
ومعنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون المراد إعطاؤهن المهر بشرط إذن المولى فيه فيكون الإذن المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج فيكون تقديره فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى وهو كقوله تعالى والحافظين فروجهم والحافظات والمعنى والحافظات فروجهن وقوله تعالى والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ومعناه والذاكرات الله وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نفي ملكها لتزويجها نفسها

وإن المولى أملك بذلك منها وقوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فنفي ملكه نفيا عاما وفيه الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به أنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه وقال تعالى وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من أهل هذه الأصناف وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله وآتوهن إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن
وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها واحتج للمهر بقوله تعالى وآتوهن أجورهن وقد بينا وجه ذلك ومعناه وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الأجرة لها لأنه بدل منافعها ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح فلا فرق بينهما
وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق وهذا خلاف الكتاب زعم
قال أبو بكر ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى فدعواه أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا مالا نعلم أحدا من العراقيين قاله فحصل هذا القائل على معنيين باطلين إحداهما دعواه على الكتاب وقد بينا أن الكتاب بخلاف ما قال والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك بل قولهم في ذلك أنه إذا تزوج أمته من عبده وجب لها

المهر بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين فههنا حالان إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد فيسقط كما أن رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه كان قبضه حالان إحداهما حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه وكما نقول في الوكيل في الشري أن المشتري انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاص بالمعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم
قوله تعالى محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان يعني والله أعلم فانكحوهن محصنات غير مسافحات وأمر بأن يكون العقد عليها بالنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا لأن الإحصان ههنا بالنكاح والسفاح الزنا ولا متخذات أخدان يعني لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان قال ابن عباس كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه والخدن هو الصديق للمرأة يزني بها سرا فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين وسمى الله الإماء الفتيات بقوله من فتياتكم المؤمنات والفتاة اسم للشابة والعجوز الحرة لا تسمى فتاة والأمة الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوزا لأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة والفتوة حال الغرة والحداثة والله أعلم بالصواب
باب

حد الأمة والعبد

قال الله تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قال أبو بكر قرئ فإذا أحصن بفتح الألف وقرئ بضم الألف فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن أحصن بالضم معناه تزوجن وعن عمر وابن مسعود والشعبي وإبراهيم أحصن بالفتح قالوا معناه أسلمن وقال الحسن يحصنها الزوج ويحصنها الإسلام
واختلف السلف في حد الأمة متى يجب فقال من تأول قوله فإذا أحصن بالضم على التزويج أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت ما لم تتزوج وهو مذهب ابن عباس والقائلين بقوله ومن تأول قوله فإذ أحصن بالفتح على

الإسلام جبل عليها الحد إذا أسلمت وزنت وإن لم تتزوج وهو قول ابن مسعود والقائلين بقوله
وقال بعضهم تأويل من تأوله على أسلمن بعيد لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن بقوله من فتياتكم المؤمنات قال فيبعد أن يقال من فتياتكم المؤمنات فإذا آمن وليس هذا كما ظن لأن قوله من فتياتكم المؤمنات إنما هو في شأن النكاح وقد استأنف ذكر حكم آخر غيره وهو الحد فجاز استنيناف ذكر الإسلام فيكون تقديره فإذا كن مسلمات فأتين بفاحشة فعليهن هذا لا يدفعه أحد ولو كان ذلك غير سائغ لما تأوله عمر وابن مسعود والجماعة الذين ذكرنا قولهم عليه وليس يمتنع أن يكون الأمران جميعا من الإسلام والنكاح مرادين باللفظ لاحتماله لهما وتأويل السلف الآية عليهما
وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد عليها إذا لم تحصن لم يجب لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير والضفير الحبل وفي حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في كل مرة فليقم عليها كتاب الله تعالى فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

بوجوب الحد عليها مع عدم الإحصان فإن قيل فما فائدة شرط الله الإحصان في

قوله فإذا أحصن وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه
قيل له لما كانت الحرة لا يجب عليها الرجم إلا أن تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإن أحصن بالإسلام وبالتزويج فليس عليهم أكثر من نصف حد الحرة ولولا ذلك لكان يجوز أن يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم وإذا كانت غير محصنة فنصف الحد فأزال الله تعالى توهم من يظن ذلك وأخبر أنه ليس عليها إلا نصف الحد في جميع الأحوال فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدها ولما أوجب عليها نصف حد الحرة مع الإحصان علمنا أنه أراد الجلد إذ الرجم لا ينتصف وقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب أراد به الإحصان من جهة الحرية لا الإحصان الموجب للرجم لأنه لو أراد ذلك لم يصح أن يقال عليها نصف الرجم لأنه لا يتبعض
وخص الله الأمة بإيجاب نصف حد الحرة عليها إذا زنت

وعقلت الأمة من ذلك أن العبد بمثابتها إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحد معقولا من الظاهر وهو الرق وهو موجود في العبد
وكذلك قوله تعالى والذين يرمون المحصنات خص المحصنات بالذكر وعقلت الأمة حكم المحصنين أيضا في هذه الآية إذا قذفوا إذ كان المعنى في المحصنة العفة والحرية والإسلام فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى
وهذا يدل على أن الأحكام إذا عقلت بمعان فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض

فصل قوله تعالى

فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن يدل على جواز عطف الواجب على الندب لأن النكاح ندب ليس بفرض وإيتاء المهر واجب ونحوه قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ثم قال وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ويصح عطف الندب على الواجب أيضا كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى فالعدل واجب والإحسان ندب وقوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفي هو الزنا وقال آخرون هو الضرر الشديد في دين أو دنيا من قوله تعالى ودوا ما عنتم وقوله لمن خشي العنت منكم راجع إلى قوله فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات وهذا شرط إلى المندوب إليه من ترك نكاح الأمة والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبدا لغيره فإذا خشي العنت ولم يأمن مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في الترك ثم عقب ذلك بقوله تعالى وأن تصبروا خير لكم فأبان عن موضع الندب والاختيار هو ترك نكاح الأمة رأسا فكانت دلالة الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمة إذا لم يخش العنت ومتى خشي العنت فالنكاح مباح إذا لم تكن تحته حرة والاختيار أن يتركه رأسا وإن خشي العنت لقوله وأن تصبروا خير لكم وإنما ندب الله تعالى إلى ترك نكاح الأمة رأسا مع خوف العنت لأن الولد المولود على فراش النكاح من الأمة يكون عبدا لسيدها ولم يكره استيلاد الأمة بملك اليمين لأن ولده منها يكون حرا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يوافق معنى الآية في كراهة نكاح الأمة حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي قال حدثنا محمد بن عقبة بن هرم السدوسي قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - انكحوا

الأكفاء وانكحوهن واختاروا لنطفكم وإياكم والزنج فإنه خلق مشوه قوله انكحوا الأكفاء يدل على نكاح الأمة لأنها ليست بكفؤ للحر وقوله واختاروا لنطفكم يدل على ذلك أيضا لئلا يصير ولده عبدا مملوكا وماؤه حر فينتقل بتزويجه إلى الرق وروي في خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال تخيروا لنطفكم فإن عرق السوء يدرك ولو بعد حين وقوله تعالى يريد

الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم يعني والله أعلم يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته والبيان من الله تعالى على وجهين أحدهما بالنص والآخر بالدلالة ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنص وإما بدليل وهو نظير قوله ثم إن علينا بيانه وقوله هذا بيان للناس وقوله وما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله ويهديكم سنن الذين من قبلكم من الناس من يقول إن هذا يدل على أن ما حرمه علينا وبين لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرما على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين وقال آخرون لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع وإنما معناه له يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح وقال آخرون يبين لكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبوا الحق وقوله تعالى ويتوب عليكم يدل على بطلان مذهب أهل الأخبار لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا وزعم هؤلاء أنه يريد من المصرين الإصرار ولا يريد منهم التوبة والإستغفار
قوله تعالى يريد الذين يتبعون الشهوات فقال قائلون المراد به كل مبطل لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة وقال مجاهد أراد به الزنا وقال السدي اليهود والنصارى
وقوله أن تميلوا ميلا عظيما يعني به العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين إما لعداوتهم أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء وقد دلت الآية على أن القصد في اتباع الشهوة مذموم إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته إذ كان قصده اتباع الحق ولكن من كان هذا سبيله لا يطلق عليه أنه متبع لشهوته لأن قصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها
قوله تعالى

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل وهو نظير قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فنفى الضيق والثقل والحرج عنا في الآيات ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم - جئتكم بالحنيفة السمحة وذلك لأنه وإن حرم علينا ما ذكرنا تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح وتارة بملك يمين وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال وعلى هذا المعنى ما روي عن عبدالله بن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يعني أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا مندوحة وغنى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا يضرنا فقد ما حرم في أمور دنيانا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما
وهذه الآيات يحتج بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء وسوغوا فيه الاجتهاد وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله يكلف العباد مالا يطيقون لأخباره بأنه يريد التخفيف عنا وتكليف مالا يطاق غاية التثقيل والله أعلم بمعاني كتابه
باب

التجارات وخيار البيع

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قال أبو بكر قد انتظم هذا العموم النهي عن أكل مال الغير ومال نفسه كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه فكذلك قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل نهي لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصي الله وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان أحدهما ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وقال ابن عباس والحسن أن يأكله بغير عوض فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور ليس على الأعمى حرج إلى قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية قال أبو

بكر يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه فهذا لعمري قد تناولته الآية وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وروى الربيع عن الحسن قال ما نسخها شيء من القرآن ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكل مال الغير قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام وقول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة وهو أن يأكله بالباطل وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة وكمن اشترى من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل وكذلك ثمن كلا مالا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر مالا منفعة فيه فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل وكذلك أجرة النائحة والمغنية وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهي عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه وكذلك قال أصحابنا أنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به لأنه ربح حصل له من وجه محظور وقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة فإن قيل هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه قيل له كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية لأن الحظر في أكل المال مقيد الشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية وأما قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات

المقصود بها طلب الأرباح قال الله تعالى هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز تشبيها بالتجارات المقصود بها الأرباح وقال تعالى ترجون تجارة لن تبور كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شرى قال الله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فسمى بذل النفوس شراء على وجه المجاز وقال الله تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأعواض كذلك سمى الإيمان بالله تعالى تجارة لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة فتدخل في قوله تعالى إلا أن تكوت تجارة عن تراض منكم عقود البياعات والإجارت والهبات المشروطة فيها الأعواض لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير
ولا يسمى النكاح تجارة في العرف والعادة إذ ليس المبتغى منه في الأكثر الأعم تحصيل العوض الذي هو مهر وإنما المبتغى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك فل يسم تجارة لهذا المعنى وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يمسى شيء من ذلك تجارة ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا قال أبو حنيفة ومحمد إن المأذون له في التجارة لا يزوج أمته ولا عبده ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضا وإن كانت أمة لا تزوج نفسها لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة وقالوا إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة إذ كانت الإجارة من التجارة وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات
واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو وقال أصحابنا إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول ولا يصح عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي ولا يقع بلفظ الإستقبال لأن قوله بعني إنما هو سوم وأمر بالبيع وليس بإيقاع للعقد والأمر بالبيع ليس ببيع وكذلك قوله أشتري منك ليس بشرى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه لأن الألف للإستقبال وكذلك قول البائع إشتر مني وقوله أبيعك ليس ذلك بلفظ العقد وإنما هو أخبار بأنه سيعقد

أو أمر به وقالوا في النكاح القياس أن يكون مثله إلا أنهم استحسنوا فقالوا إذا قال زوجني بنتك فقال قد زوجتك أنه يكون نكاحا ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي ص -

فلم يقبلها فقال له رجل زوجنيها فراجعه النبي ص

- فيما يعطيها إلى أن قال له زوجتكها عقدا بما معك من القرآن فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - قوله زوجنيها مع قوله زوجتكها عقدا واقعا ولأخبار أخر قد رويت في ذلك ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله زوجني وبين قوله قد زوجتك فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله قد زوجتك وقوله زوجيني نفسك سواء
ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السوم بديا كان ذلك سوما ولم يكن عقدا فحملوه على القياس وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد أنه يقع به العقد وهو أن يساومه على شيء ثم يزن له الدراهم ويأخذ للمبيع فجعلوا ذلك عقدا لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طالبه منه وذلك لأن جريان العادة بالشيء كالنطق به إذ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أجروا ذلك مجرى العقد كما يهدي الإنسان لغيره فيقبضه فيكون للهبة ونحر النبي صلى الله عليه وسلم - بدنات ثم قال من شاء فليقتطع فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال مالك بن أنس إذا قال بعني هذا بكذا فقال قد بعتك فقد تم البيع وقال الشافعي لا يصح النكاح حتى يقول قد زوجتكها ويقول الآخر قد قبلت تزويجها أو يقول الخاطب زوجنيها ويقول الولي قد زوجتكها فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت
فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشتري الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراض غير جائز أن يكون هذا بيعا لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول وذلك معدوم فيما وصفت وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وما ذكرتموه في معنى هذه

البياعات التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم - لوقوعها بغير لفظ البيع قيل له ليس هذا كما ظننت وليس ما أجازه أصحابنا مما

نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع واما ما جازه أصحابنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع ثم يزن له المشتري الثمن ويسلم البائع إليه المبيع وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رضى منهما بما وقف عليه العقد من السوم ولمس الثوب ووضع الحصاة ونبذه ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه فصار العقد معلقا على خطر فلا يجوز وصار ذلك أصلا في امتناع وقوع البياعات على الأخطار وذلك أن يقول بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد ونحو ذلك وقوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم عموم في إطلاق سائر التجارات وإباحتها وهو كقوله تعالى وأحل الله البيع في اقتضاء عمومه لإباحة سائر البيوع إلا ما خصه التحريم لأن اسم التجارة أعم من اسم البيع لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات فيضمن قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل معنيين أحدهما نهي معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه وهو قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ والمعنى الثاني إطلاق سائر التجارات وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة فلو خلينا وظاهره لأجزنا سائر ما يسمى تجارة إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة الرسول ص -

فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز

بيعها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي سائر وجوه الانتفاع وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها ولعن بائعها ومشتريها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن البيع الغرر وبيع العبد الآبق وبيع مالم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقود على غرر جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقد قرئ قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض بالنصب والرفع فمن قرأها بالنصب كان تقديره إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض فتكون التجارة

الواقعة عن تراض مستثناة من النهي عن أكل المال إذ كان أكل المال بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة فاستثنى التجارة من الجملة وبين أنها ليست أكل المال بالباطل ومن قرأها بالرفع كان تقديره إلا أن تقع تجارة كقول الشاعر ... فدى لنبي شيبان رحلي وناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ...
يعني إذا حدث يوم كذلك وإذا كان معناه على هذا كان النهي عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يستثن منه شيء وكان ذلك استثناء منقطعا بمنزلة لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح
وقد دلت هذه الآية على بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراض ونحوه قوله تعالى وأحل الله البيع وقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فذكر الضرب في الأرض للتجارة وطلب المعاش مع الجهاد في سبيل الله فدل ذلك على أنه مندوب إليه والله تعالى أعلم وبالله التوفيق
باب

خيار المتبايعين

اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما وإن لم يتفرقا وروي نحوه عن عمر بن الخطاب وقال الثوري والليث وعبيدالله بن الحسن والشافعي إذا عقدا فهما بالخيار مالم يتفرقا وقال الأوزاعي هما بالخيار مالم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة بيع مزايدة الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة فإذا صافقه فقد وجب وليسا فيه بالخيار
ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه وقال الليث التفرق أن يقوم أحدهما وكل من أوجب الخيار يقول إذا خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع وروى خيار المجلس عن ابن عمر
قال أبو بكر قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم يقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق إذ كانت التجارة هي الإيجاب والقبول في عقد البيع وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء ولا يسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراض فمانع بذلك بإيجاب الخيار خارج عن

ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل عليه أيضا قوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقة بالثمن وذلك مأمور به عند عقده البيع قبل التفرق لأنه قال تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه فأمر بالكتاب عند عقده المداينة وأمر بالكتابة بالعدل وأمر الذي عليه الدين بالإملاء وفي ذلك دليل على أن عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فلو لم يكن عقد المداينة موجبا للحق عليه قبل الإفتراق لما قال وليملل الذي عليه الحق ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق دليل على نفي الخيار وإيجاب البتات ثم قال تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم تحصينا للمال واحتياطا للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه ثم قال تعالى ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا ولو كان لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياط ولا كان أقوم للشهادة إذ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال ثم قال وأشهدوا إذا تبايعتم وإذا هي للوقت فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ثم أمر برهن مقبوض في السفر بدلا من الإحتياط بالإشهاد في الحضر وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع والاحتياط في تحصين المال تارة بالإشهاد وتارة بالرهن إن العقد قد أوجب ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما إذ كان إثبات الخيار نافيا لمعاني الإشهاد والرهن ونافيا لصحة الأقرار بالدين فإن قيل الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين إما أن يكون الشهود حاضرين العقد

ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئد شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا فيصح قيل له أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيها إبطال ما تضمنته من الإحتياط بالإشهاد والرهن وذلك لأن الله تعالى قال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله تعالى واستشهدوا شهيدين فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا لهما وزعمت أنت أنه يشهد بعد الإفتراق وجائز أن تهلك السلعة قبل الإفتراق فيبطل الدين أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهد أو جائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد وقال الله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه ولم يقل إذا تبايعتم وتفرقتم وموجب الخيار مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد وعسى أن يموت المشتري قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما فإن قيل فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا مع شرط الخيار ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفي صحة الشهادة والرهن قيل له الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار فليس فيما اجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الإحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يشرط فيها خيار والبيع المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها وأيضا فإن إثبات الخيار إنما يكون مع

عدم الرضى بالبيع ليرتئي في إبرام البيع أو فسخه فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط الخيار فكل واحد منهما راض بتمليك ما عقد عليه لصاحبه فلا معنى لإثبات الخيار فيه مع وجود الرضى به ووجود الرضى مانع من الخيار ألا ترى أنه لا خلاف بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه اختر فاختاره ورضي به أن ذلك مبطل لخيارهما وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة فلا يحتاجان إلى رضى ثان لأنه لو جاز أن يشترط بعد رضاهما به بديا بالعقد رضى آخر لجاز أن يشترط رضى ثان وثالث وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع فلما بطل هذا صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع وإنما صح خيار الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من ملكه حين شرط لنفسه الخيار ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه
فإن قيل فأنت قد أثبت خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضى بالبيع ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه فكذلك لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار المجلس
قيل له ليس خيار العيب من خيار المجلس في شيء وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد منهما فيما عقد صاحبه من جهته لوجود الرضى من كل واحد منهما به فليس لهذا الخيار تأثير في نفي الملك بل الملك واقع مع وجود الخيار لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به وخيار المجلس على قول القائلين به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه ولا فرق بين الرضى به بديا بإيجابه له العقد وبينه إذا قال قد رضيت فاختر ورضي به صاحبه فلا فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد من الخيارين في باب وقوع الملك به وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير ناف للملك وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفوت جزء منه موجب له بالعقد ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاق الجميع على وقوع الملك لكل واحد منهما بعد الإفتراق وبطلان الخيار به وقد علمنا أنه ليس في الفرقة دلالة على الرضى ولا على نفيه لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواء في نفي دلالته على الرضى فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى بديا بالعقد لا بالفرقة وأيضا فإنه ليس في الأصول فرقة يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير

من العقود من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض لرأس المال وعن الدين بالدين قبل تعيين أحدهما فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم تجد في الأصول فرقة مؤثرة في تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب وأيضا قد ثبت بالسنة واتفاق الأمة من شرط صحة عقد افتراقهما عن مجلس العقد عن قبض صحيح فإن كان خيار المجلس ثابتا في عقد الصرف مع التقابض والعقد لم يتم ما بقي الخيار فإذا افترقا لم يجز أن يصح بالافتراق ما من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح بعد لم يجز أن يصح بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه ويدل على نفي خيار المجلس قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه فأحل له المال بطيبة من نفسه وقد وجد ذلك بعقد البيع فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له ودلالة الخبر على ذلك كدلالة قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ويدل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري فأباح بيعه إذا جرى فيه الصاعان ولم يشرط فيه الافتراق فوجب ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله من بائعه في المجلس الذي تعاقدا فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق فوجب بقضية الخبر انه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه وذلك ينفي خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشتري فيه
ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلا وله ثمره فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعل الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق ومحال أن يملكها المشتري قبل مالك الأصل المعقود عليه فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد
ويدل عليه أيضا قوله ص - في حديث أبي هريرة لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه واتفق الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى استئناف عتق بعد الشرى وأنه متى صح له الملك عتق عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم - أوجب عتقه بالشرى من غير شرط الفرقة ويدل عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر فلو عقلنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه

لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك ألا ترى أنه لو باعه بيعا باتا وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه كان البيع باطلا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد واحتج القائلون بخيار المجلس بما روي عن ابن عمر وأبي برزة وحكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال المتبايعان بالخيار مالم يفترقا وروي عن نافع عن ابن عمر عن

النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بائعه مالم يفترقا أو يكون بيعهما عن خيار فإذا كان عن خيار فقد وجب وكان ابن عمر إذا بايع الرجل ولم يخيره وأراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع فاحتج القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله المتبايعان بالخيار مالم يفترقا وابن عمر هو راوي الحديث وقد عقل من مراد النبي صلى الله عليه وسلم -

فرقة الأبدان

قال أبو بكر فأما ما روي من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه وقد روي عن ابن عمر ما يدل على موافقته وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة بن عبدالله بن عمر عن أبيه قال ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع وهذا يدل على أنه كان يرى أن المبيع كان يدخل من ملك المشتري بالصفقة ويخرج من ملك البائع وذلك ينفي الخيار قوله ص - المتبايعان بالخيار مالم يفترقا وفي بعض الألفاظ البائعان بالخيار مالم يفترقا فإن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم فإذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كان متقايلين ومتضاربين وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به فإن قيل هذا التأويل يؤدي إلى إسقاط فائدة الخبر لأنه غير مشكل على أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد على خيارهما في إيقاع العقد أو تركه
قيل له بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه قد كان جائزا أن يظن ظان أن البائع إذا قال للمشتري قد بعتك أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول المشتري كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة فأبان النبي صلى الله عليه وسلم -

حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر وأنه

مفارق للعتق والخلع

فإن قيل كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما
قيل له ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمي القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد وكما قيل لولد إبراهيم عليه السلام المأمور بذبحه الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يذبح قال تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن وأراد به حقيقة البلوغ فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر هذا الكتاب وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقايلين وكانا متضاربين
ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع لعقد أنه قد يصح منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقايلان في حال فعل الإقالة وغير جائز أن يكونا متقابلين متفاسخين ومتبايعين في حال واحدة فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال السوم وإيقاع العقد حقيقة وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع وهو أن يقول قد بعتك فأطلق اسم البيع من قبل نفسه قبل قبول الآخر فهذه هي الحال التي هما متبايعان فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما فللبائع الخيار في الفسخ قبل قبول الآخر وللمشتري الخيارفي القبول قبل الإفتراق ويدلك على أن المراد هذه الحال قوله المتبايعان وإنما ا لبائع أحدهما وهو صاحب السلعة فكأنه قال إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق لأنه معلوم أن المشتري ليس ببائع فثبت أن المراد إذا باع البائع قبل قبول المشتري
وقد اختلف الفقهاء في تأويل قوله ص - المتبايعان بالخيار مالم يفترقا فروي عن محمد بن الحسن أن معناه إذا قال البائع قد بعتك فله أن يرجع مالم يقل المشتري قبلت قال وهو قول أبي حنيفة وعن أبي يوسف هما المتساومان فإذا قال بعتك بعشرة فللمشتري خيار القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشتري ومتى قام أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما

إجازته فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ قال الله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ويقال تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس ويدل على أن المراد الافتراق بالقول ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال المتبايعيان بالخيار مالم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له

أن يفارق صاحبه خشية أن يستقبله
وقوله المتبايعان بالخيار مالم يتفرقا هو على الافتراق بالقول ألا ترى أنه قال ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله وهذا هو افتراق الأبدان بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به والاستقالة هو مسألته الإقالة وهذا يدل من وجهين على نفي الخيار بعد وقوع العقد أحدهما أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه والثاني أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه فهذا يدل على نفي الخيار وصحة البيع وقوله ولا يحل له أن يفارقه يدل على أنه مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ما داما في المجلس مكروه له أن لا يجيبه إليها وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويكره له قبلها
ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن أحمد الأزدي قال حدثنا إسماعيل بن عبدالله بن زرارة قال حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - البيعان لا بيع بينهما إلا أن يفترقا إلا بيع الخيار وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبدالعزيز بن مسلم القسلمي عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا فأخبر ص - كل بيعين لا بيع بينهما إلا بعد الافتراق وهذا يدل على أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السوم وذلك لأنهما لو كانا قد تبايعا لم ينف النبي صلى الله عليه وسلم - تبايعهما مع صحة العقد وقوعه فيما بينهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لا ينفي ما قد أثبت فعلمنا أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع للمشتري إلى شرائه منه بأن قال له بعني فنفى أن يكون بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول إذا لم يكن قوله بعني قبولا

للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمر به فإذا قال قد قبلت وقع البيع فهذا هو الافتراق الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم -

على القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان

فإن قيل ما أنكرت أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم - عن نفيه البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول وإنما نفى أن يكون بينهما بيع لما لهما فيه من خيار المجلس قيل له هذا غلط من قبل أن ثبوت الخيار لا يوجب نفي اسم البيع عنه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت الخيار فيه موجبا لنفي اسم البيع عنه لأنه قال كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار فجعل بيع الخيار بيعا فلو أراد بقوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا حال وقوع الإيجاب والقبول لما نفى البيع بينهما لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله بيعا فدل ذلك على أن قوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إنما أراد به المتساومين في البيع وأفاد ذلك أن قوله إشتر مني أو قول المشتري بعني ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع قد بعت ويقول المشتري قد اشتريت فيكون قد افترقا وتم البيع ووجب أن لا يكون فيه خيار مشروط فيكون ذلك بيعا وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق فيهما بالإيجاب والقبول وأكثر أحوال ما روي من قوله المتبايعان بالخيار مالم يفترقا احتماله لما وصفنا ولما قال مخالفنا وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما والمعنى فيه الإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط وقوله عز و جل ولا تقتلوا أنفسكم قال عطاء والسدي لا يقتل بعضكم بعضا قال أبو بكر هو نظير قوله تعالى ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ومعناه يقتلوا بعضكم وتقول العرب قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم وقيل إنما حسن ذلك لأنهم أهل دين واحد فهم كالنفس الواحدة فلذلك قال ولا تقتلوا أنفسكم وأراد قتل بعضكم بعضا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن المؤمنين كالنفس الواحدة إذا ألم بعضه تداعى سائره بالحمى والسهر وقال المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا فكان تقديره ولا يقتل بعضكم بعضا في أكل أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم

عليكم وهو كقوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ويحتمل ولا تقتلوا أنفسكم في طلب المال وذلك بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف ويحتمل ولا تقتلوا أنفسكم في حال غضب أو ضجر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها وقوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا فإنه قيل فما عاد إليه هذا الوعيد وجوه أحدها أنه عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس بغير حق فيستحق الوعيد بكل واحدة من الخصلتين وقال عطاء في قتل النفس المحرمة خاصة وقيل إنه عائد على فعل كل ما نهي عنه من أول السورة وقيل من عند قوله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها لأن ما قبله مقرون بالوعيد والأظهر عوده إلى ما يليه من أكل المال بالباطل وقتل النفس المحرمة وقيد الوعيد بقوله عدوانا وظلما ليخرج منه فعل السهو والغلط وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام إلى حد التعمد والعصيان وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لأنه يحسن مع اختلاف اللفظ كقول عدي بن زيد ... وقددت الأديم لراهشيه ... وألقى قولها كذبا ومينا ...
والكذب هو المين وحسن العطف لاختلاف اللفظين وكقول بشر بن حازم ... فما وطئ الحصى مثل ابن سعدي ... ولا لبس النعال ولا احتذاها ...
والاحتذاء هو لبس النعل وكما تقول بعدا وسحقا ومعناهما واحد وحسن لاختلاف اللفظ والله أعلم
باب

النهي عن التمني

قال الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ويذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزل الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض الآية ونزلت إن المسلمين والمسلمات وروى قتادة عن الحسن قال لا يتمن أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال وقال سعيد عن قتادة في قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا ولا الصبي ويجعلون الميراث لمن يحبون فلما ألحق للمرأة نصيبها وللصبي نصيبه وجعل للذكر مثل حظ

الأنثيين قال النساء لو كان أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال وقال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فأنزل الله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن يقول المرأة تجزى بحسناتها عشر أمثالها كما يجزى الرجل قال واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ونهى الله عن تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض لأن الله تعالى لو علم أن المصلحة له في إعطائه ما أعطى الآخر لفعل ولأنه لا يمنع من بخل ولا عدم وإنما يمنع ليعطي ما هو أكثر منه وقد تضمن ذلك النهي عن الحسد وهو تمني زوال النعمة عن غيره إليه وهو مثل ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق

أختها لتكتفئ ما في صحفتها فإن الله هو رازقها فنهى ص - أن يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد ركنت إليه ورضيت به وأن يسوم على سومه كذلك فما ظنك بمن يتمنى أن يجعل له ما قد صار لغيره وملكه وقال لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها يعني أن تسعى في إسقاط حقها وتحصيله لنفسها وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار ورجلا آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار قال أبو بكر والتمني على وجهين أحدهما أن يتمنى الرجل أن تزول نعمة غيره عنه فهذا الحسد وهو التمني المنهي عنه والآخر أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يريد زوال النعمة عن غيره فهذا غير محظور إذا قصد به وجه المصلحة وما يجوز في الحكمة ومن التمني المنهي عنه أن يتمنى ما يستحيل وقوعه مثل أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا أو تتمنى حال الخلافة والإمامة ونحوها من الأمور التي قد علم أنها لا تكون ولا تقع
وقوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن قيل فيه وجوه أحدها أن لكل واحد حظا من الثواب قد عرض له بحسن التدبير في أمره ولطف له فيه حتى استحقه وبلغ علو المنزلة به فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير فإن لكل منهم حظه ونصيبه غير مبخوس ولا منقوص والآخر إن لكل أحد جزاء ما اكتسب فلا يضيعه بتمني ما لغيره محبطا لعمله وقيل فيه إن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب من نعم الدنيا فعليه أن يرضى بما قسم الله له
وقوله تعالى واسألوا الله من فضله قيل

فيه إن معناه إن احتجتم إلى ما لغيركم فسلوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله لا بأن تتمنوا ما لغيركم إلا أن هذه المسألة تعني أن تكون معقودة بشريطة المصلحة والله تعالى أعلم بالصواب
باب

العصبة

قال الله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون قال ابن عباس ومجاهد وقتادة الموالي ههنا العصبة وقال السدي الموالي الورثة وقيل إن أصل المولى من ولي الشيء يليه وهو اتصال الولاية في التصرف
قال أبو بكر المولى لفظ مشترك ينصرف على وجوه فالمولى المعتق لأنه ولي نعمه في عتقه ولذلك سمي مولى النعمة والمولى العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه به في إنعامه عليه وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمى المطلوب غريما لتوجه المطالبة عليه وللزوم الدين إياه والمولى العصبة والمولى الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين والمولى ابن العم لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما والمولى الولي لأنه يلي بالنصرة وقال تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم أي يلم بالنصرة للكافرين يعتد بنصرته ويروى للفضل بن العباس ... مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تظهرن لنا ما كان مدفونا ...
فسمى بني العم موالي والمولى مالك العبد لأنه يليه بالملك والتصرف والولاية والنصر والحماية فاسم المولى ينصرف على هذه الوجوه وهو اسم مشترك لا يصح اعتبار عمومه ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى لمواليه وله موال أعلى وموال أسفل إن الوصية باطلة لامتناع دخولهما تحت اللفظ في حال واحدة وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت الوصية وأولى الأشياء بمعنى المولي ههنا العصبة لما روى إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه وروى معمر عن ابن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

اقسموا المال بين أهل الفرائض فما أبقت السهام فلا ولي رجل ذكر وروى فلا

ولي عصبة ذكر وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في تسمية الموالي عصبة وقوله فلا ولي عصبة ذكر ما يدل على أن المراد بقوله ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان

والأقربون هم العصبات ولا خلاف بين الفقهاء أن ما فضل عن سهام ذوي السهام فهو لأقرب العصبات إلى الميت والعصبات هم الرجال الذي تتصل قرابتهم إلى الميت بالبنين والآباء مثل الجد والأخوة من الأب والأعمام وأبنائهم وكذلك من بعد منهم بعد أن يكون الذي يصل بينهم البنون والآباء إلا الأخوات فإنهن عصبة مع البنات خاصة وإنما يرث من العصبات الأقرب فالأقرب ولا ميراث للأبعد مع الأقرب ولا خلاف أن من لا يتصل نسبه بالميت إلا من قبل النساء أنه ليس بعصبة
ومولى العتاقة عصبة للعبد المعتق ولا ولادة وكذلك أولاد المعتق الذكور منهم يكونون عصبة للعبد المعتق إذا مات أبوهم ويصير ولاؤه لهم دون الإناث من ولده ولا يكون أحد من النساء عصبة بالولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت وإنما صار مولى العتاقة عصبة بالسنة ويجوز أن يكون مرادا بقوله تعالى ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون إذ كان عصبة ويعقل عنه كما يعقل عنه بنو أعمامه فإن قيل الميت ليس هو من أقرباء مولى العتاقة ولا من والديه قيل له إذا كان معه وارث من ذوي نسبة من الميت نحو البنت والأخت جاز دخوله معهم في هذه الفريضة فيستحق بأصل السهام وإن لم يكن هو من أقرباء الميت إذ كان في الورثة ممن يجوز أن يقال فيه أنه مما ترك الوالدان والأقربون فيكون بعض الورثة قد ورث الوالدين والأقربين
واختلف أهل العلم في ميراث الولي الأسفل من الأعلى فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والشافعي وسائر أهل العلم لا يرث المولى الأسفل من المولى الأعلى وحكى أبو جعفر الطحاوي عن الحسن بن زياد قال يرث المولى الأسفل من الأعلى وذهب فيه إلى حديث رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد ووهب بن خالد ومحمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ميراثه للغلام المعتق قال أبو جعفر وليس لهذا الحديث معارض فوجب إثبات حكمه قال أبو بكر يجوز أن يكون دفعه إليه لا على وجه الميراث لكنه لحاجته وفقره لأنه كان مالا لا وارث له فسبيله أن يصرف إلى ذوي الحاجة والفقراء
فإن قيل لما كانت الأسباب التي يجب بها الميراث هي الولاء والنسب والنكاح وكان ذوو الأنساب يتوارثون وكذلك الزوجان وجب أن يكون

الولاء من حيث أوجب الميراث للأعلى من الأسفل أن يوجبه للأسفل من الأعلى
قال أبو بكر هذا غير واجب لأنا قد وجدنا في ذوي الأنساب من يرث غيره ولا يرثه هو إذا مات لأن امرأة لو تركت أختا أو إبنة وابن أخيها كان للبنت النصف والباقي لابن الأخ ولو كان مكانها مات ابن الأخ وخلف بنتا أو أختا وعمته لم ترث العمة شيئا فقد ورثها ابن الأخ في الحال التي لا ترثه هي والله تعالى أعلم بالصواب
باب

ولاء الموالاة

قال الله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم روى طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ثم قرأ والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال من النصر والرفادة ويوصي له وقد ذهب الميراث وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يقول إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت فذلك المعروف
وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه وقال سعيد بن المسيب هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة
قال أبو بكر قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة ثم قال قائلون إنه منسوخ بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقال آخرون ليس بمنسوخ من الأصل ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له

غيره فميراثه له وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي ميراثه للمسلمين وقال يحيى بن سعيد إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة وقال الليث بن سعد من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره قال أبو بكر الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه اصحابنا لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام وحكم الله به في نص التنزيل ثم قال وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فجعل ذوي الأرحام أولى بالمعاقدين الموالي فمتى فقد ذوو الأرحام وجب ميراثهم بقضية الآية إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي الأرحام وقد ورد الأشر عن النبي صلى الله عليه وسلم - بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قال حدثنا يحيى بن حمزة عن عبدالعزيز بن عمر قال سمعت عبدالله بن موهب يحدث عمر بن عبدالعزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يد الرجل من المسلمين قال هو أولى الناس بمحياه ومماته فقوله هو أولى الناس بمماته يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث وهو في معنى قوله تعالى ولكل جعلنا موالي يعني ورثة وقد روي نحو قول أصحابنا في عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس قال لا بأس به قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما جواز الموالاة لأنه قال إلا بإذنهم فأجاز الموالاة بإذنهم

والثاني أن له أن يتحول بولاية إلى غيره إلا أنه كرهه إلا بإذن الأولين ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه وقال ص - الولاء لحمة كلحمة النسب فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا حلف في الإسلام وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة قال فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به قيل له يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية وذلك لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول هدمي هدمك ودمي دمك وترثني وأرثك وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يتنصف منه وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما وكذلك قال ص - أنصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا يعينه مظلوما فكيف يعينه ظالما قال أن ترده عن الظلم فذلك معونة منك له وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله لا حلف في الإسلام التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب فهذا معنى قوله ص - لا حلف في الإسلام وأما قوله وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة فإنه يحتمل أن الإسلام من زاد شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله فكأنه قال إذا لم يجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك قال أبو بكر وعلي نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا

فيمن أوصى بجميع ماله ولا وارث له أنه جائز وقد بينا ذلك فيما سلف وذلك لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه عن بيت المال جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية إذ كانت الموالاة إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه مالم يعقل عنه فأشبهت الوصية التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها إلا أنها تخالف الوصية من وجه وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه الميراث ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رحم كان أولى بالميراث من ولي الموالاة ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوصى لرجل بماله فيجوز له منه الثلث بل لا يعطى شيئا إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة فولاء الموالاءة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث ويفارقها من وجه على نحو ما بينا والله أعلم
باب

ما يجب على المرأة من طاعة زوجها

قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم روى يونس عن الحسن أن رجلا جرح امرأته فأتى أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال النبي ص

- القصاص فأنزل الله تعالى الرجال قوامون على النساء الآية فقال ص -

أردنا أمرا وأراد الله غيره وروى جرير بن حازم عن الحسن قال لطم رجل

امرأته فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال ص -

عليكم القصاص فأنزل الله

ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه ثم أنزل الله تعالى الرجال قوامون على النساء قال أبو بكر الحديث الأول يدل على أن لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وكذلك روي عن الزهري والحديث الثاني جائز أن يكون لطمها لأنها نشزت عليه وقد أباح الله تعالى ضربها عند النشوز بقوله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن قيل لو كان ضربه إياها لأجل النشوز لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم -

القصاص قيل له إن النبي ص

- إنما قال ذلك قبل نزول هذه الآية التي فيها إباحة الضرب عند النشوز لأن قوله تعالى الرجال قوامون على النساء إلى قوله فاضربوهن نزل بعد فلم يوجب عليهم بعد نزول الآية شيئا فتضمن قوله الرجال قوامون على النساء قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل الله به الرجل على المرأة في العقل والرأي وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها
فدلت الآية على معان أحدها

تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها وهذا يدل على أن له إمساكها في بيته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته وقبول أمره مالم تكن معصية ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله وبما أنفقوا من أموالهم وهو نظير قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقوله تعالى لينفق ذو سعة من سعته وقول النبي صلى الله عليه وسلم -

ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف

وقوله تعالى وبما أنفقوا من أموالهم منتظم للمهر والنفقة لأنهما جميعا مما يلزم الزوج لها قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله يدل على أن في النساء الصالحات وقوله قانتات روي عن قتادة مطيعات لله تعالى ولأزواجهن وأصل القنوت مداومة الطاعة ومنه القنوت في الوتر لطول القيام وقوله حافظات للغيب بما حفظ الله قال عطاء وقتادة حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله وما يجب من رعاية حاله وما يلزم من صيانة نفسها له قال عطاء في قوله بما حفظ الله أي بما حفظهن الله في مهورهن وإلزام الزوج من النفقة عليهن وقال آخرون بما حفظ الله أنهن إنما صرن صالحات قانتات حافظات بحفظ الله إياهن من معاصيه وتوفيقه وما أمدهن به من ألطافه ومعونته وروى أبو معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها

خلفتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية والله الموفق
باب

النهي عن النشوز

قال الله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن قيل في معنى تخافون معنيان أحدهما يعلمون لأن خوف الشيء إنما يكون للعلم بموقعه فجاز أن يوضع مكان يعلم يخاف كما قال أبو محجن الثقفي ... ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ...
ويكون خفت بمعنى ظننت وقد ذكره الفراء وقال محمد بن كعب هو الخوف الذي هو خلاف الأمن كأنه قيل تخافون نشوزهن بعلمكم بالحال المؤذنة به وأما النشوز فإن ابن عباس وعطاء والسدي قالوا أراد به معصية الزوج فيما يلزمه من طاعته وأصل النشوز الترفع على الزوج بمخالفته مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها وقوله

تعالى فعظوهن يعني خوفوهن بالله وبعقابه
وقوله تعالى واهجروهن في المضاجع قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي هجر الكلام وقال سعيد بن جبير هجر الجماع وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم هجر المضاجعة وقوله واضربوهن قال ابن عباس إذا أطاعته في المضجع فليس له أن يضربها وقال مجاهد إذا نشزت عن فراشه يقول لها اتقي الله وارجعي وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وغيرهما قالوا حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف
وروى ابن جريج عن عطاء قال الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه وقال سعيد عن قتادة ضربا غير شائن ذكر لنا أن نبي الله ص -

قال مثل المرأة مثل الضلع متى ترد إقامتها تكسرها ولكن دعها تستمتع بها

وقال الحسن فاضربوهن قال ضربا غير مبرح وغير مؤثر وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبدالرازق قال أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله فعظوهن واهجروهن في المضاجع قالا إذا خاف نشوزها وعظها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع فإن قبلت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ثم قال فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا قال لا تعللوا عليهن بالذنوب
باب

الحكمين كيف يعملان

قال الله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم فروي عن سعيد بن جبير والضحاك أنه السلطان الذي يترافعان إليه وقال السدي الرجل والمرأة
قال أبو بكر قوله واللاتي تخافون نشوزهن هو خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه وهو قوله واهجروهن في المضاجع وقوله وإن خفتم شقاق بينهما الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن أقامت على نشوزها

ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب وقال ما ولدت إذ ذاك فقلت إنما أعني حكمي شقاق قال إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ بعثوا حكمين فأقبلا على الذي جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما فما حكما من شيء فهو جائز وروى عبدالوهاب قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها فإن انتهت وإلا هجرها وإلا ضربها فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها يفعل كذا ويفعل كذا ويقول الحكم الذي من أهله تفعل به كذا وتفعل به كذا فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع
قال أبو بكر وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما
وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما فإن كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله ويدل أيضا قوله فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها فهذا يدل على بطلان قول من يقول إن للحكمين أن يجمعا إن شاآ وإن شاآ فرقا بغير أمرهما
وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين قال أبو بكر هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء قال الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه وأمر الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج وكذا روي عن

علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي ما شأن هذين قالوا بينهما شقاق قال فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما فقال علي هل تدريان ما عليكما عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت فأخبر علي أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها فإذا كان كذلك حكمها قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها فلذلك قال أصحابنا إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان وإنما الحكمان وكيلان لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك قال إسماعيل الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن أبى وهذا غلط منه لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه فيما وكل به فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة إصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات
قال إسماعيل والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن لأنه إنما سمي ههنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه
وأما قوله إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا لأنهما وكيلان وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ويعرف

أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم أن ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا وينهى الظالم منهما عن ظلمه فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه فسميا حكمين من هذا الوجه فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح سميا حكمين ويكونان مع ذلك وكيلين لهما إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما
وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله قال ولم يأخذه بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله وليس هذا على ما ذكر لأن الرجل لما قال أما الفرقة فلا قال علي كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة وأمره بأن يوكل بالفرقة وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها
قال ولما قال إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من الحكم
قال وهذا لا يقال للوكيلين لأنه يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك وأخبر الله أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به
قال وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم إن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز وكيف

يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ويخرجا المال عن ملكها وقد قال الله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال الله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعني بقوله تعالى فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه وقال الله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقال ص

- فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار فثبت بذلك أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منهما كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما الآية قال إنما يبعث الحكمان ليصلحا فإن أعياهما أن يصلحا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روي عن عطاء
قال أبو بكر وفي فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا وهو قوله تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ولم يقل إن يريدا فرقة وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه وقالا لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك وإن كانت هي الظالمة قالا لها قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما ظهر للحكمين من نشوزها فإذا جعل

كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا فهما في حال شاهدان وفي حال مصلحان وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق وأما قول من قال إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل من الزوجين فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة والله أعلم بالصواب
باب

الخلع دون السلطان

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والشافعي يجوز الخلع بغير سلطان وروي مثله عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم وقال الحسن وابن سيرين لا يجوز الخلع إلا عند السلطان والذي يدل جوازه عند غير سلطان قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا اقتضى ظاهره جواز أخذه ذلك منهما على وجه الخلع وغيره وقال تعالى فلا جناح عليهما فيما افتدت به ولم يشترط ذلك عند السلطان وكما جاز عقد النكاح وسائر العقود عند السلطان وعند غيره كذلك يجوز الخلع إذ لا اختصاص في الأصول لهذه العقود بكونها عند السلطان والله تعالى أعلم
باب

بر الوالدين

قال الله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا فقرن تعالى ذكره إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده وأمر به كما أمر بهما كما قرن شكرهما بشكره في قوله تعالى أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وكفى بذلك دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما وقال تعالى ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما إلى آخر القصة وقال تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وقال في الوالدين الكافرين وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا وروى عبدالله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس والذي نفس محمد بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة قال أبو بكر

فطاعة الوالدين واجبة في المعروف لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبدالله بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا من اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال هل لك أحد باليمن قال أبواي قال أذنا لك قال لا قال ارجع إليها فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ومن أجل ذلك قال أصحابنا لا يجوز أن يجاهد إلا بإذن الأبوين إذا قام بجهاد العدو من قد كفاه الخروج قالوا فإن لم يكن بإزاء العدو من قد قام بفرض الخروج فعليه الخروج بغير إذن أبويه وقالوا في الخروج في التجارة ونحوها فيما ليس فيه قتال لا بأس به بغير إذنهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما منعه من الجهاد إلا بإذن الأبوين إذا قام بفرض غيره لما فيه من التعرض للقتل وفجيعة الأبوين به فأما التجارات والتصرف في المباحات التي ليس فيها تعرض للقتل فليس للأبوين منعه منها فلذلك لم يحتج إلى استئذانهما ومن أجل ما أكد الله تعالى من تعظيم حق الأبوين قال أصحابنا لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربا للمسلمين لقوله تعالى ولا تقل لهما أف وقوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا فأمر تعالى بمصاحبتهما بالمعروف في الحال التي يجاهدانه فيها على الكفر ومن المعروف أن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله فحينئذ يجوز قتله لأنه إن لم يفعل ذلك قد قتل نفسه بتمكنه غيره منه وهو منهي عن تمكين غيره من قتله كما هو منهي عن قتل نفسه فجاز له حينئذ من أجل ذلك قتله وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا وقال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران أنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمر الله بها
فإن قال قائل ما معنى قوله تعالى وبالوالدين إحسانا وما ضميره قيل له يحتمل استوصوا بالوالدين إحسانا ويحتمل وأحسنوا بالوالدين إحسانا وقوله تعالى وبذي القربى أمر بصلة الرحم والإحسان إلى القرابة على نحو ما ذكره في أول السورة في قوله تعالى والأرحام فبدأ تعالى في أول الآية بتوحديه وعبادته إذ كان ذلك هو الأصل الذي به يصح سائر الشرائع والنبوات وبحصوله يتوصل إلى

سائر مصالح الدين ثم ذكر تعالى ما يجب للأبوين من الإحسان إليهما وقضاء حقوقهما وتعظيمهما ثم ذكر الجار ذا القربى وهو قريبك المؤمن الذي له حق القرابة وأوجب له الدين الموالاة والنصرة ثم ذكر الجار الجنب وهو البعيد منك نسبا إذا كان مؤمنا فيجتمع حق الجار وما أوجبه له الدين بعصمة الملة وذمة عقد النحلة وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك قالوا الجار ذو القربى القريب في النسب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق الجوار المشرك من أهل الكتاب وقوله تعالى والصاحب بالجنب روي فيه عن ابن عباس في إحدى الروايتين وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك أنه الرفيق في السفر وروي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم وابن أبي ليلى أنه الزوجة ورواية أخرى عن ابن عباس أنه المنقطع إليك رجاء خيرك وقيل هو جار البيت دانيا كان نسبه أو نائيا إذا كان مؤمنا قال أبو بكر لما كان اللفظ محتملا لجميع ذلك وجب حمله عليه وأن لا يخص منه شيء بغير دلالة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وروى عبيدالله الوصافي عن أبي جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ما آمن من أمسى شبعان وجاره جائعا وروى عمر بن هارون الأنصاري عن أبيه عن

أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة سوء الجوار وقطيعة الأرحام وتعطيل الجهاد وقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الجوار وتحافظ على حفظه وتوجب فيه ما توجب في القرابة قال زهير ... وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي عقدهما سواء ...
يريد بالرجل المنادي من كان معك في النادي وهو 2مجالس الحي وقال بعض أهل العلم معنى الصاحب بالجنب أنه الذي يلاصق داره داره وإن الله خصه بالذكر تأكيدا لحقه على الجار غير الملاصق وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو عمر ومحمد بن عثمان

القرشي وراق أحمد بن يونس قال حدثنا إسماعيل بن مسلم قال حدثنا عبدالسلام بن حرب عن خالد الدالاني عن أبي العلاء الأزدي عن حميد بن عبدالرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

قال إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما

جوارا وإذا سبق أحدهما فابدأ بالذي سبق وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن أربعين دارا جوار وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن شبيب المعمري قال حدثنا محمد بن مصفى قال حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن يونس عن الزهري قال حدثني عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

رجل فقال إني نزلت بمحلة بني فلان وإن أشدهم لي إذا أقربهم من جواري فبعث

النبي صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر وعليا أن يأتوا باب المسجد فيقوموا على بابه فيصيحوا ثلاثا ألا إن أربعين دارا جوار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه قال قلت للزهري يا أبا بكر أربعين دارا قال أربعين هكذا وأربعين هكذا وقد جعل الله الاجتماع في مدينة جوارا قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا فجعل تعالى اجتماعهم معه في المدينة جوارا
والإحسان الذي ذكره الله تعالى يكون من وجوه منها المواساة للفقير منهم إذا خاف عليه الضرر الشديد من جهة الجوع والعري ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه وما يتبع ذلك من مكارم الأخلاق وجميل الفعال ومما أوجب الله تعالى من حق الجوار الشفعة لمن بيعت دار إلى جنبه والله الموفق
ذكر

الخلاف في الشفعة بالجوار

قال أبو حنيفة وأبو يوسفومحمد وزفر والشريك في المبيع أحق من الشريك في الطريق ثم الشريك في الطريق أحق من الجار الملازق ثم الجار الملازق بعدهما وهو قول ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح وقال الشافعي لا شفعة إلا في مشاع ولا شفعة في بئر لا بياض لها ولا تحتمل القسم وقد روي وجوب الشفعة للجار عن جماعة من السلف روي عن عمر وعن أبي بكر بن أبي حفص بن عمر قال قال شريح كتب إلي عمر أن أقضي بالشفعة للجار وروى عاصم عن الشعبي عن شريح قال الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الجار والجار أحق ممن سواه وروى أيوب عن محمد قال كان يقال

الشريك أحق من الخليط والخليط أحق ممن سواه وقال إبراهيم إذا لم يكن شريك فالجار أحق بالشفعة وقال طاوس مثل ذلك وقال إبراهيم بن ميسرة كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز إذا حدت الحدود فلا شفعة قال طاوس الجار أحق والذي يدل على وجوب الشفعة للجار ما روى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -

أرض ليس لأحد فيها شريك إلا الجار فقال الجار أحق بسبقه ما كان وروى

سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الجار أحق بسبقه وروى أبو حنيفة قال حدثنا عبدالكريم عن المسور بن مخرمة عن رافع بن خديج قال عرض سعد بيتا له فقال خذه فإني قد أعطيت به أكثر مما تعطيني ولكنك أحق به لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يقول الجار أحق بسبقه وروى أبو الزبير عن جابر قال قضى رسول الله ص

- بالشفعة بالجوار وروى عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

الجار أحق بسبقه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وروى ابن

أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الجار أحق بسبقه ما كان وروى قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال جار الدار أحق بشفعة الجار وقتادة عن أنس عن النبي ص

- أنه قال جار الدار أحق بالدار وروى سفيان عن منصور عن الحكم قال حدثني من سمع عليا وعبدالله يقولان قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بالجوار ويونس عن الحسن قال قضى رسول الله ص

- بالجوار فاتفق هؤلاء الجماعة على الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وما نعلم أحدا دفع هذه الأخبار مع شيوعها واستفاضتها في الأمة فمن عدل عن

القول بها كان تاركا للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم - واحتج من أبى ذلك بما روى أبو عاصم النبيل قال حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وكذلك رواه عن مالك أبو قتيلة المدني وعبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون وهذا الحديث رواه هؤلاء موصولا عن أبي هريرة وأصله عن سعيد بن المسيب مقطوع رواه معن ووكيع والقعنبي وابن وهب كلهم عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب من غير ذكر أبي هريرة وكذلك هو في موطأ مالك ولو ثبت موصولا لما جاز الاعتراض به على الأخبار التي رواها نحو عشرة من الصحابة

عن النبي صلى الله عليه وسلم - في إيجاب الشفعة للجار لأنها في حيز المتواتر المستفيض الذي لا تجوز معارضته بأخبار الآحاد ولو ثبت من وجوه يجوز أن يعارض به ما قدمنا ذكره لم يكن فيه ما ينفي أخبار إيجاب الشفعة للجار وذلك لأن أكثر ما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى بالشفعة فيما لم يقسم ثم قال فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فأما قوله قضى رسول الله بالشفعة فيما لم يقسم فإنه متفق على استعماله في إيجاب الشفعة للشريك ومع ذلك فهو حكاية قضية من النبي صلى الله عليه وسلم -

قضى بها وليس بعموم لفظ ولا حكاية قول منه وأما قوله فإذا وقعت الحدود

فلا شفعة فإنه يحتمل أن يكون من كلام الراوي إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قاله ولا أنه قضى به وإذا احتمل أن تكون رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -

واحتمل أن يكون من قول الراوي أدرجه في الحديث كما وجد ذلك في كثير من

الأخبار لم يجز لنا إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم - إذ غير جائز لأحد أن يعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

مقالة بالشك والإحتمال فهذا وجه منع الاعتراض به على ما ذكرنا

واحتجوا أيضا بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن محمد المردف قال حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري قال حدثنا عبدالواحد بن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن جابر بن عبدالله قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وهذا لا دلالة فيه على نفي الشفعة بالجوار من وجهين أحدهما أنه إنما نفى وجوب الشفعة إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فأفاد بذلك نفي الشفعة لغير الجار الملاصق لأن صرف الطرق ينفي الملاصقة لأن بينه وبين جاره طريقا والثاني أنا متى حملناه على حقيقته كان الذي يقتضيه اللفظ نفي الشفعة عند وقوع الحدود وصرف الطرق ووقوع الحدود وصرف الطرق إنما هو القسمة فكأنه إنما أفاد أن القسمة لا شفعة فيها كما قال أصحابنا أنه لا شفعة في قسمة وكذلك الحديث الأول محمول على ذلك أيضا وأيضا فقد روى عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الجار أحق بصقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا فهذان الخبران قد رويا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - وغير جائز أن نجعلهما متعارضين مع إمكان استعمالهما جميعا وقد يمكننا استعمالهما على الوجه الذي ذكرنا ومخالفونا يجعلونهما متعارضين ويسقطون أحدهما بالآخر وأيضا جائز أن يكون ذلك كلاما خرج على سبب فنقل الراوي لفظ النبي ص

وترك نقل السبب نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جار والآخر شريك فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار وقال فإذا وقعت لاحدود فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار كما روى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا ربا إلا في النسيئة وهو عند سائر الفقهاء كلام خارج على سبب اقتصر

فيه راويه على نقل قول النبي صلى الله عليه وسلم - دون ذكر السبب وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من الذهب والفضة إذا بيع أحدهما بالآخر فقال ص - لا ربا إلا في النسيئة يعني فيما سئل عنه وكذلك ما ذكرنا وأيضا لو تساوت أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها لكانت أخبار الإيجاب أولى من أخبار النفي لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يرد الشرع بإيجابها فخبر نفي الشفعة وارد على الأصل وخبر إثباتها ناقل عنه وارد بعده فهو أولى
فإن قيل يحتمل أن يريد بالجار الشريك
قيل له هذه الأخبار التي رويناها وأكثرها ينفي هذا التأويل لأن فيها أن جار الدار أحق بشفعة داره والشريك لا يسمى جار الدار وحديث جابر قال فيه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في المبيع وأيضا فإن الشريك لا يسمى جارا لأنه لو استحق اسم الجوار بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شيء جارين كالشريكين في عبد واحد ودابة واحدة فلما لم يستحق اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دل ذلك على أن الشريك لا يسمى جارا وإنما الجار هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه وأيضا فإن الشركة إنما تستحق بها الشفعة لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب ا لشفعة لعدم حصول الجوار بها عند القسمة فدل ذلك على أن الشركة في العقار إنما تستحق بها الشفعة لما يتعلق بها من الجوار عند القسمة وإن كان الشريك أحق من الجار لمزية حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها كما أن الأخ من الأب والأم أولى بالميراث من الأخ من الأب وإن كانت الأخوة من جهة الأب يستحق بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأم ومعلوم أن القرابة من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب إذ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب إلا أنها أكدت تعصيب القرابة من الأب وكذلك الشريك إنما يستحق الشفعة بالشركة لما تعلق بها من حصول الجوار عند

القسمة والشريك أولى من الجار لمزية حصلت له كما وصفنا بالتعصيب ويكون المعنى الذي يتعلق به وجوب الشفعة هو الجوار وأيضا لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة بالشركة هو دوام التأذي بالشريك وكان ذلك موجودا في الجوار لأنه يتأذى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله وجب أن تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك وهذا المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق لأن بينه وبينه طريقا يمنعه التشرف عليه والاطلاع على أموره
وأما قوله تعالى وابن السبيل فإنه روي عن مجاهد والربيع بن أنس أنه المسافر وقال قتادة والضحاك هو الضيف قال أبو بكر ومعناه صاحب الطريق وهذا كما يقال لطير الماء ابن ماء قال الشاعر ... وردت اعتسافا والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق ...
ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضا لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم فسمى ابن السبيل تشبيها بالمسافر المجتاز وهو كما يقال عابر سبيل وقال الشافعي ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته وهذا غلط لأنه مالم يصر في الطريق لا يسمى ابن السبيل كما لا يسمى مسافرا ولا عابر سبيل وقوله عز و جل وما ملكت أيمانكم يعني الإحسان المأمور به في أول الآية وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أنس قال كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم - الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه وروته أيضا أم سلمة وروى الأعمش عن طلحة بن مصرف عن أبي عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الغنم بركة والإبل عز لأهلها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والمملوك أخوك فأحسن إليه فإن وجدته مغلوبا فأعنه وروى مرة الطيب عن أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الجنة سيء الملكة قيل يا رسول الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأتباعا قال بلى فأكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون وروى الأعمش عن المعرور بن سويد قال مررت على أبي ذر وهو بالربذة فسمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - المماليك

هم إخوانكم ولكن الله تعالى خولكم إياهم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وقوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله قيل في معنى البخل في اللغة أنه مشقة الإعطاء 2وقيل البخل منع مالا ينفع منعه ولا يضر بذله وقيل البخل منع الواجب ونظيره الشح ونقيضه الجود وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه منع الواجب ويقال إنه لا يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرة بالمنع قال الله تعالى ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة فأطلق الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله وأما قوله تعالى ويكتمون ما آتاهم الله من فضله فإنه روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي أنها نزلت في اليهود إذ بخلوا بما أعطوا من الرزق وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمد ص - وقيل هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعم الله وأنكرها وذلك كفر بالله تعالى قال أبو بكر الاعتراف بنعم الله تعالى واجب وجاحدها كافر وأصل الكفر إنما هو من تغطية نعم الله تعالى وكتمانها وجحودها وهذا يدل على أنه جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده لا على جهة الفخر بل على جهة الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم وهو كقوله وأما بنعمة ربك فحدث وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أفصح العرب ولا فخر فأخبر بنعم الله عنده

وأبان أنه ليس إخباره بها على وجه الافتخار وقال ص - لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقد كان ص -

خيرا منه ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار وقال تعالى فلا

تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال لو سمعك لقطعت ظهره ورأى المقداد رجلا يمدح

عثمان في وجهه فحثا في وجهه التراب وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وقد روي إياكم والتمادح فإنه الذبح فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره وإما أن يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر إلا أن أصلح الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به وقوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر معناه والله أعلم أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس عذابا مهينا وفي ذلك دليل

على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد عوض من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة كالاستيجار على الحج وعلى الصلاة الصلاة وسائر القرب أنه متى استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة قوله تعالى وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله يدل على بطلان مذهب أهل الجبر لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا إليه ولا قادرين عليه كما لا يقال للأعمى ماذا عليه لو أبصر ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من فعلها
وقوله تعالى يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئا من أحوالهم وما عملوه لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم فيقرون بها ولا يكتمونها وقيل يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا فإن قيل قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين قيل له فيه وجوه أحدها أن الآخرة مواطن فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أي صوتا خفيا وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين وموطن يعترفون فيه بالخطأ ويسئلون الله أن يردهم إلى دار الدنيا وروي ذلك عن الحسن وقال ابن عباس أن قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثا داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم وقيل إن معناه أنه لا يعتد بكتمانهم لأنه ظاهر عند الله لا يخفى عليه شيء فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على الكتمان لأن الله يظهره وقيل أنهم لم يقصدوا الكتمان لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا والله تعالى أعلم
باب

الجنب يمر في المسجد

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا

ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا قال أبو بكر قداختلف في المراد من السكر بهذه الآية فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة السكر من الشراب وقال مجاهد والحسن نسخها تحريم الخمر وقال الضحاك المراد به سكر النوم خاصة
فإن قيل كيف يجوز أن ينهى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبي في نقص عقله
قيل له يحتمل أن يريد السكران الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ويحتمل أن يكونوا نهوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة ويجوز أن يكون النهي إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصحو إذا فعلوها في حال السكر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها
فإن قال قائل إذا ساغ تأويل من تأولها على السكران الذي لم يزل عنه التكليف فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال
قيل له قد روي عن الحسن وقتادة أنه منسوخ ويحتمل إن لم يكن منسوخا أن يكون النهي متوجها إلى فعل الصلاة مع الرسول ص -

أو في جماعة

قال أبو بكر والصحيح من التأويل في معنى السكر أنه السكر من الشراب من وجهين أحدهما أن النائم ومن خالط عينه النوم لا يسمى سكران ومن سكر من الشراب يسمى سكران حقيقة فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة والثاني ما روى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن عن علي قال دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر فتقدم عبدالرحمن بن عوف لصلاة المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فأنزل الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وقال في سورة النساء لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ثم نسختها هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام الآية
قال أبو عبيد وحدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ويسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير قال وقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال كانوا

لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها
قال أبو عبيد حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وذكر الحديث
قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن أبي رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها ثم حرمت في المائدة
قال أبو بكر فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب وأخبر ابن عباس وأبو رزين أنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى النهي عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة وهذا يدل على أن قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إنما أفاد النهي عن شربها في أوقات الصلوات وكان معناه لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات ا لصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها قال تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة كان في مضمون هذا اللفظ النهي عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يقبل الله صلاة بغير طهور وكما قال تعالى ولا

جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة ولم يوجب كون الإنسان جنبا

أو

محدثا سقوط فرض الصلاة وإنما نهي عن فعلها في هذه الحال وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها كذلك النهي عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة وفرض الصلاة قائم عليه فهذا التأويل يدل على ما روي عن ابن عباس وأبي رزين وظاهر الآية وفحواه يقتضي ذلك على الوجه الذي بينا وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر الصلاة عند السكر لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضي كونه سكران عند حضور الصلاة فيكون ذلك حظرا قائما فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال الصحو أو يكون النهي مقصورا على فعلها مع النبي ص

أو في جماعة وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية
وقوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون يدل على أن السكران الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدري ما يقول وأن السكران الذي يدري ما يقول لم يتناوله النهي عن فعل الصلاة وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من النهي إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة لأن السكران الذي لا يدري ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبي الذي لا يعقل والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهي لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل وهي تدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة في السكر الموجب للحد أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة
وقوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون يدل على فرض القراءة في الصلاة لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها فلولا أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها
فإن قيل لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها وذلك لأن قوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون قد دل على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفي العلم بما يقول وهذا على سائر الأقوال والكلام ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها فإنما منع من الصلاة من كانت هذه حاله لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث
قيل له هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه حاله فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها وهذا مثل قوله أقيموا الصلاة في إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا ومثل قوله واركعوا مع الراكعين في دلالته على فرض الركوع في الصلاة
وأما قوله تعالى ولاجنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله فروى المنهال بن عمرو عن زر عن علي

رضي الله عنه في قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تيممون به وتصلون وروى قتادة عن أبي مجلز عن ابن عباس مثله وعن مجاهد مثله وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قال هو الممر في المسجد وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس مثله في تأويل الآية وكذلك روي عن سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار في آخرين من التابعين
واختلف السلف في مرور الجنب في المسجد فروي عن جابر قال كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب وقال عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - تصيبهم الجنابة فيتوضؤن ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه وقال سعيد بن المسيب الجنب لا يجلس في المسجد ويجتاز وكذلك روي عن الحسن وما روي في ذلك عن عبدالله فإن الصحيح فيه ما تأوله شريك عن عبدالكريم الجزري عن أبي عبيدة ولا جنبا إلا عابري سبيل قال الجنب يمر في المسجد ولا يجلس ورواه معمر عن عبدالكريم عن أبي عبيدة عن عبدالله ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبدالله غير معمر وسائر الناس وقفوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه والاجتياز وهو قول مالك بن أنس والثوري وقال الليث الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد وقال الشافعي يمر ولا يقعد والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبدالواحد بن زياد قال حدثنا أقلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وهذا الخبر يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما قوله لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ولم يفرق فيه بين الإجتياز وبين القعود فهو عليهما سواء والثاني أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب معنى لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا عند الجنابة

إلى الإجتياز في المسجد إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد وقد روى سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه لأن بيته كان في المسجد فأخبر في هذا الحديث بحظر النبي صلى الله عليه وسلم - الإجتياز كما حظر عليهم القعود وما ذكر من خصوصية علي رضي الله عنه فهو صحيح وقول الراوي لأنه كان بيته في المسجد ظن منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد أمر في الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل كون بيوتهم في المسجد وإنما كانت الخصوصية فيه لعلي رضي الله عنه دون غيره كما خص جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء وكما خص حنظلة بغسل الملائكة له حين قتل جنبا وخص دحية الكلبي بأن جبريل كان ينزل على صورته وخص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين
وأما ما روى جابر كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب فلا حجة فيه لأنه لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم -

علم بذلك فأقره عليه وكذلك ما روي عن عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم - تصيبهم الجنابة فيتوضؤن ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه لا دلالة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

أقرهم عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبي ص

- قبل أن يحظر عليهم ذلك ولو ثبت جميع ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ثم روي ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى لأنه طارئ على الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الإجتياز تعظيما للمسجد ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك موجود في الإجتياز وكما أنه لما كان محظورا عليه العقود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الإجتياز فيه حكم القعود فكان الإجتياز بمنزلة القعود كذلك القعود في المسجد لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الإجتياز اعتبارا بما ذكرنا والعلة في الجميع حظر الكون فيه وأما قوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وتأويل من تأوله على إباحة الإجتياز في المسجد فإن ما روي عن علي وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الإجتياز في المسجد وذلك

لأن قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى نهي عن فعل الصلاة في هذه الحال لا عن المسجد لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم الخطاب وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات يعني به مواضع الصلوات ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة ولا دلالة توجب صرف ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون وليس للمسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر وفي الصلاة قراءة مشروطة فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة فدل ذلك على أن المراد حقيقة الصلاة فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها
وقوله تعالى إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإن معناه المسافر لأن المسافر يسمى عابر سبيل ولولا أنه يطلق عليه هذا الاسم لما تأوله عليه علي وابن عباس إذ غير جائز لأحد تأويل الآية على مالا يقع عليه الاسم وإنما سمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق كما يسمى ابن السبيل فأباح الله تعالى له في حال السفر أن يتيمم ويصلي وإن كان جنبا فدلت الآية على معنيين أحدهما جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به والثاني أن التيمم لا يرفع الجنابة لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما فهذا التأويل أولى من تأويل من حمله على الإجتياز في المسجد
وقوله تعالى حتى تغتسلوا غاية لإباحة الصلاة ولا خلاف أن الغاية في هذا الموضع داخلة في الحظر إلى أن يستوعبها بوجوب الاغتسال وأنه لا تجوز له الصلاة وقد بقي من غسله شيء في حال وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر يخافه فهذا يدل على أن الغاية قد تدخل في الجملة التي قبلها وقال الله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل والغاية خارجة من الجملة لأنه بدخول أول الليل يخرج من الصوم لأن إلى غاية كما أن حتى غاية
وهذا أصل في أن الغاية قد يجوز دخولها في الكلام تارة وخروجها أخرى وحكمها موقوف على الدلالة في دخولها أو خروجها وسنذكر أحكام الجنابة ومعناها وحكم المريض والمسافر في سورة المائدة إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى قوله تعالى آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها يدل على قول أصحابنا في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان أنها

تطلق في الحال قدم فلان أو لم يقدم وحكي عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم لأنه لا يقال أنه قبل قدوم فلان وما قدم والصحيح ما قال أصحابنا وهذه الآية تدل عليه لأنه قال الله تعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلا وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد وهو نظير قوله تعالى فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فكان الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس فإن قيل إن هذا وعيد من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما توعدوا به قيل له إن قوما من هؤلاء اليهود أسلموا منهم عبدالله بن سلام وثعلبة بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخريق في آخرين منهم وإنما كان الوعيد العاجل معلقا بترك جميعهم الإسلام ويحتمل أن يريد به الوعيد في الآخرة إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يسلموا قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال الحسن وقتادة والضحاك هو قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وروي عن عبدالله أنه قال هو تزكية الناس بعضهم بعضا لينال به شيئا من الدنيا
قال أبو بكر وهذا يدل على أن النهي عن التزكية من هذا الوجه وقال الله ولا تزكوا أنفسكم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال إذا رايتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب

قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وعكرمة إن المراد بالناس ههنا هو النبي صلى الله عليه وسلم -

خاصة وقال قتادة العرب وقال آخرون النبي ص

- وأصحابه وهذا أولى لأن أول الخطاب في ذكر اليهود وقد كانوا قبل ذلك يقرؤن في كتبهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وصفته وحال نبوته وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه وكانوا يظنون أنه يكون من بني إسرائيل فلما بعثه الله تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه قال الله تعالى وكانوا يستفتتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وقال الله تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم فكانت عداوة للعرب ظاهرة بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -

حسدا منهم لهم أن يكون النبي ص

- مبعوثا منهم فالأظهر من معنى الآية حسدهم للنبي ص -

وللعرب

والحسد هو تمني زوال النعمة عن صاحبها ولذلك قيل إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها والغبطة غير مذمومة لأنها تمني مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل مع سرور منه ببقائها عليه
قوله تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قيل فيه إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان وكذلك اللحم والعظم وأن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن ومن قال إن الجلد هو بعض الإنسان وأن الإنسان هو هذا الشخص بكماله فإنه يقول إن الجلود تجدد بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة كما يقال لخاتم كثر ثم صيغ خاتم آخر هذا الخاتم غير ذاك الخاتم وكما يقال لمن قطع قميصه قباء هذا اللباس غير ذاك اللباس وقال بعضهم التبديل إنما هو للسرابيل التي قد ألبسوها وهو تأويل بعيد لأن السرابيل لا تسمى جلودا والله تعالى أعلم
باب

ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات

قال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء الأمانة في هذه الآية من هم فروي عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر بن حوشب أنهم ولاة الأمر وقال ابن جريج أنها نزلت في عثمان بن طلحة أمر بأن ترد عليه مفاتيح الكعبة وقال ابن عباس وأبي بن كعب والحسن وقتادة هو في كل مؤتمن على شيء وهذا أولى لأن قوله تعالى إن الله يأمركم خطاب يقتضي عمومه سائر المكلفين فغير جائز الاقتصار به على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة وأظن من تأوله على ولاة الأمر ذهبت إلى قوله تعالى وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل لما كان خطابا لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفا إليهم وليس ذلك كذلك إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في سائر الناس وما عطف عليه خاصا في ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره
قال أبو بكر ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة فعلى المؤتمن عليها ردها إلى صاحبها فمن الأمانات الودائع على مودعيها ردها إلى من أودعه إياها ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن هلكت
وقد روي عن بعض السلف فيه الضمان ذكر الشعبي عن أنس قال استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمنني عمر بن الخطاب
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن

محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال استودعت ستة آلاف درهم فذهبت فقال لي عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فضمنني
وروى حجاج عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا استودع متاعا فذهب من بين متاعه فلم يضمنه أبو بكر رضي الله عنه وقال هي أمانة
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال من استودع وديعة فلا ضمان عليه

وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن عون قال حدثنا عبدالله بن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا ضمان على راع ولا على مؤتمن

قال أبو بكر قوله ص - لا ضمان على مؤتمن يدل على نفي ضمان العارية لأن العارية أمانة في يد المستعير إذ كان المعير قد ائتمنه عليها ولا خلاف بين الفقهاء في نفي ضمان الوديعة إذا لم يتعد فيها المودع ما روي عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون المودع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده فلذلك ضمنه
واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فروي عن عمر وعلي وجابر وشريح وإبراهيم أن العارية غير مضمونة وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنها مضمونة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد هي غير مضمونة إذا هلكت وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعي وقال عثمان البتي المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقل فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن وقال مالك لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها وقال الليث لا ضمان في العارية ولكن أبا ا لعباس أمير المؤمنين قد كتب إلي بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان وقال الشافعي كل عارية مضمونة
قال أبو بكر والدليل على نفي ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن المعير قد ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها لأنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا ضمان على مؤتمن وذلك عموم في نفي الضمان عن كل مؤتمن وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة وأيضا قد اتفق الجميع على نفي ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة إذ ليس فيها ضمان مشروط

بوجه ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع ولم يكن مضمونا فوجب أن لا تضمن العارية إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون العارية كذلك إذ هي معروف وتبرع وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض كالغصب والمقبوض ببيع فاسد فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات
وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم وروى شريك عن عبدالعزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه قال استعار النبي صلى الله عليه وسلم -

من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين فقال له يا محمد مضمونة فقال مضمونة

فضاع بعضها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم - إن شئت غرمناها لك فقال أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله ورواه إسرائيل عن عبدالعزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن صفوان بن أمية قال استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صفوان بن أمية أدراعا فضاع بعضها فقال إن شئت غرمناها لك فقال لا يا رسول الله فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان وروى قتادة عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم - استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين فقال له أمؤداة يا رسول الله العارية فقال نعم وروى جرير عن عبدالعزيز بن رفيع عن أناس من آل عبدالله بن صفوان قال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يغزو حنينا وذكر الحديث من غير ذكر ضمان ويقال أنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا أتقن ولا أثبت من جرير بن عبدالحميد ولم يذكر الضمان ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا وقد روي في أخبار أخر من طريق أبي أمامة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال العارية مؤداة وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء كما روي في بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال هي مضمونة حتى أؤديها إليك وكما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا القريابي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن أبي هند أن أول ما ضمنت العارية أن رسول

الله ص - قال لصفوان أعرنا سلاحك وهي علينا ضمان حتى نأتيك بها فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك لأن صفوان كن حربيا كافرا في ذلك الوقت فظن أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيين ولذلك قال له أغصبا تأخذها يا محمد فقال لا بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم - أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب وهو كقول القائل أنا ضامن لحاجتك يعني القيام بها والسعي فيها حتى يقضيها قال الشاعر يصف ناقة ... بتلك أسلي حاجة إن ضمنتها ... وأبرئ هما كان في الصدر داخلا ...
قال أهل اللغة في قوله إن ضمنتها يعني إن هممت وأردتها وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روي فيه من الضمان ونقول أنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال عارية مضمونة فجعل الأدراع التي قبضها مضمونة وهذا يقتضي ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها إذ لم يقل أضمن قيمتها وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى الماز إلا بدلالة وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما فقد منها أدراعا قال لصفوان إن شئت غرمناها لك فلو كان ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال إن شئت غرمناها لك وهو غارم فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبي صلى الله عليه وسلم -

إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبي ص

- لما استقرض عن عبدالله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبدالله أبى عبدالله أن يقبلها فقال له خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد فلو كان الغرم لازما فيما فقد من الأدراع لما قال إن شئت غرمناها لك ويدل على أنه لم يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال لا فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة لأن ما كان مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر وقال بعض شيوخنا إن صفوان لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط مالا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا أو كان أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل

ويقول لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون ألا ترى أنا لو شرطنا لهم ضمان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح
واحتج من

قال

بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف لأنه إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه ونحن نقول أن عليه رد العارية فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب
باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل
قال الله تعالى وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وقال تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وقال تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان قال حدثنا عبيد بن حباب الحلي قال حدثنا عبدالرحمن بن أبي الرجال عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيدالله قال قال ثابت الأعرج أخبرني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبدالرحمن المقري عن كهمس بن الحسن عن عبدالله الأسلمي قال شتم رجل ابن عباس فقال له ابن عباس إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال إني لآتي على الآية من كتاب الله تعالى فلوددت بالله أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدا وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به ومالي من سائمة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحارث بن أبي اسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى الآية وقال الله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا إلى قوله تعالى فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

باب

في طاعة أولي الأمر

قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال أبو بكر اختلف في تأويل أولي الأمر فروي عن جابر بن عبدالله وابن عباس رواية والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولوا الفقه والعلم وعن ابن عباس رواية وأبي هريرة أنهم أمراء السرايا ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين بالآية لأن الاسم يتناولهم جميعا لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون وهو نظير قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ومن الناس من يقول إن الأظهر من أولي الأمر ههنا أنهم الأمراء لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل وهذا خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولي الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ما داموا عدولا مرضيين وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولي الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولي الأمر على ا لأمراء دون غيرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال من أطاع أميري فقد أطاعني وروى الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم

عن أبيه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالخيف من منى فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله تعالى وقال بعضهم وطاعة ذوي الأمر وقال بعضهم والنصيحة لأولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم والأظهر من هذا الحديث أنه أراد بأولي الأمر الأمراء وقوله تعالى عقيب ذلك فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول يدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم قم قال فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه ص - إذا كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه دلائلهما على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء
واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول

الرافضة في الإمامة بقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو الأمراء أو الإمام الذي يدعونه فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد بطل أن يكون الإمام والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو والتبديل والتغيير وقد أمرنا بطاعتهم وهذا يبطل أصل الإمامة فإن شرط الإمامة عندهم أن يكون معصوما لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل والتغيير ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا وكان هو يقطع الخلاف والتنازع فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال فردوه إلى الإمام لأن الإمام عندهم هو الذي يقضي قوله على تأويل الكتاب والسنة فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع فيها وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسنة
وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى وأولي الأمر منكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا تأويل فاسد لأن أولي الأمر جماعة وعلي بن أبي طالب رجل واحد وأيضا فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ومعلوم أن علي بن أبي طالب لم يكن إماما في أيام النبي ص

- فثبت أن أولي الأمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم -

كانوا أمراء وقد كان المولى عليهم طاعتهم مالم يأمروهم بمعصية وكذلك

حكمهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم - في لزوم اتباعهم وطاعتهم مالم تكن معصية قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول روى مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدي إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص -

قال أبو بكر وذلك عموم في وجوب ا لرد إلى كتاب الله وسنة نبيه ص

- في حياة النبي وبعد وفاته ص -
والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه الثاني الرد إليهما من الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا فوجب إذا تنازعنا في شيء رده إلى نص الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة وإن لم نجد

فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما لأنا مأمورون بالرد في كل حال إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالردإليهما في حال دون حال وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه فظاهر ذلك يقتضي رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة فإن قيل إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قيل إن ذلك خطاب للمؤمنين لأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسول ص -

فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى

فردوه إلى الله والرسول وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية وهو قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فغير جائز حمل معنى قوله تعالى فردوه إلى الله والرسول على ما قد أفاده بديا في أول الخطاب ووجب حمله على فائدة محددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو ا لذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه وعلى أنا نرد جميع المتنازع فيه إلى الكتاب السنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير دليل
فإن قيل لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -

وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأي والقياس في أحكام الحوادث

بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم - بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه
قيل له هذا غلط وذلك لأن استعمال الرأي والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -

فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته كما أمر النبي ص

- معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له كيف تقضي إن عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال أقضي بسنة نبي الله قال فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي لا ألو قال فضرب بيده على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -

والحال الأخرى أن يأمره النبي ص

- بالاجتهاد

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1.وج2.وج3.{كتاب أسباب نزول القرآن : الواحدي}

  ج1. الكتاب أسباب نزول القرآن : الواحدي   بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر ولا تعسر قال الشيخ الامام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي الني...