ج2. كتاب : المغازي الواقدي
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7*
وخرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن ضوى إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدة وسلاحٍ كثيرٍ، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير. فلما أجمعوا المسير كتب العباس ابن عبد المطلب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره أن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه. وقد توجهوا إليك، وهم ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح. فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة ووجده بقباء، فخرج حتى يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على باب مسجد قباء يركب حماره، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبياً ما فيه، فدخل منزل سعد بن الربيع فقال: في البيت أحد؟ فقال سعد: لا، فتكلم بحاجتك. فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب، وجعل سعد يقول: يا رسول الله ، إني لأرجو أن يكون في ذلك خيرٌ، وقد أرجعت يهود المدينة والمنافقون، وقالوا: ما جاء محمداً شيءٌ يحبه. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة واستكتم سعداً الخبر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه فقالت: ما قال لك رسول الله؟ فقال: ما لك ولذلك، لا أم لك؟ قالت: قد كنت أسمع عليك. وأخبرت سعداً الخبر، فاسترجع سعد وقال: لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم تكلم بحاجتك! ثم أخذ يجمع لبتها، ثم خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجسر وقد بلحت، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي سألتني عما قلت، فكتمتها فقالت قد سمعت قول رسول الله! فجاءت بالحديث كله، فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شيءٌ فتظن أني أفشيت سرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خل سبيلها. وشاع الخبر في الناس بمسير قريش، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفرٍ من خزاعة، ساروا من مكة أربعاً، فوافوا قريشاً وقد عسكروا بذي طوىً، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخبر، ثم انصرفوا فوجدوا قريشاً ببطن رابغ فنكبوا عن قريش ورابغ على ليالٍ من المدينة.
فحدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن عمرو بن أبي حكيمة الأسلمي، قال: لما أصبح أبو سفيان بالأبواء أخبر أن عمرو ابن سالم وأصحابه راحوا أمس ممسين إلى مكة، فقال أبو سفيان: أحلف بالله أنهم جاءوا محمداص فخبروه بمسيرنا، وحذروه، وأخبروه بعددنا، فهم الآن يلزمون صياصيهم، فما أرانا نصيب منهم شيئاً من وجهنا. فقال صفوان: إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، فتركناهم ولا أموال لهم فلا يجتبرونها أبداً، وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل معهم، ونحن نقاتل على وترٍ عندهم ولا وتر لهم عندنا.
وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلاً من أوس الله حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة، فأقام مع قريش وكان دعا قومه فقال لهم: إن محمداً ظاهرٌ فاخرجوا بنا إلى قومٍ نوازرهم.
فخرج إلى قريش يحرضها ويعلمها أنها على الحق، وما جاء به محمدٌ باطل، فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها، وكان يقول لقريش: إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم رجلان، وهؤلاء معي نفرٌ من قومي وهم خمسون رجلاً. فصدقوه بما قال وطمعوا بنصره.
وخرج النساء معهن الدفوف، يحرضن الرجال ويذكرنهم قتلى بدر في كل منزل، وجعلت قريش ينزلون كل منهل، ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العير ويتقوون به في مسيرهم، ويأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الأموال. وكانت قريش لما مرت بالأبواء قالت: إنكم قد خرجتم بالظغن معكم، ونحن نخاف على نسائنا. فتعالوا ننبش قبر أم محمد، فإن النساء عورة، فإن يصب من نسائكم أحداً قلتم هذه رمة أمك، فإن كان برلً بأمه كما يزعم، فلعمري ليفادينكم برمة أمه، وإن لم يظفر بأحدٍ من نسائكم، فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثيرٍ إن كان بها براً. واستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي من قريش في ذلك فقالوا: لا تذكر من هذا شيئاً، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا.
وكانت قريش يوم الخميس بذي الحليفة، صبيحة عشر من مخرجهم من مكة، لخمس ليالٍ مضين من ضوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ومعهم ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس. فلما أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان فأنزلهم بالوطاء. وبعث النبي صلى الله عليه وسلّم عينين له، أنساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبراه.
وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف، إلى العرصة، عرصة البقل اليوم وكان أهله بنو سلمة، وحارثة، وظفر، وعبد الأشهل، وكان الماء يومئذٍ بالجرف أنشاطاً، لا يريم سائق الناضح مجلساً واحداً، ينفتل الجمل في ساعة، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي حفر معاوية بن أبي سفيان. فكانوا قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة، فقدم المشركون على زرعهم وخلوا فيه إبلهم وخيولهم وقد شرب الزرع في الدقيق، وكان لأسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحاً يسقي شعيراً وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم وآلة حرثهم. وكان المشركون يرعون يوم الخميس حتى أمسوا، فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا عليها القصيل، وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة، فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهورهم في الزرع وخيلهم حتى تركوا العرض ليس به خضراء.
فلما نزلوا وحلوا العقد واطمأنوا، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم، فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد، وبعثه سراً وقال للحباب: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى قلة. فرجع إليه فأخبره خالياً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما رأيت؟ قال: رأيت يا رسول الله عدداً، حزرتهم ثلاثة آلاف، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعاً ظاهرة، حزرتها سبعمائة درع. قال: هل رأيت ظعناً؟ قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار الأكبار يعني الطبول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، لا تذكر من شأنهم حرفاً، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول.
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس، فركضوا في أثره فوقف لهم على نشرٍ من الحرة، فراشقهم بالنبل مرة وبالحجارة مرة حتى انكشفوا عنه. فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض، فاستخرج سيفاً كان له ودرع حديدٍ كانا دفنا في ناحية المزرعة، فخرج بهما يعدو حتى أتى بني عبد الأشهل فخبر قومه بما لقي منهم. وكان مقدمهم يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبعٍ خلون من شوال.
وباتت وجوه الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، في عدةٍ، ليلة الجمعة، عليهم السلاح، في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وسلّم خوفاً من بيات المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ليلة الجمعة، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم واجتمع المسلمون خطب.
فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود ابن لبيد، قال: ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم على المنبر، فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درعٍ حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته، ورأيت بقراً تذبح، ورأيت كأني مردفٌ كبشاً. فقال الناس: يا رسول الله، فما أولتها؟ قال: أما الدروع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبةٌ في نفسي، وأما البقر المذبح، فقتلى في أصحابي، وأما مردفٌ كبشاص، فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله، وحدثني عمر بن عقبة، عن سعيد، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: وأما انقصام سيفي، فقتل رجل من أهل بيتي.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ابن مخرمة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ورأيت في سيفي فلا فكرهته، فهو الذي أصاب وجهه الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: أشيروا علي! ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب أن يوافق على مثل ما رأى وعلى ما عبر عليه الرؤيا. فقام عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله، كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة. والله، لربما مكث الوالدان شهراً ينقلون الحجارة إعداداً لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول الله، إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط وما خرجنا إلى عدوٍ قط إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا رسول الله، فإنهم إن أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيراً. يا رسول الله، أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع رأى ابن أبي، وكان ذلك رأى الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المهاجريرن والأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: امكثوا في المدينة، واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، وارموا من فوق الصياصي والآطام. فكانوا قد شبكوا المدينة بالبنينان من كل ناحية فهي كالحصن. فقال فتيانٌ أحداٌ لم يشهدوا بدراً، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخروج إلى عدوهم، ورغبوا في الشهادة، وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا! وقال رجالٌ من أهل السن وأهل النية، منهم حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، في غيرهم من الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم لما يرى من إلحاحهم كارهٌ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم، يتسامون كأنهم الفحول. وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري: يا رسول الله، نحن والله بين إحدى الحسنين إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، والأخرى يا رسول الله، يرزقنا الله الشهادة. والله يا رسول الله، ما أبالي أيهما كان، إن كلاً لفيه الخير! فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم رجع إليه قولاً، وسكت. فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة. وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائماً، ويوم السبت صائماً، فلاقاهم وهو صائم.
قالوا: وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم: يا رسول الله، أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك وأني منهم، فلم تحرمنا الجنة؟ فو الذي لا إله إلا هو لأدخلنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت! فاستشهد يومئذٍ. وقال إياس بن أوس ابن عتيك: يا رسول الله، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح، نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم ويذبح فينا، فنصير إلى الجنة ويصيرون إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها! فيكون هذا جرأة لقريش، وقد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا لم نزرع، وقد كنا يا رسول الله في جاهليتنا والعرب يأتوننا، ولا يطعمون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا، لا نحصر أنفسنا في بيوتنا. وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول الله، إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترىء علينا العرب حولنا حتى يطعموا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا وعسى الله أن يظفرنا بهم فتلك عادة الله عندنا، أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخزرج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت حريصاً على الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً! وقد والله يا رسول الله أصحبت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك، فقتل بأحد شهيداً.
وقالوا: قال أنس بن قتادةك يا رسول الله، هي إحدى الحسنيين، إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر في قتلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني أخاف عليكم الهزيمة.
قالوا: فلما أبوا إلا الخروج صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجمعة بالناس، ثم وعظ الناس وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا. ففرح الناس بذلك حيث أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشرٌ كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمرهم بالتهيو لعدوهم. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العصر بالناس، وقد حشد الناس وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام، فحضرت بنو عمرو بن عوف ولفها والنبيت ولفها وتلبسوا السلاح. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه ولبساه، وصف الناس له ما بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه، فجاءهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا: قلتم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه وما رأيتم له فيه هوًى أو رأى فأطيعوه. فبينا القوم على ذلك من الأمر، وبعض القوم يقول: القول ما قال سعد! وبعضهم على البصيرة على الشخوص، وبعضهم للخروج كارهٌ، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قد لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقةٍ من حمائل سيف من أدم، كانت عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد، واعتم، وتقلد السيف. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ندموا جميعاً على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما كان لنا أن نلح على رسول الله في أمرٍ يهوى خلافه. وندمهم أهل الرأي الذين كانوا يشيرون بالمقام، فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك. فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: كان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلبس لأمته ثم خرج وهو موضوع عند موضع الجنائز صلى عليه، ثم دعا بدابته فركب إلى أحد.
حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه قال: قال له جعال بن سراقة وهو موجه إلى أحد: يا رسول الله، إنه قيل لي إنك تقتل غداً! وهو يتنفس مكروباً، فضرب النبي صلى الله عليه وسلّم بيده في صدره وقال: أليس الدهر كله غداً.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح ويقال إلى سعد بن عبادة، ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، ويقال إلى مصعب بن عمير. ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلّم بفرسه فركبه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلّم القوم وأخذ قناة بيده زج الرمح يومئذٍ من شبه والمسلمون متلبسون السلاح قد أظهروا الدروع، فيهم مائة دارع. فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ كل واحد منهما دارع، والناس عن يمينه وعن شماله حتى سلك على البدائع، ثم زقاق الحسى، حتى أتى الشيخين، وهم أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان، فسمي الأطمان الشيخين حتى انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبةٍ خشناء لها زجلٌ خلفه، فقال: ما هذه؟ قالوا: يا رسول الله، هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى الشيخين فعسكر به. وعرض عليه غلمانٌ: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديح، فردهم. قال رافع بن خديج، فقال ظهير بن رافع: يا رسول الله إنه رامٍ! وجعلت أتطاول وعلي خفان لي، فأجازني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما أجازني قال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان الحارثي، وهو زوج أمه: يا أبة، أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج. فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: تصارعا! فصرع سمرة رافعاً فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت أمه امرأة من بني أسد.
وأقبل ابن أبي فنزل ناحيةً من العسكر، فجعل حفاؤه ومن معه من المنافقين يقولون لابن أبي: أشرت عليه بالرأي ونصحته وأخبرته أن هذا رأي من مضى من آبائك، وكان ذلك رأيه مع رأيك فأني أن يقبله، وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه! فصادفوا من ابن أبي نفاقاً وغشاً.
فبات رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشيخين، وبات ابن أبي في صحابه، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من عرض أصحابه وغابت الشمس فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم نازل في بني النجار. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الحرس محمد بن مسلمة بن خمسين رجلاً، يطوفون بالعسكر حتى أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان المشركون قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أدلج، ونزل بالشيخين، فجمعوا خيلهم وظهروا واستعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل في خيلٍ من المشركين، وباتت صاهلةً خيلهم لا تهدأ، وتدنو طلائعهم حتى تلصق بالحرة، فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم، ويهابون موضع الحرة ومحمد بن مسلمة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال حين صلى العشاء: من يحفظنا الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أنت؟ قال: ذكوان بن عبد قيس. قال: اجلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا فقال: من أنت.؟ قال: أنا أبو سبع. قال: اجلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا. فقال: ومن أنت؟ قال: ابن عبد قيس. قال: اجلس. ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ساعةً ثم قال: قوموا ثلاثتكم. فقام ذكوان بن عبد قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أين صاحباك؟ فقال ذكوان: أنا الذي كنت أجبتك الليلة. قال: فاذهب، حفظك الله! قال: فلبس درعه وأخذ درقته، وكان يطوف بالعسكر تلك الليلة، ويقال كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يفارقه.
ونام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أدلج، فلما كان في السحر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أين الأدلاء؟ من رجلٌ يدلنا على الطريق ويخرجنا على القوم من كثب؟ فقام أبو حثمة الحارثي فقال: أنا يا رسول الله. ويقال أوس بن قيظي، ويقال محيصة وأثبت ذلك عندنا أبو حثمة. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فركب فرسه، فسلك به في بني حارثة، ثم أخذ في الأموال حتى يمر بحائط مربع بن قيظي، وكان أعمى البصر منافقاً، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حائطه قام يحثى التراب في وجوههم وجعل يقول: إن كنت رسول الله، فلا تدخل حائطي. فيضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوسٍ في يده، فشجه في رأسه فنزل الدم، فغضب له بعض بني حارثة ممن هو على مثل رأيه، فقال: هي عداوتكم يا بني عبد الأشهل، لا تدعونا أبداً لنا. فقال أسيد بن حضير: لا والله، ولكنه نفاقكم. والله، لولا أني لا أدري ما يوافق النبي صلى الله عليه وسلّم من ذلك لضربت عنقه وعنق من هو على مثل رأيه! فأسكتوا.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه، فأصاب كلاب سيفه فسل سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صاحب السيف، شم سيفك، فإني إخال السيوف ستسل فيكثر سلها! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب الفأل ويكره الطيرة.
ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الشيخين درعاً واحدةً، حتى انتهى إلى أحد، فلبس درعاً أخرى، ومغفراً وبيضةً فوق المغفر. فلما نهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الشيخين زحف المشركون على تعبيةٍ حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد إلى موضع القنطرة اليوم جاء وقد حانت الصلاة، وهو يرى المشركين، أمر بلالاً فأذن وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفاً، وارتحل ابن أبي من ذلك المكان في كتيبة كأنه هيق يقدمهم، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: أذكركم الله ودينكم ونبيكم، وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم. فقال ابن أبي: ما أرى يكون بينهم قتال، ولئن أطعتني يا أبا جابر لترجعن، فإن أهل الرأي والحجى قد رجعوا، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد خالفنا وأشرت عليه بالرأي، فأبى إلا طواعية الغلمان. فلما أبى علي عبد الله أن يرجع ودخلوا أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله، إن الله سيغني النبي والمؤمنين عن نصركم! فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان؟ وانصرف عبد الله بن عمرو بن حرام يعدو حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو يسوي الصفوف. فلما أصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم سر ابن أبي، وأظهر الشماتة وقال: عصاني وأطاع من لا رأي له! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصف أصحابه، وجعل الرماة خمسين رجلاً على عينين، عليهم عبد الله بن جبير، وقيل عليهم سعد ابن أبي وقاص. قال ابن واقد: والثبت عندنا عبد الله بن جبير. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصف أصحابه، فجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وأقبل المشركون فاستدبروا المدينة في الوادي، واستقبلوا أحداً. ويقال جعل النبي صلى الله عليه وسلّم عينين خلف ظهره، واستدبر الشمس واستقبلها المشركون والقول الأول أثبت عندنا، أن أحداً خلف ظهره وهو مستقبل المدينة.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن الحصين عن عبد الرحمن بن عمرو، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد، والقوم نزول بعينين، أتى أحداً حتى جعله خلف ظهره. قال: ونهى أن يقاتل أحدٌ حتى يأمره، فلما سمع بذلك عمارة بن يزيد بن السكن قال: أترى زروع بني قيلة، ولما نضارب؟
وأقبل المشركون، قد صفوا صفوفهم واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ولهم مجتبتان مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية ويقال عمرو بن العاص وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة، وكانوا مائة رامٍ. ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وصاح أبو سفيان يومئذٍ: يا بني عبد الدار، نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا! إنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتي القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، وخلوا بيننا وبينه، فإنا قومٌ مستميتون موتورون، نطلب ثأرا حديث العهد، وجعل أبو سفيان يقول: إذا زالت الألوية فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها! فغضب بنو عبد الدار وقالوا: نحن نسلم لواءنا! لا كان هذا أبداً، فأما المحافظة عليه، فسترى! ثم أسندوا الرماح إليه، وأحدقت بنو عبد الدار باللواء، وأغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ. فقال أبو سفيان: فنجعل لواءً آخر؟ قالوا: نعم، ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار، لا كان غير ذلك أبداً! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخطب الناس فقال: يا أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه. ثم إنكم اليوم بمنزل أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ، شديدٌ كربه، قليلٌ من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريصٌ على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر. يا أيها الناس، جدد في صدري أن من كان على حرامٍ فرق الله بينه وبينه، ومن رغب له عنه غفر الله ذنبه، ومن صلى علي صلى الله عليه وملائكته عشراً، ومن أحسن من مسلم أو كافرٍ وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبياً أو امرأة أو مريضاً أو عبداً مملوكاً، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والل غني حميدٌ. ما أعلم من عملٍ يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عملٍ يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث في روعي الروح الأمين، أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أقصى رزقها، لا ينقص منه شيءٌ وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته. قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبهاً من الأمر لم يعلمها كثيرٌ من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه. وليس ملكٌ إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد. والسلام عليكم! حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله، قال: إن أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، طلع في خمسين من قومه معه عبيد قريش، فنادى أبو عامر، وهو عبد عمرو: يا آل أوس، أنا أبوعامر! فقالوا: لا مرحباً بك ولا أهلاً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ومعه عبيد أهل مكة، فتراموا بالحجارة هم والمسلمون حتى تراضخوا بها ساعة، حتى ولى أبو عامر وأصحابه، ودعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز. ويقال: إن العبيد لم يقاتلوا، وأمروهم بحفظ عسكرهم.
قال: وجعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان أمام صفوف المشركين يضربن بالأكبار والدفاف والغرابيل، ثم يرجعن فيكن في مؤخر الصف، حتى إذا دنوا منا تأخر النساء يقمن خلف الصفوف، فجعلن كلما ولي رجلٌ حرضنه وذكرنه قتلاهم ببدر.
وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيره نساء بني ظفرٍ فقلن: يا قزمان، قد خرج الرجال وبقيت! يا قزمان ألا تستحي مما صنعت؟ ما أنت إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار! فأحفظنه، فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه وكان يعرف بالشجاعة فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يسوي صفوف المسلمين، فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه. وكان أول من رمى بسهم من المسلمين، فجعل يرسل نبلاً كأنها الرماح، وإنه ليكت كتيت الجمل. ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ذكره قال: من أهل النار. فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار! يا آل أوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع! قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل، ثم يطلع ويقول: أنا الغلام الظفري! حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع. فمر بن قتاده بن النعمان فقال: أبا الغيداق! قال له قزمان: يا لبيك! قال: هنيئاً لك الشهادة! قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دينٍ، ما قاتلكت إلا على الحفاظ أن تسير قريشٌ إلينا حتى تطأ سعفنا. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلّم جراحته فقال: من أهل النار. فأندبته الجراحة، فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
قالوا: وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الرماة فقال: احموا لنا ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتي من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم، حتى ندخل عسكرهم، فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، اللهم، إني أشهدك عليهم! وارشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل. وكان للمشركين مجنبتان، ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. قالوا: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ميمنة وميسرةً، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب. والرماة يحمون ظهورهم، يرشقون خيل المشركين بالنبل، فتولى هوارب. قال بعض الرماة: لق درمقت نبلنا، ما رأيت سهماً واحداً مما نرمي به خيلهم يقع بالأرض إلا في فرسٍ أو رجلٍ قالوا: ودنا القوم بعضهم من بعض، وقدموا صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بين أكتافهم يضربن بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرضن ويذمرن الرجال ويذكرون من أصيب ببدر ويقلن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وصاح طلحة بن أبي طلحة: من يبارز؟ فقال علي عليه السلام: هل لك في البراز؟ قال طلحة: نعم. فبرزا بين الصفين. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسٌ تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا فبدره علي فضربه على رأسه، فمضى السيف حتى فلق هامته حتى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة وانصرف علي عليه السلام. فقيل لعلي: ألا ذففت عليه؟ قال: إنه لما صرع استقبلتني عورته فعطفني عليه الرحم، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى سيقتله هو كبش الكتيبة.
ويقال حمل عليه طلحة، فاتقاه علي بالدرقة فلم يصنع سيفه شيئاً. وحمل عليه علي عليه السلام، وعلى طلحة درع مشمرة، فضرب ساقيه فقطع رجليه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله بالرحم فتركه علي فلم يذفف عليه، حتى مر به بعض المسلمين فذفف عليه. ويقال إن عليا ذفف عليه. فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأظهر التكبير، وكبر المسلمون. ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون حتى نقضت صفوفهم، وما قتل إلا طلحة. ثم حمل لواءهم بعد طلحة عثمان بن أبي طلحة، أبو شيبة، وهو أمام النسوة، يرتجز ويقول:
إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا
فتقدم باللواء، والنساء يحرضن ويضربن بالدفوف، وحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، حتى انتهى إلى مؤتزره حتى بدا سحره، ثم رجع وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج! ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته، وكان دارعاً وعليه مغفر لا رفرف له، فكانت حنجرته بادية، فأدلع لسانه إدلاع الكلب. ويقال: إن أبا سعد لما حمل اللواء قام النساء خلفه يقلن:
ضرباً بني عبد الدار ... ضرباً حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
فقال سعد بن أبي وقاص: فأضربه فأقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرى، فأحمل على يده اليسرى فضربتها فقطعتها، فأخذ اللواء بذراعيه جميعاً فضمه إلى صدره، ثم حنى عليه ظهره. قال سعد: فأدخل سية القوس بين الدرع والمغفر فأقلع المغفر فأرمي به وراء ظهره ثم ضربته حتى قتلته، ثم أخذت أسلبه درعه، فنهض إلى سبيع بن عبد عوف ونفرٌ معه فمنعوني سلبه. وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين درع فضفاضة، ومغفر، وسيف جيد، ولكن حيل بيني وبينه. وهذا أثبت القولين، وهكذا اجتمع عليه، أن سعداً قتله.
ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وقال: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد وهي مع النساء، فقالت: من أصابك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! قالت سلافة: أقلحي والله! أي من رهطي.
ويقال قال: خذها وأنا ابن كسرة كانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب. فقال لأمه حين سألته من قتلك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن كسرة! قالت سلافة: إحدى والله كسرى! تقل: إنه رجلٌ منا. فيومئذٍ نذرت أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر، وجعلت تقول: لمن جاء به مائة من الإبل.
ثم حمله كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله الزبير بن العوام، ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله، ثم حمله أرطاة بن شرحبيل، فقتله علي عليه السلام، ثم حمله شريح بن قارظ، فلسنا ندري من قتله، ثم حمله صواب غلامهم، فاختلف في قتله، فقائل قال سعد بن أبي وقاص، وقائلق علي عليه السلام، وقائلٌ قزمان وكان أثبتهم عندنا قزمان. قال: انتهى إليه قزمان، فحمل عليه فقطع يده اليمنى، فاحتمل اللواء باليسرى، ثم قطع اليسرى فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه، ثم حنى عليه ظهره، وقال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟ فحمل عليه قزمان فقتله.
وقالوا: ما ظفر الله نبيه في موطنٍ قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد، حتى عصوا الرسول وتنازعوا في الأمر. لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح حيث التقينا. قال الواقدي: وقد روي كثير من الصحابة ممن شهد أحداً، قال كل واحد منهم والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شيءٌ لمن أراد ذلك. وكلما أتى خالد من قبل ميسرة النبي صلى الله عليه وسلّم ليجوز حتى يأتي من قبل السفح فرده الرماة، حتى فعلوا ذلك مراراً، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوعز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هذا، فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا لا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون، يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهضوهم عن العسكر، ووقعوا ينتهبون العسكر،قال بعض الرماة لبعض: لم تقيمون ها هنا في غير شيءٍ؟ قد هزم الله العدو وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغتموا مع إخوانكم فقال: بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لكم: " احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا " ؟ فقال الآخرون لم يرد رسول الله هذا، وقد أذل الله المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير وكان يومئذٍ معلماً بثياب بيض فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسول صلى الله عليه وسلّم، وألا يخالف لرسول الله أمرٌ فعصوا وانطلقوا، فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا نفير ما يبلغون العشرة، فيهم الحارث بن أنس بن رافع، يقول: يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم. قال: فأبوا وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل وجعلوا ينتهبون، وانتقضت صفوف المشركين واستدارت رجالهم، وحالت الريح، وكانت أول النهار إلى أن رجعوا صباً، فصارت دبوارً حيث المشركون، بينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم.
قال نسطاس مولى صفوان بن أمية، وكان أسلم فحسن إسلامه: كنت مملوكاً فكنت فيمن خلف في العسكر، ولم يقاتل يومئذٍ مملوكٌ إلا وحشى، وصواب غلام بني عبد الدار. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، خلفوا غلمانكم على متاعكم يكونون هم الذين يقومون على رحالكم. فجمعنا بعضها إلى بعض، وعقلنا الإبل، وانطلق القوم على تعبيتهم ميمنةً وميسرةً، وألبسنا الرحال الأنطاع. ودنا القوم بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا ساعة ثم إذا أصحابنا منهزمون، فدخل أصحاب محمد عسكرنا ونحن في الرحال، فأحدقوا بنا، فكنت فيمن أسروا. وانتهبوا العسكر أقبح انتهاب، حتى إن رجلاً منهم قال: أين مال صفوان بن أمية؟ فقلت: ما حمل إلا نفقة، هي في الرحل. فخرج يسوقني حتى أخرجتها من العيبة خمسين ومائة مثقال. وقد ولي أصحابنا وأيسنا منهم، وانحاش النساء، فهن في حجرهن سلمٌ لمن أرادهن. وصار النهب في أيدي الرجال، فإنا لعلي ما نحن عليه من الاستسلام إلى أن نظرت إلى الجبل، فإذا الخيل مقبلة فدخلوا العسكر فلم يكن أحدٌ يردهم، قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاءوا إلى النهب والرماة ينتهبون، وأنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم وجعابهم، كل رجل منهم في يديه أو حضنه شيءٌ قد أخذه، فلما دخلت خيلنا دخلت على قومٍ غارين آمنين، فوضعوا فيهم السيوف فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً. وتفرق المسلمون في كل وجهٍ، وتركوا ما انتهبوا وأجلوا عن عسكرنا، فرجعنا متاعنا بعد فما فقدنا منه شيئاً، وخلوا أسرانا، ووجدنا الذهب في المعرك. ولقد رأيت رجلاً من المسلمين ضم صفوان بن أمية إليه ضمة ظننت أنه سيموت حتى أدركته به رمقٌ، فوجأته بخنجر معي فوق، فسألت عنه بعد فقيل: رجلٌ من بني ساعدة. ثم هداني الله عز وجل بعد للإسلام.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، قال: ما علمنا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذين أغاروا على النهب، فأخذوا ما أخذوا من الذهب، بقي معه من ذلك شيءٌ رجع به حيث غشنا المشركون واختلطوا إلا رجلين: أحدهما عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح، جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون ديناراً، فشدها على حقويه من تحت ثيابه، وجاء عباد بن بشر بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالاً، ألقاها في جيب قميصه، وعليه قميص والدرع فوقها قد حزم وسطه. فأتيا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد، فلم يخمسه ونفلهما إياه.
قال رافع بن خديج: فلما انصرف الرماة وبقي من بقي، نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل، فانطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم. فراموا القوم حتى أصيبوا، ورامى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وأقبل جعال بن سراقة وأبو بردة بن نيار، وكانا قد حضرا قتل عبد الله بن جبير، وهما آخر من انصرف من الجبل حتى لحقا القوم، وإن المشركين على متون الخيل، فانتقضت صفوفنا. ونادى إبليس وتصور في صورة جعال بن سراقة: إن محمداً قد قتل! ثلاث صرخات. فابتلي يومئذٍ جعال بن سراقة بيلية عظيمةٍ حين تصور إبليس في صورته، وإن جعال ليقاتل مع المسلمين أشد القتال، وإنه إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوات بن جبير، فوالله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا. وأقبل المسلمون على جعال بن سراقة يريدون قتله يقولون: هذا الذي صاح إن محمداً قد قتل. فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة بن نيار أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح، وأن الصائح غيره. قال رافع: وشهدت له بعد.
يقول رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون، وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً، ما يشعرون به من العجلة والدهش، ولقد جرح يومئذٍ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدري، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! قال: وكر أبو زعنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر إنه ليقول: خذها وأنا أبو زعنة! حتى عرفه بعد. فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما صنعت بي. فيقول له أبو زعنة: أنت ضربت أسيد بن حضير ولا تشعر، ولكن هذا الجرح في سبيل الله. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقل صلى الله عليه وسلّم: هو في سبيل الله، يا أبا بردة، لك أجره حتى كأنه ضربك أحدٌ من المشركين، ومن قتل فهو شهيدٌ.
وكان اليمان حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين كبيرين، قد رفعا في الآطام مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك، ما نستبقي من أنفسنا، فوالله ما نحن إلا هامة اليوم أو غداً، فما بقي من أجلنا قد ظمء دابة. فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم، نعل الله يرزقنا الشهادة قال: فلحقا برسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد من النهار. فأما رفاعة فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فالتقت عليه سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه، حين اختلطوا وحذيفة يقول: أبي! أبي! حتى قتل فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم! فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيراً، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته أن تخرج. ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، فتصدق حذيفة بن اليمان بدمه على المسلمين.
وأقبل يومئذٍ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة! فأقبلوا عنقاً واحدةً: لبيك داعي الله! لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربةً في رأسه مثقلةً وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت! أمت! فكف بعضهم عن بعض.
فحدثني الزبير بن سعد، عن عبد الله بن الفضلن قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير اللواء، فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لمصعب في آخر النهار: تقدم يا مصعب! فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه ملك أيد به. وسمعت أبا معشر يقول مثل ذلك.
فحدثتني عبيدة بنت نائل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد ابن أبي وقاص، فال: لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذٍ فيرده علىّ رجلٌ أبيض حسن الوجه، لا أعرفه حتى كان بعد فظننت أنه ملك.
حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد رأيت رجلين عليهما ثياب بيض، أحدهما عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلّم والآخر عن يساره، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.
حدثني عبد الملك بن سليم، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. قال عبيد بن عمير: ولم تقاتل الملائكة يوم أحد.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الحميد بن سهيل، عن عمر بن الحكم قال: لم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد بملك واحد، إنما كانوا يوم بدر.
حدثني ابن خديج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مثله.
حدثني معمر بن راشد، عن ابن أبي لحيح، عن مجاهد، قال: حضرت الملائكة يومئذٍ ولم تقاتل.
حدثني سفيان بن سعيد، عن عبد الله بن عثمان، عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
حدثني ابن أبي سبرة، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: قد وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذٍ.
حدثني يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، عن أبي بشير المازني، قال: لما صاح الشيطان أزب العقبة إن محمداً قد قتل، لما أراد الله عز وجل من ذلك، سقط في أيدي المسلمين وتفرقوا في كل وجه، وأصعدوا في الجبل. فكان أول من بشرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سالمٌ كعب بن مالك. قال كعب: فجعلت أصيح، ويشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإصبعه على فيه أن اسكت.
فحدثني موسى بن شيبة بن عمرو بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أبيها، قال: لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبشرت به المؤمنين حياً سوياً. قال كعب: وأنا في الشعب. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كعباً بلامته وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونزع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمته فلبسها كعب. وقاتل كعب يومئذٍ قتالاً شديداً حتى جرح سبعة عشر جرحاً.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ، فعرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت: يا معشر الأنصار، أبشروا! هذا رسول الله! فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن اصمت.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن الأعرج، قال: لما صاح الشيطان إن محمداً قد قتل، قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، إيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعرك هل يرى محمداً بين القتلى، فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بلحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف. قال: ثم مر بذكوان ابن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابن عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت محمد بن مسلمة يقول: سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول يومئذٍ، وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه، وإنه ليقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله! فما عرج منهما واحدٌ عليه ومضيا.
حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم، واسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول: الحمد لله الذي هداني للإسلام! لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب رحمه الله حين جالوا وانهزموا يوم أحد، وما معه أحدٌ، وإني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحدٌ غيري، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه موجهاً إلى الشعب.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذٍ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا! وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى جنبه، ما معه أحدٌ، ثم جاوزه، ولقي عبد الله ابن شهاب صفوان بن أمية، فقال صفوان: ترحت، ألم يمكنك أن تضرب محمداً فتقطع هذه الشأفة، فقد أمكنك الله منه؟ قال: وهل رأيته؟ قال: نعم، أنت إلى جنبه. قال: والله ما رأيته. أحلف بالله إنه مناً ممنوعٌ، خرجنا أربعةً تعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن نملة بن أبي نملة واسم أبي نملة عبد الله بن معاذ، وكان أبوه معاذ أخاً للبراء بن معرور لأمه فقال: لما نكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما معه أحدٌ إلا نفير، فأحدق به أصحابه من المهاجرين والأنصار وانطلقوا به إلى الشعب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ولا فئةٌ، ولا جمعٌ، وإن كتائب المشركين لتحوشهم مقبلةً ومدبرةً في الوادي، يلتقون ويفترقون، ما يرون أحداً من الناس يردهم. فاتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنظر إليه وهو يوم أصحابه، ثم رجع المشركون نحو عسكرهم وتآمروا في المدينة وفي طلبنا، فالقوم على ما هم عليه من الاختلاف. وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه، فكأنهم لم يصبهم شيءٌ حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سالماً.
حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه، قال: حمل مصعب اللواء فلما جال المسلمون ثبت به، فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضرب يده اليمنى فقطعها، وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل " . وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه فقطع يده اليسرى، فحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية. ثم حمل عليه الثالثة فأنفذه واندق الرمح، ووقع مصعب وسقط اللواء، وابتدره رجلان من بني عبد الدار، سويبط بن حرملة وأبو الروم، وأخذه أبو الروم فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، عن المقداد، قال: لما تصاففنا للقتال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت راية مصعب بن عمير، فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الأولى، وأغار المسلمون على عسكرهم فانتهبوا، ثم كروا على المسلمين فأتوا من خلفهم فتفرق الناس، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحاب الألوية، فأخذ اللواء مصعب بن عمير ثم قتل. وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قائمٌ تحتها، وأصحابه محدقون به. ودفع لواء المهاجرين إلى أبي الروم العبدري آخر النهار، ونظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير، فناوشوهم ساعةً واقتتلوا على الاختلاط من الصفوف. ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزى، يا آل هبل! فأوجعوا والله فينا قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما نالوا. لا والذي بعثه بالحق، إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم زال شبراً واحداً، إنه لفي وجه العدو، وتثوب إليه طائفةٌ من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة، فربما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا. وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما هو في عصابةٍ صبروا معه، أربعة عشر رجلاً، سبعةٌ من المهاجرين وسبعةٌ من الأنصار: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. ويقال ثبت سعد بن عبادة، ومحمد ابن مسلمة، فيجعلونهما مكان أسيد بن حضير وسعد بن معاذ. وبايعه يومئذٍ ثمانيةٌ على الموت ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار: علي، والزبير، وطلحة عليهم السلام، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب ابن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحدٌ. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى قريب من المهراس.
وحدثني عتبة بن جبيرة، عن يعقوب بن عمرو بن قتادة، قال: ثبت بين يديه يومئذٍ ثلاثون رجلاً كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما لحمه القتال وخلص إليه، وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: من رجلٌ يشري نفسه؟ فوثب فئة من الأنصار خمسةٌ، منهم عمارة بن زياد بن السكن، فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئةٌ من المسلمين فقاتلوا حتى أجهضوا أعداء الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمارة بن زياد: ادن مني! إلي، إلي! حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدمه وبه أربعة عشر جرحاً، حتى مات. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ يذمر الناس ويحضهم على القتال، وكان رجالٌ من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي، منهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول لسعد بن أبي وقاص: ارم، فداك أبي وأمي! ورمي حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وجاءت يومئذٍ تسقى الجرحى فعقلها وانكشف عنها، فاستغرب في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له فقال: ارم! فوقع السهم في ثغرة نحر حبان فوقع مستلقياً وبدت عورته. قال سعد: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صحك يومئذٍ وسدد رميتك! ورمي يومئذٍ مالك بن زهير الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي، وكان هو وحبان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأكثرا فيهم القتل بالنبل، يتستران بالصخر ويرميان المسلمين. فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير وراء صخرة، قد رمى وأطلع رأسه، فيرميه سعد فأصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه، فنزا في السماء قامةً ثم رجع فسقط فقتله الله عز وجل.
ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ عن قوسه حتى صارت شظايا، فأخذها قتادة بن النعمان وكانت عنده. وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. قال قتادة بن النعمان: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: أي رسول الله، إن تحتي امرأةً شابة جميلة أحبها وتحبني وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني. فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فردها فأبصرت وعادت كما كانت، فلم تضرب عليه ساعةً من ليلٍ ولا نهار، وكان يقول بعد أن أسن: هي والله أقوى عيني! وكانت أحسنهما.
وباشر رسول الله صلى الله عليه وسلّم القتال، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه، وقبل ذلك انقطع وتره، وبقيت في يده قطعةٌ تكون شبراً في سية القوس، وأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له، فقال: يا رسول الله، لا يبلغ الوتر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مده، يبلغ! قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرمى القوم، وأبو طلحة أمامهم يستره مترساً عنه، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت، فأخذها قتادة بن النعمان. وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثر كنانته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم وكان رامياً وكان صيتاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من أربعين رجلاً. وكان في كنانته خمسون سهماً، فنثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جعل يصيح: يا رسول الله، نفسي دون نفسك! فلم يزل يرمي بها سهماً سهماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطلع رأسه خلف أبي طلحة بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله، وهو يقول: نحرى دون نحرك، جعلني الله فداك! فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم يا أبا طلحة! فيرمي بها سهماً جيداً.
وكان الرماة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم المذكور منهم: سعد بن أبي وقاص، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمقداد بن عمرو، وزيد بن حارثة، وحاطب بن أبي بلتعة، وعتبة بن غزوان، وخراش بن الصمة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وبشر بن البراء بن معرور، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، وأبو طلحة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقتادة بن النعمان.
ورمى يومئذٍ أبو رهم الغفاري بسهمٍ فوقع في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبصق عليه فبرأ، وكان أبو رهم يسمى المنحور.
وكان أربعةٌ من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرفهم المشركون بذلك عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة، وأبي بن خلف. ورمى عتبة يومئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأربعة أحجارٍ وكسر رباعيته أشظى باطنها، اليمنى السفلى وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر في وجنته وأصيبت ركبتاه فجحشتا. وكانت حفرٌ حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً على بعضها ولا يشعر به. والثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابن قميئة، والذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. وأقبل ابن قميئة وهو يقول: دلوني على محمد، فو الذي يحلف به، لئن رأيته لأقتلنه! فعلاه بالسيف، ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل السيف، وكان عليه صلى الله عليه وسلّم درعان، فوقع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحفرة التي أمامه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئاً إلا وهن الضربة بثقل السيف، فقد وقع لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وانتهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطلحة يحمله من ورائه، وعلى آخذٌ بيديه حتى استوى قائماً.
حدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، عن أبي بشير المازني، قال: حضرت يوم أحد وأنا غلامٌ، فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسيف، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقع على ركبتيه في حفرةٍ أمامه حتى توارى، فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه. قال: فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذاً بحضنه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ويقال إن الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جبهته ابن شهاب، والذي أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص، والذي رمى وجنتيه حتى غاب الحلق في وجنتيه ابن قميئة، وسال الدم في شجته التي في جبهته حتى أخضل الدم لحيته صلى الله عليه وسلّم. وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله عز وجل: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم.. " الآية.
وقال سعد بن أبي وقاص: سمعته يقول: اشتد غضب الله على قومٍ أدموا فا رسول الله، اشتد غضب الله على قومٍ أدموا وجه رسول الله، اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله! قال سعد: فقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولقد حرصت على قتله حرصا ًما حرصته على شيء قط وإن كان ما علمته لعاقاً بالوالد سيىء الخلق. ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله، ولكن راغ مني روغان الثعلب، فلما كان الثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا عبد الله ما تريد؟ تريد أن تقتل نفسك؟ فكففت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم لا يحولن الحول على أحدٍ منهم! قال: والله، ما حال الحول على أحدٍ ممن رماه أو جرحه! مات عتبة، وأما ابن قميئة فإنه اختلف فيه. فقائل يقول قتل في المعرك، وقائل يقول إنه رمى يوم أحد بسعن. فأصاب مصعب بن عمير فقال: خذها وأنا ابن قميئة! فقتل مصعباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أقمأه الله! فعمد إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرنها وهو معتقلها فقتلته، فوجد ميتاً بين الجبال، لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان عدو الله قد رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو رجل من بني الأدرم من بني فهر.
ويقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على تلك الحال، يركض فرسه مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن زهير، دلوني على محمد، فو الله لأقتلنه أو لأموتتن دونه! فتعرض له أبو دجانة فقال: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه! فضرب فرسه فعرقبها، فاكتسعت الفرس، ثم علاه بالسيف وهو يقول: خذها وأنا ابن خرشة! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إليه يقول: اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راضٍ.
حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: لما كان يوم أحد ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنسانٌ قد أقبل من قبل المشرق يطير طيراناً، فقلت: اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله! حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبو عبيد ة بن الجراح، فبدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني، فأنزعه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال أبو بكر: فتركته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عليكم صاحبكم! يعني طلحة بن عبيد الله. فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر فنزعها، وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم.
ويقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عقبة بن وهب بن كلدة، ويقال أبو اليسر وأثبت ذلك عندنا عقبة ابن وهب بن كلدة.
وكان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصيب وجهه يوم أحد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل مالك بن سنان يملج الدم بفيه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. فقيل لمالك: تشرب الدم؟ فقال: نعم، أشرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من مس دمه دمي، لم تصبه النار. قال أبو سعيد: فكنا ممن رد من الشيخين، لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار وبلغنا مصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتفرق الناس عنه، جئت مع غلمان من بني خدرة نعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وننظر إلى سلامته فنرجع بذلك إلى أهلنا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن لنا همة إلا النبي صلى الله عليه وسلّم ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم، بأبي وأمي! فدنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه. ثم قال: آجرك الله في أبيك! ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجةٌ في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمي، وإذا رباعيته اليمنى شظية، فإذا على جرحه شيءٌ أسود. فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصيرٌ محرقٌ. وسألت: من دمي وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة. فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملاً، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكىء على السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ حتى دخل بيته. فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران يكمدون بها الجراح. ثم أذن بلالٌ بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجلس بلالٌ عند بابه حتى ذهب ثلث الليل ثم ناداه: الصلاة، يا رسول الله! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد كان نائماً. قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه، يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي صلى الله عليه وسلّم يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر.
قالوا: وخرجت فاطمة في نساءٍ، وقد رأت الذي بوجهه صلى الله عليه وسلّم فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم. فأتي بماءٍ في مجنه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشرب منه وكان قد عطش فلم يستطع، ووجد ريحاً من الماء كرهها فقال: هذا ماءٌ آجنٌ. فمضمض منه فاه للدم في فيه، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها. ولما أبصر النبي صلى الله عليه وسلّم سيف علي عليه السلام مختضباً قال: إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم. فلم يطق أن يشرب منه، فخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم.
قال كعب بن مالك: رأيت أم سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها يوم أحد، وكانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت أم أيمن تسقي الجرحى. فلما لم يجد محمد بن مسلمة عندهم ماءً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد عطش يومئذٍ عطشاً شديداً، ذهب محمد إلى قناة وأخذ سقاءه حتى استقى من حسىٍ قناة عند قصور التيميين اليوم فأتي بماءٍ عذبٍ فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير. وجعل الدم لا ينقطع، وجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن. فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل الدم، وعلي عليه السلام يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم. ويقال إنها داوته بصوفةٍ محترقة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد يداوي الجرح الذي في وجهه بعظمٍ بالٍ حتى يذهب أثره، ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهراً أو أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي بوجهه بعظمٍ بالٍ.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما كان يوم أحد أقبل أبي بن خلف يركض فرسه، حتى إذا دنا من النبي صلى الله عليه وسلّم اعترض له ناسٌ من أصحابه ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: استأخروا عنه! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحربته في يده فرماه ما بين سابغة البيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع أبي عن فرسه، فكسر ضلعٌ من أضلاعه، واحتملوه ثقيلاً حتى ولوا قافلين فمات بالطريق، ونزلت فيه: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " .
فحدثني يونس بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر، عن عبد الله ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه، وكان أسر يوم بدر، فقال: يا محمد، إن عندي فرساً لي أجلها فرقاً من ذرةٍ كل يوم، أقتلك عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بل، أنا أقتلك عليها إن شاء الله. ويقال قال ذلك بمكة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلمته بالمدينة فقال: أنا أقتله عليها إن شاء الله.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في القتال لا يلتفت وراءه، فكان يقول لأصحابه: إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي، فإذا رأيتموه فآذنوني به. فإذا بأبي يركض على فرسه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمد، لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، ما كنت صانعاً حين يغشاك! فقد جاءك، وإن شئت عطف عليه بعضنا. فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ودنا أبي فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث ابن الصمة. ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير، فتطايرنا عنه تطاير الشعارير، ولم يكن أحدٌ يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحربة في عنقه وهو على فرسه، فجعل يخور كما يخور الثور. ويقول له أصحابه: أبا عامر، والله ما بك بأسٌ، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره.
قال: واللات والعزى، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون! أليس قال: لأقتلنك؟ فاحتملوه وشغلهم ذلك عن طلب النبي صلى الله عليه وسلّم، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعظم أصحابه في الشعب، ويقال تناول الحربة من الزبير بن العوام.
وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجج، فهبتها، وإذا رجلٌ يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجلٌ يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله، هذا أبي بن خلف. فقلت: ألا سحقاً! ويقال مات بسرف. ويقال لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير وجهه، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرجةً بين سابغة والبيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور. قال: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يحضر فرساً له أبلق، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعليه لأمةٌ له كاملةٌ، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم موجهٌ إلى الشعب، وهو يصيح: لا نجوت إن نجوت! فيقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويعثر به فرسه في بعض تلك الحفر التي كانت حفر أبو عامر، فيقع الفرس لوجهه، وخرج الفرس عائراً فأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيعقرونه، ويمشي إليه الحارث بن الصمة فتضاربا ساعةً بسيفين، ثم يضرب الحارث رجله وكانت الدرع مشمرة فبرك وذفف عليه. وأخذ الحارث يومئذٍ درعاً جيدة ومغفراً وسيفاً جيداً، ولم يسمع بأحدٍ سلب يومئذٍ غيره. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إلى قتالهما وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرجل، فإذا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، فقال: الحمد لله الذي أحانه. وكان عبد الله بن جحش أسره ببطن نخلة حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتدى فرجع إلى قريش حتى غزا أحداً فقتل به. ويرى مصرعه عبيد بن حاجز العامري عامر بن لؤي فأقبل يعدو كأنه سبع، فيضرب الحارث بن الصمة ضربةً جرحه على عاتقه، فوقع الحارث جريحاً حتى احتمله أصحابه. ويقبل أبو دجانة على عبيد فتناوشا ساعة من نهار، وكل واحد منهما يتقي بالدرقة ضرب السيف، ثم حمل عليه أبو دجانه فاحتضنه، ثم جلد على الأرض، ثم ذبحه بالسيف كما تذبح الشاة، ثم انصرف فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقالوا: إن سهل بن حنيف جعل ينضح بالنبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نبلوا سهلاً فإنه سهلٌ! ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي الدرداء، والناس منهزمون كل وجه، فقال: نعم الفارس عويمر قال الواقدي: غير أنه يقال لم يشهد أحداً.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث بن علقمة، ولقي أحد بني عوف فاختلفا ضربات، كل ذلك يروغ أحدهما عن صاحبه. قال: فنظر إليهما كأنهما سبعان ضاريان، يقفان مرة ويقتتلان مرة، ثم تعانقا فضبط أحدهما صاحبه فوقعا للأرض، فعلاه أبو أسيرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة، ونهض عنه. ويقبل خالد بن الوليد، وهو على فرس أدهم أغر محجل، يجر قناة طويلة، فطعنه من خلفه، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره، ووقع أبو أسيرة ميتاً، وانصرف خالد بن الوليد يقول: أنا أبو سليمان! قالوا: وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذٍ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قتالاً شديداً، فكان طلحة يقول: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين انهزم أصحابه، وكر المشركون وأحدقوا بالنبي صلى الله عليه وسلّم من كل ناحية، فما أدرى أقوم من بين يديه أو من ورائه، أو عن يمينه أو عن شماله، فأذب بالسيف من بين يديه مرة وأخرى من وراءه حتى انكشفوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ لطلحة: قد أنحب! وقال سعد بن أبي وقاص وذكر طلحة فقال: يرحمه الله، إنه كان أعظمنا غناءً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد! قيل: كيف يا أبا إسحاق؟ قال: لزم النبي صلى الله عليه وسلم وكنا نتفرق عنه ثم نثوب إليه، لقد رأيته يدور حول النبي صلى الله عليه وسلّم يترس بنفسه.
وسئل طلحة: يا أبا محمد، ما أصاب إصبعك؟ قال: رمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان لا تخطىء رميته، فاتقيت بيدي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأصاب خنصري. فشك فشل إصبعه. وقال حين رماه. حس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لو قال بسم الله لدخل الجنة والناس ينظرون! من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله، طلحة ممن قضى نحبه.
وقال طلحة: لما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا، أقبل رجلٌ من بني عامر بن لؤي بن مالك بن المضر يجر رمحاً له، على فرس كميت أغر، مدججاً في الحديد، يصيح: أنا أبو ذات الودع، دلوني على محمد! فأضرب عرقوب فرسه فانكسعت، ثم أتناول رمحه فوالله ما أخطأت به عن حدقته، فخار كما يخور الثور، فما برحت به واضعاً رجلي على خده حتى أزرته شعوب. وكان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة، ضربه رجلٌ من المشركين ضربتين، ضربة وهو مقبل والأخرى وهو معرض عنه، وكان قد نزف منها الدم. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد فقال: عليك بابن عمك! فأتي طلحة بن عبيد الله وقد نزف الدم، فجعلت أنضح في وجهه الماء وهو مغشيٌّ عليه، ثم أفاق فقال: ما فعل رسول الله؟ فقلت: خيراً، هو أرسلني إليك. قال: الحمد لله، كل مصيبةٍ بعده جللٌ.
وكان ضرار بن الخطاب الفهري يقول: نظرت إلى طلحة بن عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرةٍ، فنظرت إلى المصلبة في رأسه. فقال ضرار: أنا والله ضربته هذه، استقبلني فضربته ثم أكر عليه وقد أعرض فأضربه أخرى.
وقالوا: لما كان يوم الجمل وقتل علي عليه السلام من قتل من الناس ودخل البصرة، جاءه رجلٌ من العرب فتكلم بين يديه، ونال من طلحة فزبره علي وقال: إنك لم تشهد يوم أحد وعظم غنائه في الإسلام مع مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فانكسر الرجل وسكت، فقال رجلٌ من القوم: وما كان غناؤه وبلاوه يوم أحد يرحمه الله؟ فقال علي: نعم، يرحمه الله! فلقد رأيته وإنه ليترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإن السيوف لتغشاه والنبل من كل ناحية، وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال قائل: إن كان يوماً قد قتل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصاب رسول الله فيه الجراحة. فقال علي عليه السلام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل. قال ابن أبي الزناد: نحص الجبل أسفله. ثم قال علي عليه السلام: لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبهم في ناحية، وإن أبا دجانة لفي ناحيةٍ يذب طائفة منهم، وإن سعد بن أبي وقاص يذب طائفة منهم، حتى فرج الله ذلك كله. ولقد رأيتني وانفردت منهم يومئذٍ خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخلت وسطها بالسيف فضربت به واشتملوا علي حتى أفضيت إلى آخرهم، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت، ولكن الأجل استأجر ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قال الواقدي: وحدثني جابر بن سليم، عن عثمان بن صفوان، عن عمارة بن خزيمة، قال: حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وإنه ليحوشهم يومئذٍ كما تحاش الغنم، ولقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل. ثم برز والسيف في يده وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون منه إلى جمعٍ منهم، وصار الحباب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وكان الحباب يومئذٍ معلماً بعصابةٍ خضراء في مغفره.
وطلع يومئذٍ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس، مدججاً لا يرى منه إلا عيناه، فقال: من يبارز؟ أنا عبد الرحمن بن عتيق. قال: فنهض إليه أبو بكر فقال: يا رسول الل، أبارزه. وقد جر أبو بكر سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: شم سيفك وراجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما وجدت لشماس بن عثمان شبهاً إلا الجنة يعني مما يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يرمي يميناً ولا شمالاً إلا رأى شماساً في ذلك الوجه يذب بسيفه. حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فترس بنفسه دونه حتى قتل، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم: ما وجدت لشماس شبهاً إلا الجنة.
وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار، وقد بلغوا بني حارثة فرجعو سراعاً، فصادفوا المشركين في كرتهم فدخلوا في حومتهم، وما أفلت منهم رجلٌ حتى قتلوا. ولقد ضاربهم قيس بن محرث وامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفراً، فما قتلوه إلا بالرماح، نظموه، ولقد وجد به أربع عشرة طعنةً قد جافته، وعشر ضربات في بدنه.
وكان عباس بن عبادة بن نضلة، وخارجة بن زيد بن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، وعباس رافع صوته يقول: يا معشر المسلمين، الله ونبيكم! هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم، فيوعدكم النصر فما صبرتم! ثم نزع مغفره عن رأسه وخلع درعه فقال لخارجة بن زيد: هل لك في درعي ومغفري؟ قال خارجة: لا، أنا أريد الذي تريد. فخالطوا القوم جميعاً، وعباس يقول: ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول الله ومنا عين تطرف؟ يقول خارجة: لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة. فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي، ولقد ضربه عباس ضربتين فجرحه جرحين عظيمين، فارتث يومئذٍ جريحاً فمكث جريحاً سنةً ثم استبل. وأخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحاً، فمر به صفوان ابن أمية فعرفه فقال: هذا من أكابر أصحاب محمد وبه رمقٌ! فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم.
وقال صفوان بن أمية: من رأى خبيب بن يساف؟ وهويطلبه ولا يقدر عليه. ومثل يومئذٍ بخارجة وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر يعني أمية بن خلف الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل، وقتلت ابن أبي زهير: وقتلت أوس بن أرقم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه؟ قال: يضرب به العدو. فقال عمر: أنا. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك الشرط، فقام الزبير فقال: أنا. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى وجد عمر والزبير في أنفسهما. ثم عرضه الثالثة، فقال أبو دجانة: أنا يا رسول الله آخذه بحقه. فدفعه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فصدق به حين لقي العدو، وأعطى السيف حقه. فقال أحد الرجلين إما عمر وإما الزبير: والله لأجعلن هذا الرجل من شأني، الذي أعطاه النبي السيف ومنعنيه. قال: فاتبعته. قال: فوالله ما رأيت أحداً قاتل أفضل من قتاله، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا يحيك عمد به إلى الحجارة فشحذه، ثم يضرب به في العدو حتى رده كأنه منجل. وكان حين أعطاه السيف مشى بين الصفين واختال في مشيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين رآه يمشي تلك المشية: إن هذه لمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يعلمون في الزحوف، أحدهم أبو دجانة، كان يعصب رأسه بعصابةٍ حمراء، وكان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال، وكان علي عليه السلام يعلم بصوفةٍ بيضاء، وكان الزبير يعلم بعصابةٍ صفراء، وكان حمزة يعلم بريش نعامة.
قال أبو دجانة: إني لأنظر يومئذٍ إلى امرأةٍ تقذف الناس وتحوشهم حوشاً منكراً، فرفعت عليها السيوف وما أحسبها إلا رجلاً. قال: وأكره أن أضرب بسيف رسول الله امرأة! والمرأة عمرة بنت الحارث.
وكان كعب بن مالك يقول: أصابني الجراح يوم أحد، فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين أشد المثلى وأقبحه، قمت فتجاوزت عن القتلى حتى تنحيت، فإني لفي موضعي، إذ أقبل خالد بن الأعلم العقيلي جامع اللأمة يحوز المسلمين يقول: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم! مدججاً في الحديد يصيح: يا معشر قريش، لا تقتلوا محمداً، ائسروه أسيراً حتى نعرفه بما صنع. ويصمد له قزمان، فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها سحره، ثم أخذ سيفه وانصرف. وطلع عليه آخر من المشركين ما رأى منه إلا عينيه، فضربه ضربةً واحدة حتى جزله باثنين. قال: قلنا من هو؟ قال: الوليد بن العاص بن هشام. ثم يقول كعب: إني لأنظر يومئذٍ وأقول: ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع بالسيف! ثم ختم له بما ختم له به. فيقول: ما هو وما ختم له به؟ فقال: من أهل النار، قتل نفسه يومئذٍ.
قال كعب: وإذا رجلٌ من المشركين جامع اللأمة يصيح: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم. وإذا رجلٌ من المسلمين عليه لأمته، فمشيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أكثرهما عدةً وأهبةً. فلم أزل أنظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه بالسيف، فمضى السيف حتى بلغ وركيه، وتفرق المشرك فرقتين. وكشف المسلم عن وجهه فقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
قال: وكان رشيد الفارسي مولى بني معاوية لقي رجلاً من المشركين من بني كنانة مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن عويم! فيعترض له سعدٌ مولى حاطب فضربه ضربةً جزله باثنين ويقبل عليه رشيد فيضربه على عاتقه، فقطع الدرع حتى جزله باثنين، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الفارسي! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ألا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري؟ فيعترض له أخوه، وأقبل يعدو كأنه كلب، يقول:أنا ابن عويم! ويضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر، ففلق رأسه، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أحسنت يا أبا عبد الله! فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ ولا ولد له.
وقال أبو النمر الكناني: أقبلت يوم أحد فقد انكشف المسلمون، وأنا مع المشركين، وقد حضرت في عشرة من إخوتي، فقتل منهم أربعةٌ. وكانت الريح للمسلمين أول ما التقينا، فلقد رأيتني وانكشفنا مولين، وأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم على نهب العسكر، حتى بلغت على قدمي الجماء، ثم كرت خيلنا فقلنا: والله ما كرت الخيل إلا عن أمرٍ رأته. فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل، حتى نجد القوم قد أخذ بعضهم بعضاً، يقاتلون على غير صفوف، ما يدري بعضهم من يضرب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ومع رجل من بني عبد الدار لواءنا. وأسمع شعار أصحاب محمد بينهم: أمت! أمت! فأقول في نفسي: ما أمت! وإني لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن أصحابه محدقون به، وإن النبل لتمر عن يمينه وعن شماله وتقصر بين يديه وتخرج من ورائه، ولقد رميت يومئذٍ بخمسين مرماةً فأصبت منها بأسهمٍ بعض أصحابه. ثم هداني الله إلى الإسلام.
فكان عمرو بن ثابت بن وقش شاكاً في الإسلام، فكان قومه يكلمونه في الإسلام فيقول: لو أعلم ما تقولون حقاً ما تأخرت عنه! حتى إذا كان يوم أحد بدا له الإسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد، فأسلم وأخذ سيفه فخرج حتى دخل في القوم، فقاتل حتى أثبت، فوجد في القتلى جريحاً ميتاً، فدنوا منه وهو بآخر رمقٍ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ قال: الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، ثم أخذت سيفي وحضرت، فرزقني الله الشهادة. ومات في أيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنه لمن أهل الجنة.
قالوا: قال الواقدي: فحدثني خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن داود ابن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول، والناس حوله: أخبروني برجلٍ يدخل الجنة لم يصل لله سجدة قط! فيسكت الناص فيقول أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش.
قالوا: وكان مخيريق اليهودي من أحبار اليهود، فقال يوم السبت ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد: يا معشر اليهود، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي، وأن نصره عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت! ثم أخذ سلاحه ثم حضر مع النبي صلى الله عليه وسلّم فأصابه القتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مخيريق خير يهود. وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد قال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله! فهي عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلّم.
وكان حاطب بن أمية منافقاً، وكان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق، شهد أحداً مع النبي صلى الله عليه وسلّم فارتث جريحاً، فرجع به قومه إلى منزله فقال أبوه، وهو يرى أهل الدار يبكون عنده: أنتم والله صنعتم هذا به! قالوا: كيف؟ قال: غررتموه من نفسه حتى خرج فقتل، ثم صار منكم في شيءٍ آخر، تعدونه جنة يدخل فيها، جنة من حرمل! قالوا: قاتلك الله! قال: هو ذاك! ولم يقر بالإسلام.
قالوا: وكان قزمان عديداً في بني ظفر لا يدري ممن هو، وكان لهم حائطاً محباً، وكان مقلاً لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم، تلك التي كانت تكون بينهم. فشهد أحداً فقاتل قتالاً شديداً فقتل ستة أو سبعة، وأصابته الجراح فقيل للنبي صلى الله عليه وسلّم: قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد! قال: من أهل النار. فأتي إلى قزمان فقيل له: هنيئاً لك يا أبا الغيداق الشهادة! قال: بم تبشرون؟ والله ما قاتلنا إلا على الأحساب. قالوا: بشرناك بالجنة. قال: جنة من حرمل، والله ما قاتلنا على جنة ولا على نار، إنما قاتلنا على أحسابنا! فأخرج سهماً من كنانته، فجعل يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره. فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: من أهل النار.
وكان عمرو بن الجموح رجلاً أعرجن فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلّم المشاهد أمثال الأسد أراد بنوه أن يحبسوه وقالوا: أنت رجلٌ أعرج، ولا حرج عليك، وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وسلّم. قال: بخ! يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم! فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولياً، قد أخذ درقته، يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً! فخرج ولحقه بنوه يكلمونه في القعود، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أما أنت، فقد عذرك الله تعالى ولا جهاد عليك. فأبى فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لبنيه: لا عليكم أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. فخلوا عنه فقتل يومئذٍ شهيداً.
فقال أبو طلحة: نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون، ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ضلعه في رجله، يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة! ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً.
وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم خرجت في نسوة تستروح الخبر ولم يضرب الحجاب يومئذٍ، حتى إذا كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بني حارثة إلى الوادي، لقيت هند بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله بن عمرو ابن حرام تسوق بعيراً لها، عليها زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد ابن عمرو، وأخوها عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر. فقالت عائشة: عندك الخبر، فما وراءك؟ فقالت هند: خيراً، أما رسول الله فصالحٌ، وكل مصيبة بعده جلل. واتخذ الله من المؤمنين شهداء، " ورد الله للذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " . قالت: من هؤلاء؟ قالت: أخي، وابن خلاد، وزوجي عمرو بن الجموح. قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها...حل! تزجر بعيرخا، ثم برك بعيرها فقلت: لما عليه! قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك، فزجرته فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعةً إلى أحد فأسرع. فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرتهبذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فإن الجمل مأمور، هل قال شيئاً؟ قالت: إن عمراً لما وجه إلى أحد استقبل القبلة وقال: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً وارزقني الشهادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فلذلك الجمل لا يمضي! إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح. يا هند، ما زالت الملائكة مظلةً على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن. ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى قبرهم، ثم قال: يا هند، قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرو بن الجموح، وابنك خلاد، وأخوك عبد الله. قالت هند: يا رسول الله، ادع الله، عسى أن يجعلني معهم.
قال جابر بن عبد الله: اصطبح ناسٌ الخمر يوم أحد، منهم أبي، فقتلوا شهداء.
قال جابر: كان أبي أول قتيلٍ قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلمي، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل الهزيمة.
قال جابر: لما استشهد أبي جعلت عمتي تبكير، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ما يبكيها؟ ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام وكأني رأيت مبشر بن عبد المنذر يقول: أنت قادمٌ علينا في أيام. فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة. نسرح منها حيث نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى، ثم أحييت. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: هذه الشهادة يا أبا جابر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد. ويقال إنهما وجدا وقد مثل بهما كل المثل، قطعت آرابهما يعني عضواً عضواً فلا تعرف أبدانهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ادفنوهما جميعاً في قبرٍ واحد. ويقال إنما أمر بدفنهما في قبرٍ واحد لما كان بينهما من الصفاء فقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبرٍ واحد. وكان عبد الله بن عمرو بن حرام رجلاً أحمر أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح طويلاً، فعرفا ودخل السيل عليهما، وكان قبرهما مما يلي السيل فحفر عنهما، وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرحٌ في وجهه، فيده على وجهه، فأميطت يده عن جرحه فثعب الدم، فردت إلى مكانها فسكن الدم.
قال جابر: فرأيت أبي في حفرته فكأنه نائم، وما تغير من حاله قليلٌ ولا كثير. فقيل له: أفرأيت أكفانه؟ فقال: إنما كفن في نمرة خمر بها وجهه وعلى رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك وبين وقت دفنه ستة وأربعون سنة. فشاورهم جابر في أن يطيب بمسكٍ، فأبى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وقالوا: لا تحدثوا فيهم شيئاً. ويقال إن معاوية لما أراد أن يجري كظامة والكظامة عينٌ أحدثها معاوية نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيلٌ بأحد فليشهد! فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنون، فأصابت المسحاة رجلاً منهم فثعب دماً. قال أبو سعيد الخدري: لا ينكر بعد هذا منكر أبداً. ووجد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد، ووجد خارجة بن زيد بن أبي زهير وسعد بن الربيع في قبرٍ واحد. فأما قبر عبد الله وعمرو بن الجموح فحول، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرهما، وأما قبر خارجة وسعد بن الربيع فتركا، وذلك لأن مكانهما كان معتزلاً، وسوى عليهما التراب، ولقد كانوا يحفرون التراب، فكلما حفروا فتراً من تراب فاح عليهم المسك.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لجابر: يا جابر، ألا أبشرك؟ قال، قلت: بلى بأبي وأمي؟ قال: فإن الله أحيا أباك. ثم كلمه كلاماً فقال: تمن على ربك ما شئت. فقال: أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك، ثم أحيا فأقتل مع نبيك. قال: إني قد قضيت أنهم لا يرجعون.
قالوا: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة، وهي امرأة غزية بن عمرو، وشهدت أحداً هي وزوجها وابناها، وخرجت، معها شنٌّ لها في أول النهار تريد أن تسقي الجرحى، فقاتلت يومئذٍ وأبلت بلاءً حسناً، فجرحت اثني عشر جرحاً بين طعنةٍ برمحٍ أو ضربةٍ بسيف.
فكانت أم سعد بنت سعد بن ربيع تقول: دخلت عليها فقالت لها: يا خالة، حدثني خبرك. فقالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاءٌ فيها ماءٌ، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعلت أباشر القتال وأدب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح. فرأيت على عاتقها جرحاً له غورٌ أجوف، فقلت: يا أم عمارة، من أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة، وقد ولي الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يصيح: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا؟ فاعترض له مصعب بن عمير وأناس معه، فكنت فيهم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضرباتٍ، ولكن عدو الله كان عليه درعان. قلت: يدك، ما أصابها؟ قالت: أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب ينهزمون بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا، فأخلصت الأنصار، فكنت معهم، حتى انتهينا إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها وأنا أريد عدو الله مسيلمة، فيعترض لي رجلٌ منهم فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت لي ناهيةٌ ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عب الله بن زيد المازني يمسح سيفه بثيابه. فقلت: قتلته؟ قال: نعم. فسجدت شكراً لله.
وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وكان يراها تقاتل يومئذٍ أشد القتال، وإنها لحاجزةٌ ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً. فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر جرحاً. وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلّم: إلى حمراء الأسد! فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم. ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك.
حدثنا عبد الجبار بن عمارة، عن عمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة: قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله! فيقبل رجلٌ على فرسٍ فضربني، وترست له فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره. فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يصيح: يا ابن أم عمارة، أمك، أمك! قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: جرحت يومئذٍ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجلٌ كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اعصب جرحك. فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلّم واقفٌ ينظر، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة.؟ قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هذا ضارب ابنك. قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقدت يا أم عمارة! ثم أقبلنا إليه نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك.
حدثنا يعقوب بن محمد، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطاب، بمروط، فكان فيها مرطٌ واسع جيد، فقال بعضهم: إن هذا المرط لثمن كذا وكذا، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد وذلك حدثنا ما دخلت على ابن عمر. فقال: أبعث به إلى من هو أحق منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد يقول: ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني.
فقال الواقدي: حدثني سعيد بن أبي زيد. عن مروان بن أبي سعيد ابن المعلى، قال: قيل لأم عمارة: هل كن نساء قريش يومئذٍ يقاتلن مع أزواجهن؟ فقالت: أعوذ بالله، ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق. ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، قال: سمعت عبد الله بن زيد ابن عاصم يقول: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما تفرق الناس عنه دنوت منه، وأمي تذب عنه، فقال: يا ابن أم عمارة! قلت: نعم. قال: ارم! فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس، فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً، والنبي صلى الله عليه وسلّم ينظر ويتبسم، فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال: أمك، أمك! اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيتٍ! مقام أمك خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك يعني زوج أمه خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقامك لخيرٌ من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت! قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. قال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
قالوا: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد. وكان قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة! فأشهدت عليه أنه قد دخل بها. وتعلق بعبد الله بن حنظلة، ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس.
وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد وهو يسوي الصفوف، قال: فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة ابن أبي عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس، ويقع أبو سفيان إلى الأرض، فجع يصيح: يا معشر قريش، أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالاً لا يلتفتون إليه من الهزيمة حتى عاينه الأسود بن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه، فمشى حنظلة إليه بالرمح وقد أثبته، ثم ضربه الثانية فقتله. وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش، فنزل عن صدر فرسه وردف وراء أبي سفيان فذلك قول أبي سفيان. فلما قتل حنظلة مر عليه أبوه، وهو مقتولٌ إلى جنب حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش، فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل من قبل هذا المصرع، والله إن كنت لبراً بالوالد، شريف الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم. وإن جزى الله هذا القتيل لحمزة خيراً ، أو أحداً من أصحاب محمد، فجزاك الله خيراً. ثم نادى: يا معشر قريش، حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه فيما يرى خيراً. فمثل بالناس وترك فلم يمثل به.
وكانت هند أول من مثل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وأمرت النساء بالمثل جدع الأنوف والآذان فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان، ومثل بهم كلهم إلا حنظلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماءٍ المزن في صحاف الفضة. قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماءً. قال أبو أسيد: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنبٌ.
وأقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنمٍ لهما من جبل مزينة، فوجدا المدينة خلوفاً فسألا: أين الناس؟ قفالوا: بأحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل المشركين من قريش. فقالا: لا نبتغي أثراً بعد عين. فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلّم بأحد فيجدان القوم يقتتلون، والدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من ورائهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال. فانفرقت فرقةٌ من المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من لهذه الفرقة؟ فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله. فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع، فانفرقت فرقةٌ أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من لهذه الكتيبة؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع المزني. ثم طلعت كتيبةٌ أخرى فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقال: قم وأبشر بالجنة. فقام المزني مسروراً يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل. فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إلى المسلمون، حتى خرج من أقصاهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: اللهم ارحمه! ثم يرجع فيهم فما زال كذلك، وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذٍ عشرون طعنةً برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومثل به أقبح المثل يومئذٍ. ثم قام ابن أخيه فقاتل كنحو قتاله حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني.
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتًى من آلل قابوس من مزينة، فجئت سعداً حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال! قال: مرحباً بك، من هذا معك؟ قلت: رجلٌ من قومي من آل قابوس. قال سعد: ما أنت يا فتًى من المزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه. قال سعد: مرحباً وأهلاً، ونعم الله بك عيناً، ذلك الرجل شهدت منه يوم أحد مشهداً ما شهدته من أحد. لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وسطنا والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم يقول: من لهذه الكتيبة؟ كل ذلك يقول المازني: أنا يا رسول الله! كل ذلك يردها، فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قم وأبشر بالجنة! قال سعد: وقمت على أثره، يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذٍ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه رحمه الله، ووددت والله إني كنت أصبت يومئذٍ معه، ولكن أجلي استأخر.ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله وقال: اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك. فقال بلال: إنه يستحب الرجوع. فرجعنا.
وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً عليه وهو مقتول، وهو يقول: رضي الله عنه فإني عنك راضٍ. ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام على قدميه وقد نال النبي صلى الله عليه وسلّم من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وضع في لحده، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم البردة على رأسه فخمره، وأدرجه فيها طولاً وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه وهو في لحده، ثم انصرف. فما حالٌ أموت عليها أحب إلي من أن ألقى الله تعالى على حال المزني.
قالوا: ولما صاح إبليس، إن محمداص قد قتل تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أول من دخل المدينة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة. ثم ورد بعده رجالٌ حتى دخلوا على نسائهم، حتى جعل النساء يقلن: أعن رسول الله تفرون؟ قال: يقول ابن أم مكتوم: أعن رسول الله تفرون؟ ثم جعل يؤفف بهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم خلفه بالمدينة، يصلي بالناس، ثم قال: اعدلوني على الطريق يعني طريق أحد فعدلوه على الطريق، فجعل يستخبر كل من لقي عن طريق أحد حتى لحق القوم، فعلم بسلامة النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم رجع. وكان ممن ولى فلان، والحارث ابن حاطب، وثعلبة بن حاطب، وسواد بن غزية، وسعد بن عثمان، وعقبة ابن عثمان، وخارجة بن عامر، بلغ ملل، وأوس بن قيظي في نفرٍ من بني حارثة، بلغوا الشقرة ولقيتهم أم أيمن تحثى في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك! فوجهت إلى أحد مع نسياتٍ معها.
وقد قال بعض من يروى الحديث: إن المسلمين لم يعدوا الجبل، وكانوا في سفحه، ولم يجاوزوه إلى غيره، وكان فيه النبي صلى الله عليه وسلّم.
ويقال: إنه كان بين عبد الرحمن وعثمان كلامٌ، فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال: اذهب إلى أخيك فبلغه عني ما أقول لك، فإني لا أعلم أحداً يبلغه غيرك. قال الوليد: أفعل. قال: قل، يقول لك عبد الرحمن: شهدت بدراً ولم تشهد، وثبت يوم أحد ووليت عنه، وشهدت بيعة الرضوان ولم تشهدها. فجاءه فأخبره فقال عثمان: صدق أخي! تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي مريضة، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمي وأجرى فكنت بمنزلة من حضر. ووليت يوم أحد، فقد عفا الله ذلك عني، فأما بيعة الرضوان فإني خرجت إلى أهل مكة، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن عثمان في طاعة الله وطاعة رسوله. وبايع النبي صلى الله عليه وسلّم إحدى يديه الأخرى، فكانت شمال النبي صلى الله عليه وسلّم خيراً من يميني. فقال عبد الرحمن حين جاءه الوليد بن عقبة: صدق أخي! ونظر عمر بن الخطاب إلى عثمان بن عفان فقال: هذا ممن عفا الله عنه، والله ما عفا الله عن شيءٍ فرده، وكان تولى يوم التقى الجمعان.
وسأل رجلٌ ابن عمر عن عثمان فقال: إنه أذنب يوم أحد ذنباً عظيماً، فعفا الله عنه، وهو ممن تولى يوم التقى الجمعان، وأذنب فيكم ذنباً صغيراً فقتلتموه!.
وقال علي: لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في الحديد، ما يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: يومٌ بيوم بدر. فيعترض له رجلٌ من المسلمين فيقتله أمية. قال علي عليه السلام: وأصمد له فأضربه بالسيف على هامته وعليه بيضةٌ وتحت البيضة مغفر فنبا سيفي، وكنت رجلاً قصيراً. ويضربني بسيفه فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه فأضربه، وكانت درعه مشمرة، فأقطع رجليه، ووقع فجعل يعالج سيفه حتى خلصه من الدرقة، وجعل يناوشني وهو باركٌ على ركبتيه، حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه فأخش بالسيف فيه، فمال ومات وانصرفت عنه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ: أنا ابن العواتك. وقال أيضاً: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب! وقالوا: أتينا عمر بن الخطاب في رهط من المسلمين قعوداً، ومر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك فقال: ما يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول الله: قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم جالد بسيفه حتى قتل. فقال عمر بن الخطاب: إني لأرجو أن يبعثه الله أمةً وحده يوم القيامة. ووجد به سبعون ضربةً في وجهه، ما عرف حتى عرفت أخته حسن بنانه، ويقال حسن ثناياه.
قالوا: ومر مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد بن أبي زهير، وهو قاعدٌ في حشوته، به ثلاثة عشر جرحاً، كلها قد خلصت إلى مقتل، فقال: أما علمت أن محمداً قد قتل؟ قال خارجة: فإن كان قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقد بلغ محمد، فقاتل عن دينك! ومر على سعد بن الربيع وبه اثنا عشر جرحاً، كلها قد خلص إلى مقتلٍ، فقال: علمت أن محمداً قد قتل؟ قال سعد بن الربيع: أشهد أن محمداً قد بلغ رسالة ربه، فقاتل عن دينك، فإن الله حي لا يموت!
وقال منافق: إن رسول الله قد قتل فارجعوا إلى قومكم، فإنهم داخلوا البيوت.
حدثني عبد الله بن عمار، عن الحارث بن الفضيل الخطمي. قال: أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذٍ والمسلمون أوزاعٌ، قد سقط في أيديهم، فجعل يصيح: يا معشر الأنصار، إلي! إلي! أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمدٌ قد قتل فإن الله حي لا يموت! فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم! فنهض إليه نفرٌ من الأنصار، فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت لهم كتيبةٌ خشناء، فهيا رؤساؤهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فجعلوا يناوشونهم. وحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح، فطعنه فأنفذه فوقع ميتاً. وقتل من كان معه من الأنصار. فيقال إن هؤلاء لآخر من قتل من المسلمين، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الشعب مع أصحابه، فلم يكن هناك قتالٌ.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أحد قد خاصم إليه يتيمٌ من الأنصار أبا لبابة في عذقٍ بينهما، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي لبابة، فجزع اليتيم على العذق، وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم العذق إلى أبي لبابة لليتيم، فأبى أبو لبابة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لأبي لبابة: لك به عذقٌ في الجنة. فأبى أبو لبابة، فقال ابن الدحداحة: يا رسول الله، أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه، مالي؟ قال: عذقٌ في الجنة. قال: فذهب ثابت بن الدحداحة فاشترى من أبي لبابة ابن عبد المنذر ذلك العذق بحديقة نخل، ثم رد على الغلام العذق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: رب عذقٍ مذللٍ لابن الدحداحة في الجنة.
فكانت ترجى له الشهادة لقوله صلى الله عليه وسلّم حتى قتل بأحد.
ويقبل ضرار بن الخطاب فارساً، يجر قناة له طويلة، فيطعن عمرو ابن معاذ فأنفذه، ويمشي عمرو إليه حتى غلب، فوقع لوجهه. يقول ضرار: لا تعدمن رجلاً زوجك من الحور العين. وكان يقول: زوجت عشرة من أصحاب محمد. قال ابن واقد: سألت ابن جعفر، هل قتل عشرة؟ فقال: لم يبلغنا أنه قتل إلا ثلاثة. وقد ضرب يومئذٍ عمر بن الخطاب حيث جال المسلمون تلك الجولة بالقناة. قال: يا ابن الخطاب، إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك! وكان ضرار بن الخطاب يحدث ويذكر وقعة أحد، ويذكر الأنصار ويترحم عليهم، ويذكر غناءهم في الإسلام، وشجاعتهم، وتقدمهم على الموت، ثم يقول: لما قتل أشراف قومي ببدر جعلت أقول: من قتل أبا الحكم؟ يقال: ابن عفراء. من قتل أمية بن خلف؟ يقال: خبيب ابن يساف. من قتل فلاناً؟ فيسمي لي. من أسر سهيل بن عمرو؟ قالوا: مالك بن الدخشم. فلما خرجنا إلى أحد وأنا أقول: إن أقاموا في صياصيهم فهي منيعة، لا سبيل لنا إليهم، نقيم أياماً ثم ننصرف، وإن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم معنا عددٌ كثيرٌ أكثر من عددهم وقوم موتورون خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر، ومعنا كراعٌ ولا كراع معهم، ومعنا سلاح أكثر من سلاحهم. فقضى لهم أن خرجوا، فالتقينا، فوالله ما أقمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين، فقلت في نفسي: هذه أشد من وقعة بدر! وجعلت أقول لخالد بن الوليد: كر على القوم! فجعل يقول: وترى وجهاً نكر فيه؟ حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خالياً، فقلت: أبا سليمان، انظر وراءك! فعطف عنان فرسه، فكر وكررنا معه، فانتهينا إلى الجبل فلم نجد عليه أحداً له بالٌ، وجدنا نفيراً فأصبناهم، ثم دخلنا العسكر، والقوم غارون ينتهبون العسكر، فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه، ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا. وجعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج قتلة الأحبة فلا أرى أحداً، قد هربوا، فما كان حلب ناقة حتى تداعيت الأنصار بينها، فأقبلت فخالطونا ونحن فرسان، فصبروا لنا، وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي وترجلت، فقتلت منهم عشرة. ولقيت من رجلٍ منهم الموت الناقع حتى وجدت ريح الدم، وهو معانقي، ما يفارقني حتى أخذته الرماح من كل ناحية ووقع، فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي ولم يهني بأيديهم.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: من له علم بذكوان بن عبد قيس؟ قال علي عليه السلام: أنا رأيت يا رسول الله فارساً يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول: لا نجوت إن نجوت! فحمل عليه بفرسه، وذكوان راجلٌ، فضربه وهو يقول: خذها وأنا ابن علاج! فأهويت إليه وهو فارس، فضربت رجله بالسيف حتى قطعتها عن نصف الفخذ، ثم طرحته من فرسه فذففت عليه، وإذا هو أبو الحكم بن الأخنس بن شريق ابن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي.
وحدثني صالح بن خوات، عن يزيد بن رومان، قال: قال خوات بن جبير: لما كر المشركون انتهوا إلى الجبل، وقد عرى من القوم، وبقي عبد الله بن جبير في عشرة نفرٍ، فهم على رأس عينين، فلما طلع خالد ابن الوليد وعكرمة في الخيل، قال لأصحابه: انبسطوا نشراً لئلا يجوز القوم! فصفوا وجه العدو، واستقبلوا الشمس، فقاتلوا ساعة حتى قتل أميرهم عبد الله بن جبير، وقد جرح عامتهم، فلما وقع جردوه ومثلوا به أقبح المثل، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته، فكانت حشوته قد خرجت منها، فلما جال المسلمون تلك الجولة مررت به على تلك الحال، فلقد ضحكت في موضعٍ ما ضحك فيه أحدٌ قط ونعست في موضعٍ ما نعس فيه أحدٌ، وبخلت في موضعٍ ما بخل فيه أحد. فقيل: ما هي؟ قال: حملته فأخذت بضبعيه، وأخذ أبو حنة برجليه، وأخذ أبو حنة برجليه، وقد شددت جرحه بعمامتي، فبينا نحن نحمله والمشركين ناحيةً إلى أن سقطت عمامتي من جرحه فخرجت حشوته، ففزع صاحبي وجعل يلتفت وراءه يظن أنه العدو، فضحكت. ولقد شرع لي رجلٌ برمح يستقبل به ثغرة نحري، فغلبني النوم وزال الرمح. ولقد رأيتني حين انتهيت إلى الحفر له، ومعي قوسي، وغلظ علينا الجبل فهبطنا به الوادي، فحفرت بسية القوس وفيها الوتر، فقلت: لا أفسد الوتر! فحللته ثم حفرت بسيتها حتى أنعمنا، ثم غيبناه وانصرفنا، والمشركون بعد ناحيةً، وقد تحاجزنا، فلم يلبثوا أن ولوا.
قالوا: وكان وحشيٌّ عبداً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل ويقال كان لجبير بن مطعم فقالت ابنة الحارث: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر، إن قتلت محمداً، أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، فإني لا أرى في القوم كفؤاً لأبي غيرهم. قال وحشي: أما رسول الله فقد علمت أني لا أقدر عليه، وأن أصحابه لن يسلموه. وأما حمزة فقلت: والله لو وجدته نائماً ما أيقظته من هيبته، وأما علي فقد كنت ألتمسه. قال: فبينا أنا في الناس ألتمس علياً إلى أن طلع علي، فطلع رجلٌ حذرٌ مرسٌ، كثير الالتفات، فقلت: ما هذا صاحبي الذي ألتمس! إذ رأيت حمزة يفرى الناس فرياً، فكمنت إلى صخرة، وهو مكبسٌ، له كثيب، فاعترض له سباع ابن أم أنمار وكانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان سباع يكنى أبا نيار فقال له حمزة: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا. هلم إلي! فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به، فبرك عليه فشحطه شحط الشاة. ثم أقبل إلى مكبسا حين رآني، فلما بلغ المسيل وطىء على جرفٍ فزلت قدمه، فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب بها في خاضرته حتى خرجت من مثانته. وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة! فلا يجيب، فقلت: قد والله مات الرجل! وذكرت هنداً وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا موته ولا يروني، فأكر عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟. قالت: سلبى! فقلت: هذه كبد حمزة. فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها. فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير. ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت يكبده معها.
فحدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن الزهري، عن عرو، قال: حدثنا عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فمررنا بحمص بعد العصر، فقلنا: وحشى! فقالوا: لا تقدرون عليه، هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح. فبتنا من أجله وإنا لثمانون رجلاً، فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله، فإذا شيخٌ كبيرٌ، قد طرحت له زربية قدر مجلسه، فقلنا له: أخبرنا عن قتل حمزة وعن مسيلمة، فكره ذلك وأعرض عنه، فقلنا له: ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك. فقال: إني كنت عبداً لجبير بن مطعم بن عدي، فلما خرج الناس إلى أحد دعاني فقال: قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر، فلم تزل نساؤنا في حزنٍ شديدٍ إلى يومي هذا، فإن قتلت حمزة فأنت حر. قال: فخرجت مع الناس ولي مزاريق، وكنت أمر بهند بنت عتبة فتقول: إيه أبا دسمة، اشف واشتف! فلما وردنا أحداً نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هداً فرآني وأنا قد كمنت له تحت شجرة، فأقبل نحوي ويعترض له سباع الخزاعي، فأقبل إليه فقال: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علنيا هلم إلي! قال: وأقبل حمزة فاحتمله حتى رأيت برقان رجليه، ثم ضرب به الأرض ثم قتله. وأقبل نحوي سريعاً حتى يعترض له جرفٌ فيقع فيه، وأزرقه بمزراقي فيقع في ثنته حتى خرج من بين رجليه، فقتلته، وأمر بهند بنت عتبة فأعطتني حليها وثيابها.
وأما مسيلمة، فإنا دخلنا حديقة الموت، فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه رجلٌ من الأنصار بالسيف، فربك أعلم أينا قتله إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق الدير: قتله العبد الحبشي.
قال عبيد الله: فقلت: أتعرفني؟ قال: فأكر بصره علي، وقال: ابن عدي ولعاتكة بنت أبي العيص! قال: قلت: نعم. قال: أما والله ما لي بك عهدٌ بعد أن رفعتك إلى أمك في محفتها التي ترضعك فيها، ونظرت إلى برقان قدميك حتى كأن الآن.
وكان في ساقي هند خدمتان من جزع ظفار، ومسكتان من ورق، وخواتم من ورق، كن في أصابع رجليها، فأعطتني ذلك.
وكانت صفيه بنت عبد المطلب تقول: رفعنا في الآطام ومعنا حسان بن ثابت ونحن في فارع، فجاء نفرٌ من اليهود يرمون الأطم، فقلت: عندك يا ابن الفريعة! فقال: لا والله، ما أستطيع، ما يمنعني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد! ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت: شد على يدي السيف، ثم برئت! ففعل. قالت: فضربت عنقه، ثم رميت برأسه إليهم، فلما رأوه انكشفوا. قالت: وإني في فارع أول النهار مشرفة على الأطم، فرأيت المزراق يزرق به، فقلت: أومن سلاحهم المزاريق؟ أفلا أراه هوى إلى أخي ولا أشعر. قالت: ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكانت تحدث تقول: كنت أعرف انكشاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا أعلم على الأطم، يرجع حسان إلى أقصى الأطم، فإذا رأى الدولة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أقبل حتى يقف على جدار الأطم. قالت: ولقد خرجت والسيف في يد، حتى إذا كنت في بني حارثة أدركت نسوة من الأنصار وأم أيمن معهن، فكان الجمز منا حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه أوزاعٌ، فأول من لقيت علي ابن أخي، فقال: ارجعي يا عمة فإن في الناس تكشفاً فقلت: رسول الله؟ فقال: صالحٌ بحمد الله! قلت: ادللني عليه حتى أراه. فأشار لي إليه إشارةً خفيةً من المشركين، فانتهيت إليه وبه الجراحة. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ما فعل عمي؟ ما فعل عمي حمزة؟ فخرج الحارث بن الصمة فأبطأ، فخرج علي بن أبي طالب، وهو يرتجز ويقول:
يا رب إن الحارث بن الصمه ... كان رفيقاً وبنا ذا ذمه
قد ضل في مهامهٍ مهمه ... يلتمس الجنة فيما تمه
قال الواقدي: سمعتها من الأصبغ بن عبد العزيز وأنا غلام، وكان بسن أبي الزناد حتى انتهى إلى الحارث ووجد حمزة مقتولاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم يمشي حتى وقف عليه، فقال: ما وقفت موقفاً قط أغيظ إلي من هذا الموقف! فطلعت صفية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا زبير أغن عني أمك، وحمزة يحفر له. فقال: يا أمه، إن في الناس تكشفاً فارجعي. فقالت: ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت: يا رسول الله، أين ابن أمي حمزة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هو في الناس. قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه. قال الزبير: فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن حمزة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لولا أن يحزن ذلك نساءنا، لتركناه للعافية يعني السباع والطير حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع وحواصل الطير.
ونظر صفوان بن أمية إلى حمزة يومئذٍ وهو يهد الناس فقال: من هذا؟ قالوا: حمزة بن عبد المطلب. فقال: ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه وكان يومئذٍ معلماً بريشة نسر. ويقال: لما أصيب حمزة جاءت صفية بنت عبد المطلب تطلبه، فحالت بينها وبينه الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعوها! فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإذا نشجت ينشج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكانت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلّم تبكي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا بكت بكى، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: لن أصاب بمثلك أبداً! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أبشرا! أتاني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوبٌ في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.
قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلاً شديداً فأحزنه ذلك المثل، ثم قال: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم! فنزلت هذه الآية: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين " . فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمثل بأحدٍ.
وجعل أبو قتادة يريد أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قتل حمزو وما مثل به، كل ذلك يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلّم أن اجلس ثلاثاً وكان قائماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أحتسبك عند الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا قتادة، إن قريشاً أهل أمانةٍ، من بغاهم العواثر كبه الله لفيه، وعسى إن طالت بك مدةٌ أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم، لولا أن تبطر قريشٌ لأخبرتها بما لها عند الله. قال أبو قتادة: والله يا رسول الله، ما غضبت إلا لله ولرسوله حين نالوا منه ما نالوا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم! وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله، إن هؤلاء قد نزلوا حيث ترى، وقد سألت الله عز وجل ورسوله فقلت: اللهم إني أقسم عليك أن نلقى العدو غداً فيقتلونني ويبقرونني ويمثلون بي، فألقاك مقتولاً قد صنع هذا بي، فتقول: فيم صنع بك هذا! فأقول: فيك! وأنا أسألك أخرى: أن تلى تركتي من بعدي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج عبد الله وقاتل حتى قتل، ومثل به كل المثل ودفن، ودفن هو وحمزة في قبرٍ واحد. وولى تركته رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاشترى لأمه مالاً بخيبر.
وأقبلت حمنة بنت جحش وهي أخته، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا حمن، احتسبي! قالت: من يا رسول الله! قال: خالك حمزة. قالت: إنا الله وإنا إلي راجعون، غفر اللله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخوك. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الجنة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قالت: مصعب بن عمير. قالت: واحزناه! ويقال إنها قالت: واعقراه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن للزوج من المرأة مكاناً ما هو لأحد. ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لم قلت هذا؟ قالت: يا رسول الله، ذكرت يتم بنيه فراعني. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لولده أن يحسن عليهم من الخلف، فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت له محمد بن طلحة، وكان أوصل الناس لولده. وكانت حمنة خرجت يومئذٍ إلى أحد مع النساء يسقين الماء.
وخرجت السميراء بنت قيس إحدى نساء بني دينار، وقد أصيب ابناها مع النبي صلى الله عليه وسلّم بأحد، النعمان بن عبد عمرو، وسليم بني الحارث، فلما نعيا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيراً، هو بحمد الله صالحٌ على ما تحبين. قالت: أرونيه أنظر إليه! فأشاروا لها إليه فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جللٌ. وخرجت تسوق بابنيها بعيراً تردهما إلى المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها فقالت: ما وراءك؟ قالت: أما رسول الله، بحمد الله فبخير، لم يمت! واتخذ الله من المؤمنين شهداء " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال " . قالت: من هؤلاء معك؟ قالت: ابناي.....حل! حل! وقالوا: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من يأتيني بخبر سعد بن ربيع؟ فإني قد رأيته وأشار بيده إلى ناحيةٍ من الوادي وقد شرع فيه اثنا عشر سناناً. قال: فخرج محمد بن مسلمة ويقال أبي بن كعب فخرج نحو تلك الناحية. قال: وأنا وسط القتلى أتعرفهم، إذ مررت به صريعاً في الوادي، فناديته فلم يجب، ثم قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسلني إليك! فتنفس كما يتنفس الكير، ثم قال: وإن رسول الله لحيٌّ؟ قال: قلت: نعم، وقد أخبرنا أنه شرع لك اثنا عشر سناناً. قال: طعنت اثنتي عشرة طعنة، كلها أجافتني، أبلغ قومك الأنصار السلام وقل لهم: الله، والله! وما عاهدتم عليه رسول الله ليلة العقبة! والله ما لكم عذرٌ عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عينٌ تطرف! ولم أرم من عنده حتى مات. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راضٍ! قالوا: ولما صاح إبليس إن محمداً قد قتل يحزنهم بذلك، تفرقوا في كل وجهٍ، وجعل الناس يمرون على النبي صلى الله عليه وسلّم، لا يلوى عليه أحد منهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى المهراس، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أصحابه في الشعب.
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما صار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم كانوا فئته.
وحدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، قال: لما انتهى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا فئته، فانتهى إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاعٌ، يذكرون مقتل من قتل منهم ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال كعب: وكنت أول من عرفه وعليه المغفر. قال: فجعلت أصيح: هذا رسول الله حياً سوياً! وأنا في الشعب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومىء إلى بيده على فيه أ اسكت، ثم دعا بلأمتي وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونزع لأمته. قال: وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أصحابه في الشعب بين السعدين، سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، يتكفأ في الدرع، وكان إذا مشى تكفأ تكفؤاً صلى الله عليه وسلّم ويقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله وكان رسو الله صلى الله عليه وسلّم قد جرح يومئذ، فما صلى الظهر إلا جالساً. قال: فقال له طلحة: يا رسول الله، إني بي قوة! فحمله حتى انتهى إلى الصخرة على طريق أحد من أراد شعب الجزارين لم يعدها رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى غيرها، ثم حمله طلحة حتى ارتفع عليها، ثم مضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه. فلما نظر المسلمون من معه جعلوا يولون في الشعب، ظنوا أنهم من المشركين، حتى جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامةٍ حمراء على رأسه، فعرفوه فرجعوا، أو بعضهم.
ويقال إنه لما طعل في النفر الذين ثبتوا معه، الأربعة عشر سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار وجعلوا يولون في الجبل، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتبسم إلى أبي بكر وهو إلى جنبه، ويقول له: ألح إليهم! فجعل أبو بكر يليح، ولا يرجعون حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه، فأوفى على الجبل فجعل يصيح ويليح، فوقفوا حتى تلاحق المسلمون. ولقد وضع أبو بردة بن نيار سهماً على كبد قوسه، فأراد أن يرمي به القوم، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكأنهم لم يصبوا في أنفسهم مصيبةٌ حين أبصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبينا هم كذلك عرض الشيطان بوسوسته وتخزيته لهم حين أبصروا عدوهم قد انفرجوا عنهم. قال رافع بن خديج: إني إلى جنب أبي مسعود الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه ويسأل عنهم، فيخبر برجال، منهم سعد بن ربيع وخارجة بن زهير، وهو يسترجع ويترحم عليهم، وبعضهم يسأل بعضاً عن حميمه، فهم يخبرون بعضهم بعضاً. فبيناهم على ذلك رد الله المشركين ليذهب بالحزن عنهم، فإذا عدوهم فوقهم قد علوا، وإذا كتائب المشركين. فنسوا ما كانوا يذكرون، وندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحضنا على القتال، وإني لأنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يعدون.
فكان عمر يقول: لما صاح الشيطان قتل محمد أقبلت أرقى في الجبل كأني أرويةٌ، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية، وأبو سفيان في سفح الجبل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. اللهم ليس لهم أن يعلونا! فانكشفوا.
قال أبو أسيد الساعدي: لقد رأيتنا قبل أن يلقى علينا النعاس، وإنا لسلمٌ لمن أرادنا، لما بنا من الحزن، فألقى علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف، وفزعنا وكأنا لم يصبنا قبل ذلك نكبةٌ.
وقال طلحة بن عبيد الله: غشينا النعاس حتى كان حجف القوم تناطح.
وقال الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجلٌ إلا وذقنه في صدره من النوم، فأسمع معتب بن قشير يقول وإني لكالحالم " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " فأنزل الله تعالى فيه: " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " .
قال أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذٍ في أربعة عشر رجلاً من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد أصابنا النعاس أمنةً منه، ما منهم رجلٌ إلا يغط غطيطاً حتى إن الحجف لتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به، وأخده بعد ما تثلم، وإن المشركين لتحتنا.
وقال أبو طلحة: ألقى علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي. وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذٍ، فكل منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان.
وقالوا: لما تحاجزوا أراد أبو سفيان الانصراف، وأقبل يسير على فرسٍ له حواء أنثى، فأشرف على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته: اعل هبل! ثم يصيح: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، وحنظلة بحنظلة! فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، أجيبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بلى، فأجبه! فقال أبو سفيان: اعل هبل! فقال عمر: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت، فعال عنها! ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وهذا عمر. فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك! لقد خبنا إذن وخسرنا! قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب، فعال عنها. ثم قال: قم إلي يا ابن الخطاب، أكلمك. فقام عمر فقال أبو سفيان: أنشدك بدينك، هل قتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة وكان ابن قميئة أخبرهم أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلّم. ثم قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عيثاً ومثلاً، ألا إن ذلك لم يكن عن رأى سراتنا. ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إذ كان ذلك فلم نكرهه. ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول! فوقف عمر وقفةً ينتظر ما يقول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قل، نعم. فقال عمر: نعم! ثم انصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون فاشتدت شفقتهم من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص: ائتنا بخبر القوم، إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهي الغارة على المدينة، والذي نفسي بيده، لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم.
قال سعد: فوجهت أسعى، وأرصدت في نفسي إن أفزعني شيءٌ رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأنا أسعى، فبدأت بالسعي حين ابتدأت، فخرجت في آثارهم حتى إذا كانوا بالعقيق، وكنت حيث أراهم وأتأملهم، فإذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فقلت: إنه الظغن إلى بلادهم. فوقفوا وقفةً بالعقيق وتشاوروا في دخول المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: قد أصبتم القوم، فانصرفوا فلا تدخلوا عليهم وأنتم كالون، ولكم الظفر، فإنكم لا تدرون ما يغشاكم. قد وليتم يوم بدر، والله ما تبعوكم الظفر لهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نهاهم صفوان! فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين، قد دخلوا في المكيمين، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو كالمنكسر، فقال: وجه القوم يا رسول الله إلى مكة، امتطوا الإبل وجنبوا الخيل. فقال: ما تقول؟ فقلت ذلك، ثم خلا بي فقال: حقاً ما تقول؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقال: مالي رأيتك منكسراً؟ قال، فقلت: كرهت أن آتي المسلمين فرحاً بقفولهم إلى بلادهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن سعداً لمجرب! ويقال إن سعداً لما رجع يرفع صوته بأن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشير إلى سعد أن اخفض صوتك! قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الحرب خدعةٌ! فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم، فإنما رجهم الله تبارك وتعالى.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك، ولا تفت أعضاد المسلمين. فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع، فما ملك أن جعل يصيح سروراً بانصرافهم.
فلما قدم أبو سفيان على قريش بمكة لم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه! وحلق رأسه.
وقيل لعمرو بن العاص: كيف كان افتراق المشركين والمسلمين يوم أحد؟ فقال: ما تريد إلى ذلك؟ قد جاء الله بالإسلام ونفى الكفر وأهله. ثم قال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم وتفرقوا في كل وجهٍ. وفاءت لهم فئةٌ بعد، فتشاورت قريش فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس، وقد تخلف ناسٌ من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا وفينا جراحٌ، وخيلنا عامتها قد عقرت من النبل. فمضوا، فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها، ومضينا.
ذكر من قتل بأحد من المسلمينحدثنا محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قتل من الأنصار بأحد سبعون.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن ربيح بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخذري مثله. وحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن مجاهدٍ مثله، أربعةٌ من قريش وسائرهم من الأنصار المزني، وابن أخيه، وابنا الهبيت أربعة وسبعون، هذا المجتمع عليه.
ومن بني هاشم: حمزة بن عبد المطلب، قتله وحشي، هذا الأصح لا. اختلاف فيه عندنا.
ومن بني أمية: عبد الله بن جحش بن رئاب، قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق.
ويقال خمسة من قريش من بني أسد: سعد مولى حاطب، ومن بني مخزوم: شماس بن عثمان بن الشريد، قتله أبي بن خلف.
ويقال إن أبا سلمة بن عبد الأسد أصابه جرحٌ بأحد، فلم يزل جريحاً حتى مات بعد ذلك. فغسل ببني أمية بن زيد بالعالية بين قرنى البئر التي صارت لعبد الصمد بن علي اليوم.
ومن بني عبد الدار: مصعب بن عمير، قتله ابن قميئة.
ومن بني سعد بن ليث: عبد الله وعبد الرحمن ابنا الهبيت.
ومن مزينة رجلان: وهب بن قابوس، وابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس.
ومن الأنصار، ثم من بني عبد الأشهل، اثنا عشر رجلاً: عمرو بن معاذ بن النعمان، قتله ضرار بن الخطاب، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، قتله أبو سفيان ابن حرب، وعمرو بن ثابت بن وقش، قتله ضرار بن الخطاب، ورفاعة ابن وقش، قتله خالد بن الوليد، واليمان أبو حذيفة، قتله المسلمون خطأً، ويقال عتبة بن مسعود قتله خطأً، وصيفي بن قيظي، قتله ضرار بن الخطاب، والحباب بن قيظي، وعباد بن سهل، قتله صفوان بن أمية. ومن أهل راتج، وهم إلى عبد الأشهل: إياس بن أوس بن عتيك بن عبد الأعلم ابن زعوراء بن جشم، قتله ضرار بن الخطاب، وعبيد بن التيهان، قتله عكرمة بن أبي جهل، وحبيب بن قيم.
ومن بني عمرو بن عوف، ثم من بني ضبيعة بن زيد: أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد بن ضبيعة، وهو أبو البنات الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدق الله عز وجل.
ومن بني أمية بن زيد بن ضبيعة: حنظلة بن أبي عامر، قتله الأسود ابن شعوب.
ومن بني عبيد بن زيد: أنيس بن قتادة، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق، وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير النبي صلى الله عليه وسلّم على الرماة، قتله عكرمة بن أبي جهل.
ومن بني غنم بن السلم بن مالك بن أوس: خيثمة أبو سعد، قتله هبيرة بن أبي وهب.
ومن بني العجلان: عبد الله بن سلمة، قتله ابن الزبعري.
ومن بني معاوية: سبسق بن حاطب بن الحارث بن هيشة، قتله ضرار بن الخطاب ثمانية.
ومن بلحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد بن أبي زهير، قتله صفوان ابن أمية، وسعد بن ربيع، دفنا في قبرٍ واحد. وأوس بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن ثعلبة بن كعب أربعة.
ومن بني الأبجر، وهم بنو خدرة: مالك بن سنان بن الأبجر، وهو أبو أبي سعيد الخدري، قتله غراب بن سفيان ، وسعد بن سويد بن قيس بن عامر بن عمار بن الأبجر، وعتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية ابن عبيد بن ثعلبة ثلاثة.
ومن بني ساعدة: ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد بن تميلة، وحارثة ابن عمرو، ونفث بن فورقبن البدي ثلاثة.
ومن بني طريف: عبد الله بن ثعلبة، وقيس بن ثعلبة، وطريف وضمرة، حليفان لهم من جهينة.
ومن بني عوف بن الخزرج، من بني سالم، ثم من بني مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم: نوفل بن عبد الله، قتله سفيان بن عويف، والعباس بن عبادة بن نضلة، قتله سفيان بن عبد شمس السلمى، والنعمان بن مالك بن ثعلبة بن غنم، قتله صفوان بن أمية، وعبدة بن الحسحاس، دفنا في قبرٍ واحد. ومجذر بن ذياد، قتله الحارث بن سويد غيلةً.
حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة، قال: دفن ثلاثة نفر يوم أحد في قبرٍ واحد نعمان بن مالك والمجذر بن ذياد، وعبدة بن الحسحاس.
وكانت قصة مجذر بن ذياد أن حضير الكتائب جاء بني عمرو بن عوف فكلم سويد بن الصامت، وخوات بن جبير، وأبا لبابة بن عبد المنذر ويقال سهل بن حنيف فقال: تزوروني فأسقيكم من الشراب وأنحر لكم، وتقيمون عندي أياماً. قالوا: نحن نأتيك يوم كذا وكذا. فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزوراً وسقاهم الخمر، وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم، وكان سويد يومئذٍ شيخاً كبيراً. فلما مضت الثلاثة الأيام، قالوا: ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا. فقال حضير: ما أحببتم! إن أحببتم فأقيموان وإن أحببتم فانصرفوا فخرج الفتيان بسويد يحملانه حملاً من الثمل، فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريباً من بني غصينة وهي وجاه بني سالم إلى مطلع الشمس. فجلس سويد وهو يبول، وهو ممتلى سكراً، فبصر به إنسان من الخزرج، فخرج حتى أتى المجذر بن ذياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟ قال: ما هي؟ قال: سويد! أعزل لا سلاح معه، ثملٌ! قال: فخرج المجذر ابن ذياد بالسيف صلتاً، فلما رآه الفتيان وليا، وهما أعزلان لا سلاح معهما والعداوة بين الأوس والخزرج فانصرفا سريعين. وثبت الشيخ ولا حراك به، فوقف عليه مجذر بن ذياد، فقال: قد أمكن الله منك! فقال: ما تريد بي؟ قال: قتلك. قال: فارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، وإذا رجعت إلى أمك فقل: إني قتلت سويد بن الصامت. وكان قتله هيج وقعة بعاث، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت ومجذر بن ذياد، فشهدا بدراً فجعل الحارث يطلب مجذراً ليقتله بأبيه، فلا يقدر عليه يومئذٍ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذراً غيلةً، وأمره بقتله. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء في اليوم الذي أخبره جبريل، في يومٍ حارٍّ، وكان ذلك يوماً لا يركب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء، إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم قباء يوم السبت ويوم الاثنين. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي. وسمعت الأنصار فجاءت تسلم عليه، وأنكروا إتيانه في تلك الساعة وفي ذلك اليوم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عويم بن ساعدة فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن ذياد، فإنه قتله يوم أحد. فأخذه عويم فقال الحارث: دعني أكلم رسول الله! فأبى عويم عليه، فجابذه يريد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يركب، ودعا بحماره على باب المسجد، فجعل الحارث يقول: قد والله قتلته يا رسول الله. والله ما كان قتلي إياه رجوعاً عن الإسلام ولا ارتياباً فيه، ولكنه حمية الشيطان وأمرٌ وكلت فيه إلى نفسي. وإني أتوب إلى الله وإلى رسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، وأطعم ستين مسكيناً، إني أتوب إلى الله ورسوله! وجعل يمسك بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبنو المجذر حضورٌ لا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئاً حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه! وركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقدمه عويم على باب المسجد فضرب عنقه. ويقال: إن خبيب بن يساف، نظر إليه حين ضرب عنقه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم يفحص عن هذا الأمر. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حماره فنزل عليه جبريل فخبره بذلك في مسيره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عويماً فضرب عنقه. وقال حسان بن ثابت:
يا حار في سنةٍ من نوم أولكم ... أم كنت ويلك مغتراً بجبريل
وأنشدني مجمع بن يعقوب وأشياخهم أن سويد بن الصامت قال عند مقتله هذه الأبيات:
أبلغ جلاساً وعبد الله مألكةً ... وإن كبرت فلا تخذلهما حار
اقتل جدارة إما كنت لاقيها ... والحي عوفاً على عرفٍ وإنكار
ومن بني سلمة: عنترة مولى بني سلمة، قتله نوفل بن معاوية الديلي.
ومن بلحبلى: رفاعة بن عمرو.
ومن بني حرام: عبد الله بن عمرو بن حرام، قتله سفيان بن عبد شمس، وعمرو بن الجموح، وخلاد بن عمرو بن الجموح، قتله الأسود بن جعونه ثلاثة.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة: المعلى بن لوذان بن حارثة بن رستم بن ثعلبة، قتله عكرمة بن أبي جهل.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق.
ومن بني النجار، ثم من بني سواد: عمرو بن قيس، قتله نوفل بن معاوية الديلي، وابنه قيس بن عمرو، وسليط بن عمرو، وعامر بن مخلد.
ومن بني عمرو بن مبذول: أبو أسيره بن الحارث بن علقمة بن عمرو ابن مالك، قتله خالد بن الوليد، وعمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو.
ومن بني عمرو بن مالك، وهم بنو مغالة: أوس بن حرام.
ومن بني عدي بن النجار: أنس بن النضر بن ضمضم، قتله سفيان ابن عويف.
ومن بني مازن بن النجار: قيس بن مخلد، وكيسان مولاهم، ويقال عبدٌ لهم لم يعتق.
ومن بني دينار: سليم بن الحارث، والنعمان بن عمرو، وهما ابنا السميراء بنت قيس.
استشهد من بني النجار اثنا عشر.
تسمية من قتل من المشركينمن بني أسد: عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث، قتله أبو دجانة.
ومن بني عبد الدار: طلحة بن أبي طلحة يحمل لواءهم، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وعثمان بن طلحة، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبو سعيد بن أبي طلحة، قتله سعد بن أبي وقاص، ومسافع بن طلحة بن طلحة، قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن طحلة، قتله عاصم بن ثابت، وكلاب بن طلحة، قتله الزبير ابن العوام، والجلاس بن طلحة، قتله طلحة بن عبيد الله، وأرطاة بن عبد شرحبيل، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقاسط بن شريح بن عثمان ثم حمله صؤاب فيقال قتله قزمان، وأبو عزيز بن عمير، قتله قزمان.
ومن بني زهرة: أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وسباع بن عبد العزى الخزاعي، واسم عبد العزى عمرو بن نضلة بن عباس بن سليم وهوابن أم أنمار، قتله حمزة بن عبد المطلب.
ومن بني مخزوم: هشام بن أبي أمية بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن العاص بن هشام، قتله قزمان، وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب، وخالد بن الأعلم العقيلي، قتله قزمان. حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: أقبل قزمان يشد على المشركين، وتلقاه خالد بن الأعلم، وكل واحد منهما راجلٌ، فاضطربا بأسيافهما.
فيمر بهما خالد بنالوليد فحمل الرمح على قزمان، فسلك الرمح في غير مقتل، شطب الرمح، ومضى خالد وهو يرى أنه قد قتله. فضربه عمرو بن العاص وهما على تلك الحالن وطعنه أخرى فلم يجهز عليه، فلم يزالا يتجاولان حتى قتل قزمان خالد بن الأعلم، ومات قزمان من جراحة به من ساعته. وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، قتله الحارث بن الصمة خمسة.
ومن بني عامر بن لؤي: عبيد بن حاجز، قتله أبو دجانة، وشيبة ابن مالك بن المضر، قتله طلحة بن عبيد الله.
ومن بني جمح: أبي بن خلف، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده، وعمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، وهو أبوعزة، أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسيراً يوم أحد ولم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد أسيراً غيره، فقال: يا محمد، من علي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك تقول: سخرت بمحمد مرتين! ثم أمر به عاصم بن ثابت فضرب عنقه. قال أبو عبد الله الواقدي: وسمعنا في أسره غير ذلك. حدثنا بكير بن مسمار قال: لما انصرف المشركون عن أحد نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة، ثم رحلوا وتركوا أبا عزة نائماً مكانه حتى ارتفع النهار ولحقه المسلمون، وهو مستنبهٌ يتلدد، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم فضرب عنقه.
ومن بني عبد مناة بن كنانة: خالد بن سفيان بن عويف، وأبو الشعثاء بن سفيان بن عويف، وأبو الحمراء بن سفيان بن عويف، وغراب بن سفيان بن عويف.
قالوا: فلما انصرف المشركون عن أحد أقبل المسلمون على أمواتهم، فكان حمزة بن عبد المطلب فيمن أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أولاً، صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: رأيت الملائكة تغسله، لأن حمزة رضي الله عنه كان جنباً ذلك اليوم. ولم يغسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الشهداء، وقال: لفوهم بدمائهم وجراحهم، فإنه ليس أحدٌ يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة بجرحه، لونه لون دمس، وريحه ريح مسك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ضعوهم، أنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة. فكان حمزة أول من كبر عليه صلى الله عليه وسلّم أربعاً. ثم جمع إليه الشهداء، فكان كلما أتى بشهيدٍ وضع إلى جنب حمزة بن عبد المطلب فصلى عليه وعلى الشهداء، حتى صلى عليه سبعين مرة لأن الشهداء سبعون. ويقال كان يؤتي بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، ثم يرفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتي بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب فيصلي عليهم، حتى فعل ذلك سبع مرات. ويقال كبر عليهم تسعاً وسبعاً وخمساً.
وكان طلحة بن عبيد الله، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، يقولون: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلى أحد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنا على هؤلاء شهيدٌ. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أليسوا إخواننا، أسلموا كما أسلمنا، وجاهدوا كما جاهدنا؟ قال: بلى، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئاً، ولا أدري ما تحدثون بعدي. فبكى أبو بكر وقال: إنا لكائنون بعدك؟ وحدثني أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: لم يصل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلّم مثله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ للمسلمين: احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآناً. فكان المسلمون يقدمون أكثرهم قرآناً في القبر. وكان ممن يعرف أنه دفن في قبر واحد: عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وخارجة بن زيد، وسعد بن ربيع، والنعمان بن مالك، وعبدة بن الحسحاس، في قبرٍ واحد. فلما واروا حمزة بن عبد المطلب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببردة تمد عليه وهو في القبر، فجعلت البردة إذا خمروا رأسه بدت قدماه، وإذا خمروا رجليه تنكشف عن وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: غطوا وجهه! وجعل على رجليه الحرمل، فبكى المسلمون يومئذٍ فقالوا: يا رسول الله، عم رسول الله ، لا نجد له ثوباً! فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: تفتتح يعني الأرياف والأمصار فيخرج إليها الناس، ثم يبعثون إلى أهليهم: إنكم بأرضٍ حجازٍ جرديةٍ الجردية التي ليس بها شيءٌ من الأشجار والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. والذي نفسي بيده، لا يصبر واحدٌ على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة! قالوا: وأتى عبد الرحمن بن عوف بطعام، فقال: حمزة أو رجل آخر لم يوجد له كفن، وقتل مصعب بن عمير ولم يوجد له كفنٌ إلا بردة ، وكانا خيراً مني. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مصعب ابن عمير، وهو مقتولٌ في بردة، فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحدٌ أرق حلةً ولا أحسن لمةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة. ثم أمر به يقبر، ونزل في قبره أخوه أبو الروم، وعامر بن ربيعة، وسويبط بن عمرو ابن حرملة. ونزل في قبر حمزة عليٌّ، والزبير، وأبو بكر، وعمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسٌ على حفرته.
وكان الناس أو عامتهم قد حملوا قتلاهم إلى المدينة، فدفن ببقيع الجبل منهم عدةٌ، عند دار زيد بن ثابت اليوم بالسوق، سوق الظهر، ودفن ببني سلمة بعضهم، ودفن مالك بن سنان في موضع أصحاب العباء الذي عند دار نخلة. ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ردوا القتلى إلى مضاجعهم! وكان الناس قد دفنوا قتلاهم، فلم يرد أحدٌ إلا رجلاً واحداً أدركه المنادي ولم يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزومي، كان حمل إلى المدينة وبه رمقٌ فأدخل على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلّم، فقالت: أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم: ابن عمي يدخل على غيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: احملوه إلى أم سلمة. فحمل إليها فمات عندها، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ترده إلى أحد، فدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها، وكان قد مكث يوماً وليلة، ولكنه لم يذق شيئاً، ولم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يغسله.
قالوا: وكان من دفن هناك من المسلمين، إنما دفن في الوادي. وكان طلحة بن عبيد الله إذا سئل عن تلك القبور المجتمعة بأحد يقول: قوم من الأعراب كانوا زمان الرمادة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هناك، فماتوا فتلك قبورهم. وكان عباد بن تميم المازني ينكر تلك القبور ويقول: إنما هم قوم ماتوا زمان الرمادة، وكان ابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن محمد يقولان: لا نعرف تلك القبور المجتمعة، إنما هي قبور ناس من أهل البادية، وقبور من قبور الشهداء قد غيبت، لا نعرفهم بالوداي وبالمدينة ونواحيها، إلا أنا نعرف قبرحمزة بن عبد المطلب، وقبر سهل بن قيس، وقبر عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يزورهم في كل حول، وإذا تفوه الشعب رفع صوته فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار! ثم أبو بكر رضي الله عنه كل حول يفعل مثل ذلك، ثم عمرو بن الخطاب رضي الله عنه يفعل مثل ذلك، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم معاوية حين مر حاجاً أو معتمراً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب الجبل. وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم تأتيهم بين اليومين والثلاثة. فتبكي عندهم وتدعو. وكان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ماله بالغابة، فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول: السلام عليكم! ثلاثاً، ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم السلام؟ لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مصعب بن عمير فوقف عليه، ودعا، وقرأ: " رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً " ، أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم! والذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه. وكان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة فيدعو ويقول لمن معه: لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا عليه السلام، فلا تدعوا السلام عليهم وزيارتهم. وكان أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد يحدث أنه كان يذهب مع محمد بن مسلمة وسلمة بن سلامة بن وقش في الأشهر إلى أحد، فيسلمان على قبر حمزة أولها، ويقفان عنده وعند قبر عبد الله بن عمرو ابن حرام مع قبور من هناك. وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم تذهب فتسلم عليهم في كل شهرٍ فتظل يومها، فجاءت يوماً ومعها غلامها نبهان، فلم يسلم فقالت: أي لكع، ألا تسلم عليهم؟ والله لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا إلى يوم القيامة. وكان أبو هريرة يكثر الاختلاف إليهم. وكان عبد الله بن عمرو إذا ركب إلى الغابة فبلغ ذباب، عدل إلى قبور الشهداء فسلم عليهم، ثم رجع إلى ذباب حتى استقبل الطريق طريق الغابة ويكره أن يتخذهم طريقاً، ثم يعارض الطريق حتى يرجع إلى طريقه الأولى. وكانت فاطمة الخزاعية قد أدركت تقول: رأيتني وغابت الشمس بقبور الشهداء ومعي أختٌ لي، فقلت لها: تعالى، نسلم على قبر حمزة وننصرف. قالت: نعم. فوقفنا على قبره فقلنا: السلام عليك يا عم رسول الله. فسمعنا كلاماً رد علينا: وعليكما السلام ورحمة الله. قالتا: وما قربنا أحدٌ من الناس.
قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من دفن أصحابه دعا بفرسه فركبه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحت، ولا مثل لبني سلمة وبني عبد الأشهل، ومعه أربعة عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل الحرة قال: اصطفوا فنثني على الله! فاصطف الناس صفين خلفهم النساء، ثم دعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:اللهم، لك الحمد كله! اللهم، لا قابض لما بسطت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت! اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول! اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف والغناء يوم الفاقة، عائذاً بك اللهم من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت منا! اللهم توفنا مسلمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين! اللهم عذب كفره أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدون عن سبيلك! اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! إله الحق! آمين! وأقبل حتى نزل ببني حارثة يميناُ حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له.
فخرج النساء ينظرون إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت أم عامر الأشهلية تقول: قيل لنا قد أقبل النبي صلى الله عليه وسلّم ونحن في النوح على قتلانا، فخرجنا فنظرت إليه فإذا عليه الدرع كما هي، فنظرت إليه فقلت: كل مصية بعدك جللٌ.
وخرجت أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفٌ على فرسه، وسعد بن معاذ آخذٌ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مرحباً بها! فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: أما إذ رأيتك سالماً، فقد أشوت المصيبة. فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعاً وهم اثنا عشر رجلاً وقد شفعوا في أهليهم. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خل أبا عمرو الدابة. فخلى الفرس وتبعه الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشيةٌ، وليس فيهم مجروحٌ إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان، اللون لون دمٍ والريح ريح مسك، فمن كان مجروحاً فليقر في داره وليداو جرحه، ولا يبلغ معي بيتي عزمةً مني. فنادى فيهم سعدٌ: عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلّم جريحٌ من بني عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح، فباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحاً. ومضى سعد بن معاذ معه صلى الله عليه وسلّم إلى بيته، ثم رجع إلى نسائه فساقهن، ولم تبق امرأةٌ إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبكين بين المغر والعشاء. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين فرغ من النوم لثلث الليل، فسمع البكاء فقال: ما هذا؟ فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: رضي الله عنكن وعن أولادكن! وأمرنا أن نرد إلى منازلنا. قالت: فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل، معنا رجالنا، فما بكت منا امرأةٌ قط إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا.
ويقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة، وجاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما أردتا هذا! ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب بالمدينة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة عند نكبةٍ قد أصابت أصحابه، وأصيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نفسه. فجعل ابن أبي والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصابهم ويظهرون أقبح القول. ورجع من رجع من أصحابه وعامتهم جريحٌ، ورجع عبد الله بن عبد اله بن أبي وهو جريح، فبات يكوى الجراحة بالنار حتى ذهب الليل، وجعل أبوه يقول: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خيرٌ.
وأظهرت اليهود القول السيء فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبيٌّ قط أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه! وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه ويأمرونهم بالتفرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجعل المنافقون يقولون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. حتى سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا عمر، إن الله مظهر دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمةٌ فلا أقتلهم. قال: فهؤلاء المنافقون يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذاً من السيف، فقد بان لهم أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وإن محمداً رسول الله . يا ابن الخطاب، إن قريشاً لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن.
قالوا: فكان لعبد الله بن أبي مقام يقومه كل جمعة شرفاً له لا يريد تركه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أحد إلى المدينة جلس على المنبر يوم جمعة، فقام ابن أبي فقال: هذا رسول الله بين أظهركم، قد أكرمكم الله به، انصروه وأطيعوه. فلما صنع بأحد ما صنع قام ليفعل ذلك، فقام إليه المسلمون فقالوا: اجلس يا عدو الله! وقام إليه أبو أيوب وعبادة بن الصامت، وكانا أشد من كان عليه ممن حضر، ولم يقم إليه أحدٌ من المهاجري، فجعل أبو أيوب يأخذ بلحيته، وعبادة بن الصامت يدفع في رقبته، ويقولان له: لست لهذا المقام بأهل! فخرج بعد ما أرسلاه، وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأنما قلت هجراً، قمت لأشد أمره! فلقيه معوذ بن عفراء فقال: مالك؟ قال: قمت ذلك المقام الذي كنت أقوم أولاً، فقام إلي رجالٌ من قومي، فكان أشدهم علي عبادة، وخالد بن زيد. فقال له: ارجع فيستغفر لك رسول الله. فقال: والله ما أبغى يستغفر لي. فنزلت هذه الآية: " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله... " الآية. قال: ولكأني أنظر إلى ابنه جالسٌ في الناس، ما يشد الطرف إليه، فجعل يقول: أخرجني محمد من مربد سهل وسهيل.
ما نزل من القرآن بأحد
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور ابن مخرمة، قالت: قال أبي المسور بن مخرمة لعبد الرحمن بن عوف: حدثنا عن أحد! فقال: يا ابن أخي عد بعد العشرين ومائة من آل عمران فكأنك حضرننا: " وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين.. " إلى آخر الآية. قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القداح، إن رأى صدراص خارجاً قال: تأخر! وفي قوله: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.. " إلى آخر الآية. قال: هم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا ألا يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أحد، ثم عزم لهما فخرجوا. " ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلةٌ " ، يقول: قليل، كانوا ثلاثماشة وبضعة عشر رجلاً، " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ما أبلاكم ببدر من الظفر. " إذ تقول للمؤمنين " هذا يوم أحد، " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين " . " بلى إن تصبروا وتتقوا.. " الآية، كان نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يخرج إلى أحد: إني ممدكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " . " وما جعله الله إلا بشرى لكم " قال: فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بملك واحد يوم أحد. وقوله " مسومين " قال: معلمين. " وما جعله الله إلا بشى لكم " لتستبشروا بهم ولتطمئنوا إليهم. " ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين " يقول: نصيب منهم أحداً وينقلبون خائبين. " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " قال: يعني الذين انهزموا يوم أحد. ويقال نزلت في حمزة حين رأيى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما به من المثل فقال: لأمثلن بهم! فنزلت هذه الآية. ويقال نزل في رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين رمى يوم أحد فجعل يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً " قال: كان أهل الجاهلية إذا حل حق أحدهم فلم يجد عنده غريمه أخره عنه وأضعفه عليه. " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " قال: التكبيرة الأولى مع الإمام، " وجنةٍ عرضها السموات والأرض " فيقال الجنة في السماء الرابعة. " الذين ينفقون في السراء والضراء " قال: السراء اليسر والضراء العسر، " والكاظمين الغيظ " يعني عمن آذاهم، " والعافين عن الناس " ما أوتى إليهم. " والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، " ولم يصروا على ما فعلوا " فكان يقال لا كبيرة مع توبة ولا صغيرة مع إصرار. " هذا بيانٌ للناس " من العمى، " وهدىً " من الضلالة، " وموعظة للمتقين " . " ولا تهنوا " يقول: في قتال العدو، " ولا تحزنوا " على من أصيب منكم بأحد من القتل والجراح، " وأنتم الأعلون " يقول " قد أصبتم يوم بدر ضعف ما أصابكم منكم بأحد. " إن يمسسكم قرحٌ " يعني جراح، " فقد مس القوم قرحٌ مثله " يعني جراح يوم بدر، " وتلك الأيام نداولها بين الناس " يقول: لهم دولةٌ ولكم دولةٌ، والعاقبة لكم، " وليعلم الله الذين آمنوا " يقول: من قاتل مع نبيه، " ويتخذ منكم شهداء " من قتل بأحد، " وليمحص الله الذين آمنوا " يعني يبلوهم الذين قتلوا وثبتوا، " ويمحق الكافرين " يعني المشركين. " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " يعني من قتل بأحد وأبلى فيه، " ويعلم الصابرين " من يصبر يومئذٍ. " ولقد كنت تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " قال: السيوف في أيدي الرجال، كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قد تخلفوا عن بدر فكانوا هم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخروج إلى أحد فيصيبون من الأجر والغنيمة، فلما كان يوم أحد ولى منهم من ولى. ويقال هو في نفرٍ كانوا تكلموا قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أحد فقالوا: ليتنا نلقى جمعاً من المشركين فإما أن نظفر بهم أو نرزق الشهادة. فلما نظروا إلى الموت يوم أحد هربوا. " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " إلى آخر الآية. قال: إن إبليس تصور يوم أحد في صورى جعال بن سراقة الثعلبي فنادى إن محمد قد قتل فتفرق الناس في كل وجه، فقال عمر: إني أرقى في الجبل كأني أرويه حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ينزل عليه: " وما
محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل.. " الآية، " ومن ينقلب على عقبيه " يقول: تولى. " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً موجلاً " يقول: ما كان لها أن تموت دون أجلها، وهو قول ابن أبي حين رجع بأصحابه وقتل من قتل بأحد " لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " . فأخبره الله أنه كتابٌ موجل، يقول الله عز وجل: " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها " يقول: من يعمل للدنيا نعطه منها ما يشاء، " ومن يرد ثواب الآخرة " يقول: يريد الآخرة، " نؤته منها وسنجزي الشاكرين " . " وكأين من نبيٍّ قاتل معه ربيون " قال: الجماعة الكثيرة، " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا " يقول: ما استسلموا في سبيل الله ولا ضعفت نياتهم، " وما استكانوا " يقول: ما ذلوا لعدوهم، " والله يحب الصابرين " يخبر أنهم صبروا. " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا " إلى قوله " وحسن ثواب الآخرة " يقول: أعطاهم النصر والظفر وأوجب لهم الجنة في الآخرة. " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " يقول: إن تطيعوا اليهود والمنافقين فيما يخذلونكم ترتدوا عن دينكم. " بل الله مولاكمن " يعني المؤمنين، يقول: يتولاكم. " سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نصرت بالرعب شهراً أمامي وشهراً خلفي. " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " والحس القتل. يقول: الذي خبركم أنكم إن صبرتم أمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة، " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر " وهنتم عن العدو، وتنازعتم يعني اختلاف الرماة حيث وضعهم النبي صلى الله عليه وسلّم ومعصيتهم وتقدم النبي صلى الله عليه وسلّم ألا تبرحوا ولا تفارقوا موضعكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا نغنم فلا تشركونا، " من بعد ما أراكم ما تحبون " يعني هزيمة المشركين وتوليتم هاربين، " منكم من يريد الدنيا " يعني العسكر وما فيه من النهب، " ومنكم من يريد الآخرة " الذين ثبتوا من الرماة ولم يغنموا عبد الله بن جبير ومن ثبت معه. فقال ابن مسعود: ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد الدنيا حتى سمعت هذه الآية. قال: " ثم صرفكم عنهم " يقول: حيث كانت الدولة لكم عليهم، " ليبتليكم " ليرجع المشركون فيقتلوا من قتلوا منكم ويجرحوا من جرحوا منكم، " ولقد عفا عنكم " يعني عمن ولى يومئذٍ منكم ومن أراد ما أراد من النهب، فعفا عن ذلك كله. " إذ تصعدون " يعني في الجبل تهربون، " ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم " كانوا يمرون منهزمين يصعدون إلى الجبل، ورسولهم يناديهم: يا معشر المسلمين، أنا رسول الله! إلي! إلي! فلا يلوى عليه أحد، فعفا ذلك عنهم. " فأثابكم غماً بغمٍّ " فالغم الأول الجراح والقتل، فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الغم الأول من الجراح والقتل. ويقال الغم الأول حيث صاروا إلى الجبل بهزيمتهم وتركهم النبي صلى الله عليه وسلّم، والغم الآخر حين تفرعهم المشركون، فعلوهم من فرع الجبل فنسوا الغم الأول. ويقال " غماً بغمٍّ " بلاءٌ على أثر بلاء، " ليكلا تحزنوا على ما فاتكم " يقول: لئلا تذكروا ما فاتكم من نهب متاعهم، " ولا ما أصابكم " من قتل منكم أو جرحز " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاساً " إلى قوله " ما قتلنا ههنا " قال الزبير رضي الله عنه: سمعت هذا القول من معتب بن قشير، وقد وقع علي النعاس وإني لكالحالم، أسمعه يقول هذا الكلام، واجتمع عليه أنه صاحب هذا الكلام. قال الله: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " يقول الله تعالى: لم يكن لهم بد من أن يصيروا إلى مضاجعهم، " ليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " يقول: يخرج أضغانهم وغشهم، " والله عليمٌ بذات الصدور " يقول: ما يكنون من نصحٍ أو غش. " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " يعني من انهزم يوم أحد، يقول: أصابهم ببعض ذنوبهم، " ولقد عفا الله عنهم " يعني انكشافهم. " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " إلى قوله " ما ماتوا وما قتلوا " قال: نزلت في ابن أبي، يقول الله عز وجل للمؤمنين: لا تكلموا ولا تقولوا كما قال ابن أبي. وهو الذي قال الله تعالى فيه " كالذين كفروا " ، " ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم " . " ولئن قتلتم في سبيل الله أو
متم " إلى آخر الآية، يقول: من قتل بالسيف أو مات بإزاء عدو أو مرابط فهو خيرٌ مما يجمع من الدنيا. وقوله " لإلى الله تحشرون " يقول: تصيرون إليه جميعاً يوم القيامة " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم " ، وقوله " لانفضوا من حولك " يعني أصحابه الذين انكشفوا بأحد، " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " أمره أن يشاورهم في الحرب وحده، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يشاور أحداً إلا في الحرب، " فإذا عزمت " أي جمعت، " فتوكل على الله " . " وما كان لنبيٍّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " قال: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا قد غنموا قطيفة حمراء، فقالوا: ما نرى النبي صلى الله عليه وسلّم إلا قد أخذها! فنزلت هذه الآية. " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " يقول: من آمن بالله كمن كفر بالله؟ وقوله: " هم درجاتٌ عند الله " يقول: فضائل بينهم عند الله. قوله " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم، " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن، " ويزكيهم ويعلمهم " القرآن والحكمة والصواب في القول، " وإن كانوا من قبل لفى ضلالٍ مبينٍ " ، قوله " أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها.. " إلى آخر الآية، هذا ما أصابهم يوم أحد، قتل من المسلمين سبعون مع ما نالهم من الجراح. " قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم " بمعصيتكم الرسول، يعني الرماة، وقوله " قد أصبتم مثليها " قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " يوم أحد، " فبإذن الله وليعلم المؤمنين " . " وليعلم الذين نافقوا " يعلم من أبلى وقاتل وقتل، ويعلم الذين نافقوا، " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم " هذا ابن أبي، وقوله " أو ادفعوا " يقول: كثروا السواد ويقال الدعاء. قال ابن أبي يوم أحد: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم يقول الله " هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان " نزلت في ابن ابي، وفي قوله " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " هذا ابن أبي، " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " نزلت في ابن أبي. " ولا تحسبني الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " إلى قوله " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طيرٍ خضر، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها، وتاوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومطعمهم، ورأوا حسن منقلبهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب. قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.. " الآية. وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الشهداء على بارق نهر في الجنة في قبةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرةً وعشياً. وكان ابن مسعود يقول في هذه الآية: إن أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، فتسرح في أي الجنة شاءت، فأطلع ربك عليهم إطلاعهً فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا في الجنة نسرح في أيها نشاء؟ فأطلع عليهم ثانية فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقتل في سبيلك. وقوله " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " إلى آخر الآية، هؤلاء الذين غزوا حمراء الأسد. " إلى آخر الآية، يقول: من قتل بالسيف أو مات بإزاء عدو أو مرابط فهو خيرٌ مما يجمع من الدنيا. وقوله " لإلى الله تحشرون " يقول: تصيرون إليه جميعاً يوم القيامة " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم " ، وقوله " لانفضوا من حولك " يعني أصحابه الذين انكشفوا بأحد، " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " أمره أن يشاورهم في الحرب وحده، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يشاور أحداً إلا في الحرب، " فإذا عزمت " أي جمعت، " فتوكل على الله " . " وما كان لنبيٍّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " قال: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا قد غنموا قطيفة حمراء، فقالوا: ما نرى النبي صلى الله عليه وسلّم إلا قد أخذها! فنزلت هذه الآية. " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " يقول: من آمن بالله كمن كفر بالله؟ وقوله: " هم درجاتٌ عند الله " يقول: فضائل بينهم عند الله. قوله " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم، " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن، " ويزكيهم ويعلمهم " القرآن والحكمة والصواب في القول، " وإن كانوا من قبل لفى ضلالٍ مبينٍ " ، قوله " أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها.. " إلى آخر الآية، هذا ما أصابهم يوم أحد، قتل من المسلمين سبعون مع ما نالهم من الجراح. " قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم " بمعصيتكم الرسول، يعني الرماة، وقوله " قد أصبتم مثليها " قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " يوم أحد، " فبإذن الله وليعلم المؤمنين " . " وليعلم الذين نافقوا " يعلم من أبلى وقاتل وقتل، ويعلم الذين نافقوا، " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم " هذا ابن أبي، وقوله " أو ادفعوا " يقول: كثروا السواد ويقال الدعاء. قال ابن أبي يوم أحد: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم يقول الله " هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان " نزلت في ابن ابي، وفي قوله " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " هذا ابن أبي، " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " نزلت في ابن أبي. " ولا تحسبني الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " إلى قوله " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طيرٍ خضر، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها، وتاوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومطعمهم، ورأوا حسن منقلبهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب. قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.. " الآية. وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الشهداء على بارق نهر في الجنة في قبةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرةً وعشياً. وكان ابن مسعود يقول في هذه الآية: إن أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، فتسرح في أي الجنة شاءت، فأطلع ربك عليهم إطلاعهً فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا في الجنة نسرح في أيها نشاء؟ فأطلع عليهم ثانية فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقتل في سبيلك. وقوله " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " إلى آخر الآية، هؤلاء الذين غزوا حمراء الأسد.
حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لما كان في المحرم ليلة الأحد إذا عبد الله بن عمرو بن عوف المزني على باب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبلال جالسٌ على باب النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد أذن بلال وهو ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أن خرج، فنهض إليه المزني فقال: يا رسول الله، أقبلت من أهلي حتى إذا كنت بمللٍ فإذا قريش قد نزلوا، فقلت: لأدخلن فيه ولأسمعن من أخبارهم. فجلست معهم فسمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعنا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدتهم، فارجعوا نستأصل من بقى! وصفوان يأبى ذلك عليهم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فذكر لهما ما أخبره المزني، فقالا: اطلب العدو، ولا يقحمون على الذرية! فلما سلم ثاب الناس، وأمر بلالاً ينادي يأمر الناس بطلب عدوهم. وقالوا: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة يوم الأحد أمر بطلب عدوهم، فخرجوا وبهم الجراحات.
وفي قوله " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لما فاخشوهم فزادهم إيماناً " إلى قوله " واتبعوا رضوان الله " . فإن أبا سفيان بن حرب وعد النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحدٍ بدر الموعد الصفراء، على رأس الحول. فقيل لأبي سفيان: ألا توافي النبي؟ فبعث نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة يثبط المسلمين، وجعل له عشراً من الإبل إن هو ردهم، ويقول إنهم قد جمعوا جموعاص وقد جاءوكم في داركم، لا تخرجوا إليهم. حتى كاد ذلك يثبطهم أو بعضهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: والذي نفسي بيده، لو لم يخرج معي أحدٌ لخرجت وحدي. فأنهجت لهم بصائرهم، فخرجوا بتجارات وكان بدر موسماً. " فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ " في التجارة، يقول: اربحوا، " لم يمسهم سوءٌ " لم يلقوا قتالاً، وأقاموا ثمانية أيام ثم انصرفوا. " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون " يقول: الشيطان يخوفكم أولياءه ومن أطاعه. " ولا يخزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً " . " إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان " يقول: استحبوا الكفر على الإيمان. " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم " يقول: ما يصح أبدانهم، ويرزقهم ويريهم الدولة على عدوهم، يقول: أملى لهم ليزدادوا كفراً. " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب " يعني مصاب أهل أحد، " ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء " يعني يقرب من رسله. وفي قوله " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " إلى قوله " يوم القيامة " قال: يأتي كنز الذي لا يؤدي حقه ثعباناً في عنقه، ينهش لهزمتيه. يقول: أنا كنزك. " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء " قال: لما نزلت هذه الآية. " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " قال فنحاص اليهودي: الله فقيرٌ ونحن أغنياء ليستقرض منا؟ " ...وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ ونقول ذوقوا عذاب الحريق " . " ذلك بما قدمت أيديكم " من كفركم وقتلكم الأنبياء. " الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربانس تأكله النار " الآية والتي تليها، يعني يهود. " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " يعني اليهود، " ومن الذين أشركوا " يعني من العرب، " أذىً كثيراً.. " إلى آخر الآية. قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يؤمر بالقتال. " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " إلى قوله " ولهم عذابٌ أليمٌ " قال: أخذ على أحبار اليهود في أمر صفة النبي صلى الله عليه وسلّم ألا يكتموه. " فنبذوه وراء ظهورهم " واتخذوه مأكلةً وغيروا صفته. وقوله " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " قالت: نزلت في ناسٍ من المنافقين، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا غزا فقدم قالوا: إذا غزوت فنحن نخرج معك. فإذا غزا لم يخرجوا معه، ويقال هم اليهود. " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " قال: يصلون قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، يعني مضطجعين. " ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا " قال: القرآن، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلّم. وقوله: " فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا " يعني المهاجرين الذين أخرجوا من مكة. " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " . " متاعٌ قليلٌ " يقول: تجارتهم وحرفتهم. " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " يعني عبد الله بن سلام. " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله " قال: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم رباط، إنما كانت الصلاة بعد الصلاة.
وقال جابر بن عبد الله: لما قتل سعد بن ربيع بأحد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم مضى إلى حمراء الأسد. وجاء أخو سعد بن ربيع فأخذ ميراث سعد، وكان لسعد ابنتان وكانت امرأته حاملاً، وكان المسلمون يتوارثون على ما كان في الجاهلية حتى قتل سعد بن ربيع. فلما قبض عمهن المال ولم تنزل الفرائض وكانت امرأة سعد امرأة حازمة، صنعت طعاماً ثم دعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبزاص ولحماً وهي يومئذٍ بالأسواف. فانصرفنا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم من الصبح، فبينا نحن عنده جلوسٌ ونحن نذكر وقعة أحد ومن قتل من المسلمين، ونذكر سعد بن ربيع إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قوموا بنا! فقمنا معه ونحن عشرون رجلاً حتى انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخلنا معه فنجدها قد رشت ما بين صورتين وطرحت خصفة. قال جابر بن عبد الله: والله ما ثم وسادة ولا بساط، فجلسنا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يحدثنا عن سعد بن ربيع، يترحم عليه ويقول: لقد رأيت الأسنة شرعت إليه يومئذٍ حتى قتل. فلما سمع ذلك النسوة بكين، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما نهاهن عن شيءٍ من البكاء. قال جابر: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنة. قال: فتراءينا من يطلع، فطلع أبو بكر رضي الله عنه، فقمنا فبشرناه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم سلم ثم ردوا عليه ثم جلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يطلع عليكم من أهل الجنة. فتراءينا من يطلع من خلال السعف. فطلع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقمنا فبشرناه بما قال النبي صلى الله عليه وسلّم فسلم ثم جلس. ثم قال: يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنة. فنظرنا من خلال السعف، فإذا علي عليه السلام قد طلع، فقمنا فبشرناه بالجنة، ثم جاء فسلم ثم جلس، ثم أتى بالطعام. قال جابر: فأتى من الطعام بقدر ما ياكل رجلٌ واحدٌ أو اثنان، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده فيه فقال: خذوا بسم الله! فأكلنا منها حتى نهلنا، والله ما أرانا حركنا منها شيئاً.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ارفعوا هذا الطعام! فرفعوه، ثم أتينا برطبٍ في طبقٍ في باكورة أو مؤخرٍ قليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بسم الله، كلوا! قال: فأكلنا حتى نهلنا، وإني لأرى في الطبق نحواً مما أتى به. وجاءت الظهر فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يمس ماءً، ثم رجع إلى مجلسه فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جاءت العصر فأتى ببقية الطعام يتشبع به، فقام النبي صلى الله عليه وسلّم فصلى العصر، ولم يمس ماءً، ثم قامت امرأة سعد بن ربيع فقالت: يا رسول الله، إن سعد بن ربيع قتل بأحد، فجاء أخوه فأخذ ما ترك، وترك ابنتين ولا مال لهما، وإنما ينكح يا رسول الله النساء على المال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم أحسن الخلافة على تركته، لم ينزل علي في ذلك شيءٌ، وعودي إلي إذا رجعت! فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بيته جلس على بابه وجلسنا معه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم برحاء حتى ظننا أنه أنزل عليه. قال: فسرى عنه والعرق يتحدر عن جبينه مثل الجمان. فقال: علي بامرأة سعد! قال: فخرج أبو مسعود عقبة بن عمرو حتى جاء بها. قال: وكانت امرأةٌ حازمةً جلدة، فقال: أين عم ولدك؟ قالت: يا رسول الله، في منزله. قال: ادعيه لي! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اجلسي! فجلست وبعث رجلاً يعدو إليه فأتى به وهو في بلحارث بن الخزرج، فأتى وهو متعب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:ادفع إلى بنات أخيك ثلثي ما ترك أخوك. فكبرت امرأته تكبيرة سمعها أهل المسجد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ادفع إلى زوجة أخيك الثمن وشأنك وسائر ما بيدك. ولم يورث الحمل يومئذٍ. وهي أم سعد بنت سعد بن ربيع امرأة زيد بن ثابت أم خارجة بن زيد. فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد تزوج زيد أم سعد بنت سعد وكانت حاملاً، فقال: إن كانت لك حاجةٌ أن تكلمي في ميراثك من أبيك، فإن أمير المؤمنين قد ورث الحمل اليوم، وكانت أم سعد يوم قتل أبوها سعد حملاً. فقالت: ما كنت لأطلب من أخي شيئاً.
ولما انكشف المشركون بأحد كان أول من قدم بخبر أحد وانكشاف المشركين عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، كره أن يقدم مكة وقدم الطائف فأخبر: إن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا، كنت أول من قدم عليكم! وذلك حين انهزم المشركون الانهزامة الأولى، ثم تراجع المشركون بعد فنالوا ما نالوا. وكان أول من أخبر قريشاً بقتل أصحاب محمد وظفر قريش وحشيٌّ.
وحدثني موسة بن شيبة، عن قطر بن وهب الليثي، قال: لما قدم وحشيٌّ على أهل مكة بمصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار على راحلته أربعاً، فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون، فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش! مراراً، حتى ثاب الناس إليه وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون. فلما رضي منهم قال: أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتله لم يقتل مثلها في زحفٍ قط وجرحنا محمداً فأثبتناه بالجراح، وقتلت رأس الكتيبة حمزة. وتفرق الناس في كل وجهٍ بالشماتة بقتل أصحاب محمد وإظهار السرور، وخلا جبير بن مطعم بوحشيٍّ فقال: انظر ما تقول! قال وحشيٌّ: قد والله صدقت. قال: أقتلت حمزة؟ قال: قد والله زرقته بالمزراق في بطنه حتى خرج من بين رجليه، ثم نودى فلم يجب، فأخذت كبده وحملتها إليك لتراها. قال: أذهبت حزن نسائنا، وبردت حر قلوبنا! فأمر يومئذٍ نساءه بمراجعة الطيب والدهن.
وكان معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قد انهزم يومئذٍ، فمضى على وجهه فنام قريباً من المدينة، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان ابن عفان رضي الله عنه فضرب بابه، فقالت امرأته أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ليس هو ها هنا، هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال: فأرسلى إليه، فإن له عندي ثمن بعيرٍ اشتريته عام أول فجئته بثمنه، وإلا ذهبت. قال: فأرسلت إلى عثمان فجاء، فلما رآه قال: ويحك، أهلكتني وأهلكت نفسك، ما جاء بك؟ قال: يا ابن عم، لم يكن لي أحدٌ أقرب إلي منك ولا أحق. فأدخله عثمان في ناحية البيت، ثم خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأخذ له أماناً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يأتيه عثمان: إن معاوية قد أصبح بالمدينة فاطلبوه. فطلبوه فلم يجدوه، فقال بعضهم: اطلبوه في بيت عثمان بن عفان فدخلوا بيت عثمان فسألوا أم كلثوم، فأشارت إليه فاستخرجوه من تحت حمارةٍ لهم، فانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وعثمان جالسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما رآه عثمان قد أتى به قال: والذي بعثك بالحق، ما جئتك إلا أن أسألك أن تؤمنه، فهبه لي يا رسول الله! فوهبه له وأمنه وأجله ثلاثاً، فإن وجد بعدهن قتل. قال: فخرج عثمان فاشترى له بعيراً وجهزه، ثم قال: ارتحل! ارتحل. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، وخرج عثمان مع المسلمين إلى حمراء الأسد، وأقام معاوية حتى كان اليوم الثالث، فجلس على راحلته وخرج حتى إذا كان بصدور العقيق قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن معاوية قد أصبح قريباً فاطلبوه. فخرج الناس في طلبه فإذا هو قد أخطأ الطريق، فخرجوا في أثره حتى يدركه في يوم الرابع، وكان زيد بن حارثة وعمار بن ياسر أسرعا في طلبه، فأدركاه بالجماء فضربه زيد بن حارثة، وقال عمار: إن لي فيه حقاً! فرماه عمار بسهم فقتلاه، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبراه. ويقال: أدرك بثنية الشريد على ثمانية أميال من المدينة. وذلك حيث أخطأ الطريق، فأدركاه فلم يزالا يرميانه بالنبل واتخذاه غرضاً حتى مات.
غزوة حمراء الأسدوكانت يوم الأحد لثمانٍ خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ودخلوا المدينة يوم الجمعة وغاب خمساً.
قالوا: لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصبح يوم الأحد ومعه وجوه الأوس والخزرج، وكانوا باتوا في المسجد على بابه سعد بن عبادرة. وحباب بن المنذر، وسعد بن معاذ، وأوس بن خولي، وقتادة بن النعمان، وعبيد بن أوس في عدةٍ منهم. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الصبح أمر بلالاً أن ينادي: إن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.
قال: فخرج سعد بن معاذ راجعاً إلى داره يأمر قومه بالمسير. قال: والجراح في الناس فاشيةٌ، عامة بني عبد الأشهل جريحٌ، بل كلها، فجاء سعد بن معاذ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن تطلبوا عدوكم. قال: يقول أسيد بن حضير، وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم. وجاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير، فتلبسوا ولحقوا. وجاء أبو قتادة أهل خربى، وهم يداوون الجراح، فقال: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم بطلب عدوكم. فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم. فخرج من بني سلمة أربعون جراحات، وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحاً، وبقطبة ابن عامر بن حديدة تسع جراحات، حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلّم ببئر أبي عنبة إلى رأس الثنية الطريق الأولى يومئذٍ عليهم السلاح قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم والجراح فيهم فاشيةٌ قال: اللهم ارحم بني سلمة! قال الواقدي: وحدثني عتبة بن جبيرة، عن رجالٍ من قومه، قالوا: إن عبد الله بن سهل، ورافع بن سهل بن عبد الأشهل رجعا من أحد وبهما جراحٌ كثيرة، وعبد الله أثقلهما من الجراح، فلما أصبحوا وجاءهم سعد ابن معاذ يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم بطلب عدوهم قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزوةً مع رسول الله لغبنٌ! والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بنا! قال رافع: لا والله، ما بي مشى. قال أخوه، انطلق بنا، نتجار ونقصد! فخرجا يزحفان، فضعب رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبةً، ويمشي الآخر عقبة، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند العشاء وهم يوقدون النيران، فأتى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال: ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخيرٍ وقال: إن طالت لكم مدةٌ كانت لكم مراكب من خيلٍ وبغال وإبل، وليس ذلك بخيرٍ لكم! حدثني عبد العزيز بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، قالك هذان أنس ومؤنس وهذه قصتهما.
وقال جابر بن عبد الله: يا رسول الله، إن منادياً نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس. وقد كنت حريصاً على الحضور، ولكن أبي خلفني على أخواتٍ لي وقال: يا بني، لا ينبغي لي ولك أن ندعهن ولا رجل عندهن، وأخاف عليهن وهن نسيات ضعاف، وأنا خراجٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لعل الله يرزقني الشهادة. فتخلفت عليهن فاستأثره الله على الشهادة وكنت رجوتها، فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قال جابر: فلم يخرج معه أحدٌ لم يشهد القتال بالأمس غيري، واستأذنه رجالٌ لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلوائه، وهو معقود لم يحل من الأمس، فدفعه إلى علي عليه السلام، ويقال دفعه إلى أبي بكر.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوجٌ في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد شظيت، وشفته قد كلمت من باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسجد فركع ركعتين، والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركعتين فدعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه، فقال: يا طلحة، سلاحك! فقلت: قريباً. قال طلحة: فأخرج أعدو فألبس درعي، وآخذ سيفي، وأطرح درقتي في صدري، وإني بي لتسع جراحات ولأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلّم مني بجراحي. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على طلحة فقال: ترى القوم الآن؟ قال: هم بالسيالة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة نفرٍ من أسلم طليعةً في آثار القوم: سليطاً ونعمان ابني سفيان بن خالد بن عوف بن دارم من بني سهم، ومعهما ثالثٌ من أسلم من بني عوير لم يسم لنا. فأبطأ الثالث عنهما وهما يجمزان، وقد انقطع قبال نعل أحدهما، فقال: أعطني نعلك. قال: لا والله، لا أفعل! فضرب أحدهما برجله في صدره، فوقع لظهره وأخذ نعليه. ولحق القوم بحمراء الأسد، ولهم زجلٌ، وهم يأتمرون بالرجوع، وصفوان ينهاهم عن الرجوع، فبصروا بالرجلين فعطفوا عليهما فأصابوهما. فانتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد فعسكروا، وقبروهما في قبرٍ واحد. فقال ابن عباس: هذا قبرهما وهما القرينان. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد. قال جابر: وكانت عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين جملاً حتى وافت الحمراء. وساق جزراً فنحروا في يومٍ اثنين وفي يومٍ ثلاثاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمرنا أن نوقد النيران. فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نارٍ حتى ترى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجهٍ حتى كان مما كبت الله تعالى عدونا.
وانتهى معبد بن أبي معبد الخزاعي، وهو يومئذٍ مشركً، وكان خزاعة سلماً للنبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك. ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان وقريشاً بالروحاء، وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل. فلماك جاء معبد إلى أبي سفيان قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمداص وأصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد أجمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم، وغضبوا لقومهم غضباً شديداً ولمن أصبتم من أشرافهم، قالوا: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما نرى أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل! ثم قال معبد: لقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتاً:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تعدو بأسدٍ كرامٍ لا تنابلةٍ ... عند اللقاء ولا ميلس معازيل
فقلت ويل ابن حربٍ من لقائهم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
وكان مما رد الله تعالى ابا سفيان وأصحابه كلام صفوان بن أمية قبل أن يطلع معبد وهو يقول: يا قوم، لا تفعلوا! فإن القوم قد حزنوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أرشدهم صفوان وما كان برشيدٍ، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! فانصرف القوم سراعاً خائفين من الطلب لهم، ومر بأبي سفيان نفرٌ من عبد القيس يريدون المدينة. فقال: هل مبلغو محمداً وأصحابه ما أرسلكم به، على أن أوقر لكم أباعركم زبيباص غداً بعطاظ إن أنتم جئتموني؟ قالوا: نعم. قال: حيثما لقيتم محمداً وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم، وأنا آثاركم. فانطلق أبو سفيان، وقدم الركب علىالنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بالحمراء، فأخبروهم الذي أمرهم أبو سفيان، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل! وفي ذلك أنزل الله عز وجل: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح..الآية. وقوله: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم.. " الآية. وكان معبد قد أرسل رجلاً من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمه أن قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة.
سرية أبي سلمة بن عبد الأسد
إلى قطن إلى بني الأسد في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً
قال الواقدي: حدثني عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد. وغيره أيضاً قد حدثني من حديث هذه السرية، وعماد الحديث عن عمر ابن عثمان، عن سلمة، قالوا: شهد أبو سلمة بن عبد الأسد أحداً، وكان نازلاً في بني أمية بن زيد بالعالية حين تحول من قباء، ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية. فجرح بأحد جرحاً على عضده فرجع إلى منزله، فجاءه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار إلى حمراء الأسد، فركب حماراً وخرج يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى لقيه حين هبط من العصبة بالعقيق، فسار مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة انصرف مع المسلمين ورجع من العصبة، فأقام شهراً يداوي جرحه حتى رأى أن قد برأ، ودمل الجرح على بغيٍ لا يدري به، فلما كان هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها. وعقد له لواءً وقال: سر حتى ترد أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تلاقي عليك جموعهم. وأوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة، منهم: أبو سبرة بن ابي رهم وهو أخو أبي سلمة لأمه أمه برة بنت عبد المطلب وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن مخرمة العامري. ومن بني مخزوم: معتب بن الفضل بن حمراء الخزاعي حليفٌ فيهم، وأرقم بن أبي الأرقم من أنفسهم. ومن بني فهر: أبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء. ومن الأنصار: أسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وأبو نائلة، وأبو عبس، وقتادة بن النعمان، ونضر بن الحارث الظفري، وأبو قتادة، وأبو عياش الزرقي، وعبد الله بن زيد، وخبيب بن يساف، ومن لم يسم لنا.
والذي هاجه أن رجلاً من طيىء قدم المدينة يريد امرأة ذات رحمٍ به من طيىء متزوجةً رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزل على صهره الذي هو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره أن طليحة وسلمة ابني خويلد تركهما قد سارا في قومهما ومن أطاعهما بدعوتهما إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريدون أن يدنوا للمدينة، وقالوا: نسير إلى محمدٍ في عقر داره، ونصيب من أطرافه، فإن لهم سرحاً يرعى جوانب المدينة، ونخرج على متون الخيل، فقد أربعنا خيلنا، ونخرج على النجائب المخبورة، فإن أصبنا نهباً لم ندرك، وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها، معنا خيلٌ ولا خيل معهم، ومعنا نجائب أمثال الخيل، والقوم منكبون قد أوقعت بهم قريش حديثاً، فهم لا يستبلون دهراً، ولا يثوب لهم جمعٌ. فقام فيهم رجلٌ منهم يقال له قيس بن الحارث بن عمير، فقال: يا قوم، والله ما هذا برأي! ما لنا قبلهم وترٌ وما هم نهبةٌ لمنتهبٍ، إن دارنا لبعيدة من يثرب وما لنا جمعٌ كجمع قريش. مكثت قريش دهراً تسير في العرب تستنصرها ولهم وترٌ يطلبونه، ثم ساروا وقد امتطوا الإبل وقادوا الخيل وحملوا السلاح مع العدد الكثير ثلاثة آلاف مقاتل سوى أتباعهم وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاثمائة رجل إن كملوا، فتغررون بأنفسك وتخرجون من بلدكم، ولا آمن أن تكون الدائرة عليكم. فكاذ ذلك أن يشككهم في المسير، وهم على ما هم عليه بعد. فخرج به الرجل الذي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره ما أخبر الرجل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا سلمة، فخرج في أصحابه وخرج معه الطائي دليلاً فأغذوا السير، ونكب بهم عن سنن الطريق، وعارض الطريق وسار بهم ليلاً ونهاراً، فسبقوا الأخبار وانتهوا إلى أدنى قطن ماء من مياه بني أسد، هو الذي كان عليه جمعهم فيجدون سرحاً فأغاروا على سرحهم فضموه، وأخذوا رعاءً لهم، مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم فجاءوا جمعهم فخبروهم الخبر وحذروهم جمع أبي سلمة، وكثروه عندهم فتفرق الجمع في كل وجهٍ، وورد أبو سلمة الماء فيجد الجمع قد تفرق، فعسكر وفرق أصحابه في طلب النعم والشاء، فجعلهم ثلاث فرق فرقةٌ أقامت معه، وفرقتنا أغارتا في ناحيتين شتى. وأوعز إليهما ألا يمعنوا في طلب وألا يبيتوا إلا عنده إن سلموا، وأمرهم ألا يفترقوا، واستعمل على كل فرقةٍ عاملاً منهم. فآبوا إليه جميعاً سالمين، قد أصابوا إبلاً وشاءص ولم يلقوا أحداً، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة راجعاً، ورجع معه الطائي، فلما ساروا ليلة قال أبو سلمة: اقتسموا غنائمكم. فأعطى أبو سلمة الطائي الدليل رضاه من المغنم، ثم أخرج صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عبداً، ثم أخرج الخمس، ثم قسم ما بقي بين أصحابه فعرفوا سهمانهم، ثم أقبلوا بالنعم والشاء يسوقونها حتى دخلوا المدينة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبي سلمة، قال: كان الذي جرح أبا سلمة أبو أسامة الجشمي، رماه يوم أحد بمعبلةٍ في عضده، فمكث شهراً يداويه فبرأ فيما نرى، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً إلى قطن، وغاب بضع عشرة. فلما قدم المدينة انتقض الجرح، فمات لثلاث ليالٍ بقين من جمادى الآخرة، فغسل من اليسيرة بئر بني أمية بين القرنين، وكان اسمها في الجاهلية العبير فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلّم اليسيرة، ثم حمل من بني أمية فدفن بالمدينة.
قال عمر بن أبي سلمة: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشراً، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخل بها في ليالٍ بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس في النكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلّم في شوال وأعرس بي في شوال. وماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع وخمسين.
قال أبو عبد الله الواقدي: فحدثت عمر بن عثمان الجحشي، فعرف السرية ومخرج أبي سلمة إلى قطن، وقال: أما سمي لك الطائي؟ قلت: لا . قال: هو الوليد بن زهير بن طريف عم زينب الطائية، وكانت تحت طليب بن عمير، فنزل الطائي عليه فأخبره فذهب به طليب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبر خبر بني أسد وما كان من همومهم بالمسير. ورجع معهم الطائي دليلاً وكان خريتاً، فسار بهم أربعاً إلى قطن، وسلك بهم غير الطريق، لأن يعمى الخبر على القوم. فجاءوا القوم وهم غارون على صرمةٍ، فوجدوا الصرم قد نذروا بهم وخافوهم فهم معدون، فاقتتلوا فكانت بينهم جراحة، وافترقوا. ثم أغار الطائيون بعد ذلك على بني أسد فكان بينهم أيضاً جراح، وأصابوا لهم نعماً وشاءً، فما تخلصوا منهم شيئاً حتى دخل الإسلام.
قال الواقدي: وأصحابنا يقولون: أبو سلمة من شهداء أحد للجرح الذي جرح يوم أحد ثم انتقض به. وكذلك أبو خالد الزرقي من أهل العقبة، جرح اليمامة جرحاً، فلما كان في خلافة عمر انتقض به الجرح فمات فيه، فصلى عليه عمر وقال: هو من شهداء اليمامة لأنه جرح باليمامة.
قال الواقدي: فحدثت يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة حديث أبي سلمة كله فقال: أخبرني أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا سلمة في المحرم على رأس أربعة وثلاثين شهراً، في مائة وخمسة وعشرين رجلاً فيهم سعد بن أبي وقاص، وأبو حذيفة بن عتبة، وسالم مولى أبي حذيفة. فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى وردوا قطن، فوجدوا القوم قد جمعوا جمعاً فأحاط بهم أبو سلمة في عماية الصبح، وقد وعظ القوم وأمرهم بتقوى الله، ورغبهم في الجهاد وحضهم عليه، وأوعز إليهم في الإمعان في الطلب، وألف بين كل رجلين. فانتبه الحاضر قبل حملة القوم عليهم، فتهيئوا وأخذوا السلاح، أو من أخذه منهم، وصفوا للقتال. وحمل سعد بن أبي وقاص على رجلٍ منهم فضربه فأبان رجله، ثم ذفف عليه ، وحمل رجلٌ من الأعراب على مسعود ابن عروة، فحمل عليه بالرمح فقتله، وخاف المسلمون على صاحبهم أن يسلب من ثيابه فحازوه إليهم. ثم صاح سعد: ما ينتظر! فحمل أبو سلمة فانكشف المشركون على حاميتهم، وتبعهم المسلمون، ثم تفرق المشركون في كل وجةٍ، وأمسك أبو سلمة عن الطلب فانصرفوا إلى المحلة، فواروا صاحبهم وأخذوا ما خف لهم من متاع القوم، ولم يكن في المحلة ذرية، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة، حتى إذا كانوا من الماء على مسيرة ليلة أخطأوا الطريق، فهجموا على نعم لهم فيهم رعاؤهم، وإنما نكبوا عن سننهم، فاستاقوا النعم واستاقوا الرعاء، فكانت غنائمهم سبعة أبعرة.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: قال سعد ابن أبي وقاص: فلما أخطأنا استأجرنا رجلاً من العرب دليلاً يدلنا على الطريق. فقال: أنا أهجم بكم على نعمٍ، فما تجعلون لي منه؟ قالوا: الخمس. قال: فدلهم على النعم وأخذ خمسه.
غزوة بئر معونةفي صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً
حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ومعمر بن راشد، وأفلح بن سعيد، وابن أبي سبرة، وأبو معشر، وعبدالله بن جعفر، وكل قد حدثني بطائفةٍ من هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض وغير هؤلاء المسلمين، وقد جمعت كل الذي حدثوني، قالوا: قدم عامر بن مالك بن جعفر أبو البراء ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرسين وراحلتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أقبل هدية مشركٍ! فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، إني أرى أمرك هذا أمراً حسناً شريفاً، وقومي خلفي، فلو أنك بعثت نفراً من أصحابك معي لرجوت أن يجيبوا دعوتك ويتبعوا أمرك، فإن هم اتبعوك فما أعز أمرك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال عامر: لا تخف عليهم، أنا لهم جارٌ أن يعرض لهم أحدٌ من أهل نجد. وكان من الأنصار سبعون رجلاً شببةً يسمون القراء، كانوا إذا أمسوا أتوا ناحيةً من المدينة فتدارسوا وصلوا، حتى إذا كان وجاه الصبح استعذبوا من الماء وحطبوا من الحطب فجاءوا به إلى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان أهلوهم يظنون أنهم في المسجد، وكان أهل المسجد يظنون أنهم في أهليهم. فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فخرجوا فأصيبوا في بئر معونة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلتهم خمس عشرة ليلة. وقال أبو سعيد الخدري: كانوا سبعين، ويقال إنهم كانوا أربعين، ورأيت الثبت على أنهم أربعون. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم معهم كتاباً، وأمر على أصحابه المنذر بن عمرو الساعدي، فخرجوا حتى كانوا على بئر معونة، وهو ماءٌ من مياءه بني سلمة، وهو بين أرض بني عامر وبني سليم، وكلا البلدين يعد منه.
فحدثني مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: خرج المنذر بدليلٍ من بني سليم يقال له المطلب، فلما نزلوا عليها عسكروا بها وسرحوا ظهرهم، وبعثوا في سرحهم الحارث بن الصمة، وعمرو بن أمية. وقدموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عامر بن الطفيل في رجالٍ من بني عامر، فلما انتهى حرام إليهم لم يقرأوا الكتاب، ووثب عامر بن الطفيل على حرام فقتله، واستصرخ عليهم بني عامر فأبوا. وقد كان عامر بن مالك أبو براء خرج قبل القوم إلى ناحية نجد فأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد، فلا يعرضوا لهم، فقالوا: لن يخفر جوار أبي براء. وأبت عامر أن تنفر مع عامر بن الطفيل، فلما أبت عليه بنو عامر استصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلاً فنفروا معه ورأسوه، فقال عامر بن الطفيل: أحلف بالله ما أقبل هذا وحده! فاتبعو إثره حتى وجدوا القوم، قد استبطأوا صاحبهم فأقبلوا في إثره، فلقيهم القوم والمنذر معهم، فأحاطت بنو عامر بالقوم وكاثروهم، فقاتل القوم حتى قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وبقي المنذر بن عمرو، فقالوا له: إن شئت آمناك. فقال: لن أعطي بيدي ولن أقبل لكم أماناً حتى آتي مقتل حرام، ثم برىء مني جواركم. فآمنوا حتى أتى مصرع حرام، ثم برئوا إليه من جوارهم، ثم قاتلهم حتى قتل، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " أعنق ليموت " . وأقبل الحارث بن الصمة وعمرو بن أمية بالسرح، وقد ارتابا بعكوف الطير على منزلهم أو قريبٍ من منزلهم. فجعلا يقولان: قتل والله أصحابنا، والله ما قتل أصحابنا إلا أهل نجد! فأوفى على نشزٍ من الأرض فإذا أصحابهم مقتولون وإذا الخيل واقفةٌ. فقال الحارث بن الصمة لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر. فقال الحارث: ما كنت لأتأخر عن موطنٍ قتل فيه المنذر. فأقبلا للقوم فقاتلهم الحارث حتى قتل منهم اثنين، ثم أخذوه فأسروه وأسروا عمرو بن أمية. وقالوا للحارث: ما تحب أن نصنع بك، فإنا لا نحب قتلك؟ قال: أبلغوني مصرع المنذر وحرام، ثم برئت مني ذمتكم. قالوا: نفعل. فبلغوا به ثم أرسلوه، فقاتلهم فقتل منهم اثنين ثم قتل، فما قتلوه حتى شرعوا له الرماح فنظموه فيها. وقال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية، وهو أسيرٌ في أيديهم ولم يقاتل: إنه قد كانت على أمي نسمة، فأنت حرٌّ عنها! وجز ناصيته، وقال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية، هل تعرف أصحابك؟ قال، قلت: نعم. قال: فطاف فيهم وجعل يسأله عن أنسابهم فقال: هل تفقد منهم عن أحدٍ؟ قال: أفقد مولىً لأبي بكر يقال له عامر بن فهيرة. فقال: كيف كان فيكم؟ قال، قلت: كان من أفضلنا ومن أول أصحاب نبينا. قال: ألا أخبرك خبره؟ وأشار إلى رجلٍ فقال: هذا طعنه برمحه، ثم انتزع رمحه فذهب بالرجل علواً في السماء حتى والله ما أراه. قال عمرو، فقلت: ذلك عامر بن فهيرة! وكان الذي قتله رجلٌ من بني كلاب يقال له جبار بن سلمى، ذكر أنه لما طعنه قال، سمعته يقول: فزت والله! قال، فقلت في نفسي: ما قوله فزت؟ قال: فأتيت الضحاك بن سفيان الكلابي فأخبرته بما كان وسألته عن قوله فزت، فقال: الجنة. قال: وعرض علي الإسلام. قال: فأسلمت، ودعاني إلى الإسلام ما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة من رفعة إلى السماء علواً. قال: وكتب الضحاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره بإسلامي وما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فإن الملائكة وارت جئته! وأنزل عليين.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبر بئر معزنة، جاء معها من ليلةٍ واحدةٍ مصابهم ومصاب مرثد بن أبي مرثد، وبعث محمد بن مسلمة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلتهم بعد الركعة من الصبح، في صبح تلك الليلة التي جاءه الخبر، فلما قال: سمع الله لمن حمده! قال: اللهم اشدد وطأتك على مضرا، اللهم، عليك ببني لحيان وزعبٍ ورعل وذكوان وعصية، فإنهم عصوا الله ورسوله، اللهم، عليك ببني لحيان وعضل والقارة، اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن ابن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، غفارٌ غفر الله لها، وأسلم سالمها الله! ثم سجد. فقال ذلك خمس عشرة، ويقال أربعين يوماً، حتى نزلت هذه الآية: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم ... " الآية. وكان أنس بن مالك يقول: يا رب، سبعين من الأنصار يوم بئر معونة! وكان أبو سعيد الخدري يقول: قتلت من الأنصار في مواطن سبعين سبعين يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون. ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة. وكان أنس بن مالك يقول: أنزل الله فيهم قرآناً قرأناها حتى نسخ: " بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه " .
قالوا: وأقبل أبو براء سائراً، وهو شيخٌ كبيرهم، فبعث من العيص ابن أخيه لبيد بن ربيعة بهديةٍ، فرسٍ، فدره النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: لا أقبل هدية مشركٍ! فقال لبيد: ما كنت أظن أن أحداً من مضر يرد هدية أبي براء. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لو قبلت هدية مشرك لقبلت هدية أبي براء. قال: فإنه قد بعث يستشفيك من وجعٍ به وكانت به الدبيلة. فتناول النبي صلى الله عليه وسلّم جبوبةً من الأرض فتفل فيها، ثم ناوله وقال: دفها بماءٍ ثم اسقها إياه. ففعل فبرىء. ويقال إنه بعث إليه بعكة عسل فلم يزل يلعقها حتى برىء. فكان أبو براء يومئذٍ سائراً في قومه يريد أرض بلى، فمر بالعيص فبعث ابنه ربيعة مع لبيد يحملان طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لربيعة: ما فعلت ذمة أبيك؟ قال ربيعة: نقضتها ضربةٌ بسيفٍ أو طعنةٌ برمح! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج ابن أبي براء فخبر أباه، فشق عليه ما فعل عامر بن الطفيل وما صنع بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا حركة به من الكبر والضعف، فقال: أخفرني ابن أخي من بين بني عامر. وسار حتى كانوا على ماءٍ من مياه بلى يقال له الهدم، فيركب ربيعة فرساً له ويلحق عامراً وهو على جملٍ له، فطعنه بالرمح فأخطأ مقاتله. وتصايح الناس، فقال عامر بن الطفيل: إنها لم تضرني! إنها لم تضرني! وقال: قضيت ذمة أبي براء. وقال عامر بن الطفيل: قد عفوت عن عمي، هذا فعله! وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: اهد بني عامر واطلب خفرتي من عامر بن الطفيل.
وأقبل عمرو بن أمية حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلّم، سار على رجليه أربعاً، فلما كان بصدور قناة لقى رجلين من بني كلاب، قد كانا قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكساهما، ولهما منه أمانٌ. ولم يعلم بذلك عمرو، فقايلهما فلما ناما وثب عليهما فقتلهما للذي أصابت بنو عامر من أصحاب بئر معونة. ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بقتل أصحاب بئر معونة، فقال: أنت من بينهم! ويقال إن سعد بن أبي وقاص رجع مع عمرو بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ما بعثتك قط إلا رجعت إلي من بين أصحابك. ويقال إنه لم يكن معهم ولم يكن في السرية إلا أنصاري، وهذا الثبت عندنا. وأخبر عمرو النبي صلى الله عليه وسلّم بمقتل العامريين فقال: بئس ما صنعت، قتلت رجلين كان لهما مني أمانٌ وجوار، لأدينهما! فكتب إليه عامر بن الطفيل وبعت نفراً من أصحابه يخبره: إن رجلاً من أصحابك قتل رجلين من أصحابنا ولهما منك أمانٌ وجوار. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ديتهما، دية حرين مسلمين، فبعث بها إليهم.
حدثني مصعب، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: حرص المشركون بعروة بن الصلى أن يؤمنوه فأبى وكان ذا خلة بعامر، مع أن قومه بني سليم حرصوا على ذلك. فأبى وقال: لا أقبل لكم أماناً ولا أرغب بنفسي عن مصرع أصحابي. وقالوا حين أحيط بهم: اللهم، إنا لا نجد من يبلغ رسولك السلام غيرك، فاقرأ عليه السلام فأخبره جبريل عليه السلام بذلك.
تسمية من استشهد من قريشمن بني تيم: عامر بن فهيرة، ومن بني مخزوم: الحكم بن كيسان حليفٌ لهم، ومن بني سهم: نافع من بديل بن ورقاء، ومن الأنصار: المنذر بن عمرو، أمير القوم، ومن بني زريق معاذ بن ماعص، ومن بني النجار: حرام وسليم ابنا ملحان، ومن بني عمرو بن مبذول: الحارث ابن الصمة، وسهل بن عامر بن سعد بن عمرو، والطفيل بن سعد، ومن بني عمرو بن مالك: أنس بن معاوية بن أنس، وأبو شيخ أبي بن ثابت ابن المنذر، ومن بني دينار بن النجار: عطية بن عبد عمرو، وارتث من القتلى كعب بن زيد بن قيس قتل يوم الخندق، ومن بني عمرو بن عوف: عروة بن الصلت حليفٌ لهم من بني سليم، ومن النبيت: مالك بن ثابت، وسفيان بن ثابت. فجميع من استشهد ممن يحفظ اسمه ستة عشر رجلاً.
وقال عبد الله بن رواحة يرثي نافع بن بديل، سمعت أصحابنا ينشدونها:
رحم الله نافع بن بديلٍ ... رحمة المبتغى ثواب الجهاد
صارمٌ صادق اللقاء إذا ما ... أكثر الناس قال قول السداد
وقال أنس بن عباس السلمى، وكان خال طعمية بن عدي، وكان طعمية يكنى أبا الريان، خرج يوم بئر معونة يحرض قومه يطلب بدم ابن أخيه، حتى قتل نافع بن بديل بن ورقاء، فقال:
تركت ابن ورقاء الخزاعى ثاوياً ... بمعترك تسفى عليه الأعاصر
ذكرت أبا الريان لما عرفته ... وأيقنت أني يوم ذلك ثائر
سمعت أصحابنا يثبتونها. وقال حسان بن ثابت يرثي المنذر بن عمرو:
صلى الإله على ابن عمروٍ إنه ... صدق اللقاء وصدق ذلك أوفق
قالوا له أمرين فاختر فيهما ... فاختار في الرأي الذي هو أوفق
أنشدني ابن جعفر قصيدة حسان سحاً غير نزر.
غزوة الرجيعفي صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحاب الرجيع عيوناً إلى مكة ليخبروه خبر قريش، فسلكوا على النجدية حتى كانوا بالرجيع فاعترضت لهم بنو لحيان.
حدثني محمد بن عبد الله، ومعمر بن راشد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل ابن أبي حثمة، ومعاذ بن محمد، في رجالٍ ممن لم أسم، وكل قد حدثني ببعض الحديث، وبعض القوم كان أرعى له من بعض، وقد جمعت الذي حدثوني، قالوا: لما قتل سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي مشت بنو لحيان إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم فرائض على أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيكلموه، فيخرج إليهم نفراً من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام. فنقتل من قتل صاحبنا ونخرج بسائرهم إلى قريش بمكة فنصيب بهم ثمناً، فإنهم ليسوا لشيءٍ أحب إليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمدٍ، يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر. فقدم سبعة نفرٍ من عضل والقارة وهما حيان إلى خزيمة مقرين بالإسلام، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن فنيا إسلاماً فاشياً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يقرئوننا القرآن ويفقهوننا في الإسلام. فبعث معهم سبعة نفر: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن أبي البكير، وعبدالله بن طارق البلوى حليفٌ في بني ظفر، وأخاه لأمه معتب بن عبيد، حليفٌ في بني ظفر، وخبيب بن عدي بن بلحارث بن الخزرج، وزيد ابن الدثنة من بني بياضة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. ويقال كانوا عشرة وأميرهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. فخرجوا حتى إذا كانوا بماءٍ لهذيل يقال له الرجيع قريب من الهدة خرج النفر فاستصرخوا عليهم أصحابهم الذين بعثهم اللحيانيون، فلم يرع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم إلا بالقوم، مائة رامٍ وفي أيديهم السيوف. فاخترط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسيافهم ثم قاموا، فقال العدو: ما نريد قتالكم، وما نريد إلا أن نصيب منكم من أهل مكة ثمناً، ولكم عهد الله وميثاقه لا نقتلكم. فأما خبيب بن عدي، وزيد ابن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فاستأسروا. وقال خبيب: إن لي عند القوم يداً. وأما عاصم بن ثابت، ومرثد، وخالد بن أبي البكير، ومعتب ابن عبيد، فأبوا أن يقبلوا جوارهم ولا أمانهم. وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشركٍ أبداً. فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
ما علتي وأنا جلدٌ نابل ... النبل والقوس لها بلابل
تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حقٌّ والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل
إن لم أقاتلكم فأمى هابل
قال الواقدي: ما رأيت من أصحابنا أحداً يدفعه. قال: فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره! وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه. قال: فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قتل، وقد جرح رجلين وقتل واحداً. فقال عاصم وهو يقاتل:
أنا أبو سليمان ومثلى رامي ... ورثت مجداً معشراً كراما
أصبت مرثداً وخالداً قياما
ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه. وكانت سلافة بنت سعد بن الشهيد قد قتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين، الحارث، ومسافعاً، فنذرت لئن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت ذلك العرب وعلمته بنو لحيان فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة. فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته فلم يدن إليه أحدٌ إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيءٌ كثيرٌ لا طاقة لأحد به. فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر. فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً وكنا ما نرى في السماء سحاباً في وجهٍ من الوجوه فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يذكر عاصماً، وكان عاصم نذر إلا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك تنجساً به. فقال عمر رضي الله عنه: إن الله عز وجل ليحفظ المؤمنين، فمنعه الله عز وجل أن يمسوه بعد وفاته كما امتنع في حياته.
وقاتل معتب بن عبيد حتى جرح فيهم، ثم خلصوا إليه فقتلوه. وخرجوا بخبيب،وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدثنة حتى إذا كانوا بمر الظهران، وهم موثقون بأوتار قسيهم، قال عبد الله بن طارق: هذا أول الغدر! والله لا أصاحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوةً يعني القتلى . فعالجوه فأبى، ونزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه، فانحازوا عنه فجعل يشد فيهم وينفرجون عنه، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بمر الظهران. وخرجوا بخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة حتى قدموا بهما مكة، فأما خبيب فابتاعه حجير بن ابي إهاب بثمانين مثقال ذهب. ويقال اشتراه بخمسين فريضة، ويقال اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائةٍ من الإبل. وكان حجير إنما اشتراه لابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه قتل يوم بدر. وأما زيد بن الدثنة، فاشتراه صفوان بن أمية بخمسين فريضة فقلته بأبيه، ويقال إنه شرك فيه أناسٌ من قريش، فدخل بهما في شهر حرام، في ذي القعدة، فحبس حجير خبيب بن عدي في بيت امرأة يقال لها ماوي، مولاة لبني عبد مناف، وحبس صفوان بن أمية زيد بن الدثنة عند ناسٍ من بني جمح، ويقال عند نسطاس غلامه. وكانت ماوية قد أسلمت بعد فحسن إسلامها، وكانت تقول: والله ما رأيت أحداً خيراً من خبيب. والله لقد اطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد، ما أعلم في الأرض حبة عنبٍ تؤكل، وإن في يده لقطف عنبٍ مثل رأس الرجل يأكل منه، وما هو إلا رزقٌ رزقه الله. وكان خبيب يتهجد بالقرآن، وكان يسمعه النساء فيبكين ويرققن عليه. قالت، فقلت له: يا خبيب، هل لك من حاجة؟ قال: لا، إلا إن تسقيني العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبريني إذا أرادوا قتلى. قالت: فلما انسلخت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله أتيته فأخبرته، فوالله ما رأيته اكترث لذلك، وقال: ابعثي لي بحديدةٍ أستصلح بها. قال: فبعثت إليه موسى مع ابني أبي حسين، فلما ولى الغلام قلت: أدرك والله الرجل ثأره، أي شيءٍ صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول رجلٌ برجل. فلما أتاه ابني بالحديدة تناولها منه ثم قال ممازحاً له: وأبيك إنك لجريءٌ! أما خشيت أمك غدرى حين بعثت معك بحديدةٍ وأنتم تريدون قتلي؟ قالت ماوية: وأنا أسمع ذلك فقلت: يا خبيب، إنما أمنتك بأمان الله وأعطيتك بإلهك، ولم أعطك لتقتل ابني. فقال خبيب: ما كنت لأقتله، وما نستخل في ديننا الغدر. ثم أخبرته أنهم مخرجوه فقاتلوه بالغداة. قال: فأخرجوه بالحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعةٌ من أهل مكة، فلم يتخلف أحدٌ، إما موتور فهو يريد أن يتشافى بالنظر من وتره، وإما غيره موتور فهو مخالف للإسلام وأهله. فلما انتهوا به إلى التنعيم، ومعه زيد بن الدثنة، فأمروا بخشبة طويلة فحفر لها، فلما انتهوا بخبيب إلى خشبته قال: هل أنتم تاركي فأصلى ركعتين؟ قالوا: نعم. فركع ركعتين أتمهما من غير أن يطول فيهما.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن العلاء، عن أبي هريرة، قال: " أول من سن الركعتين عند القتل خبيب " .
قالوا: ثم قال: أما والله لولا أن تروا أني جزعت من الموت لاستكثرت من الصلاة. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
فقال معاوية بن أبي سفيان: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقاً من دعوة خبيب، ولقد جبذني يومئذٍ أبو سفيان جبذة، فسقطت على عجب ذنبي فلم أزل أشتكي السقطة زماناً.
وقال حويطب بن عبد العزي: لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذني وعدوت هرباً فرقاً أن أسمع دعاءه.
وقال حكيم بن حزام: لقد رأيتني أتوارى بالشجر فرقاً من دعوة خبيب.
فحدثني عبد الله بن يزيد قال: حدثني سعيد بن عمرو قال: سمعت جبير بن مطعم يقول: لقد رأيتني يومئذ أتستر بالرجال فرقاً من أن أشرف لدعوته.
وقال الحارث بن برصاء: والله ما ظننت أن تغادر دعوى خبيب منهم أحداً.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، قال: استعمل عمر بن الخطاب رضي الله علنه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على حمص، وكانت تصيبه غشيةٌ وهو بين ظهري أصحابه. فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فسأله في قدمةٍ قدم عليه من حمص فقال: يا سعيد، ما الذي يصيبك؟ أبك جنة؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني كنت فيمن حضر خبيباً حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلسٍ إلا غشي علي. قال: فزادته عند عمر خيراً.
وحدثني قدامة بن موسى، عن عبد العزيز بن رمانة، عن عروة بن الزبير، عن نوفل بن معاوية الديلي، قال: حضرت يومئذٍ دعوة خبيب، فما كنت أرى أن أحداً ممن حضر ينفلت من دعوته، ولقد كنت قائماً فأخلدت إلى الأرض فرقاً من دعوته، ولقد مكثت قريش شهراً أو أكثر وما لها حديث في أنديتها إلا دعوة خبيب.
قالوا: فلما صلى الركعتين حملوه إلى الخشبة، ثم وجهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطاُ، ثم قالوا: ارجع عن الإسلام، نخل سبيلك! قال: لا والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وان لي ما في الأرض جميعاً! قالوا: فتحب أن محمداً في مكانك وأنت جالسٌ في بيتك؟ قال: والله ما أحب أن يشاك محمدٌ بشوكةٍ وأنا جالسٌ في بيتي. فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبداً.! قالوا: أما واللات والعزى، لئن لم تفعل لنقتلنك! فقال: إن قتلي في الله لقليلٌ! فلما أبى عليهم، وقد جعلوا وجهه من حيث جاء، قال: أما صرفكم وجهي عن القبلة، فإن الله يقول: " فأينما تولوا فثم وجه الله.. " . ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس ها هنا أحدٌ يبلغ رسلولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام! فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان جالساً مع أصحابه، فأخذته غميةٌ كما كان يأخذه إذا أنزل عليه الوحي. قال: ثم سمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة الله ثم قال هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام. قال: ثم دعوا أبناءً من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاماً، فأعطوا كل غلامٍ رمحاً، ثم قالوا: هذا الذي قتل آباءكم. فطعنوه برماحهم طعناً خفيفاً، فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته الذي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين! وكان الذي أجلبوا على قتل خبيب: عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبد الله بن قيس، والأخنس بن شريق، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن الأوقص السلمى. وكان عقبة بن الحارث بن عامر ممن حضر، وكان يقول: والله ما أنا قتلت خبيباً إن كنت يومئذٍ لغلاماً صغيراً. ولكن رجلاً من بني عبد الدار يقال له أبو ميسرة من عوف بن السباق أخذ بيدي فوضعها على الحربة، ثم أمسك بيدي ثم جعل يطعن بيده حتى قتله، فلما طعنه بالحربه أفلت، فصاحوا: يا أبا سروعة، بئس ما طعنه أبو ميسرة! فطعنه أبو سروعة حتى أخرجها من ظهره، فمكث ساعة يوحد الله ويشهد أن محمداً رسول الله. يقول الأخنس بن شريق: لو ترك ذكر محمد على حالٍ لتركه على هذه الحال، ما رأينا قط والداً يجد بولده ما يجد أصحاب محمد بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وكان زيد بن الدثنة عند آل صفوان بن أمية محبوساً في حديد، وكان يتهجد بالليل ويصوم النهار، ولا يأكل شيئاً مما أتى به من الذبائح. فشق ذلك على صفوان، وكانوا قد أحسنوا إساره، فأرسل إليه صفوان: فما الذي تأكل من الطعام؟ قال: لست آكل مما ذبح لغير الله، ولكني أشرب اللبن. وكان يصوم، فأمر له صفوان بعسٍّ من لبن عند فطره فيشرب منه حتى يكون مثلها من القابلة. فلما خرج به وبخبيب في يومٍ واحد التقيا، ومع كل واحد منهما فئامٌ من الناس، فالتزم كل منهما صاحبه وأوصى كل واحدٍ منهما صاحبه بالصبر على ما أصابه، ثم افترقا. وكان الذي ولى قتل زيد نسطاس غلام صفوان، خرج به إلى التنعيم فرفعوا له جذعاً، فقال: أصلي ركعتين! فصلى ركعتين ثم حملوه على الخشبة، ثم جعلوا يقولون لزيد: ارجع عن دينك المحدث واتبع ديننا، ونرسلك! قال: لا والله، لا أفارق ديني أبداً! قالوا: أيسرك أن محمداً في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال: ما يسرني أن محمداً أشيك بشوكة وأني في بيتي! قال: يقول أبو سفيان بن حرب: لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حباً من أصحاب محمد بمحمد. وقال حسان بن ثابت، صحيحة سمعتها من يونس بن محمد الظفري:
فليت خبيباً لم تخنه أمانةٌ ... وليت خبيباً كان بالقوم عالما
شراه زهير بن الأغر وجامعٌ ... وكانا قديماً يركبان المحارما
أجرتم فلما أن أجرتم غدرتم ... وكنتم بأكناف الرجعي اللهازما
وقال حسان بن ثابت، ثبت قديمةٌ:
لو كان في الدار قرمٌ ذو محافظةٍ ... حامي الحقيقة ماضٍ خاله أنس
إذن حللت خبيباً منزلاً فسحاً ... ولم يشد عليك الكبل والحرس
ولم تقدك إلى التنعيم زعنفةٌ ... من المعاشر ممن قد نفت عدس
فاصبر خبيب فإن القتل مكرمةٌ ... إلى جنان نعيمٍ ترجع النفس
دلوك غدراً وهم فيها أولو خلفٍ ... وأنت ضيفٌ لهم في الدار محتبس
غزوة بني النضيرفي ربيع الأول، على رأس سبعةٍ وثلاثين شهراً من مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلّم.
حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وابن أبي حبيبة، ومعمر بن راشد، في رجالٍ ممن لم أسمهم، فكلٌّ قد حدثني ببعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد اجتمعت كل الذي حدثوني، قالوا: أقبل عمرو ابن أمية من بئر معونة حتى كان بقناة، فلقي رجلين من بني عامر فنسبهما فانتسبا، فقابلهما حتى إذا ناما وثب عليهما فقتلهما. ثم خرج حتى ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ساعته في قدر حلب شاة، فأخبره خبرهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بئس ما صنعت، قد كان لهما منا أمانٌ وعهد! فقال: ما شعرت، كنت أراهما على شركهما، وكان قومهما قد نالوا منا ما نالوا من الغدر بنا. وجاء بسلبهما، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعزل سلبهما حتى بعث به مع ديتهما. وذلك أن عامرابن الطفيل بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن رجلاً من أصحابك قتل رجلين من قومي، ولهما منك أمانٌ وعهد، فابعث بديتهما إلينا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بني النضير يستعين في ديتهما، وكانت بنو النضير حلفاء لبني عامر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم السبت فصلى في مسجد قباء ومعه رهطٌ من المهاجرين والأنصار، ثم جاء بني النضير فيجدهم في ناديهم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتهما عمرو بن أمية، فقالوا: نفعل، يا أبا القاسم، ما أحببت. قد أني لك أن تزورنا وأن تأتينا اجلس حتى نطعمك! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مستندٌ إلى بيتٍ من بيوتهم، ثم خلا بعضهم إلى بعضٍ فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر اليهود، قد جاءكم محمد في نفيرٍ من أصحابه لا يبلغون عشرة ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فاطرحوا عليه حجارةً من فوق هذا البيت الذي تحته فاقتلوه، فلن تجدوه أخلى منه الساعة! فإنه إن قتل تفرق أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من ها هنا من الأوس والخزرج حلفاوكم، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوماً من الدهر فمن الآن! فقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة. قال سلام بن مشكم: يا قوم، أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر! والله إن فعلتم ليخبرن بأنا قد غدرنا به، وإن هذا نقض العهد الذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا! ألا فوالله لو فعلتم الذي تريدون ليقومن بهذا الدين منهم قائم إلى يوم القيامة، يستأصل اليهود ويظهر دينه! وقد هيأ الصخرة ليرسلها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويحدرها، فلما أشرف بها جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما هموا به، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم سريعاً كأنه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة وجلس أصحابه يتحدثون وهم يظنون أنه قام يقضي حاجة، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما مقامنا ها هنا بشيءٍ، لقد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمر. فقاموا، فقال حيي: عجل أبو القاسم! قد كنا نريد أن نقضي حاجته ونغديه. وندمت اليهود على ما صنعوا، فقال لهم كنانة بن صويراء: هل تدرون لم قام محمد؟ قالوا: لا والله، ما ندري وما تدري أنت! قال: بلى والتوراة، إني لأدري، قد أخبر محمدٌ ما هممتم به من الغدر، فلا تخدعوا أنفسكم، والله إنه لرسول الله، وما قام إلا أنه أخبر بما هممتم به. وإنه لآخر الأنبياء، كنتم تطمعون أن يكون م بني هارون فجعله الله حيث شاء. وإن كتبنا والذي درسنا في التوراة التي لم تغير ولم تبدل أن مولده بمكة ودار هجرته يثرب، وصفته بعينها ما تخالف حرفاً مما في كتابنا، وما يأتيكم به أولى من محاربته إياكم، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين، يتضاغى صبيانكم، قد تركتم دوركم خلوفاً وأموالكم، وإنما هي شرفكم، فأطيعوني في خصلتين، والثالثة لا خير فيها! قالوا: ما هما؟ قال: تسلمون وتدخلون مع محمد، فتأمنون على أموالكم وأولادكم، وتكونون من علية أصحابه، وتبقى بأيديكم أموالكم، ولا تخرجون من دياركم. قالوا: لا نفارق التوراة وعهد موسى! قال: فإنه مرسل إليكم: اخرجوا من بلدي، فقولوا نعم فإنه لا يستحل لكم دماً ولا مالاً وتبقى أموالكم، إن شئتم بعتم، وإن شئتم أمسكتم. قالوا: أما هذا فنعم. قال: أما
والله إن الأخرى خيرهن لي. قال: أما والله لولا أني أفضحكم لأسلمت. ولكن والله لا تعير شعثاء بإسلامي أبداً حتى يصيبني ما أصابكم وابنته شعثاء التي كان حسان ينسب بها. فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتم كارهاً، وهو مرسلٌ إلينا أن اخرجوا من داري، فلا تعقب يا حيي كلامه، وأنعم له بالخروج، فاخرج من بلاده! قال: أفعل، أنا أخرج!والله إن الأخرى خيرهن لي. قال: أما والله لولا أني أفضحكم لأسلمت. ولكن والله لا تعير شعثاء بإسلامي أبداً حتى يصيبني ما أصابكم وابنته شعثاء التي كان حسان ينسب بها. فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتم كارهاً، وهو مرسلٌ إلينا أن اخرجوا من داري، فلا تعقب يا حيي كلامه، وأنعم له بالخروج، فاخرج من بلاده! قال: أفعل، أنا أخرج!
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة تبعه أصحابه، فلقوا رجلاً خارجاً من المدينة فسألوه: هل لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: لقيته بالجسر داخلاً. فلما انتهى أصحابه إليه وجدوه قد أرسل إلى محمد ابن مسلمة يدعوه، فقال أبو بكر: يا رسول الله، قمت ولم نشعر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: همت اليهود بالغدر بي، فأخبرني الله بذلك فقمت. وجاء محمد بن مسلمة فقال: اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم، إن رسول الله أرسلني إليكم ان اخرجوا من بلده فلما جاءهم قال: إن رسول الله أرسلني برسالة، ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم شيئاً تعرفونه. قال: أنشدكم بالتوراة التي أنزل الله على موسى، هل تعلمون أني جئتكم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وبينكم التوراة، فقلتم لي في مجلسكم هذا: يا ابن مسلمة، إن شئت أن نغديك غديناك، وإن شئت أن نهودك هودناك. فقلت لكم: غدوني ولا تهودوني، فإني والله لا أتهود أبداً! فغديتموني في صحفةٍ لكم، والله لكأني انظر إليها كانها جزعة، فقلتم لي: ما يمنعك من ديننا إلا أنه دين يهود. كأنك تريد الحنيفية التي سمعت بها، أما إن أبا عامر قد سخطها وليس عليها، أتاكم صاحبها الضحوك القتال، في عينيه حمرة، يأتي من قبل اليمن، يكرب البعير ويلبس الشملة، ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه، ليست معه آية، هو ينطق بالحكمة، كأنه وشيجتكم هذه، والله ليكونن بقريتكم هذه سلب وقتل ومثل! قالوا: اللهم نعم، قد قلناه لك ولكن ليس به. قال: قد فرغت، إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسلني إليكم يقول لكم: قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي! وأخبرهم بما كانوا ارتأوا من الرأي وظهور عمرو بن جحاش على البيت يطرح الصخرة، فأسكتوا فلم يقولوا حرفاً. ويقول: اخرجوا من بلدي، فقد أجلتكم عشراً فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه! قالوا: يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجلٌ من الأوس. قال محمد: تغيرت القلوب. فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون وأرسلوا إلى ظهرٍ لهم بذى الجدر تجلب، وتكاروا من ناسٍ من أشجع إبلاً وأخذوا في الجهاز. فبينما هم على ذلك إذ جاءهم رسول ابن أبي، أتاهم سويد وداعس فقالا: يقول عبد الله بن أبي: لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة فإنهم لن يخذلوكم، ويمدكم حلفاؤكم من غطفان. وأرسل ابن أبي إلى كعب بن أسد يكلمه أن يمد أصحابه فقال: لا ينقض من بني قريظة رجلٌ واحدٌ العهد. فيئس ابن أبي من قريظة وأراد أن يلحم الأمر فيما بين بني النضير ورسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلم يزل يرسل إلى حيي حتى قال حيي: أنا أرسل إلى محمدٍ أعلمه أنا لا نخرج من دارنا وأموالنا، فليصنع ما بدا له. وطمع حيي فما قال ابن أبي، وقال حيي: نرم حصوننا، ثم ندخل ماشيتنا، وندرب أزقتنا، وننقل الحجارة إلى حصوننا، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماءنا واتن في حصوننا لا نخاف قطعه. فترى محمداً يحصرنا سنة؟ لا نرى هذا. قال سلام بن مشكم: منتك نفسك والله يا حيي الباطل، إني والله لولا أن يسفه رأيك أو يزرى بك لاعتزلتك بمن أطاعني من اليهود، فلا تفعل يا حيي، فوالله إنك لتعمل ونعلم معك أنه لرسول الله وأن صفته عندنا، فإن لم نتبعه وحسدناه حيث خرجت النبوة من بني هارون! فتعال فنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده، فقد عرفت أنك خالفتني في الغدر به، فإذا كان أوان الثمر جئنا أو جاء من جاء منا إلى ثمره فباع أو صنع ما بدا له، ثم انصرف إلينا فكأنا لم نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا، إنا إنما شرفنا على قومنا بأموالنا وفعالنا، فإذا ذهبت أموالنا من أيدينا كنا كغيرنا من اليهود في الذلة والإعدام. وإن محمداً إن سار إلينا فحصرنا في هذه الصياصي يوماً واحداً، ثم عرضنا عليه ما أرسل به إلينا، لم يقبله وأبى علينا. قال حيي: إن محمداً لا يحصرنا إلا إن أصاب منا نهزة، وإلا انصرف، وقد وعدني ابن أبي ما قد رأيت. فقال سلام: ليس قول ابن أبي بشيءٍ، إنما يريد ابن أبي أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمداً، ثم يجلس في بيته ويتركك. قد أراد من كعب بن أسد النصر فأبى كعب وقال: لا ينقض العهد رجلٌ من بني قريظة وأنا حيٌّ.
وإلا فإن ابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد، وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن أبي، فجلس في بيته وسار محمد إليهم، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه، فابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلهم، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حربهم كلها، إلى أن تقطعت حربهم فقدم محمد فحجز بينهم. وابن أبي لا يهودي على دين يهود، ولا على دين محمد، ولا هو على دين قومه، فكيف تقبل منه قولاً قاله؟ قال حيي: تأبى نفسي إلا عداوة محمدا وإلا قتاله. فإن ابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد، وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن أبي، فجلس في بيته وسار محمد إليهم، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه، فابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلهم، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حربهم كلها، إلى أن تقطعت حربهم فقدم محمد فحجز بينهم. وابن أبي لا يهودي على دين يهود، ولا على دين محمد، ولا هو على دين قومه، فكيف تقبل منه قولاً قاله؟ قال حيي: تأبى نفسي إلا عداوة محمدا وإلا قتاله.
قال سلام: فهو والله جلاونا من أرضنا، وذهاب أموالنا، وذهاب شرفنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا. فأبى حيي إلا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له ساروك بن أبي الحقيق وكان ضعيفاً عندهم في عقله كأن به جنة يل حيي، أنت رجل مشئوم، تهلك بني النضير! فغضب حيي وقال: كل بني النضير قد كلمني حتى هذا المجنون. فضربه إخوته وقالوا لحيي: أمرنا لأمرك تبعٌ، لن نخالفك.
فأرسل حيي أخاه بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنا لا نبرح من دارنا وأموالنا، فاصنع ما أنت صانع. وأمره أن يأتي ابن أبي فيخبره برسالته إلى محمد، ويأمره بتعجيل ما وعد من النصر. فذهب جدي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالذي أرسله حيي، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالسٌ في أصحابه فأخبره، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلّم التكبير، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت اليهود! وخرج جدي حتى دخل على ابن أبي وهو جالسٌ في بيته مع نفيرٍ من حلفائه، وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم بالمسير إلى بني النضير، فيدخل عبد الله بن عبد الله بن أبي على عبد الله أبيه وعلى النفر معه، وعنده جدي بن أخطب، فلبس درعه وأخذ سيفه فخرج يعدو، فقال جدي: لما رأيت ابن أبي جالساً في ناحية البيت وابنه عليه السلاح، يئست من نصره فخرجت أعدو إلى حيي، فقال: ما وراءك؟ قلت: الشر! ساعة أخبرت محمداً بما أرسلت به إليه أظهر التكبير وقال حاربت اليهود. فقال: هذه مكيدة منه. قال: وجئت ابن أبي فأعلمته، ونادى منادي محمد بالمسير إلى بني النضير. قال: وما رد عليك ابن أبي؟ فقال جدي: لم أر عنده خيراً. قال: أنا أرسل إلى حلفائي فيدخلون معكم. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير،فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قاموا على جدر حصونهم، معهم النبل والحجارة. واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاحٍ ولا رجال ولم يقربوهم. وجعلوا يرمون ذلك اليوم بالنبل والحجارة حتى أظلموا، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقدمون، من كان تخلف في حاجته، حتى تتاموا عند صلاة العشاء، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العشاء رجع إلى بيته في عشرة من أصحابه، عليه الدرع وهو على فرسٍ. وقد استعمل علياً عليه السلام على العسكر، ويقال أبا بكر رضي الله عنه. وبات المسلمون يحاصرونهم، يكبرون حتى أصبحوا، ثم أذن بلالٌ بالمدينة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه الذين كانوا معه، فصلى بالناس بفضاء بني خطمة. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وحملت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبةٌ من أدم.
وحدثني يحيى بن عبد العزيز قال: كانت القبة من غربٍ عليها مسوح، أرسل بها سعد بن عبادة، فأمر بلالاً فضربها في موضع المسجد الصغير الذي بفضاءٍ بني خطمة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبة. وكان رجل من اليهود يقال له عزوك، وكان أعسر رامياً، فرمى فبلغ نبله قبة النبي صلى الله عليه وسلّم، فأمر بقبته فحولت إلى مسجد الفضيخ وتباعدت من النبل.
وأمسوا فلم يقربهم ابن أبي ولا أحدٌ من حلفائه وجلس في بيته، ويئست بنو النضير من نصره، وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صويراء يقولان لحيي: أين نصر ابن أبي كما زعمت؟ قال حيي: فما أصنع؟ هي ملحمة كتبت علينا. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدرع وبات، وظل محاصرهم، فلما كان ليلة من الليالي فقد علي بن أبي طالب عليه السلام حين قرب العشاء، فقال الناس: ما نرى علياً يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعوه، فإنه في بعض شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس عزوك، فطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني كمنت لهذا الخبيث فرأيت رجلاً شجاعاً، فقلت: ما أجرأه أن يخرج إذا أمسينا يطلب منا غرة. فأقبل مصلتاً سيفه في نفرٍ من اليهود، فشددت عليه فقتلته، وأجلى أصحابه ولم يبرحوا قريباً، فإن بعثت معي نفراً رجوت أن أظفر بهم. فبعث معه أبا دجانة، وسهل بن حنيف في عشرة من أصحابه، فأدركوهم قبل أن يدخلوا حصنهم، فقتلوهم وأتوا برءوسهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم برءوسهم فطرحت في بعض بئار بني خطمة.
وكان سعد بن عبادة يحمل التمر إلى المسلمين، فأقاموا في حصنهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنخل فقطعت وحرقت. واستعمل على قطعها رجلين من أصحابه: أبا ليلى المازني، وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون، فقيل لهما في ذلك فقال أبو ليلى: كانت العجوة أحرق لهم. وقال ابن سلام: قد عرفت أن الله سيغنمه أموالهم، وكانت العجوة خير أموالهم، فنزل في ذلك رضاءً بما صنعنا جميعاً.. " ما قطعتم من لينةٍ " ألوان النخل، للذي فعل ابن سلام، " أو تركتموها قائمةً على أصولها " يعني العجوة، " فبإذن الله " وقطع أبو ليلى العجوة " وليخزى الفاسقين " يعني بني النضير، رضاءً من الله بما صنع الفريقان جميعاً، فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما لهن؟ قفيل: يجزعن على قطع العجوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن مثل العجوة جزع عليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: العجوة والعتيق الفحل الذي يؤبر به النخل من الجنة، والعجوة شفاءٌ من السم. فلما صحن صاح بهن أبو رافع سلام: إن قطعت العجوة ها هنا، فإن لنا بخيبر عجوة. قالت عجوزٌ منهن: خيبر، يصنع بها مثل هذا! فقال أبو رافع: فض الله فاك! إن حلفائي بخيبر لعشرة آلاف مقاتل. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوله فتبسم. وجزعوا على قطع العجوة فجعل سلام بن مشكم يقول: يا حيي، العذق خير من العجوة، يغرس فلا يطعم ثلاثين سنة يقطع! فأرسل حيي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا محمد، إنك كنت تنهي عن الفساد، لم تقطع النخل؟ نحن نعطيك الذي سألت؟ ونخرج من بلادك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة. فقال سلام: اقبل ويحك، قبل أن تقبل شراً من هذا! فقال حيي: ما يكون شراً من هذا؟ قال سلام: يسبى الذرية ويقتل المقاتلة مع الأموال، فالأموال اليوم أهون علينا إذا لحمنا هذا الأمر من القتل والسباء. فأبى حيي أن يقبل يوماً أو يومين، فلما رأى ذلك يامين بن عمير وأبو سعد ابن وهب قال أحدهما لصاحبه: وإنك لتعلم أنه لرسول الله، فما تنتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا؟ فنزلا من الليل فأسلما فأحرزا دماءهما وأموالهما.
ثم نزلت اليهود على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فلما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لابن يامين: ألم تر إلى ابن عمك عمرو ابن جحاش وما هم به من قتلى؟ وهو زوج أخته، كانت الرواع بنت عمير تحت عمرو بن جحاش. فقال ابن يامين: أنا أكفيكه يا رسول الله. فجعل لرجلٍ من قيس عشرة دنانير على أن يقتل عمرو بن جحاش، ويقال خمسة أوسق من تمر. فاغتاله فقلته، ثم جاء ابن يامين إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بقتله، فسر بذلك.
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمسة عشر يوماً، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة وولى إخراجهم محمد بن مسلمة. فقالوا: إن لنا ديوناً على الناس إلى آجال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: تعجلوا وضعوا. فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد ابن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين ديناراً، وأبطل ما فضل. وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم مما يليهم، وكان المسلمون يخربون ما يليهم ويحرقون حتى وقع الصلح، فتحملوا، فجعلوا يحملون الخشب ونجف الأبواب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لصفية بنت حيي: لو رأيتني وأنا أشد الرحل لخالك بحرى بن عمرو وأجليه منها! وحملوا النساء والصبيان، فخرجوا على بلحارث بن الخزرج، ثم على الجبلية، ثم على الجسر حتى مروا بالمصلى، ثم شقوا سوق المدينة، والنساء في الهوادج عليهن الحرير والديباج، وقطف الخز الخضر والحمر، وقد صف لهم الناس، فجعلوا يمرون قطاراً في أثر قطار، فحملوا على ستمائة بعير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش. وقال حسان بن ثابت وهو يراهم وسراة الرجال على الرحال: أما والله إن لقد كان عندكم لنائلٌ للمجتدى وقرى حاضر للضيف، وسقيا للمدام، وحلمٌ على من سفه عليكم، ونجدةٌ إذا استنجدتم. فقال الضحاك بن خليفة: واصباحاه، نفسي فداؤكم! ماذا تحملتم به من السؤدد والبهاء، والنجدة والسخاء؟ قال، يقول نعيم ابن مسعود الأشجعي: فدىً لهذه الوجوه التي كأنها المصابيح ظاعنين من يثرب. من للمجتدى الملهوف؟ ومن للطارق السغبان؟ ومن يسقى العقار؟ ومن يطعم الشحم فوق اللحم؟ ما لنا بيثرب بعدكم مقام. يقول أبو عبس ابن جبر وهو يسمع كلامه، نعم، فالحقهم حتى ندخل معهم البار. قال نعيم: ما هذا جزاؤهم منكم، لقد استنصرتموهم فنصروكم على الخزرج، ولقد استنصرتم سائر العرب فأبوا ذلك عليكم. قال أبو عبس: قطع الإسلام العهود. قال: ومروا يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير، وعلى النساء المعصفرات وحلى الذهب، مظهرين ذلك تجلداً. قال، يقول جبار بن صخر: ما رأيت زهاءهم لقوم زالوا من دار إلى دار. ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، ورفع مسك الجمل وقال: هذا مما نعده لخفض الأرض ورفعها، فإن يكن النخل قد تركناها فإنا نقدم على نخلٍ بخيبر.
فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعدي الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: لقد مر يومئذٍ نساءٌ من نسائهم في تلك الهوادج قد سفرن عن الوجوه، لعلى لم أر مثل جمالهن لنساءٍ قط لقد رأيت الشقراء بنت كنانة يومئذٍ كأنها لؤلؤة غواص، والرواع بنت عمير مثل الشمس البازغه، في أيديهن أسورة الذهب، والدر في رقابهن. ولقى المنافقون عليهم يوم خرجوا حزناص شديداً، لقد لقيت زيد بن رفاعة بن التابوت وهو مع عبد الله بن أبي، وهو يناجيه في بني غنم وهو يقول: توحشت بيثرب لفقد بني النضير، ولكنهم يخرجون إلى عز وثروة من حلفائهم، وإلى حصون منيعة شامخة في رءوس الجبال ليست كما ها هنا. قال: فاستمعت عليهما ساعة، وكل واحد منهما غاشٌّ لله ولرسوله.
قالوا: ومرت في الظعن يومئذٍ سلمى صاحبة عروة بن الورد العبسي، وكان من حديثها أنها كانت امرأة من بني غفار، فسباها عروة من قومها فكانت ذات جمال، فولدت له أولاداً ونزلت منه منزلاً، فقالت له، وجعل ولده يعيرون بأمهم يا بني الأخيذة! فقالت: ألا ترى ولدك يعيرون؟ قال: فماذا ترين؟ قالت: تردني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك. قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن القوه بالخمر ثم اتركوه حتى يشرب ويثمل، فإنه إذا ثمل لم يسأل شيئاً إلا أعطاه. فلقوه ونزل في بني النضير، فسقوه الخمر، فلما سكر سألوه سلمى فردها عليهم، ثم أنكحوه بعد. ويقال: إنما جاء بها إلى بني النضير وكان صعلوكاً يغير. فسقوه الخمر فلما انتشى منعوه، ولا شيء معه إلا هي، فرهنها فلم يزل يشرب حتى غلقت فلما صحا قال لها: انطلقي. قالوا: لا سبيل إلى ذلك، قد أغلقتها. فبهذا صارت عند بني النضير. قال عروة بن الورد:
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذبٍ وزور
وقالوا لست بعد فداء سلمى ... بمغنٍ ما لديك ولا فقير
فلا والله لو كاليوم أمرى ... ومن لي بالتدبير في الأمور
إذاً لعصيتهم في أمر سلمى ... ولو ركبوا عضاه المستعور
أنشدينها ابن أبي الزناد.
حدثني أبو بكر بن عبد الله، عن المسور بن رفاعة قال: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأموال وقبض الحلقة، فوجد من الحلقة خمسين درعا،ً وخمسين بيضةً، وثلثمائة سيف، وأربعين سيفاً. ويقال غيبوا بعض سلاحهم وخرجوا به.وكان محمد بن مسلمة الذي ولى قبض الأموال والحلقة وكشفهم عنها. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أجعل شيئاً جعله الله عز وجل لي دون المؤمنين! بقوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى.. " الآية، كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفياً، فكانت بنو النضير حبساً لنوائبه، وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء فجزءان للمهاجرين وجزءٌ كان ينفق منه على أهله، فإن فضل رده على فقراء المهاجرين.
حدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير، قال: إنما كان ينفق على أهله من بني النضير، كانت له خالصة، فأعطى من أعطى منها وحبس ما حبس. وكان يزرع تحت النخل زرعاً كثيراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخل له منها قوت أهله سنةً من الشعير والتمر لأزوجه وبني عبد المطلب، فما فضل جعله في الكراع والسلاح، وإنه كان عند أبي بكر وعمر من ذلك السلاح الذي اشترى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد استعمل على أموال بني النضير أبا رافع مولاه، وربما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالباكورة منها، وكانت صدقاته منها ومن أموال مخيريق. وهي سبعة حوائط الميثب، والصافية، والدلال، وحسنى، وبرقة، والأعواف، ومشربة أم إبراهيم، وكانت أم إبراهيم تكون هناك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتيها هناك. وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما تحول من بني عمرو بن عوف إلى المدينة تحول أصحابه من المهاجرين، فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحدٌ منهم على أحدٍ إلا بقرعة سهم.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أم العلاء، قالت: صار لنا عثمان بن مظعون في القرعة، وكان في منزلنا حتى توفى وكان المهاجرون في دورهم وأموالهم، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس فقال: ادع لي قومك! قال ثابت: الخزرج يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الأنصار كلها! فدا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجريتن على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم. فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا: يا رسول الله، بل تقسيمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار! فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أفاء الله عليه، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحداً من الأنصار من ذلك الفىء شيئا، إلا رجلين كانا محتاجين سهل بن حنيف، وأبا دجانة. وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان سيفاً له ذكرٌ عندهم. قالوا: وكان ممن أعطى ممن سمى لنا من المهاجرين أبو بكر الصديق رضي الله عنه بئر حجر، وأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بئر جرم، وأعطى عبد الرحمن ابن عوف سوالة وهو الذي يقال له مال سليم. وأعطى صهيب بن سنان الضراطة، وأعطى الزبير بن العوام وأبا سلمة بن عبد الأسد البويلة. وكان مال سهل بن حينف وأبي دجانة معروفاً، يقال له مال ابن خرشة، ووسع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الناس منها.
ذكر ما نزل من القرآن في بني النضير
" سبح لله ما في السموات وما في الأرض " قال كل شيءٍ سبح له، وتسبيح الجدر النقض. حدثني ربيعة بن عثمان، عنحيي، عن أبي هريرة بذلك. " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " يعني بني النضير حين أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى الشام، وكان ذلك أول الحشر في الدنيا إلى الشام، " ما ظننتم أن يخرجوا " يقول عز وجل للمؤمنين: ما ظننتم ذلك، كان لهم عز ومنعة، " وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله " حين تحصنوا، " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " إلى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإجلاؤهم، " وقذف في قلوبهم الرعب " لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بساحتهم رعبوا وأيقنوا بالهلكة، وكان الرعب في قلوبهم له وجبان، " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " قال كانوا لما حصروا والمسلمون يحفرون عليهم من ورائهم وهم ينقبون مما يليهم، فيأخذون الخشب والنجف، " فاعتبروا يا أولى الأبصار " قال يعني يا أهل العقول. " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء " يقول في أم الكتاب أن يجلوا. " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " يقول عصوا الله ورسوله وخالفوه. " ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها " الآية، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد استعمل على قطع نخلهم أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان ابن سلام يقطع اللون، فقال لهم بنو النضير: أنتم مسلمون ما يحل لكم عقر النخل. فاختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك، فقال بعضهم يقطع، وقال بعضهم لا يقطع. فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينةٍ " ألوان النخل سوى العجوة، " أو تركتموها قائمةً على أصولها " قال العجوة، " فبإذن الله وليخزي الفاسقين " يقول يغيظهم ما قطع من النخل. " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " قوله لله ولرسوله واحد " ولذى القربى " قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم " واليتامى والمساكين وابن السبيل " فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمس الخمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعطي بني هاشم من الخمس ويزوج أياماهم. وكان عمر رضي الله عنه قد دعاهم إلى أن يزوج أياماهم ويخدم عائلهم ويقضي عن غارمهم، فأبوا إلا أن يسلمه كله، وأبي عمر رضي الله عنه. فحدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة، أن أبا بكر وعمر وعلياً كانوا يجعلونه في اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقوله " كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم " يقول لا يستن بها من بعد فتعطى الأغنياء، " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " يقول ما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أمرٍ ونهيٍ فهي بمنزلة ما نزل من الوحي. " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " يعني المهاجرين الأولين من قريش الذين هاجروا إلى المدينة قبل بدر. " والذين تبووأ الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " يعني الأنصار، يقول هم أهل الدار الأوس والخزرج، " ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ " لا يجدون في أنفسهم حسداً مما أعطى غيرهم، يعني المهاجرين حين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يعط الأنصار، فهذه الأثرة على أنفسهم حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: أعطهم ولا تعطنا وهم محتاجون، " ومن يوق شح نفسه " قال ظلم الناس. " والذين جاءوا من بعدهم " يعني الذين أسلموا فحق عليهم أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً " قول ابن أبي حين أرسل سويداً وداعساً إلى بني النضير: أقيموا ولا تخرجوا فإن معي من قومي وغيرهم ألفين، يدخلون معكم فيموتون عن آخرهم دونكم. يقول الله عز وجل " يشهد إنهم لكاذبون " يعني ابن أبي أصحابه. " لئن أخرجوا " حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يخرج من المنافقين إنسانٌ واحدٌ معهم، وقوتلوا فلم يدخل الحصن منهم إنسان، " ولئن نصروهم ليولن الأدبار " يعني ينهزمون من الرعب. " لأنتم أشدٌّ رهبةً في صدورهم من الله " يعني ابن ابي والمنافقين الذين معه خوفاً من المسلمين أن يقبلوا، " ذلك بأنهم قومٌ
لا يفقهون " " لا يقاتلونكم جميعاً " يعني بني النضير والمنافقين، " إلا في قرىً محصنةٍ " يقول في حصونهم، " أو من وراء جدرٍ بأسهم بينهم شديدٌ " بعضهم لبعض، " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " يعني المنافقين وبني النضير. " ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون " يقول دين بني النضير مخالف دين المنافقين وهم جميعاً، في عداوة الإسلام مجتمعون. " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم " قال يعني قينقاع حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفرفلما كفر قال إني برىءٌ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال هذا مثلٌ لابن أبي وأصحابه الذين جاءوا بني النضير فقالوا: أقيموا في حصونكم فنحن نقاتل معكم إن قوتلتم، ونخرج إن أخرجتم كذباً وباطلاً، منوهم من أنفسهم. " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ " يقول ما عملت ليوم القيامة. " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " يقول أعرضوا عن ذكر الله تعالى فأضلهم الله تعالى أن يعملوا لأنفسهم خيراً. وقال " القدوس الظاهر، " والمهيمن " الشهيد.لا يفقهون " " لا يقاتلونكم جميعاً " يعني بني النضير والمنافقين، " إلا في قرىً محصنةٍ " يقول في حصونهم، " أو من وراء جدرٍ بأسهم بينهم شديدٌ " بعضهم لبعض، " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " يعني المنافقين وبني النضير. " ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون " يقول دين بني النضير مخالف دين المنافقين وهم جميعاً، في عداوة الإسلام مجتمعون. " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم " قال يعني قينقاع حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفرفلما كفر قال إني برىءٌ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال هذا مثلٌ لابن أبي وأصحابه الذين جاءوا بني النضير فقالوا: أقيموا في حصونكم فنحن نقاتل معكم إن قوتلتم، ونخرج إن أخرجتم كذباً وباطلاً، منوهم من أنفسهم. " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ " يقول ما عملت ليوم القيامة. " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " يقول أعرضوا عن ذكر الله تعالى فأضلهم الله تعالى أن يعملوا لأنفسهم خيراً. وقال " القدوس الظاهر، " والمهيمن " الشهيد.
غزوة بدر الموعدوكانت لهلال ذي القعدة على رأس خمسةٍ وأربعين شهراً، وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها ست عشرة ليلة، ورجع إلى المدينة لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، واستخلف علىالمدينة ابن رواحة.
حدثني الضحاك بن عثمان، ومحمد بن عمرو الأنصاري، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، وأبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، ومعمر بن راشد، وأبو معشر، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، وعبد الحميد بن جعفر، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل، وكل قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، قالوا: لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم أحد نادى: موعدٌ بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول، نلتقي فيه فنقتتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: قل نعم إن شاء الله.
ويقال قال أبو سفيان يومئذ: موعدكم بدر الصفراء بعد شهرين. قال ابن واقد: والأول أثبت عندنا. فافترق الناس على ذلك، ورجعت قريش فخبروا من قبلهم بالموعد وتهيئوا للخروج وأجلبوا، وكان هذا عندهم أعظم الأيام لأنهم رجعوا من أحد والدولة لهم، طمعوا في بدر الموعد أيضاً بمثل ذلك من الظفر. وكان بدر الصفراء مجمعاً يجتمع فيه العرب، وسوقاً تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثمان ليالٍ خلون منه، فإذا مضت ثماني ليال منه تفرق الناس إلى بلادهم. فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجعل يحب أن يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بالمدينة ولا يوافقون الموعد. فكان كل من ورد عليه مكة يريد المدينة أظهر له: إنا نريد أن نغزو محمداً في جمعٍ كثيف. فيقدم القادم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيراهم على تجهز فيقول: تركت أبا سفيان قد جمع الجموع، وسار في العرب ليسير إليكم لموعدكم. فيكره ذلك المسلمون ويهيبهم ذلك.
ويقدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة، فجاءه أبو سفيان بن حرب في رجالٍ من قريش فقال: يا نعيم، إني وعدت محمداً وأصحابه يوم أحد أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول، وقد جاء ذلك. فقال نعيم: ما أقدمني إلا ما رأيت محمداً وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع، وقد تجلب إليه حلفاء الأوس من بلى وجهينة وغيرهم، فتركت المدينة أمس وهي كالرمانة. فقال أبو سفيان: أحقاً ما تقول؟ قال: إي والله. فجزوا نعيماً خيراً ووصاوه وأعانوه، فقال أبو سفيان: أسمعك تذكر ما تذكر، ما قد أعدوا؟ وهذا عام جدب قال نعيم: الأرض مثل ظهر الترس، ليس فيها لبعير شيءٌ وإنما يصلحنا عام خصب غيداق ترعى فيه الظهر والخيل ونشرب اللبن، وأنا أكره أن يخرج محمدٌ وأصحابه ولا أخرج فيجترئون علينا، ويكون الخلف من قبلهم أحب إلي. ونجعل لك عشرين فريضة، عشراً جذاعاً وعشراً حقاقاً، وتوضع لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها لك. قال نعيم: رضيت. وكان سهيل صديقاً لنعيم فجاء سهيلاً فقال: يا أبا زيد، تضمن لي عشرين فريضة على أن أقدم المدينة فأخذل أصحاب محمد؟ قال: نعم. قال: فإني خارج. فخرج على بعير حملوه عليه، وأسرع السير فقدم وقد حلق رأسه معتمراً، فوجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتجهزون، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أين يا نعيم؟ قال: خرجت معتمراً إلى مكة. فقالوا: لك علمٌ بأبي سفيان؟ قال: نعم، تركت أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب معه العرب، فهو جاءٍ فيما لا قبل لكم به، فأقيموا ولا تخرجوا فإنهم قد أتوكم في داركم وقراركم، فلن يفلت منكم إلا الشريد، وقتلت سراتكم وأصاب محمداً في نفسه ما أصابه من الجراح.فتريدون أن تخرجوا إليهم فتلقوهم في موضعٍ من الأرض؟ بئس الرأي رأيتم لأنفسكم وهوموسم يجتمع فيه الناس والله ما أرى أن يفلت منكم أحد! وجعل يطوف بهذا القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى رعبهم وكره إليهم الخروج، حتى نطقوا بتصديق قول نعيم، أو من نطق منهم.واستبشر بذلك المنافقون واليهود قالوا: محمدٌ لا يفلت من هذا الجمع! واحتمل الشيطان أولياءه من الناس لخوف المسلمين، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك، وتظاهرت به الأخبار عنده، حتى خاف رسول الله ألا يخرج معه أحد. فجاءه أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، وقد سمعا ما سمعا فقالا: يا رسول الله إن الله مظهرٌ دينه ومعزٌ نبيه، وقد وعدنا القوم موعداً ونحن لا نحب أن نتخلف عن القوم، فيرون أن هذا جبن منا عنهم، فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيرة! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك ثم قال: والذي نفسي بيده، لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد! قال: فلما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم تكلم بما بصر الله وعز وجل المسلمين، وأذهب ما كان رعبهم الشيطان، وخرج المسلمون بتجارات لهم إلى بدر.
فحدثت عن يزيد، عن خصيفة، قال: كان عثمان بن عفان رحمه الله يقول: لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا، فما أرى أحداً له نية في الخروج، حتى أنهج الله تعالى للمسلمين بصائرهم، وأذهب عنهم تخويف الشيطان. فخرجوا فلقد خرجت ببضاعة إلى موسم بدر، فربحت للدينار ديناراً، فرجعنا بخير وفضلٍ من ربنا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسلمين وخرجوا ببضائع لهم ونفقات، فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذى القعدة، وقام السوق صبيحة الهلال، فأقاموا ثمانية أيامٍ والسوق قائمة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد خرج في ألق وخسمائة من أصحابه وكانت الخيل عشرة أفراس: فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفرس لأبي بكر، وفرس لعمر، وفرس لأبي قتادة، وفرس لسعيد بن زيد، وفرس للمقداد، وفرس للحباب، وفرس للزبير، وفرس لعباد بن بشر.
فحدثني علي بن زيد، عن أبيه، قال: قال المقداد: شهدت بدر الموعد على فرسي سبحة، أركب ظهرها ذاهباً وراجعاً، فلم يلق كيداً. ثم إن أبا سفيان قال: يا معشر قريش، قد بعثنا نعيم بن مسعود لأن يخذل أصحاب محمد عن الخروج وهو جاهد، ولكن نخرج نحن فنسير ليلة أو ليلتين ثم نخرج، فإن كان محمدٌ لم يخرج بلغه أنا خرجنا فرجعنا لأنه لم يخرج، فيكون هذا لنا عليه، وإن كان خرج أظهرنا أن هذا عام جدب لا يصلحنا إلى عامٌ عشب. قالوا: نعم ما رأيت. فخرج من قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهوا إلى مجنة ثم قال: ارجعوا، لا يصلحنا إلا عام خصب غيداق، نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. فسمى أهل مكة ذلك الجيش جيش السويق، يقولون: خرجوا يشربون السويق.
وكان يحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأعظم يومئذٍ علي بن أبي طالب عليه السلام. وأقبل رجلٌ من بني ضمرة يقال له مخشى بن عمرو، وهو الذي حالف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قومه في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأولى إلى ودان فقال والناس مجتمعون في سوقهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر أهل ذلك الموسم فقال يا محمد، لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ليرفع ذلك إلى عدوه من قريش: ما أخرجنا إلا موعد أبو سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد، ثم جالدنا كم قبل أن نبرح من منزلنا هذا. فقال الضمري: بل، نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك، وسمع بذلك معبد ابن أبي معبد الخزاعي فانطلق سريعاً، وكان مقيماً ثمانية أيام، وقد رأى أهل الموسم ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسمع كلام مخشى، فانطلق حتى قدم مكة، فكان أول من قدم بخبر موسم بدر. فسألوه فأخبرهم بكثرة أصحاب محمد، وأنهم أهل ذلك الموسم، وما سمع من قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم للضمري، وقال: وافى محمدٌ في ألفين من أصحابه، وأقاموا ثمانية أيام حتى تصدع أهل الموسم. فقال صفوان بن أمية لأبي سفيان: قد والله نهيتك يومئذٍ أن تعد القوم، وقد اجترأوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم، وإنما خلفنا الضعف عنهم. فأخذوا في الكيد والنفقة في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم واستجلبوا من حولهم من العرب، وجمعوا الأموال العظام، وضربوا البعث على أهل مكة، فلم يترك أحدٌ منهم إلا أن يأتي بما قل أو كثر، فلم يقبل من أحدٍ منهم أقل من أوقية لغزوة الخندق. وقال معبد: لقد حملني ما رأيت أن قلت شعراً:
تهوى على دين أبيها الأتلد ... إذ جعلت ماء قديدٍ موعد
وماء ضجنان لها ضحى الغد ... إذ نفرت من رفقتي محمد
وعجوةٍ موضوعةٍ كالعنجد
ويزعمون أن حماماً قالها.
وأنزل الله عز وجل: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " الآية، يعني نعيم بن مسعود.
وقال كعب بن مالك قال الواقدي: أنشدنيها مشيخة آل كعب وأصحابنا جميعاً:
وعدنا أبا سفيان بدراً فلم نجد ... لموعده صدقاً وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... رجعت ذميماً وافتقدت المواليا
تركنا بها أوصال عتبة وابنة ... وعمراً أبا جهلٍ تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أفٍّ لدينكم ... وأمركم السيء الذي كان غاويا
وإني وإن عنفتموني لقائلٌ ... فدىً لرسول الله أهلي وما ليا
أطعنا فلم نعدل سواه بغيره ... شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا
وقال حسان بن ثابت الأنصاري ثبت ابن أبي الزناد وابن جعفر وغيرهما:
أقمنا على الرس النزوع ثمانيا ... بأرعن جرارٍ عريض المبارك
بكل كميتٍ جوزه نصف خلقه ... وأدمٍ طوالٍ مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامي تبدى أصوله ... مناسم أخفاف المطى الرواتك
إذا هبطت خورات من رمل عالجٍ ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
ذروا فلجات الشام قد حال دونها ... ضرابٌ كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربهم ... وأنصار حقٍّ أيدوا بملائك
فإن نلق في تطوافنا والتماسنا ... فرات بن حيانٍ يكن رهن هالك
وإن نلق قيس بن امرىء القيس بعده ... نزد في سواد وجهه لون حالك
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. هكذا كان.
سرية ابن عتيك إلى ابن رافعخرجوا ليلة الاثنين في السحر لأربع خلون من ذي الحجة، على رأس ستة وأربعين شهراً، وغابوا عشرة أيام.
حدثني أبو أيوب بن النعمان، عن أبيه، عن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، قال: خرجنا من المدينة حتى أتينا خيبر. قال: وقد كانت أم عبد الله بن عتيك بخيبر يهودية أرضعته، وقد بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والأسودبن خزاعي، ومسعود بن سنان. قال: فانتهينا إلى خيبر، وبعث عبد الله إلى أمه فأعملها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوءٍ تمراً كبيساً وخبزاً. فأكلنا منه ثم قال لها: يا أماه، إنا قد أمسينا، بيتينا عندم فأدخلينا خيبر. فقالت أمه: كيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قال: أبا رافع. فقالت: لا تقدر عليه. قال: والله لأقتلنه أو لا لأقتلن دونه قبل ذلك. قالت: فادخلوا علي ليلاً. فدخلوا عليها فلما نام أهل خيبر، وقد قالت لهم: ادخلوا في خمر الناس، فإذا هدأت الرجل فاكمنوا! ففعلوا ودخلوا عليها ثم قالت: إن اليهود لا تغلق عليها أبوابها فرقاً أن يطرقها ضيف، فيصبح أحدهم بالفناء ولم يضف، فيجد الباب مفتوحاً فيدخل فيتعشى. فلما هدأت الرجل قالت: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع فقولوا إنا جئنا لأبي رافع بهدية فإنهم سيفتحون لكم. ففعلوا ذلك، ثم خرجوا لا يمرون ببابٍ من بيوت خيبر إلا أغلقوه حتى أغلقوا بيوت القرية كلها، حتى انتهوا إلى عجلةً عند قصر سلام. قال: فصعدنا وقدمنا عبد الله بن عتيك، لأنه كان يرطن باليهودية، ثم استفتحوا على أبي رافع فجاءت امرأته فقالت: ما شأنك؟ فقال عبد الله بن عتيك ورطن باليهودية: جئت أبا رافعٍ بهدية. ففتحت له فلما رأت السلاح أرادت تصيح. قال عبد الله بن أنيس: وازدحمنا على الباب أينا يبدر إليه، فأرادت أن تصيح. قال: فأبشرت إليها السيف. قال: وأنا أكره أن يسبقني أصحابي إليه. قال: فسكنت ساعة. قال: ثم قلت لها: أين أبو رافع؟ وإلا ضربتك بالسيف! فقالت: هو ذاك في البيت. فدخلنا عليه فما عرفناه إلا ببياضة كأنه قطنة ملقاة، فعلوناه بأسيافنا فصاحت امرأته، فهم بعضنا أن يخرج إليها ثم ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهانا عن قتل النساء.قال: فلما انتهينا جعل سمك البيت يقصر علينا، وجعلت سيوفنا ترجع.
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7*
========
وخرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن ضوى إليهم، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل، وخرجوا بعدة وسلاحٍ كثيرٍ، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير. فلما أجمعوا المسير كتب العباس ابن عبد المطلب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره أن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه. وقد توجهوا إليك، وهم ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح. فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة ووجده بقباء، فخرج حتى يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على باب مسجد قباء يركب حماره، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبياً ما فيه، فدخل منزل سعد بن الربيع فقال: في البيت أحد؟ فقال سعد: لا، فتكلم بحاجتك. فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب، وجعل سعد يقول: يا رسول الله ، إني لأرجو أن يكون في ذلك خيرٌ، وقد أرجعت يهود المدينة والمنافقون، وقالوا: ما جاء محمداً شيءٌ يحبه. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة واستكتم سعداً الخبر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه فقالت: ما قال لك رسول الله؟ فقال: ما لك ولذلك، لا أم لك؟ قالت: قد كنت أسمع عليك. وأخبرت سعداً الخبر، فاسترجع سعد وقال: لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم تكلم بحاجتك! ثم أخذ يجمع لبتها، ثم خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجسر وقد بلحت، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي سألتني عما قلت، فكتمتها فقالت قد سمعت قول رسول الله! فجاءت بالحديث كله، فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شيءٌ فتظن أني أفشيت سرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خل سبيلها. وشاع الخبر في الناس بمسير قريش، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفرٍ من خزاعة، ساروا من مكة أربعاً، فوافوا قريشاً وقد عسكروا بذي طوىً، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخبر، ثم انصرفوا فوجدوا قريشاً ببطن رابغ فنكبوا عن قريش ورابغ على ليالٍ من المدينة.
فحدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن عمرو بن أبي حكيمة الأسلمي، قال: لما أصبح أبو سفيان بالأبواء أخبر أن عمرو ابن سالم وأصحابه راحوا أمس ممسين إلى مكة، فقال أبو سفيان: أحلف بالله أنهم جاءوا محمداص فخبروه بمسيرنا، وحذروه، وأخبروه بعددنا، فهم الآن يلزمون صياصيهم، فما أرانا نصيب منهم شيئاً من وجهنا. فقال صفوان: إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، فتركناهم ولا أموال لهم فلا يجتبرونها أبداً، وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل معهم، ونحن نقاتل على وترٍ عندهم ولا وتر لهم عندنا.
وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلاً من أوس الله حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة، فأقام مع قريش وكان دعا قومه فقال لهم: إن محمداً ظاهرٌ فاخرجوا بنا إلى قومٍ نوازرهم.
فخرج إلى قريش يحرضها ويعلمها أنها على الحق، وما جاء به محمدٌ باطل، فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها، وكان يقول لقريش: إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم رجلان، وهؤلاء معي نفرٌ من قومي وهم خمسون رجلاً. فصدقوه بما قال وطمعوا بنصره.
وخرج النساء معهن الدفوف، يحرضن الرجال ويذكرنهم قتلى بدر في كل منزل، وجعلت قريش ينزلون كل منهل، ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العير ويتقوون به في مسيرهم، ويأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الأموال. وكانت قريش لما مرت بالأبواء قالت: إنكم قد خرجتم بالظغن معكم، ونحن نخاف على نسائنا. فتعالوا ننبش قبر أم محمد، فإن النساء عورة، فإن يصب من نسائكم أحداً قلتم هذه رمة أمك، فإن كان برلً بأمه كما يزعم، فلعمري ليفادينكم برمة أمه، وإن لم يظفر بأحدٍ من نسائكم، فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثيرٍ إن كان بها براً. واستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي من قريش في ذلك فقالوا: لا تذكر من هذا شيئاً، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا.
وكانت قريش يوم الخميس بذي الحليفة، صبيحة عشر من مخرجهم من مكة، لخمس ليالٍ مضين من ضوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ومعهم ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس. فلما أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان فأنزلهم بالوطاء. وبعث النبي صلى الله عليه وسلّم عينين له، أنساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبراه.
وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف، إلى العرصة، عرصة البقل اليوم وكان أهله بنو سلمة، وحارثة، وظفر، وعبد الأشهل، وكان الماء يومئذٍ بالجرف أنشاطاً، لا يريم سائق الناضح مجلساً واحداً، ينفتل الجمل في ساعة، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي حفر معاوية بن أبي سفيان. فكانوا قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة، فقدم المشركون على زرعهم وخلوا فيه إبلهم وخيولهم وقد شرب الزرع في الدقيق، وكان لأسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحاً يسقي شعيراً وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم وآلة حرثهم. وكان المشركون يرعون يوم الخميس حتى أمسوا، فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا عليها القصيل، وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة، فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهورهم في الزرع وخيلهم حتى تركوا العرض ليس به خضراء.
فلما نزلوا وحلوا العقد واطمأنوا، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم، فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد، وبعثه سراً وقال للحباب: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى قلة. فرجع إليه فأخبره خالياً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما رأيت؟ قال: رأيت يا رسول الله عدداً، حزرتهم ثلاثة آلاف، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعاً ظاهرة، حزرتها سبعمائة درع. قال: هل رأيت ظعناً؟ قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار الأكبار يعني الطبول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، لا تذكر من شأنهم حرفاً، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول.
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس، فركضوا في أثره فوقف لهم على نشرٍ من الحرة، فراشقهم بالنبل مرة وبالحجارة مرة حتى انكشفوا عنه. فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض، فاستخرج سيفاً كان له ودرع حديدٍ كانا دفنا في ناحية المزرعة، فخرج بهما يعدو حتى أتى بني عبد الأشهل فخبر قومه بما لقي منهم. وكان مقدمهم يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبعٍ خلون من شوال.
وباتت وجوه الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، في عدةٍ، ليلة الجمعة، عليهم السلاح، في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وسلّم خوفاً من بيات المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ليلة الجمعة، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم واجتمع المسلمون خطب.
فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود ابن لبيد، قال: ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم على المنبر، فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درعٍ حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته، ورأيت بقراً تذبح، ورأيت كأني مردفٌ كبشاً. فقال الناس: يا رسول الله، فما أولتها؟ قال: أما الدروع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبةٌ في نفسي، وأما البقر المذبح، فقتلى في أصحابي، وأما مردفٌ كبشاص، فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله، وحدثني عمر بن عقبة، عن سعيد، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: وأما انقصام سيفي، فقتل رجل من أهل بيتي.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ابن مخرمة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ورأيت في سيفي فلا فكرهته، فهو الذي أصاب وجهه الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: أشيروا علي! ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب أن يوافق على مثل ما رأى وعلى ما عبر عليه الرؤيا. فقام عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله، كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة. والله، لربما مكث الوالدان شهراً ينقلون الحجارة إعداداً لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول الله، إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط وما خرجنا إلى عدوٍ قط إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا رسول الله، فإنهم إن أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيراً. يا رسول الله، أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع رأى ابن أبي، وكان ذلك رأى الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المهاجريرن والأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: امكثوا في المدينة، واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، وارموا من فوق الصياصي والآطام. فكانوا قد شبكوا المدينة بالبنينان من كل ناحية فهي كالحصن. فقال فتيانٌ أحداٌ لم يشهدوا بدراً، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخروج إلى عدوهم، ورغبوا في الشهادة، وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا! وقال رجالٌ من أهل السن وأهل النية، منهم حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، في غيرهم من الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشرٌ كثيرٌ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم لما يرى من إلحاحهم كارهٌ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم، يتسامون كأنهم الفحول. وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري: يا رسول الله، نحن والله بين إحدى الحسنين إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، والأخرى يا رسول الله، يرزقنا الله الشهادة. والله يا رسول الله، ما أبالي أيهما كان، إن كلاً لفيه الخير! فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم رجع إليه قولاً، وسكت. فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة. وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائماً، ويوم السبت صائماً، فلاقاهم وهو صائم.
قالوا: وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم: يا رسول الله، أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك وأني منهم، فلم تحرمنا الجنة؟ فو الذي لا إله إلا هو لأدخلنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت! فاستشهد يومئذٍ. وقال إياس بن أوس ابن عتيك: يا رسول الله، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح، نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم ويذبح فينا، فنصير إلى الجنة ويصيرون إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها! فيكون هذا جرأة لقريش، وقد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا لم نزرع، وقد كنا يا رسول الله في جاهليتنا والعرب يأتوننا، ولا يطعمون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا، لا نحصر أنفسنا في بيوتنا. وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول الله، إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والأرصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترىء علينا العرب حولنا حتى يطعموا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا وعسى الله أن يظفرنا بهم فتلك عادة الله عندنا، أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخزرج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت حريصاً على الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً! وقد والله يا رسول الله أصحبت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك، فقتل بأحد شهيداً.
وقالوا: قال أنس بن قتادةك يا رسول الله، هي إحدى الحسنيين، إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر في قتلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني أخاف عليكم الهزيمة.
قالوا: فلما أبوا إلا الخروج صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجمعة بالناس، ثم وعظ الناس وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا. ففرح الناس بذلك حيث أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشرٌ كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمرهم بالتهيو لعدوهم. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العصر بالناس، وقد حشد الناس وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام، فحضرت بنو عمرو بن عوف ولفها والنبيت ولفها وتلبسوا السلاح. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه ولبساه، وصف الناس له ما بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه، فجاءهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا: قلتم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه وما رأيتم له فيه هوًى أو رأى فأطيعوه. فبينا القوم على ذلك من الأمر، وبعض القوم يقول: القول ما قال سعد! وبعضهم على البصيرة على الشخوص، وبعضهم للخروج كارهٌ، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قد لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقةٍ من حمائل سيف من أدم، كانت عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد، واعتم، وتقلد السيف. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ندموا جميعاً على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما كان لنا أن نلح على رسول الله في أمرٍ يهوى خلافه. وندمهم أهل الرأي الذين كانوا يشيرون بالمقام، فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك. فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: كان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلبس لأمته ثم خرج وهو موضوع عند موضع الجنائز صلى عليه، ثم دعا بدابته فركب إلى أحد.
حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه قال: قال له جعال بن سراقة وهو موجه إلى أحد: يا رسول الله، إنه قيل لي إنك تقتل غداً! وهو يتنفس مكروباً، فضرب النبي صلى الله عليه وسلّم بيده في صدره وقال: أليس الدهر كله غداً.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح ويقال إلى سعد بن عبادة، ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، ويقال إلى مصعب بن عمير. ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلّم بفرسه فركبه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلّم القوم وأخذ قناة بيده زج الرمح يومئذٍ من شبه والمسلمون متلبسون السلاح قد أظهروا الدروع، فيهم مائة دارع. فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ كل واحد منهما دارع، والناس عن يمينه وعن شماله حتى سلك على البدائع، ثم زقاق الحسى، حتى أتى الشيخين، وهم أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان، فسمي الأطمان الشيخين حتى انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبةٍ خشناء لها زجلٌ خلفه، فقال: ما هذه؟ قالوا: يا رسول الله، هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى الشيخين فعسكر به. وعرض عليه غلمانٌ: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديح، فردهم. قال رافع بن خديج، فقال ظهير بن رافع: يا رسول الله إنه رامٍ! وجعلت أتطاول وعلي خفان لي، فأجازني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما أجازني قال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان الحارثي، وهو زوج أمه: يا أبة، أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج. فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: تصارعا! فصرع سمرة رافعاً فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت أمه امرأة من بني أسد.
وأقبل ابن أبي فنزل ناحيةً من العسكر، فجعل حفاؤه ومن معه من المنافقين يقولون لابن أبي: أشرت عليه بالرأي ونصحته وأخبرته أن هذا رأي من مضى من آبائك، وكان ذلك رأيه مع رأيك فأني أن يقبله، وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه! فصادفوا من ابن أبي نفاقاً وغشاً.
فبات رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشيخين، وبات ابن أبي في صحابه، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من عرض أصحابه وغابت الشمس فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم نازل في بني النجار. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الحرس محمد بن مسلمة بن خمسين رجلاً، يطوفون بالعسكر حتى أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان المشركون قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أدلج، ونزل بالشيخين، فجمعوا خيلهم وظهروا واستعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل في خيلٍ من المشركين، وباتت صاهلةً خيلهم لا تهدأ، وتدنو طلائعهم حتى تلصق بالحرة، فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم، ويهابون موضع الحرة ومحمد بن مسلمة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال حين صلى العشاء: من يحفظنا الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أنت؟ قال: ذكوان بن عبد قيس. قال: اجلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا فقال: من أنت.؟ قال: أنا أبو سبع. قال: اجلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من رجلٌ يحفظنا هذه الليلة؟ فقام رجلٌ فقال: أنا. فقال: ومن أنت؟ قال: ابن عبد قيس. قال: اجلس. ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ساعةً ثم قال: قوموا ثلاثتكم. فقام ذكوان بن عبد قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أين صاحباك؟ فقال ذكوان: أنا الذي كنت أجبتك الليلة. قال: فاذهب، حفظك الله! قال: فلبس درعه وأخذ درقته، وكان يطوف بالعسكر تلك الليلة، ويقال كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يفارقه.
ونام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أدلج، فلما كان في السحر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أين الأدلاء؟ من رجلٌ يدلنا على الطريق ويخرجنا على القوم من كثب؟ فقام أبو حثمة الحارثي فقال: أنا يا رسول الله. ويقال أوس بن قيظي، ويقال محيصة وأثبت ذلك عندنا أبو حثمة. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فركب فرسه، فسلك به في بني حارثة، ثم أخذ في الأموال حتى يمر بحائط مربع بن قيظي، وكان أعمى البصر منافقاً، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حائطه قام يحثى التراب في وجوههم وجعل يقول: إن كنت رسول الله، فلا تدخل حائطي. فيضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوسٍ في يده، فشجه في رأسه فنزل الدم، فغضب له بعض بني حارثة ممن هو على مثل رأيه، فقال: هي عداوتكم يا بني عبد الأشهل، لا تدعونا أبداً لنا. فقال أسيد بن حضير: لا والله، ولكنه نفاقكم. والله، لولا أني لا أدري ما يوافق النبي صلى الله عليه وسلّم من ذلك لضربت عنقه وعنق من هو على مثل رأيه! فأسكتوا.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه، فأصاب كلاب سيفه فسل سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صاحب السيف، شم سيفك، فإني إخال السيوف ستسل فيكثر سلها! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب الفأل ويكره الطيرة.
ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الشيخين درعاً واحدةً، حتى انتهى إلى أحد، فلبس درعاً أخرى، ومغفراً وبيضةً فوق المغفر. فلما نهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الشيخين زحف المشركون على تعبيةٍ حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد إلى موضع القنطرة اليوم جاء وقد حانت الصلاة، وهو يرى المشركين، أمر بلالاً فأذن وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفاً، وارتحل ابن أبي من ذلك المكان في كتيبة كأنه هيق يقدمهم، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: أذكركم الله ودينكم ونبيكم، وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم. فقال ابن أبي: ما أرى يكون بينهم قتال، ولئن أطعتني يا أبا جابر لترجعن، فإن أهل الرأي والحجى قد رجعوا، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد خالفنا وأشرت عليه بالرأي، فأبى إلا طواعية الغلمان. فلما أبى علي عبد الله أن يرجع ودخلوا أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله، إن الله سيغني النبي والمؤمنين عن نصركم! فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان؟ وانصرف عبد الله بن عمرو بن حرام يعدو حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو يسوي الصفوف. فلما أصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم سر ابن أبي، وأظهر الشماتة وقال: عصاني وأطاع من لا رأي له! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصف أصحابه، وجعل الرماة خمسين رجلاً على عينين، عليهم عبد الله بن جبير، وقيل عليهم سعد ابن أبي وقاص. قال ابن واقد: والثبت عندنا عبد الله بن جبير. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصف أصحابه، فجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة، وجعل عينين عن يساره، وأقبل المشركون فاستدبروا المدينة في الوادي، واستقبلوا أحداً. ويقال جعل النبي صلى الله عليه وسلّم عينين خلف ظهره، واستدبر الشمس واستقبلها المشركون والقول الأول أثبت عندنا، أن أحداً خلف ظهره وهو مستقبل المدينة.
حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن الحصين عن عبد الرحمن بن عمرو، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد، والقوم نزول بعينين، أتى أحداً حتى جعله خلف ظهره. قال: ونهى أن يقاتل أحدٌ حتى يأمره، فلما سمع بذلك عمارة بن يزيد بن السكن قال: أترى زروع بني قيلة، ولما نضارب؟
وأقبل المشركون، قد صفوا صفوفهم واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ولهم مجتبتان مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية ويقال عمرو بن العاص وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة، وكانوا مائة رامٍ. ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وصاح أبو سفيان يومئذٍ: يا بني عبد الدار، نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا! إنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتي القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، وخلوا بيننا وبينه، فإنا قومٌ مستميتون موتورون، نطلب ثأرا حديث العهد، وجعل أبو سفيان يقول: إذا زالت الألوية فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها! فغضب بنو عبد الدار وقالوا: نحن نسلم لواءنا! لا كان هذا أبداً، فأما المحافظة عليه، فسترى! ثم أسندوا الرماح إليه، وأحدقت بنو عبد الدار باللواء، وأغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ. فقال أبو سفيان: فنجعل لواءً آخر؟ قالوا: نعم، ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار، لا كان غير ذلك أبداً! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخطب الناس فقال: يا أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه. ثم إنكم اليوم بمنزل أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ، شديدٌ كربه، قليلٌ من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريصٌ على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر. يا أيها الناس، جدد في صدري أن من كان على حرامٍ فرق الله بينه وبينه، ومن رغب له عنه غفر الله ذنبه، ومن صلى علي صلى الله عليه وملائكته عشراً، ومن أحسن من مسلم أو كافرٍ وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبياً أو امرأة أو مريضاً أو عبداً مملوكاً، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والل غني حميدٌ. ما أعلم من عملٍ يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عملٍ يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث في روعي الروح الأمين، أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أقصى رزقها، لا ينقص منه شيءٌ وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته. قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبهاً من الأمر لم يعلمها كثيرٌ من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه. وليس ملكٌ إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد. والسلام عليكم! حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله، قال: إن أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، طلع في خمسين من قومه معه عبيد قريش، فنادى أبو عامر، وهو عبد عمرو: يا آل أوس، أنا أبوعامر! فقالوا: لا مرحباً بك ولا أهلاً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ومعه عبيد أهل مكة، فتراموا بالحجارة هم والمسلمون حتى تراضخوا بها ساعة، حتى ولى أبو عامر وأصحابه، ودعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز. ويقال: إن العبيد لم يقاتلوا، وأمروهم بحفظ عسكرهم.
قال: وجعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان أمام صفوف المشركين يضربن بالأكبار والدفاف والغرابيل، ثم يرجعن فيكن في مؤخر الصف، حتى إذا دنوا منا تأخر النساء يقمن خلف الصفوف، فجعلن كلما ولي رجلٌ حرضنه وذكرنه قتلاهم ببدر.
وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيره نساء بني ظفرٍ فقلن: يا قزمان، قد خرج الرجال وبقيت! يا قزمان ألا تستحي مما صنعت؟ ما أنت إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار! فأحفظنه، فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه وكان يعرف بالشجاعة فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يسوي صفوف المسلمين، فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه. وكان أول من رمى بسهم من المسلمين، فجعل يرسل نبلاً كأنها الرماح، وإنه ليكت كتيت الجمل. ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ذكره قال: من أهل النار. فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار! يا آل أوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع! قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل، ثم يطلع ويقول: أنا الغلام الظفري! حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع. فمر بن قتاده بن النعمان فقال: أبا الغيداق! قال له قزمان: يا لبيك! قال: هنيئاً لك الشهادة! قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دينٍ، ما قاتلكت إلا على الحفاظ أن تسير قريشٌ إلينا حتى تطأ سعفنا. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلّم جراحته فقال: من أهل النار. فأندبته الجراحة، فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
قالوا: وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الرماة فقال: احموا لنا ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتي من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم، حتى ندخل عسكرهم، فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، اللهم، إني أشهدك عليهم! وارشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل. وكان للمشركين مجنبتان، ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. قالوا: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ميمنة وميسرةً، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب. والرماة يحمون ظهورهم، يرشقون خيل المشركين بالنبل، فتولى هوارب. قال بعض الرماة: لق درمقت نبلنا، ما رأيت سهماً واحداً مما نرمي به خيلهم يقع بالأرض إلا في فرسٍ أو رجلٍ قالوا: ودنا القوم بعضهم من بعض، وقدموا صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، وصفوا صفوفهم، وأقاموا النساء خلف الرجال بين أكتافهم يضربن بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها يحرضن ويذمرن الرجال ويذكرون من أصيب ببدر ويقلن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وصاح طلحة بن أبي طلحة: من يبارز؟ فقال علي عليه السلام: هل لك في البراز؟ قال طلحة: نعم. فبرزا بين الصفين. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسٌ تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا فبدره علي فضربه على رأسه، فمضى السيف حتى فلق هامته حتى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة وانصرف علي عليه السلام. فقيل لعلي: ألا ذففت عليه؟ قال: إنه لما صرع استقبلتني عورته فعطفني عليه الرحم، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى سيقتله هو كبش الكتيبة.
ويقال حمل عليه طلحة، فاتقاه علي بالدرقة فلم يصنع سيفه شيئاً. وحمل عليه علي عليه السلام، وعلى طلحة درع مشمرة، فضرب ساقيه فقطع رجليه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله بالرحم فتركه علي فلم يذفف عليه، حتى مر به بعض المسلمين فذفف عليه. ويقال إن عليا ذفف عليه. فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأظهر التكبير، وكبر المسلمون. ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون حتى نقضت صفوفهم، وما قتل إلا طلحة. ثم حمل لواءهم بعد طلحة عثمان بن أبي طلحة، أبو شيبة، وهو أمام النسوة، يرتجز ويقول:
إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا
فتقدم باللواء، والنساء يحرضن ويضربن بالدفوف، وحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، حتى انتهى إلى مؤتزره حتى بدا سحره، ثم رجع وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج! ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته، وكان دارعاً وعليه مغفر لا رفرف له، فكانت حنجرته بادية، فأدلع لسانه إدلاع الكلب. ويقال: إن أبا سعد لما حمل اللواء قام النساء خلفه يقلن:
ضرباً بني عبد الدار ... ضرباً حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
فقال سعد بن أبي وقاص: فأضربه فأقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرى، فأحمل على يده اليسرى فضربتها فقطعتها، فأخذ اللواء بذراعيه جميعاً فضمه إلى صدره، ثم حنى عليه ظهره. قال سعد: فأدخل سية القوس بين الدرع والمغفر فأقلع المغفر فأرمي به وراء ظهره ثم ضربته حتى قتلته، ثم أخذت أسلبه درعه، فنهض إلى سبيع بن عبد عوف ونفرٌ معه فمنعوني سلبه. وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين درع فضفاضة، ومغفر، وسيف جيد، ولكن حيل بيني وبينه. وهذا أثبت القولين، وهكذا اجتمع عليه، أن سعداً قتله.
ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وقال: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد وهي مع النساء، فقالت: من أصابك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! قالت سلافة: أقلحي والله! أي من رهطي.
ويقال قال: خذها وأنا ابن كسرة كانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب. فقال لأمه حين سألته من قتلك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن كسرة! قالت سلافة: إحدى والله كسرى! تقل: إنه رجلٌ منا. فيومئذٍ نذرت أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر، وجعلت تقول: لمن جاء به مائة من الإبل.
ثم حمله كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله الزبير بن العوام، ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله، ثم حمله أرطاة بن شرحبيل، فقتله علي عليه السلام، ثم حمله شريح بن قارظ، فلسنا ندري من قتله، ثم حمله صواب غلامهم، فاختلف في قتله، فقائل قال سعد بن أبي وقاص، وقائلق علي عليه السلام، وقائلٌ قزمان وكان أثبتهم عندنا قزمان. قال: انتهى إليه قزمان، فحمل عليه فقطع يده اليمنى، فاحتمل اللواء باليسرى، ثم قطع اليسرى فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه، ثم حنى عليه ظهره، وقال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟ فحمل عليه قزمان فقتله.
وقالوا: ما ظفر الله نبيه في موطنٍ قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد، حتى عصوا الرسول وتنازعوا في الأمر. لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح حيث التقينا. قال الواقدي: وقد روي كثير من الصحابة ممن شهد أحداً، قال كل واحد منهم والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شيءٌ لمن أراد ذلك. وكلما أتى خالد من قبل ميسرة النبي صلى الله عليه وسلّم ليجوز حتى يأتي من قبل السفح فرده الرماة، حتى فعلوا ذلك مراراً، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوعز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هذا، فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا لا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون، يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهضوهم عن العسكر، ووقعوا ينتهبون العسكر،قال بعض الرماة لبعض: لم تقيمون ها هنا في غير شيءٍ؟ قد هزم الله العدو وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغتموا مع إخوانكم فقال: بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لكم: " احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا " ؟ فقال الآخرون لم يرد رسول الله هذا، وقد أذل الله المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير وكان يومئذٍ معلماً بثياب بيض فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسول صلى الله عليه وسلّم، وألا يخالف لرسول الله أمرٌ فعصوا وانطلقوا، فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا نفير ما يبلغون العشرة، فيهم الحارث بن أنس بن رافع، يقول: يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم. قال: فأبوا وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل وجعلوا ينتهبون، وانتقضت صفوف المشركين واستدارت رجالهم، وحالت الريح، وكانت أول النهار إلى أن رجعوا صباً، فصارت دبوارً حيث المشركون، بينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم.
قال نسطاس مولى صفوان بن أمية، وكان أسلم فحسن إسلامه: كنت مملوكاً فكنت فيمن خلف في العسكر، ولم يقاتل يومئذٍ مملوكٌ إلا وحشى، وصواب غلام بني عبد الدار. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، خلفوا غلمانكم على متاعكم يكونون هم الذين يقومون على رحالكم. فجمعنا بعضها إلى بعض، وعقلنا الإبل، وانطلق القوم على تعبيتهم ميمنةً وميسرةً، وألبسنا الرحال الأنطاع. ودنا القوم بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا ساعة ثم إذا أصحابنا منهزمون، فدخل أصحاب محمد عسكرنا ونحن في الرحال، فأحدقوا بنا، فكنت فيمن أسروا. وانتهبوا العسكر أقبح انتهاب، حتى إن رجلاً منهم قال: أين مال صفوان بن أمية؟ فقلت: ما حمل إلا نفقة، هي في الرحل. فخرج يسوقني حتى أخرجتها من العيبة خمسين ومائة مثقال. وقد ولي أصحابنا وأيسنا منهم، وانحاش النساء، فهن في حجرهن سلمٌ لمن أرادهن. وصار النهب في أيدي الرجال، فإنا لعلي ما نحن عليه من الاستسلام إلى أن نظرت إلى الجبل، فإذا الخيل مقبلة فدخلوا العسكر فلم يكن أحدٌ يردهم، قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاءوا إلى النهب والرماة ينتهبون، وأنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم وجعابهم، كل رجل منهم في يديه أو حضنه شيءٌ قد أخذه، فلما دخلت خيلنا دخلت على قومٍ غارين آمنين، فوضعوا فيهم السيوف فقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً. وتفرق المسلمون في كل وجهٍ، وتركوا ما انتهبوا وأجلوا عن عسكرنا، فرجعنا متاعنا بعد فما فقدنا منه شيئاً، وخلوا أسرانا، ووجدنا الذهب في المعرك. ولقد رأيت رجلاً من المسلمين ضم صفوان بن أمية إليه ضمة ظننت أنه سيموت حتى أدركته به رمقٌ، فوجأته بخنجر معي فوق، فسألت عنه بعد فقيل: رجلٌ من بني ساعدة. ثم هداني الله عز وجل بعد للإسلام.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، قال: ما علمنا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذين أغاروا على النهب، فأخذوا ما أخذوا من الذهب، بقي معه من ذلك شيءٌ رجع به حيث غشنا المشركون واختلطوا إلا رجلين: أحدهما عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح، جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون ديناراً، فشدها على حقويه من تحت ثيابه، وجاء عباد بن بشر بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالاً، ألقاها في جيب قميصه، وعليه قميص والدرع فوقها قد حزم وسطه. فأتيا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد، فلم يخمسه ونفلهما إياه.
قال رافع بن خديج: فلما انصرف الرماة وبقي من بقي، نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل، فانطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم. فراموا القوم حتى أصيبوا، ورامى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وأقبل جعال بن سراقة وأبو بردة بن نيار، وكانا قد حضرا قتل عبد الله بن جبير، وهما آخر من انصرف من الجبل حتى لحقا القوم، وإن المشركين على متون الخيل، فانتقضت صفوفنا. ونادى إبليس وتصور في صورة جعال بن سراقة: إن محمداً قد قتل! ثلاث صرخات. فابتلي يومئذٍ جعال بن سراقة بيلية عظيمةٍ حين تصور إبليس في صورته، وإن جعال ليقاتل مع المسلمين أشد القتال، وإنه إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوات بن جبير، فوالله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا. وأقبل المسلمون على جعال بن سراقة يريدون قتله يقولون: هذا الذي صاح إن محمداً قد قتل. فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة بن نيار أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح، وأن الصائح غيره. قال رافع: وشهدت له بعد.
يقول رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون، وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضاً، ما يشعرون به من العجلة والدهش، ولقد جرح يومئذٍ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدري، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! قال: وكر أبو زعنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر إنه ليقول: خذها وأنا أبو زعنة! حتى عرفه بعد. فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما صنعت بي. فيقول له أبو زعنة: أنت ضربت أسيد بن حضير ولا تشعر، ولكن هذا الجرح في سبيل الله. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقل صلى الله عليه وسلّم: هو في سبيل الله، يا أبا بردة، لك أجره حتى كأنه ضربك أحدٌ من المشركين، ومن قتل فهو شهيدٌ.
وكان اليمان حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين كبيرين، قد رفعا في الآطام مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك، ما نستبقي من أنفسنا، فوالله ما نحن إلا هامة اليوم أو غداً، فما بقي من أجلنا قد ظمء دابة. فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم، نعل الله يرزقنا الشهادة قال: فلحقا برسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد من النهار. فأما رفاعة فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فالتقت عليه سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه، حين اختلطوا وحذيفة يقول: أبي! أبي! حتى قتل فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم! فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيراً، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته أن تخرج. ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، فتصدق حذيفة بن اليمان بدمه على المسلمين.
وأقبل يومئذٍ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة! فأقبلوا عنقاً واحدةً: لبيك داعي الله! لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربةً في رأسه مثقلةً وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت! أمت! فكف بعضهم عن بعض.
فحدثني الزبير بن سعد، عن عبد الله بن الفضلن قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير اللواء، فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لمصعب في آخر النهار: تقدم يا مصعب! فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه ملك أيد به. وسمعت أبا معشر يقول مثل ذلك.
فحدثتني عبيدة بنت نائل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد ابن أبي وقاص، فال: لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذٍ فيرده علىّ رجلٌ أبيض حسن الوجه، لا أعرفه حتى كان بعد فظننت أنه ملك.
حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد رأيت رجلين عليهما ثياب بيض، أحدهما عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلّم والآخر عن يساره، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.
حدثني عبد الملك بن سليم، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. قال عبيد بن عمير: ولم تقاتل الملائكة يوم أحد.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الحميد بن سهيل، عن عمر بن الحكم قال: لم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد بملك واحد، إنما كانوا يوم بدر.
حدثني ابن خديج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مثله.
حدثني معمر بن راشد، عن ابن أبي لحيح، عن مجاهد، قال: حضرت الملائكة يومئذٍ ولم تقاتل.
حدثني سفيان بن سعيد، عن عبد الله بن عثمان، عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
حدثني ابن أبي سبرة، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: قد وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذٍ.
حدثني يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، عن أبي بشير المازني، قال: لما صاح الشيطان أزب العقبة إن محمداً قد قتل، لما أراد الله عز وجل من ذلك، سقط في أيدي المسلمين وتفرقوا في كل وجه، وأصعدوا في الجبل. فكان أول من بشرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سالمٌ كعب بن مالك. قال كعب: فجعلت أصيح، ويشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإصبعه على فيه أن اسكت.
فحدثني موسى بن شيبة بن عمرو بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أبيها، قال: لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبشرت به المؤمنين حياً سوياً. قال كعب: وأنا في الشعب. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كعباً بلامته وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونزع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمته فلبسها كعب. وقاتل كعب يومئذٍ قتالاً شديداً حتى جرح سبعة عشر جرحاً.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ، فعرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت: يا معشر الأنصار، أبشروا! هذا رسول الله! فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن اصمت.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن الأعرج، قال: لما صاح الشيطان إن محمداً قد قتل، قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، إيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعرك هل يرى محمداً بين القتلى، فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بلحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف. قال: ثم مر بذكوان ابن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابن عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت محمد بن مسلمة يقول: سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول يومئذٍ، وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه، وإنه ليقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله! فما عرج منهما واحدٌ عليه ومضيا.
حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم، واسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول: الحمد لله الذي هداني للإسلام! لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب رحمه الله حين جالوا وانهزموا يوم أحد، وما معه أحدٌ، وإني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحدٌ غيري، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه موجهاً إلى الشعب.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذٍ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا! وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى جنبه، ما معه أحدٌ، ثم جاوزه، ولقي عبد الله ابن شهاب صفوان بن أمية، فقال صفوان: ترحت، ألم يمكنك أن تضرب محمداً فتقطع هذه الشأفة، فقد أمكنك الله منه؟ قال: وهل رأيته؟ قال: نعم، أنت إلى جنبه. قال: والله ما رأيته. أحلف بالله إنه مناً ممنوعٌ، خرجنا أربعةً تعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن نملة بن أبي نملة واسم أبي نملة عبد الله بن معاذ، وكان أبوه معاذ أخاً للبراء بن معرور لأمه فقال: لما نكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما معه أحدٌ إلا نفير، فأحدق به أصحابه من المهاجرين والأنصار وانطلقوا به إلى الشعب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ولا فئةٌ، ولا جمعٌ، وإن كتائب المشركين لتحوشهم مقبلةً ومدبرةً في الوادي، يلتقون ويفترقون، ما يرون أحداً من الناس يردهم. فاتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنظر إليه وهو يوم أصحابه، ثم رجع المشركون نحو عسكرهم وتآمروا في المدينة وفي طلبنا، فالقوم على ما هم عليه من الاختلاف. وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه، فكأنهم لم يصبهم شيءٌ حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سالماً.
حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه، قال: حمل مصعب اللواء فلما جال المسلمون ثبت به، فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضرب يده اليمنى فقطعها، وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل " . وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه فقطع يده اليسرى، فحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية. ثم حمل عليه الثالثة فأنفذه واندق الرمح، ووقع مصعب وسقط اللواء، وابتدره رجلان من بني عبد الدار، سويبط بن حرملة وأبو الروم، وأخذه أبو الروم فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، عن المقداد، قال: لما تصاففنا للقتال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت راية مصعب بن عمير، فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الأولى، وأغار المسلمون على عسكرهم فانتهبوا، ثم كروا على المسلمين فأتوا من خلفهم فتفرق الناس، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحاب الألوية، فأخذ اللواء مصعب بن عمير ثم قتل. وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قائمٌ تحتها، وأصحابه محدقون به. ودفع لواء المهاجرين إلى أبي الروم العبدري آخر النهار، ونظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير، فناوشوهم ساعةً واقتتلوا على الاختلاط من الصفوف. ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزى، يا آل هبل! فأوجعوا والله فينا قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما نالوا. لا والذي بعثه بالحق، إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم زال شبراً واحداً، إنه لفي وجه العدو، وتثوب إليه طائفةٌ من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة، فربما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا. وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما هو في عصابةٍ صبروا معه، أربعة عشر رجلاً، سبعةٌ من المهاجرين وسبعةٌ من الأنصار: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. ويقال ثبت سعد بن عبادة، ومحمد ابن مسلمة، فيجعلونهما مكان أسيد بن حضير وسعد بن معاذ. وبايعه يومئذٍ ثمانيةٌ على الموت ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار: علي، والزبير، وطلحة عليهم السلام، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب ابن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحدٌ. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى قريب من المهراس.
وحدثني عتبة بن جبيرة، عن يعقوب بن عمرو بن قتادة، قال: ثبت بين يديه يومئذٍ ثلاثون رجلاً كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما لحمه القتال وخلص إليه، وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: من رجلٌ يشري نفسه؟ فوثب فئة من الأنصار خمسةٌ، منهم عمارة بن زياد بن السكن، فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئةٌ من المسلمين فقاتلوا حتى أجهضوا أعداء الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمارة بن زياد: ادن مني! إلي، إلي! حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدمه وبه أربعة عشر جرحاً، حتى مات. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ يذمر الناس ويحضهم على القتال، وكان رجالٌ من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي، منهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول لسعد بن أبي وقاص: ارم، فداك أبي وأمي! ورمي حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وجاءت يومئذٍ تسقى الجرحى فعقلها وانكشف عنها، فاستغرب في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له فقال: ارم! فوقع السهم في ثغرة نحر حبان فوقع مستلقياً وبدت عورته. قال سعد: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صحك يومئذٍ وسدد رميتك! ورمي يومئذٍ مالك بن زهير الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي، وكان هو وحبان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأكثرا فيهم القتل بالنبل، يتستران بالصخر ويرميان المسلمين. فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير وراء صخرة، قد رمى وأطلع رأسه، فيرميه سعد فأصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه، فنزا في السماء قامةً ثم رجع فسقط فقتله الله عز وجل.
ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ عن قوسه حتى صارت شظايا، فأخذها قتادة بن النعمان وكانت عنده. وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. قال قتادة بن النعمان: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: أي رسول الله، إن تحتي امرأةً شابة جميلة أحبها وتحبني وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني. فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فردها فأبصرت وعادت كما كانت، فلم تضرب عليه ساعةً من ليلٍ ولا نهار، وكان يقول بعد أن أسن: هي والله أقوى عيني! وكانت أحسنهما.
وباشر رسول الله صلى الله عليه وسلّم القتال، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه، وقبل ذلك انقطع وتره، وبقيت في يده قطعةٌ تكون شبراً في سية القوس، وأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له، فقال: يا رسول الله، لا يبلغ الوتر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مده، يبلغ! قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرمى القوم، وأبو طلحة أمامهم يستره مترساً عنه، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت، فأخذها قتادة بن النعمان. وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثر كنانته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم وكان رامياً وكان صيتاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من أربعين رجلاً. وكان في كنانته خمسون سهماً، فنثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جعل يصيح: يا رسول الله، نفسي دون نفسك! فلم يزل يرمي بها سهماً سهماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطلع رأسه خلف أبي طلحة بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله، وهو يقول: نحرى دون نحرك، جعلني الله فداك! فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم يا أبا طلحة! فيرمي بها سهماً جيداً.
وكان الرماة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم المذكور منهم: سعد بن أبي وقاص، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمقداد بن عمرو، وزيد بن حارثة، وحاطب بن أبي بلتعة، وعتبة بن غزوان، وخراش بن الصمة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وبشر بن البراء بن معرور، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، وأبو طلحة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقتادة بن النعمان.
ورمى يومئذٍ أبو رهم الغفاري بسهمٍ فوقع في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبصق عليه فبرأ، وكان أبو رهم يسمى المنحور.
وكان أربعةٌ من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرفهم المشركون بذلك عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة، وأبي بن خلف. ورمى عتبة يومئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأربعة أحجارٍ وكسر رباعيته أشظى باطنها، اليمنى السفلى وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر في وجنته وأصيبت ركبتاه فجحشتا. وكانت حفرٌ حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً على بعضها ولا يشعر به. والثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابن قميئة، والذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. وأقبل ابن قميئة وهو يقول: دلوني على محمد، فو الذي يحلف به، لئن رأيته لأقتلنه! فعلاه بالسيف، ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل السيف، وكان عليه صلى الله عليه وسلّم درعان، فوقع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحفرة التي أمامه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئاً إلا وهن الضربة بثقل السيف، فقد وقع لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وانتهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطلحة يحمله من ورائه، وعلى آخذٌ بيديه حتى استوى قائماً.
حدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، عن أبي بشير المازني، قال: حضرت يوم أحد وأنا غلامٌ، فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسيف، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقع على ركبتيه في حفرةٍ أمامه حتى توارى، فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه. قال: فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذاً بحضنه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ويقال إن الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جبهته ابن شهاب، والذي أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص، والذي رمى وجنتيه حتى غاب الحلق في وجنتيه ابن قميئة، وسال الدم في شجته التي في جبهته حتى أخضل الدم لحيته صلى الله عليه وسلّم. وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله عز وجل: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم.. " الآية.
وقال سعد بن أبي وقاص: سمعته يقول: اشتد غضب الله على قومٍ أدموا فا رسول الله، اشتد غضب الله على قومٍ أدموا وجه رسول الله، اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله! قال سعد: فقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولقد حرصت على قتله حرصا ًما حرصته على شيء قط وإن كان ما علمته لعاقاً بالوالد سيىء الخلق. ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله، ولكن راغ مني روغان الثعلب، فلما كان الثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا عبد الله ما تريد؟ تريد أن تقتل نفسك؟ فكففت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم لا يحولن الحول على أحدٍ منهم! قال: والله، ما حال الحول على أحدٍ ممن رماه أو جرحه! مات عتبة، وأما ابن قميئة فإنه اختلف فيه. فقائل يقول قتل في المعرك، وقائل يقول إنه رمى يوم أحد بسعن. فأصاب مصعب بن عمير فقال: خذها وأنا ابن قميئة! فقتل مصعباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أقمأه الله! فعمد إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرنها وهو معتقلها فقتلته، فوجد ميتاً بين الجبال، لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان عدو الله قد رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو رجل من بني الأدرم من بني فهر.
ويقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على تلك الحال، يركض فرسه مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن زهير، دلوني على محمد، فو الله لأقتلنه أو لأموتتن دونه! فتعرض له أبو دجانة فقال: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه! فضرب فرسه فعرقبها، فاكتسعت الفرس، ثم علاه بالسيف وهو يقول: خذها وأنا ابن خرشة! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إليه يقول: اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راضٍ.
حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: لما كان يوم أحد ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنسانٌ قد أقبل من قبل المشرق يطير طيراناً، فقلت: اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله! حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبو عبيد ة بن الجراح، فبدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني، فأنزعه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال أبو بكر: فتركته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عليكم صاحبكم! يعني طلحة بن عبيد الله. فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر فنزعها، وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم.
ويقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عقبة بن وهب بن كلدة، ويقال أبو اليسر وأثبت ذلك عندنا عقبة ابن وهب بن كلدة.
وكان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصيب وجهه يوم أحد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل مالك بن سنان يملج الدم بفيه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. فقيل لمالك: تشرب الدم؟ فقال: نعم، أشرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من مس دمه دمي، لم تصبه النار. قال أبو سعيد: فكنا ممن رد من الشيخين، لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار وبلغنا مصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتفرق الناس عنه، جئت مع غلمان من بني خدرة نعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وننظر إلى سلامته فنرجع بذلك إلى أهلنا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن لنا همة إلا النبي صلى الله عليه وسلّم ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم، بأبي وأمي! فدنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه. ثم قال: آجرك الله في أبيك! ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجةٌ في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمي، وإذا رباعيته اليمنى شظية، فإذا على جرحه شيءٌ أسود. فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصيرٌ محرقٌ. وسألت: من دمي وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة. فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملاً، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكىء على السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ حتى دخل بيته. فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران يكمدون بها الجراح. ثم أذن بلالٌ بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجلس بلالٌ عند بابه حتى ذهب ثلث الليل ثم ناداه: الصلاة، يا رسول الله! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد كان نائماً. قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه، يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي صلى الله عليه وسلّم يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر.
قالوا: وخرجت فاطمة في نساءٍ، وقد رأت الذي بوجهه صلى الله عليه وسلّم فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم. فأتي بماءٍ في مجنه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشرب منه وكان قد عطش فلم يستطع، ووجد ريحاً من الماء كرهها فقال: هذا ماءٌ آجنٌ. فمضمض منه فاه للدم في فيه، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها. ولما أبصر النبي صلى الله عليه وسلّم سيف علي عليه السلام مختضباً قال: إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم. فلم يطق أن يشرب منه، فخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم.
قال كعب بن مالك: رأيت أم سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها يوم أحد، وكانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت أم أيمن تسقي الجرحى. فلما لم يجد محمد بن مسلمة عندهم ماءً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد عطش يومئذٍ عطشاً شديداً، ذهب محمد إلى قناة وأخذ سقاءه حتى استقى من حسىٍ قناة عند قصور التيميين اليوم فأتي بماءٍ عذبٍ فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير. وجعل الدم لا ينقطع، وجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن. فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل الدم، وعلي عليه السلام يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم. ويقال إنها داوته بصوفةٍ محترقة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد يداوي الجرح الذي في وجهه بعظمٍ بالٍ حتى يذهب أثره، ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهراً أو أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي بوجهه بعظمٍ بالٍ.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما كان يوم أحد أقبل أبي بن خلف يركض فرسه، حتى إذا دنا من النبي صلى الله عليه وسلّم اعترض له ناسٌ من أصحابه ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: استأخروا عنه! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحربته في يده فرماه ما بين سابغة البيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع أبي عن فرسه، فكسر ضلعٌ من أضلاعه، واحتملوه ثقيلاً حتى ولوا قافلين فمات بالطريق، ونزلت فيه: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " .
فحدثني يونس بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر، عن عبد الله ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه، وكان أسر يوم بدر، فقال: يا محمد، إن عندي فرساً لي أجلها فرقاً من ذرةٍ كل يوم، أقتلك عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بل، أنا أقتلك عليها إن شاء الله. ويقال قال ذلك بمكة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلمته بالمدينة فقال: أنا أقتله عليها إن شاء الله.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في القتال لا يلتفت وراءه، فكان يقول لأصحابه: إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي، فإذا رأيتموه فآذنوني به. فإذا بأبي يركض على فرسه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمد، لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، ما كنت صانعاً حين يغشاك! فقد جاءك، وإن شئت عطف عليه بعضنا. فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ودنا أبي فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث ابن الصمة. ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير، فتطايرنا عنه تطاير الشعارير، ولم يكن أحدٌ يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحربة في عنقه وهو على فرسه، فجعل يخور كما يخور الثور. ويقول له أصحابه: أبا عامر، والله ما بك بأسٌ، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره.
قال: واللات والعزى، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون! أليس قال: لأقتلنك؟ فاحتملوه وشغلهم ذلك عن طلب النبي صلى الله عليه وسلّم، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعظم أصحابه في الشعب، ويقال تناول الحربة من الزبير بن العوام.
وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجج، فهبتها، وإذا رجلٌ يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجلٌ يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله، هذا أبي بن خلف. فقلت: ألا سحقاً! ويقال مات بسرف. ويقال لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير وجهه، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرجةً بين سابغة والبيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور. قال: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يحضر فرساً له أبلق، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعليه لأمةٌ له كاملةٌ، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم موجهٌ إلى الشعب، وهو يصيح: لا نجوت إن نجوت! فيقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويعثر به فرسه في بعض تلك الحفر التي كانت حفر أبو عامر، فيقع الفرس لوجهه، وخرج الفرس عائراً فأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيعقرونه، ويمشي إليه الحارث بن الصمة فتضاربا ساعةً بسيفين، ثم يضرب الحارث رجله وكانت الدرع مشمرة فبرك وذفف عليه. وأخذ الحارث يومئذٍ درعاً جيدة ومغفراً وسيفاً جيداً، ولم يسمع بأحدٍ سلب يومئذٍ غيره. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إلى قتالهما وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرجل، فإذا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، فقال: الحمد لله الذي أحانه. وكان عبد الله بن جحش أسره ببطن نخلة حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتدى فرجع إلى قريش حتى غزا أحداً فقتل به. ويرى مصرعه عبيد بن حاجز العامري عامر بن لؤي فأقبل يعدو كأنه سبع، فيضرب الحارث بن الصمة ضربةً جرحه على عاتقه، فوقع الحارث جريحاً حتى احتمله أصحابه. ويقبل أبو دجانة على عبيد فتناوشا ساعة من نهار، وكل واحد منهما يتقي بالدرقة ضرب السيف، ثم حمل عليه أبو دجانه فاحتضنه، ثم جلد على الأرض، ثم ذبحه بالسيف كما تذبح الشاة، ثم انصرف فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقالوا: إن سهل بن حنيف جعل ينضح بالنبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نبلوا سهلاً فإنه سهلٌ! ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي الدرداء، والناس منهزمون كل وجه، فقال: نعم الفارس عويمر قال الواقدي: غير أنه يقال لم يشهد أحداً.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث بن علقمة، ولقي أحد بني عوف فاختلفا ضربات، كل ذلك يروغ أحدهما عن صاحبه. قال: فنظر إليهما كأنهما سبعان ضاريان، يقفان مرة ويقتتلان مرة، ثم تعانقا فضبط أحدهما صاحبه فوقعا للأرض، فعلاه أبو أسيرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة، ونهض عنه. ويقبل خالد بن الوليد، وهو على فرس أدهم أغر محجل، يجر قناة طويلة، فطعنه من خلفه، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره، ووقع أبو أسيرة ميتاً، وانصرف خالد بن الوليد يقول: أنا أبو سليمان! قالوا: وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذٍ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قتالاً شديداً، فكان طلحة يقول: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين انهزم أصحابه، وكر المشركون وأحدقوا بالنبي صلى الله عليه وسلّم من كل ناحية، فما أدرى أقوم من بين يديه أو من ورائه، أو عن يمينه أو عن شماله، فأذب بالسيف من بين يديه مرة وأخرى من وراءه حتى انكشفوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ لطلحة: قد أنحب! وقال سعد بن أبي وقاص وذكر طلحة فقال: يرحمه الله، إنه كان أعظمنا غناءً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد! قيل: كيف يا أبا إسحاق؟ قال: لزم النبي صلى الله عليه وسلم وكنا نتفرق عنه ثم نثوب إليه، لقد رأيته يدور حول النبي صلى الله عليه وسلّم يترس بنفسه.
وسئل طلحة: يا أبا محمد، ما أصاب إصبعك؟ قال: رمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان لا تخطىء رميته، فاتقيت بيدي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأصاب خنصري. فشك فشل إصبعه. وقال حين رماه. حس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لو قال بسم الله لدخل الجنة والناس ينظرون! من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله، طلحة ممن قضى نحبه.
وقال طلحة: لما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا، أقبل رجلٌ من بني عامر بن لؤي بن مالك بن المضر يجر رمحاً له، على فرس كميت أغر، مدججاً في الحديد، يصيح: أنا أبو ذات الودع، دلوني على محمد! فأضرب عرقوب فرسه فانكسعت، ثم أتناول رمحه فوالله ما أخطأت به عن حدقته، فخار كما يخور الثور، فما برحت به واضعاً رجلي على خده حتى أزرته شعوب. وكان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة، ضربه رجلٌ من المشركين ضربتين، ضربة وهو مقبل والأخرى وهو معرض عنه، وكان قد نزف منها الدم. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد فقال: عليك بابن عمك! فأتي طلحة بن عبيد الله وقد نزف الدم، فجعلت أنضح في وجهه الماء وهو مغشيٌّ عليه، ثم أفاق فقال: ما فعل رسول الله؟ فقلت: خيراً، هو أرسلني إليك. قال: الحمد لله، كل مصيبةٍ بعده جللٌ.
وكان ضرار بن الخطاب الفهري يقول: نظرت إلى طلحة بن عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرةٍ، فنظرت إلى المصلبة في رأسه. فقال ضرار: أنا والله ضربته هذه، استقبلني فضربته ثم أكر عليه وقد أعرض فأضربه أخرى.
وقالوا: لما كان يوم الجمل وقتل علي عليه السلام من قتل من الناس ودخل البصرة، جاءه رجلٌ من العرب فتكلم بين يديه، ونال من طلحة فزبره علي وقال: إنك لم تشهد يوم أحد وعظم غنائه في الإسلام مع مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فانكسر الرجل وسكت، فقال رجلٌ من القوم: وما كان غناؤه وبلاوه يوم أحد يرحمه الله؟ فقال علي: نعم، يرحمه الله! فلقد رأيته وإنه ليترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإن السيوف لتغشاه والنبل من كل ناحية، وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال قائل: إن كان يوماً قد قتل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصاب رسول الله فيه الجراحة. فقال علي عليه السلام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل. قال ابن أبي الزناد: نحص الجبل أسفله. ثم قال علي عليه السلام: لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبهم في ناحية، وإن أبا دجانة لفي ناحيةٍ يذب طائفة منهم، وإن سعد بن أبي وقاص يذب طائفة منهم، حتى فرج الله ذلك كله. ولقد رأيتني وانفردت منهم يومئذٍ خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخلت وسطها بالسيف فضربت به واشتملوا علي حتى أفضيت إلى آخرهم، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت، ولكن الأجل استأجر ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قال الواقدي: وحدثني جابر بن سليم، عن عثمان بن صفوان، عن عمارة بن خزيمة، قال: حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وإنه ليحوشهم يومئذٍ كما تحاش الغنم، ولقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل. ثم برز والسيف في يده وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون منه إلى جمعٍ منهم، وصار الحباب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وكان الحباب يومئذٍ معلماً بعصابةٍ خضراء في مغفره.
وطلع يومئذٍ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس، مدججاً لا يرى منه إلا عيناه، فقال: من يبارز؟ أنا عبد الرحمن بن عتيق. قال: فنهض إليه أبو بكر فقال: يا رسول الل، أبارزه. وقد جر أبو بكر سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: شم سيفك وراجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما وجدت لشماس بن عثمان شبهاً إلا الجنة يعني مما يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يرمي يميناً ولا شمالاً إلا رأى شماساً في ذلك الوجه يذب بسيفه. حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فترس بنفسه دونه حتى قتل، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم: ما وجدت لشماس شبهاً إلا الجنة.
وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار، وقد بلغوا بني حارثة فرجعو سراعاً، فصادفوا المشركين في كرتهم فدخلوا في حومتهم، وما أفلت منهم رجلٌ حتى قتلوا. ولقد ضاربهم قيس بن محرث وامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفراً، فما قتلوه إلا بالرماح، نظموه، ولقد وجد به أربع عشرة طعنةً قد جافته، وعشر ضربات في بدنه.
وكان عباس بن عبادة بن نضلة، وخارجة بن زيد بن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، وعباس رافع صوته يقول: يا معشر المسلمين، الله ونبيكم! هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم، فيوعدكم النصر فما صبرتم! ثم نزع مغفره عن رأسه وخلع درعه فقال لخارجة بن زيد: هل لك في درعي ومغفري؟ قال خارجة: لا، أنا أريد الذي تريد. فخالطوا القوم جميعاً، وعباس يقول: ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول الله ومنا عين تطرف؟ يقول خارجة: لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة. فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي، ولقد ضربه عباس ضربتين فجرحه جرحين عظيمين، فارتث يومئذٍ جريحاً فمكث جريحاً سنةً ثم استبل. وأخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحاً، فمر به صفوان ابن أمية فعرفه فقال: هذا من أكابر أصحاب محمد وبه رمقٌ! فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم.
وقال صفوان بن أمية: من رأى خبيب بن يساف؟ وهويطلبه ولا يقدر عليه. ومثل يومئذٍ بخارجة وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر يعني أمية بن خلف الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل، وقتلت ابن أبي زهير: وقتلت أوس بن أرقم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه؟ قال: يضرب به العدو. فقال عمر: أنا. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك الشرط، فقام الزبير فقال: أنا. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى وجد عمر والزبير في أنفسهما. ثم عرضه الثالثة، فقال أبو دجانة: أنا يا رسول الله آخذه بحقه. فدفعه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فصدق به حين لقي العدو، وأعطى السيف حقه. فقال أحد الرجلين إما عمر وإما الزبير: والله لأجعلن هذا الرجل من شأني، الذي أعطاه النبي السيف ومنعنيه. قال: فاتبعته. قال: فوالله ما رأيت أحداً قاتل أفضل من قتاله، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا يحيك عمد به إلى الحجارة فشحذه، ثم يضرب به في العدو حتى رده كأنه منجل. وكان حين أعطاه السيف مشى بين الصفين واختال في مشيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين رآه يمشي تلك المشية: إن هذه لمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يعلمون في الزحوف، أحدهم أبو دجانة، كان يعصب رأسه بعصابةٍ حمراء، وكان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال، وكان علي عليه السلام يعلم بصوفةٍ بيضاء، وكان الزبير يعلم بعصابةٍ صفراء، وكان حمزة يعلم بريش نعامة.
قال أبو دجانة: إني لأنظر يومئذٍ إلى امرأةٍ تقذف الناس وتحوشهم حوشاً منكراً، فرفعت عليها السيوف وما أحسبها إلا رجلاً. قال: وأكره أن أضرب بسيف رسول الله امرأة! والمرأة عمرة بنت الحارث.
وكان كعب بن مالك يقول: أصابني الجراح يوم أحد، فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين أشد المثلى وأقبحه، قمت فتجاوزت عن القتلى حتى تنحيت، فإني لفي موضعي، إذ أقبل خالد بن الأعلم العقيلي جامع اللأمة يحوز المسلمين يقول: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم! مدججاً في الحديد يصيح: يا معشر قريش، لا تقتلوا محمداً، ائسروه أسيراً حتى نعرفه بما صنع. ويصمد له قزمان، فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها سحره، ثم أخذ سيفه وانصرف. وطلع عليه آخر من المشركين ما رأى منه إلا عينيه، فضربه ضربةً واحدة حتى جزله باثنين. قال: قلنا من هو؟ قال: الوليد بن العاص بن هشام. ثم يقول كعب: إني لأنظر يومئذٍ وأقول: ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع بالسيف! ثم ختم له بما ختم له به. فيقول: ما هو وما ختم له به؟ فقال: من أهل النار، قتل نفسه يومئذٍ.
قال كعب: وإذا رجلٌ من المشركين جامع اللأمة يصيح: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم. وإذا رجلٌ من المسلمين عليه لأمته، فمشيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أكثرهما عدةً وأهبةً. فلم أزل أنظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه بالسيف، فمضى السيف حتى بلغ وركيه، وتفرق المشرك فرقتين. وكشف المسلم عن وجهه فقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
قال: وكان رشيد الفارسي مولى بني معاوية لقي رجلاً من المشركين من بني كنانة مقنعاً في الحديد يقول: أنا ابن عويم! فيعترض له سعدٌ مولى حاطب فضربه ضربةً جزله باثنين ويقبل عليه رشيد فيضربه على عاتقه، فقطع الدرع حتى جزله باثنين، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الفارسي! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ألا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري؟ فيعترض له أخوه، وأقبل يعدو كأنه كلب، يقول:أنا ابن عويم! ويضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر، ففلق رأسه، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أحسنت يا أبا عبد الله! فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ ولا ولد له.
وقال أبو النمر الكناني: أقبلت يوم أحد فقد انكشف المسلمون، وأنا مع المشركين، وقد حضرت في عشرة من إخوتي، فقتل منهم أربعةٌ. وكانت الريح للمسلمين أول ما التقينا، فلقد رأيتني وانكشفنا مولين، وأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم على نهب العسكر، حتى بلغت على قدمي الجماء، ثم كرت خيلنا فقلنا: والله ما كرت الخيل إلا عن أمرٍ رأته. فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل، حتى نجد القوم قد أخذ بعضهم بعضاً، يقاتلون على غير صفوف، ما يدري بعضهم من يضرب، وما للمسلمين لواءٌ قائمٌ، ومع رجل من بني عبد الدار لواءنا. وأسمع شعار أصحاب محمد بينهم: أمت! أمت! فأقول في نفسي: ما أمت! وإني لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن أصحابه محدقون به، وإن النبل لتمر عن يمينه وعن شماله وتقصر بين يديه وتخرج من ورائه، ولقد رميت يومئذٍ بخمسين مرماةً فأصبت منها بأسهمٍ بعض أصحابه. ثم هداني الله إلى الإسلام.
فكان عمرو بن ثابت بن وقش شاكاً في الإسلام، فكان قومه يكلمونه في الإسلام فيقول: لو أعلم ما تقولون حقاً ما تأخرت عنه! حتى إذا كان يوم أحد بدا له الإسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد، فأسلم وأخذ سيفه فخرج حتى دخل في القوم، فقاتل حتى أثبت، فوجد في القتلى جريحاً ميتاً، فدنوا منه وهو بآخر رمقٍ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ قال: الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، ثم أخذت سيفي وحضرت، فرزقني الله الشهادة. ومات في أيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنه لمن أهل الجنة.
قالوا: قال الواقدي: فحدثني خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن داود ابن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول، والناس حوله: أخبروني برجلٍ يدخل الجنة لم يصل لله سجدة قط! فيسكت الناص فيقول أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش.
قالوا: وكان مخيريق اليهودي من أحبار اليهود، فقال يوم السبت ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد: يا معشر اليهود، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي، وأن نصره عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت! ثم أخذ سلاحه ثم حضر مع النبي صلى الله عليه وسلّم فأصابه القتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مخيريق خير يهود. وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد قال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله! فهي عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلّم.
وكان حاطب بن أمية منافقاً، وكان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق، شهد أحداً مع النبي صلى الله عليه وسلّم فارتث جريحاً، فرجع به قومه إلى منزله فقال أبوه، وهو يرى أهل الدار يبكون عنده: أنتم والله صنعتم هذا به! قالوا: كيف؟ قال: غررتموه من نفسه حتى خرج فقتل، ثم صار منكم في شيءٍ آخر، تعدونه جنة يدخل فيها، جنة من حرمل! قالوا: قاتلك الله! قال: هو ذاك! ولم يقر بالإسلام.
قالوا: وكان قزمان عديداً في بني ظفر لا يدري ممن هو، وكان لهم حائطاً محباً، وكان مقلاً لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم، تلك التي كانت تكون بينهم. فشهد أحداً فقاتل قتالاً شديداً فقتل ستة أو سبعة، وأصابته الجراح فقيل للنبي صلى الله عليه وسلّم: قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد! قال: من أهل النار. فأتي إلى قزمان فقيل له: هنيئاً لك يا أبا الغيداق الشهادة! قال: بم تبشرون؟ والله ما قاتلنا إلا على الأحساب. قالوا: بشرناك بالجنة. قال: جنة من حرمل، والله ما قاتلنا على جنة ولا على نار، إنما قاتلنا على أحسابنا! فأخرج سهماً من كنانته، فجعل يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره. فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: من أهل النار.
وكان عمرو بن الجموح رجلاً أعرجن فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلّم المشاهد أمثال الأسد أراد بنوه أن يحبسوه وقالوا: أنت رجلٌ أعرج، ولا حرج عليك، وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وسلّم. قال: بخ! يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم! فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولياً، قد أخذ درقته، يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً! فخرج ولحقه بنوه يكلمونه في القعود، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أما أنت، فقد عذرك الله تعالى ولا جهاد عليك. فأبى فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لبنيه: لا عليكم أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. فخلوا عنه فقتل يومئذٍ شهيداً.
فقال أبو طلحة: نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون، ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ضلعه في رجله، يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة! ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً.
وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم خرجت في نسوة تستروح الخبر ولم يضرب الحجاب يومئذٍ، حتى إذا كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بني حارثة إلى الوادي، لقيت هند بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله بن عمرو ابن حرام تسوق بعيراً لها، عليها زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد ابن عمرو، وأخوها عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر. فقالت عائشة: عندك الخبر، فما وراءك؟ فقالت هند: خيراً، أما رسول الله فصالحٌ، وكل مصيبة بعده جلل. واتخذ الله من المؤمنين شهداء، " ورد الله للذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " . قالت: من هؤلاء؟ قالت: أخي، وابن خلاد، وزوجي عمرو بن الجموح. قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها...حل! تزجر بعيرخا، ثم برك بعيرها فقلت: لما عليه! قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك، فزجرته فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعةً إلى أحد فأسرع. فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرتهبذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فإن الجمل مأمور، هل قال شيئاً؟ قالت: إن عمراً لما وجه إلى أحد استقبل القبلة وقال: اللهم لا تردني إلى أهلي خزياً وارزقني الشهادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فلذلك الجمل لا يمضي! إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح. يا هند، ما زالت الملائكة مظلةً على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن. ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى قبرهم، ثم قال: يا هند، قد ترافقوا في الجنة جميعاً، عمرو بن الجموح، وابنك خلاد، وأخوك عبد الله. قالت هند: يا رسول الله، ادع الله، عسى أن يجعلني معهم.
قال جابر بن عبد الله: اصطبح ناسٌ الخمر يوم أحد، منهم أبي، فقتلوا شهداء.
قال جابر: كان أبي أول قتيلٍ قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلمي، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل الهزيمة.
قال جابر: لما استشهد أبي جعلت عمتي تبكير، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ما يبكيها؟ ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام وكأني رأيت مبشر بن عبد المنذر يقول: أنت قادمٌ علينا في أيام. فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة. نسرح منها حيث نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى، ثم أحييت. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: هذه الشهادة يا أبا جابر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد. ويقال إنهما وجدا وقد مثل بهما كل المثل، قطعت آرابهما يعني عضواً عضواً فلا تعرف أبدانهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ادفنوهما جميعاً في قبرٍ واحد. ويقال إنما أمر بدفنهما في قبرٍ واحد لما كان بينهما من الصفاء فقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبرٍ واحد. وكان عبد الله بن عمرو بن حرام رجلاً أحمر أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح طويلاً، فعرفا ودخل السيل عليهما، وكان قبرهما مما يلي السيل فحفر عنهما، وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرحٌ في وجهه، فيده على وجهه، فأميطت يده عن جرحه فثعب الدم، فردت إلى مكانها فسكن الدم.
قال جابر: فرأيت أبي في حفرته فكأنه نائم، وما تغير من حاله قليلٌ ولا كثير. فقيل له: أفرأيت أكفانه؟ فقال: إنما كفن في نمرة خمر بها وجهه وعلى رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك وبين وقت دفنه ستة وأربعون سنة. فشاورهم جابر في أن يطيب بمسكٍ، فأبى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وقالوا: لا تحدثوا فيهم شيئاً. ويقال إن معاوية لما أراد أن يجري كظامة والكظامة عينٌ أحدثها معاوية نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيلٌ بأحد فليشهد! فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنون، فأصابت المسحاة رجلاً منهم فثعب دماً. قال أبو سعيد الخدري: لا ينكر بعد هذا منكر أبداً. ووجد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبرٍ واحد، ووجد خارجة بن زيد بن أبي زهير وسعد بن الربيع في قبرٍ واحد. فأما قبر عبد الله وعمرو بن الجموح فحول، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرهما، وأما قبر خارجة وسعد بن الربيع فتركا، وذلك لأن مكانهما كان معتزلاً، وسوى عليهما التراب، ولقد كانوا يحفرون التراب، فكلما حفروا فتراً من تراب فاح عليهم المسك.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لجابر: يا جابر، ألا أبشرك؟ قال، قلت: بلى بأبي وأمي؟ قال: فإن الله أحيا أباك. ثم كلمه كلاماً فقال: تمن على ربك ما شئت. فقال: أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك، ثم أحيا فأقتل مع نبيك. قال: إني قد قضيت أنهم لا يرجعون.
قالوا: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة، وهي امرأة غزية بن عمرو، وشهدت أحداً هي وزوجها وابناها، وخرجت، معها شنٌّ لها في أول النهار تريد أن تسقي الجرحى، فقاتلت يومئذٍ وأبلت بلاءً حسناً، فجرحت اثني عشر جرحاً بين طعنةٍ برمحٍ أو ضربةٍ بسيف.
فكانت أم سعد بنت سعد بن ربيع تقول: دخلت عليها فقالت لها: يا خالة، حدثني خبرك. فقالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاءٌ فيها ماءٌ، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعلت أباشر القتال وأدب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح. فرأيت على عاتقها جرحاً له غورٌ أجوف، فقلت: يا أم عمارة، من أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة، وقد ولي الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يصيح: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا؟ فاعترض له مصعب بن عمير وأناس معه، فكنت فيهم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضرباتٍ، ولكن عدو الله كان عليه درعان. قلت: يدك، ما أصابها؟ قالت: أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب ينهزمون بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا، فأخلصت الأنصار، فكنت معهم، حتى انتهينا إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها وأنا أريد عدو الله مسيلمة، فيعترض لي رجلٌ منهم فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت لي ناهيةٌ ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عب الله بن زيد المازني يمسح سيفه بثيابه. فقلت: قتلته؟ قال: نعم. فسجدت شكراً لله.
وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وكان يراها تقاتل يومئذٍ أشد القتال، وإنها لحاجزةٌ ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً. فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر جرحاً. وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلّم: إلى حمراء الأسد! فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم. ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك.
حدثنا عبد الجبار بن عمارة، عن عمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة: قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله! فيقبل رجلٌ على فرسٍ فضربني، وترست له فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره. فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يصيح: يا ابن أم عمارة، أمك، أمك! قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: جرحت يومئذٍ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجلٌ كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اعصب جرحك. فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلّم واقفٌ ينظر، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة.؟ قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هذا ضارب ابنك. قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقدت يا أم عمارة! ثم أقبلنا إليه نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك.
حدثنا يعقوب بن محمد، عن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطاب، بمروط، فكان فيها مرطٌ واسع جيد، فقال بعضهم: إن هذا المرط لثمن كذا وكذا، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد وذلك حدثنا ما دخلت على ابن عمر. فقال: أبعث به إلى من هو أحق منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد يقول: ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني.
فقال الواقدي: حدثني سعيد بن أبي زيد. عن مروان بن أبي سعيد ابن المعلى، قال: قيل لأم عمارة: هل كن نساء قريش يومئذٍ يقاتلن مع أزواجهن؟ فقالت: أعوذ بالله، ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق. ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، قال: سمعت عبد الله بن زيد ابن عاصم يقول: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما تفرق الناس عنه دنوت منه، وأمي تذب عنه، فقال: يا ابن أم عمارة! قلت: نعم. قال: ارم! فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس، فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً، والنبي صلى الله عليه وسلّم ينظر ويتبسم، فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال: أمك، أمك! اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيتٍ! مقام أمك خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك يعني زوج أمه خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقامك لخيرٌ من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت! قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. قال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
قالوا: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد. وكان قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة! فأشهدت عليه أنه قد دخل بها. وتعلق بعبد الله بن حنظلة، ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس.
وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحد وهو يسوي الصفوف، قال: فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة ابن أبي عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس، ويقع أبو سفيان إلى الأرض، فجع يصيح: يا معشر قريش، أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالاً لا يلتفتون إليه من الهزيمة حتى عاينه الأسود بن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه، فمشى حنظلة إليه بالرمح وقد أثبته، ثم ضربه الثانية فقتله. وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش، فنزل عن صدر فرسه وردف وراء أبي سفيان فذلك قول أبي سفيان. فلما قتل حنظلة مر عليه أبوه، وهو مقتولٌ إلى جنب حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش، فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل من قبل هذا المصرع، والله إن كنت لبراً بالوالد، شريف الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم. وإن جزى الله هذا القتيل لحمزة خيراً ، أو أحداً من أصحاب محمد، فجزاك الله خيراً. ثم نادى: يا معشر قريش، حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه فيما يرى خيراً. فمثل بالناس وترك فلم يمثل به.
وكانت هند أول من مثل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وأمرت النساء بالمثل جدع الأنوف والآذان فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان، ومثل بهم كلهم إلا حنظلة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماءٍ المزن في صحاف الفضة. قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماءً. قال أبو أسيد: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنبٌ.
وأقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنمٍ لهما من جبل مزينة، فوجدا المدينة خلوفاً فسألا: أين الناس؟ قفالوا: بأحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل المشركين من قريش. فقالا: لا نبتغي أثراً بعد عين. فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلّم بأحد فيجدان القوم يقتتلون، والدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من ورائهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال. فانفرقت فرقةٌ من المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من لهذه الفرقة؟ فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله. فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع، فانفرقت فرقةٌ أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من لهذه الكتيبة؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع المزني. ثم طلعت كتيبةٌ أخرى فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا يا رسول الله. فقال: قم وأبشر بالجنة. فقام المزني مسروراً يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل. فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إلى المسلمون، حتى خرج من أقصاهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: اللهم ارحمه! ثم يرجع فيهم فما زال كذلك، وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذٍ عشرون طعنةً برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومثل به أقبح المثل يومئذٍ. ثم قام ابن أخيه فقاتل كنحو قتاله حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني.
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتًى من آلل قابوس من مزينة، فجئت سعداً حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال! قال: مرحباً بك، من هذا معك؟ قلت: رجلٌ من قومي من آل قابوس. قال سعد: ما أنت يا فتًى من المزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه. قال سعد: مرحباً وأهلاً، ونعم الله بك عيناً، ذلك الرجل شهدت منه يوم أحد مشهداً ما شهدته من أحد. لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم وسطنا والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم يقول: من لهذه الكتيبة؟ كل ذلك يقول المازني: أنا يا رسول الله! كل ذلك يردها، فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قم وأبشر بالجنة! قال سعد: وقمت على أثره، يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذٍ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه رحمه الله، ووددت والله إني كنت أصبت يومئذٍ معه، ولكن أجلي استأخر.ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله وقال: اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك. فقال بلال: إنه يستحب الرجوع. فرجعنا.
وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفاً عليه وهو مقتول، وهو يقول: رضي الله عنه فإني عنك راضٍ. ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام على قدميه وقد نال النبي صلى الله عليه وسلّم من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وضع في لحده، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم البردة على رأسه فخمره، وأدرجه فيها طولاً وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه وهو في لحده، ثم انصرف. فما حالٌ أموت عليها أحب إلي من أن ألقى الله تعالى على حال المزني.
قالوا: ولما صاح إبليس، إن محمداص قد قتل تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أول من دخل المدينة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة. ثم ورد بعده رجالٌ حتى دخلوا على نسائهم، حتى جعل النساء يقلن: أعن رسول الله تفرون؟ قال: يقول ابن أم مكتوم: أعن رسول الله تفرون؟ ثم جعل يؤفف بهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم خلفه بالمدينة، يصلي بالناس، ثم قال: اعدلوني على الطريق يعني طريق أحد فعدلوه على الطريق، فجعل يستخبر كل من لقي عن طريق أحد حتى لحق القوم، فعلم بسلامة النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم رجع. وكان ممن ولى فلان، والحارث ابن حاطب، وثعلبة بن حاطب، وسواد بن غزية، وسعد بن عثمان، وعقبة ابن عثمان، وخارجة بن عامر، بلغ ملل، وأوس بن قيظي في نفرٍ من بني حارثة، بلغوا الشقرة ولقيتهم أم أيمن تحثى في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك! فوجهت إلى أحد مع نسياتٍ معها.
وقد قال بعض من يروى الحديث: إن المسلمين لم يعدوا الجبل، وكانوا في سفحه، ولم يجاوزوه إلى غيره، وكان فيه النبي صلى الله عليه وسلّم.
ويقال: إنه كان بين عبد الرحمن وعثمان كلامٌ، فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال: اذهب إلى أخيك فبلغه عني ما أقول لك، فإني لا أعلم أحداً يبلغه غيرك. قال الوليد: أفعل. قال: قل، يقول لك عبد الرحمن: شهدت بدراً ولم تشهد، وثبت يوم أحد ووليت عنه، وشهدت بيعة الرضوان ولم تشهدها. فجاءه فأخبره فقال عثمان: صدق أخي! تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي مريضة، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمي وأجرى فكنت بمنزلة من حضر. ووليت يوم أحد، فقد عفا الله ذلك عني، فأما بيعة الرضوان فإني خرجت إلى أهل مكة، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن عثمان في طاعة الله وطاعة رسوله. وبايع النبي صلى الله عليه وسلّم إحدى يديه الأخرى، فكانت شمال النبي صلى الله عليه وسلّم خيراً من يميني. فقال عبد الرحمن حين جاءه الوليد بن عقبة: صدق أخي! ونظر عمر بن الخطاب إلى عثمان بن عفان فقال: هذا ممن عفا الله عنه، والله ما عفا الله عن شيءٍ فرده، وكان تولى يوم التقى الجمعان.
وسأل رجلٌ ابن عمر عن عثمان فقال: إنه أذنب يوم أحد ذنباً عظيماً، فعفا الله عنه، وهو ممن تولى يوم التقى الجمعان، وأذنب فيكم ذنباً صغيراً فقتلتموه!.
وقال علي: لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في الحديد، ما يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: يومٌ بيوم بدر. فيعترض له رجلٌ من المسلمين فيقتله أمية. قال علي عليه السلام: وأصمد له فأضربه بالسيف على هامته وعليه بيضةٌ وتحت البيضة مغفر فنبا سيفي، وكنت رجلاً قصيراً. ويضربني بسيفه فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه فأضربه، وكانت درعه مشمرة، فأقطع رجليه، ووقع فجعل يعالج سيفه حتى خلصه من الدرقة، وجعل يناوشني وهو باركٌ على ركبتيه، حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه فأخش بالسيف فيه، فمال ومات وانصرفت عنه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ: أنا ابن العواتك. وقال أيضاً: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب! وقالوا: أتينا عمر بن الخطاب في رهط من المسلمين قعوداً، ومر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك فقال: ما يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول الله: قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم جالد بسيفه حتى قتل. فقال عمر بن الخطاب: إني لأرجو أن يبعثه الله أمةً وحده يوم القيامة. ووجد به سبعون ضربةً في وجهه، ما عرف حتى عرفت أخته حسن بنانه، ويقال حسن ثناياه.
قالوا: ومر مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد بن أبي زهير، وهو قاعدٌ في حشوته، به ثلاثة عشر جرحاً، كلها قد خلصت إلى مقتل، فقال: أما علمت أن محمداً قد قتل؟ قال خارجة: فإن كان قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقد بلغ محمد، فقاتل عن دينك! ومر على سعد بن الربيع وبه اثنا عشر جرحاً، كلها قد خلص إلى مقتلٍ، فقال: علمت أن محمداً قد قتل؟ قال سعد بن الربيع: أشهد أن محمداً قد بلغ رسالة ربه، فقاتل عن دينك، فإن الله حي لا يموت!
وقال منافق: إن رسول الله قد قتل فارجعوا إلى قومكم، فإنهم داخلوا البيوت.
حدثني عبد الله بن عمار، عن الحارث بن الفضيل الخطمي. قال: أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذٍ والمسلمون أوزاعٌ، قد سقط في أيديهم، فجعل يصيح: يا معشر الأنصار، إلي! إلي! أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمدٌ قد قتل فإن الله حي لا يموت! فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم! فنهض إليه نفرٌ من الأنصار، فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت لهم كتيبةٌ خشناء، فهيا رؤساؤهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فجعلوا يناوشونهم. وحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح، فطعنه فأنفذه فوقع ميتاً. وقتل من كان معه من الأنصار. فيقال إن هؤلاء لآخر من قتل من المسلمين، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الشعب مع أصحابه، فلم يكن هناك قتالٌ.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أحد قد خاصم إليه يتيمٌ من الأنصار أبا لبابة في عذقٍ بينهما، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي لبابة، فجزع اليتيم على العذق، وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم العذق إلى أبي لبابة لليتيم، فأبى أبو لبابة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لأبي لبابة: لك به عذقٌ في الجنة. فأبى أبو لبابة، فقال ابن الدحداحة: يا رسول الله، أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه، مالي؟ قال: عذقٌ في الجنة. قال: فذهب ثابت بن الدحداحة فاشترى من أبي لبابة ابن عبد المنذر ذلك العذق بحديقة نخل، ثم رد على الغلام العذق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: رب عذقٍ مذللٍ لابن الدحداحة في الجنة.
فكانت ترجى له الشهادة لقوله صلى الله عليه وسلّم حتى قتل بأحد.
ويقبل ضرار بن الخطاب فارساً، يجر قناة له طويلة، فيطعن عمرو ابن معاذ فأنفذه، ويمشي عمرو إليه حتى غلب، فوقع لوجهه. يقول ضرار: لا تعدمن رجلاً زوجك من الحور العين. وكان يقول: زوجت عشرة من أصحاب محمد. قال ابن واقد: سألت ابن جعفر، هل قتل عشرة؟ فقال: لم يبلغنا أنه قتل إلا ثلاثة. وقد ضرب يومئذٍ عمر بن الخطاب حيث جال المسلمون تلك الجولة بالقناة. قال: يا ابن الخطاب، إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك! وكان ضرار بن الخطاب يحدث ويذكر وقعة أحد، ويذكر الأنصار ويترحم عليهم، ويذكر غناءهم في الإسلام، وشجاعتهم، وتقدمهم على الموت، ثم يقول: لما قتل أشراف قومي ببدر جعلت أقول: من قتل أبا الحكم؟ يقال: ابن عفراء. من قتل أمية بن خلف؟ يقال: خبيب ابن يساف. من قتل فلاناً؟ فيسمي لي. من أسر سهيل بن عمرو؟ قالوا: مالك بن الدخشم. فلما خرجنا إلى أحد وأنا أقول: إن أقاموا في صياصيهم فهي منيعة، لا سبيل لنا إليهم، نقيم أياماً ثم ننصرف، وإن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم معنا عددٌ كثيرٌ أكثر من عددهم وقوم موتورون خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر، ومعنا كراعٌ ولا كراع معهم، ومعنا سلاح أكثر من سلاحهم. فقضى لهم أن خرجوا، فالتقينا، فوالله ما أقمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين، فقلت في نفسي: هذه أشد من وقعة بدر! وجعلت أقول لخالد بن الوليد: كر على القوم! فجعل يقول: وترى وجهاً نكر فيه؟ حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خالياً، فقلت: أبا سليمان، انظر وراءك! فعطف عنان فرسه، فكر وكررنا معه، فانتهينا إلى الجبل فلم نجد عليه أحداً له بالٌ، وجدنا نفيراً فأصبناهم، ثم دخلنا العسكر، والقوم غارون ينتهبون العسكر، فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه، ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا. وجعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج قتلة الأحبة فلا أرى أحداً، قد هربوا، فما كان حلب ناقة حتى تداعيت الأنصار بينها، فأقبلت فخالطونا ونحن فرسان، فصبروا لنا، وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي وترجلت، فقتلت منهم عشرة. ولقيت من رجلٍ منهم الموت الناقع حتى وجدت ريح الدم، وهو معانقي، ما يفارقني حتى أخذته الرماح من كل ناحية ووقع، فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي ولم يهني بأيديهم.
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: من له علم بذكوان بن عبد قيس؟ قال علي عليه السلام: أنا رأيت يا رسول الله فارساً يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول: لا نجوت إن نجوت! فحمل عليه بفرسه، وذكوان راجلٌ، فضربه وهو يقول: خذها وأنا ابن علاج! فأهويت إليه وهو فارس، فضربت رجله بالسيف حتى قطعتها عن نصف الفخذ، ثم طرحته من فرسه فذففت عليه، وإذا هو أبو الحكم بن الأخنس بن شريق ابن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي.
وحدثني صالح بن خوات، عن يزيد بن رومان، قال: قال خوات بن جبير: لما كر المشركون انتهوا إلى الجبل، وقد عرى من القوم، وبقي عبد الله بن جبير في عشرة نفرٍ، فهم على رأس عينين، فلما طلع خالد ابن الوليد وعكرمة في الخيل، قال لأصحابه: انبسطوا نشراً لئلا يجوز القوم! فصفوا وجه العدو، واستقبلوا الشمس، فقاتلوا ساعة حتى قتل أميرهم عبد الله بن جبير، وقد جرح عامتهم، فلما وقع جردوه ومثلوا به أقبح المثل، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته، فكانت حشوته قد خرجت منها، فلما جال المسلمون تلك الجولة مررت به على تلك الحال، فلقد ضحكت في موضعٍ ما ضحك فيه أحدٌ قط ونعست في موضعٍ ما نعس فيه أحدٌ، وبخلت في موضعٍ ما بخل فيه أحد. فقيل: ما هي؟ قال: حملته فأخذت بضبعيه، وأخذ أبو حنة برجليه، وأخذ أبو حنة برجليه، وقد شددت جرحه بعمامتي، فبينا نحن نحمله والمشركين ناحيةً إلى أن سقطت عمامتي من جرحه فخرجت حشوته، ففزع صاحبي وجعل يلتفت وراءه يظن أنه العدو، فضحكت. ولقد شرع لي رجلٌ برمح يستقبل به ثغرة نحري، فغلبني النوم وزال الرمح. ولقد رأيتني حين انتهيت إلى الحفر له، ومعي قوسي، وغلظ علينا الجبل فهبطنا به الوادي، فحفرت بسية القوس وفيها الوتر، فقلت: لا أفسد الوتر! فحللته ثم حفرت بسيتها حتى أنعمنا، ثم غيبناه وانصرفنا، والمشركون بعد ناحيةً، وقد تحاجزنا، فلم يلبثوا أن ولوا.
قالوا: وكان وحشيٌّ عبداً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل ويقال كان لجبير بن مطعم فقالت ابنة الحارث: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر، إن قتلت محمداً، أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، فإني لا أرى في القوم كفؤاً لأبي غيرهم. قال وحشي: أما رسول الله فقد علمت أني لا أقدر عليه، وأن أصحابه لن يسلموه. وأما حمزة فقلت: والله لو وجدته نائماً ما أيقظته من هيبته، وأما علي فقد كنت ألتمسه. قال: فبينا أنا في الناس ألتمس علياً إلى أن طلع علي، فطلع رجلٌ حذرٌ مرسٌ، كثير الالتفات، فقلت: ما هذا صاحبي الذي ألتمس! إذ رأيت حمزة يفرى الناس فرياً، فكمنت إلى صخرة، وهو مكبسٌ، له كثيب، فاعترض له سباع ابن أم أنمار وكانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان سباع يكنى أبا نيار فقال له حمزة: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا. هلم إلي! فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به، فبرك عليه فشحطه شحط الشاة. ثم أقبل إلى مكبسا حين رآني، فلما بلغ المسيل وطىء على جرفٍ فزلت قدمه، فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب بها في خاضرته حتى خرجت من مثانته. وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة! فلا يجيب، فقلت: قد والله مات الرجل! وذكرت هنداً وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا موته ولا يروني، فأكر عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟. قالت: سلبى! فقلت: هذه كبد حمزة. فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها. فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير. ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت يكبده معها.
فحدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن الزهري، عن عرو، قال: حدثنا عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فمررنا بحمص بعد العصر، فقلنا: وحشى! فقالوا: لا تقدرون عليه، هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح. فبتنا من أجله وإنا لثمانون رجلاً، فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله، فإذا شيخٌ كبيرٌ، قد طرحت له زربية قدر مجلسه، فقلنا له: أخبرنا عن قتل حمزة وعن مسيلمة، فكره ذلك وأعرض عنه، فقلنا له: ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك. فقال: إني كنت عبداً لجبير بن مطعم بن عدي، فلما خرج الناس إلى أحد دعاني فقال: قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر، فلم تزل نساؤنا في حزنٍ شديدٍ إلى يومي هذا، فإن قتلت حمزة فأنت حر. قال: فخرجت مع الناس ولي مزاريق، وكنت أمر بهند بنت عتبة فتقول: إيه أبا دسمة، اشف واشتف! فلما وردنا أحداً نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هداً فرآني وأنا قد كمنت له تحت شجرة، فأقبل نحوي ويعترض له سباع الخزاعي، فأقبل إليه فقال: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علنيا هلم إلي! قال: وأقبل حمزة فاحتمله حتى رأيت برقان رجليه، ثم ضرب به الأرض ثم قتله. وأقبل نحوي سريعاً حتى يعترض له جرفٌ فيقع فيه، وأزرقه بمزراقي فيقع في ثنته حتى خرج من بين رجليه، فقتلته، وأمر بهند بنت عتبة فأعطتني حليها وثيابها.
وأما مسيلمة، فإنا دخلنا حديقة الموت، فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه رجلٌ من الأنصار بالسيف، فربك أعلم أينا قتله إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق الدير: قتله العبد الحبشي.
قال عبيد الله: فقلت: أتعرفني؟ قال: فأكر بصره علي، وقال: ابن عدي ولعاتكة بنت أبي العيص! قال: قلت: نعم. قال: أما والله ما لي بك عهدٌ بعد أن رفعتك إلى أمك في محفتها التي ترضعك فيها، ونظرت إلى برقان قدميك حتى كأن الآن.
وكان في ساقي هند خدمتان من جزع ظفار، ومسكتان من ورق، وخواتم من ورق، كن في أصابع رجليها، فأعطتني ذلك.
وكانت صفيه بنت عبد المطلب تقول: رفعنا في الآطام ومعنا حسان بن ثابت ونحن في فارع، فجاء نفرٌ من اليهود يرمون الأطم، فقلت: عندك يا ابن الفريعة! فقال: لا والله، ما أستطيع، ما يمنعني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد! ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت: شد على يدي السيف، ثم برئت! ففعل. قالت: فضربت عنقه، ثم رميت برأسه إليهم، فلما رأوه انكشفوا. قالت: وإني في فارع أول النهار مشرفة على الأطم، فرأيت المزراق يزرق به، فقلت: أومن سلاحهم المزاريق؟ أفلا أراه هوى إلى أخي ولا أشعر. قالت: ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكانت تحدث تقول: كنت أعرف انكشاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا أعلم على الأطم، يرجع حسان إلى أقصى الأطم، فإذا رأى الدولة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أقبل حتى يقف على جدار الأطم. قالت: ولقد خرجت والسيف في يد، حتى إذا كنت في بني حارثة أدركت نسوة من الأنصار وأم أيمن معهن، فكان الجمز منا حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه أوزاعٌ، فأول من لقيت علي ابن أخي، فقال: ارجعي يا عمة فإن في الناس تكشفاً فقلت: رسول الله؟ فقال: صالحٌ بحمد الله! قلت: ادللني عليه حتى أراه. فأشار لي إليه إشارةً خفيةً من المشركين، فانتهيت إليه وبه الجراحة. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ما فعل عمي؟ ما فعل عمي حمزة؟ فخرج الحارث بن الصمة فأبطأ، فخرج علي بن أبي طالب، وهو يرتجز ويقول:
يا رب إن الحارث بن الصمه ... كان رفيقاً وبنا ذا ذمه
قد ضل في مهامهٍ مهمه ... يلتمس الجنة فيما تمه
قال الواقدي: سمعتها من الأصبغ بن عبد العزيز وأنا غلام، وكان بسن أبي الزناد حتى انتهى إلى الحارث ووجد حمزة مقتولاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم يمشي حتى وقف عليه، فقال: ما وقفت موقفاً قط أغيظ إلي من هذا الموقف! فطلعت صفية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا زبير أغن عني أمك، وحمزة يحفر له. فقال: يا أمه، إن في الناس تكشفاً فارجعي. فقالت: ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت: يا رسول الله، أين ابن أمي حمزة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هو في الناس. قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه. قال الزبير: فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن حمزة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لولا أن يحزن ذلك نساءنا، لتركناه للعافية يعني السباع والطير حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع وحواصل الطير.
ونظر صفوان بن أمية إلى حمزة يومئذٍ وهو يهد الناس فقال: من هذا؟ قالوا: حمزة بن عبد المطلب. فقال: ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه وكان يومئذٍ معلماً بريشة نسر. ويقال: لما أصيب حمزة جاءت صفية بنت عبد المطلب تطلبه، فحالت بينها وبينه الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعوها! فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإذا نشجت ينشج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكانت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلّم تبكي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا بكت بكى، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: لن أصاب بمثلك أبداً! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أبشرا! أتاني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوبٌ في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.
قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلاً شديداً فأحزنه ذلك المثل، ثم قال: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم! فنزلت هذه الآية: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين " . فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمثل بأحدٍ.
وجعل أبو قتادة يريد أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قتل حمزو وما مثل به، كل ذلك يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلّم أن اجلس ثلاثاً وكان قائماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أحتسبك عند الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا قتادة، إن قريشاً أهل أمانةٍ، من بغاهم العواثر كبه الله لفيه، وعسى إن طالت بك مدةٌ أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم، لولا أن تبطر قريشٌ لأخبرتها بما لها عند الله. قال أبو قتادة: والله يا رسول الله، ما غضبت إلا لله ولرسوله حين نالوا منه ما نالوا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم! وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله، إن هؤلاء قد نزلوا حيث ترى، وقد سألت الله عز وجل ورسوله فقلت: اللهم إني أقسم عليك أن نلقى العدو غداً فيقتلونني ويبقرونني ويمثلون بي، فألقاك مقتولاً قد صنع هذا بي، فتقول: فيم صنع بك هذا! فأقول: فيك! وأنا أسألك أخرى: أن تلى تركتي من بعدي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج عبد الله وقاتل حتى قتل، ومثل به كل المثل ودفن، ودفن هو وحمزة في قبرٍ واحد. وولى تركته رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاشترى لأمه مالاً بخيبر.
وأقبلت حمنة بنت جحش وهي أخته، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا حمن، احتسبي! قالت: من يا رسول الله! قال: خالك حمزة. قالت: إنا الله وإنا إلي راجعون، غفر اللله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخوك. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الجنة! ثم قال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟ قالت: مصعب بن عمير. قالت: واحزناه! ويقال إنها قالت: واعقراه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن للزوج من المرأة مكاناً ما هو لأحد. ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لم قلت هذا؟ قالت: يا رسول الله، ذكرت يتم بنيه فراعني. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لولده أن يحسن عليهم من الخلف، فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت له محمد بن طلحة، وكان أوصل الناس لولده. وكانت حمنة خرجت يومئذٍ إلى أحد مع النساء يسقين الماء.
وخرجت السميراء بنت قيس إحدى نساء بني دينار، وقد أصيب ابناها مع النبي صلى الله عليه وسلّم بأحد، النعمان بن عبد عمرو، وسليم بني الحارث، فلما نعيا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيراً، هو بحمد الله صالحٌ على ما تحبين. قالت: أرونيه أنظر إليه! فأشاروا لها إليه فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جللٌ. وخرجت تسوق بابنيها بعيراً تردهما إلى المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها فقالت: ما وراءك؟ قالت: أما رسول الله، بحمد الله فبخير، لم يمت! واتخذ الله من المؤمنين شهداء " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال " . قالت: من هؤلاء معك؟ قالت: ابناي.....حل! حل! وقالوا: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من يأتيني بخبر سعد بن ربيع؟ فإني قد رأيته وأشار بيده إلى ناحيةٍ من الوادي وقد شرع فيه اثنا عشر سناناً. قال: فخرج محمد بن مسلمة ويقال أبي بن كعب فخرج نحو تلك الناحية. قال: وأنا وسط القتلى أتعرفهم، إذ مررت به صريعاً في الوادي، فناديته فلم يجب، ثم قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسلني إليك! فتنفس كما يتنفس الكير، ثم قال: وإن رسول الله لحيٌّ؟ قال: قلت: نعم، وقد أخبرنا أنه شرع لك اثنا عشر سناناً. قال: طعنت اثنتي عشرة طعنة، كلها أجافتني، أبلغ قومك الأنصار السلام وقل لهم: الله، والله! وما عاهدتم عليه رسول الله ليلة العقبة! والله ما لكم عذرٌ عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عينٌ تطرف! ولم أرم من عنده حتى مات. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راضٍ! قالوا: ولما صاح إبليس إن محمداً قد قتل يحزنهم بذلك، تفرقوا في كل وجهٍ، وجعل الناس يمرون على النبي صلى الله عليه وسلّم، لا يلوى عليه أحد منهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى المهراس، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أصحابه في الشعب.
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما صار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم كانوا فئته.
وحدثني الضحاك بن عثمان، عن ضمرة بن سعيد، قال: لما انتهى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا فئته، فانتهى إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاعٌ، يذكرون مقتل من قتل منهم ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال كعب: وكنت أول من عرفه وعليه المغفر. قال: فجعلت أصيح: هذا رسول الله حياً سوياً! وأنا في الشعب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومىء إلى بيده على فيه أ اسكت، ثم دعا بلأمتي وكانت صفراء أو بعضها فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونزع لأمته. قال: وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أصحابه في الشعب بين السعدين، سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، يتكفأ في الدرع، وكان إذا مشى تكفأ تكفؤاً صلى الله عليه وسلّم ويقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله وكان رسو الله صلى الله عليه وسلّم قد جرح يومئذ، فما صلى الظهر إلا جالساً. قال: فقال له طلحة: يا رسول الله، إني بي قوة! فحمله حتى انتهى إلى الصخرة على طريق أحد من أراد شعب الجزارين لم يعدها رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى غيرها، ثم حمله طلحة حتى ارتفع عليها، ثم مضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه. فلما نظر المسلمون من معه جعلوا يولون في الشعب، ظنوا أنهم من المشركين، حتى جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامةٍ حمراء على رأسه، فعرفوه فرجعوا، أو بعضهم.
ويقال إنه لما طعل في النفر الذين ثبتوا معه، الأربعة عشر سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار وجعلوا يولون في الجبل، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتبسم إلى أبي بكر وهو إلى جنبه، ويقول له: ألح إليهم! فجعل أبو بكر يليح، ولا يرجعون حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه، فأوفى على الجبل فجعل يصيح ويليح، فوقفوا حتى تلاحق المسلمون. ولقد وضع أبو بردة بن نيار سهماً على كبد قوسه، فأراد أن يرمي به القوم، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكأنهم لم يصبوا في أنفسهم مصيبةٌ حين أبصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبينا هم كذلك عرض الشيطان بوسوسته وتخزيته لهم حين أبصروا عدوهم قد انفرجوا عنهم. قال رافع بن خديج: إني إلى جنب أبي مسعود الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه ويسأل عنهم، فيخبر برجال، منهم سعد بن ربيع وخارجة بن زهير، وهو يسترجع ويترحم عليهم، وبعضهم يسأل بعضاً عن حميمه، فهم يخبرون بعضهم بعضاً. فبيناهم على ذلك رد الله المشركين ليذهب بالحزن عنهم، فإذا عدوهم فوقهم قد علوا، وإذا كتائب المشركين. فنسوا ما كانوا يذكرون، وندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحضنا على القتال، وإني لأنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يعدون.
فكان عمر يقول: لما صاح الشيطان قتل محمد أقبلت أرقى في الجبل كأني أرويةٌ، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقول: " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " الآية، وأبو سفيان في سفح الجبل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. اللهم ليس لهم أن يعلونا! فانكشفوا.
قال أبو أسيد الساعدي: لقد رأيتنا قبل أن يلقى علينا النعاس، وإنا لسلمٌ لمن أرادنا، لما بنا من الحزن، فألقى علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف، وفزعنا وكأنا لم يصبنا قبل ذلك نكبةٌ.
وقال طلحة بن عبيد الله: غشينا النعاس حتى كان حجف القوم تناطح.
وقال الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجلٌ إلا وذقنه في صدره من النوم، فأسمع معتب بن قشير يقول وإني لكالحالم " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " فأنزل الله تعالى فيه: " لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا " .
قال أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذٍ في أربعة عشر رجلاً من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد أصابنا النعاس أمنةً منه، ما منهم رجلٌ إلا يغط غطيطاً حتى إن الحجف لتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به، وأخده بعد ما تثلم، وإن المشركين لتحتنا.
وقال أبو طلحة: ألقى علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي. وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذٍ، فكل منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان.
وقالوا: لما تحاجزوا أراد أبو سفيان الانصراف، وأقبل يسير على فرسٍ له حواء أنثى، فأشرف على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته: اعل هبل! ثم يصيح: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، وحنظلة بحنظلة! فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، أجيبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بلى، فأجبه! فقال أبو سفيان: اعل هبل! فقال عمر: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت، فعال عنها! ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وهذا عمر. فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، ألا إن الأيام دولٌ، وإن الحرب سجالٌ، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك! لقد خبنا إذن وخسرنا! قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب، فعال عنها. ثم قال: قم إلي يا ابن الخطاب، أكلمك. فقام عمر فقال أبو سفيان: أنشدك بدينك، هل قتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة وكان ابن قميئة أخبرهم أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلّم. ثم قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عيثاً ومثلاً، ألا إن ذلك لم يكن عن رأى سراتنا. ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إذ كان ذلك فلم نكرهه. ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول! فوقف عمر وقفةً ينتظر ما يقول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قل، نعم. فقال عمر: نعم! ثم انصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون فاشتدت شفقتهم من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص: ائتنا بخبر القوم، إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهي الغارة على المدينة، والذي نفسي بيده، لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم.
قال سعد: فوجهت أسعى، وأرصدت في نفسي إن أفزعني شيءٌ رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأنا أسعى، فبدأت بالسعي حين ابتدأت، فخرجت في آثارهم حتى إذا كانوا بالعقيق، وكنت حيث أراهم وأتأملهم، فإذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فقلت: إنه الظغن إلى بلادهم. فوقفوا وقفةً بالعقيق وتشاوروا في دخول المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: قد أصبتم القوم، فانصرفوا فلا تدخلوا عليهم وأنتم كالون، ولكم الظفر، فإنكم لا تدرون ما يغشاكم. قد وليتم يوم بدر، والله ما تبعوكم الظفر لهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نهاهم صفوان! فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين، قد دخلوا في المكيمين، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو كالمنكسر، فقال: وجه القوم يا رسول الله إلى مكة، امتطوا الإبل وجنبوا الخيل. فقال: ما تقول؟ فقلت ذلك، ثم خلا بي فقال: حقاً ما تقول؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقال: مالي رأيتك منكسراً؟ قال، فقلت: كرهت أن آتي المسلمين فرحاً بقفولهم إلى بلادهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن سعداً لمجرب! ويقال إن سعداً لما رجع يرفع صوته بأن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشير إلى سعد أن اخفض صوتك! قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الحرب خدعةٌ! فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم، فإنما رجهم الله تبارك وتعالى.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك، ولا تفت أعضاد المسلمين. فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع، فما ملك أن جعل يصيح سروراً بانصرافهم.
فلما قدم أبو سفيان على قريش بمكة لم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه! وحلق رأسه.
وقيل لعمرو بن العاص: كيف كان افتراق المشركين والمسلمين يوم أحد؟ فقال: ما تريد إلى ذلك؟ قد جاء الله بالإسلام ونفى الكفر وأهله. ثم قال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم وتفرقوا في كل وجهٍ. وفاءت لهم فئةٌ بعد، فتشاورت قريش فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس، وقد تخلف ناسٌ من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا وفينا جراحٌ، وخيلنا عامتها قد عقرت من النبل. فمضوا، فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها، ومضينا.
ذكر من قتل بأحد من المسلمينحدثنا محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قتل من الأنصار بأحد سبعون.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن ربيح بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخذري مثله. وحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن مجاهدٍ مثله، أربعةٌ من قريش وسائرهم من الأنصار المزني، وابن أخيه، وابنا الهبيت أربعة وسبعون، هذا المجتمع عليه.
ومن بني هاشم: حمزة بن عبد المطلب، قتله وحشي، هذا الأصح لا. اختلاف فيه عندنا.
ومن بني أمية: عبد الله بن جحش بن رئاب، قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق.
ويقال خمسة من قريش من بني أسد: سعد مولى حاطب، ومن بني مخزوم: شماس بن عثمان بن الشريد، قتله أبي بن خلف.
ويقال إن أبا سلمة بن عبد الأسد أصابه جرحٌ بأحد، فلم يزل جريحاً حتى مات بعد ذلك. فغسل ببني أمية بن زيد بالعالية بين قرنى البئر التي صارت لعبد الصمد بن علي اليوم.
ومن بني عبد الدار: مصعب بن عمير، قتله ابن قميئة.
ومن بني سعد بن ليث: عبد الله وعبد الرحمن ابنا الهبيت.
ومن مزينة رجلان: وهب بن قابوس، وابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس.
ومن الأنصار، ثم من بني عبد الأشهل، اثنا عشر رجلاً: عمرو بن معاذ بن النعمان، قتله ضرار بن الخطاب، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، قتله أبو سفيان ابن حرب، وعمرو بن ثابت بن وقش، قتله ضرار بن الخطاب، ورفاعة ابن وقش، قتله خالد بن الوليد، واليمان أبو حذيفة، قتله المسلمون خطأً، ويقال عتبة بن مسعود قتله خطأً، وصيفي بن قيظي، قتله ضرار بن الخطاب، والحباب بن قيظي، وعباد بن سهل، قتله صفوان بن أمية. ومن أهل راتج، وهم إلى عبد الأشهل: إياس بن أوس بن عتيك بن عبد الأعلم ابن زعوراء بن جشم، قتله ضرار بن الخطاب، وعبيد بن التيهان، قتله عكرمة بن أبي جهل، وحبيب بن قيم.
ومن بني عمرو بن عوف، ثم من بني ضبيعة بن زيد: أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد بن ضبيعة، وهو أبو البنات الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: صدق الله عز وجل.
ومن بني أمية بن زيد بن ضبيعة: حنظلة بن أبي عامر، قتله الأسود ابن شعوب.
ومن بني عبيد بن زيد: أنيس بن قتادة، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق، وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير النبي صلى الله عليه وسلّم على الرماة، قتله عكرمة بن أبي جهل.
ومن بني غنم بن السلم بن مالك بن أوس: خيثمة أبو سعد، قتله هبيرة بن أبي وهب.
ومن بني العجلان: عبد الله بن سلمة، قتله ابن الزبعري.
ومن بني معاوية: سبسق بن حاطب بن الحارث بن هيشة، قتله ضرار بن الخطاب ثمانية.
ومن بلحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد بن أبي زهير، قتله صفوان ابن أمية، وسعد بن ربيع، دفنا في قبرٍ واحد. وأوس بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن ثعلبة بن كعب أربعة.
ومن بني الأبجر، وهم بنو خدرة: مالك بن سنان بن الأبجر، وهو أبو أبي سعيد الخدري، قتله غراب بن سفيان ، وسعد بن سويد بن قيس بن عامر بن عمار بن الأبجر، وعتبة بن ربيع بن رافع بن معاوية ابن عبيد بن ثعلبة ثلاثة.
ومن بني ساعدة: ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد بن تميلة، وحارثة ابن عمرو، ونفث بن فورقبن البدي ثلاثة.
ومن بني طريف: عبد الله بن ثعلبة، وقيس بن ثعلبة، وطريف وضمرة، حليفان لهم من جهينة.
ومن بني عوف بن الخزرج، من بني سالم، ثم من بني مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم: نوفل بن عبد الله، قتله سفيان بن عويف، والعباس بن عبادة بن نضلة، قتله سفيان بن عبد شمس السلمى، والنعمان بن مالك بن ثعلبة بن غنم، قتله صفوان بن أمية، وعبدة بن الحسحاس، دفنا في قبرٍ واحد. ومجذر بن ذياد، قتله الحارث بن سويد غيلةً.
حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة، قال: دفن ثلاثة نفر يوم أحد في قبرٍ واحد نعمان بن مالك والمجذر بن ذياد، وعبدة بن الحسحاس.
وكانت قصة مجذر بن ذياد أن حضير الكتائب جاء بني عمرو بن عوف فكلم سويد بن الصامت، وخوات بن جبير، وأبا لبابة بن عبد المنذر ويقال سهل بن حنيف فقال: تزوروني فأسقيكم من الشراب وأنحر لكم، وتقيمون عندي أياماً. قالوا: نحن نأتيك يوم كذا وكذا. فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزوراً وسقاهم الخمر، وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم، وكان سويد يومئذٍ شيخاً كبيراً. فلما مضت الثلاثة الأيام، قالوا: ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا. فقال حضير: ما أحببتم! إن أحببتم فأقيموان وإن أحببتم فانصرفوا فخرج الفتيان بسويد يحملانه حملاً من الثمل، فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريباً من بني غصينة وهي وجاه بني سالم إلى مطلع الشمس. فجلس سويد وهو يبول، وهو ممتلى سكراً، فبصر به إنسان من الخزرج، فخرج حتى أتى المجذر بن ذياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟ قال: ما هي؟ قال: سويد! أعزل لا سلاح معه، ثملٌ! قال: فخرج المجذر ابن ذياد بالسيف صلتاً، فلما رآه الفتيان وليا، وهما أعزلان لا سلاح معهما والعداوة بين الأوس والخزرج فانصرفا سريعين. وثبت الشيخ ولا حراك به، فوقف عليه مجذر بن ذياد، فقال: قد أمكن الله منك! فقال: ما تريد بي؟ قال: قتلك. قال: فارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، وإذا رجعت إلى أمك فقل: إني قتلت سويد بن الصامت. وكان قتله هيج وقعة بعاث، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت ومجذر بن ذياد، فشهدا بدراً فجعل الحارث يطلب مجذراً ليقتله بأبيه، فلا يقدر عليه يومئذٍ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذراً غيلةً، وأمره بقتله. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء في اليوم الذي أخبره جبريل، في يومٍ حارٍّ، وكان ذلك يوماً لا يركب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قباء، إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم قباء يوم السبت ويوم الاثنين. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي. وسمعت الأنصار فجاءت تسلم عليه، وأنكروا إتيانه في تلك الساعة وفي ذلك اليوم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عويم بن ساعدة فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن ذياد، فإنه قتله يوم أحد. فأخذه عويم فقال الحارث: دعني أكلم رسول الله! فأبى عويم عليه، فجابذه يريد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يركب، ودعا بحماره على باب المسجد، فجعل الحارث يقول: قد والله قتلته يا رسول الله. والله ما كان قتلي إياه رجوعاً عن الإسلام ولا ارتياباً فيه، ولكنه حمية الشيطان وأمرٌ وكلت فيه إلى نفسي. وإني أتوب إلى الله وإلى رسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، وأطعم ستين مسكيناً، إني أتوب إلى الله ورسوله! وجعل يمسك بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبنو المجذر حضورٌ لا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئاً حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه! وركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقدمه عويم على باب المسجد فضرب عنقه. ويقال: إن خبيب بن يساف، نظر إليه حين ضرب عنقه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم يفحص عن هذا الأمر. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حماره فنزل عليه جبريل فخبره بذلك في مسيره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عويماً فضرب عنقه. وقال حسان بن ثابت:
يا حار في سنةٍ من نوم أولكم ... أم كنت ويلك مغتراً بجبريل
وأنشدني مجمع بن يعقوب وأشياخهم أن سويد بن الصامت قال عند مقتله هذه الأبيات:
أبلغ جلاساً وعبد الله مألكةً ... وإن كبرت فلا تخذلهما حار
اقتل جدارة إما كنت لاقيها ... والحي عوفاً على عرفٍ وإنكار
ومن بني سلمة: عنترة مولى بني سلمة، قتله نوفل بن معاوية الديلي.
ومن بلحبلى: رفاعة بن عمرو.
ومن بني حرام: عبد الله بن عمرو بن حرام، قتله سفيان بن عبد شمس، وعمرو بن الجموح، وخلاد بن عمرو بن الجموح، قتله الأسود بن جعونه ثلاثة.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة: المعلى بن لوذان بن حارثة بن رستم بن ثعلبة، قتله عكرمة بن أبي جهل.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق.
ومن بني النجار، ثم من بني سواد: عمرو بن قيس، قتله نوفل بن معاوية الديلي، وابنه قيس بن عمرو، وسليط بن عمرو، وعامر بن مخلد.
ومن بني عمرو بن مبذول: أبو أسيره بن الحارث بن علقمة بن عمرو ابن مالك، قتله خالد بن الوليد، وعمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو.
ومن بني عمرو بن مالك، وهم بنو مغالة: أوس بن حرام.
ومن بني عدي بن النجار: أنس بن النضر بن ضمضم، قتله سفيان ابن عويف.
ومن بني مازن بن النجار: قيس بن مخلد، وكيسان مولاهم، ويقال عبدٌ لهم لم يعتق.
ومن بني دينار: سليم بن الحارث، والنعمان بن عمرو، وهما ابنا السميراء بنت قيس.
استشهد من بني النجار اثنا عشر.
تسمية من قتل من المشركينمن بني أسد: عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث، قتله أبو دجانة.
ومن بني عبد الدار: طلحة بن أبي طلحة يحمل لواءهم، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وعثمان بن طلحة، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبو سعيد بن أبي طلحة، قتله سعد بن أبي وقاص، ومسافع بن طلحة بن طلحة، قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن طحلة، قتله عاصم بن ثابت، وكلاب بن طلحة، قتله الزبير ابن العوام، والجلاس بن طلحة، قتله طلحة بن عبيد الله، وأرطاة بن عبد شرحبيل، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقاسط بن شريح بن عثمان ثم حمله صؤاب فيقال قتله قزمان، وأبو عزيز بن عمير، قتله قزمان.
ومن بني زهرة: أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وسباع بن عبد العزى الخزاعي، واسم عبد العزى عمرو بن نضلة بن عباس بن سليم وهوابن أم أنمار، قتله حمزة بن عبد المطلب.
ومن بني مخزوم: هشام بن أبي أمية بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن العاص بن هشام، قتله قزمان، وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب، وخالد بن الأعلم العقيلي، قتله قزمان. حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: أقبل قزمان يشد على المشركين، وتلقاه خالد بن الأعلم، وكل واحد منهما راجلٌ، فاضطربا بأسيافهما.
فيمر بهما خالد بنالوليد فحمل الرمح على قزمان، فسلك الرمح في غير مقتل، شطب الرمح، ومضى خالد وهو يرى أنه قد قتله. فضربه عمرو بن العاص وهما على تلك الحالن وطعنه أخرى فلم يجهز عليه، فلم يزالا يتجاولان حتى قتل قزمان خالد بن الأعلم، ومات قزمان من جراحة به من ساعته. وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، قتله الحارث بن الصمة خمسة.
ومن بني عامر بن لؤي: عبيد بن حاجز، قتله أبو دجانة، وشيبة ابن مالك بن المضر، قتله طلحة بن عبيد الله.
ومن بني جمح: أبي بن خلف، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده، وعمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، وهو أبوعزة، أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسيراً يوم أحد ولم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد أسيراً غيره، فقال: يا محمد، من علي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك تقول: سخرت بمحمد مرتين! ثم أمر به عاصم بن ثابت فضرب عنقه. قال أبو عبد الله الواقدي: وسمعنا في أسره غير ذلك. حدثنا بكير بن مسمار قال: لما انصرف المشركون عن أحد نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة، ثم رحلوا وتركوا أبا عزة نائماً مكانه حتى ارتفع النهار ولحقه المسلمون، وهو مستنبهٌ يتلدد، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم فضرب عنقه.
ومن بني عبد مناة بن كنانة: خالد بن سفيان بن عويف، وأبو الشعثاء بن سفيان بن عويف، وأبو الحمراء بن سفيان بن عويف، وغراب بن سفيان بن عويف.
قالوا: فلما انصرف المشركون عن أحد أقبل المسلمون على أمواتهم، فكان حمزة بن عبد المطلب فيمن أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أولاً، صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: رأيت الملائكة تغسله، لأن حمزة رضي الله عنه كان جنباً ذلك اليوم. ولم يغسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الشهداء، وقال: لفوهم بدمائهم وجراحهم، فإنه ليس أحدٌ يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة بجرحه، لونه لون دمس، وريحه ريح مسك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ضعوهم، أنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة. فكان حمزة أول من كبر عليه صلى الله عليه وسلّم أربعاً. ثم جمع إليه الشهداء، فكان كلما أتى بشهيدٍ وضع إلى جنب حمزة بن عبد المطلب فصلى عليه وعلى الشهداء، حتى صلى عليه سبعين مرة لأن الشهداء سبعون. ويقال كان يؤتي بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، ثم يرفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتي بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب فيصلي عليهم، حتى فعل ذلك سبع مرات. ويقال كبر عليهم تسعاً وسبعاً وخمساً.
وكان طلحة بن عبيد الله، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، يقولون: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلى أحد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنا على هؤلاء شهيدٌ. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أليسوا إخواننا، أسلموا كما أسلمنا، وجاهدوا كما جاهدنا؟ قال: بلى، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئاً، ولا أدري ما تحدثون بعدي. فبكى أبو بكر وقال: إنا لكائنون بعدك؟ وحدثني أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: لم يصل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلّم مثله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ للمسلمين: احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآناً. فكان المسلمون يقدمون أكثرهم قرآناً في القبر. وكان ممن يعرف أنه دفن في قبر واحد: عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وخارجة بن زيد، وسعد بن ربيع، والنعمان بن مالك، وعبدة بن الحسحاس، في قبرٍ واحد. فلما واروا حمزة بن عبد المطلب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببردة تمد عليه وهو في القبر، فجعلت البردة إذا خمروا رأسه بدت قدماه، وإذا خمروا رجليه تنكشف عن وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: غطوا وجهه! وجعل على رجليه الحرمل، فبكى المسلمون يومئذٍ فقالوا: يا رسول الله، عم رسول الله ، لا نجد له ثوباً! فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: تفتتح يعني الأرياف والأمصار فيخرج إليها الناس، ثم يبعثون إلى أهليهم: إنكم بأرضٍ حجازٍ جرديةٍ الجردية التي ليس بها شيءٌ من الأشجار والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. والذي نفسي بيده، لا يصبر واحدٌ على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة! قالوا: وأتى عبد الرحمن بن عوف بطعام، فقال: حمزة أو رجل آخر لم يوجد له كفن، وقتل مصعب بن عمير ولم يوجد له كفنٌ إلا بردة ، وكانا خيراً مني. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مصعب ابن عمير، وهو مقتولٌ في بردة، فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحدٌ أرق حلةً ولا أحسن لمةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة. ثم أمر به يقبر، ونزل في قبره أخوه أبو الروم، وعامر بن ربيعة، وسويبط بن عمرو ابن حرملة. ونزل في قبر حمزة عليٌّ، والزبير، وأبو بكر، وعمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسٌ على حفرته.
وكان الناس أو عامتهم قد حملوا قتلاهم إلى المدينة، فدفن ببقيع الجبل منهم عدةٌ، عند دار زيد بن ثابت اليوم بالسوق، سوق الظهر، ودفن ببني سلمة بعضهم، ودفن مالك بن سنان في موضع أصحاب العباء الذي عند دار نخلة. ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ردوا القتلى إلى مضاجعهم! وكان الناس قد دفنوا قتلاهم، فلم يرد أحدٌ إلا رجلاً واحداً أدركه المنادي ولم يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزومي، كان حمل إلى المدينة وبه رمقٌ فأدخل على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلّم، فقالت: أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم: ابن عمي يدخل على غيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: احملوه إلى أم سلمة. فحمل إليها فمات عندها، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ترده إلى أحد، فدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها، وكان قد مكث يوماً وليلة، ولكنه لم يذق شيئاً، ولم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يغسله.
قالوا: وكان من دفن هناك من المسلمين، إنما دفن في الوادي. وكان طلحة بن عبيد الله إذا سئل عن تلك القبور المجتمعة بأحد يقول: قوم من الأعراب كانوا زمان الرمادة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هناك، فماتوا فتلك قبورهم. وكان عباد بن تميم المازني ينكر تلك القبور ويقول: إنما هم قوم ماتوا زمان الرمادة، وكان ابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن محمد يقولان: لا نعرف تلك القبور المجتمعة، إنما هي قبور ناس من أهل البادية، وقبور من قبور الشهداء قد غيبت، لا نعرفهم بالوداي وبالمدينة ونواحيها، إلا أنا نعرف قبرحمزة بن عبد المطلب، وقبر سهل بن قيس، وقبر عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يزورهم في كل حول، وإذا تفوه الشعب رفع صوته فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار! ثم أبو بكر رضي الله عنه كل حول يفعل مثل ذلك، ثم عمرو بن الخطاب رضي الله عنه يفعل مثل ذلك، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم معاوية حين مر حاجاً أو معتمراً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ليت أني غودرت مع أصحاب الجبل. وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم تأتيهم بين اليومين والثلاثة. فتبكي عندهم وتدعو. وكان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ماله بالغابة، فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول: السلام عليكم! ثلاثاً، ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم السلام؟ لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مصعب بن عمير فوقف عليه، ودعا، وقرأ: " رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً " ، أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم! والذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه. وكان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة فيدعو ويقول لمن معه: لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا عليه السلام، فلا تدعوا السلام عليهم وزيارتهم. وكان أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد يحدث أنه كان يذهب مع محمد بن مسلمة وسلمة بن سلامة بن وقش في الأشهر إلى أحد، فيسلمان على قبر حمزة أولها، ويقفان عنده وعند قبر عبد الله بن عمرو ابن حرام مع قبور من هناك. وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم تذهب فتسلم عليهم في كل شهرٍ فتظل يومها، فجاءت يوماً ومعها غلامها نبهان، فلم يسلم فقالت: أي لكع، ألا تسلم عليهم؟ والله لا يسلم عليهم أحدٌ إلا ردوا إلى يوم القيامة. وكان أبو هريرة يكثر الاختلاف إليهم. وكان عبد الله بن عمرو إذا ركب إلى الغابة فبلغ ذباب، عدل إلى قبور الشهداء فسلم عليهم، ثم رجع إلى ذباب حتى استقبل الطريق طريق الغابة ويكره أن يتخذهم طريقاً، ثم يعارض الطريق حتى يرجع إلى طريقه الأولى. وكانت فاطمة الخزاعية قد أدركت تقول: رأيتني وغابت الشمس بقبور الشهداء ومعي أختٌ لي، فقلت لها: تعالى، نسلم على قبر حمزة وننصرف. قالت: نعم. فوقفنا على قبره فقلنا: السلام عليك يا عم رسول الله. فسمعنا كلاماً رد علينا: وعليكما السلام ورحمة الله. قالتا: وما قربنا أحدٌ من الناس.
قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من دفن أصحابه دعا بفرسه فركبه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحت، ولا مثل لبني سلمة وبني عبد الأشهل، ومعه أربعة عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل الحرة قال: اصطفوا فنثني على الله! فاصطف الناس صفين خلفهم النساء، ثم دعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:اللهم، لك الحمد كله! اللهم، لا قابض لما بسطت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت! اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول! اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف والغناء يوم الفاقة، عائذاً بك اللهم من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت منا! اللهم توفنا مسلمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين! اللهم عذب كفره أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدون عن سبيلك! اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! إله الحق! آمين! وأقبل حتى نزل ببني حارثة يميناُ حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له.
فخرج النساء ينظرون إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت أم عامر الأشهلية تقول: قيل لنا قد أقبل النبي صلى الله عليه وسلّم ونحن في النوح على قتلانا، فخرجنا فنظرت إليه فإذا عليه الدرع كما هي، فنظرت إليه فقلت: كل مصية بعدك جللٌ.
وخرجت أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفٌ على فرسه، وسعد بن معاذ آخذٌ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مرحباً بها! فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: أما إذ رأيتك سالماً، فقد أشوت المصيبة. فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعاً وهم اثنا عشر رجلاً وقد شفعوا في أهليهم. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خل أبا عمرو الدابة. فخلى الفرس وتبعه الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشيةٌ، وليس فيهم مجروحٌ إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان، اللون لون دمٍ والريح ريح مسك، فمن كان مجروحاً فليقر في داره وليداو جرحه، ولا يبلغ معي بيتي عزمةً مني. فنادى فيهم سعدٌ: عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلّم جريحٌ من بني عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح، فباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحاً. ومضى سعد بن معاذ معه صلى الله عليه وسلّم إلى بيته، ثم رجع إلى نسائه فساقهن، ولم تبق امرأةٌ إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبكين بين المغر والعشاء. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين فرغ من النوم لثلث الليل، فسمع البكاء فقال: ما هذا؟ فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: رضي الله عنكن وعن أولادكن! وأمرنا أن نرد إلى منازلنا. قالت: فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل، معنا رجالنا، فما بكت منا امرأةٌ قط إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا.
ويقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة، وجاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما أردتا هذا! ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب بالمدينة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة عند نكبةٍ قد أصابت أصحابه، وأصيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نفسه. فجعل ابن أبي والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصابهم ويظهرون أقبح القول. ورجع من رجع من أصحابه وعامتهم جريحٌ، ورجع عبد الله بن عبد اله بن أبي وهو جريح، فبات يكوى الجراحة بالنار حتى ذهب الليل، وجعل أبوه يقول: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خيرٌ.
وأظهرت اليهود القول السيء فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبيٌّ قط أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه! وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه ويأمرونهم بالتفرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجعل المنافقون يقولون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. حتى سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا عمر، إن الله مظهر دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمةٌ فلا أقتلهم. قال: فهؤلاء المنافقون يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذاً من السيف، فقد بان لهم أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وإن محمداً رسول الله . يا ابن الخطاب، إن قريشاً لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن.
قالوا: فكان لعبد الله بن أبي مقام يقومه كل جمعة شرفاً له لا يريد تركه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أحد إلى المدينة جلس على المنبر يوم جمعة، فقام ابن أبي فقال: هذا رسول الله بين أظهركم، قد أكرمكم الله به، انصروه وأطيعوه. فلما صنع بأحد ما صنع قام ليفعل ذلك، فقام إليه المسلمون فقالوا: اجلس يا عدو الله! وقام إليه أبو أيوب وعبادة بن الصامت، وكانا أشد من كان عليه ممن حضر، ولم يقم إليه أحدٌ من المهاجري، فجعل أبو أيوب يأخذ بلحيته، وعبادة بن الصامت يدفع في رقبته، ويقولان له: لست لهذا المقام بأهل! فخرج بعد ما أرسلاه، وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأنما قلت هجراً، قمت لأشد أمره! فلقيه معوذ بن عفراء فقال: مالك؟ قال: قمت ذلك المقام الذي كنت أقوم أولاً، فقام إلي رجالٌ من قومي، فكان أشدهم علي عبادة، وخالد بن زيد. فقال له: ارجع فيستغفر لك رسول الله. فقال: والله ما أبغى يستغفر لي. فنزلت هذه الآية: " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله... " الآية. قال: ولكأني أنظر إلى ابنه جالسٌ في الناس، ما يشد الطرف إليه، فجعل يقول: أخرجني محمد من مربد سهل وسهيل.
ما نزل من القرآن بأحد
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور ابن مخرمة، قالت: قال أبي المسور بن مخرمة لعبد الرحمن بن عوف: حدثنا عن أحد! فقال: يا ابن أخي عد بعد العشرين ومائة من آل عمران فكأنك حضرننا: " وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين.. " إلى آخر الآية. قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القداح، إن رأى صدراص خارجاً قال: تأخر! وفي قوله: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.. " إلى آخر الآية. قال: هم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا ألا يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أحد، ثم عزم لهما فخرجوا. " ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلةٌ " ، يقول: قليل، كانوا ثلاثماشة وبضعة عشر رجلاً، " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ما أبلاكم ببدر من الظفر. " إذ تقول للمؤمنين " هذا يوم أحد، " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين " . " بلى إن تصبروا وتتقوا.. " الآية، كان نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يخرج إلى أحد: إني ممدكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " . " وما جعله الله إلا بشرى لكم " قال: فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بملك واحد يوم أحد. وقوله " مسومين " قال: معلمين. " وما جعله الله إلا بشى لكم " لتستبشروا بهم ولتطمئنوا إليهم. " ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين " يقول: نصيب منهم أحداً وينقلبون خائبين. " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " قال: يعني الذين انهزموا يوم أحد. ويقال نزلت في حمزة حين رأيى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما به من المثل فقال: لأمثلن بهم! فنزلت هذه الآية. ويقال نزل في رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين رمى يوم أحد فجعل يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً " قال: كان أهل الجاهلية إذا حل حق أحدهم فلم يجد عنده غريمه أخره عنه وأضعفه عليه. " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " قال: التكبيرة الأولى مع الإمام، " وجنةٍ عرضها السموات والأرض " فيقال الجنة في السماء الرابعة. " الذين ينفقون في السراء والضراء " قال: السراء اليسر والضراء العسر، " والكاظمين الغيظ " يعني عمن آذاهم، " والعافين عن الناس " ما أوتى إليهم. " والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، " ولم يصروا على ما فعلوا " فكان يقال لا كبيرة مع توبة ولا صغيرة مع إصرار. " هذا بيانٌ للناس " من العمى، " وهدىً " من الضلالة، " وموعظة للمتقين " . " ولا تهنوا " يقول: في قتال العدو، " ولا تحزنوا " على من أصيب منكم بأحد من القتل والجراح، " وأنتم الأعلون " يقول " قد أصبتم يوم بدر ضعف ما أصابكم منكم بأحد. " إن يمسسكم قرحٌ " يعني جراح، " فقد مس القوم قرحٌ مثله " يعني جراح يوم بدر، " وتلك الأيام نداولها بين الناس " يقول: لهم دولةٌ ولكم دولةٌ، والعاقبة لكم، " وليعلم الله الذين آمنوا " يقول: من قاتل مع نبيه، " ويتخذ منكم شهداء " من قتل بأحد، " وليمحص الله الذين آمنوا " يعني يبلوهم الذين قتلوا وثبتوا، " ويمحق الكافرين " يعني المشركين. " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " يعني من قتل بأحد وأبلى فيه، " ويعلم الصابرين " من يصبر يومئذٍ. " ولقد كنت تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " قال: السيوف في أيدي الرجال، كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قد تخلفوا عن بدر فكانوا هم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخروج إلى أحد فيصيبون من الأجر والغنيمة، فلما كان يوم أحد ولى منهم من ولى. ويقال هو في نفرٍ كانوا تكلموا قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أحد فقالوا: ليتنا نلقى جمعاً من المشركين فإما أن نظفر بهم أو نرزق الشهادة. فلما نظروا إلى الموت يوم أحد هربوا. " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل... " إلى آخر الآية. قال: إن إبليس تصور يوم أحد في صورى جعال بن سراقة الثعلبي فنادى إن محمد قد قتل فتفرق الناس في كل وجه، فقال عمر: إني أرقى في الجبل كأني أرويه حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ينزل عليه: " وما
محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل.. " الآية، " ومن ينقلب على عقبيه " يقول: تولى. " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً موجلاً " يقول: ما كان لها أن تموت دون أجلها، وهو قول ابن أبي حين رجع بأصحابه وقتل من قتل بأحد " لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " . فأخبره الله أنه كتابٌ موجل، يقول الله عز وجل: " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها " يقول: من يعمل للدنيا نعطه منها ما يشاء، " ومن يرد ثواب الآخرة " يقول: يريد الآخرة، " نؤته منها وسنجزي الشاكرين " . " وكأين من نبيٍّ قاتل معه ربيون " قال: الجماعة الكثيرة، " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا " يقول: ما استسلموا في سبيل الله ولا ضعفت نياتهم، " وما استكانوا " يقول: ما ذلوا لعدوهم، " والله يحب الصابرين " يخبر أنهم صبروا. " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا " إلى قوله " وحسن ثواب الآخرة " يقول: أعطاهم النصر والظفر وأوجب لهم الجنة في الآخرة. " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " يقول: إن تطيعوا اليهود والمنافقين فيما يخذلونكم ترتدوا عن دينكم. " بل الله مولاكمن " يعني المؤمنين، يقول: يتولاكم. " سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نصرت بالرعب شهراً أمامي وشهراً خلفي. " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " والحس القتل. يقول: الذي خبركم أنكم إن صبرتم أمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة، " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر " وهنتم عن العدو، وتنازعتم يعني اختلاف الرماة حيث وضعهم النبي صلى الله عليه وسلّم ومعصيتهم وتقدم النبي صلى الله عليه وسلّم ألا تبرحوا ولا تفارقوا موضعكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا نغنم فلا تشركونا، " من بعد ما أراكم ما تحبون " يعني هزيمة المشركين وتوليتم هاربين، " منكم من يريد الدنيا " يعني العسكر وما فيه من النهب، " ومنكم من يريد الآخرة " الذين ثبتوا من الرماة ولم يغنموا عبد الله بن جبير ومن ثبت معه. فقال ابن مسعود: ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد الدنيا حتى سمعت هذه الآية. قال: " ثم صرفكم عنهم " يقول: حيث كانت الدولة لكم عليهم، " ليبتليكم " ليرجع المشركون فيقتلوا من قتلوا منكم ويجرحوا من جرحوا منكم، " ولقد عفا عنكم " يعني عمن ولى يومئذٍ منكم ومن أراد ما أراد من النهب، فعفا عن ذلك كله. " إذ تصعدون " يعني في الجبل تهربون، " ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم " كانوا يمرون منهزمين يصعدون إلى الجبل، ورسولهم يناديهم: يا معشر المسلمين، أنا رسول الله! إلي! إلي! فلا يلوى عليه أحد، فعفا ذلك عنهم. " فأثابكم غماً بغمٍّ " فالغم الأول الجراح والقتل، فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الغم الأول من الجراح والقتل. ويقال الغم الأول حيث صاروا إلى الجبل بهزيمتهم وتركهم النبي صلى الله عليه وسلّم، والغم الآخر حين تفرعهم المشركون، فعلوهم من فرع الجبل فنسوا الغم الأول. ويقال " غماً بغمٍّ " بلاءٌ على أثر بلاء، " ليكلا تحزنوا على ما فاتكم " يقول: لئلا تذكروا ما فاتكم من نهب متاعهم، " ولا ما أصابكم " من قتل منكم أو جرحز " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً نعاساً " إلى قوله " ما قتلنا ههنا " قال الزبير رضي الله عنه: سمعت هذا القول من معتب بن قشير، وقد وقع علي النعاس وإني لكالحالم، أسمعه يقول هذا الكلام، واجتمع عليه أنه صاحب هذا الكلام. قال الله: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " يقول الله تعالى: لم يكن لهم بد من أن يصيروا إلى مضاجعهم، " ليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " يقول: يخرج أضغانهم وغشهم، " والله عليمٌ بذات الصدور " يقول: ما يكنون من نصحٍ أو غش. " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " يعني من انهزم يوم أحد، يقول: أصابهم ببعض ذنوبهم، " ولقد عفا الله عنهم " يعني انكشافهم. " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " إلى قوله " ما ماتوا وما قتلوا " قال: نزلت في ابن أبي، يقول الله عز وجل للمؤمنين: لا تكلموا ولا تقولوا كما قال ابن أبي. وهو الذي قال الله تعالى فيه " كالذين كفروا " ، " ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم " . " ولئن قتلتم في سبيل الله أو
متم " إلى آخر الآية، يقول: من قتل بالسيف أو مات بإزاء عدو أو مرابط فهو خيرٌ مما يجمع من الدنيا. وقوله " لإلى الله تحشرون " يقول: تصيرون إليه جميعاً يوم القيامة " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم " ، وقوله " لانفضوا من حولك " يعني أصحابه الذين انكشفوا بأحد، " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " أمره أن يشاورهم في الحرب وحده، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يشاور أحداً إلا في الحرب، " فإذا عزمت " أي جمعت، " فتوكل على الله " . " وما كان لنبيٍّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " قال: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا قد غنموا قطيفة حمراء، فقالوا: ما نرى النبي صلى الله عليه وسلّم إلا قد أخذها! فنزلت هذه الآية. " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " يقول: من آمن بالله كمن كفر بالله؟ وقوله: " هم درجاتٌ عند الله " يقول: فضائل بينهم عند الله. قوله " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم، " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن، " ويزكيهم ويعلمهم " القرآن والحكمة والصواب في القول، " وإن كانوا من قبل لفى ضلالٍ مبينٍ " ، قوله " أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها.. " إلى آخر الآية، هذا ما أصابهم يوم أحد، قتل من المسلمين سبعون مع ما نالهم من الجراح. " قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم " بمعصيتكم الرسول، يعني الرماة، وقوله " قد أصبتم مثليها " قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " يوم أحد، " فبإذن الله وليعلم المؤمنين " . " وليعلم الذين نافقوا " يعلم من أبلى وقاتل وقتل، ويعلم الذين نافقوا، " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم " هذا ابن أبي، وقوله " أو ادفعوا " يقول: كثروا السواد ويقال الدعاء. قال ابن أبي يوم أحد: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم يقول الله " هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان " نزلت في ابن ابي، وفي قوله " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " هذا ابن أبي، " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " نزلت في ابن أبي. " ولا تحسبني الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " إلى قوله " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طيرٍ خضر، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها، وتاوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومطعمهم، ورأوا حسن منقلبهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب. قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.. " الآية. وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الشهداء على بارق نهر في الجنة في قبةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرةً وعشياً. وكان ابن مسعود يقول في هذه الآية: إن أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، فتسرح في أي الجنة شاءت، فأطلع ربك عليهم إطلاعهً فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا في الجنة نسرح في أيها نشاء؟ فأطلع عليهم ثانية فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقتل في سبيلك. وقوله " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " إلى آخر الآية، هؤلاء الذين غزوا حمراء الأسد. " إلى آخر الآية، يقول: من قتل بالسيف أو مات بإزاء عدو أو مرابط فهو خيرٌ مما يجمع من الدنيا. وقوله " لإلى الله تحشرون " يقول: تصيرون إليه جميعاً يوم القيامة " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم " ، وقوله " لانفضوا من حولك " يعني أصحابه الذين انكشفوا بأحد، " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " أمره أن يشاورهم في الحرب وحده، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يشاور أحداً إلا في الحرب، " فإذا عزمت " أي جمعت، " فتوكل على الله " . " وما كان لنبيٍّ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " قال: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا قد غنموا قطيفة حمراء، فقالوا: ما نرى النبي صلى الله عليه وسلّم إلا قد أخذها! فنزلت هذه الآية. " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله " يقول: من آمن بالله كمن كفر بالله؟ وقوله: " هم درجاتٌ عند الله " يقول: فضائل بينهم عند الله. قوله " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم، " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن، " ويزكيهم ويعلمهم " القرآن والحكمة والصواب في القول، " وإن كانوا من قبل لفى ضلالٍ مبينٍ " ، قوله " أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها.. " إلى آخر الآية، هذا ما أصابهم يوم أحد، قتل من المسلمين سبعون مع ما نالهم من الجراح. " قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم " بمعصيتكم الرسول، يعني الرماة، وقوله " قد أصبتم مثليها " قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " يوم أحد، " فبإذن الله وليعلم المؤمنين " . " وليعلم الذين نافقوا " يعلم من أبلى وقاتل وقتل، ويعلم الذين نافقوا، " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم " هذا ابن أبي، وقوله " أو ادفعوا " يقول: كثروا السواد ويقال الدعاء. قال ابن أبي يوم أحد: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم يقول الله " هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان " نزلت في ابن ابي، وفي قوله " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " هذا ابن أبي، " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " نزلت في ابن أبي. " ولا تحسبني الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " إلى قوله " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طيرٍ خضر، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها، وتاوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومطعمهم، ورأوا حسن منقلبهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب. قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.. " الآية. وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الشهداء على بارق نهر في الجنة في قبةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرةً وعشياً. وكان ابن مسعود يقول في هذه الآية: إن أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، فتسرح في أي الجنة شاءت، فأطلع ربك عليهم إطلاعهً فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا في الجنة نسرح في أيها نشاء؟ فأطلع عليهم ثانية فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقتل في سبيلك. وقوله " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " إلى آخر الآية، هؤلاء الذين غزوا حمراء الأسد.
حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لما كان في المحرم ليلة الأحد إذا عبد الله بن عمرو بن عوف المزني على باب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبلال جالسٌ على باب النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد أذن بلال وهو ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أن خرج، فنهض إليه المزني فقال: يا رسول الله، أقبلت من أهلي حتى إذا كنت بمللٍ فإذا قريش قد نزلوا، فقلت: لأدخلن فيه ولأسمعن من أخبارهم. فجلست معهم فسمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعنا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدتهم، فارجعوا نستأصل من بقى! وصفوان يأبى ذلك عليهم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فذكر لهما ما أخبره المزني، فقالا: اطلب العدو، ولا يقحمون على الذرية! فلما سلم ثاب الناس، وأمر بلالاً ينادي يأمر الناس بطلب عدوهم. وقالوا: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة يوم الأحد أمر بطلب عدوهم، فخرجوا وبهم الجراحات.
وفي قوله " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لما فاخشوهم فزادهم إيماناً " إلى قوله " واتبعوا رضوان الله " . فإن أبا سفيان بن حرب وعد النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحدٍ بدر الموعد الصفراء، على رأس الحول. فقيل لأبي سفيان: ألا توافي النبي؟ فبعث نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة يثبط المسلمين، وجعل له عشراً من الإبل إن هو ردهم، ويقول إنهم قد جمعوا جموعاص وقد جاءوكم في داركم، لا تخرجوا إليهم. حتى كاد ذلك يثبطهم أو بعضهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: والذي نفسي بيده، لو لم يخرج معي أحدٌ لخرجت وحدي. فأنهجت لهم بصائرهم، فخرجوا بتجارات وكان بدر موسماً. " فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ " في التجارة، يقول: اربحوا، " لم يمسهم سوءٌ " لم يلقوا قتالاً، وأقاموا ثمانية أيام ثم انصرفوا. " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون " يقول: الشيطان يخوفكم أولياءه ومن أطاعه. " ولا يخزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً " . " إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان " يقول: استحبوا الكفر على الإيمان. " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم " يقول: ما يصح أبدانهم، ويرزقهم ويريهم الدولة على عدوهم، يقول: أملى لهم ليزدادوا كفراً. " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب " يعني مصاب أهل أحد، " ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء " يعني يقرب من رسله. وفي قوله " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " إلى قوله " يوم القيامة " قال: يأتي كنز الذي لا يؤدي حقه ثعباناً في عنقه، ينهش لهزمتيه. يقول: أنا كنزك. " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء " قال: لما نزلت هذه الآية. " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " قال فنحاص اليهودي: الله فقيرٌ ونحن أغنياء ليستقرض منا؟ " ...وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ ونقول ذوقوا عذاب الحريق " . " ذلك بما قدمت أيديكم " من كفركم وقتلكم الأنبياء. " الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربانس تأكله النار " الآية والتي تليها، يعني يهود. " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " يعني اليهود، " ومن الذين أشركوا " يعني من العرب، " أذىً كثيراً.. " إلى آخر الآية. قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يؤمر بالقتال. " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " إلى قوله " ولهم عذابٌ أليمٌ " قال: أخذ على أحبار اليهود في أمر صفة النبي صلى الله عليه وسلّم ألا يكتموه. " فنبذوه وراء ظهورهم " واتخذوه مأكلةً وغيروا صفته. وقوله " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " قالت: نزلت في ناسٍ من المنافقين، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا غزا فقدم قالوا: إذا غزوت فنحن نخرج معك. فإذا غزا لم يخرجوا معه، ويقال هم اليهود. " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " قال: يصلون قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، يعني مضطجعين. " ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا " قال: القرآن، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلّم. وقوله: " فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا " يعني المهاجرين الذين أخرجوا من مكة. " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " . " متاعٌ قليلٌ " يقول: تجارتهم وحرفتهم. " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم " يعني عبد الله بن سلام. " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله " قال: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم رباط، إنما كانت الصلاة بعد الصلاة.
وقال جابر بن عبد الله: لما قتل سعد بن ربيع بأحد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم مضى إلى حمراء الأسد. وجاء أخو سعد بن ربيع فأخذ ميراث سعد، وكان لسعد ابنتان وكانت امرأته حاملاً، وكان المسلمون يتوارثون على ما كان في الجاهلية حتى قتل سعد بن ربيع. فلما قبض عمهن المال ولم تنزل الفرائض وكانت امرأة سعد امرأة حازمة، صنعت طعاماً ثم دعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبزاص ولحماً وهي يومئذٍ بالأسواف. فانصرفنا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم من الصبح، فبينا نحن عنده جلوسٌ ونحن نذكر وقعة أحد ومن قتل من المسلمين، ونذكر سعد بن ربيع إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قوموا بنا! فقمنا معه ونحن عشرون رجلاً حتى انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخلنا معه فنجدها قد رشت ما بين صورتين وطرحت خصفة. قال جابر بن عبد الله: والله ما ثم وسادة ولا بساط، فجلسنا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يحدثنا عن سعد بن ربيع، يترحم عليه ويقول: لقد رأيت الأسنة شرعت إليه يومئذٍ حتى قتل. فلما سمع ذلك النسوة بكين، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما نهاهن عن شيءٍ من البكاء. قال جابر: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنة. قال: فتراءينا من يطلع، فطلع أبو بكر رضي الله عنه، فقمنا فبشرناه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم سلم ثم ردوا عليه ثم جلس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يطلع عليكم من أهل الجنة. فتراءينا من يطلع من خلال السعف. فطلع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقمنا فبشرناه بما قال النبي صلى الله عليه وسلّم فسلم ثم جلس. ثم قال: يطلع عليكم رجلٌ من أهل الجنة. فنظرنا من خلال السعف، فإذا علي عليه السلام قد طلع، فقمنا فبشرناه بالجنة، ثم جاء فسلم ثم جلس، ثم أتى بالطعام. قال جابر: فأتى من الطعام بقدر ما ياكل رجلٌ واحدٌ أو اثنان، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده فيه فقال: خذوا بسم الله! فأكلنا منها حتى نهلنا، والله ما أرانا حركنا منها شيئاً.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ارفعوا هذا الطعام! فرفعوه، ثم أتينا برطبٍ في طبقٍ في باكورة أو مؤخرٍ قليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بسم الله، كلوا! قال: فأكلنا حتى نهلنا، وإني لأرى في الطبق نحواً مما أتى به. وجاءت الظهر فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يمس ماءً، ثم رجع إلى مجلسه فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جاءت العصر فأتى ببقية الطعام يتشبع به، فقام النبي صلى الله عليه وسلّم فصلى العصر، ولم يمس ماءً، ثم قامت امرأة سعد بن ربيع فقالت: يا رسول الله، إن سعد بن ربيع قتل بأحد، فجاء أخوه فأخذ ما ترك، وترك ابنتين ولا مال لهما، وإنما ينكح يا رسول الله النساء على المال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم أحسن الخلافة على تركته، لم ينزل علي في ذلك شيءٌ، وعودي إلي إذا رجعت! فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بيته جلس على بابه وجلسنا معه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم برحاء حتى ظننا أنه أنزل عليه. قال: فسرى عنه والعرق يتحدر عن جبينه مثل الجمان. فقال: علي بامرأة سعد! قال: فخرج أبو مسعود عقبة بن عمرو حتى جاء بها. قال: وكانت امرأةٌ حازمةً جلدة، فقال: أين عم ولدك؟ قالت: يا رسول الله، في منزله. قال: ادعيه لي! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اجلسي! فجلست وبعث رجلاً يعدو إليه فأتى به وهو في بلحارث بن الخزرج، فأتى وهو متعب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:ادفع إلى بنات أخيك ثلثي ما ترك أخوك. فكبرت امرأته تكبيرة سمعها أهل المسجد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ادفع إلى زوجة أخيك الثمن وشأنك وسائر ما بيدك. ولم يورث الحمل يومئذٍ. وهي أم سعد بنت سعد بن ربيع امرأة زيد بن ثابت أم خارجة بن زيد. فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد تزوج زيد أم سعد بنت سعد وكانت حاملاً، فقال: إن كانت لك حاجةٌ أن تكلمي في ميراثك من أبيك، فإن أمير المؤمنين قد ورث الحمل اليوم، وكانت أم سعد يوم قتل أبوها سعد حملاً. فقالت: ما كنت لأطلب من أخي شيئاً.
ولما انكشف المشركون بأحد كان أول من قدم بخبر أحد وانكشاف المشركين عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، كره أن يقدم مكة وقدم الطائف فأخبر: إن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا، كنت أول من قدم عليكم! وذلك حين انهزم المشركون الانهزامة الأولى، ثم تراجع المشركون بعد فنالوا ما نالوا. وكان أول من أخبر قريشاً بقتل أصحاب محمد وظفر قريش وحشيٌّ.
وحدثني موسة بن شيبة، عن قطر بن وهب الليثي، قال: لما قدم وحشيٌّ على أهل مكة بمصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار على راحلته أربعاً، فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون، فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش! مراراً، حتى ثاب الناس إليه وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون. فلما رضي منهم قال: أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتله لم يقتل مثلها في زحفٍ قط وجرحنا محمداً فأثبتناه بالجراح، وقتلت رأس الكتيبة حمزة. وتفرق الناس في كل وجهٍ بالشماتة بقتل أصحاب محمد وإظهار السرور، وخلا جبير بن مطعم بوحشيٍّ فقال: انظر ما تقول! قال وحشيٌّ: قد والله صدقت. قال: أقتلت حمزة؟ قال: قد والله زرقته بالمزراق في بطنه حتى خرج من بين رجليه، ثم نودى فلم يجب، فأخذت كبده وحملتها إليك لتراها. قال: أذهبت حزن نسائنا، وبردت حر قلوبنا! فأمر يومئذٍ نساءه بمراجعة الطيب والدهن.
وكان معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قد انهزم يومئذٍ، فمضى على وجهه فنام قريباً من المدينة، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان ابن عفان رضي الله عنه فضرب بابه، فقالت امرأته أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ليس هو ها هنا، هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال: فأرسلى إليه، فإن له عندي ثمن بعيرٍ اشتريته عام أول فجئته بثمنه، وإلا ذهبت. قال: فأرسلت إلى عثمان فجاء، فلما رآه قال: ويحك، أهلكتني وأهلكت نفسك، ما جاء بك؟ قال: يا ابن عم، لم يكن لي أحدٌ أقرب إلي منك ولا أحق. فأدخله عثمان في ناحية البيت، ثم خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأخذ له أماناً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يأتيه عثمان: إن معاوية قد أصبح بالمدينة فاطلبوه. فطلبوه فلم يجدوه، فقال بعضهم: اطلبوه في بيت عثمان بن عفان فدخلوا بيت عثمان فسألوا أم كلثوم، فأشارت إليه فاستخرجوه من تحت حمارةٍ لهم، فانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وعثمان جالسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما رآه عثمان قد أتى به قال: والذي بعثك بالحق، ما جئتك إلا أن أسألك أن تؤمنه، فهبه لي يا رسول الله! فوهبه له وأمنه وأجله ثلاثاً، فإن وجد بعدهن قتل. قال: فخرج عثمان فاشترى له بعيراً وجهزه، ثم قال: ارتحل! ارتحل. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، وخرج عثمان مع المسلمين إلى حمراء الأسد، وأقام معاوية حتى كان اليوم الثالث، فجلس على راحلته وخرج حتى إذا كان بصدور العقيق قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن معاوية قد أصبح قريباً فاطلبوه. فخرج الناس في طلبه فإذا هو قد أخطأ الطريق، فخرجوا في أثره حتى يدركه في يوم الرابع، وكان زيد بن حارثة وعمار بن ياسر أسرعا في طلبه، فأدركاه بالجماء فضربه زيد بن حارثة، وقال عمار: إن لي فيه حقاً! فرماه عمار بسهم فقتلاه، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبراه. ويقال: أدرك بثنية الشريد على ثمانية أميال من المدينة. وذلك حيث أخطأ الطريق، فأدركاه فلم يزالا يرميانه بالنبل واتخذاه غرضاً حتى مات.
غزوة حمراء الأسدوكانت يوم الأحد لثمانٍ خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهراً، ودخلوا المدينة يوم الجمعة وغاب خمساً.
قالوا: لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصبح يوم الأحد ومعه وجوه الأوس والخزرج، وكانوا باتوا في المسجد على بابه سعد بن عبادرة. وحباب بن المنذر، وسعد بن معاذ، وأوس بن خولي، وقتادة بن النعمان، وعبيد بن أوس في عدةٍ منهم. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الصبح أمر بلالاً أن ينادي: إن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.
قال: فخرج سعد بن معاذ راجعاً إلى داره يأمر قومه بالمسير. قال: والجراح في الناس فاشيةٌ، عامة بني عبد الأشهل جريحٌ، بل كلها، فجاء سعد بن معاذ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن تطلبوا عدوكم. قال: يقول أسيد بن حضير، وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم. وجاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير، فتلبسوا ولحقوا. وجاء أبو قتادة أهل خربى، وهم يداوون الجراح، فقال: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم بطلب عدوكم. فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم. فخرج من بني سلمة أربعون جراحات، وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحاً، وبقطبة ابن عامر بن حديدة تسع جراحات، حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلّم ببئر أبي عنبة إلى رأس الثنية الطريق الأولى يومئذٍ عليهم السلاح قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم والجراح فيهم فاشيةٌ قال: اللهم ارحم بني سلمة! قال الواقدي: وحدثني عتبة بن جبيرة، عن رجالٍ من قومه، قالوا: إن عبد الله بن سهل، ورافع بن سهل بن عبد الأشهل رجعا من أحد وبهما جراحٌ كثيرة، وعبد الله أثقلهما من الجراح، فلما أصبحوا وجاءهم سعد ابن معاذ يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم بطلب عدوهم قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزوةً مع رسول الله لغبنٌ! والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بنا! قال رافع: لا والله، ما بي مشى. قال أخوه، انطلق بنا، نتجار ونقصد! فخرجا يزحفان، فضعب رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبةً، ويمشي الآخر عقبة، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند العشاء وهم يوقدون النيران، فأتى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال: ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخيرٍ وقال: إن طالت لكم مدةٌ كانت لكم مراكب من خيلٍ وبغال وإبل، وليس ذلك بخيرٍ لكم! حدثني عبد العزيز بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، قالك هذان أنس ومؤنس وهذه قصتهما.
وقال جابر بن عبد الله: يا رسول الله، إن منادياً نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس. وقد كنت حريصاً على الحضور، ولكن أبي خلفني على أخواتٍ لي وقال: يا بني، لا ينبغي لي ولك أن ندعهن ولا رجل عندهن، وأخاف عليهن وهن نسيات ضعاف، وأنا خراجٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لعل الله يرزقني الشهادة. فتخلفت عليهن فاستأثره الله على الشهادة وكنت رجوتها، فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قال جابر: فلم يخرج معه أحدٌ لم يشهد القتال بالأمس غيري، واستأذنه رجالٌ لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلوائه، وهو معقود لم يحل من الأمس، فدفعه إلى علي عليه السلام، ويقال دفعه إلى أبي بكر.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوجٌ في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد شظيت، وشفته قد كلمت من باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسجد فركع ركعتين، والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركعتين فدعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه، فقال: يا طلحة، سلاحك! فقلت: قريباً. قال طلحة: فأخرج أعدو فألبس درعي، وآخذ سيفي، وأطرح درقتي في صدري، وإني بي لتسع جراحات ولأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلّم مني بجراحي. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على طلحة فقال: ترى القوم الآن؟ قال: هم بالسيالة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة نفرٍ من أسلم طليعةً في آثار القوم: سليطاً ونعمان ابني سفيان بن خالد بن عوف بن دارم من بني سهم، ومعهما ثالثٌ من أسلم من بني عوير لم يسم لنا. فأبطأ الثالث عنهما وهما يجمزان، وقد انقطع قبال نعل أحدهما، فقال: أعطني نعلك. قال: لا والله، لا أفعل! فضرب أحدهما برجله في صدره، فوقع لظهره وأخذ نعليه. ولحق القوم بحمراء الأسد، ولهم زجلٌ، وهم يأتمرون بالرجوع، وصفوان ينهاهم عن الرجوع، فبصروا بالرجلين فعطفوا عليهما فأصابوهما. فانتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد فعسكروا، وقبروهما في قبرٍ واحد. فقال ابن عباس: هذا قبرهما وهما القرينان. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد. قال جابر: وكانت عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين جملاً حتى وافت الحمراء. وساق جزراً فنحروا في يومٍ اثنين وفي يومٍ ثلاثاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمرنا أن نوقد النيران. فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نارٍ حتى ترى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجهٍ حتى كان مما كبت الله تعالى عدونا.
وانتهى معبد بن أبي معبد الخزاعي، وهو يومئذٍ مشركً، وكان خزاعة سلماً للنبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك. ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان وقريشاً بالروحاء، وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل. فلماك جاء معبد إلى أبي سفيان قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمداص وأصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد أجمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم، وغضبوا لقومهم غضباً شديداً ولمن أصبتم من أشرافهم، قالوا: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما نرى أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل! ثم قال معبد: لقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتاً:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تعدو بأسدٍ كرامٍ لا تنابلةٍ ... عند اللقاء ولا ميلس معازيل
فقلت ويل ابن حربٍ من لقائهم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
وكان مما رد الله تعالى ابا سفيان وأصحابه كلام صفوان بن أمية قبل أن يطلع معبد وهو يقول: يا قوم، لا تفعلوا! فإن القوم قد حزنوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أرشدهم صفوان وما كان برشيدٍ، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! فانصرف القوم سراعاً خائفين من الطلب لهم، ومر بأبي سفيان نفرٌ من عبد القيس يريدون المدينة. فقال: هل مبلغو محمداً وأصحابه ما أرسلكم به، على أن أوقر لكم أباعركم زبيباص غداً بعطاظ إن أنتم جئتموني؟ قالوا: نعم. قال: حيثما لقيتم محمداً وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم، وأنا آثاركم. فانطلق أبو سفيان، وقدم الركب علىالنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بالحمراء، فأخبروهم الذي أمرهم أبو سفيان، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل! وفي ذلك أنزل الله عز وجل: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح..الآية. وقوله: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم.. " الآية. وكان معبد قد أرسل رجلاً من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمه أن قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة.
سرية أبي سلمة بن عبد الأسد
إلى قطن إلى بني الأسد في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً
قال الواقدي: حدثني عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد. وغيره أيضاً قد حدثني من حديث هذه السرية، وعماد الحديث عن عمر ابن عثمان، عن سلمة، قالوا: شهد أبو سلمة بن عبد الأسد أحداً، وكان نازلاً في بني أمية بن زيد بالعالية حين تحول من قباء، ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية. فجرح بأحد جرحاً على عضده فرجع إلى منزله، فجاءه الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار إلى حمراء الأسد، فركب حماراً وخرج يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى لقيه حين هبط من العصبة بالعقيق، فسار مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة انصرف مع المسلمين ورجع من العصبة، فأقام شهراً يداوي جرحه حتى رأى أن قد برأ، ودمل الجرح على بغيٍ لا يدري به، فلما كان هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها. وعقد له لواءً وقال: سر حتى ترد أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تلاقي عليك جموعهم. وأوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة، منهم: أبو سبرة بن ابي رهم وهو أخو أبي سلمة لأمه أمه برة بنت عبد المطلب وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن مخرمة العامري. ومن بني مخزوم: معتب بن الفضل بن حمراء الخزاعي حليفٌ فيهم، وأرقم بن أبي الأرقم من أنفسهم. ومن بني فهر: أبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء. ومن الأنصار: أسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وأبو نائلة، وأبو عبس، وقتادة بن النعمان، ونضر بن الحارث الظفري، وأبو قتادة، وأبو عياش الزرقي، وعبد الله بن زيد، وخبيب بن يساف، ومن لم يسم لنا.
والذي هاجه أن رجلاً من طيىء قدم المدينة يريد امرأة ذات رحمٍ به من طيىء متزوجةً رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزل على صهره الذي هو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره أن طليحة وسلمة ابني خويلد تركهما قد سارا في قومهما ومن أطاعهما بدعوتهما إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريدون أن يدنوا للمدينة، وقالوا: نسير إلى محمدٍ في عقر داره، ونصيب من أطرافه، فإن لهم سرحاً يرعى جوانب المدينة، ونخرج على متون الخيل، فقد أربعنا خيلنا، ونخرج على النجائب المخبورة، فإن أصبنا نهباً لم ندرك، وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها، معنا خيلٌ ولا خيل معهم، ومعنا نجائب أمثال الخيل، والقوم منكبون قد أوقعت بهم قريش حديثاً، فهم لا يستبلون دهراً، ولا يثوب لهم جمعٌ. فقام فيهم رجلٌ منهم يقال له قيس بن الحارث بن عمير، فقال: يا قوم، والله ما هذا برأي! ما لنا قبلهم وترٌ وما هم نهبةٌ لمنتهبٍ، إن دارنا لبعيدة من يثرب وما لنا جمعٌ كجمع قريش. مكثت قريش دهراً تسير في العرب تستنصرها ولهم وترٌ يطلبونه، ثم ساروا وقد امتطوا الإبل وقادوا الخيل وحملوا السلاح مع العدد الكثير ثلاثة آلاف مقاتل سوى أتباعهم وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاثمائة رجل إن كملوا، فتغررون بأنفسك وتخرجون من بلدكم، ولا آمن أن تكون الدائرة عليكم. فكاذ ذلك أن يشككهم في المسير، وهم على ما هم عليه بعد. فخرج به الرجل الذي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره ما أخبر الرجل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا سلمة، فخرج في أصحابه وخرج معه الطائي دليلاً فأغذوا السير، ونكب بهم عن سنن الطريق، وعارض الطريق وسار بهم ليلاً ونهاراً، فسبقوا الأخبار وانتهوا إلى أدنى قطن ماء من مياه بني أسد، هو الذي كان عليه جمعهم فيجدون سرحاً فأغاروا على سرحهم فضموه، وأخذوا رعاءً لهم، مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم فجاءوا جمعهم فخبروهم الخبر وحذروهم جمع أبي سلمة، وكثروه عندهم فتفرق الجمع في كل وجهٍ، وورد أبو سلمة الماء فيجد الجمع قد تفرق، فعسكر وفرق أصحابه في طلب النعم والشاء، فجعلهم ثلاث فرق فرقةٌ أقامت معه، وفرقتنا أغارتا في ناحيتين شتى. وأوعز إليهما ألا يمعنوا في طلب وألا يبيتوا إلا عنده إن سلموا، وأمرهم ألا يفترقوا، واستعمل على كل فرقةٍ عاملاً منهم. فآبوا إليه جميعاً سالمين، قد أصابوا إبلاً وشاءص ولم يلقوا أحداً، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة راجعاً، ورجع معه الطائي، فلما ساروا ليلة قال أبو سلمة: اقتسموا غنائمكم. فأعطى أبو سلمة الطائي الدليل رضاه من المغنم، ثم أخرج صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عبداً، ثم أخرج الخمس، ثم قسم ما بقي بين أصحابه فعرفوا سهمانهم، ثم أقبلوا بالنعم والشاء يسوقونها حتى دخلوا المدينة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبي سلمة، قال: كان الذي جرح أبا سلمة أبو أسامة الجشمي، رماه يوم أحد بمعبلةٍ في عضده، فمكث شهراً يداويه فبرأ فيما نرى، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً إلى قطن، وغاب بضع عشرة. فلما قدم المدينة انتقض الجرح، فمات لثلاث ليالٍ بقين من جمادى الآخرة، فغسل من اليسيرة بئر بني أمية بين القرنين، وكان اسمها في الجاهلية العبير فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلّم اليسيرة، ثم حمل من بني أمية فدفن بالمدينة.
قال عمر بن أبي سلمة: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشراً، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخل بها في ليالٍ بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس في النكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلّم في شوال وأعرس بي في شوال. وماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع وخمسين.
قال أبو عبد الله الواقدي: فحدثت عمر بن عثمان الجحشي، فعرف السرية ومخرج أبي سلمة إلى قطن، وقال: أما سمي لك الطائي؟ قلت: لا . قال: هو الوليد بن زهير بن طريف عم زينب الطائية، وكانت تحت طليب بن عمير، فنزل الطائي عليه فأخبره فذهب به طليب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبر خبر بني أسد وما كان من همومهم بالمسير. ورجع معهم الطائي دليلاً وكان خريتاً، فسار بهم أربعاً إلى قطن، وسلك بهم غير الطريق، لأن يعمى الخبر على القوم. فجاءوا القوم وهم غارون على صرمةٍ، فوجدوا الصرم قد نذروا بهم وخافوهم فهم معدون، فاقتتلوا فكانت بينهم جراحة، وافترقوا. ثم أغار الطائيون بعد ذلك على بني أسد فكان بينهم أيضاً جراح، وأصابوا لهم نعماً وشاءً، فما تخلصوا منهم شيئاً حتى دخل الإسلام.
قال الواقدي: وأصحابنا يقولون: أبو سلمة من شهداء أحد للجرح الذي جرح يوم أحد ثم انتقض به. وكذلك أبو خالد الزرقي من أهل العقبة، جرح اليمامة جرحاً، فلما كان في خلافة عمر انتقض به الجرح فمات فيه، فصلى عليه عمر وقال: هو من شهداء اليمامة لأنه جرح باليمامة.
قال الواقدي: فحدثت يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة حديث أبي سلمة كله فقال: أخبرني أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا سلمة في المحرم على رأس أربعة وثلاثين شهراً، في مائة وخمسة وعشرين رجلاً فيهم سعد بن أبي وقاص، وأبو حذيفة بن عتبة، وسالم مولى أبي حذيفة. فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى وردوا قطن، فوجدوا القوم قد جمعوا جمعاً فأحاط بهم أبو سلمة في عماية الصبح، وقد وعظ القوم وأمرهم بتقوى الله، ورغبهم في الجهاد وحضهم عليه، وأوعز إليهم في الإمعان في الطلب، وألف بين كل رجلين. فانتبه الحاضر قبل حملة القوم عليهم، فتهيئوا وأخذوا السلاح، أو من أخذه منهم، وصفوا للقتال. وحمل سعد بن أبي وقاص على رجلٍ منهم فضربه فأبان رجله، ثم ذفف عليه ، وحمل رجلٌ من الأعراب على مسعود ابن عروة، فحمل عليه بالرمح فقتله، وخاف المسلمون على صاحبهم أن يسلب من ثيابه فحازوه إليهم. ثم صاح سعد: ما ينتظر! فحمل أبو سلمة فانكشف المشركون على حاميتهم، وتبعهم المسلمون، ثم تفرق المشركون في كل وجةٍ، وأمسك أبو سلمة عن الطلب فانصرفوا إلى المحلة، فواروا صاحبهم وأخذوا ما خف لهم من متاع القوم، ولم يكن في المحلة ذرية، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة، حتى إذا كانوا من الماء على مسيرة ليلة أخطأوا الطريق، فهجموا على نعم لهم فيهم رعاؤهم، وإنما نكبوا عن سننهم، فاستاقوا النعم واستاقوا الرعاء، فكانت غنائمهم سبعة أبعرة.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: قال سعد ابن أبي وقاص: فلما أخطأنا استأجرنا رجلاً من العرب دليلاً يدلنا على الطريق. فقال: أنا أهجم بكم على نعمٍ، فما تجعلون لي منه؟ قالوا: الخمس. قال: فدلهم على النعم وأخذ خمسه.
غزوة بئر معونةفي صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً
حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ومعمر بن راشد، وأفلح بن سعيد، وابن أبي سبرة، وأبو معشر، وعبدالله بن جعفر، وكل قد حدثني بطائفةٍ من هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض وغير هؤلاء المسلمين، وقد جمعت كل الذي حدثوني، قالوا: قدم عامر بن مالك بن جعفر أبو البراء ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرسين وراحلتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أقبل هدية مشركٍ! فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، إني أرى أمرك هذا أمراً حسناً شريفاً، وقومي خلفي، فلو أنك بعثت نفراً من أصحابك معي لرجوت أن يجيبوا دعوتك ويتبعوا أمرك، فإن هم اتبعوك فما أعز أمرك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال عامر: لا تخف عليهم، أنا لهم جارٌ أن يعرض لهم أحدٌ من أهل نجد. وكان من الأنصار سبعون رجلاً شببةً يسمون القراء، كانوا إذا أمسوا أتوا ناحيةً من المدينة فتدارسوا وصلوا، حتى إذا كان وجاه الصبح استعذبوا من الماء وحطبوا من الحطب فجاءوا به إلى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان أهلوهم يظنون أنهم في المسجد، وكان أهل المسجد يظنون أنهم في أهليهم. فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فخرجوا فأصيبوا في بئر معونة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلتهم خمس عشرة ليلة. وقال أبو سعيد الخدري: كانوا سبعين، ويقال إنهم كانوا أربعين، ورأيت الثبت على أنهم أربعون. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم معهم كتاباً، وأمر على أصحابه المنذر بن عمرو الساعدي، فخرجوا حتى كانوا على بئر معونة، وهو ماءٌ من مياءه بني سلمة، وهو بين أرض بني عامر وبني سليم، وكلا البلدين يعد منه.
فحدثني مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: خرج المنذر بدليلٍ من بني سليم يقال له المطلب، فلما نزلوا عليها عسكروا بها وسرحوا ظهرهم، وبعثوا في سرحهم الحارث بن الصمة، وعمرو بن أمية. وقدموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عامر بن الطفيل في رجالٍ من بني عامر، فلما انتهى حرام إليهم لم يقرأوا الكتاب، ووثب عامر بن الطفيل على حرام فقتله، واستصرخ عليهم بني عامر فأبوا. وقد كان عامر بن مالك أبو براء خرج قبل القوم إلى ناحية نجد فأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد، فلا يعرضوا لهم، فقالوا: لن يخفر جوار أبي براء. وأبت عامر أن تنفر مع عامر بن الطفيل، فلما أبت عليه بنو عامر استصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلاً فنفروا معه ورأسوه، فقال عامر بن الطفيل: أحلف بالله ما أقبل هذا وحده! فاتبعو إثره حتى وجدوا القوم، قد استبطأوا صاحبهم فأقبلوا في إثره، فلقيهم القوم والمنذر معهم، فأحاطت بنو عامر بالقوم وكاثروهم، فقاتل القوم حتى قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وبقي المنذر بن عمرو، فقالوا له: إن شئت آمناك. فقال: لن أعطي بيدي ولن أقبل لكم أماناً حتى آتي مقتل حرام، ثم برىء مني جواركم. فآمنوا حتى أتى مصرع حرام، ثم برئوا إليه من جوارهم، ثم قاتلهم حتى قتل، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " أعنق ليموت " . وأقبل الحارث بن الصمة وعمرو بن أمية بالسرح، وقد ارتابا بعكوف الطير على منزلهم أو قريبٍ من منزلهم. فجعلا يقولان: قتل والله أصحابنا، والله ما قتل أصحابنا إلا أهل نجد! فأوفى على نشزٍ من الأرض فإذا أصحابهم مقتولون وإذا الخيل واقفةٌ. فقال الحارث بن الصمة لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر. فقال الحارث: ما كنت لأتأخر عن موطنٍ قتل فيه المنذر. فأقبلا للقوم فقاتلهم الحارث حتى قتل منهم اثنين، ثم أخذوه فأسروه وأسروا عمرو بن أمية. وقالوا للحارث: ما تحب أن نصنع بك، فإنا لا نحب قتلك؟ قال: أبلغوني مصرع المنذر وحرام، ثم برئت مني ذمتكم. قالوا: نفعل. فبلغوا به ثم أرسلوه، فقاتلهم فقتل منهم اثنين ثم قتل، فما قتلوه حتى شرعوا له الرماح فنظموه فيها. وقال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية، وهو أسيرٌ في أيديهم ولم يقاتل: إنه قد كانت على أمي نسمة، فأنت حرٌّ عنها! وجز ناصيته، وقال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية، هل تعرف أصحابك؟ قال، قلت: نعم. قال: فطاف فيهم وجعل يسأله عن أنسابهم فقال: هل تفقد منهم عن أحدٍ؟ قال: أفقد مولىً لأبي بكر يقال له عامر بن فهيرة. فقال: كيف كان فيكم؟ قال، قلت: كان من أفضلنا ومن أول أصحاب نبينا. قال: ألا أخبرك خبره؟ وأشار إلى رجلٍ فقال: هذا طعنه برمحه، ثم انتزع رمحه فذهب بالرجل علواً في السماء حتى والله ما أراه. قال عمرو، فقلت: ذلك عامر بن فهيرة! وكان الذي قتله رجلٌ من بني كلاب يقال له جبار بن سلمى، ذكر أنه لما طعنه قال، سمعته يقول: فزت والله! قال، فقلت في نفسي: ما قوله فزت؟ قال: فأتيت الضحاك بن سفيان الكلابي فأخبرته بما كان وسألته عن قوله فزت، فقال: الجنة. قال: وعرض علي الإسلام. قال: فأسلمت، ودعاني إلى الإسلام ما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة من رفعة إلى السماء علواً. قال: وكتب الضحاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره بإسلامي وما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فإن الملائكة وارت جئته! وأنزل عليين.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبر بئر معزنة، جاء معها من ليلةٍ واحدةٍ مصابهم ومصاب مرثد بن أبي مرثد، وبعث محمد بن مسلمة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلتهم بعد الركعة من الصبح، في صبح تلك الليلة التي جاءه الخبر، فلما قال: سمع الله لمن حمده! قال: اللهم اشدد وطأتك على مضرا، اللهم، عليك ببني لحيان وزعبٍ ورعل وذكوان وعصية، فإنهم عصوا الله ورسوله، اللهم، عليك ببني لحيان وعضل والقارة، اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن ابن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، غفارٌ غفر الله لها، وأسلم سالمها الله! ثم سجد. فقال ذلك خمس عشرة، ويقال أربعين يوماً، حتى نزلت هذه الآية: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم ... " الآية. وكان أنس بن مالك يقول: يا رب، سبعين من الأنصار يوم بئر معونة! وكان أبو سعيد الخدري يقول: قتلت من الأنصار في مواطن سبعين سبعين يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون. ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة. وكان أنس بن مالك يقول: أنزل الله فيهم قرآناً قرأناها حتى نسخ: " بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه " .
قالوا: وأقبل أبو براء سائراً، وهو شيخٌ كبيرهم، فبعث من العيص ابن أخيه لبيد بن ربيعة بهديةٍ، فرسٍ، فدره النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: لا أقبل هدية مشركٍ! فقال لبيد: ما كنت أظن أن أحداً من مضر يرد هدية أبي براء. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لو قبلت هدية مشرك لقبلت هدية أبي براء. قال: فإنه قد بعث يستشفيك من وجعٍ به وكانت به الدبيلة. فتناول النبي صلى الله عليه وسلّم جبوبةً من الأرض فتفل فيها، ثم ناوله وقال: دفها بماءٍ ثم اسقها إياه. ففعل فبرىء. ويقال إنه بعث إليه بعكة عسل فلم يزل يلعقها حتى برىء. فكان أبو براء يومئذٍ سائراً في قومه يريد أرض بلى، فمر بالعيص فبعث ابنه ربيعة مع لبيد يحملان طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لربيعة: ما فعلت ذمة أبيك؟ قال ربيعة: نقضتها ضربةٌ بسيفٍ أو طعنةٌ برمح! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج ابن أبي براء فخبر أباه، فشق عليه ما فعل عامر بن الطفيل وما صنع بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا حركة به من الكبر والضعف، فقال: أخفرني ابن أخي من بين بني عامر. وسار حتى كانوا على ماءٍ من مياه بلى يقال له الهدم، فيركب ربيعة فرساً له ويلحق عامراً وهو على جملٍ له، فطعنه بالرمح فأخطأ مقاتله. وتصايح الناس، فقال عامر بن الطفيل: إنها لم تضرني! إنها لم تضرني! وقال: قضيت ذمة أبي براء. وقال عامر بن الطفيل: قد عفوت عن عمي، هذا فعله! وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: اهد بني عامر واطلب خفرتي من عامر بن الطفيل.
وأقبل عمرو بن أمية حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلّم، سار على رجليه أربعاً، فلما كان بصدور قناة لقى رجلين من بني كلاب، قد كانا قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكساهما، ولهما منه أمانٌ. ولم يعلم بذلك عمرو، فقايلهما فلما ناما وثب عليهما فقتلهما للذي أصابت بنو عامر من أصحاب بئر معونة. ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بقتل أصحاب بئر معونة، فقال: أنت من بينهم! ويقال إن سعد بن أبي وقاص رجع مع عمرو بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ما بعثتك قط إلا رجعت إلي من بين أصحابك. ويقال إنه لم يكن معهم ولم يكن في السرية إلا أنصاري، وهذا الثبت عندنا. وأخبر عمرو النبي صلى الله عليه وسلّم بمقتل العامريين فقال: بئس ما صنعت، قتلت رجلين كان لهما مني أمانٌ وجوار، لأدينهما! فكتب إليه عامر بن الطفيل وبعت نفراً من أصحابه يخبره: إن رجلاً من أصحابك قتل رجلين من أصحابنا ولهما منك أمانٌ وجوار. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ديتهما، دية حرين مسلمين، فبعث بها إليهم.
حدثني مصعب، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: حرص المشركون بعروة بن الصلى أن يؤمنوه فأبى وكان ذا خلة بعامر، مع أن قومه بني سليم حرصوا على ذلك. فأبى وقال: لا أقبل لكم أماناً ولا أرغب بنفسي عن مصرع أصحابي. وقالوا حين أحيط بهم: اللهم، إنا لا نجد من يبلغ رسولك السلام غيرك، فاقرأ عليه السلام فأخبره جبريل عليه السلام بذلك.
تسمية من استشهد من قريشمن بني تيم: عامر بن فهيرة، ومن بني مخزوم: الحكم بن كيسان حليفٌ لهم، ومن بني سهم: نافع من بديل بن ورقاء، ومن الأنصار: المنذر بن عمرو، أمير القوم، ومن بني زريق معاذ بن ماعص، ومن بني النجار: حرام وسليم ابنا ملحان، ومن بني عمرو بن مبذول: الحارث ابن الصمة، وسهل بن عامر بن سعد بن عمرو، والطفيل بن سعد، ومن بني عمرو بن مالك: أنس بن معاوية بن أنس، وأبو شيخ أبي بن ثابت ابن المنذر، ومن بني دينار بن النجار: عطية بن عبد عمرو، وارتث من القتلى كعب بن زيد بن قيس قتل يوم الخندق، ومن بني عمرو بن عوف: عروة بن الصلت حليفٌ لهم من بني سليم، ومن النبيت: مالك بن ثابت، وسفيان بن ثابت. فجميع من استشهد ممن يحفظ اسمه ستة عشر رجلاً.
وقال عبد الله بن رواحة يرثي نافع بن بديل، سمعت أصحابنا ينشدونها:
رحم الله نافع بن بديلٍ ... رحمة المبتغى ثواب الجهاد
صارمٌ صادق اللقاء إذا ما ... أكثر الناس قال قول السداد
وقال أنس بن عباس السلمى، وكان خال طعمية بن عدي، وكان طعمية يكنى أبا الريان، خرج يوم بئر معونة يحرض قومه يطلب بدم ابن أخيه، حتى قتل نافع بن بديل بن ورقاء، فقال:
تركت ابن ورقاء الخزاعى ثاوياً ... بمعترك تسفى عليه الأعاصر
ذكرت أبا الريان لما عرفته ... وأيقنت أني يوم ذلك ثائر
سمعت أصحابنا يثبتونها. وقال حسان بن ثابت يرثي المنذر بن عمرو:
صلى الإله على ابن عمروٍ إنه ... صدق اللقاء وصدق ذلك أوفق
قالوا له أمرين فاختر فيهما ... فاختار في الرأي الذي هو أوفق
أنشدني ابن جعفر قصيدة حسان سحاً غير نزر.
غزوة الرجيعفي صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحاب الرجيع عيوناً إلى مكة ليخبروه خبر قريش، فسلكوا على النجدية حتى كانوا بالرجيع فاعترضت لهم بنو لحيان.
حدثني محمد بن عبد الله، ومعمر بن راشد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل ابن أبي حثمة، ومعاذ بن محمد، في رجالٍ ممن لم أسم، وكل قد حدثني ببعض الحديث، وبعض القوم كان أرعى له من بعض، وقد جمعت الذي حدثوني، قالوا: لما قتل سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي مشت بنو لحيان إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم فرائض على أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيكلموه، فيخرج إليهم نفراً من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام. فنقتل من قتل صاحبنا ونخرج بسائرهم إلى قريش بمكة فنصيب بهم ثمناً، فإنهم ليسوا لشيءٍ أحب إليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمدٍ، يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر. فقدم سبعة نفرٍ من عضل والقارة وهما حيان إلى خزيمة مقرين بالإسلام، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن فنيا إسلاماً فاشياً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يقرئوننا القرآن ويفقهوننا في الإسلام. فبعث معهم سبعة نفر: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن أبي البكير، وعبدالله بن طارق البلوى حليفٌ في بني ظفر، وأخاه لأمه معتب بن عبيد، حليفٌ في بني ظفر، وخبيب بن عدي بن بلحارث بن الخزرج، وزيد ابن الدثنة من بني بياضة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. ويقال كانوا عشرة وأميرهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. فخرجوا حتى إذا كانوا بماءٍ لهذيل يقال له الرجيع قريب من الهدة خرج النفر فاستصرخوا عليهم أصحابهم الذين بعثهم اللحيانيون، فلم يرع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم إلا بالقوم، مائة رامٍ وفي أيديهم السيوف. فاخترط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسيافهم ثم قاموا، فقال العدو: ما نريد قتالكم، وما نريد إلا أن نصيب منكم من أهل مكة ثمناً، ولكم عهد الله وميثاقه لا نقتلكم. فأما خبيب بن عدي، وزيد ابن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فاستأسروا. وقال خبيب: إن لي عند القوم يداً. وأما عاصم بن ثابت، ومرثد، وخالد بن أبي البكير، ومعتب ابن عبيد، فأبوا أن يقبلوا جوارهم ولا أمانهم. وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشركٍ أبداً. فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
ما علتي وأنا جلدٌ نابل ... النبل والقوس لها بلابل
تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حقٌّ والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل
إن لم أقاتلكم فأمى هابل
قال الواقدي: ما رأيت من أصحابنا أحداً يدفعه. قال: فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره! وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه. قال: فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قتل، وقد جرح رجلين وقتل واحداً. فقال عاصم وهو يقاتل:
أنا أبو سليمان ومثلى رامي ... ورثت مجداً معشراً كراما
أصبت مرثداً وخالداً قياما
ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه. وكانت سلافة بنت سعد بن الشهيد قد قتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين، الحارث، ومسافعاً، فنذرت لئن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت ذلك العرب وعلمته بنو لحيان فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة. فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته فلم يدن إليه أحدٌ إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيءٌ كثيرٌ لا طاقة لأحد به. فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر. فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً وكنا ما نرى في السماء سحاباً في وجهٍ من الوجوه فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يذكر عاصماً، وكان عاصم نذر إلا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك تنجساً به. فقال عمر رضي الله عنه: إن الله عز وجل ليحفظ المؤمنين، فمنعه الله عز وجل أن يمسوه بعد وفاته كما امتنع في حياته.
وقاتل معتب بن عبيد حتى جرح فيهم، ثم خلصوا إليه فقتلوه. وخرجوا بخبيب،وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدثنة حتى إذا كانوا بمر الظهران، وهم موثقون بأوتار قسيهم، قال عبد الله بن طارق: هذا أول الغدر! والله لا أصاحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوةً يعني القتلى . فعالجوه فأبى، ونزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه، فانحازوا عنه فجعل يشد فيهم وينفرجون عنه، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بمر الظهران. وخرجوا بخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة حتى قدموا بهما مكة، فأما خبيب فابتاعه حجير بن ابي إهاب بثمانين مثقال ذهب. ويقال اشتراه بخمسين فريضة، ويقال اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائةٍ من الإبل. وكان حجير إنما اشتراه لابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه قتل يوم بدر. وأما زيد بن الدثنة، فاشتراه صفوان بن أمية بخمسين فريضة فقلته بأبيه، ويقال إنه شرك فيه أناسٌ من قريش، فدخل بهما في شهر حرام، في ذي القعدة، فحبس حجير خبيب بن عدي في بيت امرأة يقال لها ماوي، مولاة لبني عبد مناف، وحبس صفوان بن أمية زيد بن الدثنة عند ناسٍ من بني جمح، ويقال عند نسطاس غلامه. وكانت ماوية قد أسلمت بعد فحسن إسلامها، وكانت تقول: والله ما رأيت أحداً خيراً من خبيب. والله لقد اطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد، ما أعلم في الأرض حبة عنبٍ تؤكل، وإن في يده لقطف عنبٍ مثل رأس الرجل يأكل منه، وما هو إلا رزقٌ رزقه الله. وكان خبيب يتهجد بالقرآن، وكان يسمعه النساء فيبكين ويرققن عليه. قالت، فقلت له: يا خبيب، هل لك من حاجة؟ قال: لا، إلا إن تسقيني العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبريني إذا أرادوا قتلى. قالت: فلما انسلخت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله أتيته فأخبرته، فوالله ما رأيته اكترث لذلك، وقال: ابعثي لي بحديدةٍ أستصلح بها. قال: فبعثت إليه موسى مع ابني أبي حسين، فلما ولى الغلام قلت: أدرك والله الرجل ثأره، أي شيءٍ صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول رجلٌ برجل. فلما أتاه ابني بالحديدة تناولها منه ثم قال ممازحاً له: وأبيك إنك لجريءٌ! أما خشيت أمك غدرى حين بعثت معك بحديدةٍ وأنتم تريدون قتلي؟ قالت ماوية: وأنا أسمع ذلك فقلت: يا خبيب، إنما أمنتك بأمان الله وأعطيتك بإلهك، ولم أعطك لتقتل ابني. فقال خبيب: ما كنت لأقتله، وما نستخل في ديننا الغدر. ثم أخبرته أنهم مخرجوه فقاتلوه بالغداة. قال: فأخرجوه بالحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعةٌ من أهل مكة، فلم يتخلف أحدٌ، إما موتور فهو يريد أن يتشافى بالنظر من وتره، وإما غيره موتور فهو مخالف للإسلام وأهله. فلما انتهوا به إلى التنعيم، ومعه زيد بن الدثنة، فأمروا بخشبة طويلة فحفر لها، فلما انتهوا بخبيب إلى خشبته قال: هل أنتم تاركي فأصلى ركعتين؟ قالوا: نعم. فركع ركعتين أتمهما من غير أن يطول فيهما.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن العلاء، عن أبي هريرة، قال: " أول من سن الركعتين عند القتل خبيب " .
قالوا: ثم قال: أما والله لولا أن تروا أني جزعت من الموت لاستكثرت من الصلاة. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
فقال معاوية بن أبي سفيان: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقاً من دعوة خبيب، ولقد جبذني يومئذٍ أبو سفيان جبذة، فسقطت على عجب ذنبي فلم أزل أشتكي السقطة زماناً.
وقال حويطب بن عبد العزي: لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذني وعدوت هرباً فرقاً أن أسمع دعاءه.
وقال حكيم بن حزام: لقد رأيتني أتوارى بالشجر فرقاً من دعوة خبيب.
فحدثني عبد الله بن يزيد قال: حدثني سعيد بن عمرو قال: سمعت جبير بن مطعم يقول: لقد رأيتني يومئذ أتستر بالرجال فرقاً من أن أشرف لدعوته.
وقال الحارث بن برصاء: والله ما ظننت أن تغادر دعوى خبيب منهم أحداً.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، قال: استعمل عمر بن الخطاب رضي الله علنه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على حمص، وكانت تصيبه غشيةٌ وهو بين ظهري أصحابه. فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فسأله في قدمةٍ قدم عليه من حمص فقال: يا سعيد، ما الذي يصيبك؟ أبك جنة؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني كنت فيمن حضر خبيباً حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلسٍ إلا غشي علي. قال: فزادته عند عمر خيراً.
وحدثني قدامة بن موسى، عن عبد العزيز بن رمانة، عن عروة بن الزبير، عن نوفل بن معاوية الديلي، قال: حضرت يومئذٍ دعوة خبيب، فما كنت أرى أن أحداً ممن حضر ينفلت من دعوته، ولقد كنت قائماً فأخلدت إلى الأرض فرقاً من دعوته، ولقد مكثت قريش شهراً أو أكثر وما لها حديث في أنديتها إلا دعوة خبيب.
قالوا: فلما صلى الركعتين حملوه إلى الخشبة، ثم وجهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطاُ، ثم قالوا: ارجع عن الإسلام، نخل سبيلك! قال: لا والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وان لي ما في الأرض جميعاً! قالوا: فتحب أن محمداً في مكانك وأنت جالسٌ في بيتك؟ قال: والله ما أحب أن يشاك محمدٌ بشوكةٍ وأنا جالسٌ في بيتي. فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبداً.! قالوا: أما واللات والعزى، لئن لم تفعل لنقتلنك! فقال: إن قتلي في الله لقليلٌ! فلما أبى عليهم، وقد جعلوا وجهه من حيث جاء، قال: أما صرفكم وجهي عن القبلة، فإن الله يقول: " فأينما تولوا فثم وجه الله.. " . ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس ها هنا أحدٌ يبلغ رسلولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام! فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان جالساً مع أصحابه، فأخذته غميةٌ كما كان يأخذه إذا أنزل عليه الوحي. قال: ثم سمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة الله ثم قال هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام. قال: ثم دعوا أبناءً من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاماً، فأعطوا كل غلامٍ رمحاً، ثم قالوا: هذا الذي قتل آباءكم. فطعنوه برماحهم طعناً خفيفاً، فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته الذي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين! وكان الذي أجلبوا على قتل خبيب: عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبد الله بن قيس، والأخنس بن شريق، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن الأوقص السلمى. وكان عقبة بن الحارث بن عامر ممن حضر، وكان يقول: والله ما أنا قتلت خبيباً إن كنت يومئذٍ لغلاماً صغيراً. ولكن رجلاً من بني عبد الدار يقال له أبو ميسرة من عوف بن السباق أخذ بيدي فوضعها على الحربة، ثم أمسك بيدي ثم جعل يطعن بيده حتى قتله، فلما طعنه بالحربه أفلت، فصاحوا: يا أبا سروعة، بئس ما طعنه أبو ميسرة! فطعنه أبو سروعة حتى أخرجها من ظهره، فمكث ساعة يوحد الله ويشهد أن محمداً رسول الله. يقول الأخنس بن شريق: لو ترك ذكر محمد على حالٍ لتركه على هذه الحال، ما رأينا قط والداً يجد بولده ما يجد أصحاب محمد بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وكان زيد بن الدثنة عند آل صفوان بن أمية محبوساً في حديد، وكان يتهجد بالليل ويصوم النهار، ولا يأكل شيئاً مما أتى به من الذبائح. فشق ذلك على صفوان، وكانوا قد أحسنوا إساره، فأرسل إليه صفوان: فما الذي تأكل من الطعام؟ قال: لست آكل مما ذبح لغير الله، ولكني أشرب اللبن. وكان يصوم، فأمر له صفوان بعسٍّ من لبن عند فطره فيشرب منه حتى يكون مثلها من القابلة. فلما خرج به وبخبيب في يومٍ واحد التقيا، ومع كل واحد منهما فئامٌ من الناس، فالتزم كل منهما صاحبه وأوصى كل واحدٍ منهما صاحبه بالصبر على ما أصابه، ثم افترقا. وكان الذي ولى قتل زيد نسطاس غلام صفوان، خرج به إلى التنعيم فرفعوا له جذعاً، فقال: أصلي ركعتين! فصلى ركعتين ثم حملوه على الخشبة، ثم جعلوا يقولون لزيد: ارجع عن دينك المحدث واتبع ديننا، ونرسلك! قال: لا والله، لا أفارق ديني أبداً! قالوا: أيسرك أن محمداً في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال: ما يسرني أن محمداً أشيك بشوكة وأني في بيتي! قال: يقول أبو سفيان بن حرب: لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حباً من أصحاب محمد بمحمد. وقال حسان بن ثابت، صحيحة سمعتها من يونس بن محمد الظفري:
فليت خبيباً لم تخنه أمانةٌ ... وليت خبيباً كان بالقوم عالما
شراه زهير بن الأغر وجامعٌ ... وكانا قديماً يركبان المحارما
أجرتم فلما أن أجرتم غدرتم ... وكنتم بأكناف الرجعي اللهازما
وقال حسان بن ثابت، ثبت قديمةٌ:
لو كان في الدار قرمٌ ذو محافظةٍ ... حامي الحقيقة ماضٍ خاله أنس
إذن حللت خبيباً منزلاً فسحاً ... ولم يشد عليك الكبل والحرس
ولم تقدك إلى التنعيم زعنفةٌ ... من المعاشر ممن قد نفت عدس
فاصبر خبيب فإن القتل مكرمةٌ ... إلى جنان نعيمٍ ترجع النفس
دلوك غدراً وهم فيها أولو خلفٍ ... وأنت ضيفٌ لهم في الدار محتبس
غزوة بني النضيرفي ربيع الأول، على رأس سبعةٍ وثلاثين شهراً من مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلّم.
حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وابن أبي حبيبة، ومعمر بن راشد، في رجالٍ ممن لم أسمهم، فكلٌّ قد حدثني ببعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد اجتمعت كل الذي حدثوني، قالوا: أقبل عمرو ابن أمية من بئر معونة حتى كان بقناة، فلقي رجلين من بني عامر فنسبهما فانتسبا، فقابلهما حتى إذا ناما وثب عليهما فقتلهما. ثم خرج حتى ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ساعته في قدر حلب شاة، فأخبره خبرهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: بئس ما صنعت، قد كان لهما منا أمانٌ وعهد! فقال: ما شعرت، كنت أراهما على شركهما، وكان قومهما قد نالوا منا ما نالوا من الغدر بنا. وجاء بسلبهما، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعزل سلبهما حتى بعث به مع ديتهما. وذلك أن عامرابن الطفيل بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن رجلاً من أصحابك قتل رجلين من قومي، ولهما منك أمانٌ وعهد، فابعث بديتهما إلينا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بني النضير يستعين في ديتهما، وكانت بنو النضير حلفاء لبني عامر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم السبت فصلى في مسجد قباء ومعه رهطٌ من المهاجرين والأنصار، ثم جاء بني النضير فيجدهم في ناديهم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتهما عمرو بن أمية، فقالوا: نفعل، يا أبا القاسم، ما أحببت. قد أني لك أن تزورنا وأن تأتينا اجلس حتى نطعمك! ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مستندٌ إلى بيتٍ من بيوتهم، ثم خلا بعضهم إلى بعضٍ فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر اليهود، قد جاءكم محمد في نفيرٍ من أصحابه لا يبلغون عشرة ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فاطرحوا عليه حجارةً من فوق هذا البيت الذي تحته فاقتلوه، فلن تجدوه أخلى منه الساعة! فإنه إن قتل تفرق أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من ها هنا من الأوس والخزرج حلفاوكم، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوماً من الدهر فمن الآن! فقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة. قال سلام بن مشكم: يا قوم، أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر! والله إن فعلتم ليخبرن بأنا قد غدرنا به، وإن هذا نقض العهد الذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا! ألا فوالله لو فعلتم الذي تريدون ليقومن بهذا الدين منهم قائم إلى يوم القيامة، يستأصل اليهود ويظهر دينه! وقد هيأ الصخرة ليرسلها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويحدرها، فلما أشرف بها جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما هموا به، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلّم سريعاً كأنه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة وجلس أصحابه يتحدثون وهم يظنون أنه قام يقضي حاجة، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما مقامنا ها هنا بشيءٍ، لقد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمر. فقاموا، فقال حيي: عجل أبو القاسم! قد كنا نريد أن نقضي حاجته ونغديه. وندمت اليهود على ما صنعوا، فقال لهم كنانة بن صويراء: هل تدرون لم قام محمد؟ قالوا: لا والله، ما ندري وما تدري أنت! قال: بلى والتوراة، إني لأدري، قد أخبر محمدٌ ما هممتم به من الغدر، فلا تخدعوا أنفسكم، والله إنه لرسول الله، وما قام إلا أنه أخبر بما هممتم به. وإنه لآخر الأنبياء، كنتم تطمعون أن يكون م بني هارون فجعله الله حيث شاء. وإن كتبنا والذي درسنا في التوراة التي لم تغير ولم تبدل أن مولده بمكة ودار هجرته يثرب، وصفته بعينها ما تخالف حرفاً مما في كتابنا، وما يأتيكم به أولى من محاربته إياكم، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين، يتضاغى صبيانكم، قد تركتم دوركم خلوفاً وأموالكم، وإنما هي شرفكم، فأطيعوني في خصلتين، والثالثة لا خير فيها! قالوا: ما هما؟ قال: تسلمون وتدخلون مع محمد، فتأمنون على أموالكم وأولادكم، وتكونون من علية أصحابه، وتبقى بأيديكم أموالكم، ولا تخرجون من دياركم. قالوا: لا نفارق التوراة وعهد موسى! قال: فإنه مرسل إليكم: اخرجوا من بلدي، فقولوا نعم فإنه لا يستحل لكم دماً ولا مالاً وتبقى أموالكم، إن شئتم بعتم، وإن شئتم أمسكتم. قالوا: أما هذا فنعم. قال: أما
والله إن الأخرى خيرهن لي. قال: أما والله لولا أني أفضحكم لأسلمت. ولكن والله لا تعير شعثاء بإسلامي أبداً حتى يصيبني ما أصابكم وابنته شعثاء التي كان حسان ينسب بها. فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتم كارهاً، وهو مرسلٌ إلينا أن اخرجوا من داري، فلا تعقب يا حيي كلامه، وأنعم له بالخروج، فاخرج من بلاده! قال: أفعل، أنا أخرج!والله إن الأخرى خيرهن لي. قال: أما والله لولا أني أفضحكم لأسلمت. ولكن والله لا تعير شعثاء بإسلامي أبداً حتى يصيبني ما أصابكم وابنته شعثاء التي كان حسان ينسب بها. فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتم كارهاً، وهو مرسلٌ إلينا أن اخرجوا من داري، فلا تعقب يا حيي كلامه، وأنعم له بالخروج، فاخرج من بلاده! قال: أفعل، أنا أخرج!
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة تبعه أصحابه، فلقوا رجلاً خارجاً من المدينة فسألوه: هل لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: لقيته بالجسر داخلاً. فلما انتهى أصحابه إليه وجدوه قد أرسل إلى محمد ابن مسلمة يدعوه، فقال أبو بكر: يا رسول الله، قمت ولم نشعر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: همت اليهود بالغدر بي، فأخبرني الله بذلك فقمت. وجاء محمد بن مسلمة فقال: اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم، إن رسول الله أرسلني إليكم ان اخرجوا من بلده فلما جاءهم قال: إن رسول الله أرسلني برسالة، ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم شيئاً تعرفونه. قال: أنشدكم بالتوراة التي أنزل الله على موسى، هل تعلمون أني جئتكم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وبينكم التوراة، فقلتم لي في مجلسكم هذا: يا ابن مسلمة، إن شئت أن نغديك غديناك، وإن شئت أن نهودك هودناك. فقلت لكم: غدوني ولا تهودوني، فإني والله لا أتهود أبداً! فغديتموني في صحفةٍ لكم، والله لكأني انظر إليها كانها جزعة، فقلتم لي: ما يمنعك من ديننا إلا أنه دين يهود. كأنك تريد الحنيفية التي سمعت بها، أما إن أبا عامر قد سخطها وليس عليها، أتاكم صاحبها الضحوك القتال، في عينيه حمرة، يأتي من قبل اليمن، يكرب البعير ويلبس الشملة، ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه، ليست معه آية، هو ينطق بالحكمة، كأنه وشيجتكم هذه، والله ليكونن بقريتكم هذه سلب وقتل ومثل! قالوا: اللهم نعم، قد قلناه لك ولكن ليس به. قال: قد فرغت، إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسلني إليكم يقول لكم: قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي! وأخبرهم بما كانوا ارتأوا من الرأي وظهور عمرو بن جحاش على البيت يطرح الصخرة، فأسكتوا فلم يقولوا حرفاً. ويقول: اخرجوا من بلدي، فقد أجلتكم عشراً فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه! قالوا: يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجلٌ من الأوس. قال محمد: تغيرت القلوب. فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون وأرسلوا إلى ظهرٍ لهم بذى الجدر تجلب، وتكاروا من ناسٍ من أشجع إبلاً وأخذوا في الجهاز. فبينما هم على ذلك إذ جاءهم رسول ابن أبي، أتاهم سويد وداعس فقالا: يقول عبد الله بن أبي: لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة فإنهم لن يخذلوكم، ويمدكم حلفاؤكم من غطفان. وأرسل ابن أبي إلى كعب بن أسد يكلمه أن يمد أصحابه فقال: لا ينقض من بني قريظة رجلٌ واحدٌ العهد. فيئس ابن أبي من قريظة وأراد أن يلحم الأمر فيما بين بني النضير ورسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلم يزل يرسل إلى حيي حتى قال حيي: أنا أرسل إلى محمدٍ أعلمه أنا لا نخرج من دارنا وأموالنا، فليصنع ما بدا له. وطمع حيي فما قال ابن أبي، وقال حيي: نرم حصوننا، ثم ندخل ماشيتنا، وندرب أزقتنا، وننقل الحجارة إلى حصوننا، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماءنا واتن في حصوننا لا نخاف قطعه. فترى محمداً يحصرنا سنة؟ لا نرى هذا. قال سلام بن مشكم: منتك نفسك والله يا حيي الباطل، إني والله لولا أن يسفه رأيك أو يزرى بك لاعتزلتك بمن أطاعني من اليهود، فلا تفعل يا حيي، فوالله إنك لتعمل ونعلم معك أنه لرسول الله وأن صفته عندنا، فإن لم نتبعه وحسدناه حيث خرجت النبوة من بني هارون! فتعال فنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده، فقد عرفت أنك خالفتني في الغدر به، فإذا كان أوان الثمر جئنا أو جاء من جاء منا إلى ثمره فباع أو صنع ما بدا له، ثم انصرف إلينا فكأنا لم نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا، إنا إنما شرفنا على قومنا بأموالنا وفعالنا، فإذا ذهبت أموالنا من أيدينا كنا كغيرنا من اليهود في الذلة والإعدام. وإن محمداً إن سار إلينا فحصرنا في هذه الصياصي يوماً واحداً، ثم عرضنا عليه ما أرسل به إلينا، لم يقبله وأبى علينا. قال حيي: إن محمداً لا يحصرنا إلا إن أصاب منا نهزة، وإلا انصرف، وقد وعدني ابن أبي ما قد رأيت. فقال سلام: ليس قول ابن أبي بشيءٍ، إنما يريد ابن أبي أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمداً، ثم يجلس في بيته ويتركك. قد أراد من كعب بن أسد النصر فأبى كعب وقال: لا ينقض العهد رجلٌ من بني قريظة وأنا حيٌّ.
وإلا فإن ابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد، وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن أبي، فجلس في بيته وسار محمد إليهم، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه، فابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلهم، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حربهم كلها، إلى أن تقطعت حربهم فقدم محمد فحجز بينهم. وابن أبي لا يهودي على دين يهود، ولا على دين محمد، ولا هو على دين قومه، فكيف تقبل منه قولاً قاله؟ قال حيي: تأبى نفسي إلا عداوة محمدا وإلا قتاله. فإن ابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد، وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن أبي، فجلس في بيته وسار محمد إليهم، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه، فابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلهم، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حربهم كلها، إلى أن تقطعت حربهم فقدم محمد فحجز بينهم. وابن أبي لا يهودي على دين يهود، ولا على دين محمد، ولا هو على دين قومه، فكيف تقبل منه قولاً قاله؟ قال حيي: تأبى نفسي إلا عداوة محمدا وإلا قتاله.
قال سلام: فهو والله جلاونا من أرضنا، وذهاب أموالنا، وذهاب شرفنا، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا. فأبى حيي إلا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له ساروك بن أبي الحقيق وكان ضعيفاً عندهم في عقله كأن به جنة يل حيي، أنت رجل مشئوم، تهلك بني النضير! فغضب حيي وقال: كل بني النضير قد كلمني حتى هذا المجنون. فضربه إخوته وقالوا لحيي: أمرنا لأمرك تبعٌ، لن نخالفك.
فأرسل حيي أخاه بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنا لا نبرح من دارنا وأموالنا، فاصنع ما أنت صانع. وأمره أن يأتي ابن أبي فيخبره برسالته إلى محمد، ويأمره بتعجيل ما وعد من النصر. فذهب جدي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالذي أرسله حيي، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالسٌ في أصحابه فأخبره، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلّم التكبير، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت اليهود! وخرج جدي حتى دخل على ابن أبي وهو جالسٌ في بيته مع نفيرٍ من حلفائه، وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم بالمسير إلى بني النضير، فيدخل عبد الله بن عبد الله بن أبي على عبد الله أبيه وعلى النفر معه، وعنده جدي بن أخطب، فلبس درعه وأخذ سيفه فخرج يعدو، فقال جدي: لما رأيت ابن أبي جالساً في ناحية البيت وابنه عليه السلاح، يئست من نصره فخرجت أعدو إلى حيي، فقال: ما وراءك؟ قلت: الشر! ساعة أخبرت محمداً بما أرسلت به إليه أظهر التكبير وقال حاربت اليهود. فقال: هذه مكيدة منه. قال: وجئت ابن أبي فأعلمته، ونادى منادي محمد بالمسير إلى بني النضير. قال: وما رد عليك ابن أبي؟ فقال جدي: لم أر عنده خيراً. قال: أنا أرسل إلى حلفائي فيدخلون معكم. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير،فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قاموا على جدر حصونهم، معهم النبل والحجارة. واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاحٍ ولا رجال ولم يقربوهم. وجعلوا يرمون ذلك اليوم بالنبل والحجارة حتى أظلموا، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقدمون، من كان تخلف في حاجته، حتى تتاموا عند صلاة العشاء، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العشاء رجع إلى بيته في عشرة من أصحابه، عليه الدرع وهو على فرسٍ. وقد استعمل علياً عليه السلام على العسكر، ويقال أبا بكر رضي الله عنه. وبات المسلمون يحاصرونهم، يكبرون حتى أصبحوا، ثم أذن بلالٌ بالمدينة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحابه الذين كانوا معه، فصلى بالناس بفضاء بني خطمة. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وحملت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبةٌ من أدم.
وحدثني يحيى بن عبد العزيز قال: كانت القبة من غربٍ عليها مسوح، أرسل بها سعد بن عبادة، فأمر بلالاً فضربها في موضع المسجد الصغير الذي بفضاءٍ بني خطمة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبة. وكان رجل من اليهود يقال له عزوك، وكان أعسر رامياً، فرمى فبلغ نبله قبة النبي صلى الله عليه وسلّم، فأمر بقبته فحولت إلى مسجد الفضيخ وتباعدت من النبل.
وأمسوا فلم يقربهم ابن أبي ولا أحدٌ من حلفائه وجلس في بيته، ويئست بنو النضير من نصره، وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صويراء يقولان لحيي: أين نصر ابن أبي كما زعمت؟ قال حيي: فما أصنع؟ هي ملحمة كتبت علينا. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدرع وبات، وظل محاصرهم، فلما كان ليلة من الليالي فقد علي بن أبي طالب عليه السلام حين قرب العشاء، فقال الناس: ما نرى علياً يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعوه، فإنه في بعض شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس عزوك، فطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني كمنت لهذا الخبيث فرأيت رجلاً شجاعاً، فقلت: ما أجرأه أن يخرج إذا أمسينا يطلب منا غرة. فأقبل مصلتاً سيفه في نفرٍ من اليهود، فشددت عليه فقتلته، وأجلى أصحابه ولم يبرحوا قريباً، فإن بعثت معي نفراً رجوت أن أظفر بهم. فبعث معه أبا دجانة، وسهل بن حنيف في عشرة من أصحابه، فأدركوهم قبل أن يدخلوا حصنهم، فقتلوهم وأتوا برءوسهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم برءوسهم فطرحت في بعض بئار بني خطمة.
وكان سعد بن عبادة يحمل التمر إلى المسلمين، فأقاموا في حصنهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنخل فقطعت وحرقت. واستعمل على قطعها رجلين من أصحابه: أبا ليلى المازني، وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون، فقيل لهما في ذلك فقال أبو ليلى: كانت العجوة أحرق لهم. وقال ابن سلام: قد عرفت أن الله سيغنمه أموالهم، وكانت العجوة خير أموالهم، فنزل في ذلك رضاءً بما صنعنا جميعاً.. " ما قطعتم من لينةٍ " ألوان النخل، للذي فعل ابن سلام، " أو تركتموها قائمةً على أصولها " يعني العجوة، " فبإذن الله " وقطع أبو ليلى العجوة " وليخزى الفاسقين " يعني بني النضير، رضاءً من الله بما صنع الفريقان جميعاً، فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما لهن؟ قفيل: يجزعن على قطع العجوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن مثل العجوة جزع عليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: العجوة والعتيق الفحل الذي يؤبر به النخل من الجنة، والعجوة شفاءٌ من السم. فلما صحن صاح بهن أبو رافع سلام: إن قطعت العجوة ها هنا، فإن لنا بخيبر عجوة. قالت عجوزٌ منهن: خيبر، يصنع بها مثل هذا! فقال أبو رافع: فض الله فاك! إن حلفائي بخيبر لعشرة آلاف مقاتل. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوله فتبسم. وجزعوا على قطع العجوة فجعل سلام بن مشكم يقول: يا حيي، العذق خير من العجوة، يغرس فلا يطعم ثلاثين سنة يقطع! فأرسل حيي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا محمد، إنك كنت تنهي عن الفساد، لم تقطع النخل؟ نحن نعطيك الذي سألت؟ ونخرج من بلادك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة. فقال سلام: اقبل ويحك، قبل أن تقبل شراً من هذا! فقال حيي: ما يكون شراً من هذا؟ قال سلام: يسبى الذرية ويقتل المقاتلة مع الأموال، فالأموال اليوم أهون علينا إذا لحمنا هذا الأمر من القتل والسباء. فأبى حيي أن يقبل يوماً أو يومين، فلما رأى ذلك يامين بن عمير وأبو سعد ابن وهب قال أحدهما لصاحبه: وإنك لتعلم أنه لرسول الله، فما تنتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا؟ فنزلا من الليل فأسلما فأحرزا دماءهما وأموالهما.
ثم نزلت اليهود على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فلما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لابن يامين: ألم تر إلى ابن عمك عمرو ابن جحاش وما هم به من قتلى؟ وهو زوج أخته، كانت الرواع بنت عمير تحت عمرو بن جحاش. فقال ابن يامين: أنا أكفيكه يا رسول الله. فجعل لرجلٍ من قيس عشرة دنانير على أن يقتل عمرو بن جحاش، ويقال خمسة أوسق من تمر. فاغتاله فقلته، ثم جاء ابن يامين إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بقتله، فسر بذلك.
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمسة عشر يوماً، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة وولى إخراجهم محمد بن مسلمة. فقالوا: إن لنا ديوناً على الناس إلى آجال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: تعجلوا وضعوا. فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد ابن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين ديناراً، وأبطل ما فضل. وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم مما يليهم، وكان المسلمون يخربون ما يليهم ويحرقون حتى وقع الصلح، فتحملوا، فجعلوا يحملون الخشب ونجف الأبواب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لصفية بنت حيي: لو رأيتني وأنا أشد الرحل لخالك بحرى بن عمرو وأجليه منها! وحملوا النساء والصبيان، فخرجوا على بلحارث بن الخزرج، ثم على الجبلية، ثم على الجسر حتى مروا بالمصلى، ثم شقوا سوق المدينة، والنساء في الهوادج عليهن الحرير والديباج، وقطف الخز الخضر والحمر، وقد صف لهم الناس، فجعلوا يمرون قطاراً في أثر قطار، فحملوا على ستمائة بعير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش. وقال حسان بن ثابت وهو يراهم وسراة الرجال على الرحال: أما والله إن لقد كان عندكم لنائلٌ للمجتدى وقرى حاضر للضيف، وسقيا للمدام، وحلمٌ على من سفه عليكم، ونجدةٌ إذا استنجدتم. فقال الضحاك بن خليفة: واصباحاه، نفسي فداؤكم! ماذا تحملتم به من السؤدد والبهاء، والنجدة والسخاء؟ قال، يقول نعيم ابن مسعود الأشجعي: فدىً لهذه الوجوه التي كأنها المصابيح ظاعنين من يثرب. من للمجتدى الملهوف؟ ومن للطارق السغبان؟ ومن يسقى العقار؟ ومن يطعم الشحم فوق اللحم؟ ما لنا بيثرب بعدكم مقام. يقول أبو عبس ابن جبر وهو يسمع كلامه، نعم، فالحقهم حتى ندخل معهم البار. قال نعيم: ما هذا جزاؤهم منكم، لقد استنصرتموهم فنصروكم على الخزرج، ولقد استنصرتم سائر العرب فأبوا ذلك عليكم. قال أبو عبس: قطع الإسلام العهود. قال: ومروا يضربون بالدفوف ويزمرون بالمزامير، وعلى النساء المعصفرات وحلى الذهب، مظهرين ذلك تجلداً. قال، يقول جبار بن صخر: ما رأيت زهاءهم لقوم زالوا من دار إلى دار. ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، ورفع مسك الجمل وقال: هذا مما نعده لخفض الأرض ورفعها، فإن يكن النخل قد تركناها فإنا نقدم على نخلٍ بخيبر.
فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعدي الخدري، عن أبيه، عن جده، قال: لقد مر يومئذٍ نساءٌ من نسائهم في تلك الهوادج قد سفرن عن الوجوه، لعلى لم أر مثل جمالهن لنساءٍ قط لقد رأيت الشقراء بنت كنانة يومئذٍ كأنها لؤلؤة غواص، والرواع بنت عمير مثل الشمس البازغه، في أيديهن أسورة الذهب، والدر في رقابهن. ولقى المنافقون عليهم يوم خرجوا حزناص شديداً، لقد لقيت زيد بن رفاعة بن التابوت وهو مع عبد الله بن أبي، وهو يناجيه في بني غنم وهو يقول: توحشت بيثرب لفقد بني النضير، ولكنهم يخرجون إلى عز وثروة من حلفائهم، وإلى حصون منيعة شامخة في رءوس الجبال ليست كما ها هنا. قال: فاستمعت عليهما ساعة، وكل واحد منهما غاشٌّ لله ولرسوله.
قالوا: ومرت في الظعن يومئذٍ سلمى صاحبة عروة بن الورد العبسي، وكان من حديثها أنها كانت امرأة من بني غفار، فسباها عروة من قومها فكانت ذات جمال، فولدت له أولاداً ونزلت منه منزلاً، فقالت له، وجعل ولده يعيرون بأمهم يا بني الأخيذة! فقالت: ألا ترى ولدك يعيرون؟ قال: فماذا ترين؟ قالت: تردني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك. قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن القوه بالخمر ثم اتركوه حتى يشرب ويثمل، فإنه إذا ثمل لم يسأل شيئاً إلا أعطاه. فلقوه ونزل في بني النضير، فسقوه الخمر، فلما سكر سألوه سلمى فردها عليهم، ثم أنكحوه بعد. ويقال: إنما جاء بها إلى بني النضير وكان صعلوكاً يغير. فسقوه الخمر فلما انتشى منعوه، ولا شيء معه إلا هي، فرهنها فلم يزل يشرب حتى غلقت فلما صحا قال لها: انطلقي. قالوا: لا سبيل إلى ذلك، قد أغلقتها. فبهذا صارت عند بني النضير. قال عروة بن الورد:
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذبٍ وزور
وقالوا لست بعد فداء سلمى ... بمغنٍ ما لديك ولا فقير
فلا والله لو كاليوم أمرى ... ومن لي بالتدبير في الأمور
إذاً لعصيتهم في أمر سلمى ... ولو ركبوا عضاه المستعور
أنشدينها ابن أبي الزناد.
حدثني أبو بكر بن عبد الله، عن المسور بن رفاعة قال: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأموال وقبض الحلقة، فوجد من الحلقة خمسين درعا،ً وخمسين بيضةً، وثلثمائة سيف، وأربعين سيفاً. ويقال غيبوا بعض سلاحهم وخرجوا به.وكان محمد بن مسلمة الذي ولى قبض الأموال والحلقة وكشفهم عنها. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أجعل شيئاً جعله الله عز وجل لي دون المؤمنين! بقوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى.. " الآية، كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفياً، فكانت بنو النضير حبساً لنوائبه، وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء فجزءان للمهاجرين وجزءٌ كان ينفق منه على أهله، فإن فضل رده على فقراء المهاجرين.
حدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير، قال: إنما كان ينفق على أهله من بني النضير، كانت له خالصة، فأعطى من أعطى منها وحبس ما حبس. وكان يزرع تحت النخل زرعاً كثيراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخل له منها قوت أهله سنةً من الشعير والتمر لأزوجه وبني عبد المطلب، فما فضل جعله في الكراع والسلاح، وإنه كان عند أبي بكر وعمر من ذلك السلاح الذي اشترى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد استعمل على أموال بني النضير أبا رافع مولاه، وربما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالباكورة منها، وكانت صدقاته منها ومن أموال مخيريق. وهي سبعة حوائط الميثب، والصافية، والدلال، وحسنى، وبرقة، والأعواف، ومشربة أم إبراهيم، وكانت أم إبراهيم تكون هناك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتيها هناك. وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما تحول من بني عمرو بن عوف إلى المدينة تحول أصحابه من المهاجرين، فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحدٌ منهم على أحدٍ إلا بقرعة سهم.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أم العلاء، قالت: صار لنا عثمان بن مظعون في القرعة، وكان في منزلنا حتى توفى وكان المهاجرون في دورهم وأموالهم، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس فقال: ادع لي قومك! قال ثابت: الخزرج يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الأنصار كلها! فدا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجريتن على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم. فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا: يا رسول الله، بل تقسيمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار! فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أفاء الله عليه، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحداً من الأنصار من ذلك الفىء شيئا، إلا رجلين كانا محتاجين سهل بن حنيف، وأبا دجانة. وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان سيفاً له ذكرٌ عندهم. قالوا: وكان ممن أعطى ممن سمى لنا من المهاجرين أبو بكر الصديق رضي الله عنه بئر حجر، وأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بئر جرم، وأعطى عبد الرحمن ابن عوف سوالة وهو الذي يقال له مال سليم. وأعطى صهيب بن سنان الضراطة، وأعطى الزبير بن العوام وأبا سلمة بن عبد الأسد البويلة. وكان مال سهل بن حينف وأبي دجانة معروفاً، يقال له مال ابن خرشة، ووسع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الناس منها.
ذكر ما نزل من القرآن في بني النضير
" سبح لله ما في السموات وما في الأرض " قال كل شيءٍ سبح له، وتسبيح الجدر النقض. حدثني ربيعة بن عثمان، عنحيي، عن أبي هريرة بذلك. " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " يعني بني النضير حين أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى الشام، وكان ذلك أول الحشر في الدنيا إلى الشام، " ما ظننتم أن يخرجوا " يقول عز وجل للمؤمنين: ما ظننتم ذلك، كان لهم عز ومنعة، " وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله " حين تحصنوا، " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " إلى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإجلاؤهم، " وقذف في قلوبهم الرعب " لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بساحتهم رعبوا وأيقنوا بالهلكة، وكان الرعب في قلوبهم له وجبان، " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " قال كانوا لما حصروا والمسلمون يحفرون عليهم من ورائهم وهم ينقبون مما يليهم، فيأخذون الخشب والنجف، " فاعتبروا يا أولى الأبصار " قال يعني يا أهل العقول. " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء " يقول في أم الكتاب أن يجلوا. " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " يقول عصوا الله ورسوله وخالفوه. " ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها " الآية، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد استعمل على قطع نخلهم أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان ابن سلام يقطع اللون، فقال لهم بنو النضير: أنتم مسلمون ما يحل لكم عقر النخل. فاختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك، فقال بعضهم يقطع، وقال بعضهم لا يقطع. فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينةٍ " ألوان النخل سوى العجوة، " أو تركتموها قائمةً على أصولها " قال العجوة، " فبإذن الله وليخزي الفاسقين " يقول يغيظهم ما قطع من النخل. " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " قوله لله ولرسوله واحد " ولذى القربى " قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم " واليتامى والمساكين وابن السبيل " فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمس الخمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعطي بني هاشم من الخمس ويزوج أياماهم. وكان عمر رضي الله عنه قد دعاهم إلى أن يزوج أياماهم ويخدم عائلهم ويقضي عن غارمهم، فأبوا إلا أن يسلمه كله، وأبي عمر رضي الله عنه. فحدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة، أن أبا بكر وعمر وعلياً كانوا يجعلونه في اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقوله " كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم " يقول لا يستن بها من بعد فتعطى الأغنياء، " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " يقول ما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أمرٍ ونهيٍ فهي بمنزلة ما نزل من الوحي. " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " يعني المهاجرين الأولين من قريش الذين هاجروا إلى المدينة قبل بدر. " والذين تبووأ الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " يعني الأنصار، يقول هم أهل الدار الأوس والخزرج، " ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ " لا يجدون في أنفسهم حسداً مما أعطى غيرهم، يعني المهاجرين حين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يعط الأنصار، فهذه الأثرة على أنفسهم حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: أعطهم ولا تعطنا وهم محتاجون، " ومن يوق شح نفسه " قال ظلم الناس. " والذين جاءوا من بعدهم " يعني الذين أسلموا فحق عليهم أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً " قول ابن أبي حين أرسل سويداً وداعساً إلى بني النضير: أقيموا ولا تخرجوا فإن معي من قومي وغيرهم ألفين، يدخلون معكم فيموتون عن آخرهم دونكم. يقول الله عز وجل " يشهد إنهم لكاذبون " يعني ابن أبي أصحابه. " لئن أخرجوا " حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يخرج من المنافقين إنسانٌ واحدٌ معهم، وقوتلوا فلم يدخل الحصن منهم إنسان، " ولئن نصروهم ليولن الأدبار " يعني ينهزمون من الرعب. " لأنتم أشدٌّ رهبةً في صدورهم من الله " يعني ابن ابي والمنافقين الذين معه خوفاً من المسلمين أن يقبلوا، " ذلك بأنهم قومٌ
لا يفقهون " " لا يقاتلونكم جميعاً " يعني بني النضير والمنافقين، " إلا في قرىً محصنةٍ " يقول في حصونهم، " أو من وراء جدرٍ بأسهم بينهم شديدٌ " بعضهم لبعض، " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " يعني المنافقين وبني النضير. " ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون " يقول دين بني النضير مخالف دين المنافقين وهم جميعاً، في عداوة الإسلام مجتمعون. " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم " قال يعني قينقاع حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفرفلما كفر قال إني برىءٌ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال هذا مثلٌ لابن أبي وأصحابه الذين جاءوا بني النضير فقالوا: أقيموا في حصونكم فنحن نقاتل معكم إن قوتلتم، ونخرج إن أخرجتم كذباً وباطلاً، منوهم من أنفسهم. " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ " يقول ما عملت ليوم القيامة. " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " يقول أعرضوا عن ذكر الله تعالى فأضلهم الله تعالى أن يعملوا لأنفسهم خيراً. وقال " القدوس الظاهر، " والمهيمن " الشهيد.لا يفقهون " " لا يقاتلونكم جميعاً " يعني بني النضير والمنافقين، " إلا في قرىً محصنةٍ " يقول في حصونهم، " أو من وراء جدرٍ بأسهم بينهم شديدٌ " بعضهم لبعض، " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " يعني المنافقين وبني النضير. " ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون " يقول دين بني النضير مخالف دين المنافقين وهم جميعاً، في عداوة الإسلام مجتمعون. " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم " قال يعني قينقاع حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفرفلما كفر قال إني برىءٌ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال هذا مثلٌ لابن أبي وأصحابه الذين جاءوا بني النضير فقالوا: أقيموا في حصونكم فنحن نقاتل معكم إن قوتلتم، ونخرج إن أخرجتم كذباً وباطلاً، منوهم من أنفسهم. " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ " يقول ما عملت ليوم القيامة. " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " يقول أعرضوا عن ذكر الله تعالى فأضلهم الله تعالى أن يعملوا لأنفسهم خيراً. وقال " القدوس الظاهر، " والمهيمن " الشهيد.
غزوة بدر الموعدوكانت لهلال ذي القعدة على رأس خمسةٍ وأربعين شهراً، وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها ست عشرة ليلة، ورجع إلى المدينة لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، واستخلف علىالمدينة ابن رواحة.
حدثني الضحاك بن عثمان، ومحمد بن عمرو الأنصاري، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، وأبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، ومعمر بن راشد، وأبو معشر، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، وعبد الحميد بن جعفر، وابن أبي حبيبة، ومحمد بن يحيى بن سهل، وكل قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، قالوا: لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم أحد نادى: موعدٌ بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول، نلتقي فيه فنقتتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: قل نعم إن شاء الله.
ويقال قال أبو سفيان يومئذ: موعدكم بدر الصفراء بعد شهرين. قال ابن واقد: والأول أثبت عندنا. فافترق الناس على ذلك، ورجعت قريش فخبروا من قبلهم بالموعد وتهيئوا للخروج وأجلبوا، وكان هذا عندهم أعظم الأيام لأنهم رجعوا من أحد والدولة لهم، طمعوا في بدر الموعد أيضاً بمثل ذلك من الظفر. وكان بدر الصفراء مجمعاً يجتمع فيه العرب، وسوقاً تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثمان ليالٍ خلون منه، فإذا مضت ثماني ليال منه تفرق الناس إلى بلادهم. فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجعل يحب أن يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بالمدينة ولا يوافقون الموعد. فكان كل من ورد عليه مكة يريد المدينة أظهر له: إنا نريد أن نغزو محمداً في جمعٍ كثيف. فيقدم القادم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيراهم على تجهز فيقول: تركت أبا سفيان قد جمع الجموع، وسار في العرب ليسير إليكم لموعدكم. فيكره ذلك المسلمون ويهيبهم ذلك.
ويقدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة، فجاءه أبو سفيان بن حرب في رجالٍ من قريش فقال: يا نعيم، إني وعدت محمداً وأصحابه يوم أحد أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول، وقد جاء ذلك. فقال نعيم: ما أقدمني إلا ما رأيت محمداً وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع، وقد تجلب إليه حلفاء الأوس من بلى وجهينة وغيرهم، فتركت المدينة أمس وهي كالرمانة. فقال أبو سفيان: أحقاً ما تقول؟ قال: إي والله. فجزوا نعيماً خيراً ووصاوه وأعانوه، فقال أبو سفيان: أسمعك تذكر ما تذكر، ما قد أعدوا؟ وهذا عام جدب قال نعيم: الأرض مثل ظهر الترس، ليس فيها لبعير شيءٌ وإنما يصلحنا عام خصب غيداق ترعى فيه الظهر والخيل ونشرب اللبن، وأنا أكره أن يخرج محمدٌ وأصحابه ولا أخرج فيجترئون علينا، ويكون الخلف من قبلهم أحب إلي. ونجعل لك عشرين فريضة، عشراً جذاعاً وعشراً حقاقاً، وتوضع لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها لك. قال نعيم: رضيت. وكان سهيل صديقاً لنعيم فجاء سهيلاً فقال: يا أبا زيد، تضمن لي عشرين فريضة على أن أقدم المدينة فأخذل أصحاب محمد؟ قال: نعم. قال: فإني خارج. فخرج على بعير حملوه عليه، وأسرع السير فقدم وقد حلق رأسه معتمراً، فوجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتجهزون، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أين يا نعيم؟ قال: خرجت معتمراً إلى مكة. فقالوا: لك علمٌ بأبي سفيان؟ قال: نعم، تركت أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب معه العرب، فهو جاءٍ فيما لا قبل لكم به، فأقيموا ولا تخرجوا فإنهم قد أتوكم في داركم وقراركم، فلن يفلت منكم إلا الشريد، وقتلت سراتكم وأصاب محمداً في نفسه ما أصابه من الجراح.فتريدون أن تخرجوا إليهم فتلقوهم في موضعٍ من الأرض؟ بئس الرأي رأيتم لأنفسكم وهوموسم يجتمع فيه الناس والله ما أرى أن يفلت منكم أحد! وجعل يطوف بهذا القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى رعبهم وكره إليهم الخروج، حتى نطقوا بتصديق قول نعيم، أو من نطق منهم.واستبشر بذلك المنافقون واليهود قالوا: محمدٌ لا يفلت من هذا الجمع! واحتمل الشيطان أولياءه من الناس لخوف المسلمين، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك، وتظاهرت به الأخبار عنده، حتى خاف رسول الله ألا يخرج معه أحد. فجاءه أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، وقد سمعا ما سمعا فقالا: يا رسول الله إن الله مظهرٌ دينه ومعزٌ نبيه، وقد وعدنا القوم موعداً ونحن لا نحب أن نتخلف عن القوم، فيرون أن هذا جبن منا عنهم، فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيرة! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك ثم قال: والذي نفسي بيده، لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد! قال: فلما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم تكلم بما بصر الله وعز وجل المسلمين، وأذهب ما كان رعبهم الشيطان، وخرج المسلمون بتجارات لهم إلى بدر.
فحدثت عن يزيد، عن خصيفة، قال: كان عثمان بن عفان رحمه الله يقول: لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا، فما أرى أحداً له نية في الخروج، حتى أنهج الله تعالى للمسلمين بصائرهم، وأذهب عنهم تخويف الشيطان. فخرجوا فلقد خرجت ببضاعة إلى موسم بدر، فربحت للدينار ديناراً، فرجعنا بخير وفضلٍ من ربنا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسلمين وخرجوا ببضائع لهم ونفقات، فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذى القعدة، وقام السوق صبيحة الهلال، فأقاموا ثمانية أيامٍ والسوق قائمة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد خرج في ألق وخسمائة من أصحابه وكانت الخيل عشرة أفراس: فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفرس لأبي بكر، وفرس لعمر، وفرس لأبي قتادة، وفرس لسعيد بن زيد، وفرس للمقداد، وفرس للحباب، وفرس للزبير، وفرس لعباد بن بشر.
فحدثني علي بن زيد، عن أبيه، قال: قال المقداد: شهدت بدر الموعد على فرسي سبحة، أركب ظهرها ذاهباً وراجعاً، فلم يلق كيداً. ثم إن أبا سفيان قال: يا معشر قريش، قد بعثنا نعيم بن مسعود لأن يخذل أصحاب محمد عن الخروج وهو جاهد، ولكن نخرج نحن فنسير ليلة أو ليلتين ثم نخرج، فإن كان محمدٌ لم يخرج بلغه أنا خرجنا فرجعنا لأنه لم يخرج، فيكون هذا لنا عليه، وإن كان خرج أظهرنا أن هذا عام جدب لا يصلحنا إلى عامٌ عشب. قالوا: نعم ما رأيت. فخرج من قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهوا إلى مجنة ثم قال: ارجعوا، لا يصلحنا إلا عام خصب غيداق، نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. فسمى أهل مكة ذلك الجيش جيش السويق، يقولون: خرجوا يشربون السويق.
وكان يحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأعظم يومئذٍ علي بن أبي طالب عليه السلام. وأقبل رجلٌ من بني ضمرة يقال له مخشى بن عمرو، وهو الذي حالف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قومه في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأولى إلى ودان فقال والناس مجتمعون في سوقهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر أهل ذلك الموسم فقال يا محمد، لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ليرفع ذلك إلى عدوه من قريش: ما أخرجنا إلا موعد أبو سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد، ثم جالدنا كم قبل أن نبرح من منزلنا هذا. فقال الضمري: بل، نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك، وسمع بذلك معبد ابن أبي معبد الخزاعي فانطلق سريعاً، وكان مقيماً ثمانية أيام، وقد رأى أهل الموسم ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسمع كلام مخشى، فانطلق حتى قدم مكة، فكان أول من قدم بخبر موسم بدر. فسألوه فأخبرهم بكثرة أصحاب محمد، وأنهم أهل ذلك الموسم، وما سمع من قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم للضمري، وقال: وافى محمدٌ في ألفين من أصحابه، وأقاموا ثمانية أيام حتى تصدع أهل الموسم. فقال صفوان بن أمية لأبي سفيان: قد والله نهيتك يومئذٍ أن تعد القوم، وقد اجترأوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم، وإنما خلفنا الضعف عنهم. فأخذوا في الكيد والنفقة في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم واستجلبوا من حولهم من العرب، وجمعوا الأموال العظام، وضربوا البعث على أهل مكة، فلم يترك أحدٌ منهم إلا أن يأتي بما قل أو كثر، فلم يقبل من أحدٍ منهم أقل من أوقية لغزوة الخندق. وقال معبد: لقد حملني ما رأيت أن قلت شعراً:
تهوى على دين أبيها الأتلد ... إذ جعلت ماء قديدٍ موعد
وماء ضجنان لها ضحى الغد ... إذ نفرت من رفقتي محمد
وعجوةٍ موضوعةٍ كالعنجد
ويزعمون أن حماماً قالها.
وأنزل الله عز وجل: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " الآية، يعني نعيم بن مسعود.
وقال كعب بن مالك قال الواقدي: أنشدنيها مشيخة آل كعب وأصحابنا جميعاً:
وعدنا أبا سفيان بدراً فلم نجد ... لموعده صدقاً وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... رجعت ذميماً وافتقدت المواليا
تركنا بها أوصال عتبة وابنة ... وعمراً أبا جهلٍ تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أفٍّ لدينكم ... وأمركم السيء الذي كان غاويا
وإني وإن عنفتموني لقائلٌ ... فدىً لرسول الله أهلي وما ليا
أطعنا فلم نعدل سواه بغيره ... شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا
وقال حسان بن ثابت الأنصاري ثبت ابن أبي الزناد وابن جعفر وغيرهما:
أقمنا على الرس النزوع ثمانيا ... بأرعن جرارٍ عريض المبارك
بكل كميتٍ جوزه نصف خلقه ... وأدمٍ طوالٍ مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامي تبدى أصوله ... مناسم أخفاف المطى الرواتك
إذا هبطت خورات من رمل عالجٍ ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
ذروا فلجات الشام قد حال دونها ... ضرابٌ كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربهم ... وأنصار حقٍّ أيدوا بملائك
فإن نلق في تطوافنا والتماسنا ... فرات بن حيانٍ يكن رهن هالك
وإن نلق قيس بن امرىء القيس بعده ... نزد في سواد وجهه لون حالك
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. هكذا كان.
سرية ابن عتيك إلى ابن رافعخرجوا ليلة الاثنين في السحر لأربع خلون من ذي الحجة، على رأس ستة وأربعين شهراً، وغابوا عشرة أيام.
حدثني أبو أيوب بن النعمان، عن أبيه، عن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، قال: خرجنا من المدينة حتى أتينا خيبر. قال: وقد كانت أم عبد الله بن عتيك بخيبر يهودية أرضعته، وقد بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والأسودبن خزاعي، ومسعود بن سنان. قال: فانتهينا إلى خيبر، وبعث عبد الله إلى أمه فأعملها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوءٍ تمراً كبيساً وخبزاً. فأكلنا منه ثم قال لها: يا أماه، إنا قد أمسينا، بيتينا عندم فأدخلينا خيبر. فقالت أمه: كيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قال: أبا رافع. فقالت: لا تقدر عليه. قال: والله لأقتلنه أو لا لأقتلن دونه قبل ذلك. قالت: فادخلوا علي ليلاً. فدخلوا عليها فلما نام أهل خيبر، وقد قالت لهم: ادخلوا في خمر الناس، فإذا هدأت الرجل فاكمنوا! ففعلوا ودخلوا عليها ثم قالت: إن اليهود لا تغلق عليها أبوابها فرقاً أن يطرقها ضيف، فيصبح أحدهم بالفناء ولم يضف، فيجد الباب مفتوحاً فيدخل فيتعشى. فلما هدأت الرجل قالت: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع فقولوا إنا جئنا لأبي رافع بهدية فإنهم سيفتحون لكم. ففعلوا ذلك، ثم خرجوا لا يمرون ببابٍ من بيوت خيبر إلا أغلقوه حتى أغلقوا بيوت القرية كلها، حتى انتهوا إلى عجلةً عند قصر سلام. قال: فصعدنا وقدمنا عبد الله بن عتيك، لأنه كان يرطن باليهودية، ثم استفتحوا على أبي رافع فجاءت امرأته فقالت: ما شأنك؟ فقال عبد الله بن عتيك ورطن باليهودية: جئت أبا رافعٍ بهدية. ففتحت له فلما رأت السلاح أرادت تصيح. قال عبد الله بن أنيس: وازدحمنا على الباب أينا يبدر إليه، فأرادت أن تصيح. قال: فأبشرت إليها السيف. قال: وأنا أكره أن يسبقني أصحابي إليه. قال: فسكنت ساعة. قال: ثم قلت لها: أين أبو رافع؟ وإلا ضربتك بالسيف! فقالت: هو ذاك في البيت. فدخلنا عليه فما عرفناه إلا ببياضة كأنه قطنة ملقاة، فعلوناه بأسيافنا فصاحت امرأته، فهم بعضنا أن يخرج إليها ثم ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهانا عن قتل النساء.قال: فلما انتهينا جعل سمك البيت يقصر علينا، وجعلت سيوفنا ترجع.
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7*
========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق